
تواجه الرأسمالية هذه الأيام أزمةً تُعَدُّ الأسوأ من نوعها إثر تفشي فيروس كورونا وما كشفه من عجز الدول -حتى المتقدمة منها- على الحد من انتشاره، وتترتَّب على ذلك آثارٌ اقتصادية كارثية في قطاعاتٍ مهمة وحيوية مثل السياحة والنقل والطيران، علاوة على انخفاض الطلب عمومًا على منتجات باقي القطاعات.
لا تختلف الآثار الاقتصادية للأزمة عن مثيلاتها في الأزمات السابقة، إذ تتحمَّل الطبقة العاملة ثمن تجاوز الأزمة وخسائرها، لضمان عدم المساس بأرباح الرأسماليين.
على الرغم من الإخفاقات المتتالية للنظام الرأسمالي في تجاوز أزماته دون تحميل الطبقات العاملة فاتورتها من طريق تطبيق سياسات التقشف وتخفيض الإنفاق على الخدمات العامة، لا يزال الكثيرون يرون أن النظام الرأسمالي لا بديل عنه ويلزم التعايش معه رغم مساوئه، بل ربما أكثر ما يمكن فعله إزاءه هو فقط محاولة إصلاحه قدر الإمكان.
دائمًا ما تُساق الحجج والمبرِّرات من أعلام ورموز هذا النظام ويردِّدها الكثيرون من الطبقة العاملة المُستغَلَّة نفسها.
بحسب ما يقولون، فإن “السلطة لا تملك عصا سحرية”، إذ اعتادت الطبقة الحاكمة ومؤيدوها استخدام هذه العبارة مبرِّرًا لغياب العدالة الاجتماعية والعزوف عن إصدار قرارات تخدم مصالح الفقراء.
لكن هناك الكثير من التجارب الثورية في التاريخ التي قدَّمَت فيها الجماهير نماذج اقتصادية وسياسية واجتماعية بديلة عن الرأسمالية، وحاربتها الرأسمالية بعنفٍ ووحشية. على سبيل المثال، مرَّت علينا في 28 مايو الماضي ذكرى مهمة تخص إحدى هذه التجارب، وهي ذكرى سقوط أول دولة عمالية في التاريخ، التي عُرِفَت باسم ”كوميونة باريس” عام 1871.
في ذلك العصر، أدَّت هزيمة فرنسا في حربها على ألمانيا إلى إبرام حكومة الدفاع الوطني، التي تولَّت الحكم، اتفاقًا مع ألمانيا يتضمَّن التنازل عن بعض المدن الحدودية في مقابل دعم ألمانيا لحكومة الدفاع في القضاء على انتفاضة العمال في باريس التي سبَّبَت ذعرًا هائلًا لحكومات الدول المجاورة خشية أن تنتقل الثورة إلى باقي أنحاء أوروبا.
لم تعش الكوميونة طويلًا، إذ استمرت فقط من 18 مارس إلى 28 مايو 1871. لكن السلطة العمالية أنجزت -في أيامها الـ72- ما تعجز عنه أكثر الحكومات ديمقراطية في العالم اليوم.
انتُخِبَ مجلس العمال انتخابًا مباشرًا وخلق أجهزة سلطة بديلة عن أجهزة السلطة التقليدية، فأصبح مجلس الكوميونة بديلًا عن البرلمان في الديمقراطيات البرجوازية، غير أنه اجتمعت لديه السلطتان التشريعية والتنفيذية. وكان من حقِّ الناخبين استدعاء أعضاء المجلس المُنتَخَبين في أيِّ وقت. استبدلت الكوميونة الجيش النظامي وأحلَّت محله جيشًا شعبيًا من العمال المسلحين، وألغت التجنيد الإجباري، وفي المقابل فتحت باب التطوُّع.
من أهم أهداف انتفاضة العمال في باريس آنذاك أن تكون المراكز ذات السلطة في المجتمع مُنتَخَبة وخاضعة للرقابة طيلة الوقت، فأصبح القضاة أنفسهم على سبيل المثال يُختارون بالانتخاب. وأُقِرَّت مساواة أجر العامل بأجر عضو الكوميونة، حتى لا يتميَّز المُنتَخَبون عن العمال الذي انتخبوهم، علاوة على تحرير التعليم من سيطرة المؤسسة للدينية وإقرار مجانيته، وإلغاء ديون الفقراء، وتحويل المصانع إلى تعاونيات تنظِّم الإنتاج على أساس احتياجات أهالي المدينة.
تدل هذه الإنجازات التي حُقِّقَت في أقل من شهرين ونصف على كذب مُبرِّر “العصا السحرية” الذي يدَّعي أنه لا يمكن إحداث تغيير بين عشية وضحاها. الأمر برمته يتوقَّف على مَن بيده القرار؛ هل هم النواب الذين يُنتَخَبون مرة كلَّ 4 أو 5 سنوات في انتخاباتٍ يتحكَّم في نتائجها المال والنفوذ، وفي النهاية يعبرون في برلمانهم عن مصالح الطبقة الحاكمة؟ أم مجلس عمال تشريعي/تنفيذي مباشرةً، الذي لا يتميَّز أعضاؤه عن بقية المجتمع في الأجر، بل ويُعزَلون فورًا في حال عدم التزامهم بالعمل لمصلحة الأغلبية؟
لم تدم الكوميونة، بكلِّ ما قدَّمته من نموذجٍ لمجتمع عادلٍ، لوقتٍ طويل، نتيجة انعزالها في باريس وعدم إيلائها الاهتمام الكافي لما يُحاك ضدها، وللتواصل مع عمال المدن الأخرى في فرنسا أيضًا. أتاح ذلك الفرصة للثورة المضادة من أجل إعادة تنظيم صفوفها وحشد جيوشها في فرساي، وذبحت الدولة العمالية الوليدة بكلِّ وحشية. قتل جيش فرساي وأعدم ما يقرب من 30 ألف من عمال باريس ودفنهم في مقابر جماعية، علاوة على دفن عددٍ غير معلوم من المصابين أحياءً، وظلَّت باريس تحت الحكم العسكري مدة 5 سنوات لاحقة.
هذا القمع الوحشي للكوميونة، الذي طال فيما بعد التنظيمات الاشتراكية والعمالية في فرنسا وألمانيا، يدل على حجم الذعر الذي سبَّبته دولة العمال في باريس، ليس فقط لأصحاب المال والسلطة في فرنسا، بل في أوروبا بأسرها خشية انتشار هذا النموذج إلى مدنٍ وبلدانٍ أخرى، إذ مثَّلَت الكوميونة تهديدًا لوجود النظام الرأسمالي برمته.
إذا كان ذلك قد حَدَثَ في زمنٍ كانت لا تزال فيه الطبقة العاملة أقليةً بين السكان، فالحال اليوم مختلفٌ تمامًا عن ذلك. تتجاوز الطبقة العاملة اليوم مئات الملايين من سكان العالم، ويتيح التطور التكنولوجي الهائل الذي خلقته الرأسمالية من تطور وسائل الاتصال، بغية خدمة مصالحها، فرصةً للتشبيك والتنظيم وسهولة وسرعة انتقال الأفكار والتجارب، فلم تعد التجارب الثورية يمكن عزلها داخل حدود مدنها.
لقد ضربت سلطة العمال في كوميونة باريس نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه المجتمع الاشتراكي، على النقيض تمامًا من النظام الرأسمالي، الذي يولِّد الفقر والقهر والحروب والقتل. ولعلَّ أبلغ تعبيرٍ عن ذلك هو ما كَتَبَه الاشتراكي الثوري الروسي ليون تروتسكي: “لقد كانت الحرب الفرنسية-الألمانية انفجارًا دمويًا ينذر بمذبحةٍ عالمية لا حدَّ لها، في حين كانت كوميونة باريس بشرى مضيئة لثورة عمالية عالمية”.
عن بوابة الاشتراكي بتصرف