
الخط الأمامي – خاص
في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب الصهيونية في ترسيخ احتلالها المباشر لأجزاء واسعة من الجنوب السوري، تتصاعد حدة التصريحات الصادرة عن قادة كيان العدو، كاشفة عن عمق الأطماع الاستعمارية في سوريا ما بعد الأسد، وعن طبيعة الضغوط الممارسة على السلطة الجديدة في دمشق لجرها إلى مربع الاستسلام الكامل تحت مسمى “التنسيق الأمني”.
فقد صرح ما يسمى بوزير الخارجية في حكومة العدو، جدعون ساعر، اليوم الأربعاء، بأن الفجوة في المفاوضات الأمنية مع الجانب السوري قد “اتسعت”، مرجعاً ذلك إلى “ظهور مطالب جديدة من الجانب السوري”. وأضاف ساعر بلهجة استعلائية معتادة: “نريد اتفاقاً، لكننا بعيدون عنه مقارنة بما كنا عليه قبل أسابيع”. وتزامنت هذه التصريحات مع تهديد مباشر من وزير “الشتات” الصهيوني، عميحاي شيكلي، الذي اعتبر أن “الحرب مع سوريا حتمية”، متذرعاً بهتافات لجنود سوريين تضامناً مع غزة خلال ذكرى سقوط النظام البائد.
موقف حزب اليسار الثوري: مناورات تكتيكية لسلطة تعيد إنتاج النظام القديم
وفي تعليقه على هذه التطورات، وعلى التذبذب الواضح في المواقف الرسمية للسلطة السورية الجديدة تجاه الكيان الصهيوني، أدلى ناطق رسمي باسم حزب اليسار الثوري في سوريا بتصريح خاص لـ “الخط الأمامي”، حلل فيه طبيعة هذه التحولات ومخاطرها.
وقال الناطق باسم الحزب: “إننا نراقب بدقة التبدلات في الخطاب السياسي لسلطة الأمر الواقع الجديدة – التي نعتبرها سلطة تيرميدورية بامتياز أعادت إنتاج جوهر النظام الساقط بوجوه جديدة. لقد انتقل خطابهم من الإعلان الأولي عن استحالة التطبيع دون استعادة الجولان، مروراً بالإشارات الخجولة للإبادة الجماعية في غزة، وصولاً إلى السماح بهتافات معادية للكيان في ذكرى السقوط، وهو ما قابله العدو بالإعلان عن مطالب سورية جديدة تعرقل الاتفاق الأمني”.
وأضاف الناطق: “السؤال الجوهري هنا: هل يمكن الركون إلى هذه المواقف واعتبارها تحولاً جذرياً نحو خيار المقاومة؟ تحليلنا المادي للواقع يجيب بالنفي القاطع. نحن أمام تكتيكات تفاوضية بحتة تهدف لتحسين شروط الصفقة مع الإمبريالية ووكلائها، وربما لتحسين الموقع التفاوضي للداعم التركي، في تكرار مفضوح لذات النهج البراغماتي الانتهازي الذي مارسه نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون لعقود، حيث استخدمت شعارات المقاومة كسلعة للمساومة”.
وأكد الناطق في تصريحه لـ “الخط الأمامي”: “نحن في اليسار الثوري ندرك تماماً أن الدعوة لخوض مواجهة عسكرية مباشرة وشاملة مع الكيان في ظل موازين القوى المختلة حالياً هي ضرب من المغامرة غير المحسوبة. ولكن، المعيار الحقيقي لجدية أي سلطة في مواجهة العدو ليس في عنتريات الخطابات، بل في بناء استراتيجية مقاومة طويلة الأمد. هذا البناء يبدأ أولاً وحصراً من خلال صيانة المجتمع وتمكينه، وبناء قدراته الذاتية الاقتصادية والاجتماعية للصمود والمواجهة”.
واستطرد موضحاً: “وهنا يكمن الدليل الساطع على أن مواقف السلطة الحالية ليست سوى فقاعات تكتيكية. فالدلائل المادية على الأرض تشير إلى عكس ذلك تماماً: أولاً، عبر تبني هذه السلطة لسياسات نيوليبرالية متوحشة تفقر الشعب وتمنع تأسيس اقتصاد منتج ومقاوم. وثانياً، عبر استمرارها في قمع الجماهير واستهدافها، وتكريس الانقسامات على أسس هوياتية وطائفية. إنهم، ببساطة، يعيدون إنتاج نفس الظروف التي كبلت الشعب السوري في عهد الأسد ومنعته من تحرير أرضه”.
وختم الناطق تصريحه بتوجيه نداء إلى الجماهير السورية: “أيها السوريون والسوريات، لا ترهنوا آمالكم على سلطة تعيد إنتاج عقود من الدجل والمتاجرة بقضاياكم الوطنية. إن الطريق الوحيد للخلاص هو تبني مشروع وطني ديمقراطي واجتماعي بديل، والانتظام المستقل حوله، لبناء قوة شعبية قادرة على مقاومة الاحتلال والاستبداد معاً”.
تقرير ميداني من الجنوب: “استبدلنا استبداد الأسد بالاحتلال العسكري المباشر”
يكشف الواقع الميداني في جنوب سوريا، بعيداً عن دهاليز السياسة في دمشق، عن الوجه الحقيقي للمرحلة الراهنة. فبعد عام من سقوط نظام الأسد، يرزح أهالي محافظة القنيطرة تحت احتلال عسكري إسرائيلي مباشر ووحشي، حيث تبخرت “الحرية” المزعومة عند حدود التماس مع العدو.
في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 2024، استيقظ أهالي القنيطرة على وقع جنازير الدبابات الإسرائيلية التي اجتاحت المنطقة العازلة متجاوزة قوات الأمم المتحدة. وبدلاً من حواجز ميليشيات الأسد، انتشرت ناقلات الجند المدرعة الإسرائيلية في القرى والبلدات. يقول أبو إبراهيم (52 عاماً) من بلدة القحطانية: “عندما سقط نظام الأسد، لم نتمكن حتى من التقاط أنفاسنا؛ فبينما كان النظام يتداعى في دمشق، كان الصهاينة يدخلون علينا هنا. لقد استبدلنا استبداداً محلياً باحتلال أجنبي مباشر”.
ترسيخ الاحتلال وقمع السكان
لا يكتفي الاحتلال بالوجود العسكري، بل يعمل على هندسة المنطقة ديمغرافياً وأمنياً. فقد هدمت جرافات العدو منزل أبو إبراهيم و14 منزلاً آخر لإقامة واحدة من ست قواعد عسكرية جديدة تم تشييدها خلال العام الماضي. يروي أبو إبراهيم بمرارة رد الجندي الصهيوني حين سأله عن سبب الهدم: “قال لي بوقاحة: بشار الأسد دمّر سوريا بأكملها، هل أنت مستاء لأننا دمرنا بضعة منازل؟”.
وتفرض قوات الاحتلال سيطرة مطلقة على تفاصيل الحياة اليومية. نقاط التفتيش يديرها جنود الاحتلال، والمداهمات الليلية وتفتيش الهواتف أصبحت روتيناً يومياً. صادر العدو كافة الأسلحة، وتتكرر حملات الاعتقال التي تُخفي مصير العديد من الشباب منذ أشهر. حتى الخدمات الأساسية باتت رهينة “الموافقات الأمنية” الإسرائيلية؛ فإصلاح عطل كهربائي أو إقامة حفل زفاف يتطلب إذناً مسبقاً من المحتل، وغالباً ما ترافق الطائرات المسيرة الفلاحين في حقولهم لترهيبهم.
تمدد الإرهاب الصهيوني إلى ريف درعا: اعتقالات ومداهمات ليلية
ولا يقتصر المشهد القاتم على القنيطرة وحدها، فآلة القمع الصهيونية توسع دائرة استباحتها للجنوب السوري لتطال ريف درعا الغربي، ممارسةً دور “الشرطي الاستعماري” الذي يقتحم البيوت الآمنة في أنصاف الليالي لترويع السكان.
وفي أحدث فصول هذه العربدة المستمرة، أقدمت قوة من جيش الاحتلال، فجر يوم الأربعاء، على تنفيذ عملية مداهمة واعتقال في منطقة “حوض اليرموك”. وأفادت مصادر محلية لـ”الخط الأمامي” بأن رتلاً عسكرياً صهيونياً مؤلفاً من خمس آليات وأكثر من عشرين جندياً مدججين بالسلاح، اقتحم منطقة العارضة (بين قريتي عابدين ومعرية).
وحاصرت القوة المعادية منزل المواطن “محمد القويدر” حوالي الساعة الثالثة فجراً، وقامت بتفتيشه بشكل دقيق واستفزازي استمر لأكثر من ساعة، عاثت خلالها فساداً في محتويات المنزل وأرعبت ساكنيه. وانتهت المداهمة باعتقال “القويدر” واقتياده إلى جهة مجهولة، رجحت المصادر أن تكون إحدى النقاط العسكرية المتقدمة التي أنشأها الاحتلال حديثاً في المنطقة بعد انهيار النظام السابق.
وتؤكد هذه الحادثة، التي تأتي ضمن سلسلة متواصلة من التوغلات والاعتقالات التعسفية التي ينفذها العدو في حوض اليرموك دون إبداء أي أسباب، أن الاحتلال يسعى لفرض حالة من “الإرهاب المنظم” لكسر إرادة الأهالي ومنع أي محاولة لانتظامهم، مستغلاً الفراغ الأمني والعجز الكامل للسلطة في دمشق عن حماية مواطنيها في تلك المناطق المستباحة.
غياب الدولة وعجزها
في المقابل، يبدو الوجود الرسمي للسلطة السورية الجديدة شبه معدوم. وتدرك هذه السلطة أن ما تبقى من جيشها، بعد أن دمرت الغارات الإسرائيلية المكثفة في الأيام الأولى لسقوط الأسد معظم سلاح الجو ومستودعاته، غير قادر على المواجهة النظامية. ورغم الحديث عن مفاوضات بوساطة أمريكية للعودة إلى اتفاقية 1974، إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن الاحتلال يسعى لفرض أمر واقع جديد طويل الأمد.
يعيش أهالي الجنوب في حالة من الرعب وعدم اليقين، مترددين في العودة إلى قراهم التي تقطعها السواتر الترابية الإسرائيلية وآثار الدبابات. وبينما تحاول بقية المناطق السورية تضميد جراح الحرب، تحفر الجرافات الإسرائيلية عميقاً في أرض الجنوب لترسيخ قواعدها، في ظل عجز رسمي وتواطؤ دولي.
