وهم الحرية والاضطرابات النفسية في المجتمع الرأسمالي
شارك:
- النقر للمشاركة على X (فتح في نافذة جديدة) X
- انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة) فيس بوك
- انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة) Telegram
- انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة) WhatsApp
- اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة) طباعة
- النقر لإرسال رابط عبر البريد الإلكتروني إلى صديق (فتح في نافذة جديدة) البريد الإلكتروني
وهم الحرية والاضطرابات النفسية في المجتمع الرأسمالي
بين الفينة وأخرى نسمع صرخات وصيحات من دعاة الليبرالية العربية، للأخذ بالنموذج الغربي واعتماده كنموذج لعملية التغيير الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، مع العلم لم يقدم لنا دعاة الليبرالية المعاصرة قراءة نقدية، ولا شكل المنهج المعتمد، الذي سيتم استخدامه في التعامل مع التراث الثقافي العربي، أم أن التيار الليبرالي العربي ينظر إلى التراث بعين أوربية، ويقرأ التراث قراءة غربية، ويعتمد منهج مُطبق ويريد تطبيقه كعملية نمذجة، أم أنه يسعى للقيام بعملية قطع أبستمولوجية مع هذا التراث؟ وإذا سألنا دعاة الليبرالية المعاصرة هل الحاجات التي يلبيها المجتمع الرأسمالي الغربي هي حاجات حقيقية أم مصطنعة، وهل يعيش الفرد حريته؟ لا يوجد إجابات.
نحن نعرف أن المجتمع الرأسمال يسمح للجائع ان يصرخ ويعبر عن جوعه، ولكن لا يقول لنا من المسؤول عن جوع الفرد، فالإحصائيات التي ينشرها المجتمع الرأسمالي تشير إلى نسبة عالية من الأمراض النفسية المنتشرة في المجتمع، ولكن لا أحد يقول لنا ماهي الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الاضطرابات النفسية، ولماذا النسبة تزداد كل عام ،ولم يحدثنا أحد عن ارتفاع حالات الانتحار في مجتمع الرفاهية ، ولم يحدثنا أحد عن حالات الاغتصاب ، والتحرش الجنسي في مجتمع الرفاهية الذي يدعي الحرية الجنسية . ونحن نعرف أن هذه الصرخات الليبرالية ليست إلا نتاج استلاب للذات باعتبارها ذاتاً متخلفة وعاجزة عن استنباط رؤية نقدية ومنهج علمي يساهم في عملية التغيير.
كثيرة هي الأسئلة والأجوبة معدومة، ومع ذلك يحاول التيار الليبرالي أن يسوق لنا مفاهيم الحرية الفردية، والحرية الجنسية، ومجتمع الرفاهية، باعتمادهم على أفكار فرنسيس فوكوياما، وصموئيل وهنتنغتون اللذان يعتبران أن المجتمع الرسمالي هو مجتمع الرفاهية، وهو نهاية التاريخ.
لقد درس الكثير من علماء النفس الغربيين واقع المجتمع الرأسمالي، والتناقضات الموجودة والصراع داخل هذا المجتمع، والتي يحاول النظام الرأسمالي إخفائها تحت شعارات الحرية، ومجتمع الرفاهية، والديمقراطية وغيرها من هذه الشعارات البراقة. فعلم النفس والتحليل النفسي يرشدنا أن الحاجات التي يلبيها المجتمع الرأسمالي ليست حاجات حقيقية، بل هي من صناعة الغرف الإعلامية وجيش الاعلام الذي يسيطر على كافة مفاصل الحياة والتي يسوقها ويقنع الناس بإن المجتمع الرأسمالي هو مجتمع الرفاهية.
إن الحاجات التي يلبيها المجتمع الليبرالي هي حاجات مصطنعة، ليست إلا من أجل استمرار عملية الإنتاج للمصانع الكبيرة صاحبة القرار السياسي في المجتمع الرأسمالي، بل أن هذه المجتمعات تقوم على خلق إنسان منمط ومعلب، ممتلئ بالوهم وإقناعه بانه يعيش بحرية. وكما يقول هربرت ماركوز. في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد” أن الحرية في المجتمع الرأسمالي تعني ان يختار الفرد من بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع، يتوهم الحرية لمجرد انه منحت له الفرصة حرية اختيار سادته”.
فالنظام الرأسمالي يعمل بكل طاقته على تزيف وعي الناس من خلال التلاعب بعقول البشر، حيث تقوم أجهزة الإعلام على جمع البيانات والمعلومات، ومعالجتها وتنقيحها، وإحكام السيطرة عليها، كما يحدث اليوم بالفيس بوك وإنستغرام وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، تلك المعلومات التي يجمعونها والتي تحدد اهتمامات الناس، وبالتالي تقوم هذه الأجهزة الإعلامية بإحكام السيطرة عليها من أجل أن تحدد معتقدات الناس ومواقفها حتى تصل إلى تحديد سلوكياتها. إن النظام الرأسمالي اليوم يقوم على طرح الكثير من الأفكار التي لا تتطابق مع الواقع، ومع حقائق الوجود الاجتماعي بهدف أن تصبح هذه الأجهزة هي المسيطرة على عقول الناس، من أجل خلق عقل مزيف، وإنتاج وعي سطحي لا يستطيع الفرد أن يستوعب التغيرات التي تطرأ على الحياة القائمة، وفي حال رفض هذه التغيرات على المستوى الشخصي، والاجتماعي يُصنف تحت خانة الاضطراب النفسي، أو المعادي للمجتمع، فجميع الأفكار التي يطرحها المجتمع الرأسمالي حول الحرية، والحرية الشخصية، ليست إلا وهم وتضليل. وكما يقول العالم الإيطالي باول وفريز ” أن تضليل عقول البشر في المجتمعات الرأسمالية هي أداة قهر وقمع، حيث تسعى النخب والطبقة الحاكمة في المجتمع الرأسمالي إلى تطويع الجماهير لأهدفها الخاصة، ومن أجل السيطرة الاجتماعية”.
هذا الكلام يقودنا إلى استنتاج مفاده أن الرأسمالية تستخدم التضليل عندما تبدأ الشعوب بالظهور والرفض لبعض مشاريع الطبقة الحاكمة، كما حدث في فرنسا حين قمعت الحكومة مظاهرات السترات الصفراء، واستخدمت التضليل والخداع كي لا تتشكل انتفاضة ثورية تغير القوانيين التي تحاول فرضها الطبقة الحاكمة.
لذلك يحاول الإعلام الرأسمالي إقناع الفرد بأنه حر ويمارس حريته، ولكن لا نعرف ما هو شكل الحرية التي يمارسها، هل هي حرية مشاهدة برامج التلفاز، أم حرية اختيار شكل اللباس، هذه المفردات التي يسمعها الفرد كل يوم في الإعلام عن الحرية الفردية، ومجتمع الرفاهية، والديمقراطية، ليست إلا أوهام يصنعها الإعلام الذي يخترق عقول البشر. فالنظام الرأسمالي يراقب ويتدخل بكل شيء، فالفرد مراقب منذ لحظة استيقاظه حتى نومه، فالحرية الفردية ليست إلا كذبة من أكاذيب وخرافة من خرافات المجتمع الرأسمالي.
بلا شك أن العقلانية التي يتمتع بها المجتمع الرأسمالي تكمن في عقلنة اللاعقلانية وهنا مكمن القوة. ولكن هذا المجتمع يعمل بكل طاقاته من أجل تميع الصراع والانقسام الطبقي في المجتمع تحت شعار مجتمع الرفاهية والتلاحم الطبقي. ببساطة يستطع رب العمل والعامل مشاهدة نفس القناة التلفزيونية، ويسمع نفس الأخبار. ويستطع العامل شراء نفس ربطة العنق التي يلبسها رب العمل، هذا التزييف للوعي هو الأساس الذي يعتمد عليه النظام الرأسمالي، والفرد الذي يحتج أو ينتفض ضد هذه القوانين التي تتدخل في أبسط شؤون حياته، يصبح متهماً بأنه يعاني من اضطرابات نفسية، وبأنه معادي للمجتمع. لذلك يقوم النظام الرأسمالي على تزيف حاجات الناس المادية، وتزيف حاجات الناس الفطرية ذات البعد النقدي والثوري، فالفكر الثوري هو عدو للطبقة المسيطرة، لأنه يمثل القوة والعقل النقدي بالانتقال من الحالة السلبية الى الحالة الإيجابية، وبالتالي الوصول إلى الاتجاه الصحيح. لذلك يسعى النظام الرأسمالي جاهداً إلى تحطيم الأيديولوجيا وتحقيرها وازدراءها، بل يسعى إلى ما يسمى عقلانية التكنولوجيا، وبالتالي تصبح التكنولوجيا هي الأيديولوجيا، وهذا ما تلمسه الناس بحياتها اليومية، حيث أصبحت مقيدة بالأيدولوجية التكنولوجية. فالمجتمعات الرأسمالية المتقدمة لديها نظام الحزبين اللذين هما ممثلين لقطبي التعارض في المجتمع، وهذا التعارض والمعارضة هو مجرد وهم الهدف منه هو امتصاص المعارضة الحقيقية، وقطع الطريق على القوى الاجتماعية التي يمكن أن تكون عامل التغيير.
ففي الولايات المتحدة يوجد حزبان يتناوبان على السلطة، الحزب الجمهوري، والحزب الديمقراطي، وفي السويد الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب المحافظين، وفي انكلترة حزب العمال وحزب المحافظين، عندما يكون أحد هذه الأحزاب خارج السلطة يكون معارضة. الهدف من توحيد هذا التعارض بين الحزبين هو قطع الطريق على كل وعي ثوري جديد. ويستغل النظام الرأسمالي عجز الأحزاب اليسارية وانزلاقها نحو الانتهازية. وبالتالي يقوم في تعبة الناس ضد فكرة العدالة الاجتماعية وتخويف الناس من الحركات اليسارية الثورية الاشتراكية بأنها أحزاب دكتاتورية. من خلال استحضار التجربة السوفيتية والقمع الستاليني وما حدث في أوربا الشرقية، هذا الاستحضار اليومي والمتكرر يخلق حالة من الخوف والقلق عند الفرد، لذلك ينصاع وينفذ كل ما تفرضه عليه الطبقة الحاكمة.
هذا هو ما يحاول أن ينقله لنا التيار الليبرالي إلى مجتمعاتنا، فمجتمعاتنا تحتاج إلى التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية للخلاص، من الجهل والتخلف والاستبداد، أن الشعوب لا تحتاج إلى أوهام، ولا تحتاج إلى أمراض نفسية، يكفيها الفقر والعوز والأمراض الفيزيولوجية التي تعاني منها.
إن تعزيز الفردية المطلقة وخلق المسافات بين البشر هو المقدمة الطبيعية لانتشار الأمراض النفسية. فالفرد لا يمكن أن يعيش بمنعزل عن المجتمع ولا يمكن الفصل بين الفرد والمجتمع. فالفردية هي أساس للأمراض النفسية والاضطرابات النفسية. فالنظام الرأسمالي يشجع الفردية من أجل انتشار الأمراض النفسية وبالتالي تعمل شركات الأدوية، فالمريض النفسي زبون دائم للأدوية، ومستهلك دائم، لذلك نلاحظ أن البلدان الأوروبية يعاني أفرادها من اضطراب القلق، الاكتئاب، والذهان، واضطرابات الشخصية الحدية، ويكثر الفصام والإدمان على المخدرات، والانتحار. فالفرد يهرب إلى عالم المخدرات والكحول للهرب من الواقع الذي يعيش فيه. وينتهي به المطاف بالمصحات النفسية، هذه المصحات تقدم له العلاج الدوائي، ولكن ليست معنية بالأسباب التي دفعت الفرد للوصول إلى هذا الطريق المؤلم.
د. فراس الجندي
