
لا يزال قطاع واسع من “المراقبين” والنخب السياسية، وحتى بعض المحسوبين على صفوف المعارضة، يهدرون وقتاً ثميناً -يُدفع ثمنه دماً سورياً نازفاً- في اجترار أوهام حول امكانية “ترويض” السلطة التيرميدورية أو إصلاحها.
إن الحقيقة المادية التي يجب أن نجهر بها دون مواربة هي: لا أمل يُرتجى من سلطة الثورة المضادة، وأن الخيار “الواقعي” الوحيد للتغيير هو العمل الجاد لإسقاط هذه السلطة، أو خنقها وعزلها كحد أدنى. إن التباطؤ في إدراك هذه الحقيقة ليس مجرد قصر نظر سياسي، بل هو تواطؤ غير مباشر مع إطالة أمد المأساة.
أكذوبة “الاستقرار” والفزاعة الأمنية
يُساق إلينا هراء كثير تحت عنوان “غياب البديل” أو التخويف من “حرب أهلية جديدة”. إنه لمنطق بائس ومثير للسخرية؛ فمتى كان الجولاني ومشروعه الظلامي حلاً أو بديلاً عن الطغمة الحاكمة للنظام السابق؟ ومتى توقفت الحرب الأهلية أصلاً في ظل وجود أمراء الحرب؟
إننا نتحدث عن زعيم ميليشياوي يمثل رأس حربة للثورة المضادة في شقها الرجعي الطائفي، عاجز بنيوياً عن إدارة المناطق التي تخضع لسيطرته، بل وحتى عن ضبط الفصائل المنضوية تحت عباءة ائتلافه القمعي المتوحش.
إن هذا النهج لم يجلب سوى إطلاق يد الفصائلية المتوحشة، وتغذية النزعات الإبادية والفوضى، ناهيك عن تحويل سوريا كلها إلى ورقة مساومة إقليمية رخيصة، نظراً لسهولة ابتزاز الجولاني بخلفيته “الجهادية” وارتهانه للخارج مقابل بقائه في الحكم.
ضرورة الخيار الوطني الديمقراطي
في أدنى الاحتمالات إن أي تشكيل سياسي أو عسكري وطني، بقطيعة مع الإرث القاعدي والجهادي، سيكون -بالضرورة- أكثر كفاءة وقدرة على إدارة المناطق وحمايتها، والأهم من ذلك، سيكون أقدر على جذب تعاطف من الجماهير الشعبية من كافة المكونات، بعيداً عن الخطاب الطائفي التفتيتي.
إن الجماهير السورية التي أثبتت قدرتها على الحشد في كل الساحات، لا تحتاج إلى أمراء حرب لقيادتها، بل تحتاج إلى قيادة سياسية تحمل مشروعا وطنياً و ديمقراطياً واجتماعياً جامع.
وفي هذا السياق، يتجاهل مروجو “عدم وجود بديل” حقيقة موضوعية ساطعة: لا يمكن الحديث عن توحيد سوريا أو بناء بديل حقيقي دون أن تكون الادارة الذاتية جزءاً أساسياً من المعادلة، بل وفي القلب منه.
فهي القوة الأكثر تنظيماً وتمرّساً، والحاملة لمشروع سياسي يتقاطع مع تطلعات السوريين في الديمقراطية واللامركزية.
إن فشل الجولاني في التفاهم مع “قسد” ليس مجرد خلاف تكتيكي، بل هو تعبير عن عجز بنيوي لدى قوى السلطة التيرميدورية عن قبول الشراكة مع أي طرف ديمقراطي أو علماني خارج “الفسطاط” الإرهابي الطائفي.
قوى المقاومة الحقيقية: الميزان المفقود
إن مقاومة هذه “السلطة التيرميدورية” ليست معركة افتراضية يخوضها أفراد على صفحات فيسبوك، بل هي صراع مادي عنيف يشمل قوى سياسية واجتماعية و مسلحة موجودة على الأرض.
وهنا يجب أن نمتلك الجرأة لقول الحقيقة التي يعجز الطائفيون عن رؤيتها: إن القوى “الفعلية” الأهم الموجودة على أرض الواقع التي توازن المشهد نسبياً اليوم وتمنع السلطة التيرميدورية من ابتلاع كل شيء والاستئثار بمصير الشعب والبلاد، هي “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والحراك الشعبي في السويداء والساحل ( بتنوع هيئاته السياسية والاجتماعية ورمزية بعض أشخاصه كهجري وغزال).
إن المسؤولية الأخلاقية والسياسية للثوريين تقتضي دعم هذه القوى بكل الأشكال الممكنة. ليس بالضرورة لأنها “مثالية” أو منزهة عن النقد، ولكن لأنها تمثل السد المنيع أمام تغول الفاشية الدينية، والأهم هو ربط وتوحيد ساحات النضال المذكورة.
إن عجز “المعارضة الرسمية” وجمهورها عن رؤية قسد أو حراك السويداء كقوى “معارضة” وشريكة، ينبع في العمق من نزعة طائفية، واحدية، وإبادية، لا ترى “سوريا” إلا من ثقب الباب الضيق للهوية الطائفية.
بؤس “الواقعية” وتزييف الوعي
يتشدق الكثيرون بـ “الواقعية السياسية” لتبرير الخضوع للسلطة التيرميدورية. لكن هؤلاء يتجنبون أبسط مبادئ الواقعية ذاتها: التوصيف المادي الصحيح لبنى الواقع وعلاقات القوة.
لن تجد لدى أي من جوقة “النقد البناء” أو المروجين لبقاء الهيئة حديثاً جدياً عن البنية العميقة لهذه السلطة، ولا عن أدوات قمعها، أو طبيعة قوتها الضاربة، أو أيديولوجيتها الكامنة خلف حملات العلاقات العامة البراقة.
بدلاً من التحليل، يغرقوننا بإنشائيات غبية وتفكير بالتمني، ويبتزون الجماهير بشعارات مثل “إرادة الناس” (وكأن للجماهير إرادة حرة تحت سيف الجلاد!)، أو خرافة “صمام الأمان”.
إن مقولة “لا بديل” التي يروجها هؤلاء المدافعون عن القبح، ليست تحليلاً سياسياً، بل هي تهديد صريح مبطن: “ارضخوا لنا، واقبلوا بحكمنا، كي نحميكم من وحشيتنا نحن”.
وهنالك البعض الاخر الذي يبالغ في مثالب قسد وغيرها من الاحتجاجات على السلطة كحجة للتعالي عن الواقع وتمجيد الانتظارية لقادم مثالي لن يأت ابدا.
تشريح “السلطة التيرميدورية”: الغبار البشري كأداة قمع
إننا أمام سلطة هي مزيج “جهادي-ميليشياوي” هجين، فرضت نفسها بانقلاب عسكري مدعوم إقليمياً، لتمثل “التيرميدور السوري” (الثورة المضادة المنتصرة).
أدوات هذه السلطة ليست مؤسسات دولة، بل هي “الفزعات”، و”النفير”، وما يسمونه بـ “الفصائل غير المنضبطة” التي تعمل كفرق موت جوالة، مما يتيح لقيادة الهيئة التنصل من جرائمها بحجة أنها صادرة عن “الشعب المسلم الغيور”.
يعتمد الجولاني في سلطته على حشد “الغبار البشري” -الكتل الاجتماعية المهمشة فاقدة الوعي الطبقي والسياسي- لتشكيل شارع غوغائي مسلح، وجيش جهادي طائفي وظيفته الأساسية قمع المجتمع وسحق أي حراك ديمقراطي.
يظن المتخلفون سياسياً أن “الواقعية” تقتضي التستر على هذه البنية الإرهابية الطائفية، بينما الواقعية الثورية الحقة تقتضي توصيف هذا الوحش بصدق، للعمل على الخلاص منه.
كسر “صناعة الوهم”
إن الدعوات لـ “الضغط على الجولاني للإصلاح” ليست سوى سذاجة سياسية مفرطة، وعجز فاضح عن قراءة الواقع الطبقي والسياسي لهذه الميليشيا. إنها محاولة يائسة لتسويق الوهم، ونتيجة مباشرة لحملات العلاقات العامة التي تهدف لغسل سمعة القوى الظلامية وتحويل السوريين إلى مجرد تابعين فاقدي الإرادة.
فتكون مهمتنا الآنية: نحو مشروع وطني و ديموقراطي و اجتماعي جذري: الجمهورية الديمقراطية اللامركزية، التي تقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية.
فإن واجبنا كحزب يساري ثوري لا يقتصر على الرفض، بل يتجاوزه إلى:
منح التوصيف الصحيح للواقع: تعرية سلطة الجولاني كقوة ثورة مضادة، وفضح التواطؤ العضوي بينها وبين النظام السابق.
صياغة المشروع المستقبلي: العمل مع قوى المقاومة الحقيقية (في الشمال الشرقي والساحل والجنوب والحراك الشعبي علاوة على القوى السياسية الديمقراطية) ما سيشكل “الإرادة السياسية” والمشروع الوطني الجامع، يتجاوز كون بعضها قوى أمر واقع لتتحول إلى بديل وطني ديمقراطي واجتماعي لكل السوريين/ات.
الانخراط في نضال الناس وفي توحيد كل ساحات النضال في وجه السلطة الترميدورية ومشروعها الطائفي والنيوليبرالي والمفرّط بسيادة البلاد.
لا خلاص لسوريا إلا بكسر هيمنة “الغبار البشري” الموجه أيديولوجياً، وإعادة الاعتبار للقوى الاجتماعية المنظمة القادرة على دفن الاستبداد بشقيه: العسكري، والديني.
هيئة التحرير
