
مقتطف من الرواية السادسة للروائي السوري علي محمود: حذاء جديد لقدمي القيامة
كان يعرف جيداً والمعارك تعيد كتابة الأيام، بأن الفارق الوحيد بينه وبين قبره أنه يتحرك وحجارة قبره ثابتة. كانت البلاد علوّاً لأكثر من موتٍ رصين لكنها في المرتبة الأدنى من الحياة. كان يعرف بأن العالم كله لن يتنفس بلا حرية حقيقية، وكل تلك الشعوذة التي يقدمها المنظرون ومحللون أشبه بالدجالين ليست إلا هرطقة على باب الممكن؛ والحرية لا تُستجلب بالممكن ولا باستدراج ثقافة الأمس غير المجيد ولا ” بشعث نعل الله”.
هي أن تقول لكل منفى جديد: أهلاً بأيامي القادمة أيها العالم.
نعم ستأتي الحرية على أقدام الوعي المترف سيد الممكن وغيره. ومن يفكر بدهسه بمسوّغ الحاجة والضرورة وحتى المقتضى المفاجئ؛ هو قاتل ليس إلا. لذا تاه أمجد وهو يحصي عدد القتلة ولا يعرف من أين يشترون ملابسهم الحقيقية.
إذن ماذا يعرف؟ هل سيتهجى طريق عودته بعيداً عن كل من أحبهم؟ يقول لنفسه: من يحبكَ يمشّيك بعيداً عن الهاوية يعلمك كيف تغني وترسم وتنفخ بواليناً طازجة للأطفال.
لكن تقول الضرورة الآن بأن عليه أن يدحّي تجاعيد كل حلم لم يبلغه وأن يبحث عن طريقه لا عن سكينته! ويجب عليه أن يفهم بأن سجنه؛ سجننا كلنا بلا جدران فمن يوضّح هذه المشكلة أيضاً؟
أواه كم هو شهي حزنه هذا الذي سينفر منه نهر السرور. أول النهر أن يقرأ روحه، يغرف منها ويرمي إلى البعيد.
سيبدأ من جديد عندما يعرف دهاليز نفسه وكيف يخرج منها ويرقص بجنون كلما اقترب من وردة.
كان يصرخ في داخله المعطوب؛ أيها الموتى تعالوا .. تعالوا.. هذا وقت الخروج من القبور، وقت التنزّه على أرصفة الأحياء الذين غادروا بيوتهم ولم يصلوا بعد.
كان يهذي في داخله ينادي دمشق… يصرخ: اريد مليون عين لأراك يا دمشق؛ لأرى وجهي في عينيك وقلبي على ناصية ثرثرة العشاق وهم يعبرون باب شرقي وباب توما ويعودون ليلاً إلى باب سريجة وساحة المحافظة ليقابلهم قنّاص وهم في نوّار الشغف.. أريد هذه المليون عين لا لشيء سوى لأعرف إن كانت أشجارك بدأت تتنهّد وهي تسير نحو اللا ضوء واللا ماء واللا جدوى. وهنا على لحاء أشجارك يا دمشق آثار سياط ودعسات لبسطار عسكري وسوقك محرقة لأعقاب السجائر. لكن لا يمكن أن يبقى طوقاً حول عنقك ولا خوذة تحجب شمسك، وسيمضي هذا الزمن القحب؛ زمن كلمة متاحة؛ نعم سيمضي زمن الجحيم وثلاجات الموتى وعربات الكلاب الفاخرة المملوءة بدود أحمر يخرج من بلاط عفن كقلب النذل؛ ذلك الذي يلعب على من يحضر ومن يغيب؛ هو الجبان ليس إلا الذي يعرف ضعفه فلا يجرؤ على إظهار ما يفعل بلا سند؛ وأي سند؟!!!!!.. نعم إنها عربات الأمس التي جرّتها وللأسف الإمعات الخائبة. يا لهذا العار يا دمشق؛ كم كنتِ عظيمة قبل ذلك.
هو يعرف ماحصل.. يشمه.. ولكنه صمتَ؛ بل وأقنعَ من يريد بحجم مايعلم.. لكن لم يتكلم عما يشمّه..
الرائحة .. رائحة الشام هي أصل الأشياء. يا لحماقة الجميع.