غياث نعيسة
في الثامن من كانون الأول 2024 أعلن عن سقوط نظام الطغمة لآل الأسد بعملية عسكرية سريعة لم تتجاوز 11 يوما. لم تشهد تلك الأيام معارك عسكرية كبرى حقا، بل شهدت خلالها تبخرا ذاتيا لجيش وأجهزة الأمن وكل مؤسسات النظام السابق حتى قبل وصول الفصائل الإسلامية المسلحة القادمة من مدينة إدلب في شمال غرب سوريا إلى العاصمة دمشق.
تقف على رأس الفصائل المسلحة التي استلمت السلطة في دمشق هيئة تحرير الشام، وهي من الفصائل الإسلامية الأكثر انضباطا وخبرة، يضاف لها جملة من الجماعات الأخرى السلفية الجهادية المرتبطة بها ومعها مجموعات من المقاتلين فيما يسمى الجيش الوطني التابع لتركيا.
كانت العملية العسكرية أقرب إلى عملية إملاء الفراغ الذي تركه الانهيار الشامل لنظام الطغمة السابق منها إلى عملية تدميره.
وبمجرد دخولها دمشق خرجت السلطة الجديدة في الأيام الأولى لتعلن بان سقوط النظام السابق يعني أن الثورة قد انتهت وحان وقت بناء الدولة.
خرجت الجماهير الواسعة في عموم سوريا تبتهج بسقوط نظام عائلي، الاب والابن، مجرم ومستبد سبب ويلات مهولة من القتل المذابح والدمار والخراب بحق الشعب السوري لا مثيل لها على مدى أكثر من خمسة عقود.
أمام هذا الحدث الكبير بسقوط نظام الطغمة الاسدي والانبهار بغباره لدى الكثيرين تبارى عدد كبير من المثقفين والقوى السياسية للصراخ عاليا مدعية أن ما جرى هو انتصار للثورة الشعبية التي انطلقت عام 2011، وأن السلطة الجديدة هي القوى الثورية التي حققت هذا الانتصار وهي التي حملت شعلة الثورة خلال الأعوام الماضية.
في موازاة هذه الموجة من التعبير عن تملق وموالاة سلطة، لم يعرف بعد طبيعتها ولا نواياها، لدى قطاعات من الجماهير والمثقفين الليبراليين واليساريين المتلبرلين، كانت السلطة الجديدة تكشف عن نفسها في اسبوعها الاول بإعلانها انتهاء الثورة وكذلك إعلانها على إقامة “اقتصاد السوق الحر” في سوريا ودمجه في النظام الرأسمالي العالمي عوضا عن السياسات الاقتصادية الرأسمالية للنظام الأسدي المنهار التي احتكرت فيه الطغمة الحاكمة دور الرأسمالي الأكبر في البلاد.
إن الفكرتين الأساسيتين التي طرحتهما السلطة الجديدة منذ الأيام الأولى لاستلامها الحكم: الثورة انتهت وجاء وقت اقتصاد السوق الحر والالتحاق بالنظام الرأسمالي العالمي، تقاربان، إلى هذا الحد أو ذاك، ما شهدناه في بلدان أخرى من سياسات لسلطات جاءت إلى الحكم عقب ثورات وانتفاضات هزمت او اجهضت مثل ثورات أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعدد آخر من الدول في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وكمبوديا ولاوس وإيران وغيرها من الدول.
في هذه الحالات المعنية، والتي يمكن فهم سياق ومآلات كل منها، طبعا وفق الظروف الخاصة لكل بلد، بالاستناد على نظرية الثورة المنحرفة التي طورها توني كليف1 ، والتي ساهمت إلى حد كبير في تفسير كيف يؤدي تراجع، أو هزيمة، القوى الثورية العمالية في سيرورات الثورة الى بروز الدور القيادي لفئات من البرجوازية الصغيرة والوسطى تنتزع السلطة وتبني أشكال متنوعة من رأسمالية الدولة. وهو ما كان شديد الوضوح في كل التجارب الثورية المجهضة لغاية السبعينات من القرن الماضي.
لكن التحولات النيوليبرالية التي جرت في النظام الرأسمالي العالمي المأزوم، أوضحت أن هكذا تجارب لثورات مجهضة، أو أغلبها، منذ ثمانينات القرن الماضي لم تؤدي إلى قيام رأسمالية دولة بالضرورة كما جرى في السابق، بل ان من وصل الى السلطة في سياق سيرورات ثورية شعبية متعرجة المسار، وعلى أرضية هزيمة قواها الثورية أو ضعفها، هي نخب برجوازية صغيرة ومتوسطة قطعت مع ديناميات الثورة الشعبية الاصلية او/و ساهمت في القضاء عليها، ورغم ذلك فإنها حال استلامها للسلطة احتكرت سردية “الثورة” لصالحها، وعملت على بناء نظام سياسي لها، ولم تقدم، بأي حال، على بعض التنازلات الديمقراطية إلّا بانتزاعها منها بعد صراع سياسي واجتماعي جماهيري ضدها، إضافة إلى ذلك فإن هذه السلطات ما بعد سقوط الدكتاتورية لهثت إلى فتح اقتصاد بلادها على السوق الرأسمالي العالمي وفرضت على شعوبها سياسات نيوليبرالية. هذا ما يدفعنا إلى وصفها بالترميدورية.
ما يراد هنا قوله، وتكرر بتجارب الثورات المعاصرة، أن سقوط الدكتاتوريات، لا يعني بالضرورة الدخول في مرحلة ” انتقال ديمقراطي” كما تروج له مراكز البحوث الغربية والليبرالية، إلا بالقدر الذي تكون فيه القوى الثورية السياسية والاجتماعية (العمال والكادحين) هي القوى القائدة لهذه السيرورة.
من اندلاع الثورة الشعبية إلى هزيمتها
اندلعت الثورة الشعبية السورية في منتصف آذار/مارس 2011 كاحتجاج جماهيري سياسي واجتماعي على نظام الطغمة لأل الأسد الذي قمع الشعب السوري و أفقره، و لكيلا يطول الشرح يمكن متابعة موقع تيار اليسار الثوري- الذي تشكل في خضم ثورة 2011- للاطلاع على تحليلاتنا حول طبيعة الثورة الشعبية ومسارها وصولا الى يومنا هذا (يمكن العودة إلى مقالاتنا عن طبيعة الثورة وجذورها وتطورها في مقالاتنا بدءا من مقال ثورة جارية 2011 على الرابط في قائمة المراجع2
بيد أن وحشية النظام البائد وغياب قيادة ثورية متمرسة وتدخل قوى إمبريالية وإقليمية وتنافسها أدى الى هزيمة الثورة الشعبية المطالبة بالحرية، والعدل، والمساواة، والكرامة.
فقد تبدى المشهد العام في سوريا بين عامي 2012- 2013، مع انتقال الثورة الى مرحلة التسلح الى تسيد فصائل مسلحة محلية الطابع باسم الجيش الحر محدودة التسليح مقابل ازدياد نفوذ فصائل سلفية جهادية جيدة التسليح والتمويل.
وفي مسار تحلل الثورة السورية وهزيمة القوى الثورية لم يعد يقتصر الصراع المسلح على مقاومة نظام الأسد، بل صار جله بين فصائل المعارضة المسلحة المذكورة، حيث احتدم الصراع المسلح فيما بينها على السيطرة والنفوذ والموارد. وكان أول ضحايا هذا الصراع والتي تم سحقها هي فصائل الجيش الحر التي كانت تضم في صفوفها مدنيون وجنود وضباط منشقين عن نظام الأسد.
وخلال وبعد قضاء الفصائل الجهادية على الجيش الحر دار صراع تصفيات دموية محتدم بين الفصائل الإسلامية الجهادية نفسها، فتراجع الحراك الشعبي ثم خمد معلنا هزيمة الثورة مع فرض سطوة داعش والفصائل الجهادية على أغلب المناطق السورية الخارجة عن سيطرة نظام الطغمة.
ظهر الشكل الابشع لقوى الثورة المضادة في تنظيم داعش الفاشي الطابع في النصف الثاني من عام 2013، هذا التنظيم الفاشي اجهز خلال عامي 2013 و2014 على ما تبقى من قوى الثورة الشعبية المدنية والعسكرية.
تمددت هذا التنظيم الفاشي للسيطرة على مساحات واسعة من سوريا والعراق، ساحقا كل من حاول مواجهته، حتى وصوله الى مدينة كوباني/عين العرب و محاولته احتلالها في 13 أيلول/سبتمبر 2014 ليواجه المقاومة الكردية البطولية، التي وجهت له أول هزيمة قاسية وشكلت نقطة بداية تراجع وهزيمة تنظيم داعش.
بيد أن توسع هجمات داعش وصولا الى مدينة كوباني شكل ذريعة للولايات المتحدة لتشكيل تحالف دولي لمحاربة داعش والتدخل العسكري المباشر في سوريا. وبذلك أصبحت ذريعة محاربة داعش و”الإرهاب” ذريعة للدول الامبريالية للتدخل العسكري في بلادنا.
في المقابل، بعد ذلك بعام أعلنت روسيا، بدورها، عن تدخلها العسكري المباشر والمعلن في سوريا دعما للنظام الحاكم وفي مواجهة “الإرهاب”. ولم يطل الوقت حتى قامت تركيا هي أيضا بالتدخل العسكري المباشر في سوريا في 24 أب/أغسطس 2016 بحجة محاربة داعش و”الإرهاب” والمقصود به تركيا هو الحركة الكردية في سوريا. تلا ذلك عدة هجمات واحتلال تركي المزيد من الأراضي السوري عامي 2018 و2019.
ولكي تكتمل الصورة تماما، علينا توضيح أن إيران وميليشيات تابعة لها تدخلت بدورها مبكرا لدعم نظام الأسد. أما كيان الاحتلال الإسرائيلي فقد كانت، وما تزال، استراتيجيته منذ بداية الثورة اضعاف القدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية لسوريا أيا كان حاكمها. بهذا أصبحت سوريا بشكل مباشر ساحة للصراع والتنافس بين دول امبريالية وإقليمية.
التنافس الإمبريالي
في سبيل تنظيم تنافس الدول الامبريالية في سوريا ومنع تصادمها عسكريا، جرت عدة تفاهمات بين الولايات المتحدة وروسيا يضع شمال شرق سوريا منطقة تواجد عسكري للأولى، وبقيت مناطق نظام الأسد منطقة برعاية روسية أساسا وايرانية، وبقيت مناطق شمال غرب سوريا تحت النفوذ التركي. كما جرى اتفاق، غير معلن، بين روسيا وإسرائيل يسمح للأخيرة بضرب حزب الله وإيران وميليشياتها في سوريا.
هذه التفاهمات بين الدول الإمبريالية هو فسح في المجال للتوقيع على اتفاق ” لخفض التصعيد” إثر اجتماع استانة في بداية شهر أيار/ مايو 2017 بين تركيا وإيران وروسيا، تقاسمت فيما بينها مناطق النفوذ، و نسق فيما بينها إدارة وكلائها السوريين.
كان من نتائج اتفاقات استانة تهجير الآلاف من مقاتلي المعارضة، وعائلاتهم، الذين رفضوا إجراءات المصالحة مع نظام الأسد في جنوب سوريا وريف دمشق ووسط سوريا وحلب، وتم اجلائهم الى ادلب وريفها، هذه المنطقة أصبحت عسكريا وسياسيا واقتصاديا مرتبطة تماما بتركيا.
وبالرغم من عدم توقف صراع الفصائل الإسلامية المسلحة في شمال سوريا فيما بينها على الهيمنة والنفوذ، لكنها بقيت تحت سيطرة الدولة التركية. وهذا ما كان عليه حال هيئة تحرير الشام التي وصلت للسلطة.
مع تقاسم مناطق السيطرة بين الدول الامبريالية ترسخ، بالأخص، منذ عام 2019 انقسام سوريا الى مناطق سلطات أمر واقع لها أدواتها الحكومية، في شمال شرق سوريا الإدارة الذاتية، وفي مناطق الاحتلال التركي كانت تعمل الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، وفي مناطق ادلب عملت حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام هتش. ونحو 60 بالمئة من الأراضي السورية الباقية كانت تحت سيطرة نظام الأسد.
في كل من هذه المناطق كانت الجماهير السورية تعيش في ظل سلطة سياسية وشروط اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة ومنقطعة إلى حد ما عن بقية المناطق الأخرى.
فالحكومة المؤقتة التابعة للإئتلاف شكلت كيانا أجوفاً فاشلا كونها تابعة تماما للاحتلال التركي على كل الصعد فقد كانت الدولة التركية تديرها مباشرة. في حين أن الإدارة الذاتية وحكومة الإنقاذ وحكومة نظام الطغمة الاسدي كان لكل منها مساحة متفاوتة من استقلالية القرار، وان كانت الادارة الذاتية تتمايز عنهما بأن لها مشروع سياسي ديمقراطي لا طائفي وغير شوفيني واجتماعي.
على صعيد العلاقات الاقتصادية، يرتبط اقتصاد الإدارة الذاتية وهو اقتصاد حر إلى حد كبير بالدولار و بعلاقات تبادلية مع إقليم كردستان العراق وأيضا مع بقية المناطق السورية الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع الاخرى.
في المقابل كانت حكومة الإنقاذ تقوم على الاقتصاد الحر و مرتبطة عضويا بالاقتصاد التركي، وتقيم بعض التبادلات مع بقية المناطق السورية الأخرى مع ايلائها اهتمام كبير لواردات المعابر التي كانت سببا لحروب طاحنة بين الفصائل الإسلامية المتعددة المشارب. بينما كان نظام الأسد يعاني، أكثر من بقية المناطق، من تدهور حاد لاقتصاده نتيجة سياسة النهب اللامحدود التي طبقتها الطغمة الحاكمة وتبعات العقوبات الاقتصادية عليه وعلى رموزه، علاوة على الضعف الاقتصادي المستمر لحلفائه وتعرض مبادلاته الاقتصادية مع المناطق السورية الأخرى الخارجة عن سيطرته الى تقلبات عدة ترافق المعارك معها.
هيئة تحرير الشام
هتش واحدة مما يقارب ألف مجموعة مسلحة إسلامية متعددة المشارب العقائدية نشطت مع الانتقال إلى التسلح للثورة السورية في نهاية عام 2011 وبشكل أبرز مع عام 2012 والتي ترافقت مع تراجع دور الهيئات الثورية التي بزغت من الأسفل كالتنسيقيات والمجالس المدنية، كما أن بروز هذه الفصائل الإسلامية المسلحة وفي غالبيتها سلفية جهادية جاء نتيجة وسببا في تراجع الحراك الثوري الشعبي.
على صعيد العسكري حازت هذه الفصائل الإسلامية الجهادية على دعم إقليمي ودولي كبيرين (حكومي وغير حكومي) لم يحظ به الجيش السوري الحر الذي كان تعبيرا عن الناس العاديين والعسكريين المنشقين الذين حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم وأهاليهم.
لم تقتصر الاشتباكات المسلحة بينها وبين قوات نظام الأسد، بل كان أشدها في الصراعات فيما بينها بعضها البعض على النفوذ والسيطرة ومصادر الأموال، تحت غطاء فقهي متشدد لتبرير المذابح التي ارتكبتها. وكان الضحية الأولى لهذه الفصائل الإسلامية المتشددة هو الجيش السوري الحر الذي تلاشى تقريبا مع عام 2014.
من بين كل هذه الفصائل الإسلامية المتشددة فإن جبهة النصرة التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق حين الإعلان عنها عام 2012، وهي التنظيم الذي غير اسمه وولائه مرارا ليصبح هيئة تحرير الشام، تميزت عن غيرها من الفصائل بميزتين أساسيتين، الأولى هي الجرأة وانضباط عناصرها عموما، والثانية هي “البراغماتية القصوى” لقيادتها.
مرت جبهة النصرة، رغم كونها واحدة من قوى الثورة المضادة، بمراحل عدة لتتكيف مع معطيات الواقع ولتحسين صورتها وسمعتها وزيادة نفوذها، فقد انتقلت من مرحلة محاربة القوى الثورية والجيش الحر وتمزيق ودوس علم الثورة بالأقدام الى مرحلة تبنت فيها سردية طائفية للثورة ورفعت علمها الى جانب اعلامها السلفية الجهادية.
المرحلة الأولى بين عامي 2012-2013 نشطت جبهة النصرة كفصيل جهادي مرتبط تنظيميا وعسكريا وتمويلا بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق.
المرحلة الثانية بين عامي 2013- 2016، هو انفصال جبهة النصرة عن الدولة الإسلامية في العراق التي تحولت عام 2013 إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش، وانشقت جبهة النصرة عن هذا المشروع معلنة ولاءها لتنظيم القاعدة الإرهابي.
المرحلة الثالثة بين عامي 2016-2017 في محاولة من جبهة النصرة للتخلص من وصمة الإرهاب نتيجة انتمائها لتنظيم القاعدة أعلنت، ظاهريا، عن قطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة، وقامت بإقامة تحالف، او بالأحرى ضم، فصائل محلية أخرى لتغيير اسمها من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام.
المرحلة الرابعة من عام 2017 إلى تاريخ. سقوط نظام الأسد، انفصلت جبهة تحرير الشام رسميا عن تنظيم القاعدة واندمجت مع فصائل إسلامية أخرى تحت اسم هيئة تحرير الشام.
حصرت هيئة تحرير الشام هتش منذ انفصالها الرسمي أيديولوجيا وتنظيميا عن تنظيم القاعدة عام 2017 عملياتها داخل حدود سوريا، بما كان يعني تخليها عن فكرة الجهاد العالمي الذي كان شائعا لدى الفصائل السلفية الجهادية الأخرى وبالأخص داعش.
في مسعاها لتحقيق هيمنتها على بقية الفصائل وتوسيع رقعة سيطرتها اعتمدت هتش على استراتيجية عسكرية تقوم على القضاء أو إضعاف وتفكيك الفصائل الإسلامية المسلحة الأخرى بهدف دمجها او قضمها في مناطق ادلب وشرق حلب، وهي المناطق التي كانت خارج سيطرة نظام الأسد والتي كانت تتقاسم النفوذ فيها تلك الفصائل الإسلامية.
طبقت هتش استراتيجيتها لفرض هيمنتها كما جرى مع أحرار الشام وصقور الشام ولواء التوحيد وحركة نور الدين الزنكي ولواء الحق وجبهة أنصار الدين وجيش السنة وغيرها، حيث أنها قضت في كل مرة على كل فصيل إسلامي مسلح لم يخضع لها، وبذلك حافظت على سطوتها ونفوذها على المناطق المذكورة وعلى ما تبقى من فصائل مسلحة محلية.
بفضل سطوتها نجحت هتش في بسط سيطرتها على معظم محافظة ادلب في شمال غرب سوريا وان تديرها عبر ما سمي “حكومة الإنقاذ” منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2017 تحت شعار انها تسعى الى “تحرير سوريا”.
أيديولوجيا، تبنت هتش أيديولوجيا سلفية جهادية، لكنها سعت، في الوقت نفسه، الى تقديم نفسها بوصفها أقل تطرفا من فصائل إسلامية أخرى وبالأخص مقارنة بداعش. كما انها، وسواها من الفصائل الاسلامية، كانت تبرر كل تحولاتها وتقلباتها ومعاركها ومذابحها عقائديا ودينيا، ليصبح فهمها للدين مجرد اداة في خدمة مشروعها السياسي بما يخدم تعزيز نفوذها وسيطرتها.3
على صعيد العلاقات الخارجية سعت قيادة هيئة تحرير الشام الى إقامة أوسع ما يمكن من العلاقات مع الدول التي ترغب بها، ومنها الدول الغربية، ولا سيما مع الدولة التركية وهي الدولة الجارة والمتدخلة عسكريا في سوريا وصاحبة النفوذ الأكبر في رقعة تواجد ونفوذ هتش.
العلاقات بين هتش وتركيا متينة وعميقة جدا، فقد استعانت تركيا مرارا بأبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام وتنظيمه لضبط الفصائل المسلحة المنفلتة رغم انها فصائل تابعة لتركيا، أي أن هتش لعبت دور العصا والشرطي بيد تركيا.
وعلى الصعيد الاقتصادي أطلقت هتش سياسات اقتصاد نيو ليبرالي صرف في مناطقها واستندت في مواردها على إيرادات المعابر التي كانت تسيطر عليها وهما معبري باب الهوى مع تركيا ومعبر الغزاوية بين عفرين وريف حلب الغربي. لكن هتش احتكرت لنفسها قطاعات تجارية محددة مثل المحروقات وما كانت تسميه ” التبرعات”.
القاعدة الاجتماعية
أدارت هتش محافظة ادلب، لغاية استلامها السلطة في دمشق، وهي منطقة واسعة في شمال شرق سوريا تضم نحو 4،5 مليون نسمة أغلبهم من أولئك الذين فروا ونزحوا من مناطق سيطرة نظام الأسد ووحشيته. من بينهم شملت محافظة ادلب نحو 2،9 مليون من النازحين، مليونان منهم يعيشون تحت الخيم وبظروف مزرية في مخيمات اللاجئين التي تقع أغلبها قرب الحدود مع تركيا.
لقد حولت الحرب والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية لحكومة هتش و الزلزال الذي أصاب سوريا في شهر شباط/فبراير 2023 حياة أكثر من 90 بالمئة منهم الى وضع بائس جدا يعتمد على المساعدات الدولية.
لكن، ما فاقم اكثر من أوضاع الجماهير في إدلب هو ان المساعدات الدولية تقلصت الى حد مريع، فقد أشار نائب المنسق الإقليمي للأمم المتحدة لمساعدة سوريا في تصريح على موقع DW
الألماني في 28 شباط فبراير 2024 ” أنه في بداية عام 2023 لم تكن الأمم المتحدة قادرة على تأمين سوى 37 بالمئة من المساعدات الإنسانية المطلوبة في سوريا”. فقد أدى النقص الكبير في الموارد المالية الى وقف مساعدات برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في جميع أنحاء سوريا اعتبارا من شهر كانون الثاني/ يناير 2024 مع ما رافقه من ارتفاع مذهل في التضخم والبطالة والبؤس المتفاقم لغالبية الشعب السوري.
أما على صعيد التكوين الطبقي لهيئة تحرير الشام، فإنه في حين ان قيادات هتش تعود في أصولها الاجتماعية الى شرائح البرجوازية الصغيرة المتعددة، من متعلمين وشيوخ دين وحرفيين ومهن حرة، فان عماد مقاتليها هم من أبناء المخيمات والنازحين والعاطلين عن العمل من البروليتاريا الرثة او ” الغبار البشري” الاجتماعي، ومن الجهاديين الاجانب.
غياب او ضعف المساعدات الإنسانية لا ينفي أن تدهور أوضاع الجماهير السورية كان أساسا نتيجة لسياسات سلطات الأمر الواقع الحاكمة، وأولها نظام الأسد، التي كان همها الرئيسي هو تقديم مصالح نخبها الاقتصادية وأمراء الحرب التابعين لها على مصالح الجماهير السورية.
لذلك شهدت مناطق سيطرة هتش احتجاجات شعبية واسعة عليها وعلى سياساتها القمعية والاقتصادية المفاقمة للفقر و خصوصاً في شهري آذار/ مارس ونيسان 2024، أي قبل أشهر قليلة من انهيار نظام الأسد. وقتها قامت هتش بقمع المظاهرات الشعبية التي رفعت شعارات عدة من بينها ” لا الجولاني ولا الأسد بدنا نعمر البلد”.
لعل ما جرى من تطورات في الإقليم، وما حصل من تفاهمات امبريالية، وانهيار نظام الأسد أنقذت حينئذ سلطة هيئة تحرير الشام في إدلب من انهيار مماثل.
مأزق نظام الطغمة لآل الأسد
تعرضت سوريا والشعب السوري خلال الأعوام الأربعة عشر من الثورة ومن ثم هزيمتها وتحارب قوى الثورة المضادة فيما بينها والتدخلات الإمبريالية إلى تحولات عميقة في المجتمع السوري. أهمها تعفن النسيج الاجتماعي نتيجة للدمار الهائل للبلدات والقرى وتحطيم غالبية البنى التحتية ودمار عشرات آلاف المصانع والورش. وحدها في حلب دمر ما يزيد على 3 آلاف مصنع وورشة. يضاف الى ذلك الكلفة الإنسانية المرعبة من القتلى والجرحى نحو مليونين، والنزوح الداخلي او اللجوء الى خارج البلاد لما يقارب نصف سكان سوريا البالغ 23 مليونا. مع ما رافق ذلك من تدهور كارثي لمستوى معيشة غالبية السوريين، الذين أصبح همهم الأول هو البقاء على قيد الحياة.
على النقيض من ذلك، كان هم الطغمة الحاكمة الرئيسي هو انتزاع آخر ما تبقى من رمق تبقى لدى السوريين. لكن استنزاف السلطة لآخر رمق لدى الشعب السوري و لقلة الموارد المالية المتبقية داخل البلاد بدأت تنهش في نفسها وتأكل من لحم بطانتها، كما جرى مع رامي مخلوف المقرب من نظام الأسد، الذي قام الأخير بالاستيلاء على كتلة كبيرة من أمواله.
مع اقتراب عام 2024 كانت سلطة الأسد قد تدهورت الى حد كبير، فقد نظام الأسد المتهالك آخر ما تبقى له من دعم اجتماعي بعد أن اكتشفت قاعدته الاجتماعية: البورجوازية التجارية والصناعية أنه قد أضاق عليها سوقها مع انكماش القدرة الشرائية لغالبية السوريين، وأيضا خشيتها من أن يرتد النظام عليها ليستولي على أموالها نتيجة حاجته للمال للاستمرار في حرب بقائه. في حين أنه من جهة بعض الشرائح من الطبقات الشعبية التي كانت متوهمة بأن النظام حاميها طائفيا من ” الوحوش الإسلامية”، أو البعض الآخر الذي لديه وهم أن نظام الأسد يدافع حقا عن حمى الوطن كما كان يدعي. فقد اكتشفت هذه القطاعات انها تموت جوعا في حين أن أفراد الطغمة يتباهون بغنائهم، وأن أولادهم يرسلون جنودا للموت في الحرب في حين أن أبناء الطغمة الأسدية تمارس أبشع أشكال الفجور والبذخ، اكتشفت ان هذا النظام المجرم، يشرب من دمائها ودماء أبنائها، ولا يبالي بها.
الانهيار الاقتصادي
أظهر تقرير صحفي صادر عن البنك الدولي في 24 مايو 2024 ان الصراع في سوريا ” أثر بشدة على قطاع الزراعة مع نزوح أعداد هائلة من المزارعين والأضرار الواسعة النطاق التي لحقت بالبنية التحتية وشبكات الري، مما أدى إلى انخفاض في المحاصيل. كما أثرت الاضطرابات المرتبطة بالصراع تأثيرا كبيرا على التجارة الخارجية. وأدى انهيار الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي الى زيادة اعتماد سوريا على الواردات”.
إن عمق التدهور الاقتصادي في سوريا نتيجة الحرب والعقوبات عبرت عنه الأمم المتحدة في 30 يناير 20244 في أن الاقتصاد السوري بحاجة الى 55 عاما للعودة الى المستوى الذي كان عليه في عام 2010.
وفي تقرير لمركز جسور للدراسات صدر في 28 أكتوبر 20245 أشار الى ان الازمة الاقتصادية للنظام الزمته للاعتماد على إمدادات النفط ” من مناطق الإدارة الذاتية وإيران… كان النظام يؤمن داخليا من 50 الى 70 الف برميل يوميا أي ما بين 25 إلى 35 بالمئة من حاجته اليومية”. وعلى صعيد القطاع الصناعي يشير التقرير المذكور إلى أنه ” بعد عام 2011 تضرر القطاع الصناعي بسبب العمليات العسكرية، وتراجع الى حافة الانهيار، فخرج اغلب الصناعيين منه لغياب الأمان وبقية متطلبات الاستثمارات فتوقف القطاع بشكل شبه تام عن الإنتاج بين عامي 2014-2017 ” وعلى مستوى الناتج المحلي ” تراجعت نسبة مساهمة القطاع الصناعي من 25 بالمئة تقريبا الى اقل من 8 بالمئة بين عامي 2010 و2014″.
ولم ينج قطاع التجارة من الانهيار الاقتصادي الذي عاناه نظام الأسد حيث يشير تقرير مركز جسور المذكور إلى أنه ” بعد عام 2011 ومع فرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري والشخصيات القريبة منه، ودخول لبنان بأزمة مالية انخفضت الصادرات والواردات بشكل كبير، وبقيت محدودة مع بعض الدول الإقليمية، وبالتالي انخفضت موارد القطاع التجاري بشكل قياسي، وأصبحت أهميته منحصرة بالتجارة الداخلية بشكل رئيسي”.
و لمحاولة نظام الأسد التعويض عن الخراب الاقتصادي شجع الموارد غير الشرعية من ” عمليات التهريب عبر المعابر الخارجية والداخلية ومن خلال تجارة المخدرات التي تنامت عائداتها ووصلت عام 2021 فقط الى 5،7 مليار دولار” كما ورد في تقرير مركز جسور المذكور.
وبإيجاز فإن معدلات الفقر في سوريا وفق إحصائيات البنك الدولي6 وصلت إلى 90 بالمئة من السوريين/ات. وانخفض الناتج الإجمالي بين عامي 2011-2023 من 61،3 مليار دولار الى 7،4 مليار دولار، وخسرت الليرة السورية أكثر من 99،6 بالمئة من قيمتها، وخسر الاقتصاد السوري 24 عاما من التنمية البشرية، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية من 2،5 مليار دولار الى ما يقارب 500 ألف دولار، رغم مساعدات حلفاء نظام الأسد له والتي بقيت غير قادرة على نجدته اقتصاديا، لقد أصبح في سوريا نحو 7،5 مليون طفل بحاجة الى المساعدات الإنسانية و13 مليون سوري/ة بين نازح ولاجئ.
كل تلك المؤشرات كانت تؤكد الى ان البنية الاقتصادية- الاجتماعية تحت سلطة نظام الطغمة لآل الأسد قد وصلت الى حالة من التفكك والانهيار صار مستحيلا على النظام السابق مواجهتها أو تلافي تداعياتها السياسية. وبذلك وصل الى نقطة الانهيار، وبالأخص أن هذا الانهيار انعكس على كافة مؤسسات النظام ولاسيما الأمنية والعسكرية. فلم يعد لجنود جيشه، و لضباطه الصغار، أي دافع لهم للدفاع عن نظام متهالك يجوعهم وأهلهم ويفرط بحياتهم.
تفكك نظام الأسد
انخرطت روسيا، وهي الحليف الدولي الأساسي لنظام الأسد، عسكريا منذ أواخر عام 2015 لدعم نظام الأسد البائد حماية لمصالحها الامبريالية، فعملت على تحسين شروط استمراره منذ تموز/يوليو 2016 عبر دعوتها للحكومة التركية، وهي الخصم الرئيس لنظام الأسد والداعم الأكبر للعديد من الفصائل المسلحة الإسلامية، الى إقامة اتصالات عسكرية مع نظام الطغمة للعمل على إيجاد حل سياسي في سوريا.
أعقب ذلك سلسلة من الاتصالات بين النظامين السوري والتركي. ما سمح بإطلاق ما يعرف بمسار أستانا بشأن سوريا برعاية الدول الضامنة تركيا وروسيا وإيران، بالإضافة الى ممثلي النظام والمعارضة. وسمح هذا المسار بتوسيع رقعة نفوذ النظام وأرسى انقسام سوريا إلى عدة مناطق تقع كل منها تحت سيطرة أو رعاية هذه الدولة الامبريالية او تلك (روسيا، الولايات المتحدة، إيران وتركيا). ورغم محاولات تركيا وروسيا الحثيثة في عامي 2022 و2023 التوصل الى تفاهمات مع نظام الأسد، ودعوات الرئيس التركي أردوغان للطاغية الأسد لعقد لقاء قمة بينهما، لكن الأسد بعنجهية وغطرسة، رغم تهالك نظامه الذي كان بالكاد واقفا على قدميه بفضل دعم حلفائه ولا سيما إيران وروسيا، رفض لقاء أردوغان وماطل محاولا كسب الوقت مصرحا في يناير 2023 إلى أنَّ ” التقارب مع تركيا بوساطة روسية يجب ان يهدف الى انهاء الاحتلال التركي لأجزاء من سوريا”.
فتوصلت هذه الدول الإقليمية والدولية إلى حقيقة أن هذا النظام المتهالك يغلق آفاق تسوية سياسية في سوريا وأصبح يشكل عائقا وعبئا عليها، في وقت تجد روسيا نفسها فيه منذ عام 2022 منغمسة في الحرب الأوكرانية التي أصبحت مركز اهتمامها وانشغالها الأساسي.
وفي لحظة كانت فيه كلا من إيران وحزب الله قد تعرضتا الى ضربات قاسية من الكيان الصهيوني والإمبريالية الغربية منذ معركة طوفان الأقصى في ت1/أكتوبر 2023 مما أضعفت قدراتهما بشكل كبير على القيام بحراسة نظام فاسد ومتهالك، ولا سيما بعد اغتيال الكيان الصهيوني الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 27 أيلول/سبتمبر 2024 وتصريح نتنياهو المهدد للأسد بأن ” لا يلعب بالنار” قبل يوم واحد من بدء ما يعرف بعملية “ردع العدوان” التي أدت إلى انهياره.
من جهتها، جاءت محاولة الحكومات العربية وبعض الحكومات الأوروبية إلى تحسين علاقاتها مع الأسد منذ عام 2023 لتكتشف هذه الحكومات انه لم يعد هنالك ما يمكن إنقاذه من نظام مستبد فاسد ومتهالك يحتضر ويلفظ أنفاسه الاخيرة.
أما الاحتلال الإسرائيلي فقد التقط فرصة تهالك نظام الأسد الساقط، الذي لعب دور كلب حراسة، لأكثر من نصف قرن، يوفر الهدوء والأمان للاحتلال الإسرائيلي في الحدود الجنوبية، لكي يستفيد، بالتوافق مع الدول الامبريالية المتدخلة في سوريا، من فرصة التخلص من نظام تعفن ما سيسمح له ببسط سيطرته على مساحات أوسع من سوريا وفرض نفسه كلاعب مهم منافس لتركيا، وتدمير ما تبقى من قدرات عسكرية في سوريا، قد تشكل له تهديدا في المستقبل.
لم تكن بين أيدي تركيا وبقية الدول الامبريالية من أداة قابلة لإعلان دفن النظام السابق المحتضر لآل الأسد، يمتلك نوع من الانضباط والخبرات سوى هيئة تحرير الشام كرأس حربة مع عدد من الفصائل الأخرى الحليفة لها.
إعلان سقوط نظام الأسد
في هذا السياق العالمي والإقليمي والمحلي، أعلنت هتش والفصائل الحليفة، وهي جميعها من قوى الثورة المضادة مثلها مثل نظام الأسد الفار، عن بدء عملية ” ردع العدوان” يوم 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
دخلت قوات ردع العدوان حلب المدينة الكبرى الثانية في شمال سوريا خلال 24 ساعة ومن ثم بقية المدن وصولا الى دمشق خلال 11 يوما من المسير، ليتم الإعلان رسميا من السلطة الجديدة عن سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. دون مقاومة تذكر. فقد تخلى الجنود في جيش نظام الأسد عن سلاحهم وخلعوا بدلاتهم العسكرية وعادوا الى بيوتهم وبلداتهم. وخرجت الناس في كل مدينة وبلدة تخرج إلى الشوارع مهللة لانهيار النظام و مستعيدة مساحات الحرية والنشاط مجددا.
أما نخبة نظام الطغمة لآل الأسد العسكرية والأمنية والسياسية، وتعد بالآلاف فقد ” تبخرت”، لنعلم لاحقا أنها خارج البلاد تنعم بمنفاها.
ما جرى كان أشبه بعملية “استلام وتسليم” تم اعدادها بعناية إلى حد كبير.
هكذا نجد أنفسنا أمام انموذجاً فريدا لانحلال ذاتي لنظام مستبد بكل مؤسساته المدنية والعسكرية. ما تم هو استبدال نظام مستبد كان اقوى أطراف الثورة المضادة ليحل محله طرف آخر من قوى الثورة المضادة المعادية له هي هتش، يتلبس، مخادعا، ثوب الثورة التي شارك في هزيمتها وصادر لحسابه سرديتها.
سلطة هتش: ترويع/ مجازر/ احتكار السلطة
ترافق انهيار النظام السابق مع اندفاع الجماهير السورية كي تستعيد مساحات من الحرية لتشهد البلاد نهوض واسع لنشاطات عامة سياسية واجتماعية، كتشكيل أحزاب وتحالفات وجمعيات وعقد ندوات ومؤتمرات وإقامة تظاهرات واعتصامات، ليبدأ المجتمع من جديد محاولة إعادة الاهتمام بالشأن العام بحرية بعيدا عن التحريم والقمع.
لكن هذه “الفرحة” وتلك المساحة من الحرية التي انتزعتها الجماهير السورية سرعان ما تقلصت ليسود مكانها خوف وشعور بالخيبة، نتيجة المجازر المريعة التي ارتكبتها السلطة الجديدة واتباعها وفصائلها المسلحة بحق الأقليات الدينية والتهييج الطائفي والرجعي والعنصري لجمهور السلطة الفاشي المضمون.
ما كان لافتا هو ذلك التحول السريع لخطاب السلطة وإعلامها الرديء، من خطاب موجه لعامة السوريين يحاول في البداية أن يطمئنهم ويرفض عقلية الثأر، الى خطاب وسياسات أعلنتها هذه السلطة على لسان أبرز قادتها على شاكلة ” من يقرر يحرر” وغير ذلك من الترهات. و إصرار السلطة على التذكير بأن الاقتصاد الذي تريده هو اقتصاد السوق الحر من كل عوائق، واعلانها لصفقات تتعلق بالثروات الاستراتيجية للبلاد مع عدد من شركات الدول الامبريالية. وفي مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السوري بقي لسان حال السلطة يتجنب إدانتها خانعا مكررا ان هذه السلطة الجديدة تبغى إلى التعايش بسلام مع جيرانها (المقصود هنا تحديدا هو دولة الاحتلال الإسرائيلي).
في موازاة شعبوية شعار السلطة ” ارفع راسك فوق انت سوري حر” شهدت المدن والارياف السورية نزول حشود من الدعاة الإسلاميين المتشددين ” وهابية النزوع” تنصح وتدعو وتمنع وتدين وتضرب في الشوارع ما تراه من سلوك اجتماعي أو ديني مناقض لما تعتقده، فانتقلت الشعارات الى نحن “بني أمية” و”دمشق لنا الى يوم القيامة” و خطاب طائفي وهابي بشع.
في الوقت عينه قامت السلطة الجديدة الترميدورية بالدعوة الى تسليم السلاح لمن يملكه من المدنيين وخصوصا في الساحل السوري تحت ذريعة ضرورة حصر السلاح بيد الدولة “لحفظ الأمن والسلم الأهلي”، وهو ما صدقه كثير من اهل الساحل اذ قاموا بتسليم ما لديهم من سلاح، ولم تكتف السلطة بذلك، بل قامت فصائلها المسلحة بكثير من الوحشية بمداهمة العديد من المناطق الساحلية ” العلوية” بحجة البحث عن السلاح ومصادرته.
لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل تسارعت مبكرا، مع تسلم سلطة هتش للحكم في دمشق، عمليات القتل للمدنيين العلويين يوميا وبأعداد قليلة، فجاء رد السلطة على احتجاج ومخاوف سكان الساحل العلويين بأن عمليات القتل هذه ليست سوى ” أحداث فردية تجري في كل البلدان”. ترافق ذلك مع إهانات يومية وطائفية واستفزازات للأهالي في القرى والبلدات العلوية، جرى مثله في مناطق اخرى، وحملات اعتقال مهينة وبشعة لهم وتصوير ذلك وعرضه على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تكتف ميليشيات السلطة الطائفية باعتقال وتعذيب المعتقلين، بل إهانتهم بالمشي زحفا والعواء كالكلاب.
ما كان ممكنا توقع السكوت طويلا على هذه الاهانات والقمع الشامل والتجويع المقصود لأهالي الساحل العلويين، فانفجر رد فعل عسكري محدود يوم السادس من اذار/مارس ضد حواجز السلطة في المناطق العلوية، ليس من قام به “فلول” النظام السابق كما ادعت السلطة الحاكمة، بل من بعض الناس المقهورين هناك، ولا سيما أن غالبية من تبقى من فلول النظام السابق احتوتهم السلطة الجديدة.
أخذت السلطة الطائفية هذا الحدث ذريعة لها لارتكاب مجازر واسعة بحق المدنيين العلويين امتدت لغاية العاشر من آذار/مارس 2025، ولم تتوقف تلك المجازر إلا نتيجة المشاهد المروعة والمصورة التي غطت الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وارتفاع الإدانات والاحتجاجات المحلية والدولية بخصوصها. لكن السلطة الطائفية عاودت ممارسة سياستها السابقة أي القيام بعمليات «قتل يومي وخطف للعلويين دون تصوير ذلك وبأعداد غير كبيرة بما يعني “مجازر بالقطارة”.
من المؤكد أن سياسة المجازر بحق الأقليات الدينية والعرقية هي سياسة منهجية لهذه السلطة الجديدة تهدف من جهة الى تركيع الأقليات الدينية والعرقية، ومن جهة أخرى، تسعى من خلالها الى ترويع الشعب السوري بأكمله عبر مشاهد القتل والذبح الابادية.
استكملت السلطة الترميدورية الطائفية سلسلة المجازر، فقامت بعد قرابة شهر من مجازر الساحل بارتكاب ميليشياتها الطائفية مجازرا بحق الدروز في اشرفية صحنايا في شهر نيسان/ أبريل 2025 وشهر أيار / مايو.
تلاها تفجير أحد عناصر ميليشياتها كنيسة مار الياس في دمشق ليسقط العشرات من المدنيين في شهر حزيران/ يونيو 2025، وأخيرا شهدت البلاد المجازر في شهر تموز/ يوليو 2025 ضد الدروز في محافظة السويداء في جنوب سوريا، ما أوقع مئات الضحايا من المدنيين الدروز ودمار وحرق للبيوت وخطف، وأيضا وقع العديد من الضحايا في صفوف الأهالي من بدو تلك المنطقة.
وكأن هذه السلطة الطائفية لديها جدول عمل ترويعي للشعب السوري، كل شهر مجزرة.
لكن ما جرى من مقاومة شعبية بطولية لأهالي السويداء في مواجهة ميليشيات السلطة والحاقها هزيمة نكراء لها، كسر شوكة هذه السلطة الدموية، وتحولت السويداء الى منطقة خارجة بالكامل عن سيطرة السلطة الحاكمة في دمشق.
لا يمكن تجاهل أن الجنون العنيف والهجوم الهمجي لمليشيات السلطة الحاكمة- (تطلق عليهم أسماء طنانة مثل الأمن العام ووزارة الدفاع)- على السكان المدنيين الدروز في السويداء، استخدمته دولة الاحتلال الإسرائيلي ذريعة لتوسع من تدخلها وسيطرتها على المزيد من الأراضي السورية، السلطة الحاكمة تتحمل وحدها هذه المسؤولية .
لا ريب بأن العنف الطائفي والعنصري الإبادي يشكل أحد أركان سياسة هذه السلطة الطائفية لترهيب وترويع الشعب السوري كله. وهو ما يشكل أيضا أحد سمات الفاشية.
نحو الاستفراد بالسلطة
قامت سلطة هتش بخطوات متسارعة على ترتيب هيئات حكمها وتمكينها من التفرد بالسلطة، استهلته بعقد اجتماع لقادة فصائلها المسلحة العديدة أسمته “مؤتمر النصر” في 29 كانون الثاني/ يناير 2025 صدر عنه قرار تعيين احمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، رئيسا انتقاليا لسوريا.
اعقبته بإعداد مسرحية مبتذلة أسمتها “مؤتمر الحوار الوطني” دعت إليه نحو 600 شخصاً اختارتهم هي نفسها بعناية، لم تستغرق جلساته سوى بضع ساعات، عقد يوم 25 شباط/ فبراير، صدر عنه بضع توصيات أعدتها السلطة مسبقا دون نقاش.
تلا ذلك، أن السلطة اضطرت في ذروة المذابح بحق العلويين يوم العاشر من آذار/مارس وخضوعا للضغوط الإقليمية والدولية، وبالأخص من الولايات المتحدة، إلى عقد اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية وهو إعلان لم تلتزم به السلطة اطلاقا. حيث أنها بعد ثلاثة أيام من توقيعها هذا الاتفاق أصدرت إعلاناً دستوريا يوم 13 آذار / مارس يمركز ويحصر كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد شخص واحد هو احمد الشرع، معلنة أن الفترة الانتقالية ستكون لخمس سنوات، وهي أطول فترة انتقالية في التاريخ المعاصر، بشكل تفوقت فيه على أعتى الدكتاتوريات.
وكأن الطغمة الحاكمة الجديدة لم ترو بعد كامل شهوتها بالإمساك بقبضتها على كل مفاصل السلطة، إذ أعلنت في 27 أذار/مارس 2025 عن تشكيل ” الأمانة العامة للشؤون السياسية” تتبع لوزارة الخارجية وهي هيئة تشبه حزب سياسي مكون من “المفوضين السياسيين” للتحكم في كل شيء، ففي كل إدارة وموقع سياسي أكان عسكريا أم أمنيا أم اقتصاديا، القرار الفعلي ليس بيد الموظف او المسؤول، بل بيد شخص غالبا مكتوم الهوية يلقب فقط ب”الشيخ”.
وضعت تحت تصرف هذه الأمانة العامة كل الأصول التي كانت تعود لحزب البعث ولأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية للنظام السابق التي تم حلها ومصادرة كل ممتلكاتها.
لتوضيح دور هذه الأداة السياسية للتحكم بالسلطة، سيكون من المفيد عرض اختصاصاتها كما وردت في وثيقة تأسيسها حيث ورد في الوثيقة أن مهمتها هي ” الإشراف على إدارة النشاطات والفعاليات السياسية في البلاد. والمشاركة في صياغة ورسم الخطط العامة في الشأن السياسي، والعمل على إعادة توظيف أصول حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وما يتبع لها من منظمات ولجان منحلة”.
ولتنفيذ مهامها أعلنت الأمانة العامة عن تشكيل مكاتب فرعية في كل المحافظات إضافة الى ستة مكاتب مركزية هي ” مكتب الشباب، الذي يبدو أنه بديلا عن منظمات الطلائع والشبيبة واتحاد الطلبة المنحل.
مكتب شؤون المرأة، الذي يعني بالمجال الحقوقي والاجتماعي والثقافي والسياسي للمرأة السورية.
مكتب التعاون النقابي، الذي ينظم عمل النقابات.
مكتب الفعاليات، الذي يوافق على الأنشطة العامة بعد تحديد مدى توافقها مع (قيم المجتمع).
مكتب التنمية المجتمعية، الذي ينظم ندوات حوارية حول القوانين مثلا ويعمل على مكافحة (العادات السيئة كالتدخين وشرب الكحول…) ومكتب شؤون الطوائف“.7
في محاولة السلطة تحسين سمعتها المخصصة للتسويق الخارجي أعلنت يوم 30 آذار/مارس 2025 عن تشكيل حكومة من أشخاص اختارتهم لا قيمة سياسية أو تمثيلية تذكر لهم. ولا يمتلكون سلطات حقيقية في وزاراتهم باستثناء وزراء من قيادات هيئة تحرير الشام في الخارجية، والدفاع والداخلية والأوقاف.
برغم من محاولات السلطة التحكم بمفاصل الحكم والمجتمع عبر التحريض الطائفي والعنف المجتمعي والمجازر، لكن الحراك الشعبي الذي ظفر بمساحة من الحرية لم يتلاشى رغم أنه تقلص إلى حد كبير، فمن المظاهرات الاجتماعية ضد عدم دفع معاشات الموظفين والمتقاعدين وجيش من المطرودين من الوظائف في مؤسسات الدولة والقطاع العام، شهدت دمشق وغيرها من المدن السورية وما تزال احتجاجات ووقفات احتجاجية ضد سياسات الاعتداء على حرية المرأة وحقوقها وضد سفك دماء السوريين وإدانة المجازر، ومن أجل الحريات والمواطنة المتساوية، وأخرى تضامنا مع الشعب الفلسطيني وضد صمت السلطة ( التي تعقد اجتماعات مع مسؤولي الكيان الصهيوني) على توسع الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي السورية، وأيضا من اجل كشف مصير المفقودين ووقف التعديات على المدنيين، وضد الطائفية والشوفينية، وغير ذلك من النشاطات الاحتجاجية.
يعوق التحريض الطائفي والعنف والمجازر من نمو النشاط السياسي والاجتماعي المستقل، فبعد نهوض مبكر لمحاولات إنشاء نقابات عمالية ومهنية مستقلة، عملت السلطة على وضع يدها على عدد من النقابات المهنية عبر تعيين قيادات نقابات المحامين والمهندسين والأطباء، ولكنها لم تستطع، وربما تزدري، وجود نقابات عمالية.
على الصعيد السياسي تراجعت مواقف عدد من التحالفات الديمقراطية، نتيجة اما الخوف من ردود قمعية للسلطة أو رغبة منها بإعطاء السلطة فرصة لتثبت حسن نواياها، أو ربما لسببين معا. فمثلا، أعلن تحالف واسع، يضم أكثر من 30 كيانا بميول ليبرالية واصلاحية، هو ” تماسك” – تحالف المواطنة السورية المتساوية- أنه يعتبر نفسه ” لا معارضة ولا موالاة” داعيا السلطة للحوار8.
من المؤسف تراجع مواقف عدد من القوى الديمقراطية التي فضلت أن تنأى بنفسها عن مقارعة السلطة وسياساتها المدمرة، في وقت تحتاج فيه قطاعات واسعة من الجماهير الى تعبيرات سياسية جريئة تدافع عن مصالحها وتنظم نضالها وترفع من سوية وعيها.
في هذا الخصوص يتميز حزبنا “تيار اليسار الثوري” بموقفه الواضح والمعلن المناهض للسلطة الترميدورية وسياساتها الإبادية والطائفية والشوفينية واللا اجتماعية، داعياً إلى مقاومتها بالانخراط في كل ساحات النضال الشعبي والاجتماعي والعمل مع القوى الديمقراطية والاجتماعية بجبهات متحدة في كل قضايا المضطهدين والمستغلين في بلادنا.
سلطة ترميدورية؟
مع انهيار نظام الأسد، تراءى للبعض أن الثورة انتصرت، واعتبر آخرون أن الفصائل التي وصلت للسلطة هي فصائل الثورة. ولدى البعض عزز من هذا الوهم أن السلطة الجديدة صادرت سردية الثورة لحسابها، في أنها هي من ساهمت في الانقضاض على القوى الثورية منذ عام 2012.
كيف يمكن فهم طبيعة السلطة الجديدة، التي أتت في سياق سيرورة ثورية تم اجهاضها وهزيمتها بالدم، تدعي أنها، رغم سياساتها القمعية والمحافظة والنيوليبرالية، وريثة للثورة الشعبية لعام 2011؟، هي التي في الوقت الذي تعمل فيه على احتكار السلطة تغني صفوفها بـ مجرمي النظام السابق.
وجدنا أن أفضل مقاربة تاريخية لما جرى في سوريا هو الترميدور الذي شكل منعطفا في الثورة الفرنسية لعام 1789، حيث قام الجناح المحافظ بالقضاء على الجناح الثوري للثورة الفرنسية.
وتعود تسمية ترميدور نسبة الى احداث 9 ترميدور من العام الثاني للجمهورية الفرنسية، ترميدور هو الشهر الحادي عشر من التقويم الجمهوري للثورة الفرنسية، يقابل 20 تموز/يوليو حتى 18 آب/أغسطس من العام الميلادي. في هذا اليوم الموافق 27 تموز/يوليو 1794 سقط الجناح الثوري لروبسبيير واليعاقبة في فرنسا على يد الردة الرجعية، ما يعني هذا التعبير الردة الرجعية في سياق ثورة.
يشير تروتسكي في كتابه الثورة المغدورة عن أن استلام ستالين للسلطة هو ترميدور أي ثورة مضادة9 ويؤكد تروتسكي كيف أن الترميدور هو تعبير عن تحولات طبقية وسياسية عميقة ” اننا نعرف ان الرواد الأوائل والمعلمين والزعماء الذين كانوا على رأس الجماهير في المراحل الأولى هم ضحايا أول موجة رد فعل بينما نرى كيف يتقدم الى الصف الأول رجال من الصف الثاني متحدين مع من كانوا في العشية أعداء الثورة. وتخفي المبارزات الدرامية للأدوار الكبيرة الأولى على المسرح السياسي انزلاقات بين الطبقات و تبدلات عميقة في نفسية الجماهير التي كانت بالأمس ثائرة… إن تعب الجماهير وتحلل الكادرات في القرن الثامن عشر اديا الى انتصار الترميدور على اليعاقبة، إلا أن سيرورة عضوية وتاريخية أعمق كانت في ظل هذه الظاهرات، الثانوية في الواقع”.
يصف المؤرخ الفرنسي فيريه FURET في كتابه عن الثورة الفرنسية10
الترميدوريين ” أن لهم تاريخ عبثي متناقض ودموي، لكن تمتلكهم رغم ذلك الثقة بأنهم أبنائها(الثورة).. في حين أنه لا يربطهم بها شيء آخر سوى حياتهم” ويتابع وصفه لهم بأنهم ” يشكلون مجموعة معينة تتميز بالتقلبات الغريبة ما بين تصفية الحسابات العنيفة فيما بينهم وبين عقد صفقات معيبة وقذرة عندما يتعلق الأمر بحل نزاعاتهم الفصائلية”.
أما الصفة الثانية للترميدورية وفق المؤرخ فيريه هي دناءتها ما يشكل قطيعة كاملة مع نزاهة الثوري الاصيلة. وإن الترميدوريين ” يرتدون ملابس تماهي وسط الأغنياء الجدد ويتباهون بارتقائهم الإجتماعي، و يتشاركون بأسرارهم ويشبعون بشهوة الثراء والسلطة”.
وفي سياق معاصر لنماذج مشابهة قدم الباحث الفرنسي جان فرانسوا بايارت مقاربة تحليلية لأوضاع ترميدورية جاءت بعد انهيار دكتاتوريات في سياق انهزام ثورات شعبية مثل كمبوديا ولاوس وفيتنام وغيرها، واصفا إياها بأنها “تعمل على إعادة إنتاج نفسها كطبقة سائدة عبر استراتيجية متناقضة تقوم على الانفتاح على الاقتصاد الرأسمالي العالمي وعلى التراكم البدائي لرأس مال ، ولكنها تعمل أيضا على تسويق أيديولوجيا تلغط بديماغوجيا عن الثورة”11
وفي تحديد هذه الشريحة الترميدورية يتناول فيريه المرخ الفرنسي المذكور أعلاه كيف ان هذه النخب الترميدورية ترطن بخطاب ثوري ولكنها تعشق المال ومستعدة لكل المساومات من أجل بقائها في السلطة ” انها اشبه بمزيج من النومينكلاتورا الثورية ومحبي المال، هي مجموعة مغلقة ومنفتحة في آن واحد، هي منغلقة على نفسها بذكريات ومصالح مشتركة ، ومنفتحة لأنها لا تملك من قبل مبادئ تجعلها محددة ومنضبطة حقا”.
إذن الأنموذج الترميدوري يتعلق بمسار تترابط فيه عدة معالم، ويتطلب أن تتوفر فيه على الأقل ثلاث محددات في المجتمع المعني: ثورة هزمت، تقوم سلطة ترميدورية بالعمل على تشكيل بنى دولتها الخاصة، وتعمل على دمج اقتصاد بلادها في الاقتصاد الرأسمالي العالمي بسياسات لا اجتماعية نيوليرالية.
المهام الثورية في الوضع الراهن
تعاني الجماهير السورية، والطبقات الاجتماعية، من إنهاك وتفكك مريع بعد عقد ونيف من الحرب والدمار، فهي خرجت مدمى ومهزومة في ثورتها. كما تعاني انها تعاني من تفكك البنى الاجتماعية نفسها.
نصف الشعب السوري ما يزال لاجئا او نازحا، أكثر من ثلاثة ملايين تعيش في مخيمات بظروف مزرية، الفقر يسود غالبية الشعب السوري، وقوى سياسية واجتماعية ونقابية ما تزال يافعة أمام سلطة تمارس العنف الجسدي والمعنوي وتقوم بالمجازر وتطلق ممارسات فاشية وطائفية تفاقم من تمزق الجماهير السورية، معتقدة أن انبطاحها أمام رغبات الدول الامبريالية ستوفر لها فرص البقاء، ملوحة للرأسمال العالمي والخليجي والتركي بأن إعادة إعمار سوريا التي تقدر ما بين 300 الى 400 مليار دولار والبعض يقدرها بتريليون دولار، كعكعة يمكنهم أن يتقاسمونها إن أبقوها ممسكة بزمام السلطة . إن السلطة الترميدورية تعتمد في حكمها على الرضوخ للدول الامبريالية والإقليمية في الوقت الذي تمارس فيه أبشع أشكال التوحش تجاه شعبها.
يضاف الى الجنوح العنفي للسلطة الترميدورية، ان سياساتها النيوليبرالية لن تؤدي إلا إلى مزيد من مفاقمة الظلم الاجتماعي، خلافا لوعودها برفع المعاشات 400 بالمئة وتحسين حياة السوريين.
علاوة على ذلك، فإن تحريضها الطائفي الوهابي الذي تفشى على وقع المجازر الطائفية بحق العلويين والدروز والمسيحيين ، إضافة للتحريض العنصري الشوفيني ضد الشعب الكردي في سوريا، والتعدي على أكبر المذاهب السنية كالأشاعرة والماتريدية والصوفية، والاعتداءات على حقوق المرأة عموما وعلى الحريات الفردية والعامة، يجعل كتلة ساحقة من السوريين/ات في عداء او تململ ونفور تجاه السلطة الترميدورية، التي أصابتها نشوة القوة والسيطرة.
في هذا الوضع المركب و المتفاوت، هنالك مناطق سورية خارجة عن سيطرة السلطة الترميدورية هي مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، التي ارتفعت مخاوفها من سياسات السلطة القمعية و تقلصت ثقتها بالسلطة الحاكمة في دمشق، كما خرجت تماما عن سلطة دمشق منطقة أخرى هي محافظة السويداء في جنوب سوريا اثر مجازر السلطة بحق المدنيين وهزيمة قواتها أمام المقاومة الشعبية في السويداء.
كما يوجد هنالك، رغم قسوة الظروف، شبكة واسعة من التجمعات السياسية والاجتماعية والمدنية الديمقراطية واليسارية في مناطق سيطرة السلطة الترميدورية، تمارس نشاطها بظروف تزداد صعوبة، وتشارك بنشاطات ثقافية وسياسية احتجاجية.
لا بد لنا من العمل على كل القضايا التي تهم الجماهير السورية مثل قضايا وقف العنف والسلام، والقضايا الديمقراطية والمواطنة ومناهضة الطائفية والعنصرية وإعادة توحيد البلاد ومناهضة الاحتلالات والامبريالية والعدالة الاجتماعية ومناهضة الرأسمالية.
في كل القضايا المشتركة والمهام التي يطرحها الواقع علينا على كل الصعد، يقع على عاتقنا وضع أهداف محددة لبناء جبهات متحدة تشبك وتربط كفاح الجماهير السورية في كافة مناطق تواجدها، تملك الجرأة على تحدي ومقاومة السلطة الترميدورية واسقاطها لصالح نظام ديمقراطي لا مركزي ولا طائفي يجمع كل السوريين والسوريات كمواطنين/ات متساوين/ات.
للنهوض بشكل فعال بكل هذه المهام يتوجب على الثوريين/ات مضاعفة الجهود ورص الصفوف من اجل التقدم نحو بناء الحزب العمالي الثوري الجماهيري عبر تنمية قدراتنا التنظيمية والسياسية وتوسعة انغراسنا الشعبي. وصولا الى تنشده الجماهير الشعبية بالتغيير السياسي والاجتماعي الجذري، جمهورية ديمقراطية لامركزية لكل المواطنين/ات تقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية. فكما كان الحال في ثورة عام 2011 فان القوى الاجتماعية المحركة للتغيير كانت وتبقى هي الطبقات الشعبية من العمال/ات والكادحين/ات في المدن والأرياف.
تموز/يوليو 2025
- 1. ( الثورة الدائمة المنحرفة، توني كليف، ترجمة ونشر مركز الدراسات الاشتراكية، القاهرة 1995) ↩︎
- https://revoleftsyria.org/?s=غياث نعيسة ↩︎
- 3. (موقع البي بي سي البريطاني: ماذا نعرف عن هيئة تحرير الشام، 30 نوفمبر 2024) ↩︎
- 4. (جريدة القدس العربي في 21/2/2025: الاقتصاد السوري يحتاج الى نصف قرن لاستعادة مستواه قبل 2011) ↩︎
- 5. (مركز جسور للدراسات 28 أكتوبر 2024: اقتصاد النظام السوري المقاربات والسياسات 1970-2024، إعداد خالد التركاوي، عبد العظيم المغربل، محمد سعيد مصري) ↩︎
- 6. (انفوجراف الاقتصاد السوري … 13 عاما من الانهيار ، بلقيس عبد الرضا، موقع المدن 2/1/2025) ↩︎
- 7. (ما هي الأمانة العامة للشؤون السياسية السورية؟ ، حسام جزماتي، موقع الجمهورية 8/4/2025) ↩︎
- 8. ( موقع القدس العربي 23/3/2025، اطلاق تحالف “تماسك” في سوريا، جانبلات شكاي) ↩︎
- 9. ( ليون تروتسكي، الثورة المغدورة، الفصل الخامس، الترميدور السوفياتي) ↩︎
- 10. ( Furet, la révolution Francaise , P.382) ↩︎
- 11. ( Le concept de situation Thermidorienne, Jean -François BAYART, Centre d’études et de recherches internationales, N° 24 – Mars 2008, science PO , Paris) ↩︎

