
بين المهرج اللطيف والشرير المخيف: السيسي بين أدواره وأقنعته المتعددة
على خلفية أزمةٍ اقتصادية لعلها الأسوأ خلال عقودٍ طويلة، ويقينًا هي الأسرع والأعمق في معدل تطورها، سافر السيسي إلى الإمارات العربية المتحدة على رأس وفدٍ حكومي «رفيع المستوى» للمشاركة في القمة العالمية للحكومات، ولا أعلم أمن باب الاحتفاء به وبحضوره؟ أم استجابةً لرغبته وعشقه الضارب بجذوره في أعماق نفسه للإمساك بالميكروفون والحديث المتصل المسهب، فقد مُنح المسرح الذي يريد والحضور الذي يتمنى (أي محمد بن زايد وسائر اللفيف) فاسترسل، يقدم فروض الولاء والطاعة، يقر بالفضل والجميل، وبالدور الفاصل والمحوري الذي لعبه التمويل الخليجي في دعم انقلابه، ومن ثم التمكين له ولضباطه من السيطرة على مفاصل الدولة، وتدعيم أركان النظام (أو بقاياه الجريحة) فأنشأ بعدها يعيد إنتاج ما بُتر وهُشم، ولم يخل الأمر من الاستجداء له ولغيره من الطغاة قاتلي شعوبهم كالنظام السوري، مؤكدًا الأخوة والمحبة في الله إلخ…
بصورةٍ ما، لكنها حتمًا متأخرة، أدرك السيسي أن الوضع الاقتصادي حرج، وأن البؤس والجوع، باتا يطحنان الناس، وفوائد الديون المتراكمة صارت عبئًا كارثيًا يهدد نظامه.
اللطيف واللافت، أنه ما بين «الفضفضة» وشطحات جلسات المصاطب والاعتراف، أكد ما كنا نعرفه عن الدعم في سد العجز في الطاقة والمحروقات، بما كان لذلك العامل وحده من تأثيرٍ مدمرٍ أسهم في تأجيج الغضب والاحتجاج بطوابير الوقود الطويلة، التي وصلت كيلومترات، التي شهدناها جميعًا مسهمًا في التمهيد للسخط الشعبي في يونيو 2013.
لكن الحقيقة، وبعيدًا عن أي مشاعر وطنية شوفينية، فقد كان إخراج مشهد ذلك اللقاء مع السيسي أو الـ «Mise-en-scène» ومضمون الحوار، ومنه أسلوبه اللزج المتزلف، كاشفًا بقدر ما كان مهينًا، لقد كان السيسي أشبه ما يكون بمهرج الملوك أو «البهلول»، مجرد ممثل أو مؤدٍ يقدم وصلةً ترفيهيةً للسادة، يسرّي عنهم، والأهم، يشعرهم بالرضا عن أنفسهم والامتلاء بذواتهم والانتشاء بنفوذهم وقوتهم؛ ولكن ما يلفت الانتباه بصورةٍ خاصة وصارخة هو التناقض بين تلك الصورة، أو ذلك الأداء المنسحق الساعي للإرضاء والإمتاع، وذاك المتعالي المتجبر الزاجر الآمر المتوعد المهدد «ما تسمعوش كلام حد غيري» والمحذِّر الميئِّس من إمكانية ثورةٍ أخرى، والحقيقة أن بين نسختي السيسي، أو تلك الطبعتين تكمن مشكلة نظامه الهيكلية والوجودية. في البداية كانت الثورة المضادة، والقوى المصطفة وراءها. كانت هناك البورجوازية المصرية التي تخشى على مكاسبها الطائلة، التي التقت مصالحها مع قوى الإقليم، الرجعي بالمجمل، خاصةً إسرائيل ومشيخات الفوائض المالية النفطية التي دعمت وموّلت الانقلاب، إذ في توليفةٍ أو معادلةٍ كلاسيكية، تم الرهان على الحصان العسكري، وقبلت من ثم هذه البورجوازية المصرية بالتضحية بالكثير مما اكتسبته من نفوذٍ في عهدي السادات ومبارك، وبما ظنتها في البداية بعضًا من مكاسبها المادية للمؤسسة العسكرية. ليأتي الضابط الذي وقع عليه الاختيار فيجد «آلة»، أو ماكينة دولة يوليو، التي دشنها عبد الناصر، تلك التي تتيح للجالس على الكرسي سلطاتٍ كلية، ومن سوء الحظ أو كنتيجةٍ طبيعية للتدهور والانتخاب غير الطبيعي، حيث البقاء في مؤسسةٍ ودولةٍ على هذه الشاكلة للأردأ والأغبى والأكثر بلادةً، جاء ذلك الضابط محدود القدرات، يرفد جهله اعتدادًا بذاتٍ آخذةٍ في التضخم أمام أعيننا يومًا تلو الآخر حتى لتوشك أن تنفجر، كما أنه مسكونٌ بأوهام العظمة وجنونها ومقارنات الأحجام، فهو يريد أن يبني أكبر كل شيء، منبت الصلة باحتياجات البلد الأوسع الحقيقية؛ كل ما يشغله هو التمتع بالرفاهية وتأمين النظام من طريق إرضاء الضباط والمنظومة الأمنية، ناهيك عن إيمانه بالتراتبية الصارمة وتعال عميق واحتقارٍ للناس. في المحصلة، ولإرضاءٍ نهمٍ لا مثيل له، غرق البلد في هوة الديون، وتغولت المؤسسة العسكرية على الأنشطة الاقتصادية، ما تسبب في انفضاض ذلك التحالف الداعم للسيسي وانقلابه شيئًا فشيئًا، شريحةً وراء الأخرى، أمام خسائرهم لمصالحهم المادية، وبالطبع لم تساعد الأزمة الاقتصادية العالمية جراء الوباء والحرب الآن في أوكرانيا. يضاف إلى ذلك ضجر الأطراف الداعمة من أوجه وطريقة التبذير الحمقاء هذه، لاسيما وأن أصواتًا بدأت تعلو في هذه الدول لترشيد الإنفاق، خاصةً أن مصر السيسي باتت تشبه أمامهم بئرًا بلا قرار، قادرة على ابتلاع كُل ما يضخ فيها دون أثرٍ يذكر أو تغييرٍ حقيقي ينعكس على حياة الناس، بما يطمئن من بعد شبح ثورةٍ جديدة، بل كل الشواهد تشير إلى تدهورٍ وانهيارٍ اقتصادي وسخطٍ متنامٍ بدأ يشق لنفسه قنوات تعبيرٍ في صورة اعتصامٍ هنا، وتجمهرٍ هناك وإن ما زالوا صغارًا بما يمكن من السيطرة عليهم.
بصورةٍ ما، لكنها حتماً متأخرة، أدرك السيسي أن الوضع الاقتصادي حرج، وأن البؤس، بل الجوع، باتا يطحنان الناس، فمجرد فوائد الديون المتراكمة صارت تشكل عبئًا كارثيًا يهدد نظامه؛ الأخطر من ذلك أن داعميه الأساسيين، أي بلدان الخليج، قد أوصلوا له رسالةً لا تحتمل لبسًا بأن دعمهم له ليس «شيك على بياض» بل له آخر، ومن يدري، فربما باتوا يشعرون بأنه «يستذكي ويتناصح» عليهم ظانًا إياهم أغبياء وأن في مقدوره «حلبهم» إلى ما لا نهاية، إما بالاستجداء ومعسول الكلام، وإما بالابتزاز كحين أطلق أحد صحافييه/ أبواقه يعاير المملكة السعودية وعرب الخليج وراءها بأنهم حفاة عراة. كان يتعين على السيسي أن «يفيق» من سكرته التي أمده فيها إعلامه والداخل المصري، حيث يعيش (وكثيرون معه للأسف) فقاعته وزمنه الخاص، كان يتعين عليهم أن يذكّروه بموقعه ودوره الإقليمي، محض بيدق يحركه المحيط الإقليمي ويموله لوأد احتمالات الثورة، وقد أنفقوا عليه بسخاءٍ وأغدقوا فوق ما يطيقون ربما، لكن حان الوقت لمسك اليد، فلا أموال بلا مقابل. والمعادلة المطروحة الآن باختصار على السيسي ومن معه إما بيع ما تبقى من الأصول، والحد من تغول الجيش على الأنشطة الاقتصادية، والامتثال لإملاءات الصندوق ورغبات، بل نهم، رأس المال الإقليمي إلى المقابل، أي الانحناء للعاصفة، وقبول التضحية ببعض ما كنزوا ووضعوا أيديهم عليه مقابل الاحتفاظ بالباقي، وإما التضحية بكل شيء.
في ضوء هذا، يجب ألا نرى في زيارة السيسي فعلياً أكثر من إعادة تقديم أوراق اعتماد، أنه ما زال يصلح للمهمة الموكلة إليه، قادرًا على إتمامها، كأي موظفٍ تقام معه مقابلة دورية لمراجعة أدائه ومن ثم التقرير في ما إذا كان سيُمدد له أم لا. هي جولة للتسول مشفوعة بالمطالبة بتفهم حرج موقفه، وربما تقديم مبررات وشرح موقفه في الغرف المغلقة. بين أدواره المتباينة، تارةً الشرير في دراما ملأى بالدم والبارود، وتارةً المهرج اللطيف المستأنس، يصارع السيسي للبقاء أمام أزمةٍ طاحنةٍ، وقد تطيل تلك الصفقات وشيء من التنازلات عمره وعمر نظامه، لكن يظل السؤال: في غيبة تغييراتٍ هيكليةٍ عميقة تطال أسس النظام إلى متى، وهل ستكون الخطوة المقبلة التضحية به أم سقوط نظامه؟
يحيى مصطفى كامل_كاتب اشتراكي ثوري