
فهرس المحتويات
مقدمة
صدرت الطبعة الأولى من كتاب رأسمالية الدولة في روسيا عام 1948، في ذلك الوقت صعدت الستالينية إلى قمتها بعد انتصار روسيا على ألمانيا النازية، وبعد احتلال روسيا لدول أوروبا الشرقية، وكان جيش ماو ينتشر بسرعة في الصين واقترب من إحراز النصر النهائي.
كان الإيمان بأن روسيا دولة اشتراكية مفروضا على الأحزاب الشيوعية الستالينية، ولم يكن ممكنا التفكير أو التشكيك في قيادة ستالين لروسيا وبنائه للاشتراكية، وكان من البديهي لهذه الأحزاب أن دول أوروبا الشرقية اشتراكية أيضا، بينما وقفت الأممية الرابعة عند تحليل مؤسسها تروتسكي بأن روسيا دولة عمالية منحطة ولكنها اعتبرت أن دول أوروبا الشرقية رأسمالية، وجاء كتاب رأسمالية الدولة في روسيا ليثبت أنه ليس هناك خلاف حقيقي بين روسيا ودول أوروبا الشرقية فكلاهما رأسمالية دولة.
وفي عام 1989 انهارت الأنظمة الستالينية في أوروبا الشرقية وبعد ذلك في روسيا، وكان تأثير هذا الانهيار هائلاً على كل الأحزاب الستالينية فتحطمت أو تحولت إلى اليمين وأيدت سياسات السوق والخصخصة وأصبحت لا تختلف عن أحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وكمثال على ذلك تفتت الحزب الشيوعي البريطاني بعد إعلان سكرتيره العام أن روسيا لم تكن اشتراكية وأنها رأسمالية دولة، وأن حزب العمال الاشتراكي الذي أسسه مؤلف هذا الكتاب كان على حق، وكان ذلك الإعلان بمثابة صدمة هائلة كأن يعلن البابا أن الله غير موجود.
وخلال أحداث 1989 في أوروبا الشرقية، لم يدافع العمال عن “دولهم” بل على العكس كانوا من ضمن الثائرين على الأنظمة الستالينية، ولم تجد هذه الأنظمة من يدافع عنها سوى أجهزة الشرطة السرية والمخابرات، وبعد ذلك أيد العمال الروس بوريس يلتسين على الرغم من أنه كان المتحدث باسم السوق، وهذا يثبت ما جاء في هذا الكتاب حول طبيعة الدولة والطبقة الحاكمة في روسيا والاستغلال الذي كان يعاني منه العمال الروس في ظل ما سُمي بالاشتراكية.
إذا حدث تغير من نظام اجتماعي لآخر يصحبه بالضرورة تغيير في أجهزة الدولة، ولكن آلة الدولة لم تمس في أي مكان بعد 1989، فالجيش السوفيتي وجهاز المخابرات الروسية وبيروقراطية الدولة استمرت كما هي تؤدي دورها تماما مثلما كان الوضع قبل التغيير في روسيا وأوروبا الشرقية، وإذا قيل أن ما حدث يعتبر ثورة مضادة مكنت الرأسمالية من استعادة مواقعها، فكيف يمكن تفسير عدم تغيير الطبقة الحاكمة بأخرى، فقد شاهدنا نفس الأشخاص الذين كانوا يقودون الدولة والأحزاب الحاكمة السابقة تحت أسم “الاشتراكية” هم أنفسهم الذين يحكمون في ظل السوق.
إن نظرية رأسمالية الدولة تربط بين حلقات التراث الثوري وتتوقع ظهور حركات جماهيرية ثورية، فقد انطلقت من أرضية ماركسية ثورية تؤكد على أن الاشتراكية هي التحرر الذاتي للطبقة العاملة، وتؤكد أيضا على مبدأ الأممية واستحالة تحقيق الاشتراكية في بلد واحد، لذلك فقد مكنت هذه النظرية حزب العمال الاشتراكي أن يحيا وينمو في ظل انهيار الأحزاب الستالينية الكبرى بالإضافة لأحزاب الأممية الرابعة.
إن نظرية رأسمالية الدولة تعطي دفعة للنضال من أجل تغيير العالم اعتمادا على التحرر الذاتي للطبقة العاملة، وهى أساس للنضال بعيداً عن أكاذيب الستالينية التي خدعت الطبقة العاملة وعرضتها لأبشع صور الاستبداد والاستغلال باسم الاشتراكية، إن فضح هذه الأكاذيب واجب على الاشتراكيين الثوريين لكي يتمكنوا من توضيح أن سقوط الأنظمة الستالينية يفتح الطريق أمام الاشتراكية الحقيقية التي يتحرر خلالها العمال والمضطهدين من كل أشكال الاستغلال والاضطهاد.
إن الفرصة أصبحت مهيأة الآن أكثر من أي وقت مضى للدعاية للأفكار الاشتراكية الثورية، بعد انهيار الأنظمة الستالينية ودخول الأحزاب الإصلاحية في أزمة بسبب عدم قدرتها على تقديم أي إصلاحات في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية العالمية التي يتحمل أعباءها العمال في كل دول العالم نتيجة محاولات الرأسماليين الحفاظ على تدفق الأرباح على حساب تشريد وإفقار الطبقة العاملة.
هذه الأوضاع تخلق ظروفا مواتية لبناء وطرح البديل الاشتراكي الثوري، فقد أصبح بناء أحزاب ومنظمات ثورية اليوم ممكنا وأسهل بكثير مما كان عليه الوضع في الماضي، حيث يستطيع الثوريين الآن جذب قطاعات متزايدة من الطبقة العاملة وجماهير الفقراء إلى مشروع اشتراكي ثوري لتغيير المجتمع بالإطاحة بالرأسمالية وبناء المجتمع الاشتراكي.
الفصل الأول: العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية في روسيا الستالينية
دعونا نبدأ دراسة طبيعة النظام الستاليني بإيضاح بعض الخصائص البارزة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة في روسيا. سيكون العرض الوقائعي أساسا للتحليل والتعميم فيما بعد.
السيطرة على الإنتاج: (1)
عقب الثورة الروسية مباشرة، تقرر أن تكون إدارة كل وحدة صناعية في أيدي النقابات العمالية. هكذا، أعلن برنامج الحزب الشيوعي الروسي، الذي تم إقراره في المؤتمر الثامن للحزب (18- 23 مارس1919):
الجهاز المنظم للإنتاج الاجتماعي يجب أن يعتمد أساسا على نقابات العمال.. يجب أن تتحول (النقابات) إلى وحدات إنتاجية ضخمة، ينخرط فيها غالبية العمال، ومع مرور الوقت كل العمال، كل في فرع الإنتاج الخاص به. وبقدر ما تشارك النقابات العمالية فعليا (كما هو محدد في قوانين الجمهورية السوفيتية وكما هو متحقق عمليا) في جميع الهيئات المحلية والمركزية التي تدير الصناعة، عليهم أن يتقدموا نحو المركزة الفعلية في أيديهم للعمل الإداري في مجمل الحياة الاقتصادية للبلاد، جاعلين هذا هدفهم الاقتصادي الموحد. وتلك الحماية – بالتالي – للوحدة الوثقى بين سلطة الدولة المركزية، والاقتصاد القومي، والجماهير الغفيرة للعمال، يجب على النقابات أن تحفز العمال بكل الوسائل الممكنة، للمشاركة المباشرة في عمل الإدارة الاقتصادية. إن مشاركة النقابات العمالية في تسيير الحياة الاقتصادية، وإشراكهم لجماهير الشعب الغفيرة في هذا العمل، هو في الوقت ذاته أكبر عون لنا في الحملة ضد بقرطة الجهاز الاقتصادي للسلطة السوفيتية. إن هذا سيسهل تحقيق رقابة شعبية فعالة على حصيلة الإنتاج.
شاركت خلايا الحزب في إدارة الصناعة مع اللجان العمالية للوحدات الصناعية. وبالإضافة إليها وتحت إشرافها، عمل المدير التقني: شكلت هذه الكيانات الثلاثة ما يسمى بالترويكا (الإدارة الثلاثية).
مع تزايد قوة البيروقراطية داخل الحزب والنقابات العمالية، أصبحت الترويكا، أكثر وأكثر مجرد اسم، حيث ارتفعت بشكل متزايد فوق جمهور العمال. مع ذلك، ظلت الترويكا تستجيب لضغط العمال واحتفظت ببعض عناصر السيطرة العمالية حتى حلول الخطة الخمسية. يقول بايكوف، وهو ليس مؤيدا للسيطرة العمالية وإنما يمدح أعمال ستالين:
فعليا، كان المدير في هذه الفترة (قبل الخطة الخمسية) معتمدا إلى حد كبير على التنظيم النقابي لقطاع الأعمال، والزافكوم، (اللجنة النقابية في المصنع) وعلى خلية الحزب، وحدة الحزب الشيوعي في المؤسسة الإنتاجية. كان ممثلو هذه المنظمات يعتبرون أن من واجبهم رقابة أنشطة المدير، وعادة ما كانوا يتدخلون في قراراته (2).
مع التوجه الكبير نحو التصنيع، لم يعد من الممكن التسامح مع الترويكا، لأن وجودها ذاته كان من شأنه أن يمنع الإخضاع الكامل للعمال لحاجات تراكم رأس المال. من ثم، ففي فبراير1928، اصدر المجلس الاقتصادي الأعلى وثيقة بعنوان تعليمات أساسية متعلقة بحقوق وواجبات موظفي المؤسسات الصناعية في مجالات الإدارة والتقنية والصيانة، هدف إلى وضع نهاية للترويكا وإقرار السيطرة الكاملة غير المقيدة للمدير (3) في سبتمبر1929، قررت اللجنة المركزية للحزب أن اللجان العمالية لا يحق لها التدخل مباشرة في تسيير المصنع أو السعي بأي طريقة لاستبدال إدارة المصنع، عليهم بكل الوسائل المساعدة في تأمين إدارة الرجل الواحد، وزيادة الإنتاج، وتنمية المصنع، وبالتالي تحسين الظروف المادية للطبقة العاملة (4) أعطي المدير المسئولية الكاملة والوحيدة عن المصنع، أصبحت أوامره الاقتصادية الآن ملزمة بلا قيد أو شرط على مرؤوسيه الإداريين وعلى جميع العمال (5) ل. م. كاجانوفيتش، المشهور بخبرته في مواجهة المتاعب في المجال الاقتصادي: ملاحظ العمال هو القائد الآمر في الورشة، ومدير المصنع هو القائد الآمر في المصنع، وكل منهما له كل الحقوق والواجبات والمسئوليات التي تصحب هذه الأوضاع (6).
أما أخوه كاجانوفيتش، وهو مسئول كبير في قوميسارية (وزارة) الصناعة الثقيلة، فقد صرح بأن: من الضروري قبل أي شيء تقوية إدارة الرجل الواحد. من الضروري البدء من الافتراض الأساسي أن المدير هو الرئيس الأعلى في المصنع. كل موظفي المصنع يجب أن يخضعوا تماما له. (7)
بل أن كتابا مدرسيا عن القانون الاقتصادي السوفيتي، نشر عام1935، ذهب بعيدا إلى حد القول: “إدارة الرجل الواحد (هي) أهم مبادئ تنظيم الاقتصاد الاشتراكي”. (8)
دفنت الترويكا رسميا عام 1937 عندما قال زدانوف – الرجل الثاني في القيادة وقتها بعد ستالين – في جلسة للجنة المركزية: “الترويكا شيء مرفوض تماما.. الترويكا نوع من المجلس الإداري، أما إدارتنا الاقتصادية فهي مبنية على أسس مختلفة كليا. ” (9)
تم تعريف نظام الإدارة الجديدة بوضوح شديد في كتيب رسمي: ” كل مصنع له قائد – مدير المصنع – ممنوح سلطة اتخاذ القرار الكاملة، وبالتالي مسئول بالكامل عن كل شيء”. (10) بالإضافة إلى ذلك، تتضمن سيطرة الرجل الواحد فصلا صارما بين الإدارة من ناحية والحزب والمنظمات النقابية من ناحية أخرى. يجب تطبيق هذا الفصل الصارم على كل مستويات الإدارة الصناعية. العمليات الجارية في تنفيذ الخطة هي مهمة الإدارة. رئيس الورشة، ومدير المصنع، ورئيس الجلافك (مجلس صناعي أو فرع صناعي) لهم سلطات كاملة، كل في مجاله، ولا يحق للحزب والمنظمات النقابية التدخل في أوامرهم. (11)
في ضوء هذه المقتطفات، كم هي وقحة كلمات عميد كانتر بوري: “ديمقراطية الوحدة الإنتاجية هي دعامة الحرية السوفيتية”. (12)
أثناء السنوات الأولى القليلة بعد الثورة، سواء في القانون أو في الواقع، كان للنقابات العمالية فقط حق تحديد الأجور. وأثناء فترة السياسة الاقتصادية الجديدة، تم تحديدها عن طريق التفاوض بين النقابات والإدارة الآن، مع بداية الخطة الخمسية، أصبحت الأجور تحدد أكثر فأكثر بواسطة هيئات الإدارة الاقتصادية، مثل القوميساريات والدلافكات، ومدير المصنع الفرد. سنتناول هذا الموضوع بالتفصيل في قسم تالي من هذا الفصل، ولكن قليل من الاقتباسات النموذجية ستعطى هنا لتوضيح آراء الزعماء السوفيت حول حق المدير في تحديد الأجور. في يونيو1933، أعلن وينبرج أحد أهم قادة النقابات:
التحديد السليم للأجور وتنظيم العمل يقتضيان تكليف الرؤساء الصناعيين والمديرين التقنيين بالمسئولية المباشرة في هذا الأمر. ويحتم ذلك أيضا ضرورة قيام سلطة واحدة وضمان اعتبارات الاقتصاد في إدارة المشروعات… انهم (العمال) لا يجب أن يدافعوا عن أنفسهم ضد حكومتهم إن ذلك خاطئ تماما. فذلك استبدال للجهات الإدارية. انه تشويه انتهازي يساري، قضاء على السلطة الفردية وتدخل في العمل الإداري. من الضروري أن يتم إلغاؤه. (13)
في السنة التالية، أثناء مؤتمر لمديري الصناعة الثقيلة، تحدث أوردزونيكيدز، قوميسار الصناعة الثقيلة آنذاك، قائلا:
كمديرين، ورؤساء إدارات، وملاحظين عمال، عليكم أنتم أنفسكم العناية بالأجور في صلب تفاصيلها، وعدم ترك هذه المسألة الهامة لآي شخص آخر – الأجور هي أقوى سلاح في أيديكم. (14)
بعد ذلك ببعض الوقت، أعلن أندرييف، عضو في المكتب السياسي أن: ميزان الأجور يجب أن يترك بالكامل في أيدي رؤساء الصناعة. عليهم هم وضع المعيار. (15)
إن الوضع الشاذ الذي تمخض أبعد “لجنة معدلات القطعة وفض النزاعات – على الرغم من احتفاظها باسمها – عن التدخل في تحديد معدلات الأجور ومعيار الإنتاج ! (16)
العمال غير مسموح لهم بالتنظيم دفاعا عن مصالحهم
في ظل لينين وتروتسكي، كان للعمال الحق في الدفاع عن أنفسهم حتى ضد دولتهم. فعلى سبيل المثال، قال لينين: “دولتنا الحالية هي دولة عمالية بها بعض التشوهات البيروقراطية… دولتنا هي دولة تجعل من الضروري بالنسبة للبروليتاريا المنظمة تماما أن تحمي نفسها ضدها، ومن الضروري بالنسبة لنا أن نستخدم هذه المنظمات العمالية في حماية العمال من دولتهم، وذلك حتى يحمي العمال دولتنا.”… (17)
لقد كان من المسلمات أن الإضرابات لا ينبغي قمعها بواسطة الدولة. ففي المؤتمر الحادي عشر للحزب، اقترح واحد فقط من قادة الحزب، ف.ب. ميليوتين، عدم السماح بالإضرابات في مشروعات الدولة. (18) إلا أن الآخرين جميعهم رأوا أنه من واجب أعضاء الحزب أن يشاركوا في الإضرابات حتى لو كانوا مختلفين في الرأي مع الغالبية المناصرة للإضراب. وبالفعل، فقد شهدت السنوات القليلة التالية للثورة عددا واسعا من الإضرابات. ففي1922، أضرب 192000 عاملا في مشروعات مملوكة للدولة، في 1923 كان العدد165000، في1924، 43000، في1925، 34000، في1926، 32900، في1927، 20100، وفي النصف الأول من1928، 108900. في 1922 كان عدد العمال المشتركين في نزاعات عمالية ثلاثة ملايين ونصف، وفي1923، 1592800.(19)
اليوم، نقابات العمال – إذا جاز تسميتها بهذا الاسم، لا تفعل شيئا دفاعا عن مصالح العمال. لعل مثالا واضحا على تغاضيهم هو واقع أن سبعة عشر عاما (1932-1949) فصلت بين المؤتمرين التاسع والعاشر لنقابات العمال، وهي سنوات شهدت تغيرات بعيدة المدى في ظروف العمال – مثل إلغاء يوم السبع ساعات، وإدخال الستاخانوفية والكثير من القوانين الوحشية. وعندما اجتمع المؤتمر أخيرا لم يمثل العمال على الإطلاق، كما يتضح من تكوينه الاجتماعي: كان 5ر41% من المندوبين موظفين نقابيين دائمين، 4ر9% تقنيين (فنيين)، 5ر23 فقط عمال. (20) (في المؤتمر السابق في1932، كان 9ر84% من المندوبين عمالا.)
بالإضافة إلى ذلك، لم يكن “للنقابات” أي كلمة على الإطلاق في تحديد الأجور. في1934، توقف نظام الاتفاقيات الجماعية. (21) في 1940 أعطى شفير نيك، رئيس المجلس المركزي للنقابات العمالية، التفسير التالي لإلغاء الاتفاقات الجماعية:
عندما تصبح الخطة العنصر الحاسم في التنمية الاقتصادية، لا يمكن أن يبت في مسائل الأجور بمعزل عنها، بالتالي، فإن الاتفاقات الجماعية كشكل لتحديد الأجور قد استنفدت غرضها(22) (ملاحظة: من الطريف ملاحظة أن الكتب المنشورة للاستهلاك الأجنبي “مثل كتاب لوزوفسكي، دليل النقابات العمالية السوفيتية، موسكو، 1937، ص 55 – 57 ” لا تزال تتحدث عن الاتفاقات الجماعية كما لو كانت سارية حتى ذلك التاريخ).
في فبراير1937، تم اللجوء مرة أخرى لما يسمى بالاتفاقات الجماعية إلا أن الزعماء الستالينيين بينوا بوضوح أن هذه الاتفاقات الجديدة لا تمت بأية صلة لما هو متعارف عليه كاتفاقات جماعية في أماكن أخرى إذ أنها لا تشمل الأجور. وكما كتب شفير نيك في المجلة الشهرية النقابية، فإن: ” أي تغيير في الأجور… يمكن أن يتم فقط بقرار حكومي”. (23) وفقا لذلك، كتب معلق حكومي حول قانون العمل: ” من المسلم به أن الاتفاقات الجماعية اليوم يجب أن يكون لها مضمون مختلف عن تلك الاتفاقات التي كانت تعقد عندما كانت معدلات الأجور وبعض شروط العمل الأخرى لا تحدد بقرار حكومي. (24) بل إن الكتب المدرسية حول قانون العمل المنشورة بين 1938 و 1944 لا تتطرق للموضوع أساسا. ومع ذلك، فإن كتابا دراسيا نشر بعد ذلك بقليل (1946) يذكر أن:
لقد أثبتت الحياة نفسها أن إعادة نظام المساومة الجماعية ليست ذات جدوى. فالاتفاق الجماعي كشكل خاص للتنظيم القانوني لعلاقات العمل الخاصة بالعمال الأجراء والموظفين الذين يتقاضون رواتب شهرية قد تجاوز عمره الافتراضي. كما أن اللوائح التفصيلية المتعلقة بكافة جوانب هذه العلاقات الصادرة وفق أحكام معيارية للدولة لا تترك مكانا لأي اتفاق تعاقدي فيما يتعلق بهذا أو ذاك من ظروف شروط العمل. (25)
على هذا النحو، فإن كتابا مدرسيا حول تشريع العمل، نشر في1947، قد أعاد للحياة قانون العمل دون أن يتضمن المادة58، التي تقول: مقدار ما يتقاضاه موظف مقابل عمله يجب أن يحدد عن طريق الاتفاقات الجماعية وعقود العمل الفردية. (26) وبدلا من ذلك نقرأ (في الكتاب المدرسي):
“مقدار الأجور والمرتبات حاليا يحدد بقرارات الحكومة (أو وفق توجيهاتها)…وفي تحديد مقدار الأجور والمرتبات يلعب اتفاق الأطراف دورا ثانويا. وينبغي ألا تكون (اتفاقات الأطراف) مناقضة للقانون , وهي مسموح بها فقط في حدود يرسمها القانون بصرامة، كأن تحدد قائمة الأجور – مثلا – المعدلات على أنها “من” – “إلى”، كما يسمح بها في تحديد ما يتقاضاه شخص مقابل عمل إضافي إلى جانب عمله الأصلي، وهكذا. (27)
أيضا، كتب أ. ستيبانوف، مدير قسم الأجور في المجلس المركزي للنقابات العمالية: “جداول الأجور والأجور تحددها الحكومة” (28).
من الواضح أن الاتفاقات الجماعية التي تستبعد أي مساومة حول الأجور – وهي، في النهاية، بالضرورة المصلحة الأساسية للعامل في أي اتفاق من هذا النوع – يتم التوصل إليها عن طريق إجراء يسمح للحكومة بأن يكون لها الصوت الحاسم فيما يتعلق بجميع نقاطها الأساسية، ليست إلا إجراءا شكليا وزيفا بيروقراطيا.
تجزئة الطبقة العاملة
على الرغم من أن المؤسسات الصناعية الكبرى للرأسمالية الحديثة تعمل بلا شك كعامل موضوعي قوي في توحيد العمال كطبقة، فإن أرباب العمل لديهم عددا من الوسائل الفعالة لإعاقة هذه الوحدة. إحدى أهم هذه الوسائل هي تشجيع التنافس بين العمال عن طريق أنظمة العمل بالقطعة. فنفس تهديد الجوع الذي قد يدفع العمال نحو الاتحاد ضد مخدميهم، يمكن أيضا أن يستخدم لإشعال حرب من أجل البقاء بين عامل وآخر.
على سبيل المثال، فقد استخدمت أنظمة العمل بالقطعة على نطاق واسع في ألمانيا النازية لنفس الغرض. كتب فرانز نومان:
الأجر الطبقي للنقابات العمالية الاشتراكية قد استبدل (بأجر الأداء) المحدد في القسم 29 من ميثاق العمل (النازي). لقد كان المبدأ الحديدي للقيادة الاشتراكية الوطنية، كما قال هتلر في مؤتمر الشرف للحزب، هو عدم السماح بأي زيادة في معدلات الأجر في الساعة، وإنما زيادة الدخل فقط في مقابل تحسن في الأداء. إن ما يحكم سياسة الأجور هو تفضيل واضح للعمل بالقطعة والمكافآت حتى بالنسبة لعمل الصبية. وسياسة كهذه تحطم المعنويات تماما، إذ أنها تخاطب أكثر الغرائز أنانية وتزيد بشدة الحوادث الصناعية “(29).
يشرح نومان بعد ذلك لماذا ذهب النازيون إلى مثل هذا الحد في تطبيق نظام العمل بالقطعة:
“إن شيوع أجر الأداء يضع مشكلة الفوارق في مقدمة السياسة الاجتماعية. من الضروري فهم هذه المشكلة ليس على أنها مسألة اقتصادية بل على أنها مشكلة سياسية شديدة الأهمية وهي مشكلة السيطرة على الجماهير… اختلاف الأجور هو الجوهر ذاته لسياسة الأجور الاشتراكية الوطنية… تهدف سياسة الأجور بوعي إلى التحكم في الجماهير”. (30)
يستخدم الستالينيون أساليب العمل بالقطعة لنفس الغرض. بعد إدخال الخطة الخمسية، ارتفعت نسبة العمال الصناعيين الذين يدفع لهم على أساس معدلات القطعة بسرعة شديدة: في1930، كانت النسبة 29% من إجمالي عدد العمال، في1931، ارتفعت إلى 65% من المجموع، وفي1932، ارتفعت إلى 68% (31). بحلول عام1934، كان حوالي ثلاثة أرباع العمال الصناعيين يشاركون في ما يسمى بالتنافس الاشتراكي. (32). في عام1944، شاركت النسب التالية من العمال والموظفين في الصناعات المختلفة في هذه المنافسة: صناعة البترول 82%، الطيران 81%، التسليح 85%، بناء ماكينات قطع وتشكيل المعادن 81%، الذخيرة 81%، صناعة السيارات 86%، بناء الماكينات الكهربائية 83%، المطاط 83%، صناعة القطن 91%، صناعة الأحذية 87%. (33) في 1949 شارك أكثر من 90% من العمال في “التنافس الاشتراكي ” (34).
بل ولجعل المنافسة أكثر حدة، وبدلا من نظام العمل بالقطعة العادي الذي يتناسب فيه الأجر بشكل مباشر مع الناتج، كما هو قائم في بلاد أخرى، تم إدخال العمل بالقطعة التصاعدي في روسيا. ويشرح المثالان التاليان كيف يعمل هذا النظام.
يورد كتيب حول صناعة النفط السلم التالي للأجور: (35)
| النسبة المئوية للزيادة عن المعدل المطلوب (في الإنتاج) | النسبة المئوية للزيادة عن معدل القطعة الأساسي (في الأجر) |
| 1-10 | 5 |
| 11-20 | 10 |
| 21-30 | 20 |
| 31-50 | 40 |
| 50-70 | 70 |
| 71 وأكثر | 100 |
هكذا، فإن العامل الذي ينتج 50% فوق المعدل المطلوب، يدفع له 110% فوق المعدل، إذا كان إنتاجه 70% فوق المعدل المطلوب، يدفع له 189% فوق المعدل، وإذا كان الإنتاج 100% فوق المعدل المطلوب، يدفع له 300% فوق المعدل، وهكذا.
بل إن نسبة الارتفاع أشد في بعض الصناعات الأخرى. ففي مؤسسات وزارة بناء ماكينات قطع وتشكيل المعادن، مثلا، توجد معدلات القطعة التصاعدية التالية: (36)
| النسبة المئوية للزيادة عن المعدل المطلوب (في الإنتاج) | النسبة المئوية للزيادة عن معدل القطعة الأساسي (في الأجر) |
| 1 -10 | 30 |
| 10 – 25 | 50 |
| 25 – 40 | 75 |
| 40 وأكثر | 100 |
هكذا فإن العامل الذي ينتج 50% فوق المعدل المطلوب، يدفع له 200% فوق المعدل !
في ظل الظروف الروسية، يعد نظام معدل القطعة رجعيا بشكل مزدوج. فمادام حجم السلع الاستهلاكية المتوفرة محدد سلفا بالخطة، وبما أن العمال الذين يتخطون المعدل المطلوب يستطيعون شراء حصة أكبر بكثير مما يسفر عنه إنتاجهم، فإن العمال الذين لا يحققون المعدل المطلوب يحصلون على أقل من الحصة التي يكفلها إنتاجهم بالفعل. ويسمح نظام معدل القطعة للدولة بخفض مستوى معيشة العمال عن طريق زيادة معدلات الإنتاج المطلوبة الأساسية باستمرار. في الواقع، أعقب تطبيق الستاخانوفية في نهاية 1935 تغيرات في معدلات الإنتاج المطلوبة في كل صناعة. فالمعدلات المطلوبة الجديدة لم تحدد عن طريق إنتاجية العامل المتوسط بل عن طريق أخذ المتوسط بين الستاخانوفيين من ناحية، ومتوسط بقية العمال من ناحية أخرى.(37)
في بداية1936، ارتفعت معدلات الإنتاج المطلوبة في أغلب الصناعات الهامة كالآتي: الفحم بمقدر 22 – 5ر27%، الحديد والصلب 13 – 20%، بناء الماكينات 30 – 40%، المعادن غير الحديدية 30 – 35%، صناعة النفط 29%، الكيماويات 34% (38)، النسيج 35 – 50%، والبناء 54 – 80%.(39)
كانت هناك ارتفاعات أخرى هامة خلال عامي 1937 و 1938 كنتيجة لهذه الارتفاعات، لم يتمكن 60% من العمال في صناعة المعادن من تحقيق المعدل المطلوب. (40) في وقت لاحق، في 16 أبريل1941، ذكر شفير نيك أن 22 – 32% من العمال في جميع الصناعات لم يحققوا المعدلات المطلوبة. (41)
إحدى النتائج الخرقاء للتوجه نحو تجزئة الطبقة العاملة، وهي في الوقت نفسه نتيجة حتمية لسوء الإدارة البيروقراطية، في العدد الضخم من المعدلات المطلوبة. هكذا، على سبيل المثال، كان لدى قوميسارية بناء الماكينات والمركبات وحدها في 1939 ما مجموعه 2.026.000 معـدل عمل مطلوب ! (42)
في البداية كانت هناك هيئة مسئولة عن مراقبة هذه المعدلات المطلوبة بحيث يتم التأكد من ملاءمتها للحفاظ على صحة العمال في مستوى معقول. وقد كان إلغاؤها في.1936 (43) مؤشرا واضحا على إصرار الحكومة على فرض الصرامة الكاملة للمنافسة (الحرة) بين العمال. وكان الستاخانوفيين بالطبع، أداة قوية في هذه العملية. كتب ماينارد: ” العامل البريطاني، من وجهة نظره الخاصة كشخص يسعى لقهر محاولات زيادة السرعة، في الأغلب كان سيعتبرهم (الستاخانوفيين) خائنين للعمال. (44). ومما يثبت أن العمال الروس لديهم الرأي نفسه، حدوث العديد من حالات (التخريب) أو حتى قتل الستاخانوفيين.(45)
أحيانا يتصرف الكتاب الستالينيون بلامبالاة إلى الحد الذي يجعلهم يماثلون بين الستاخانوفية وبين أكثر وسائل الاستغلال الرأسمالي دقة – التيلورية.. هكذا، على سبيل المثال، ففي كتيب أقرته وزارة التعليم العالي – وهو مقرر لمؤسسات التعليم العالي الخاصة بصناعة البترول – توجد هذه الملاحظة: إن آراء وأساليب تيلور في مجال الاستغلال المتزايد لأدوات العمل تعتبر تقدمية تماما. (46) (وعلى المرء مقارنة هذا بوصف لينين للتيلورية بأنها “استعباد الإنسان عن طريق الماكينة”)(47)
حرمان العامل من أية حرية قانونية:
إلى حين حلول الخطة الخمسية الأولى كان العمال أحرارا في تغيير أماكن عملهم كما يريدون. لقد كان حقهم في العمل حيث يرغبون مكفولا، بالفعل، في قانون العمل الصادر في 1922 حيث نص “أن انتقال الأجير من مشروع لآخر، أو تحويله من منطقة إلى أخرى – حتى عندما ينتقل المشروع أو المؤسسة – يجوز حدوثه فقط يرضي العامل أو الموظف المعني. (48) كان في استطاعة العامل أيضا الهجرة، بلا قيد، إلى أي منطقة يريد داخل القطر. بل انه حتى في 1930 ، ذكر في الموسوعة السوفيتية الصغيرة أن عرف جوازات السفر الداخلية الذي ابتدعته الأتوقراطية كأداة للقمع البوليسي لجماهير الكادحين، قد ألغته ثورة أكتوبر. (49)
ومع ذلك، فبحلول عام1931، لم يعد يسمح لأي عامل بمغادرة لينينجراد إلا بإذن خاص. وفي 27 ديسمبر 1932 طبق هذا النظام على كل أجزاء روسيا، كما أدخل نظام جوازات سفر داخلية – أكثر قمعا بكثير من نظام القيصر – لمنع أي شخص من تغيير محل سكنه بلا إذن. (50)، وفي 15 ديسمبر 1930 منعت المؤسسات الصناعية من تشغيل الأشخاص الذين تركوا محل عملهم السابق بلا إذن. (51) وألغيت المادة 37 من قانون العمل الصادر في 1922 المشار إليه أعلاه في أول يوليو 1932. (52)
أدخلت دفاتر العمل للعمال الصناعيين وعمال المواصلات في 11 فبراير1931، ثم لجميع العمال في 20 ديسمبر 1938. (53) وكان يجب أن تقدم هذه الدفاتر إلى مدير المؤسسة عند استلام العمل لأول مرة. ويوجه المديرون بإيضاح أسباب فصل العامل في الدفتر. ولا يستطيع العامل الحصول على عمل جديد ما لم يقدم دفتر العمل الخاص به. الطريقة الوحشية التي يعمل بها هذا النظام فعليا قد أشار إليها بوضوح فيكتور سيرج عندما كتب:
يتم التأشير على جواز السفر في مكان العمل وعند كل تغيير للمخدم، يحدد هذا التغيير في جواز السفر. لقد عرفت عمالا فصلوا لعدم مجيئهم في يوم الراحة للمساهمة في يوم عمل “اختياري” (بالطبع مجاني)، وقد كتب في جوازات سفرهم: “مفصول لتخريب خطة الإنتاج. (54)
وفي ظل قانون صادر في 15 نوفمبر1932، أصبح أي عامل يتغيب عن العمل ليوم واحد بلا عذر مقبول معرضا للفصل و ما هو أخطر بكثير في ظل الظروف الروسية – يصبح معرضا أيضا للطرد من مسكنه، إذا كان متصلا بمحل عمله. (55)، كما هو الحال عادة بالنسبة للعمال الصناعيين وعمال المناجم، وهكذا.
وفي 4 ديسمبر1932، أصدر مجلس قوميساريات الشعب واللجنة المركزية للحزب مرسوما آخر متعلق بالتغيب عن العمل. هذه المرة تم وضع إمدادات الطعام والضرورات الأخرى تحت سيطرة مديري المصانع. (56)
في 28 ديسمبر 1938 صدر مرسوم (57) كان موجها ضد من يتأخرون عن العمل، أو يغادرونه قبل الموعد المحدد، أو يطيلون فترة الغذاء، أو يتقاعسون عن العمل ويتعرض المخالفون للنقل إلى عمل من مستوى أقل، كما يتعرضون للفصل إذا ارتكبوا ثلاثة مخالفات خلال شهر أو أربعة خلال شهرين. كان التفسير الرسمي للمرسوم هو أن العقوبات الأخف من الفصل يجب تطبيقها فقط عندما يكون العامل متأخرا بأقل من عشرين دقيقة، أو متقاعسا لأقل من عشرين دقيقة. أما إذا تأخر أكثر من ذلك في أي مرة، فمن الواجب فصله فورا. إلى جانب فقدان مكان سكنه، إذا كان متصلا بمحل عمله، فإن العامل المفصول يعاني بطرق أخرى، على سبيل المثال، ليس فقط معاشات العجز والشيخوخة والإعالة، وإنما أيضا معدلات إعانة المرض تعتمد على مدة العمل في مشروع واحد. ولضمان تنفيذ هذا المرسوم الجديد، فقد تم النص على أن مديري المشروعات والمصانع الذين لا ينفذون هذه العقوبات سيتعرضون للفصل والمقاضاة الجنائية. ومع ذلك، وبعد أقل من عامين، أصبح من الواضح أن التهديد بالفصل – ونتيجة لنقص الأيدي العاملة – لا يحقق النتائج المرجوة، وتمت مراجعة العقوبات. (58) واعتبارا من 26 يونيو1940، وبدلا من الفصل، أصبح العامل المتغيب ولو ليوم واحد بلا سبب مقنع للسلطات معرضا للعمل الجبرى بلا حبس لمدة قد تصل إلى ستة أشهر في مكان عمله المعتاد، وبخفض الأجرة بما يصل إلى 25%. في ظل هذا القانون المعدل، لا يستطيع أي عامل أن يترك عمله إلا إذا كان غير صالح بدنيا للعمل، أو مقبولا في مؤسسة تعليمية، أو ممنوحا إذنا خاصا من سلطة عليا.
بعد صدور هذا المرسوم، عوقبت المحاولات غير المبررة من العمال للحصول على شهادات طبية تعفيهم من العمل بقسوة شديدة. وهكذا، على سبيل المثال، نشرت “ازفستيا” في 27 أغسطس 1940: “قضية ت. ف. تيمونين، المولود في1915، في 23 أغسطس ذهب (المتهم) إلى عيادة حيث طلب شهادة طبية تعفيه من العمل. ومع تكدره إزاء إشارة الترمومتر إلى أن حرارته عادية ، أنفعل واستخدم عبارات لا يمكن نشرها. حكم عليه في 23 أغسطس بالسجن ثلاث سنوات كما منع من العيش في تسع مدن سوفيتية، يتم تحديدها بعد قضاء العقوبة. ”
وبعد بضعة أشهر من صدور هذا القانون، كتبت بعض السيدات للصحافة مقترحات بإخضاع خدم المنازل لهذا القانون. (59) وما يفسر بجلاء ما يحدث في الاتحاد السوفيتي أن “ازفستيا”، الصحيفة المعنية، رغم اختلافها مع الاقتراح، لم تبد أي دهشة إزاء تقديم مثل هذا الاقتراح في فترة “التحول المزعوم من الاشتراكية إلى الشيوعية ” ! من القانون المناهض للتغيب عن العمل ينبغي قطع مجرد خطوة واحدة إلى مثل هذا الإعلان الصادر عن جريدة إدارة الدعاية والتحريض التابعة للجنة الحزب في موسكو: من لا يستغل كل الـ 480 دقيقة في العمل المنتج لا يراعي انضباط العمل. (60) يستطيع المرء أن يتأكد أنه لا يوجد عامل واحد في العالم خارج روسيا يراعي هذا السلوك (الاشتراكي) الضروري !.
في 19 أكتوبر 1940 صدر مرسوم سمح لإدارة الصناعة بالقيام “بالنقل الجبري للمهندسين والتقنيين وملاحظي العمال والموظفين والعمال المهرة من مشروع أو معهد إلى آخر. “(61)
تم إدخال قيد وحشي آخر على حرية الطبقة العاملة بموجب مرسوم صادر في 26 ديسمبر 1941. فرض هذا المرسوم عقوبات بين خمس وثمان سنوات سجن للعمال الذين يتركون الصناعات العسكرية دون إذن. (يحاكم المخالفون بواسطة محاكم عسكرية). (62) بل إن قانونا آخر، صدر في 15 أبريل1943، وضع عمال السكك الحديدية تحت الانضباط العسكري بالكامل. لقد كان من الممكن اعتقالهم قانونيا بأمر رؤسائهم لمدة تصل إلى عشرين يوما دون محاكمة أو حق اللجوء إلى المحاكم. (63) طبقت أحكام مماثلة بالنسبة لعمال البحار والمجاري المائية الأرضية. (64)، وموظفي البريد والتلغراف والراديو، وموظفي المحطات الكهربائية وآخرين. إن مخالفات مثل ترك العمل بلا إذن أصبحت منذ ذلك الوقت تعاقب بقسوة شديدة. (65) ومن الواضح أن هذه الأحكام العسكرية استمرت قائمة بعد الحرب.
بعد فترة وجيزة من انتصار البيروقراطية الستالينية، في أواخر العشرينات، تم حظر الإضرابات وأصبح المضربون عرضة لعقوبة الإعدام. ومنذ إلغاء الإعدام، أصبحت العقوبة الأشغال الشاقة لمدة عشرين سنة. من الصحيح بالطبع، أن الإضرابات لم يشر إليها بالاسم حتى أن المادة التالية، الصادرة في 6 يونيو1927، هي البند الوحيد في مجموعة القوانين التي يمكن تفسيرها بواسطة المحاكم على أنها تخص الإضرابات: “التخريب المضاد للثورة، أي رفض القيام، عمدا، بواجب معين، أو القيام به بإهمال متعمد، بقصد إضعاف سلطة الحكومة أو الآلة الحكومية، يستوجب الحرمان من الحرية لفترة لا تقل عن سنة ومصادرة الملكية بالكامل أو جزئيا، غير أنه عند تفاقم الظروف إلى درجة خطيرة، ينبغي زيادة العقوبة إلى الإجراء الأقصى للدفاع الاجتماعي – الموت رميا بالرصاص، مع مصادرة الملكية. (66)
لقد تم تلخيص أهمية التشريع العمالي الستاليني بشكل جيد في هذه الكلمات: “بالمقارنة بتشريع فترة السياسة الاقتصادية الجديدة، عندما تم التسامح مع العلم التجاري الخاص، تغير الوضع القانوني للعمل إلى الأسوأ. جميع القنوات التي يستطيع العمال من خلالها الدفاع عن مطالبهم في العالم الرأسمالي – التشريع، المحاكم، الوكالات الإدارية، ونقابات العمال – في الاتحاد السوفيتي وكالة المستخدم الأساسي للعمال الصناعيين – الحكومة. خاصية أخرى لقانون العمل السوفيتي الحالي هي النصوص العقابية العديدة، قانون العمل هو إلى حد كبير قانون جنائي. (67)
عمل المرأة
إن ظروف العمال ككل هي بالتأكيد قاسية، أما ظروف العاملات الإناث فإن أبسط ما يقال عنها أنها شنيعة. فقانون العمل لعام 1922 قد حرم استخدام النساء (والصغار) في الإنتاج الثقيل وغير الصحي بشكل خاص، وفي العمل تحت الأرض. (68) كذلك فإن أمرا صادرا عن قوميسارية العمل والمجلس الاقتصادي الأعلى في 14 نوفمبر 1923 حرم تشغيل النساء في عمل يتمثل بالكامل في حمل أو تحريك أثقال تزيد عن عشرة أرطال روسية (1ر4 كيلوجرام). حمل أثقال تصل إلى 40 رطل روسي (4ر16 كيلوجرام) كان مسموحا به فقط إذا كان متصلا مباشرة بعمل المرأة العادي، ولم يشغل أكثر من ثلث يوم عملها. (69) اليوم، لا يوجد أي من هذه الإجراءات الوقائية. فعلى سبيل المثال، تعمل النساء في المناجم، وكثيرا ما يقمن بأثقل الأعمال فيها، وتصف السلطات السوفيتية هذا بأنه إنجاز عظيم. ينطبق هذا أيضا على حمل الأحمال الثقيلة في صناعة البناء، والعمل كعمال شحن وسكك حديدية وما إلى ذلك.
في1932، طلب المجلس العلمي لقوميسارية العمل من أربعة معاهد مكلفة بالبحث في الأمراض المهنية في مختلف مناطق استخراج الفحم أن تقوم بدراسة أثر العمل تحت سطح الأرض على النساء.
أجرى المعهد القائم في منطقة الفحم في القوقاز دراسة طبية على 592 عاملة فحم، منهن 148 يعملن فوق سطح الأرض و 444 تحت سطح الأرض، وتوصل إلى أن العمل تحت سطح الأرض ليس أكثر ضررا للنساء الحوامل من العمل فوق سطح الأرض. وبالإضافة إلى ذلك، أجمعت المعاهد المكلفة بإجراء هذا البحث على أن زيادة كبيرة في عمل النساء في مناجم الفحم – مع تضمن هذا العمل عمليات عديدة تحت سطح الأرض – ممكنة دون أي ضرر لجسم المرأة. (70) تقوم النساء في المناجم بكل أنواع العمل، بما في ذلك الشحن والتقطيع، بشهادة الصحافة الروسية. كتبت إحدى الصحف الحزبية: لأول مرة في حوض دونيتز، تم تنظيم فريق من عاملات الشحن. الآن توجد 10 سيدات في فرقة بابيتشيفا تقوم كل منهن بشحن من أربعة عشر إلى خمسة عشر طنا من الفحم يوميا. هذا الفريق لديه بالفعل عاملة آلة القطع الخاصة به، بولينا تانتسبورا. (71)
يقول كاتب رسمي آخر في عام 1937: النقطة الأكثر تشويقا هي أن النساء السوفيتيات قد كسبن ولا زلن يكسبن في تلك الفروع الصناعية المغلقة أمام النساء في المجتمع الرأسمالي، والتي تعتبر في البلاد الرأسمالية أعمال خاصة بالرجل تستثنى منها النساء “بالطبيعة”. تلعب النساء بالتالي دورا لا يذكر في صناعة التعدين الرأسمالية. نسبة النساء في إجمالي عدد العاملين في صناعات التعدين هي، بالنسبة لفرنسا (1931) 7ر2% ، بالنسبة لإيطاليا (1931) 8ر1%، في ألمانيا (1932). ر1%، في الولايات المتحدة (1930) 6ر0%، وفي بريطانيا 6ر0%. في الاتحاد السوفيتي تمثل النساء 9ر27% من إجمالي عدد العاملين في صناعة التعدين. تعطي مهنة البناء صورة مماثلة في الدول المذكورة أعلاه، النسبة المئوية بالنسبة لهذه المهنة تتراوح بين 5ر0% (إيطاليا) و 9ر2% (ألمانيا) في الاتحاد السوفيتي تمثل النساء 7ر19% في صناعات المعادن تتراوح النسب بين.ر3% (الولايات المتحدة) و 4ر5% (بريطانيا). في صناعات المعادن في الاتحاد السوفيتي 6ر24% من جميع العمال نساء. (72) أغفل الكاتب الستاليني ذكر أن هناك بلدين آخرين غير الاتحاد السوفيتي تعمل فيهما كثير من النساء في المناجم – الهند واليابان. (73) والاثنان مشهوران بفظاعة ظروف العمال.
القصة التالية لشاهد عيان للظروف القاسية التي تعمل النساء في ظلها في بناء السكك الحديدية، تسردها شارلوت هالدان، التي كانت ميالة جدا في ذلك الوقت لنظام ستالين:
في أرشانجل كان من الضروري مد خط سكة حديد خفيف لمسافة حوالي خمسة أميال بطول رصيف الميناء… لقد شاهدت هذا العمل، الذي قامت به بالكامل نساء. اكتمل الخط، مع نقاط التحويل، في 48 ساعة. لقد ظللن يعملن نهارا وليلا، تحت ضوء النهار والضوء الكهربائي. كان الثلج يسقط والجو متجمد تقريبا طول الوقت، إلا أن ذلك لم يغير شيئا بالنسبة لعملهن. كان جميع مراقبي الشحنات أيضا من النساء. لقد عملن بالتناوب، 24ساعة عمل و 24 ساعة راحة. أثناء فترة عملهن كن يأخذن راحة عرضية قصيرة لساعة أو ساعتين، حيث يلجأن إلى كوخ خشبي على الرصيف، ويأكلن شربة الكرنب والخبز الأسود، ويشربن الشاي المقلد، وينعسن نعاسا قلقا بملابسهن، ثم يعدن للعمل. (74)
كتب هندوس، وهو متعاطف آخر من المتعاطفين مع ستالين:
إحدى النواحي الملحوظة في الحياة الروسية هي وجود النساء كعاملات يومية. أنهن يعملن بالمعول والمجراف، ويحملن أحمالا ثقيلة من الخشب، ويجررن عربات اليد ذات العجلة الواحدة. عملت النساء تحت الأرض جنبا إلى جنب مع الرجال. من الشائع في أي مدينة رؤية النساء يبنين بالطوب، ويضعن العوارض الخشبية، وينجزن المهام الثقيلة الأخرى في البناء. وهن يبرزن في مثل هذه الأعمال في نوبات الليل كما في نوبات النهار. (75)
جنبا إلى جنب مع تقارير كهذه، كم يبدو ساخرا تصريح ستاخانوف (بالنسبة للشعب السوفيتي، أصبح العمل متعة).(76)
العمل القهري:
في روسيا يوجد العمل القسري بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة. على سبيل المثال، تبرم العقود بين رؤساء الكولخوزات والشركات الصناعية أو المناجم أو مشروعات النقل، بحيث يتكفل الكولخوز بتوفير عدد معين من العمال. مثل هذه الأنواع من العمل القسري، مع ذلك لن يتم تناولها في هذا القسم. سنتناول فقط العمل القهري في شكله الأقصى، في معسكرات العبيد، حيث لا تشترى قوة العمل أو تباع كسلعة، لأن العامل نفسه ليس لديه أي حرية قانونية. حتى الخطة الخمسية الأولى، كان عمل السجناء محصور في نطاق ضيق جدا، بحيث لم يكن له أي أهمية في الاقتصاد الروسي. في عام1928، كان هناك (000ر30) سجين في المعسكرات الروسية، وكانت السلطات تعارض إجبارهم على العمل. في1927، كتب المسئول المكلف بإدارة السجون: ‘استغلال عمل السجناء، نظام اعتصار “العرق الذهبي” منهم، تنظيم الإنتاج في أماكن الحبس، بينما هو مربح من وجهة نظر تجارية إلا أنه يفتقد بشكل جوهري أي مدلول تهذيبي – هذه مسائل مرفوضة بالكامل في أماكن الحبس السوفيتية’(77)، في ذلك الوقت، كانت قيمة الإنتاج الإجمالي لجميع السجناء تساوي نسبة ضئيلة فقط من نفقات العناية بهم.
إلا أنه مع افتتاح الخطة الخمسية، تغير الموقف جذريا. يذكر كيسيليوف – جروموف، وهو مسئول سابق بالبوليس السري في معسكرات العمل الشمالية، يذكر أنه في 1928 كان (000ر30) رجل فقط معتقلين في المعسكرات.0. العدد الإجمالي للسجناء في كل شبكة المعسكرات في 1930 يذكر انه بلغ 662257. (78) وبناء على الأدلة المتوفرة، يستنتج دالين أنه بحلول عام 1931 كان هناك حوالي (2مليون) شخص في معسكرات العمل، وفي الفترة بين 33 – 1935 حوالي (5مليون)، وفي 1942 من (8-15) مليون. (79) يقدر انطون سيليجا الذي كان في وقت من الأوقات زعيما للحزب الشيوعي اليوغوسلافي والذي قضى سنوات عديدة في معسكرات الاعتقال الروسية، يقدر عدد السجناء في أوج تطهيرات الثلاثينات بأنه وصل إلى حوالي عشرة ملايين. (80)
إن مدى وحشية العمل الاستعبادي في الاتحاد السوفيتي يمكن قياسها ليس فقط من التقارير المنشورة في الصحافة الروسية عن العقوبات الصارمة لأكثر الجرائم بساطة مثل سرقة الخبز (انظر صفحة ،)، ولكن أيضا بطريق غير مباشر من إحصائيات الناخبين كل من بلغ الثامنة عشر أو تجاوزها له حق التصويت، باستثناء نزلاء معسكرات العمل القسري. وفقا للتعداد السكاني لعام1939، كان 4ر58% من السكان يبلغون ثمانية عشر عاما أو أكثر في ذلك الوقت، بحلول عام1946، يكاد يكون من المؤكد أن هذه النسبة قد ارتفعت. فمن ناحية ، كانت نسبة الأطفال في المناطق الجديدة المضافة للاتحاد السوفيتي، مثل ليتوانيا ولاتفيا، أقل منها في أراضي روسيا سنة 1939، ومن ناحية أخرى، لم تسبب الحرب فقط زيادة أكبر في معدل وفيات الأطفال عن معدل وفيات الكبار، ولكنها أيضا سببت انخفاضا شديدا في معدل المواليد. ولكن حتى بافتراض أن نسبة من يبلغون ثمانية عشر عاما أو أكثر كانت في 1946 تقريبا كما هي في1939، فإنه من بين سكان يبلغ عددهم 193 مليون نسمة يصبح عدد من كانوا في هذه المجموعة العمرية 7ر112 مليون شخص. ومع ذلك، فإن 7ر101 مليون فقط كان لهم حق التصويت في الانتخابات. وفقا لهذه الطريقة في الحساب، على الأقل لابد أنه كان هناك 11 مليون شخص في معسكرات العمل الاستعبادي.
هناك مؤشرات أخرى إلى الطابع المكتظ لمعسكرات العمل القسري – على سبيل المثال – تم حل جمهورية الفولجا أثناء الحرب العالمية الثانية بزعم عدم ولائها للنظام، وأبعد سكانها، في أغلب الظن إلى معسكرات العمل. وفي مناطق الاتحاد السوفيتي التي سبق أن احتلها الألمان تم حل عدد من الجمهوريات. حالات الحل هذه لم تذكر حتى في الصحف وعندما نشرت “برافدا”، في 17 أكتوبر1945، قائمة بالدوائر الانتخابية للانتخابات العامة المقبلة، تم اكتشاف أن عددا من الجمهوريات قد اختفت، منذ متى لا يستطيع أحد أن يعلم. وكانت الجمهوريات التي اختفت هي جمهورية القرم التتارية ذات الحكم الذاتي، وجمهورية كالموك، وجمهورية شيشينو – اينجوشي، بالإضافة إلى منطقة كاراتشيف ذات الحكم الذاتي. (81) أصبحت جمهورية كاربادينيا – بالكار ذات الحكم الذاتي جمهورية كاربادينيا بعد طرد البالكار. (82) كان عدد سكان هذه المناطق أكثر من مليوني نسمة. ولا تتوفر معلومات رسمية عن أماكن وجودهم مرة أخرى، في أغلب الظن , تم إرسالهم إلى معسكرات العمل.
إلا أن أوضح إشارة إلى الدرجة التي وجد بها العمل الاستعبادي في روسيا من مصدر رسمي سوفيتي توجد في خطة الدولة لتنمية الاقتصاد القومي لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية لعام 1941. (83) وفقا لهذا المصدر، فإن قيمة الناتج الإجمالي لكل المشروعات المدارة بواسطة وزارة الداخلية كان مخططا أن تكون، في1941، 1969مليون روبل بأسعار عام 1926 – 1927. (84) أي تقدم عن عام 1925 عندما كان الناتج الإجمالي لكل العمل السجين 8ر3 مليون روبل. (85) – تضاعف الإنتاج 500 مرة ! إذا كان إنتاج العامل السجين الواحد في 1941 مساويا لما كان عليه في1925، فإن هذا يعني وجود 15 مليون من العمال المستعبدين. في الأغلب، كانت إنتاجية العمل في المعسكرات أعلى بكثير في عام 1941 منها في عام1925، وفي الأغلب، أن تقدير ناتج مشروعات وزارة الداخلية وبأسعار عام 1926 – 1927 الثابتة، فيه بعض المغالاة. ولكن حتى بعد عمل التصحيحات اللازمة، فمن الواضح أن معسكرات العمل الاستعبادي احتوت على ملايين الناس.
إن استحالة الحساب الدقيق لعدد العمال المستعبدين في المعسكرات تعود إلى عدم وجود أية إحصائيات رسمية على الإطلاق، حتى بداية الثلاثينات نشر حجم كبير من الإحصائيات حول المحاكمات والسجون والسجناء، ولكن منذ ذلك الوقت، توقف نشر مثل هذه الأرقام تماما. انه لدليل واضح على ذلك أن كتابا بعنوان إحصائيات المحاكم، كتبه أ. أ. جيرتسنزون (موسكو1948)، يعطي أرقاما فعلية عن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا والهند وبلجيكا والدنمرك وفنلندا وإيطاليا واليونان وهولندا والنمسا والسويد وسويسرا والنرويج، أما عن الاتحاد السوفيتي فهو يعطي فقط السنوات1، 2، الخ.. دون ذكر ما هي هذه السنوات والمناطق، انه يذكر فقط أن هذه المناطق بها 7ر4 مليون من السكان. ولما كان هذا الرقم يمثل نسبة مئوية صغيرة جدا من مجموع سكان الاتحاد السوفيتي، فإننا لا نستطيع أن نستنتج منه أرقاما مطلقة أو حتى اتجاهات عامة.
انه من المهم جدا ملاحظة أن النتائج المنشورة للتعداد السكاني لعام 1939 لا تحتوي على توزيع السكان على المناطق. هذه المعلومة – التي دائما ما تشملها جداول التعداد العادية – كانت ستسمح بتقدير عدد الأشخاص في معسكرات العمل الاستعبادي بدقة كبيرة، لأن بعض المناطق معلوم جيدا أنها تكاد لا تحوي سكانا أحرارا.
وقدم مرسوم العفو الصادر في 27 مارس 1953 دليلا واضحا على وجود الأطفال والأمهات والحوامل وكبار السن من الرجال والسيدات في معسكرات العمل الروسية. فهذا المرسوم أفرج عن نساء أمهات لأطفال أقل من عشر سنوات، والرجال فوق 55 عاما، ونساء فوق 50 عاما، وأيضا السجناء الذين يعانون من أمراض خطيرة مستعصية (86) من السجون ومعسكرات العمل.
إن العمل العبودي عموما يعتبر غير منتج. والحكومة السوفيتية تلجأ إليه على هذا النطاق الضخم ببساطة لأنها نسبيا أفقر كثيرا في رأس المال منها في الأيدي العاملة بالمقارنة ببلاد أوروبا الغربية المتقدمة والولايات المتحدة. في نفس الوقت – فيما يبدو ظاهريا أنه تناقض – يسهم العمل العبودي في التغلب على الاختناقات الناتجة عن ندرة العمل في بعض المناطق والصناعات. في جميع فترات التاريخ، كلما كان العمل نادرا فإن الدولة كانت تفرض قيودا قانونية على حرية العمال، كما حدث في أوروبا الغربية في القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، ومرة أخرى في القرن السابع عشر. المستعبدون في معسكرات ستالين هم شكل فج “لجيش العاطلين” في الرأسمالية التقليدية، أي أنهم يستخدمون لإبقاء باقي العمال “في أماكنهم”. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تذكر أنه في الاتحاد السوفيتي هناك كثير من المهام شديدة التنفير التي يجب إنجازها (في أقصى الشمال، على سبيل المثال)، التي لا يمكن أن يقبل العمال الأحرار أو حتى نصف الأحرار القيام بها إلا في مقابل منح حوافز قوية جدا. وعلى الرغم من إنتاجيته الشديدة الانخفاض، فإن العمل العبودي، في مثل هذه الحالات، هو أرخص وسيلة، إن لم يكن الوسيلة الوحيدة. ويعطي النص التالي المقتبس من “ازفستيا” مثالا على ذلك ففي وصفها للعمل في خط سكة حديد جديد مبني في سيبيريا بالعمل القسري، تشير الجريدة إلى أن: “حتى الوقت الحاضر، كان الاعتقاد أن موسم البناء لا يتجاوز مائة يوم في العام. فالشتاء شديد البرودة 50 درجة تحت الصفر، ولكن البناة أثبتوا، أنه حتى تحت هذه الظروف، يمكن العمل على مدار العام بأكمله دون توقف”. (87)
لا يستطيع المرء أن يجد خاتمة لهذا القسم أفضل من اقتباس كلمات فيشنسكي: الحماس للعمل، والوعي الاشتراكي، والشعور السامي بالواجب تجاه الدولة والوطن والشعب السوفيتي، هي التي تحدد مسائل انضباط العمل بيننا – وليس العقوبات أو تهديدات العقاب الجنائي كما في البلاد الرأسمالية. (88)
خضوع الاستهلاك للتراكم – خضوع العمال لوسائل الإنتاج
في ظل الرأسمالية، يخضع استهلاك الجماهير للتراكم. أحيانا يزيد الاستهلاك مع زيادة التراكم، وأحيانا أخرى يقل في حين يزيد التراكم، ولكن دائما، في كل الظروف، تظل العلاقة الأساسية كما هي.
إذا تتبعنا تاريخ روسيا منذ أكتوبر، فإننا نجد أن هذا الخضوع لم يكن موجودا عند إدخال الخطة الخمسية الأولى، ولكن منذ ذلك الوقت فصاعدا، قد عبر عن نفسه بوحشية غير مسبوقة، سيتضح هذا من الجدول التالي: (89)
تقسيم الناتج الإجمالي للصناعة إلى وسائل إنتاج ووسائل استهلاك (بالنسبة المئوية)
| 1913 | 1927- 1928 | 1932 | 1937 | 1940 | 1942 (مستهدف) | |
| وسائل إنتاج | 44.3 | 32.8 | 53.3 | 57.8 | 61.0 | 62.2 |
| وسائل استهلاك | 55.7 | 67.2 | 46.7 | 42.2 | 39.0 | 37.8 |
حتى لو لم تقل هذه الأرقام الرواية كلها، حيث أنه من المؤكد أن هذا الحساب الرسمي لم يعط الوزن الكافي لوقائع أن ضرائب الاستبدال تفرض أساسا على وسائل الاستهلاك، وأن الدعم مخصص بالكامل تقريبا لوسائل الإنتاج (أنظر أدناه) مع ما ينتج عن ذلك من تشويه لنظام الأسعار.
الأرقام المتوفرة بشأن التغير الفعلي في حجم إنتاج السلع الاستهلاكية ضئيلة جدا، وفي تفسيرها نواجه بالفعل صعوبات شديدة.
ليس من الصواب حساب منتجات، مثل الخبز، التي لا تعكس الزيادة في ناتجها زيادة إجمالية في الإنتاج، وإنما مجرد التحول من التصنيع المنزلي، غير المشمول في الإحصائيات، إلى الصناعة، التي تغطيها الإحصائيات. (90)
| 1913 | 1928-1929 | 1932 | 1937 | 1945 | 1949 | 1950 | |
| سلع قطنية (ألف مليون متر) | 2.9 | 2.74 | 2.7 | 3.4 | 1.7 | 3.7 | 3.8 |
| سلع وفية(مليون متر) | 95.0 | 96.6 | 91.3 | 108.3 | 56.9 | 153.9 | 167.0 |
| أحذيةجلدية مليون زوج) | 23.2 | 28.0 | 164.2 | 60.0 | 116.0 | 502.0 | |
| سكرخام(ألف طن) | 129.0 | 1340.0 | 828.0 | 2421.0 | 2522.0 | ||
| ورق لف (ألف طن) | 197.0 | 316.0 | 478.5 | 831.5 | |||
| جوارب(مليون زوج) | 154.0 | 401.0 | 83.0 | 340.3 | |||
| كتان(مليون متر) | 162.0 | 130.0 | 278.0 | ||||
| صابون(ألف طن) | 357.2 | 495.0 | 668.0 |
هذا الجدول لا يظهر سوى زيادة متواضعة جدا في إنتاج السلع الاستهلاكية – باستثناء الأحذية الجلدية والورق والسكر.
فيما يتعلق بتفسير هذه الأرقام، ينبغي الإشارة إلى أنه في حين أن أرقام 1913 معدلة بالنسبة للأراضي الروسية المتقلصة بعد الثورة، فإن أرقام عامي 1945 و 1949 غير معدلة بحيث تتلائم مع أراضي ما بعد الحرب التي اتسعت اتساعا كبيرا. (شمل ما ضمته روسيا منذ 1939 فصاعدا، كما سنذكر فيما بعد، ليتوانيا ولاتفيا واستونيا والجزء الشرقي من بولندا.. الخ.) وبالإضافة إلى ذلك، قدمت المصانع الصغيرة جدا إسهاما هاما في إنتاج السلع الاستهلاكية، حتى 1928 على الأقل. في1929، شغلت الشركات الصناعية كبيرة الحجم معرفة على أنها تلك التي تشغل أكثر من ثلاثين شخصا، أو لديها قوة محركة تشغل خمسة عشر شخصا – 2ر3 مليون شخص، في حين شغلت الصناعة صغيرة الحجم 5ر4 مليون شخص.
ومع ذلك، فإن السلع المنتجة بهذه الطريقة أثناء فترة الخطة لم تندرج في الإحصائيات الستالينية. ربما يشرح هذا الزيادة الهائلة (على الورق) في إنتاج الأحذية الجلدية، وهي زيادة لا يمكن معادلتها مع ما هو معروف عن عرض المتاح للجلد. عدد الحيوانات المذبوحة سنويا بعد التوجه الكبير نحو نظام المزارع الجماعية لا يمكن أن يكون قد وصل للعدد المذبوح قبل ذلك، إذ أنه في 1938 فقط، وليس قبل ذلك، اقترب العدد الإجمالي للماشية مرة أخرى من مستوى عام 1929. (في عام1929، بلغ عدد الأبقار 1ر68 مليون، وفي1938، 2ر63 مليون، بلغ عدد الخراف والماعز، 2ر147 مليون و 1ر102 مليون على التوالي). (91) بالإضافة إلى ذلك، بلغ فائض الوارد من الجلود على الصادر منه 3ر45 ألف طن في 27 -1928، في مقابل 6ر15 ألف طن فقط في 1939. (92) من البديهي أن زيادة إنتاج الأحذية الجلدية في نفس الوقت الذي يقل فيه عرض الجلد كان يحتاج إلى ما لا يقل عن معجزة بالنسبة للجوارب، هناك واقعة على درجة قصوى من الأهمية مهملة: كانت غالبية الجوارب تنتج بواسطة حرفيين. أما بالنسبة للورق، فقد زاد الناتج زيادة هائلة بلا شك، نظرا لاحتياجات الدعاية الحكومية، واحتياجات الإدارة والاحتياجات الثقافية المرتبطة بالتصنيع.
يصبح خضوع الاستهلاك للتراكم واضحا بدرجة كافية إذا وضعنا جنبا إلى جنب سلسلة الناتج المستهدف من السلع الاستهلاكية في الخطط الخمسية المختلفة، وسلسلة الناتج المستهدف من السلع الإنتاجية. سيتضح أن الحكومة السوفيتية في حين تعد بزيادة في إنتاج وسائل الاستهلاك مع كل خطة خمسية، فإنها تحدد الهدف الفعلي للخطة عند حجم من الإنتاج لا يتجاوز المستهدف في الخطط السابقة، يظهر هذا بوضوح في الجدول التالي: (93)
أهداف الإنتاج عند نهاية الخطط الخمسية
| بعض وسائل الاستهلاك | الخطة الأولى | الثانية | الثالثة | الرابعة | الخامسة |
| سلع قطنية(ألف مليون متر) | 4.7 | 5.1 | 4.9 | 4.7 | 6.1 |
| سلع صوفية(مليون متر) | 270.0 | 227.0 | 177.0 | 159.0 | 257.0 |
| كتان (مليون متر) | 500.0 | 600.0 | 385.0 | ||
| جوارب(مليون زوج) | 725.0 | 580.0 | |||
| أحذية(مليون زوج) | 80.0 | 180.0 | 258.0 | 240.0 | 318.0 |
| صابون (ألف طن) | 1000.0 | 925.0 | 870.0 | ||
| سكر(مليون طن) | 2.6 | 2.5 | 3.5 | 2.4 | 4.3 |
| ورق (ألف طن) | 900.0 | 1000.0 | 134.0 | 1740.0 | |
| زيت خضار(ألف طن) | 1100.0 | 750.0 | 850.0 | 880.0 | 1372.0 |
| بعض وسائل الإنتاج | |||||
| تيار كهربائي (مليار كيلوات / ساعة) | 0ر22 | 0ر33 | 0ر75 | 0ر82 | 5ر162 |
| فحم مليون طن | 0ر75 | 5ر152 | 0ر243 | 0ر250 | 0ر372 |
| حديد خام (مليون طن) | 0ر10 | 4ر17 | 0ر22 | 5ر19 | 1ر34 |
| حديد صلب(مليون طن) | 4ر10 | 0ر17 | 0ر28 | 4ر25 | 2ر44 |
| نفط (مليون طن) | 7ر21 | 8ر46 | 0ر54 | 4ر3 | 9ر69 |
ومع ذلك، فإن الحكومة الروسية عندما تفاخر بأنها في عام 1950 ستصل إلى مستوى 7ر4 مليار متر من السلع القطنية، فإن كونها قطعت على نفسها نفس الوعد قبل عشرين عاما – عندما كان عدد السكان في الاتحاد السوفيتي أقل مما هو عليه الآن بحوالي خمسين مليون شخص – لا تشعر بالحرج، إذ أن الشرطة والدعاية يتعاونان معا في جعل الذاكرة ناقصة مثلها مثل السلع.
وإذا انتقلنا للإنتاج الفعلي، فإننا لا نجد فقط أن الأهداف بالنسبة للسلع الاستهلاكية أكثر تواضعا بكثير منها بالنسبة للسلع الرأسمالية، ولكننا نجد أيضا (وفقا للأرقام الرسمية أيضا) أن معدل تحقيق هذه الأهداف أقل بكثير في الأولى عنه في الأخيرة.
النسبة المئوية لتحقيق الزيادة المستهدفة في الخطط الخمسية الأولى والثانية والرابعة (94)
| وسائل الإنتاج | الأولى | الثانية | الرابعة |
| الفحم | 27.3 | 71.5 | 112.9 |
| النفط الخام | 107.1 | 33.6 | 154.5 |
| الكهرباء | 49.1 | 93.5 | 124.6 |
| الحديد الخام | 43.3 | 83.8 | 97.8 |
| الصلب | 24.4 | 106.4 | 126.8 |
| الصلب الأسطواني | 19.3 | 100.0 | 163.8 |
| الأسمنت | 36.3 | 49.1 | 95.7 |
| وسـائل الاستهلاك | الأولى | الثانية | الرابعة |
| سلع قطنية | 3.0 | 31.0 | 8.8 |
| سلع صوفية | 3, 3 | 10.6 | 111.3 |
| أحذية | 26.1 | 83.3 | |
| ورق وكرتون | 32.2 | 52.1 | 72.3 |
| كبريت | 1.6 | 25.4 | — |
| صابون | 36.9 | 21.7 | 96.7 |
تراكم رأس المال من ناحية والفقر من الناحية الأخرى:
حتى عام1928، ورغم تزايد البقرطة، إلا أن التراكم البطيء للثروة في الاقتصاد المهيمن عليه من قبل الدولة لم يصحبه نمو في الفقر، كما يوضح الجدول التالي:
رأسمال الصناعة كبيرة الحجم
| السنة | أسعار26/27 (95) مليون روبل | مؤشر 1921=100 | السنة | الأجور الحقيقية(96) |
| 1921 | 7930 | 100.1 | 1913 | 100.0 |
| 1922 | 7935 | 100.1 | 22/1923 | 47.3 |
| 1923 | 7969 | 100.5 | 23/1924 | 69.1 |
| 1924 | 8016 | 101.1 | 24/1925 | 85.7 |
| 1925 | 8105 | 102.1 | 25/1926 | 96.7 |
| 1927 | 9151 | 115.4 | 26/1927 | 108.4 |
| 1928 | 9841 | 124.1 | 27/1928 | 111.1 |
| 28/1929 | 115.6 |
هكذا، فإنه حتى وفق حسابات الأستاذ بروكوبوفتش، وزير سابق في حكومة كيرنسكي لا يمكن أن يتهمه أحد بالميل للبلاشفة، فإن الأجور الحقيقية للعمال الروس في 1928 – 1929 كانت أعلى بـ 6ر15% مما كانت عليه قبل الحرب. في الوقت نفسه خفضت ساعات العمل بنسبة 3ر22%. وإذا أخذنا أيضا الخدمات الاجتماعية في الحسبان، فإن الزيادة في الأجور الحقيقية تكون أعلى من ذلك. نقطة أخرى يلقي هذا الجدول الضوء عليها في أنه في السنوات القليلة الأخيرة قبل بداية الخطة الخمسية، حيث قوت البيروقراطية نفسها، فقد كانت الأجور الحقيقية تتوقف عن النمو، وتلكأ معدل الزيادة قليلا عن معدل التراكم.
اختلف الوضع جذريا مع افتتاح الخطة، فمنذ ذلك التاريخ فصاعدا، قفز التراكم إلى الأمام بشكل هائل، في حين أن مستوى معيشة الجماهير لم يتخلف فحسب عن معدل التراكم، بل انه انخفض بشكل مطلق بالمقارنة بعام 1928. الجدول التالي يوضح معدل التراكم: (97)
استثمار رأس المال(ألف مليون روبل جاري)
| الإجمالي | في الصناعة | |
| 23/1924 – 27/1928 | 5ر26 | 4ر4 |
| 28/1929 -1932 | 5ر52 | 8ر24 |
| 1933-1937 | 7ر114 | 6ر58 |
| 1938- 1942 (الخطة) | .ر192 | 9ر111 |
| 1946- 1950 (الخطة) | 3ر250 |
حتى لو أخذنا في الاعتبار انخفاض سعر الروبل خلال هذه السنوات فإن نظرة سريعة على هذا الجدول توضح أن تراكما هائلا لرأس المال قد حدث. بأسعار عام1933، كان رأس المال الثابت للصناعة الروسية 3ر10 مليار روبل في 1928 وارتفع إلى 6ر22 مليار روبل في 1932 و 9ر59 مليار روبل في 1937. (98)
منذ عام1928، توقفت السلطات الروسية عن نشر مؤشر الأجور ومؤشر نفقات المعيشة، ومنذ عام1931، أسعار الجملة أو التجزئة. من الصعب جدا، إذن، حساب التغيرات في مستوى الأجور الحقيقية. جميع الأدلة المتاحة تشير مع ذلك، إلى أن المستوى، إجمالا، لم يرتفع منذ إدخال الخطط، هكذا، مثلا، فإن القوة الشرائية للأجور المتوسطة محسوبة بالنسبة للطعام تغيرت على النحو التالي: (99)
| السنة | عدد “سلات الطعام” للأجر الشهري | المؤشـر |
| 1913 | 7ر3 | 100 |
| 1928 | 6ر5 | 4ر151 |
| 1932 | 8ر4 | 7ر129 |
| 1935 | 9ر1 | 4ر51 |
| 1937 | 4ر2 | 9ر64 |
| 1940 | 0ر2 | 1ر54 |
هذا الحساب للتغيرات في القوى الشرائية للأجور معبر عنها في الطعام، تؤكدها إحصائيات متوسط الاستهلاك الفعلي للفرد من السكان لبعض المواد الغذائية.
متوسط الاستهلاك السنوي من الحليب واللحوم للفرد من السكان (بالكيلوجرام) (100)
| الحليب | اللحوم | |||||
| السنة | الإجمالي | الريفي | المديني | الإجمالي | الريفي | المديني |
| 27-1928 | 189 | 138 | 218 | 27.5 | 22.6 | 29.1 |
| 1932 | 105 | 111 | 85 | 13.5 | 10.3 | 21.8 |
| 1937 | 132 | 126 | 144 | 14.5 | 8.5 | 25.5 |
المقارنة بين استهلاك اللحوم، مثلا، في الاتحاد السوفيتي عام 1938 باستهلاكها في ألمانيا وفرنسا أثناء العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر تظهر التدهور المريع الذي حدث في استهلاك الطعام في الاتحاد السوفيتي. في عام 1898 تراوح استهلاك اللحوم في برلين بين 130 و 150 رطلا (61و 68 كيلوجراما) للفرد، وفي بريسلو بلغ المتوسط 86 رطلا (39كيلوجراما للفرد في 1880 – 1889. أظهرت فرنسا الحالة الآتية في 1852: في باريس كان الاستهلاك 31ر79 كيلوجراما، وفي المدن الأخرى 58.87 كيلوجراما، وفي القرى 89ر21 كيلوجراما , وفي فرنسا ككل.5ر33 كيلوجراما. (101)
بالنسبة لاستهلاك بعض السلع الاستهلاكية الصناعية، تم جمع المعلومات الآتية من مصادر سوفيتية.
مقيما حساباته على أساس الأرقام الرسمية لإنتاج السلع القطنية والأحذية، وما ذكره فوزنيسينسك عن النسبة التي يأخذها الجيش والكساء المهني وما إلى ذلك،(102) يصل جاسني إلى النتيجة التالية فيما يتعلق بالاستهلاك المدني لهذه السلع:
كمية السلع القطنية المتاحة للاستهلاك الخاص انخفضت من 2ر15 مترا للفرد في عام 27/1928، إلى أقل من 10 أمتار في1940، (103) ورغم أن عدد الأحذية المتاحة للفرد زاد من 40ر0 زوجا في 27 – 1928 إلى 83ر0 زوجا في1940، إلا أن نفس الفترة شهدت تدهورا شديدا في نوعية الأحذية نظرا لنقص الجلد، (104) متوسط استهلاك الفرد من السلع الصوفية، بعد استبعاد النسبة التي تذهب للجيش والكساء المهني وما إلى ذلك، كانت 66ر0 مترا في1929، و 65ر0 مترا في1937، ومن السكر (الخام)، 5ر8 كيلوجراما في 1929 و 7ر14 كيلوجراما في 1937 (105).
يستطيع المرء أن يرى كم هي منخفضة هذه الأرقام، بإلقاء نظرة سريعة على أرقام ناتج السلع الاستهلاكية في بلاد أخرى: في بريطانيا، في نفس السنة، 1937، بلغ الإنتاج 60 مترا مربعا من السلع القطنية، و 4ر7 مترا من السلع الصوفية، و2ر2 زوجا من الأحذية الجلدية، للفرد. في مواجهة وقائع صلبة كهذه، يستطيع المرء أن يفترض أن كويبيشيف، الرئيس السابق لهيئة التخطيـط ، كان رائق المزاج عندما أعلن أمام المؤتمر السابع عشر للحزب (يناير1932):
نعتقد أنه من الضروري جدا ضمان حدوث زيادة في الناتج من الطعام والصناعات الخفيفة والزراعة، في الخطة الخمسية الثانية، يسمح بأن يتضاعف مستوى الاستهلاك بما لا يقل عن مرتين أو ثلاث مرات. الحساب التقريبي لمستوى الاستهلاك في 1937 يسمح لنا بتأكيد أن الاتحاد السوفيتي في هذه السنة سيكون، فيما يتعلق بمستوى الاستهلاك، البلد الأكثر تقدما في العالم. (106)
إلا أن أقصى تعبير عن خضوع مستوى معيشة العمال لاحتياجات تراكم رأس المال نراه في ظروف الإسكان الخاصة بالشعب الروسي. لم تتحقق أبدا خطط الحكومة والتعاونيات لبناء المساكن منذ إدخال الخطط الخمسية، كما يوضح الجدول التالي: (107)
| الإسكان | المستهدف | المتحقق | النسبة المئوية |
| (مليون متر مربع) | للتحقيق | ||
| الخطة الخمسية الأولى | 53 | 6ر22 | 42.6% |
| الخطة الخمسية الثانية | 4ر61 | 8ر26 | 43.9% |
قطعت الحرب الخطة الخمسية الثالثة، ومن ثم فمن الصعب تقدير مقدار تحقق هدف الإسكان.
في نفس الوقت، نما سكان المدن بسرعة شديدة. من المؤكد، إذن، أن هذا الفشل في إنجاز أهداف بناء المساكن يعنى أن متوسط المساحة السكنية للفرد بالنسبة لسكان المدن قد انخفض حتى عن المستوى الضئيل لعام 1928: (108)
| مساحة المعيشة في المدن* | |||
| السنة | سكان المدن (مليون) | الإجمالية (مليون متر مربع) | نصيب الفرد (متر مربع) |
| 1923 | 9ر18 | 4ر118 | 2ر6 |
| 27-1928 | 3ر26 | 2ر160 | 1ر6 |
| 1932 | 7ر39 | 1ر185 | 66ر4 |
| 1937 | 2ر50 | 9ر112 | 5ر4 |
| 1939 | 9ر55 | 0ر225 | 0ر4 |
* هذه المساحة لا تتضمن المطبخ والحمام والمدخل، الخ.
المساحة المعيشية المتوفرة على مدى الفترة التي يغطيها الجدول كانت أقل بكثير من الحد الأدنى النموذجي للوقاية الصحية الذي يبلغ، وفقا لتصريح رسمي في عام1947، 25ر8 مترا مربعا. (109)
كانت المساحة السكنية للفرد في 1949 في بعض البلاد الأخرى كالآتي:
الدنمرك 21 مترا مربعا، ايرلندا17، السويد23، بلجيكا15، فرنسا23، اليونان (تقديرية) 16، ايطاليا12. (110)
يمكن تكوين فكرة عما تعنيه مساحة معيشية تعادل أربعة أمتار مربعة عن طريق ملاحظة أن الحد الأدنى المسموح به في العمارات الجديدة في بريطانيا يتراوح بين 550 و 950 قدما مربعا (111)، أو حوالي 51 إلى 88 مترا مربعا.
والانخفاض في متوسط مساحة الأرضية للفرد أكثر وضوحا في موسكو ولينينجراد والمراكز الصناعية المقامة حديثا عنه في غيرها. إن مقالا في “الأنباء السوفيتية” يمتدح ظروف الإسكان السوفيتية، يقول عن موسكو: “يمكن أخذ فكرة عن تقدم الاتحاد السوفيتي في الإسكان من مثال موسكو، التي هي نموذج يحتذي به لجميع عواصم العالم الأخرى في تنمية المدن الحديثة، فمنذ حلول السلطة السوفيتية، تم بناء 65 مليون قدم مربع من المساكن في موسكو، أو نصف حجم ما تم بناءه في المدينة طوال فترة وجودها قبل الثورة. في كل عام تشهد موسكو حركة إنشائية متصاعدة” (112) إلا أن ما يفسد البهجة – وهو شيء تتجاهله برقة الرواية الرسمية – هو أن سكان موسكو قد زادوا بمقدار يفوق بمدى أبعد كثيرا الزيادة في المنشآت السكنية في عام 1912. كان هناك 6ر1 مليون ساكن، و 9ر11 مليون متر مربع من المساحة السكنية، بمتوسط 4ر7 مترا مربعا للفرد، في1939، 137ر4 مليون ساكن، و 4ر17 مليون متر مربع من المساحة السكنية، بمتوسط 2ر4 مترا مربعا فقط للفرد، وفي عام1950، ارتفع عدد السكان إلى 1ر5 مليون والمساحة السكنية إلى 6ر18 مليون متر مربع فقط، بمتوسط 65ر3 مترا مربعا للفرد لا أكثر.
المنازل التي تم بناؤها في ظل الخطط كانت شديدة البدائية. فمثلا، من كل المنازل المدينية المبنية في عام1935، كان 32% بلا إمداد من المياه، و 38% بلا صرف صحي، و 7ر92% بلا إمداد من الغاز، و 7ر54% بلا تدفئة مركزية. (113) في عام1939، في المنازل الجديدة التي تشرف عليها سوفييتات المدن في الاتحاد السوفيتي (والتي شملت معظم أفضل المباني السكنية)، كانت النسب المئوية للمساحة السكنية ذات المرافق الآتية كالآتي: أنابيب المياه، 5ر60%، الصرف الصحي، 7ر43%، التدفئة المركزية، 5ر17%، الضوء الكهربائي 8ر93%، الحمامات 7ر11%. (114) تفتقد مدن بأكملها المرافق العامة الأكثر أولية. انه لمما يصدم بالتأكيد، على سبيل المثال، أن نكتشف أن الخطة الخمسية الرابعة شرعت في إدخال الصرف الصحي إلى ثلاث عشرة مدينة منها أرشانجلسك (بعدد 281091 من السكان في عام1939)، وتومسك (بعدد 141215 من السكان في نفس السنة)، واركوتسك (بها 243380 ساكن)، وخيرسون (97186). (115) من بين 2354 مدينة ومستوطنة عمالية، 460فقط كان بها أنابيب مياه، و 140 كان بها صرف صحي، و 6 كان بها إمداد غاز. (116)
هذه هي الوقائع التي “يستند” إليها الإعلان الرسمي الآتي “إن معدل وحجم بناء المساكن في الاتحاد السوفيتي ليس له مثيل في باقي العالم”، كما يستند إليها إعلان مماثل صدر قبل ذلك بحوالي خمسة عشر عاما بأن “الظروف السكنية لعمال الاتحاد السوفيتي أفضل بما لا يقبل المقارنة منها في أي دولة رأسمالية”. (117)
إن زعم “الأنباء السوفيتية” أن بناء المساكن في روسيا تخطى بناء المساكن في أي بلد آخر، يبعث على السخرية، كما تبين الأرقام التالية: في الستة عشر عاما بين 1923 و 1939 كانت هناك زيادة ب 6ر106 مليون متر مربع فقط في تسهيلات الإسكان في مدن روسيا، في حين أنه في إنجلترا وويلز، في الأربعة أعوام 1925 – 1928 وحدها، تم بناء مساحة سكنية لا تقل عن 70 مليـون متر مربع. (118)
هل من الضروري تقديم براهين إضافية على أن تراكم الثروة من ناحية يعنى تراكم الفقر من ناحية أخرى؟
صناعة خاضعة للحرب
من الصعب جدا الوصول إلى صورة واضحة عن حجم الصناعات الحربية. فأرقام الميزانية حول الدفاع تعني القليل جدا كما يظهر من المقارنة التالية بين المقادير المخصصة للدفاع والرفاهية الاجتماعية – الثقافية (التعليم، الصحة، الإعداد البدني، المعاشات.0 الخ.) (119)
| السنة | الدفاع | الرفاهية (الاجتماعية والثقافية) |
| 1935 | 2ر8 | 1ر13 |
| 1936 | 9ر14 | 0ر20 |
| 1937 | 5ر17 | 7ر25 |
| 1938 | 2ر23 | 3ر35 |
| 1939 | 2ر39 | 4ر37 |
| 1940 | 1ر56 | 9ر40 |
| 1946 | 6ر73 | 0ر80 |
| 1947 | 3ر66 | 0ر106 |
| 1948 | 3ر66 | 6ر105 |
| 1949 | 2ر79 | 0ر116 |
| 1950 | 9ر82 | 9ر116 |
| 1951 | 9ر93 | 9ر118 |
لاحظ أنه في عام1940، قبيل الغزو النازي، كانت ميزانية الدفاع تزيد بمقدار يسير جدا فقط عن تلك المخصصة للرفاهية الاجتماعية والثقافية، وأنها في عام1949، عندما كانت الحرب الباردة، قد بدأت تحتدم، كانت أقل. إن هذا غريب حقا.
بعض العوامل المساهمة في هذه الظاهرة الإحصائية المحضة هي:
بعض نفقات وزارة الداخلية تخدم أغراضا عسكرية.
نفقات بناء مصانع الذخيرة، والمباني العسكرية، والثكنات وما إلى ذلك محسوبة ضمن ميزانيات وزارات غير وزارة الدفاع.
نفقات المدارس العسكرية محسوبة ضمن ميزانية وزارة التعليم.
إلا أن كل هذه العوامل، وعوامل أخرى مماثلة، لا تقطع سوى شوط قصير نحو تفسير ميزانية الدفاع الضئيلة. التفسير الأساسي يتمثل في الرخص الشديد – المصطنع – للأسلحة. فنتيجة للضرائب الاستبدالية الثقيلة على وسائل الاستهلاك والدعم الهائل للصناعات الثقيلة خصوصا التسليح، لذا فإن علاقات الأسعار بين منتجات الصناعات الثقيلة ومنتجات باقي الاقتصاد مشوهة بشدة. فالفحم والصلب الذي يدخل في إنتاج الآلات التي تنتج الأسلحة، والفحم والصلب الذي يدخل في الإنتاج المباشر للأسلحة ذاتها، ونقل كل هذه العناصر وما إلى ذلك، كل هذا مدعوم بشدة هكذا فإن أسعار الأسلحة تخفض بشكل تراكمي عن طريق نظام الدعم. مادامت الضرائب الاستبدالية تكون حوالي ثلثي أسعار السلع الاستهلاكية، وما دام الدعم، بطريق مباشر وغير مباشر في الأغلب يخفض سعر الأسلحة إلى حوالي ثلث نفقات إنتاجها الفعلية، فعلى المرء لكي يحصل على صورة سليمة، أن يضرب سعر الأسلحة في تسعة، ويقارن هذا الرقم برقم السعر الإجمالي للسلع الاستهلاكية (بما فيها الخدمات الاجتماعية والثقافية). إذا لم يفعل ذلك، فإن الصورة تظل بعيدة عن الواقع تماما. فعلى سبيل المثال، نصت خطة 1941 على أن السعر الإجمالي لمنتجات جميع الصناعات الدفاعية يكون 40300 مليون روبل، في حين يكون هذا السعر 46000 مليون روبل بالنسبة لصناعات النسيج، أي أعلى من الصناعات العسكرية. (120)
رغم كل هذه الصعوبات، فإن لدينا بفضل الأستاذ م. جاردنر كلارك بجامعة كورنل، صورة معقولة الدقة عن وزن إنتاج الأسلحة في الاقتصاد الروسي.
معتمدا كليا على مصادر رسمية، قام الأستاذ كلارك بحصر مقدار الحديد والصلب المستخدم في إنتاج الذخيرة من الناتج الإجمالي لهذا المعدن في روسيا وكذلك المقدار المستخدم منه في بناء مصانع الذخيرة. يلخص الجدول التالي نتائج بحثه.(121)
استهلاك صناعات الذخيرة في الاتحاد السوفيتي للحديد والصلب
1932- 1938 (بآلاف الأطنان المترية والنسب المئوية)
| البند | 1932 | 1933 | 1934 | 1935 | 1936 | 1937 | 1938 |
| أ)* | |||||||
| 1-إجمالي استهلاك الذخيرة | 6ر1646 | 1ر1378 | 6ر2204 | 9ر2667 | 3ر2873 | 1ر4019 | 2ر4986 |
| 2-الذخيرة كنسبة مئوية من صناعة الآلات | 4ر40 | 6ر32 | 2ر38 | .ر38 | 4ر35 | 1ر47 | 5ر57 |
| 3-الذخيرة كنسبة مئوية من مجموع البناء في الاتحاد السوفيتي | 8ر21 | 5ر17 | 5ر17 | 3ر19 | 4ر17 | 2ر23 | 2ر29 |
| ب) ** | |||||||
| 1-استهلاك الذخيرة من أجل البناء | 3ر252 | 6ر135 | 4ر164 | 8ر290 | 5ر745 | 0ر793 | 1ر880 |
| 2-الذخيرة كنسبة مئوية من بناء مصانع الآلات | 8ر45 | 9ر65 | 8ر14 | 4ر73 | 5ر82 | 5ر84 | 3ر94 |
| 3-الذخيرة كنسبة مئوية من مجموع البناء | 1ر17 | 8ر12 | 3ر11 | 5ر13 | 8ر21 | 7ر24 | 6ر30 |
* القسم أ خاص بالذخيرة (المترجم)
** القسم ب خاص ببناء مصانع الذخيرة (المترجم)
هكذا، ففي تاريخ مبكر مثل عام1932، استهلكت الذخيرة 8ر21% من مجموع الحديد والصلب – وهي نسبة عالية جدا، كما يتضح بمقارنتها بنسبة 2ر29% لعام1938، عندما كانت استعدادات الحرب على أشدها. استهلكت مصانع الذخيرة حوالي نصف مجموع الحديد والصلب المستخدم في بناء مصانع الآلات وفي عام 1938 كان بناء مصانع الآلات الأخرى جميعا قد توقف تقريبا، حيث وصلت حصة مصانع الذخيرة إلى 94.3% من إجمالي الحديد والصلب المستهلك في بناء تلك المصانع.
أخذت القوات المسلحة أيضا جزءا كبيرا من ناتج السلع الاستهلاكية. هكذا، فإن ن.ا. فوزنيسينسكي – بوصفه رئيس هيئة التخطيط – ذكر أن 46% فقط من السلع القطنية المنتجة و 79% فقط من الأحذية قد بيعت في السوق العام، في عام1940، حيث ذهب الباقي بالكامل تقريبا على ما يبدو للجيش (باستثناء قسما صغيرا يخصص لإنتاج ملابس العمل للمصانع، والنقل، الخ) (122). طوال فترة الخطط، تحتل صناعة السلاح مكانا حاسما في نظام روسيا الاقتصادي.
إنتاجية العمل والعامل
إن الارتفاع في إنتاجية العمل في الدولة العمالية يجب أن يصحبه تحسن في ظروف العمال. وكما قال تروتسكي في عام1928، الأجور الحقيقية” ينبغي أن تصبح المعيار الأساسي لقياس نجاح التطور الاشتراكي ” إن “معيار الصعود الاشتراكي هو التحسن الثابت في مستويات العمال”. تعالوا نرى ماذا كانت العلاقة بين ارتفاع إنتاجية العمل ومستوى معيشة العمال في روسيا. الجدول التالي يشير إلى هذه العلاقة(123):
| السنة | مؤشر إنتاجية العمل | مؤشر عدد سلات الطعام لمتوسط الأجر الشهري (124) |
| 1913 | 100 | 100 |
| 1928 | 0ر106 | 4ر151 |
| 1936 | 331.9 | 9ر64 |
هكذا، فحتى عام 1928 لم تكن الأجور أعلى مما كانت عليه قبل الحرب فقط، ولكنها أيضا ارتفعت أكثر كثيرا من إنتاجية العمل، في الفترة بين عام 1928 و1936، في حين أن إنتاجية العمل تضاعفت أكثر من ثلاث مرات، فإن الأجور الحقيقية انخفضت في الواقع بأكثر من 50%.
يمكن التوصل إلى نفس النتيجة بطريقة أخرى بمقارنة مستوى الإنتاجية في روسيا بمستواها في البلاد الأخرى من ناحية، ومستوى معيشة العمال الروس بمستوى معيشة العمال في البلاد الأخرى من الناحية الأخرى. في عام 1913 كان متوسط إنتاجية العمل في الصناعة الـروسية حوالي 25% مما هي عليه في الولايات المتحدة الأمريكية، 35% مما هي عليه في ألمانيا، و 40% مما هي عليه في بريطانيا. وجدت لجنة تابعة لهيئة التخطيط (الجوسبلان) – أنشئت عام 1937 لبحث إنتاجية العمل في الصناعة الروسية – وجدت أنها كانت 5ر40% من الإنتاجية في الصناعة الأمريكية، و 97% من الإنتاجية في ألمانيا (125). هناك مبرر لافتراض أن هـذا الحساب مبالغ فيه، وأن إنتاجية العمل في الصناعة الروسية في عام 1937 كانت حوالي 30% منها في الولايات المتحدة، و70% منها في ألمانيا، وحوالي نفس النسبة من الإنتاجية في بريطانيا. إن شرحا مفصلا لكيفية وصولنا لهذا الاستنتاج كان سيكون طويلا جدا. ولكن حيث أن نتائج لجنة هيئة التخطيط لا تبطل حجتنا، بل على العكس فهي تقويها فقط، فإن الرقم الدقيق ذو أهمية ثانوية.0 استئنافا لما كنا نقوله، ففي حين ينتج العامل الروسي حوالي 70% مما ينتجه العامل البريطاني، فإن مستوى معيشته أقل كثيرا جدا.
في الجدول التالي نفترض أن العامل الروسي يكسب 500 روبل في الشهر، وهو متوسط الأجر لكل موظفي الدولة (بما فيهم البيروقراطية) المستهدف عند نهاية الخطة الخمسية الرابعة في عام 1950. من ناحية أخرى، أخذنا كأساس لحساب الأسعار أسعار المنطقة1، التي يوجد بها أرخص الأسعار في روسيا0 (126) بالنسبة لبريطانيا، أخذنا متوسط إيرادات العمال الأسبوعية على أنه 53 جنيها إسترلينيا. (127) أساس حساب الأسعار هو الأرقام الرسمية المنشورة من مجلس التجارة:
عدد الوحدات التي يستطيع متوسط الأجور الأسبوعية شراؤها
| الوحدة | روسيا | بريطانيا | |
| الخبز القمحي (درجة أولى) | رطل | 7ر41 | 7ر480 |
| الخبز القمحي (درجة ثانية) | رطل | 3ر63 | – |
| الخبز الشيلمي | رطل | 0ر91 | – |
| لحم البقر | رطل | 0ر9 | 79-127 |
| الزبد | رطل | 1ر4 | 2ر77 |
| اللبن | باينت * | 57-81 | 2ر247 |
| السكر | رطل | 5ر18 | 0ر412 |
| البيض | عدد | 82-115 | 3ر706 |
| الشاي | رطل | 6ر1 | 4ر36 |
| القهوة | رطل | 4ر3 | 2ر41 |
| البيرة | باينت | 4ر14 | 2ر88 |
| السجائر | عدد | 0ر464 | 0ر618 |
| أحذية الرجال | زوج | 4ر0 | 2- 5ر4 |
| أحذية السيدات | زوج | 4ر0 | 1-.ر4 |
| جاكتات السيدات (نصف صوفية) | عدد | 6ر0 | 1ر1 – 3ر2 |
| جوارب، قطن السيدات | زوج | 2ر16 | 25-.ر27 |
| نسيج صيني | ياردة | 4ر1 | 23-.ر25 |
| بدل رجالي، بصف واحدة من الأزرار (نصف صوفية) | عدد | 3ر0 | 6ر0 – 5ر1 |
| بدل رجالي (صوف) | عدد | 1ر0 | 2ر0 – 3ر0 |
| أحذية مطاطية وقائية | زوج | 6ر2 | 5ر9 |
| فساتين قطنية | عدد | 2ر0 | 5ر3 -.ر6 |
| فساتين صوفية | عدد | 6ر0 | 8ر0 – 1ر2 |
| كبريت | علب | 0ر577 | ر824 |
| أمشاط، زينة حريمي | عدد | 8ر28 | 103-154 |
| الحاكي | عدد | 12ر0 | 6ر0 |
| أجهزة استقبال راديو(5صمامات) | عدد | 20ر0 | 17% |
| ساعات يد | عدد | 12ر0 | 3ر0 – 5ر0 |
* مكيال للسوائل يساوي ثمن جالون إنجليزي أو 568ر0 من اللتر (المترجم)
إذا كانت إنتاجية العمل للعامل في الصناعة الروسية حوالي أربعة أخماس إنتاجية العمل للعامل في بريطانيا، في حين أن مستوى معيشته يبلغ ربع أو ثلث مستوى العامل البريطاني، إلا نستطيع أن نستنتج أنه لو كان العامل البريطاني مستغلا فأخوه الروسي مستغل أكثر؟ (ملاحظة: كون العامل الروسي اليوم بالمقارنة بالعامل البريطاني اليوم أسوأ حالا من العامل الروسي في ظل القيصر بالمقارنة بالعامل البريطاني في هذا الوقت، يتضح من مقارنة الجدول السابق بالملاحظة التالية لموريس دوب في “روسيا القيصرية”: متوسط الأجر في المناجم والمصانع في عام 1913 عادة ما يقدر على أنه كان بين 20 – 25 روبل في الشهر، أو ما يعادل 40 – 50 شلن بالنقود الإنجليزية وفقا لقوتها الشرائية في ذلك الوقت (أي حوالي 10 – 13 شلنا في الأسبوع) يمثل هذا رقما أقل بعض الشيء من نصف المستوى البريطاني وقتها (موريس دوب، التنمية الاقتصادية السوفيتية منذ عام1917، لندن، 1948ص59).
نزع ملكية الفلاحين
نزعت ثورة أكتوبر ملكية كبار الملاك والكنيسة والملكية. لم تنزع ملكية برجوازية الريف – الكولاك – وأثناء فترة السياسة الاقتصادية الجديدة، لم يزدهر الكولاك القدماء فقط، بل برز كثيرون جدد من صفوف متوسطي الفلاحين0 استغل الكولاك بالاشتراك مع التجار الأفراد فقراء الريف. استمرت الرأسمالية الفردية تحكم الزراعة حتى عام1928، غير إن نظام المزارع الجماعية بدل الوضع من الأساس. لن نناقش أثر التجميع على التمايز الطبقي بين المشتغلين بالزراعة، وإنما سنتناول السؤال التالي فقط: كيف أثر التجميع على الدخل الإجمالي للقطاع الزراعي للاقتصاد؟ العامل الأكثر أهمية الذي ينبغي تناوله عند الإجابة على هذا السؤال هو تأثير التجميع على اقتصاد الدولة من الزراعة، أي تأثيره على التسليم الإجباري: ضرائب، سداد مبالغ مقابل العمل الذي تقوم به محطات الجرارات الآلية والطواحين الحكومية. التسليمات الإجبارية هي ضرائب نوعية بالفعل إن لم يكن بالاسم، لأن الأسعار المدفوعة للكلوخوز منخفضة للغاية. في عام1935، كان السعر المحدد للتسليم الإجباري للشوفان، الذي كانت الحكومة تعيد بيعه بالتجزئة بسعر 55 إلى 100 كوبك للكيلوجرام، 4- 6 كوبك للكيلوجرام. الأرقام بالنسبة للجاودار كانت 60 – 100 كوبك و 6ر4 إلى 9ر6 روبل على التوالي. سعر التجزئة للنشا (نوعية رديئة كان 60 – 70 ضعف السعر الذي كان القمح يشترى به. (128) السعر المدفوع في المنتجات الزراعية الأخرى كان شحيحا بالمثل ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الفروق أكبر. مازالت الحكومة تدفع للمنتجين حوالي 10 كوبك للكيلوجرام من القمح المسلم، في حين أنها – منذ خريف عام 1946 – تتقاضى من المستهلك 13 روبل للكيلو جرام من دقيق القمح (قد يصل المستخرج نسبة 85%)، أكثر من مائة ضعف كمية الحبوب. (129)
ثانيا، تحصل الدولة على نسبة من الإنتاج في صورة مدفوعات نوعية مقابل الخدمات التي تقدمها محطات الجرارات الآلية. وحيث أن محطات الجرارات الآلية تحتكر إمدادات المعدات الزراعية، فهي تتقاضى معدلات عالية مقابل استخدام هذه المعدات.
يظهر الجدول التالي كيفية التصرف في الحبوب التي أنتجتها الكولخوزات في عام 1938 (بالنسب المئوية): (130)
| تسليمات إجبارية | 0ر15 |
| مدفوعات لمحطات الجرارات الآلية | 0ر16 |
| سداد لقروض | 0ر2 |
| مبيعات للحكومة وللسوق | 1ر5 |
| مخصصات لاحتياطي البذور | 6ر18 |
| مخصصات لاحتياطي العلف | 6ر13 |
| احتياطي لمساعدة العاجزين ورياض الأطفال | 8ر0 |
| توزيع على الأعضاء * | 9ر26 |
| مخصصات مختلفة | 5ر2 |
* يتضمن هذا ما يدفع للجهاز الإداري وفقا لمقال كتبه أ. تيريافا، “التقوية التنظيمية الاقتصادية للكولخوزات الموحدة”، فويروسي ايكونوميكي، 1950، عدد12، فإن المدفوعات للجهاز الإداري – آخذا في الاعتبار حجم الكولخوز – كونت النسب التالية من مدفوعات جميع التروديونات: الكولخوزات التي بها مالا يزيد عن 20000 تروديون 8%، 20 – 35 ألف 7%، 35 – 55 ألف 6%، 55 – 75 ألف 5%، 75 – 100 ألف 4%، أكثر من 100 ألف 3%.
ليس هذا فقط، بل إن الدولة أيضا – مرة أخرى هذه هي أرقام عام 1938 – استولت على الحصص الضخمة التالية: (131)
| تسليمات إجبارية | مدفوعات نوعية لمحطات الجرارات | المجموع | |
| بذور عباد الشمس | 7ر38 | 0ر16 | 7ر54 |
| بنجر السكر | 0ر82 | 8ر17 | 8ر99 |
| القطن، المروي | 0ر81 | 5ر17 | 5ر98 |
| القطن، غير المروي | 1ر90 | 0ر5 | 1ر95 |
| لحم (1937) | 0ر30 | – | 0ر30 |
| لبن ومنتجات ألبان(1937) | .ر44 | – | 0ر44 |
| صوف (1937) | 7ر54 | – | 7ر54 |
يمكن مقارنة هذه الأرقام بالنصيب المتواضع للكولخوزيين أنفسهم من إنتاج ما يسمى بمزارعهم “المملوكة جماعيا” (1937): (132)
| حبوب | 9ر35 |
| بذور عباد الشمس | 0ر27 |
| بذر الكتان | 7ر3 |
| كتان | 6ر2 |
| بذور القنب | 7ر15 |
| القنب | 4ر3 |
| بطاطس | 4ر45 |
| لبن | 6ر7 |
| زبد | 6ر26 |
| لحم ودهن | 8ر48 |
| صوف | 7ر7 |
| عسل | 1ر35 |
| بيض | 6ر26 |
في نفس الوقت أجبر الكولخوزيون على العمل أشق وأشق في المزارع الجماعية، كما يظهر من الأرقام التالية: (133)
العدد المتوسط للترودودنات * للعائلة
| السنة | العدد | دليل |
| 1932 | 257 | 0ر100 |
| 1933 | 315 | 5ر122 |
| 1934 | 354 | 4ر133 |
| 1935 | 378 | 1ر147 |
| 1936 | 393 | 8ر152 |
| 1937 | 438 | 7ر170 |
| 1938 | 437 | 0ر170 |
* ترودودن – حرفيا، يوم عمل، ولكن تستخدم فعليا كوحدة مجردة للعمل الكولوخوزي. يوم العمل غير الماهر يساوي نصف ترودودن، يوم العمل لأكثر مهارة على الإطلاق يساوي 5ر2 ترودودن.
أما فيما يتعلق بطول يوم العمل في الكولوخوز، فهو ليس أقصر مما كان عليه في ظل القيصر. في ذلك الوقت كان يوم العمل يبلغ 14 ساعة للعمال الزراعيين، في حين أنه كان 11 ساعة فقط بالنسبة للخيول و 10 ساعات للثيران (134).
يحدد مرسوم حكومي صادر في أول أغسطس 1940 أن يوم العمل في الكولخوزات والسوفخوزات ومحطات الجرارات الأهلية أثناء الحصاد ينبغي أن يبدأ في الخامسة أو السادسة صباحا وينتهي عند غروب الشمس. ومرة أخرى، ذكر كتيب يصف عمل رئيس كولخوز نموذجي بأن يوم العمل في الربيع وفي وقت الحصاد كان 15 ساعة، لا تشمل أوقات الوجبات. (135) يورد كتيب روسي حديث الجداول الزمنية التالية كنماذج:
بالنسبة للغرس الربيعي وفترات الحصاد، يبدأ العمل في الرابعة صباحا، راحة للإفطار من الثامنة إلى التاسعة صباحا، راحة للعشاء من الواحدة إلى الثالثة بعد الظهر، عمل حتى العاشرة مساءا (136)
“بالنسبة للحصاد، العمل من 30ر5 صباحا إلى.0ر9 مساءا”، (فترات الراحة غير معطاة). (137)
رجال الإسطبل المعنيون برعاية الخيل يبدو أن عليهم أن يعملوا من الخامسة صباحا إلى التاسعة مساءا، أو ربما حتى منتصف الليل في الشتاء ومن الثالثة صباحا إلى العاشرة مساءا في الصيف. (138)
عاملات معامل الألبان: يبدأن العمل في الرابعة والنصف صباحا حتى الثامنة مساءا طوال العام، مع فترتي راحة لمدة ساعة ونصف يوميا. (139)، بل ويذكر فترات عمل أوسع لهن في مكان آخر. (بالمناسبة فإن المعدل المطلوب يقتضي أن تعمل عاملات معامل الألبان 365 يوما في العام). (140)
ساعات العمل في مزارع الخنازير من الخامسة صباحا إلى الثامنة مساءا، مع فترتي راحة لمدة ساعتين لكل منهما. (141)
من الطريف ملاحظة أن لينين في كتابه المسألة الزراعية في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر (1908) كتب: “والفلاحون الذين لا يمتلكون خيولا أو يمتلكون حصانا واحدا – أي الفلاحين شديدي الفقر – يدفعون على شكل ضرائب سبع وعشر إجمالي نفقاتهم على التوالي. من المشكوك فيه أن مدفوعات الأقنان كانت على هذا الارتفاع”. (142) الكادحون الزراعيون “في الوطن الاشتراكي” يدفعون أكثر من ذلك كثيرا !.
نظام التجميع لم يحول فقط الذين جاءوا إلى الصناعة إلى بروليتاريين، بل الذين بقوا في الزراعة أيضا. الغالبية العظمى من الزراعيين هم في الواقع – إن لم يكن من الناحية النظرية – أناس لا يمتلكون وسائل إنتاج، بالفعل، إن لدينا مبررات أقل لإطلاق اسم ملاك لوسائل الإنتاج على الزراعيين الروس اليوم، من مبررات إطلاقه على أقنان القرن التاسع عشر.
لقد أسفر نظام التجميع عن تحرير المنتجات الزراعية لتلبية احتياجات التنمية الصناعية، “وتحرير” الفلاحين من وسائل الإنتاج، وتحويل قطاع منهم إلى قوة عمل احتياطية للصناعة وتحويل الباقين إلى أشباه عمال وأشباه فلاحين وأشباه أقنان في الكولخوزات.
نتائج عامة مماثلة، وان تكن مختلفة في بعض الخصوصيات الهامة، حققتها البرجوازية الإنجليزية في القرنين السادس عشر والسابع عشر عن طريق طرد الفلاحين من الأرض. سمى ماركس هذه العملية “التراكم البدائي”. (العملية المرتبطة بنظام التجميع مختلفة في نقطة جوهرية عن تلك التي حدثت في بريطانيا. ففي بريطانيا خلق طرد الفلاحين فائضا من المنتجات الزراعية التي بيعت في المدن، في روسيا تستولي الحكومة على الغالبية العظمى من فائض المنتجات الزراعية كضرائب دون إعطاء أي شيء في المقابل. المترجم”)
كتب ماركس “تاريخ هذا مكتوب في سجلات تاريخ البشرية بالدماء والنار، (143) لقد سالت دماء أكثر غزارة بكثير أثناء التراكم البدائي في روسيا منها في بريطانيا. حقق ستالين في بضع مئات من الأيام ما أخذت بريطانيا بضع مئات من السنين لتحقيقه. النطاق الذي أنجزه عليه، والنجاح الذي لاقاه في إنجازه تبدو تافهة أمامها تماما أعمال دوقة ثاذرلاند، انهما يقدمان شهادة دامغة على تفوق اقتصاد صناعي حديث ممركز في يد الدولة تحت قيادة بيروقراطية لا تعرف الرحمة.
لقد تحقق بالكامل تنبؤ إنجلز حول مستقبل التراكم البدائي في روسيا، وان يكن في ظروف مختلفة عما تخيل. في خطاب إلى دانييلسون، بتاريخ 24 فبراير 1893 كتب إنجلز:
إن ظروف روسيا، كونها آخر بلد تسيطر عليه الصناعة الرأسمالية الضخمة، وفي نفس الوقت البلد صاحب أكبر عدد من الفلاحين لابد أن تجعل الانقلاب الناتج عن هذا التغيير الاقتصادي أكثر حدة منه في أي مكان آخر. إن عملية استبدال حوالي 500 ألف من ملاك الأراضي وحوالي ثمانية ملايين فلاح بطبقة جديدة من ملاك الأراضي البرجوازيين لا يمكن إنجازها إلا في ظل معاناة واضطرابات مخيفة. لكن التاريخ هو أكثر الآلهة قسوة، الآلهة التي تقود سيارتها المنتصرة فوق أكوام من الجثث، ليس فقط في الحرب، وإنما أيضا في التنمية الاقتصادية السلمية ” (144)
ضريبة المبيعات
منذ 1930 كان الإسهام الرئيسي في استثمار رأس المال وفي الدفاع يأتي من ضريبة المبيعات. كما يكتب موريس دوب: ” نستطيع حقا أن نعثر على علاقات وثيقة تماما، كما قد يتوقع المرء، بين الخط البياني الصاعد للإنفاق على الاستثمار والدفاع طوال العقد، والدخل المتصاعد من ضريبة المبيعات. في 1932 كان الدخل من هذه الضريبة، كما رأينا، أكثر قليلا من 17 مليارا. الرقم الإجمالي للإنفاق من الميزانية على الدفاع وتمويل الاقتصاد كان 25 مليارا. في1934، كان الرقمان على الترتيب 37 و37، في1938، كانا 80 و75، في1939، كانا 92 و100، في1940، كانا 106 و113، يقدر أنهما كانا 124 و 144 (الفجوة المتسعة في هذه السنة مغطاة تقريبا بزيادة الضرائب على الأرباح). (145)
ضريبة المبيعات أهم مصادر دخل الدولة الروسية. أنها تمثل النسب التالية من إجمالي دخل الحكومة (باستثناء القروض): (146)
| 1931 | 2,46% | 1932 | 5ر51% | 1933 | 2ر58% | 1934 | 3ر64% |
| 1935 | 5,69% | 1936 | 7ر69% | 1937 | 4ر69% | 1938 | 1ر63% |
| 1939 | 1,62% | 1940 | 7ر58% | 1942 | 8ر44% | 1944 | 3ر35% |
| 1945 | 8,40% | 1946 | 7ر58% | 1947 | 1ر62% | 1948 | 6ر60% |
| 1949 | 8,58% | 1950 | 9ر55% | 1951 | 8ر57% |
وضريبة المبيعات شبيهة بضريبة المشتريات البريطانية، حيث تفرض على السلع وقت التصنيع وعلى المشتريات الحكومية الإجبارية من المنتجات الزراعية من الفلاحين. أنها متضمنة في سعر السلعة، وبالتالي مدفوعة بالكامل بواسطة المستهلك. تفرض الضريبة تقريبا فقط على المنتجات الزراعية وعلى صناعات السلع الاستهلاكية، كما يظهر من الجدول التالي عن نسبة الصناعات المختلفة في الناتج الإجمالي وفي دخل الحكومة من ضريبة المبيعات عام 1939: (147)
| قوميسارية | النسبة المئوية من الناتج الإجمالي | النسبة المئوية من دخل ضريبة المبيعات |
| صناعة البترول | 1ر3 | 0ر8 |
| صناعة اللحوم والألبان | 5ر4 | 3ر7 |
| صناعة الغذاء | 7ر11 | 7ر29 |
| صناعة النسيج | 2ر10 | 0ر13 |
| الصناعة الخفيفة | 9ر7 | 6ر2 |
| المطلوبات الزراعية | 5ر2 | 4ر34 |
| قوميساريات أخرى (خصوصا للصناعة الثقيلة) | 1ر60 | 0ر5 |
هكذا نجد أنه في عام 1939 كان حوالي 90% من دخل ضريبة المبيعات من ضرائب مفروضة على الطعام والسلع الاستهلاكية.
لما كانت ضريبة المبيعات لا تضاف إلى سعر البيع، وإنما تدخل فيه مقدما، فإن ضريبة مبيعات , مثلا 50% ترفع سعر السلعة فعليا بنسبة 100%، ضريبة مبيعات 75% ترفع السعر 300%، وضريبة 90% تسفر عن تضاعف السعر الفعلي عشر مرات. لابد من وضع ذلك في الاعتبار عند دراسة الأرقام المتعلقة بمعدل ضريبة المبيعات. (148):
| السلعة | النسبة المئوية | تاريخ الإقرار للضريبة |
| حبوب، أكرانيا (روبل – قنطار): | ||
| قمح ناعم | 73.0 | – |
| قمح خشن | 74.0 | – |
| شيلم | 60.0 | – |
| شعير | 46.0 | أول ابريل1940 |
| شوفان | 25.0 | – |
| قمح البقر – الحنطة السوداء (علف) | 289.5 | – |
| بطاطس (النسبة المئوية من سعر التجزئة) | 48.0 – 62.0 | 24يناير1940 |
| لحوم (النسبة المئوية من سعر التجزئة): | ||
| لحم البقر | 67 – 71 | – |
| عجل، خنزير، ضأن | 62-67 | – |
| الطيور الداجنة | 20-43 | – |
| سجق، سجق ألماني، لحم مدخن | 50-69 | 24يناير1940 |
| أسماك (النسبة المئوية من سعر التجزئة): | ||
| الأسماك ماعدا الرنجة | 39-53 | – |
| الرنجة القوقازي | 35-50 | – |
| كافيار | 40 | 10أبريل1940 |
| سمك معلب (وفقا للنوع) | 5-50 | – |
| ملح (النسبة المئوية من سعر الجملة): | ||
| سائب | 70-80 | – |
| معبأ، أكياس صغيرة | 35-42 | أول مايو1940 |
| شراب (النسبة المئوية من سعر التجزئة): | ||
| فودكا | 84 | – |
| مشروبات روحية أخرى | 55-78 | أول يناير1940 |
| مشروبات غير كحولية | 20 | 10ابريل1940 |
| تبغ (النسبة المئوية من سعر التجزئة): | ||
| سجائر | 75-88 | – |
| ماخوركا | 70 | أول يونيو1937 |
| سلع قطنية (النسبة المئوية لسعر التجزئة): | ||
| قماش | 55 | – |
| سلع أخرى | 62-65 | أول يناير1938 |
يظهر الطابع التنازلي لهذه الضريبة من واقع أنها في حين تؤثر تأثيرا خفيفا على السيارات (2% لا غير)، وأجهزة الراديو (25%) والكافيار (40%)، فإنها تؤثر بثقل على القمح (73- 74%)، والملح (70- 80%)، والسكر (73%)، وصابون الغسيل (61- 71%)، والسجائر (75- 88%). في ضوء هذه الوقائع، فإنه من المدهش بعض الشيء أن تقرأ التصريح التالي لموريس دوب، الذي يتحدث فيه عن ضريبة المبيعات: “كانت وسيلة لضمان أن الجانب الأعظم من الارتفاع في الأسعار سيتركز في السلع الكمالية أو غير الضرورية وبأقل قدر ممكن في الضروريات. وقد تم ذلك بجعل معدل الضريبة على المبيعات مختلفا للسلع المختلفة، بحيث تتراوح الاختلافات بين1، 2% صعودا إلى حوالي 100%” الضريبة لها تأثير ضريبة نفقات عامة تصاعدية – ضريبة تصاعدية على الدخل عند إنفاقه “، (149) ومرة أخرى: ” فإن أعلى معدلات الضريبة تنزع إلى أن تكون على السلع الكمالية، حيث أن الأخيرة نادرة العرض بشكل خاص لذا فإن التأثير العام للمعدلات التفاضلية يبدو كأنه يجعل هيكل الأسعار ضد السلع غير الضرورية (ومن ثم يجعل الاختلافات الحقيقية في الدخل أقل مما يقود المرء للاعتقاد عند النظر في الاختلافات النقدية لأول وهلة” (150)
لقياس العبء الحقيقي الذي تفرضه ضريبة المبيعات على المستهلكين، سيكون من المفيد أن نفحص في نفس الوقت، المقدار الإجمالي لضريبة المبيعات وصافي مبيعات التجزئة الذي يقابله: (151)
| السنة | إجمالي مبيعات التجزئة | ضريبة المبيعات | صافي مبيعات التجزئة | النسبة المئوية للضريبة |
| 1931 | 27465 | 11643 | 15822 | 6ر73 |
| 1932 | 40357 | 19514 | 20843 | 6ر93 |
| 1933 | 49789 | 26983 | 22806 | 3ر118 |
| 1934 | 61815 | 37615 | 24200 | 4ر155 |
| 1935 | 81712 | 52026 | 29686 | 3ر175 |
| 1936 | 106761 | 65841 | 40920 | 9ر160 |
| 1937 | 125943 | 75911 | 50032 | 7ر151 |
| 1938 | 138574 | 80411 | 58163 | 2ر138 |
| 1939 | 163456 | 96800 | 66656 | 2ر145 |
| 1940 | 174500 | 105849 | 68651 | 2ر154 |
| 1950 (الخطة) | 275000 | 187100 | 87900 | 9ر212 |
الأرقام بملايين الروبلات
إن ضريبة المبيعات، بوصفها ضريبة غير مباشرة، تنازلية، تناقض صراحة البرنامج الأصلي للحزب البلشفي. بل إن حتى برنامج الحد الأدنى الخاص بالبلاشفة، أي برنامج يمكن تنفيذه في ظل الرأسمالية، طالب “بإلغاء جميع الضرائب غير المباشرة، وفرض ضريبة تصاعدية على الدخول والميراث”(152).
أعلن المؤتمر الحزبي الحادي عشر (1922): ” ينبغي أن تهدف السياسة الضريبية إلى تنظيم عملية مراكمة الموارد عن طريق الضرائب المباشرة على الأملاك والدخول، الخ. السياسة الضريبية هي الأداة الرئيسية للسياسة الثورية للبروليتاريا في الفترة الانتقالية “(153) لإزالة التناقض بين القول والعمل، توقفت السلطات تماما عن إطلاق اسم ضرائب على ضرائب المبيعات. أشارجانسي إلى أن الكتاب السنوي لعام 1935 ذكر ضريبة المبيعات بين الضرائب، (154) إلا أن الطبعة التالية من نفس الكتاب السنوي حذفت ضرائب المبيعات من بند “الدخل من الضرائب”، (155) يسمح هذا التغيير في المصطلحات لوزير مالية الاتحاد السوفيتي أن يعلن أمام السوفيت الأعلى: من المعروف أن الجزء الأعظم من إيرادات الميزانية السوفيتية يتكون من مدفوعات بواسطة الاقتصاد القومي. إن نصيب جميع الضرائب المحصلة من السكان يكاد لا يذكر. في عام 1939 كان مجموع الضرائب المدفوعة من السكان 5ر6 مليار روبل، أي نسبة 2ر4%فقط من كل دخول الميزانية. (156)
خضوع الإنسان للأملاك
تقول المادة 6 من الدستور السوفييتي: “الأرض وما تحتويه من مياه وغابات وطواحين ومصانع ومناجم وسكك حديدية ونقل مائي وجوي ووسائل اتصال ومشاريع المزارع الكبرى التي تنظمها الدولة (مزارع الدولة، ومحطات الجرارات الآلية000الخ.) وأيضا التسهيلات السكنية الأساسية في المدن والمناطق الصناعية هي ملك للدولة، أي أنها ثروة الشعب كله”.
من الغريب أنه رغم أن الشعب، من خلال الدولة، يمتلك ثروة البلاد، إلا إن الدولة الروسية عليها أن تتخذ إجراءات فوق العادة لكي تحمي هذه الثروة منه!
في ظل قانون صادر في 7 أغسطس1932، “حول حماية ملكية مشاريع الدولة والمزارع الجماعية والتعاونيات ومؤسسات الملكية الاشتراكية، فإن سرقة أملاك الدولة والكولخوزات والتعاونيات والسرقة على خطوط السكك الحديدية والمجاري المائية يعاقب عليها بالإعدام رميا بالرصاص مع مصادرة كل الممتلكات. وإذا وجدت ظروف مخففة، فإن العقوبة المستحقة تكون السجن لما لا يقل عن عشر سنوات ومصادرة كل الممتلكات. (157) سمى ستالين هذا القانون “أساس الشرعية الثورية” (158)
في واقع الأمر نادرا ما طبق هذا القانون في مجالات السرقات الصغرى. لذا، فعندما أصدر مجلس السوفيت الأعلى للاتحاد السوفيتي مرسوما في 4 يونيو1947، حول ” حماية الملكية الخاصة للمواطنين “، جاء في المادة الأولى منه: (159) “السرقة – أي الاستيلاء على الأملاك الخاصة للمواطنين في الخفاء أو العلن – يعاقب عليها بالحبس في معسكر عمل إصلاحي لمدة من خمس إلى ست سنوات. السرقة المرتكبة بواسطة عصابة من اللصوص أو للمرة الثانية يعاقب عليها بالحبس في معسكر إصلاحي تتراوح بين ست إلى عشر سنوات، (160)، وكان تخفيف القسوة في التعامل مع الجرائم ضد الملكية ظاهريا أكثر منه حقيقيا.
في نفس اليوم، اصدر المجلس أيضا مرسوما حول “اختلاس ملكية الدولة والملكية العامة”، تضمن المواد التالية:
عقوبة السرقة أو الاستيلاء على أو اختلاس أو سائر أنواع التلاعب بملكية الدولة هي الاعتقال في معسكر عمل إصلاحي لمدة تتراوح بين سبع وعشر سنوات، مع أو بدون مصادرة الأملاك.
عقوبة اختلاس ملكية الدولة للمرة الثانية – بالإضافة إلى الاختلاس بواسطة مجموعة منظمة أو على نطاق واسع – هي الاعتقال في معسكر عمل إصلاحي لمدة تتراوح بين عشر سنوات وخمسة وعشرين سنة، مع مصادرة الأملاك.
عقوبة السرقة أو الاستيلاء على أو اختلاس أو سائر أنواع التلاعب بالمزارع الجماعية والتعاونيات أو الأملاك العامة الأخرى هي الاعتقال في معسكر عمل إصلاحي لمدة تتراوح بين خمس وثمان سنوات، مع أو بدون مصادرة الأملاك.
عقوبة اختلاس المزارع الجماعية أو التعاونيات أو الأملاك العامة الأخرى للمرة الثانية – بالإضافة إلى الاختلاس بواسطة مجموعة منظمة أو عصابة أو على نطاق واسع – هي الاعتقال في معسكر عمل إصلاحي من ثمان سنوات إلى عشرين سنة، مع مصادرة الأملاك. (161)
بعد شهر من ذلك، أعطى مكتب المدعي العام عشرة أمثلة على كيفية تنفيذ هذه القوانين:
في مدينة ساراتوف، قام ف. ف. يودين – الذي قد أدين بالسرقة قبل ذلك – بسرقة سمك من مصنع تدخين. في 24 يونيو 1947.00 حكم على يودين بالسجن خمسة عشر عاما في معسكرات العمل التأديبية.
في 11 يونيو1947، قام كهربائي يدعى د. أ. كيسيلوف، من خطوط كهرباء سكة حديد موسكو – ريازان، بسرقة سلع من الفراء من عربة سكة حديد. في 24 يونيو 1947 / حكمت محكمة الحزب الخاصة بسكة حديد موسكو – ريازان على كيسيلوف بالسجن عشرة أعوام في معسكرات العمل التأديبية.
في بلدة بافلوف – يوساد بمنطقة موسكو، قام ل. ن. ماركيلوف بسرقة ملابس من مصنع نسيج بافلوف – يوساد. حكم على ماركيلوف بالسجن ثمانية أعوام في معسكرات العمل التأديبية.
في مقاطعة رودنيكوف بمنطقة ايفانوف، قام كل من ي. ف. سميرنوف وف. ف. سميرنوف. بسرقة 375 رطلا من الشوفان من أحد الكولخوزات. في 26 يونيو1947، حكم عليهما بالسجن ثمانية أعوام في معسكرات العمل التأديبية.
في مقاطعة كيروف بموسكو، قبض على سميرنوف – سائق – لسرقة 22 رطلا من الخبز من مخبز. حكمت محكمة الشعب على سميرنوف بالسجن سبع سنوات في معسكرات العمل التأديبية.
في ساراتوف، سرق جوردييف منتجات عديدة من مستودع لخزن البضائع. في 21 يونيو 1947 حكم على جوردييف بالسجن سبع سنوات في معسكرات العمل التأديبية.
في كويبيشيف، سرق بولوبوياروف محفظة من مسافر بالقطار. في 4 يوليو حكم عليه بالسجن خمس سنوات في معسكرات العمل التأديبية.
في 7 يونيو1947، بكازان. قام بوكين بانتزاع أموال من يد المواطنة بوستنسكي.. في 20 يونيو 1947.. حكم على بوكين بالسجن ثمان سنوات في معسكرات العمل التأديبية.
في 6 يونيو1947، في قرية سوبوفكا بمقاطعة كوتوزوفسك بمنطقة كويبيشيف، قام كل من شوباركين وموروزوف بسرقة 88 رطلا من البطاطس تمتلكها المواطنة بريسنباكوف من سرداب. في 17 يونيو 1947.. حكم عليهما بالسجن خمسة أعوام في معسكرات الأعمال التأديبية.
في 5 يونيو1947، في موسكو، استغل جرينوولد، الذي كان قد أدين قبل ذلك بالسرقة، غياب جاره، ودخل غرفة المواطنة كوفاليف، وسرق بعض لوازم البيت. حكم على جرينوولد بالسجن عشر سنوات في معسكرات العمل التأديبية. (162)
من المهم ملاحظة أن قسوة هذا الفرع من القانون السوفيتي هي على العكس تماما من التساهل النسبي الذي يتم به التعامل مع القتل والاختطاف وسائر الأشكال العنيفة للجريمة، يتضح من ذلك أن مرتبة الفرد أقل كثيرا من مرتبة الأملاك في روسيا الستالينية، هكذا، فإن القانون الجنائي لجمهورية روسيا الاشتراكية الفيدرالية السوفيتية يوضح أن:
المادة 136 القتل العمد، إذا ارتكب:
أ) لبواعث مادية أو بدافع الغيرة (إلا إذا كان مشمولا بالمادة138) أو لآي دافع آخر.
ب) بواسطة شخص تمت محاكمته من قبل بسبب القتل العمد أو إنزال ضرر بدني خطير، ومر بإجراء الدفاع الاجتماعي المفروض من قبل المحكمة.
ج) بطريقة تهدد حياة أشخاص كثيرين أو تسبب معاناة شديدة للضحية.
د) بهدف تسهيل أو إخفاء جريمة خطيرة أخرى.
هـ) بواسطة شخص كانت عليه مسئولية خاصة عن حياة الضحية.
و) الاستفادة من ظروف عجز الضحية يؤدي إلى – الحرمان من الحرية لمدة قد تصل إلى عشر سنوات.
المادة 137 القتل العمد ، إذا لم يرتكب في أحد الظروف الموضحة في المادة136، يؤدى إلى – الحرمان من الحرية لمدة قد تصل إلى ثمان سنوات.
المادة 138 القتل العمد المرتكب تحت الدافع المفاجئ لهياج عاطفي قوي ناتج عن العنف أو السباب القاذع من جانب المقتول، يؤدي إلى – الحرمان من الحرية لفترة قد تصل إلى خمس سنوات، أو العمل الجبري لمدة قد تصل إلى عام واحد. (163)
وهذه هي بعض العقوبات الأخرى على جرائم عنيفة ضد الأشخاص:
المادة 147، حرمان أي شخص من الحرية بشكل غير قانوني باستخدام القوة، يؤدى إلى – الحرمان من الحرية أو العمل الجبرى لمدة قد تصل إلى عام. حرمان أي شخص من الحرية بأي طريق تشكل خطرا على حياته أو صحته أو تسبب له ألما بدنيا، يؤدي إلى – الحرمان من الحرية لمدة قد تصل إلى عامين.
المادة 148، وضع شخص معروف أنه عاقل في مصحة أمراض عقلية لبواعث مادية أو بواعث شخصية أخرى، يؤدي إلى – الحرمان من الحرية لمدة قد تصل إلى ثلاث سنوات.
المادة 149، خطف أو إخفاء أو مبادلة طفل شخص آخر لبواعث مادية، أو بدافع الانتقام، أو بأي غرض شخصي آخر، يؤدي إلى – الحرمان من الحرية لمدة قد تصل إلى ثلاث سنوات. (164)
إن ديانة عبادة الأملاك هذه تخضع لها حتى أضعف أعضاء المجتمع – الأطفال. فكما رأينا، إن العقوبة القصوى لاختطاف طفل هي السجن لثلاث سنوات فقط، في حين ينال الطفل الذي يسرق عقوبة أكبر كثيرا. وعلى الرغم من أن القانون الستاليني – في تعامله مع انحراف الأحداث – يعتبر الأطفال في الثانية عشر من العمر ناضجين ومسئولين بالكامل عن أفعالهم المخلة، فإنه يعتبرهم أطفالا فيما يتعلق بالشؤون المدنية. وعلى سبيل المثال، فإن قانون الزواج والأسرة والوصاية لجمهورية روسيا الاشتراكية الفيدرالية السوفيتية، ينص على ما يلي: ” يجب تعيين أوصياء على الصغار الذين لم يبلغوا سن أربعة عشر عاما”(165)
مرة أخرى: “يجب تعيين أمناء على الأحداث بين سن الرابعة عشرة وثمانية عشر عاما” (166)
ومع ذلك، ففي 7 إبريل 1935، صدر قانون ألغى محاكم الأحداث “بهدف أسرع تصفية ممكنة للجريمة بين الأحداث ” ذكر القانون أن “اللجنة التنفيذية المركزية ومجلس قوميساريات الشعب يقرران: (1) الأحداث من سن اثني عشر عاما المقبوض عليهم بسبب السرقة أو العنف أو إنزال إصابة بدنية أو التشويه أو القتل أو الشروع في القتل، يجب أن يمثلوا أمام محاكم القانون الجنائي ويعاقبوا وفقا لكافة إجراءات القانون الجنائي ” (167) (يبدو أن عقوبة الإعدام كانت لا تزال محرمة لمن هم دون الثامنة عشر، لأن المادة 22 من القانون، التي شملت هذه النقطة ، لم تلغ).
وسرعان ما وضع هذا القانون موضع التطبيق، كما تشهد بذلك “ازفستيا” التي ذكرت في 29 مايو 1935 أنه في فترة تزيد قليلا عن أسبوعين كانت محكمة خاصة قد وزعت سنوات كثيرة من السجن بالفعل على ستين “لص صغير” (168) بل إن يد القانون كانت أثقل في بعض الحالات، ففرضت عقوبة الإعدام على الشباب. هكذا، فبعد أسبوعين من إصدار القانون الرهيب ضد انحراف الأحداث، حكمت محكمة في موسكو على شاب مدان بالسرقة في قطار بالإعدام. (169)
إن التبرير الرسمي لاستخدام إجراءات بهذه القسوة، وهو تضاعف عدد حالات انحرافات الأحداث في موسكو بين 1931 و1934، (170) ليس تبريرا مقبولا على الإطلاق، وهو يفضح يقينا أسطورة “انتصار الاشتراكية وحياة الشعب المزدهرة والسعيدة “.
في عام1940، وسع قانون 1935 ليشمل الأطفال من سن اثني عشر عاما فما فوق الذين يرتكبون أعمالا تهدد حركة السكك الحديدية، مثل تفكيك القضبان أو وضع أشياء عليها. وهكذا. يذكر مرسوم 31 مايو 1941 (171) بوضوح أن قانون 1935 لا ينطبق فقط على المخالفات المتعمدة، وإنما أيضا على المخالفات الناتجة عن الإهمال. في 15 يونيو1943، أمرت الحكومة بإنشاء مستعمرات إصلاحية خاصة تابعة لوزارة الداخلية للاعتقال دون إجراءات قضائية للأطفال بين الحادية عشرة والسادسة عشرة من العمر، وذلك فيما يتعلق بالأطفال المشردين أو الذين ارتكبوا سرقات أو جرائم أخرى صغيرة من هذا القبيل. (172) توجد أدلة على وجود الأطفال أيضا ضمن نزلاء معسكرات العمل العبودي كبار السن. يكتب دالين أن ” معسكر زاكامنسك في سيبيريا الشرقية يضم عددا كبيرا من الأطفال من منطقة موسكو بين المعتقلين فيه، وهم أولاد وبنات محكوم عليهم في جرائم جنائية. انهم يعملون في المناجم والمصانع القريبة.(173)
يمثل كل ما قيل صورة إيضاحية جديدة لمقولة ماركس: ” إن القانون وكذلك الجريمة، أي صراع الفرد المنعزل ضد العلاقات السائدة، له أصل ليس تحكيميا محضا. على العكس من ذلك، فإن جذور الجريمة إنما تكمن في نفس تلك الظروف التي تكمن فيها جذور القوة الحاكمة في وقت معين ” (174) في روسيا ستالين، تكمن جذور مفهوم طبيعة الجريمة، والعقوبات المفروضة على مرتكبيها في خضوع الإنسانية للأملاك، خضوع العمل لرأس المال، أي أنها تكمن في التناقض الأساسي الذي يحرك نظام رأسمالية الدولة البيروقراطية.
التغيرات في علاقات التوزيع
في “أطروحات إبريل” ذكر لينين أن سياسة الحزب هي “لا تزيد أجور الموظفين المنتخبين والخاضعين للاستبدال في أي وقت، عن تلك المدفوعة للعامل الجيد. (175) وفي كتابه الدولة والثورة (أغسطس – سبتمبر1917) طرح قضية نظام دفع الأجور والمرتبات بعد الثورة الاشتراكية مباشرة، في مجتمع “مازال مطبوعا في جميع النواحي، اقتصاديا وأخلاقيا وثقافيا، بسمات المجتمع الذي نشأ من داخله”. (176). في هذه الظروف يتحقق الآتي: المساواة لكل أعضاء المجتمع فيما يتعلق بملكية وسائل الإنتاج، أي المساواة في العمل والمساواة في الأجور”. (177)
“يتحول كل المواطنين إلى مواطنين يتقاضون مرتبات من الدولة التي تتكون من العمال المسلحين. يصبح كل المواطنين موظفين وعمالا في “مشروع” دولة قومي واحد. كل ما هو مطلوب هو أن يعملوا بالتساوي – يؤدوا نصيبهم الصحيح من العمل – ويدفع لهم بالتساوي ” (178) “سيكون المجتمع كله قد أصبح مكتبا واحدا ومصنعا واحدا، حيث المساواة في العمل والمساواة في الأجر”. (179) هكذا، فقد طرح لينين الآتي ” كهدف مباشر” للبلاشفة: ” ينبغي أن يحصل الفنيون والمديرون وماسكو الدفاتر وكذلك كل الموظفين على مرتبات لا تزيد عن “أجر العامل”. (180) بعد شهور قليلة من الثورة (في مارس 1918) أعلن لينين مرة أخرى تأييده “للتحقيق التدريجي للمساواة في كل الأجور والمرتبات لكل المهن والفئات. ” (181) لقد قبل ضرورة بعض الاستثناءات في المساواة في حالة المتخصصين، حيث كان يعلم تماما أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق في ظل ندرتهم وعدائهم للدولة العمالية، إلا أنه أصر أن الفوارق في الدخول يجب أن تكون على الفور أقل كثيرا مما كانت عليه في ظل القيصرية، وأن النزعة في المستقبل يجب أن تكون نحو زيادة المساواة، وقبل كل شيء لم يتراجع عن وصف أية عدم مساواة مفروضة بسبب التخلف على الحكومة السوفيتية بأنها تراجع عن الاشتراكية وتنازل للرأسمالية. هكذا فقد كتب: ” في هذه المرحلة الانتقالية يجب أن نمنحهم (المتخصصين) أفضل ظروف معيشة ممكنة.00 عندما ناقشنا مسألة معدلات الأجور مع قوميسار العمل، الرفيق شميدت، ذكر وقائع مثل هذه. لقد قال أننا في مسألة تحقيق المساواة في الأجور قد حققنا أكثر مما تحقق في أي مكان وأكثر مما تستطيع أي دولة برجوازية عمله في عشرات السنين. خذ معدلات الأجور قبل الحرب: كان العامل اليدوي يحصل على روبل في اليوم – 25 روبل في الشهر – في حين كان المتخصص يتقاضى 500 روبل في الشهر.0 كان الخبير يحصل على عشرين ضعف مما يحصل عليه العامل. معدلات الأجور الحالية تتراوح بين 600 روبل و 3000 روبل – بفارق خمسة أضعاف فقط. لقد حققنا الكثير في مجال المساواة. (182) لقد كانت المرتبات العالية المدفوعة للمتخصصين ” وفقا للعلاقات البرجوازية”، خطوة للوراء، تنازلا للرأسمالية مفروض بحكم الواقع الموضوعي على الحكومة السوفيتية “. (183)
في عام 1919، حدد الحزب الشيوعي الروسي سياسة الأجور الخاصة به بما يلي: ” في حين أنها تسعى للمساواة في العائد عن كل أنواع العمل وإكمال بناء الشيوعية، فإن الحكومة السوفيتية لا تستطيع أن تعد من مهامها التحقيق الفوري لهذه المساواة في اللحظة الحالية، حيث يتم اتخاذ الخطوات الأولى فقط نحو الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية ” (184) كما قرر المؤتمر الحزبي العاشر في 1921 أنه في حين أن “أسبابا عديدة تجعل من الضروري الإبقاء مؤقتا على الفوارق في الأجور المالية وفقا للمؤهلات، ومع ذلك فإن سياسة معدل الأجور يجب إن تقوم على أساس أكبر مساواة ممكنة بين معدلات الأجور “. (185)
في نفس المؤتمر، أعلن أنه من الضروري “الوصول إلى إجراءات مناسبة تماما للقضاء على عدم المساواة: في ظروف المعيشة والأجور، الخ.0 بين المتخصصين والعمال المسئولين من ناحية، والجماهير الكادحة من ناحية أخرى، حيث أن عدم المساواة هذه تقوض الديمقراطية وتمثل مصدر إفساد للحزب وتقلل سلطة الشيوعيين. ” (186) ومع ذلك، ففي ظل نظام شيوعية الحرب كانت هناك عمليا مساواة كاملة في الأجور والمرتبات. وفقا للبيانات التي يوفرها الإحصائي السوفيتي ستروميلين، فإن أجور أعلى العمال أجرا كانت في عام 1917 تعادل 232% من أجور أقلهم أجرا، ثم أصبحت في الجزء الأول من 1921 تعادل 102% فقط منها، أي مساوية لها عمليا. (187) (من ناحية أخرى فإن ظروف الندرة التي كانت قائمة في ظل شيوعية الحرب كثيرا ما أعطت للمسئولين فرصة سوء استغلال سيطرتهم على مصادر الإمداد والتوزيع).
انتهت المساواة الفعلية في الأجور مع تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة. تم إدخال سلم موحد للأجور في 1921 -1922، تضمن سبع عشرة درجة تمتد من الصبية إلى كبار المتخصصين، وأعطي العامل صاحب أعلى مهارة ثلاثة أضعاف ونصف ما يحصل عليه العامل غير الماهر صاحب أقل أجر. كما أصبح بإمكان المتخصصين أن يحصلوا كحد أقصى على ثمانية أضعاف ما يحصل عليه العامل غير الماهر. (لم ينطبق هذا على أعضاء الحزب الذين كان لهم سلم خاص للأجور القصوى، أقل كثيرا من مثيله الخاص بالمتخصصين غير أعضاء الحزب).
كانت الفوارق في الدخل أقل كثيرا مما كانت عليه قبل الثورة. توضح ذلك أجور ومرتبات موظفي السكك الحديدية قبل وبعد الثورة. في 1902 كان دخل عمال الإشارات 10 – 20 روبل في الشهر، وعمال الماكينات 30 – 60 روبل، في حين كان دخل رؤساء خدمة السكك الحديدية 500 إلى 750 روبل، والمدير العام 1000 – 1500 روبل. (188) في مارس1924، كانت الفوارق تتراوح بين 27ر13روبل ذهب في الشهر لعمال الخطوط، و 80ر26 روبل لموظفي الإدارة. (189)
في الصناعة، كان متوسط الأجور للعمال في مارس 1926 64ر58 روبل شرفونتسي، بينما كان مدير المصنع يحصل على 90ر187 روبل شرفونتسي إذا كان عضوا في الحزب، و 50ر309 روبل شرفونتسي إذا لم يكن عضوا في الحزب. (190)
ولكن، كانت هناك بعض العوامل التي خففت هذه الفوارق إلى حين إدخال الخطة الخمسية الأولى. أولا: لم يكن يسمح لعضو الحزب الشيوعي أن يكسب أكثر من العامل الماهر. كان هذا الشرط هاما جدا، حيث أن أغلب مديري المشروعات، والهيئات الصناعية، الخ، كانوا أعضاء في الحزب. في عام1928، كان 4ر71% من الموظفين في مجالس إدارات الاتحادات الاحتكارية (التروستات) أعضاء في الحزب، كما كان 4ر84% من مجالس المشروعات المتحدة، و 3ر89% من مجالس المشروعات المنفردة أعضاء في الحزب كذلك.
العامل الآخر الذي جعل الفوارق أقل كثيرا في الواقع مما قد يبدو من سلم الأجور الموحد، هو أن العدد الإجمالي للمتخصصين (الذين كان قطاع منهم أعضاء في الحزب، وبالتالي لم يكسبوا أكثر من العمال المهرة) كان صغيرا جدا. في عام1928، كانوا يشكلون 27ر2% من بين جميع المشتغلين بالصناعة.
يعطي الكتاب الإحصائي للاتحاد السوفيتي لعام 1926 (بالروسية) صورة عامة عن الفوارق في الدخل في روسيا، فوفقا لهذا المصدر، فإن متوسط الدخل السنوي للعمال اليدويين مقدرا بروبل ما قبل الحرب كان 465 في عام 1926 – 1927. في الوقت نفسه، كان الحد الأقصى المسموح به للمتخصصين.1811 باستثناء البرجوازية، رجال السياسة الاقتصادية الجديدة والكولاك، كان هناك 114000 شخص فقط يكسبون هذا الحد الأقصى. لقد مثلوا 3 ر0% من كل أصحاب الدخول، ومثل دخلهم 1% فقط من الدخل القومي. (191)
مع بدء الخطط الخمسية تحت شعار “الاشتراكية المنتصرة”، تم القضاء على جميع تقاليد المساواة البلشفية. قاد ستالين الهجوم معلنا: “إن أصل المساواة يكمن في الرؤية الفلاحية، في نفسية التقسيم المتساوي لجميع السلع، نفسية “الشيوعية” الفلاحية البدائية. لا يوجد أي شيء مشترك بين المساواة وبين الاشتراكية الماركسية”. (192) الويل لمن يجرؤ الآن على معارضة الفوارق في الدخل في روسيا، بصرف النظر عن ضخامتها. لقد ذهب مولوتوف إلى حد إعلان ما يلي في المؤتمر السابع للسوفييتات في الاتحاد السوفيتي “السياسة البلشفية تقتضي صراعا حازما ضد المؤمنين بالمساواة بوصفهم شركاء للعدو الطبقي، وعناصر معادية للاشتراكية. ” (193)
تم تعديل القاعدة المحددة لدخل أعضاء الحزب في عام 1929 ثم ألغيت تماما في وقت لاحق (ملاحظة: أبطلت هذه القاعدة بسرية شديدة حتى أنه من غير المعروف متى حدث ذلك بالضبط، إلا أن ذلك أصبح واضحا من أخبار في الصحافة الروسية تفيد أنها لم تكن قائمة في عام1934). كما ألغى القانون الذي يقضي بأن يحصل الأشخاص العاملون في وظيفتين – كما هو حال كثير من المتخصصين – على مرة ونصف فقط أكثر من المرتب الأقصى الساري. وألغي أيضا “القانون العام للأجور” الصادر في 17 يونيو 1920. (194) والذي كان يقضي بأن أي شخص يزيد عن المعدل المطلوب في العمل بالقطعة، لا يجوز أن يحصل على أكثر من 100% أعلى من المعدل العادي. ومن جهة أخرى، أبطل القانون الذي يمنع دفع أقل من ثلثي المعدل لأي عامل يعمل بالقطعة. (195)
لم تتبق أي قيود على عدم المساواة في الدخول، والتي زادت وبمعدل مرعب.
بعد عام1934، توقف الاحصائيون الروس عن نشر أرقام تتعلق بتوزيع العمال والموظفين وفقا للدخل، ونشروا فقط متوسط دخل كل العمال والموظفين، وهو رقم يتوصلون إليه بعد أخذ متوسط دخول خادمات المنازل، والعمال غير المهرة، والعمال المهرة، والمتخصصين، وكبار المهندسين، والمديرين، وهكذا. (من الطريف ملاحظة أن كتابا سوفيتيا عن الإحصائيات الاقتصادية ينتقد الإحصائيات الأمريكية لاعتيادها إدخال مرتبات مديري الشركات في كشف الأجور والمرتبات، وبذلك يرفعون متوسط الأجور والمرتبات “دليل معجمي للإحصائيات الاجتماعية – الاقتصادية “بالروسية”)، موسكو، 1948ص12) لا تنه عن خلق وتأتي مثله !)
على الرغم من هذا التعتيم على المعلومات، فمن الممكن البرهنة على بعض الوقائع، والبرهنة بصفة خاصة على انه كان هناك زيادة حادة في مستوى المرتبات التي يحصل عليها البيروقراطيون، وانخفاضا حادا في مستويات أجور الطبقة العاملة.
على سبيل المثال، في عام1937، عندما كان مهندسو المصانع يتقاضون 1500 روبل في الشهر، والمديرون 2000 روبل – إلا إذا أعطت الحكومة تصريحا خاصا بتقاضي المزيد – والعمال المهرة 200 – 300 روبل، أدخلت الحكومة السوفيتية حدا أدنى للأجور يساوي 110 روبل في الشهر للعمال المشتغلين بنظام القطعة و115 روبل للعمال المشتغلين بنظام الوقت. كثيرا من العمال كانوا يتقاضون هذا الحد الأدنى فقط إذا علمنا أن القانون الذي حدد هذه الحدود الدنيا أدى إلى منحة للميزانية تعادل 600 مليون روبل لعام 1938. (196) بالمقارنة بأجور كهذه، لم يكن مرتب 2000 روبل في الشهر بصغير. ليس هذا فقط، بل بالإضافة إلى المرتب الثابت كان المديرون ومهندسو المصانع يحصلون على مكافآت يعتمد حجمها على مدى تجاوز شركاتهم لحصص الإنتاج المقررة في الخطة الاقتصادية. فمثلا، في عام1948، ذكر أن معدلات المكافآت المدفوعة لإدارات شركات النقل الآلي لتحقيق أو تجاوز الخطة كانت: (197)
المكافآت والنسبة المئوية من المرتب الأساسي
| لتحقيق الخطة | لكل 1% زيادة عن الخطة | |
| الإدارة العليا (المدير، كبير المهندسين) | حتى 30% | حتى 4% |
| الإدارة المتوسطة (رؤساء الأقسام) | حتى 25% | حتى 3% |
| الإدارة الصغرى (رؤساء الورش0الخ) | حتى 20% | حتى 3% |
هكذا فإن مدير الشركة الذي يتجاوز الخطة بمقدار 10% يكافأ بمكافأة تصل إلى 70% من مرتبه الأساسي، تجاوز الخطة بمقدار 20% يكافأ بمكافأة تصل إلى 110%، تجاوز الخطة بمقدار 30% يؤدي إلى مكافأة تعادل 150%، تجاوز الخطة بمقدار 50% يؤدي إلى مكافأة تساوي 230%.
فضلا عن ذلك، فإن ” صندوق المدير”، وهو مؤسسة تم إنشاؤها في 19 أبريل1936، (198) يعد مصدرا أخرا للدخل.
وفقا للقانون، توضع 4% من أرباح الخطة و 50% من كل الأرباح أكثر من ذلك في صندوق المديرين. أعطى اقتصادي روسي أرقاما لعام 1937 تظهر المبالغ المتضمنة: (199)
| تحقيق الخطة(نسبة مئوية) | التكلفة الفعلية كنسبة من التكلفة بالخطة | صندوق المديرين بالمليون روبل | صندوق المديرين عن كل عامل | |
| صناعة البترول | 1ر104 | 8ر103 | 7ر21 | 92ر344 |
| صناعة اللحوم | 6ر118 | 1ر104 | 9ر51 | 69ر752 |
| صناعة الكحول | 8ر108 | 0ر103 | 0ر86 | 00ر1175 |
لما كان متوسط الأجور لكل العمال والموظفين في عام 1937 254 روبل في الشهر فقط، (200) فإن هذه الأرقام تظهر أنه بتجاوز الخطة بنسبة صغيرة فقط، فإن متوسط الإيرادات السنوي لصندوق المدير كل عامل كان يعادل أكثر من متوسط الأجر الشهري في صناعة البترول، وثلاثة أضعافه في صناعة اللحوم، وأربعة أضعافه ونصف في صناعة الكحول. وفقا لاقتصادي سوفيتي آخر: وفي القوميساريات الصناعية الخمس كان إيراد صندوق المدير للعامل الواحد 3ر6% من متوسط الأجر السنوي. إلا أن هذه النسبة أعلى كثيرا في فروع عديدة حيث تصل إلى 5ر21 في النجارة، وحوالي 25% في صناعة الأحذية من الفرو والجلد، و 55% في صناعات الكحول والمكرونة والطعام. (201) من البديهي، إذن، أن مبالغا ضخمة تتركز في أيدي مديري الصناعات التي تشغل آلاف العمال.
الغرض المعلن لصندوق المدير هو بناء مساكن للعمال والموظفين ونوادي وكانتينات ودور حضانة ورياض أطفال، وإعطاء مكافآت للإنجازات البارزة في العمل الخ.
ليس لدينا بيانات إحصائية عن كيفية توزيع إيرادات صندوق المدير. الإشارة الوحيدة التي لدينا وردت في جريدة “زا اند ستريالزاتسيا” في 29 أبريل1937، والتي نشرت أرقاما تتعلق بتوزيع إيرادات “صندوق المدير” في شركة بورشن في خاركوف.
من بين الـ 60 ألف روبل التي كونت صندوق المدير حصل المدير على 22 ألف لنفسه، وسكرتير لجنة الحزب على 10 آلاف ورئيس مكتب الإنتاج على 8 آلاف، ورئيس المحاسبين 6 آلاف ورئيس اللجنة النقابية 4 آلاف، ورئيس الورشة 5 آلاف.(202)
تميزت أقسام أخرى من الطبقات المميزة أيضا بدخول عالية بشكل استثنائي. وبينت رسالة إلى “برافدا” من الكاتب ألكسي تولستوي، والكاتب المسرحي، ف. فشنفسكي، بهدف إزالة سوء الفهم حول الدخول العالية بشكل استثنائي للكتاب من الإتاوات الهائلة، (203) الأرقام التالية لدخول المؤلفين:
| الدخول الشهرية في1936 | عدد الأفراد |
| أكثر من 10 آلاف روبل | 14 |
| 6آلاف – 10 آلاف روبل | 11 |
| 2000- 5000 روبل | 39 |
| 1000- 2000 روبل | 114 |
| 500- 1000 روبل | 137 |
| حتى 500 روبل | حوالي4000 |
عندما نتذكر أن متوسط الدخول لكل العمال والموظفين السوفيت في نفس هذه السنة 1936 , كان 2776 روبل، أو 231 روبل في الشهر، (204) فإن الأمر لا يحتاج إلى تعليق.
اليوم، يحصل موظفو الحكومة – الذين لا ينبغي وفقا للينين، أن يتقاضوا أكثر من العامل الماهر المتوسط – على دخول تختلف بدرجة كبيرة. بقرار من السوفيت الأعلى في 17 يناير1938، يحصل رؤساء ونواب رؤساء مجلس الاتحاد ومجلس القوميات على مرتبات تعادل (300ألف روبل في السنة، كما يحصل كل نائب في السوفيت الأعلى على 12 ألف روبل في السنة، بالإضافة إلى 150 روبل لكل يوم من أيام الجلسات. (205)
يحصل رئيس السوفيت الأعلى في جمهورية روسيا الاشتراكية الفيدرالية السوفيتية ونوابه على 150 ألف روبل في السنة. (206) يمكن افتراض أن رؤساء ونواب رؤساء الجمهوريات الفيدرالية الأخرى يحصلون على نفس المرتبات. كان جندي الجيش السوفيتي يحصل على 10 روبل في الشهر أثناء الحرب، والملازم 1000 روبل والعقيد 2400 روبل. في الجيش الأمريكي، الذي لا يمكن مهما اتسع بنا الخيال أن نسميه جيشا اشتراكيا، كان معدل المدفوعات الشهرية للجندي 50 دولار، والملازم 150 دولار، والعقيد 333 دولار. (207)
للبيروقراطيين أيضا مصدر ممكن آخر للدخل وهو حوافز الدولة المتعددة0 المرسوم الأصلي الذي أعلن إنشاء جوائز ستالين بمناسبة عيد الميلاد الستين للزعيم حدد قيمتها بحد أقصى 100 ألف روبل للجائزة. (208) وقد تم رفع الحد الأقصى منذ ذلك الوقت إلى 300 ألف روبل، ويتم في كل عام منح حوالي ألف جائزة ستالين، تتراوح كل منها بين 50 ألف و 300 ألف روبل، معفاة من الضرائب.
مؤشر واضح آخر على الفوارق الهائلة في الدخل في روسيا هو معدلات ضريبة الدخل. تضمنت معدلات ضريبة الدخل الصادرة في 4 إبريل 1940 مجموعة من الدخول تراوحت بين ما يقل عن 1800 روبل في السنة وما يزيد عن 300 ألف روبل. (209)
المسئول الحكومي الكبير، أو المدير، أو الكاتب الناجح له بيت في موسكو وبيت صيفي في القرم، وسيارة أو اثنتين، وعدد من الخدم، وما إلى ذلك، كأمر مفروغ منه.
وحتى أثناء الحرب، عندما بذلت كافة الجهود – في مواجهة الطوارئ – لانتزاع الحد الأقصى من الإنتاج من العمال، كانت توجد فوارق شديدة في ظروف الطبقات المختلفة. ذكرت خادمة لها طفلان، أحدهما في العاشرة والآخر في الثالثة، لألكسندر ويرث في عام 1942: “يعيش الأطفال أساسا على الخبز والشاي، يحصل الصغير على مواد لبنية بديلة – ماذا تستطيع أن تفعل؟ مادة مكونة من فول الصويا، بلا طعم وذات قيمة غذائية منخفضة. لقد حصلت على سمكة صغيرة فقط بواسطة كوبونات اللحم الخاصة بي هذا الشهر. أحيانا ما أحصل على قدر ضئيل من الشوربة المتبقية في المطعم – وهذا كل ما هناك”. (210)
في نفس الوقت، كان ألكسندر ويرث يستطيع أن يكتب في مفكرته: “كان الغذاء في “الوطني” اليوم فاخرا جدا، فعلى الرغم من نقص الطعام في موسكو، إلا أنه يبدو دائما أن هناك ما يكفي من أفضل أنواع الطعام عندما يوجد ما يدعو لأي نوع من الوليمة الكبيرة حين يكون أشخاص رسميون مدعوين. بالنسبة للزكوسكي كان هناك أفضل أنواع الكافيار الطازج، والكثير من الزبد والسلمون المدخن، ثم سمك الحفش (يؤخذ منه الكافيار “المترجم”) وبعد الحفش كستليته بالماريشال، ثم ثلج وقهوة مع الكونياك والليكور، وكان هناك تحت المنضدة وبطولها الصف المعتاد من الزجاجات”. (211)
أعطى نظام الحصص التموينية أثناء الحرب صورة حية لانقسام المجتمع الروسي إلى أقلية مرفهة وعوام. لقد تم إدخال نظام حصص تموينية تفاضلي، وهو شيء ما كان لأحد أن يجرؤ على اقتراحه في دول الغرب الرأسمالية الديمقراطية. ومن الصحيح أن هذا كان مريعا حتى بالنسبة للشعب السوفيتي، حتى أن “برافدا” و “ازفستيا” لم تذكرا الموضوع على الإطلاق، وتم إسدال ستار السرية على نظام الحصص التموينية ككل (212).
في واقع الأمر فإن كماليات الأغنياء أرخص كثيرا نسبيا من ضروريات الفقراء. يمكن إدراك ذلك بوضوح إذا كررنا بعض أرقام معدل ضريبة المبيعات: (213)
| السلعة | الضريبة |
| القمح | 73- 74% |
| الملح بالجملة | 70- 80% |
| اللحم(البقري) | 67- 71% |
| الكافيار | 40% |
| أجهزة الراديو | 25% |
| السيارات | 2% |
نتيجة لذلك: “في منتصف عام1948، كانت السيارة نوع موسكوفيتش (ثمنها تسعة آلاف روبل) تعادل 310 رطلا من الزبد (ثمن الزبد 62 – 66 روبلا للرطل)، في حين أن سيارة أفضل قليلا في الولايات المتحدة كانت تساوي 1750 رطلا من الزبد”. (214)
تؤدي فوارق الدخل إلى اختلافات واسعة في الملكية الموروثة. في الأيام الأولى للثورة، وبمقتضى مرسوم 27 أبريل1918، تمت مصادرة كل المواريث التي تزيد عن عشرة آلاف روبل. (215) كان هذا متفقا مع روح البيان الشيوعي الذي وضع إلغاء كل حقوق الوراثة كأحد متطلبات الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية0 بعد ذلك بسنوات قليلة، تغير القانون جذريا، وبحلول عام 1929 كان هناك جدول لضريبة الميراث يتراوح بين ألف روبل وأقل وبين 500 ألف روبل وأكثر. (216) في الوقت الحاضر لا تتجاوز ضريبة الميراث 10%، وهو مقدار منخفض جدا، حتى بالمقارنة بضرائب الميراث في بريطانيا والولايات المتحدة الرأسماليتين.
أثناء الحرب الأخيرة حكى فيض من التقارير الصادرة عن الصحافة الروسية عن أشخاص أعطوا للحكومة قروضا تساوي مليون روبل أو أكثر. شرح “أصدقاء الاتحاد السوفيتي” ذلك بالطريقة التالية: “في الاتحاد السوفيتي اكتسب المليونير روبلاته بكده وبالخدمات التي يقدمهـا للدولة وللشعب السوفيتي”. (217)
إذا اختبرنا هذا التصريح، سنجد أنه حتى عام1940، وحيث أن متوسط دخل العمال والموظفين كان أربعة آلاف روبل فقط، فإن جمع مليون كان يستغرق العامل العادي 250 سنة – بافتراض عدم إنفاقه على نفسه على الإطلاق. يحصل المليونير السوفيتي، على شكل فوائد فقط على 50 ألف روبل لكل مليون، وهو ما يفوق بأضعاف مضاعفة دخل أي عامل.
إن أوضح تعبير عن انقسام المجتمع الروسي إلى أقلية مرفهة وعوام هو نظام المعاشات الحكومي. إذا توفي جندي بالجيش، تحصل أسرته على معاش شهري يتراوح بين 5ر52 روبلا و 240 روبلا إذا كان عاملا أو موظفا قبل استدعاءه. أما إذا لم يكن عاملا أو موظفا، تحصل أسرته على أربعين أو سبعين أو تسعين روبلا وفقا لما إذا كان يعول شخصا أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر غير قادرين على العمل. يحصل الناس في المناطق الريفية على 80% فقط من هذه المعدلات. في مقابل هذا، تحصل أسرة العقيد المتوفى على 1920 روبلا في الشهر. (218) يحصل عيال العامل الذي يقتل في حادث في العمل على 200 روبلا شهريا كحد أقصى (إلا في حالات نادرة حيث يحصلون على 300 روبلا). (219) في مقابل هذا يحصل بعض الأشخاص المرفهين على مبالغ كبيرة عند وفاة رب الأسرة. عندما توفي م0ف0 فلاديميرسكي، النائب في السوفيت الأعلى، منحت أرملته مبلغ خمسين ألف روبل ومعاشا شهريا يعادل ألفين روبلا مدى الحياة، في حين حصلت شقيقته على معاش شهري يعادل 750 روبلا مدى الحياة. (220) عندما توفي اللواء ف0أ0 يوسكيفتش، منحت أرملته مبلغ خمسين ألف روبل ومعاشا شهريا يعادل ألفين روبل مدى الحياة (221) تمتلئ الصحافة بأمثلة مماثلة أخرى.
يعد سلم التعليم جزءا لا يتجزأ من علاقات التوزيع العدائية. أعلنت المادة 121 من دستور ستالين لعام 1936: “مواطنو الاتحاد السوفيتي لهم حق التعليم. يتم ضمان هذا الحق بواسطة التعليم العام الإجباري الأولى، ويكون التعليم – بما في ذلك التعليم العالي – مجانيا، الخ.0 الخ.. ولكن حتى عندما يكون كل التعليم مجانيا، فإن ذلك لا يوفر مساواة حقيقية في فرص الدراسة بين الأطفال الفقراء والأغنياء، لأن الفقراء عليهم أن يبدأوا في الكسب بأسرع ما يمكن، ولأن كثيرا من الأسر تعجز عن التكفل بأطفالها أثناء دراستهم. ليس من المدهش إذن أن نسبة الأطفال المنتفعين من التعليم في الاتحاد السوفيتي تقل مع تقدم التعليم. في السنة الدراسية 1939 -1940، مثلا، كان العدد الإجمالي للطلبة المنخرطين في جميع المعاهد التعليمية كالآتي: (222)
| العدد (بالآلاف) | |
| المدارس الابتدائية (الفصول من الأول للرابع) | 20471 |
| المدارس الثانوية الصغيرة (الفصول 5 -7 | 9715 |
| المدارس الثانوية الكاملة (الفصول 8 -10) | 1870 |
| المدارس الثانوية الفنية والمصنعية | 945 |
| الجامعات والمدارس الفنية العالية | 620 |
إذا عرفنا عدد الأطفال في الأعمار المختلفة في البلاد، يصبح من الممكن حساب نسب الأطفال في الأعمار المختلفة المنخرطين في التعليم. إلا أنه حتى بدون هذه المعلومات، وعلى أساس الأرقام الموجودة في الجدول أعلاه، فإن الاختلاف في فرص التعليم للأطفال من أعمار مختلفة واضح. بافتراض أن كل الأطفال بين السابعة والحادية عشرة من العمر يذهبون إلى المدارس، فإن أقل من نصف هذا العدد كان لديهم الحظ الكافي للبقاء لأكثر من أربع سنوات. واحد من كل عشرة فقط نال تعليما لأكثر من سبع سنوات، وأقل من واحد من كل عشرين أنهى برنامج السنوات العشر (في مقابل تعليم العشر سنوات الإجباري في بريطانيا الرأسمالية).
حتى قبل تطبيق رسوم للجامعات والكليات الفنية والمدارس العالية الأخرى، اضطر كثير من التلاميذ الذين نجحوا في الوصول إلى الجامعات والمدارس الفنية العالية إلى عدم إكمال دراستهم بسبب الصعوبات المالية. في الفترة بين عامي 1928 و 1938 كان العدد الإجمالي للأشخاص المقبولين في كليات الهندسة للتدريب للصناعة والنقل609200، في حين تخرج 242300 فقط. العدد المقبول في الكليات الفنية كان 1062000 وعدد المتخرجين 362700 فقط. (223)
في عام1938، كان 3ر42% من كل الطلاب في المدارس العالية من أبناء الانتلجنسيا. (224) من ذلك الوقت، لم تنشر إحصائيات عن التكوين الاجتماعي للطلاب، ولكن لا شك أن نسبة الطلبة من البيوت “الكريمة” قد ارتفعت، بسبب فرض الرسوم منذ عام 1940 فصاعدا.
تقول المادة 146 من دستور ستالين “لا يمكن تعديل الدستور بالاتحاد السوفيتي إلا بقرار من السوفيت الأعلى للاتحاد السوفيتي يتخذ بواسطة أغلبية الثلثين على الأقل في كل من مجلسيه” لم يمنع هذا الحكومة من فرض رسوم على التعليم الثانوي العالي والجامعي دون حتى دعوة السوفيت الأعلى للاجتماع لتعديل المادة 121 من الدستور المذكور أعلاه، والتي نصت على أن يكون التعليم مجانيا. لقد فرض مرسوم صدر عن مجلس قوميساريات الشعب، المنشور في 2 أكتوبر1940، (225) رسما يبلغ 150 – 200 روبل سنويا للفصول العالية في المدارس الثانوية (الفصول الثامن والتاسع والعاشر)، و300 – 500 روبل سنويا للكليات. يمكن تقدير حجم هذه المبالغ بمقارنتها بمتوسط الأجور والمرتبات في هذه الفترة، 335روبل في الشهر، مع وقوف أجر كثير من العمال عند حد 150 روبل فقط في الشهر. من الواضح أن فرض الرسوم هو حاجز فعال أمام التعليم العالي، خاصة في العائلات التي تضم ثلاثة أو أربعة أطفال.
لجعل الأمور أسوأ، كان لدى الحكومة السوفيتية الجرأة الكافية لإعلان أن فرض هذه الرسوم مؤشرا على الرخاء المتنامي للشعب. جاء في مقدمة المرسوم “آخذا في الاعتبار المستوى الأعلى من الرفاهية المادية للكادحين، والنفقات العظيمة للدولة السوفيتية في بناء وكفالة وتوفير المعدات للعدد المتزايد بثبات من المدارس الثانوية والعالية، يقر مجلس قوميساريات الشعب ضرورة فرض جزء من نفقات التعليم في المدارس الثانوية والعالية للاتحاد السوفيتي على الكادحين أنفسهم، وبالتالي يقرر: ” نفس نوع المنطق يؤدي إلى الاستنتاج إلى أن المجتمع المزدهر حقا هو مجتمع ينبغي أن يدفع فيه الناس نفقات حتى التعليم الأولي!”
من المؤكد أنه كان واضحا للطلاب أن الحاجة لدفع رسوم لم تكن دليلا على ظروف مزدهرة بين العام الدراسي 1940 -1941، الذي تم إدخال الرسوم أثناءه، والعام الدراسي 42 -1943، ترك حوالي 20% المدارس العالية في جمهورية روسيا الفيدرالية بسبب “الغربلة المتصلة بإدخال الرسوم على التعليم والتغيرات في وسائل توزيع الرواتب” (226)
أمر مرسوم آخر صادر في نفس اليوم، 2 أكتوبر 1942، حول “احتياطي العمل للاتحاد السوفيتي ” بالتجنيد السنوي لما بين 800 ألف ومليون ولد بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة من العمر (عمر الفصول من الثامن إلى العاشر) في التعليم المهني الإجباري. تم النص على عدد الأطفال المطلوبين من كل منطقة، وتقرر أن يكون تنفيذ الأمر مسئولية سوفييت المنطقة أو البلدة. (227) تم تكوين لجان تضم رئيس سوفييت البلدة أو المنطقة، وممثل نقابي، والسكرتير المحلي للكومسومول، تقوم بإعطاء تعليمات لكل مدرسة بتوفير عدد معين من الأطفال يختارهم المدرس. ولما كان تلاميذ الصفوف من الثامن إلى العاشر معفيين فإن هذا النظام يقع بالكامل تقريبا على تلاميذ الأسر الفقيرة. (تتضح قسوة النظام المفروض على الشباب المجند بالمدارس المهنية من واقع أن ترك المدرسة بلا إذن وانتهاكات النظام الأخرى تعاقب بما يصل إلى الاعتقال لمدة عام في إصلاحية(228). ولتوسيع الشبكة، قرر مجلس السوفيت الأعلى في 19 يونيو1947، رفع الحد العمري لاحتياطي العمل، وفي عدد من الصناعات تم رفعه إلى تسعة عشر عاما من العمر. (229)
عند النظر للمرسومين الصادرين في 2 أكتوبر1940، لا يستطيع المرء إلا أن يتذكر البيان الصادر في عام 1887 عن دليانوف، وزير تعليم القيصر الكساندر الثالث “إن الوزير، رغبة منه في تحسين مستوى التلاميذ في المدارس الثانوية، قرر أن أبناء العربجية والخدم الطباخين والغسالات وأصحاب الدكاكين الصغيرة وأمثال هؤلاء الناس لا ينبغي تشجيعهم على الارتفاع فوق البيئة التي ينتمون إليها”. وختاما، يتضح مما سبق ذكره أن الفرق بين فوارق الدخل قبل الخطة الخمسية وبعد إدخالها يتجاوز بالضرورة نطاق الكم وحده ويصبح فارقا كيفيا أيضا. إذا كان المتخصص أو مدير المصنع يحصل على ما بين أربعة وثمانية إضعاف ما يحصل عليه العامل غير الماهر، فإن هذا لا يعني بالضرورة وجود علاقة استغلال بين الاثنين. العامل الماهر أو المتخصص أو المدير ينتج قيما أكثر من العامل غير الماهر في ساعة العمل الواحدة.
بل حتى لو كان المتخصص يحصل على أكثر من الفارق في القيم التي ينتجونها، فإن هذا لا يثبت أنه يستغل العامل غير الماهر. يمكن التدليل على ذلك ببساطة، دعونا نفترض أنه في دولة عمالية، ينتج عامل غير ماهر ضرورياته في ست ساعات يوميا. وأنه يعمل ثمان ساعات، حيث تخصص الساعتان الإضافيتان لإنتاج الخدمات الاجتماعية، وزيادة كمية وسائل الإنتاج في أيدي المجتمع.0 الخ. حيث أن ساعتي العمل هاتين ليستا عملا لشخص آخر وإنما له لنفسه، فإنه من الخطأ وصف هذا العمل بأنه عمل فائض. ولكن تجنبا لإدخال مصطلح آخر، ولكي نميز ساعتي العمل عن الساعات الست الأولى، دعونا نسميه “عمل فائض” في حين نسمي الساعات الست “عمل ضروري”. من أجل التبسيط، دعنا نقول أن ساعة العمل غير الماهر تنتج القيمة المتجسدة في شلن واحد. ينتج العامل غير الماهر إذن 8 شلنات ويحصل على 6. دعونا نفترض أن المتخصص ينتج 5 وحدات قيمة، أو 5 شلنات في ساعة عمله. إذا حصل المتخصص على خمسة أمثال ما يحصل عليه العامل الماهر، أي 30 شلنا، فمن الواضح عدم وجود علاقة استغلال بينهما. وحتى لو حصل على ستة أمثال ما يحصل عليه العامل غير الماهر، في حين أنه لا ينتج سوى خمسة أضعاف ما ينتجه الأخير، فإن هذا لا يعني وجود علاقة استغلال لأن المتخصص في هذه الحالة يحصل على 36 شلنا يوميا في حين أنه ينتج 40 شلنا. ولكن إذا حصل المتخصص على 100 شلن أو200، فإن الوضع يكون مختلفا بشكل جوهري. في مثل هذه الحالة، سيكون جزءا كبيرا من دخله بالضرورة آتيا من عمل الآخرين. تبين الإحصائيات التي في متناول أيدينا بشكل قاطع أنه على الرغم من أن البيروقراطية تمتعت بوضع متميز في الفترة السابقة على الخطة الخمسية، فليس هناك أساس للقول بأنها في أغلب الحالات كانت تحصل على فائض قيمة من عمل الآخرين. ويمكن القول بنفس القطع أنه منذ إدخال الخطط الخمسية، تكون دخل البيروقراطية إلى حد كبير من فائض القيمة.
سوء الإدارة البيروقراطية
في ظل الرأسمالية القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، يستخدم الرأسمالي آلية السوق بمثابة بوصلة مالية، مع تحديدها الأعمى لأسعار عناصر الإنتاج بالإضافة لسعر السلعة المنتجة. عليه أن يدير نظام محاسبة دقيق، عقوبته على سوء الحساب هي الخسارة المالية، أما عقوبة الخطأ الكبير ، فهي الإفلاس. في ظل اقتصاد تهيمن عليه الدولة، حيث تحدد أغلب الأسعار إداريا، وحيث لا يتصل دخل مدير المؤسسة بعلاقة مباشرة بالحالة الاقتصادية الحقيقية لمؤسسته، فإن نظام المحاسبة الدقيق يصبح أكثر ضرورة، حيث يستطيع مدير المؤسسة إخفاء عيوب المشروع لفترة طويلة إذا كان ذلك ضروريا، فهو ليس خاضعا لقانون السوق وحده. بدون نظام محاسبة دقيق، يمكن استيعاب أي تشوه في مشروع ما كعنصر في حسابات مشاريع أخرى، وهكذا بطريقة تراكمية. يستطيع الكرملين معاقبة المدير الذي يفشل، ولكن الفشل لا يظهر إلا بعد أن يكون الضرر قد حدث بالفعل. ومرة أخرى، فإن الطابع الإداري والشديد القسوة للعقوبات المنتظرة (إنزال الرتبة، السجن.0 الخ) لا يعطي سوى إلحاحا وتشجيعا إضافيا للمدير الذي يخفي الحقائق، كما يعطي حافزا أكبر لمثل هؤلاء المديرين للتآمر مع مسئولين آخرين في الإدارة. فضلا عن ذلك، فإن نفس الطابع الذي لا يعرف الرحمة للعقوبات يوليه درجة عالية من الحذر – ولا نقول الخوف – لدى أي مدير يواجه بالحاجة للمخاطرة أو اتخاذ قرار. ومن هنا يوجد ميل واضح على اتساع الجانب الإداري من الصناعة الروسية لإلقاء المسئولية على الآخرين والزيادة المفرطة في عدد المسئولين غير المنتجين. ومع ذلك، مرة أخرى، فإن هؤلاء المديرين شديدي الوعي بالطابع الإداري المتصلب للعقوبات التي تهددهم، وبالتالي بمدى اعتماد مصيرهم على قرارات تعسفية تنتج تلقائيا عن سياسة عامة سارية يمكن – كما حدث كثيرا – أن تستبدل بين يوم وليلة بأخرى ذات طابع مختلف كليا.
أخيرا، من المفروغ منه أن التعقيد والتنوع الغالبين على أي اقتصاد صناعي حديث يتطلب درجة قصوى من المبادرة المستقلة المحلية وأوسع ما يمكن من حرية إدارية. إلا أن هذا وضع في تناقض مباشر مع الحكم الممعن في البيروقراطية في روسيا.
الاندفاع التصنيعي الستاليني مخطط، إذا عنينا بالتخطيط التوجيه المركزي. في ظل الرأسمالية الفردية يسير الاقتصاد بشكل أعمى، بحيث أنه يمثل في أي لحظة ما مجموع العديد من القرارات الفردية والمستقلة (ما يعتبر خارج نطاق اهتمام هذا المقال، هو بحث الموضوع الهام المتعلق بالخطة الموجهة مركزيا في نطاق الرأسمالية الفردية الحالية خصوصا عندما تمليها ضرورة أوقات الحرب) في روسيا، مع ذلك، تقرر الحكومة كل شيء تقريبا. أما إذا عنينا بمصطلح “الاقتصاد المخطط” اقتصاد يتم فيه تكييف وتنسيق جميع العناصر المكونة في إيقاع واحد، تقل فيه الاحتكاكات إلى الحد الأدنى، كما – قبل كل شيء – يسود فيه بعد النظر في اتخاذ القرارات الاقتصادية – فالاقتصاد الروسي إذن ليس مخططا على الإطلاق. انتهجت الخطة الخمسية الأولى بناء على افتراض أن الزراعة ستظل أساسا في أيدي الفلاحين الفردية (كان مقدرا أن تنتج الكولخوزات 5ر11% فقط من إجمالي إنتاج القمح في البلاد أثناء السنة الأخيرة من الخطة) (230) وعندما انتهت كان 70% من الزراعة في الكولخوزات والسوفخوزات. لقد توقعت الخطة الارتفاع التالي في الماشية: الخيل 1ر6 مليون، البقر 5ر14 مليون الخنازير 2ر12 مليون، الخراف والماعز 8ر28 مليون، والإجمالي 6ر61 مليون، (231) في الواقع، انخفض عدد الخيل بمقدار 9ر13 مليون، والبقر 2ر30 مليون، والخنازير 4ر14 مليون، والخراف والماعز 6ر94 مليون، وانخفض المجموع بمقدار 1ر153 مليون. (232) كما افترضت الخطة أيضا أن العلاقات بين جميع فروع الاقتصاد ستقوم على التبادل في السوق – ومع ذلك انتهت الفترة فعليا بنظام الحصص بالكامل. وكان افتراضا أخرا هو أن عدد العمال الموظفين في اقتصاد الدولة سيزداد بمقدار 33% (233) – ولكنه في واقع الأمر زاد بمقدار 6ر96% (234). كان مفترضا أن ترتفع مستويات المعيشة، إلا أنها انخفضت. يمكن افتراض أن أهداف الإنتاج الخاصة بالسلع المختلفة مرتبطة ببعضها البعض ، ومع ذلك فقد تراوح معدل تحقيق الأهداف المختلفة على نطاق واسع جدا. افترضت الخطة أن سكان الريف سيزيدون بمقدار 9%، وسكان المدن بمقدار 4ر24% ، ومجموع السكان بمقدار 11.8%، إلا أن الأرقام الفعلية على التوالي كانت 1ر1 ، 2ر40، 1ر8. وينطبق نفس الشيء على الخطط اللاحقة. التضخم (ارتفاع لا يقل عن 1500% في مستوى الأسعار أثناء عقدي مرحلة الخطط)، والمجاعة الفظيعة في عام 1932 -1933، والإجراءات الإدارية القاسية ضد الفلاحين والعمال – هذه هي بعض أعراض افتقاد البيروقراطية لبعد النظر في إدارة الاقتصاد، وعدم التجانس بين عناصر الاقتصاد المختلفة التي تعتمد على بعضها البعض.
يوجد غياب واضح للتنسيق بين المصانع المختلفة. على سبيل المثال: وفقا لكبير مهندسي مصنع جرارات ستالينجراد، ديميانوفيتش، كان هناك 753 جرارا تساوي قيمتها 18 مليون روبل مكدسة في مخازن المصنع. في أكتوبر1940، بسبب عدم توفر أجزاء كان ينبغي شراؤها من شركات صغيرة بقيمة 100 ألف روبل – أدى ذلك لإعاقة خطيرة للإنتاج. (235)
تظهر التفككات الكبرى في الاقتصاد أيضا من ظاهرة تتميز بها روسيا بغرابة بهذا الشكل المتطرف. المشروعات المختلفة التي تنتج نفس المنتج تظهر اختلافات ضخمة في نفقات الإنتاج. هكذا فإن الناتج السنوي من الحديد الخام والصلب للعامل في شركات مختلفة في عام 1939 كان: (236)
| الشركة | الحديد الخام | الصلب |
| (بالطن) | (بالطن) | |
| اتحاد ماجنيتوجورسك | 2840 | 1168 |
| اتحاد كوزنيتسك | 2324 | 1389 |
| شركة كريفوي روج | 1733 | – |
| “زابورو زتال” | 1679 | 1074 |
| ازفستال | 1642 | 664 |
| شركة كيرف | 2102 | 523 |
| شركة دزيزينسكي | 785 | 529 |
| شركة بتروفسكي | 799 | 299 |
| شركة كيراماتورسك | 725 | 293 |
| شركة أوردزونيكيدز | 707 | 400 |
| شركة فرونز | 636 | 403 |
في الكتاب الذي أخذ منه الجدول أعلاه، ذكر بوضوح تام أن السبب الرئيسي وراء هذه الاختلافات الكبيرة في إنتاجية العمل لا ترجع للتباين في الظروف الطبيعية للإنتاج وإنما إلى المعدات التقنية للمشروعات (237) في حالات كثيرة، وحتى حيث لا توجد اختلافات كبيرة في المعدات التقنية للشركات المعينة، تختلف نفقات الإنتاج كثيرا من شركة لأخرى. هكذا، فقد كتبت “ازفستيا”: “كثيرا ما تختلف نفقات الإنتاج كثيرا بين مشروعين في ظل نفس الوزارة وبنفس المعدات، حيث تبلغ النفقات الإدارية في أحدهما ضعف أو ثلاثة أمثال مقدارها في الآخر.00 يمكن إبعاد مئات الآلاف من العمال الزائدين عن الحاجة وتخفيض نفقات الإنتاج بشكل ملحوظ إذا ما ساد النظام فيما يتعلق بهيئة العاملين”. (238)
سبب آخر لاختلافات النفقات هو التباين الكبير في نسب السلع المعيبة. في تقريره للسوفيت الأعلى حول ميزانية الدولة لعام1947، قال وزير المالية، زفيريف، عن مصنعين لإنتاج المصابيح الكهربائية إن نفقات الإنتاج في أحدهما كانت خمسة أضعاف مقدارها في الآخر، السبب الذي قدمه لذلك كان أن 3ر47% من الناتج في أحدهما كان معيبا في حين كانت هذه النسبة في الثاني 3ر7% فقط. (239) من البديهي أن مثل هذه الاختلافات في نفقات الإنتاج ما كان لها أن توجد في ظل ظروف الرأسمالية القائمة على الملكية الفردية. المشروع المتخلف كان سيخرج مبكرا من الإنتاج. ومن البديهي أن الحفاظ على هذه الشركات دون تحقيق تساوي أو تقارب في نفقات إنتاجها يتضمن من وجهة نظر اقتصادية عامة، فاقدا ضخما.
هذا الغياب في التنسيق بين الصناعات المختلفة وعدم التجانس في نموها يظهر من خلال الارتفاع والانخفاض الحاد في الأسعار وغياب العلاقات المنسجمة بينها. وضح الدكتور جانسي هذا بوضوح شديد وهاهو أحد الأمثلة التي يعطيها:
“تطور أسعار الخشب والخشب المنشور أثناء فترة الخطط كان متناقصا بشكل غريب. فعقب انخفاض طفيف في عام 1927 -1928، ارتفعت أسعار الخشب المنشور أكثر من100%، بدءا من أول إبريل 1936. وقد ظلت ثابتة بعد ذلك لمدة حوالي 13عاما على الرغم من التضخم والنقص الحاد في الخشب وتقطيع شجر الغابات بما يفوق كثيرا ما كان معقولا من الناحية الاقتصادية. ارتفعت أسعار الخشب المنشور إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه تقريبا وذلك ابتداءا من أول يناير1949، لكي تصبح سبعة أضعاف ما كانت عليه في عام 1926 – 1927..
انخفضت أسعار الخشب المستدير الذي تستخدم كميات كبيرة منه مباشرة في البناء في الاتحاد السوفيتي بمقدار 7ر14% من عام 1926 – 1927 إلى عام 1927 – 1928 ثم ارتفعت بشكل معتدل في عام 1936. ارتفعت أسعار الخشب ارتفاعا طفيفا مرة أخرى في عام1944، ولكنها ظلت مع ذلك أعلى بمقدار معتدل فقط من أسعار عام 1926 – 1927 وبعد ذلك، ولكي يتم تعويض هذه المتأخرات، تضاعفت أسعار الخشب أربع مرات ونصف بضربة واحدة في عام 1949. وعلى وجه التقريب، كانت أسعار الخشب نصف أسعار الخشب المنشور في عام 26 -1927، في عام1936، أصبحت أكثر قليلا من 20% من الأخيرة، ثم ارتفعت النسبة إلى 30% في عام 1944 وتجاوزت 40% في عام1949.
أظهرت عارضات ربط السكك الحديدية، وهي منتج خشبي بسيط، مع ذلك منحى آخر: تضاعفت في عام 1936 ثم زادت أكثر من الضعف مرة أخرى في عام 1943. وزادت مرة أخرى بأكثر من الضعف في عام 1949 حتى أصبح السعر ابتداءا من أول يناير 1949 حوالي عشرة أضعاف مستوى عام 1927. (240)
في كتاب آخر، يعطي جانسي مثالا آخرا لغياب الصلات بين أسعار السلع المتنافسة أو بين أسعار المواد الخام والمنتجات:
في عام 1933 ارتفع سعر الكيروسين للأغراض التقنية إلى حوالي عشرة أضعاف ما كان عليه، لكي يبلغ 45 ضعف سعر فحم دونباس الجيد. في عام1949، أصبح سعر نفس الكيروسين أقل من ستة أضعاف سعر الفحم. لا يوجد تبرير – لا يمكن حتى إيجاد تفسير – لمثل هذا الاختلاف. المعدلات المختلفة بين أسعار الكيروسين والفحم هي حالة متطرفة، إلا أن هنالك عددا لانهائيا تقريبا من التحولات الواسعة غير المبررة لعلاقات الأسعار والمعدلات. في 1949 كانت كلفة أنواع هامة من الصلب الأسطواني حوالي خمسة إلى ستة أضعاف نفس الكمية من الفحم، في النصف الثاني من 1950 كانت العلاقة حوالي ثلاثة إلى واحد فقط ” (241)
مرة أخرى: كان خطأ فاضحا أن ترفع أسعار الماكينات بمقدار 30 – 35% في سنة واحدة (1949) ثم إلغاء الزيادة كلها وأكثر في السنة التالية (1950)، أو زيادة معدلات أجر الشحن في السكك الحديدية على المسافات القصيرة أقل كثيرا منها على المسافات الطويلة (مراجعة المعدلات في عام1939). ثم عكس الأمر تماما في المراجعة التالية.
(242)
لقد أعطى ستالين نفسه ابرز مثال على الأساليب الفجة المستخدمة في ضبط الأسعار وغياب الروابط بينها حيث يقول:
“إن مسئولي الإدارة والتخطيط لدينا، مع بعض الاستثناءات القليلة، ضعيفو الإلمام بآليات قانون القيمة ولا يدرسونها ولا يستطيعون أخذها في الاعتبار عند عمل حساباتهم. هذا في الواقع يفسر الارتباك الذي ما يزال يحكم سياسة تحديد الأسعار. إليكم مثالا واحد من أمثلة كثيرة:
منذ زمن مضى، تقرر تعديل أسعار القطن والقمح لمصلحة زراعة القطن، وتحقيق أسعار أكثر دقة للقمح المباع لزارعي القطن، وزيادة سعر القطن المسلم للدولة. قدم مديرونا ومخططونا اقتراحا بهذا الشأن ما كان له إلا أن يذهل أعضاء اللجنة المركزية، حيث أنه اقترح تحديد سعر طن القمح على نفس المستوى عمليا لطن القطن، وبالإضافة إلى ذلك اعتبر الاقتراح أن سعر طن القمح مساو لسعر طن الخبز. وللرد على ملاحظات أعضاء اللجنة المركزية بأن سعر طن الخبز يجب أن يكون أعلى من سعر طن القمح بسبب المصاريف الإضافية للطحن والخبز، وأن القطن أغلى كثيرا من القمح، وهو ما يظهر أيضا من الأسعار في السوق العالمي، لم يجد أصحاب الاقتراح أي شيء متماسك يقولونه. اضطرت اللجنة المركزية بالتالي إلى أن تأخذ الأمر في أيديها وتخفض أسعار القمح وترفع أسعار القطن”. (243)
أي تشويش هذا! وفي أعلى المستويات في البلاد. ظاهرة غريبة أخرى تكشف انعدام التكامل بين المصانع المختلفة، هي ظهور مجموعة من الوسطاء يرتزقون من خلال إيجاد وحدات إنتاج لديها فائض وأخرى تعاني عجزا ثم ترتيب اتفاقات مقايضة فيما بينها، مخالفين بذلك الأسعار المحددة بواسطة السلطات. أفـادت “بلانوفو فوزييستفو” عن حالة مصنع ماكينات ثقيلة وعد بإعطاء شركة بناء، في مقابل 5ر2 مليون طوبة، ليس فقط السعر الرسمي للطوب وإنما أيضا الزيادات التالية 800 طن من الفحم، 250طن من الخشب، 11طن من الكيروسين، وكميات متنوعة من عدد من السلع الأخرى. (244) كل هذا غير قانوني، ولكنه مع ذلك شائع جدا: الحكومة البيروقراطية التي تمنع هذا، هي – في النهاية – سبب وجوده.
مثال آخر من نفس النوع هو سوق الكولخوز، الذي ازدهر بشكل خاص أثناء الحرب بوضعه للطعام في التموين، والذي كان في كل شيء ماعدا الاسم “سوقا سوداء”.
كذلك، ظهور التولكاخ – موفر الإمدادات – الذي يأخذ، بطريقة غير قانونية تماما، عمولة ضخمة لاقتنائه موادا وماكينات، الخ، أيضا الأهمية الكبرى للبلات – النفوذ الشخصي – في الحصول على المواد والماكينات، الخ التي لا يخول لمدير المصنع الحق في الحصول عليها. تعطي النشرات الروسية اعترافات كثيرة بأنها كانت ظاهرة بارزة هناك. يظهر المدى الواسع من النزاعات بين المشروعات والاتحادات والمجالس الصناعية والوزارات.0 الخ من العدد الكبير للدعاوى القضائية فيما بينها. في عام 1938 على سبيل المثال، تم رفع أكثر من 330,000 قضية في الجوساربيتراز (مجلس تحكيم الدولة، وهو نظام خاص من المحاكم لفض النزاعات بين الوحدات الاقتصادية) (245). لا يتضمن هذا الرقم النزاعات بين الوحدات الاقتصادية – المجالس الصناعية والشركات داخل وزارة واحدة – التي تبت فيها مجالس تحكيم الإدارات، يكتب برمان: “أنواع النزاعات التي تنظر فيها الجوسابيتراز متنوعة بشكل مدهش. يدور كثير منها حول جودة السلع التي يتم توريدها وفقا للعقد. كما يتضمن عدد كبير منها مسألة الأسعار، حيث أنه على الرغم من أن الأسعار محددة، إلا أن هناك طرقا عديدة لتجنب أو التهرب من الأسعار المقررة. (246)
أحد أهم عناصر سوء الإدارة البيروقراطية هو التغيير السريع والمتعسف في القرارات بواسطة الحكومة المركزية ذاتها. سنعطي القليل من الأمثلة.
لعدد من السنوات، كان من المسلم به الاعتقاد بأنه كلما كبر المشروع كلما كان ذلك أفضل بصرف النظر عن مستويات الكفاءة التقنية المثالية. هكذا، على سبيل المثال، أعلن ستالين: “جميع حجج (العلم) ضد إمكانية وضرورة خلق مصانع قمح ضخمة تتراوح بين 50 ألف و 100 ألف هكتار لكل، قد تلاشت إلى غبار”. (247)
في عام 1930 أنشئ كولخوز يتكون من 50 قرية و 84 ألف هكتار، كما شمل كولوخوز آخر 29 قرية و 33553 هكتارا. (248) ومع ذلك، فبعد خسائر رهيبة، رجعت الحكومة على أعقابها، في عام 1938 كان الكولخوز المتوسط يضم مساحة 484 هكتارا من الأراضي الصالحة للزراعة. لتسع سنوات (28-1937) هيمنت الحماسة للمشروعات العملاقة حتى حدث التراجع الذي أعلن في أعقابه أن “جنون العملقة” هو نتيجة الأنشطة الخبيثة “للتروتسكيين والفاشيين”
في أوقات أخرى ” وضعت أهداف الإنتاج في مستوى عال بشكل يدعو للسخرية، مما أسفر عن معدلات مغامرة، بتكلفة جسيمة من حيث الخراب، واستهلاك وبلي الماكينات، وتبديد المواد والعمل. هكذا، على سبيل المثال، ذكر ج. ك. أوردزونيكيدز، قوميسار الصناعة الثقيلة في المؤتمر السابع عشر للحزب (30يناير1932) إن المهمة في عام 1932 كانت: ” على مدى عام واحد يجب أن تزيد قدرة مصانع المعادن إلى أكثر من الضعف، رافعين إياها إلى 5ر13 – 14 مليون طن (من الحديد الخام).0 ماذا يعني تحقيق برنامج إنتاج صناعة الحديد والمعادن في عام 1932؟.00 انه يعني إنتاج زيادة مقدارها 4 مليون طن في عام واحد.00 كم استغرقت البلاد الرأسمالية من وقت لإنجاز نفس الشيء؟ إنجلترا استغرقت 35 عاما لإنجاز ذلك.00 واستغرقت ألمانيا عشر سنوات.00 الولايات المتحدة ثمان سنوات. ويجب على الاتحاد السوفيتي تحقيق ذلك في عام واحد.0 (249) في الواقع استغرق ذلك من ست لسبع سنوات وليس سنة واحدة0
بل أن صحيفة هيئة التخطيط اتخذت موقفا أكثر سخافة في وصفها أهداف الخطة الخمسية الثانية. فقد أعلنت أن الاتحاد السوفيتي سينتج ما يلي في عام 1937: 450- 550 مليون طن من الفحم، 150مليون طن من خام البترول، 60مليون طن من الحديد الخام، 150مليون كيلووات ساعة من الطاقة الكهربائية. لقد تعين تخفيض هذه بأكثر من النصف في مؤتمر الحزب السابع عشر (يناير1932) وبأكثر من ذلك أيضا في مؤتمر الحزب السابع عشر (يناير1934) الذي مرر المسودة النهائية.
إن مقارنة بسيطة للأهداف تظهر إلى أي مدى يتسم تخطيط الحكومة بالتعسف والمغامرة. (250)
خطة الإنتاج لعام 1937
| خطة هيئة التخطيط (1931) | مؤتمر الحزب ال17 (1932) | الكونجرس ال 17 للحزب (1932) | الإنجاز الفعلي (1937) | |
| الفحم (بالمليون طن) | 450-550 | 250 | 6ر152 | 0ر128 |
| البترول الخام(بالمليون طن) | 150 | 80-90 | 8ر46 | 5ر30 |
| الحديد الخام(بالمليون طن) | 60 | 22 | 4ر17 | 5ر14 |
| الكهرباء (بالمليون ك و س) | 150 | 100 | 0ر38 | 4ر25 |
حادثة أخرى غريبة ولكنها نموذجية. في عام1931، كانت لدى عضو هام بالمجلس الأعلى للاقتصاد القومي الجرأة الكافية لكي يقول انه لا يعتقد بإمكانية إنتاج 60 مليون بالة من القطن، وإنما 30 مليون فقط. (251) لقد تمت محاكمته، وأعلن المدعي: “إن الرقمين فقط يكفيان لإظهار الضرر العملي لما قام به سوكولوفسكي” اعترف سوكولوفسكي، وقال أنه من الممكن بالفعل تحقيق 60 مليون باله. (لم ينقذه “الاعتراف”، وكان عليه أن يدفع ثمن تشككه السابق السجن لعشر سنوات). بعد ذلك بأربع سنوات، في عام1935، في مؤتمر لزارعي القطن، قام قوميسار الصناعة الخفيفة، لوبيموف، وقوميسار الزراعة، شيرنوف، بإعلام ستالين بأن النجاحات العظيمة في برنامج القطن ستجعل من الممكن في هذا العام إنتاج 32 مليون باله من القطن ! اعتبر ستالين ذلك بعيد المنال وسأل بتشكك: “ألست مندفعا خلف مشاعرك بفعل الحماس” (252)
تلخيصا، يمكن القول بأنه في روسيا، وبدلا من إتباع خطة حقيقية يتم اللجوء إلى الوسائل الصارمة للأمر الحكومي لملء الفجوات في الاقتصاد الناتجة عن قرارات وأنشطة هذه الحكومة نفسها. وبالتالي، فبدلا من الحديث عن اقتصاد سوفيتي مخطط، سيكون أكثر دقة أن نتحدث عن اقتصاد مدار بيروقراطيا. والواقع أن الدكتاتورية السياسية الشمولية البيروقراطية تساعد على التغلب على نتائج سوء التخطيط، الذي تكمن أصوله في نفس الوقت في هذا النظام البيروقراطي ذاته.
على المرء مع ذلك أن يتجنب خطأ افتراض أن سوء الإدارة الذي يصيب الاقتصاد القومي لروسيا بالتآكل، يحول دون إنجازات هامة، بل وهائلة. توجد بين سوء الإدارة البيروقراطية والاندفاع العظيم لأعلى لصناعة روسيا وحدة جدلية محكمة. فلا يمكن تفسير رأسمالية الدولة البيروقراطية إلا من خلال تخلف قوى الإنتاج في البلد، والاندفاع العظيم نحو تنميتها السريعة (بالإضافة إلى سلسلة كاملة من العوامل المرتبطة بذلك) و- قبل كل شيء – إخضاع الاستهلاك لتراكم رأس المال.
روسيا – عملاق صناعي
إن عظمة وتضحيات الشعب قد طورت روسيا، على الرغم من سوء الإدارة البيروقراطية والموارد المبددة إلى قوة صناعية عظيمة، فبعد أن كانت فيما يتعلق بالناتج الصناعي في المرتبة من الرابعة في أوروبا والخامسة في العالم أصبحت الأولى في أوروبا والثانية في العالم. لقد صحت من تخلفها الناعس لكي تصبح بلدا حديثة قوية، متقدمة صناعيا. استحقت البيروقراطية بذلك نفس الإشادة التي منحها ماركس وإنجلز للبرجوازية: “لقد كانت أول من أظهر ما يمكن أن يحققه الفعل الإنساني.. لقد أنجزت عجائب تفوق كثيرا الأهرامات المصرية والقنوات الرومانية والكاتدرائيات القوطية.. البرجوازية… تجر كل الأمم إلى الحضارة.. لقد خلقت مدنا ضخمة… وبذلك أنقذت جزءا كبيرا من السكان من بلاهة الحياة الريفية. لقد خلقت البرجوازية، أثناء حكمها الذي لم يتجاوز مائة سنة، قوى إنتاجية أكثر جسامة وأكثر ضخامة مما فعلت كل الأجيال السابقة مجتمعة”. (253)
الثمن المدفوع لتحقيق هذه الإنجازات كان، بالطبع، الشقاء الإنساني على نطاق يستحيل تقديره.
ولكن من وجهة نظر اشتراكية، فإن المعيار الحاسم ليس هو نمو الإنتاج في حد ذاته، وإنما العلاقات الاجتماعية التي تصاحب هذا النمو الهائل لقوى الإنتاج. هل يصحب هذا النمو تحسين في الوضع الاقتصادي للعمال، زيادة في قوتهم السياسية، تعزيز للديمقراطية، تقليص الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، وتخفيف لقمع الدولة؟ هل التنمية الصناعية مخططة، وإذا كان الأمر كذلك، من يخططها، ولمصلحة من؟ هذه هي المعايير الاشتراكية الأساسية للتقييم الاقتصادي.
لقد تصور ماركس أن نمو قوى الإنتاج في ظل الرأسمالية سيدفع الإنسانية نحو أزمة لا يوجد لها سوى مخرجين: أحدهما، هو إعادة تنظيم المجتمع على أسس اشتراكية، والثاني، ارتداد إلى البربرية. إن تهديد البربرية يأخذ شكل ربط القوى الإنتاجية الإنسانية والصناعة والعلم – أمام أعيننا – بعربة الحرب والدمار. إن مكان ماجنيتوجورسك (ماجنيتوجورسك هي مدينة بجمهورية روسيا الاتحادية تعد أكبر مركز حديد وصلب في الاتحاد السوفيتي (المترجم).) ومافة البلوط (مافة البلوط هي مدينة أمريكية أنشأت بها الحكومة الأمريكية المعمل القومي لخامة البلوط في عام 1943 كجزء من مشروع مانهاتن لإنتاج قنبلة ذرية أثناء الحرب العالمية الثانية. (المترجم)) في تاريخ الإنسان سيحدد ليس بإنجازاتهما المادية الهائلة، وإنما بالعلاقات الاجتماعية والسياسية التي ترتكز عليها هذه الإنجازات.
الفصل الثاني: الدولة والحزب في روسيا الستالينية
في الفصل السابق وصفنا الجوانب الرئيسية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في روسيا. في هذا الفصل سنتناول النواحي السياسية – الدولة والحزب.
ماركس وإنجلز حول طبيعة الدولة العمالية
استخدم ماركس وإنجلز ذلك التعبير الذي يوحي نوعا ما بالشؤم، والذي يساء فهمه على نطاق واسع، “دكتاتورية البروليتاريا” للإشارة إلى مضمون وليس شكل الدولة التي ستحل محل الدولة الرأسمالية، أي أنهما استخدماه لتحديد الطبقة الحاكمة. بالنسبة لهما، في هذا السياق، عنت الدكتاتورية ببساطة الحكم الطبقي، وبالتالي فان دولة – المدينة الأثينية والإمبراطورية الرومانية وحكم نابليون والحكومة البرلمانية البريطانية وألمانيا بسمارك وكوميونة باريس كانت كلها دكتاتوريات، حيث أن طبقة أو عددا من الطبقات كانت تحت حكم طبقة أخرى في كل هذه الأنظمة. إن التصور الذي تقدمه كتابات ماركس وإنجلز لشكل دكتاتورية البروليتاريا هو ديمقراطية كاملة تماما. على سبيل المثال، يذكر البيان الشيوعي أن: “الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة هي رفع البروليتاريا إلى وضع الطبقة الحاكمة و كسب معركة الديمقراطية”.(1) بعد ذلك بأكثر من أربعين سنة، كتب إنجلز: “إذا كان هنالك ثمة شئ مؤكد، فهو أن حزبنا والطبقة العاملة لا يستطيعان أن يصلا إلى الحكم إلا في ظل شكل الجمهورية الديمقراطية. بل إن هذا هو الشكل الوحيد لديكتاتورية البروليتاريا، كما أظهرت بالفعل الثورة الفرنسية الكبرى” (2)
إن أفكار ماركس وإنجلز المتعلقة بالشكل الديمقراطي لدكتاتورية البروليتاريا، قد تحققت في كوميونة باريس عام1871. لقد كتب إنجلز: انظروا لكميونة باريس. تلك كانت دكتاتورية البروليتاريا”. (3) كما أشار ماركس إلى أن: ” أول مرسوم للكوميونة كان إلغاء الجيش النظامي، واستبداله بالجماهير المسلحة”. وبعد ذلك: ” تكونت الكوميونة من أعضاء المجالس البلدية المنتخبون وفق قاعدة الاقتراع العام في أحياء المدينة المختلفة، والذين يتولون المسئولية ويستبدلون خلال فترات قصيرة. وقد كان معظم أعضاء الكوميونة بطبيعة الحال من العمال العاديين، أو ممثلين معترف بهم للطبقة العاملة. وبدلا من استمرار الشرطة كوكيل للحكومة المركزية، جردت على الفور من هذه الصفة السياسية، لتصبح مسئولة أمام الكوميونة، كما يمكن للكوميونة استبدالها في أي وقت. وكان هذا ينطبق على جميع المسئولين في جميع فروع الإدارة الأخرى بدءا من أعضاء الكوميونة إلى أسفل و كان من المتعين أداء الخدمة العامة مقابل نفس الأجر الذي يتقاضاه العمال العاديون. لقد اختفت المصالح الخاصة ومعها امتيازات كبار وجهاء الدولة مع اختفاء كبار الوجهاء أنفسهم… وتقرر تجريد العاملين القضائيين من استقلالهم الزائف. فمثل باقي موظفي الخدمة العامة، أصبح من الضروري أن يتم اختيار القضاة وأن يكونوا قابلين للمساءلة والإقالة”.(4)
لنقتبس من إنجلز مرة أخرى: منعا لهذا التحول للدولة ولأجهزة الدولة من خدم للمجتمع إلى سادة للمجتمع – وهي عملية كانت حتمية في جميع الدول السابقة – استخدمت الكوميونة وسيلتين أكيدتي المفعول، أولا، قامت بملء جميع المناصب – الإدارية والقضائية والتعليمية – عن طريق الانتخاب على أساس الاقتراع العام لكل المعنيين، مع حق الناخبين في استدعاء مندوبهم واستبداله في أي وقت. ثانيا، المسئولين جميعهم، سواء كانوا كبارا أو صغارا، لم يحصلوا إلا على الأجور التي يتقاضاها العمال الآخرون. كان أعلى مرتب تدفعه الكوميونة لأي شخص هو 6 آلاف فرنك. بهذه الطريقة تم وضع حاجز فعال أمام التزلف والحيلة لتصيد المناصب العليا والسعي للكسب الشخصي من وراءها، وذلك إضافة إلى التكليفات الإجبارية للمندوبين في الهيئات التمثيلية والتي طبقت بكثرة”. (5)
أعلن ماركس أن كوميونة باريس – من خلال الاقتراع العام، والحق في استدعاء كل موظف، وتحديد أجور العمال لكل المسئولين، والحد الأقصى من الحكم الذاتي المحلي، وغياب قوات مسلحة مرفوعة فوق الشعب وتقوم باضطهاده – شكلت الديمقراطية الكاملة.
كان نقيض الدولة العمالية هو البيروقراطية والجيش الوحشيين للدول الرأسمالية، والذين كانا، بكلمات إنجلز “يهددان بافتراس المجتمع كله”. (6)
هذا هو باختصار، مفهوم ماركس وإنجلز للدولة العمالية، ديمقراطية مطلقة وثابتة.
دعونا الآن نطبق هذا المفهوم على واقع الدولة الروسية الستالينية:
الجيش الروسي
إن العنصر الأساسي في الدولة هو القوات المسلحة. وحسب تعريف لينين، فان الدولة “تتكون من هيئات خاصة من الرجال المسلحين. وضعت السجون، وغيرها تحت تصرفهم”. (7) وبالتالي، فان نقطة الانطلاق لأي تحليل لجهاز الدولة الروسي الحالي، خاصة من وجهة نظر ماركسية، ينبغي أن تكون بنية القوات المسلحة. وكما كتب تروتسكي بفطنة كبيرة: “الجيش هو نسخة من المجتمع ويعاني من كل أمراضه، عادة بدرجة حرارة أعلى”. (8)
لقد كان تكوين ميليشيا شعبية مطلبا تقليديا للأحزاب الاشتراكية (أنظر على سبيل المثال، المادة 12 من برنامج عام 1903 لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي) (9)، وفقا لذلك. من بين أول الإجراءات التي اتخذها قادة البلاشفة، عند توليهم السلطة، هو إصدار مرسوم تضمن الفقرات التالية:
2- “إن السلطة الكاملة داخل أي وحدة من وحدات الجيش وأي مجموعة من الوحدات يجب أن تكون في أيدي لجان الجنود والسوفييتات. يتم إدخال مبدأ الانتخاب بالنسبة لقادة الجيش.
4- يتم بموجب هذا انتخاب جميع القادة حتى قائد الفرقة عن طريق الاقتراع العام (للوحدات المختلفة)… القادة الأعلى من قادة الفرق، بما في ذلك القائد العام، يتم انتخابهم بواسطة مؤتمر… للجان وحدات الجيش (التي يجري انتخاب القائد لها). (10)
في اليوم التالي أضاف مرسوم آخر:
تنفيذا لإرادة الشعب الثوري المعني بالاقتلاع الفوري والحاسم لكل ظلم أو تفاوت في الفرص، يقرر مجلس قوميساري الشعب:
إلغاء جميع الرتب والألقاب من رتبة أمباشي إلى رتبة لواء…
إلغاء جميع الامتيازات والعلامات البارزة المرتبطة في السابق بالرتب والألقاب المختلفة.
إلغاء التحية العسكرية.
إلغاء جميع الزينات وغيرها من علامات التمييز.
إلغاء جميع تنظيمات الضباط.
إلغاء قانون المراسلين في الجيش. (11)
إلا أن رغبة البلاشفة في تحقيق ديمقراطية حقيقية في الجيش، بتحويله إلى ميليشيا شعبية، اصطدمت بصخور الواقع الموضوعي.
في الأيام الأولى التي أعقبت ثورة أكتوبر، كانت القوات المسلحة الثورية تتألف من مجموعات صغيرة من المتطوعين. كان المرض متفشيا وسط الجماهير المتعبة من الحرب ولم تكن مستعدة للتطوع في القوات المسلحة الثورية الجديدة. ولكي يواجهوا خطر الجيوش البيضاء التي كانت مدعومة من القوى الأجنبية القوية، اضطر البلاشفة لاستبدال مبدأ التطوع بالتجنيد الإلزامي وبالإضافة لذلك، وبسب افتقادهم للقادة ذوي الخبرة، اضطروا لتجنيد عشرات الآلاف من ضباط الجيش القيصري السابق. وقد أوضح ذلك ضرورة التخلي عن مبدأ الانتخاب في اختيار قادة الجيش. كان من الصعب على المرء أن يتوقع من الفلاحين والعمال في الزي العسكري أن ينتخبوا لقيادتهم أولئك الضباط الذين كانوا يكرهونهم بشده كممثلين للنظام القديم. (كما أن متطلبات المعركة حتمت أيضا التخلي عن فكرة الجيش القائم على أساس إقليمي – تسليح الشعب – وإعادته إلى الثكنات).
لم ينكر الزعماء البلاشفة للحظة واحدة أن هذه الإجراءات مثلت انحرافا عن البرنامج الاشتراكي. (أنظر، على سبيل المثال، قرار مؤتمر الحزب الثامن، مارس1919) (12) كذلك، عارضوا بشدة أي محاولة لجعلها دائمة. هكذا مثلا، عندما ذكر لواء سابق بجيش القيصر، حارب مع البلاشفة أثناء الحرب الأهلية، أن جيش بلد اشتراكي لا ينبغي قيامه على الميليشيا وإنما على نظام الثكنات القديم والراسخ، رد قوميسار الشعب للحرب، تروتسكي، بصرامة قائلا: (لم يأت الحزب الشيوعي للسلطة لكي يستبدل الثكنات ثلاثية الألوان بثكنات حمراء اللون”. (13) وكثيرا ما عبر البلاشفة عن نيتهم في إدخال نظام الميليشيا في أقرب وقت ممكن. هكذا، على سبيل المثال، أعلن تروتسكي في المؤتمر السابع للسوفييتات المنعقد في ديسمبر1919: “من الضروري البدء في الانتقال إلى تنفيذ نظام الميليشيا لتسليح الجمهورية السوفيتية”.(14)
قرر المؤتمر التاسع للحزب أن يجعل من هذه الأمنية واقعا ملموسا عن طريق بناء وحدات من ميليشيا عمالية جنبا إلى جنب مع الجيش النظامي، وكان المأمول أن تتطور هذه الوحدات تدريجيا حتى تحل محل الجيش النظامي بشكل تام0 (15)
إلا أن هذا القرار لم ينفذ أبدا، حيث أن أية خطة لإدخال ميليشيا شعبية قد حالت دونها حقائق موضوعية – القوى الإنتاجية المتخلفة لروسيا، المستوى الثقافي المتدني للشعب، كون البروليتاريا أقلية ضئيلة من السكان. لقد شرح ذلك بوضوح سميلجا، وهو بلشفي بارز في الجيش، حيث قال في عام1921:
“إن نظام الميليشيا، الذي تتمثل أهم خصائصه في مبدأ المناطق، يواجه عقبة سياسية كئود في طريق إدخاله في روسيا، فبسبب القلة العددية للبروليتاريا في روسيا، فإننا لا نستطيع أن نضمن قيام البروليتاريا بتوجيه وحدات الميليشيا في المناطق.. بل وتوجد مصاعب أكبر في طريق إدخال نظام الميليشيا تنبع من وجهة نظر استراتيجية. فمع ضعف نظام السكك الحديدية لدينا، لن يكون بإمكاننا، في حالة الحرب، أن نركز القوات في المناطق المهددة.. وفضلا عن ذلك أظهرت تجربة الحرب الأهلية بما لا يدع مجالا للشك أن تشكيلات المناطق غير مناسبة على الإطلاق، حيث يهرب الجنود ولا يرغبون في مغادرة قراهم أثناء الهجوم أو التراجع، وبالتالي، فان العودة لهذا الشكل التنظيمي ستكون خطأ فجا غير مبرر على الإطلاق”. (16)
إن تخلف القوى الإنتاجية والطابع الفلاحي للبلد – وهما أمران متصلان – كانا العاملين الحاسمين في جعل الجيش الأحمر جيشا نظاميا وليس ميليشيا (رغم أن عناصر كثيرة من الديمقراطية والمساواة غير المرتبطة عادة بالقوات المسلحة النظامية، قد تم إدخالها في بنية الجيش الأحمر). المستوى الاقتصادي لبلد ما هو في النهاية العامل التاريخي الحاسم. وكما قال ماركس: “يبدو أن نظريتنا القائلة بأن تنظيم العمل محكوم بوسائل الإنتاج، تجد أفضل دعم لها في ” أسلحة الدمار وقتل الإنسان”. (17)
وقد كشف التخلف المادي والثقافي لروسيا عن نفسه أيضا في العلاقات بين الجنود والضباط.
منذ البداية، وجد البلاشفة أنه لا مفر من تعيين ضباط قيصريين سابقين، وذلك رغم تحريضهم السابق من أجل استبدال جميع الضباط المعينين بأولئك المنتخبين بواسطة الجنود. لقد كان من المستحيل خوض الحرب ضد الجيوش البيضاء بدون قادة مجربين، ولو ترك الاختيار للجنود لما انتخبوا ضباطا خدموا القيصر.
منذ البداية كان ثمة صراع بين القوميسارين السياسيين من ناحية، وجماعات الحزب داخل الجيش من ناحية أخرى. وقد تقاطع هذا الصراع مع صراع آخر بين النزعات المركزية واللامركزية. وكانت نتيجة هذين الصراعين هي خروج القوميسارين السياسيين منتصرين على جماعات الحزب، وتغلب المركز على نزعات حرب العصابات. وقد عكس تقاطع هذين الصراعين نزعة بيروقراطية متزايدة داخل الجيش.
ولم يمض وقت طويل حتى بدأ الضباط القيصريون السابقون في التأثير على القادة الجدد ذوي الأصول البروليتارية. ذكر البلشفي بيتروفسكي: “داخل أسوار المدرسة العسكرية، واجهنا موقف النظام القديم للفلاح، حول دور الضباط فيما يتعلق بجماهير الجنود الأفراد. كما لاحظنا أيضا نزعة نحو تقاليد الطبقة العليا التي مارسها طلبة المدارس العسكرية القيصرية.. الاحترافية هو الأداة التي استخدمت لتشكيل أخلاقيات الضباط كل الأزمنة في كل البلاد. انهم (قادة الجيش الأحمر) أصبحوا أعضاءا في مجموعة الضباط الجدد، وصار أي تحريض – كما صارت أية خطب جميلة حول الاتصال بالجماهير – بلا طائل، فظروف البقاء أقوى من الأماني الطيبة”. (18)
بدأ القادة والقوميساريون السياسيون وغيرهم من ذوي السلطة داخل الجيش الأحمر في استخدام مواقعهم لكسب مزايا لأنفسهم. وقد تعرضوا لنقد قاس من تروتسكي بسبب ذلك، مثلما حدث (في 31 أكتوبر1920) عندما كتب “للمجالس العسكرية الثورية للجبهات والجيوش” مدينا استخدام السيارات الحكومية بواسطة من هم في السلطة من أجل الحفلات البهيجة أمام أعين جنود الجيش الأحمر المتعبين ” لقد تحدث بغضب عن القادة (الذين) يرتدون ملابس ممعنة الأناقة في حين يسير المقاتلون نصف عراة، وهاجم مجالس الشراب التي يطلق القادة والقوميساريون السياسيون العنان لأنفسهم فيها. وقد استنتج: ” إن مثل هذه الوقائع لا يمكن إلا أن تثير السخط والتبرم بين جنود الجيش الأحمر. ” وفي نفس الرسالة يشرح هدفه: “دون وضع الهدف المستحيل الخاص بالإلغاء الفوري لجميع الامتيازات داخل الجيش، ينبغي السعي لتقليل تلك الامتيازات إلى الحد الأدنى الضروري فعلا”. (19) إن إدراكه الثوري الواقعي يعكس بوضوح الصعاب الهائلة للوضع.
على الرغم من هذه الانتهاكات، إلا إن وجود الحزب البلشفي بخلاياه على امتداد الجيش، مع الحماسة الثورية وروح التفاني لدى الجنود العاديين ووجود تروتسكي على رأس الجيش الأحمر، كانت عوامل ضمنت الإبقاء على الطابع البروليتاري للجيش الأحمر أثناء الحرب الأهلية. مع الانتصار الجزئي للبيروقراطية في عام1923، أصبحت الغطرسة وروح التسلط تجاه الجنود القاعدة وليس الاستثناء بين الضباط. وتدريجيا، استولى القادة أنفسهم على المواقع الهامة في خلايا الحزب داخل الجيش، حتى لاحظت الإدارة السياسية للجيش في 1926 أن ثلثي المواقع في جهاز الحزب كانت في أيدي القادة.(20) وبمعنى آخر، أصبح الضباط هم القادة السياسيين الذين يفترض أن يدافعوا عن الجنود ضد الضباط !
ومع ذلك، لم يكن الضباط قد أصبحوا فئة مستقلة تماما بعد. فأولا، كانت ظروف معيشة القادة قاسية وغير مختلفة كثيرا عن تلك الخاصة بالجنود. ووفقا لوايت: ” في عام 1925 كان 30% من القادة يسكنون في مستوى يرى فرونز (قوميسار الشعب للحرب) أنه مقبول. وكان لدى 70% تسهيلات سكنية أقل من هذا المستوى. تحدث فرونز عن مناطق عديدة كانت تتوفر فيها حجرة واحدة فقط لعدد من القادة مع عائلاتهم، أي أن كل عائلة كان لديها جزء من حجرة فقط تحت تصرفهـا. أما الأجر المدفوع للقادة الاحتياطيين، عندما يتم استدعائهم لإعادة التدريب خارج صفوف الجيش، فلم يكن يغري حتى حمال صيني فالموظفون منهم أو الذين يشتغلون في الفلاحة كانوا يتقاضون خمس كوبيكات في الساعة بينما يتقاضى أولئك العاطلين عن العمل من بينهم تسع كوبيكات (الكوبك جزء من مئة من الروبل “المترجم”) في الساعة أثناء الوقـت الذي يقضونه في الدراسة. (21)
ويعطي ولينبرج، الذي كان قائدا في الجيش الأحمر، هذه الوقائع:
“في عام 1924 كان قائد السلاح يتعاطى 150 روبلا في الشهر، وهو ما يساوي تقريبا ما يتقاضاه عامل المعادن الجيد الأجر. كان قائد السلاح يتقاضى إذن ما يقل بمقدار 25 روبلا في الشهر عن “الحد الأقصى الحربي”، أي أعلى مرتب شهري كان يحق لعضو الحزب أن يقبله تلك الأيام. لم يكن ثمة ميس مخصص للضباط في ذلك الوقت. كانت وجبات الضباط والأفراد تعد في المطابخ ذاتها. ونادرا ما ارتدى الضباط الشيوعيون علامات الرتب الخاصة بهم في غير ساعات العمل، بل وكثيرا ما كانوا يستغنون عنها حتى أثناء العمل. في ذلك الوقت كان الجيش الأحمر يقر بعلاقة الرئيس والمرءوس فقط أثناء القيام بمهمة عسكرية، وعلى كل حال كان كل جندي يعرف الضابط الذي يرأسه سواء كان يرتدي علامة الرتبة أو لم يكن. وألغي نظام مراسلي الضباط.(22)
إضافة إلى ذلك، كان بإمكان الجنود – وقد استخدموا هذا الحق بالفعل – أن يشكوا ضباطهم لمكتب المدعي العسكري. وكان هناك في المتوسط 1892 شكوى في الشهر خلال عام1925، و1923 شكوى شهريا في عام1926، و2082 شكوى شهريا في عام1927. حتى في الفترة بين عامي 1931 – 1933 كانت هناك “علاقات طبيعية بين الضباط والأفراد” (23).
يضع وايت نقطة التحول نحو تعزيز فئة الضباط قبل ذلك بقليل – قوانين الجيش لعام1928، التي يصفها بأنها “الخط الفاصل الحقيقي”، ويصف ما تلاها بأنه “تطور لتيار كان قد ترسخ بالفعل” (24). من خلال هذه القوانين أصبح لضباط الجيش ضمانا مهنيا مدى الحياة، ويصفها وايت – وبما يكفي من المبررات “بأنها وثيقة حقوق القادة” وبأنها “شئ مشابه جدا لجدول بتراين للرتب” (25)
في عام 1929 بدأ ” تحول بيوت الجيش الأحمر تدريجيا إلى أندية ضباط. (26) وعلى الرغم من استمرار ضآلة ما يدفع للجنود، فان رواتب الضباط بدأت تتزايد كما يبين الجدول التالي: (27)
الزيادة في المدفوعات الشهرية للضباط
| 1934(بالروبل) | 1939(بالروبل) | النسبة المئوية للزيادة | |
| قائد الفصيلة | 260 | 625 | 240 |
| قائد الوحدة | 285 | 750 | 263 |
| قائد الكتيبة | 335 | 850 | 254 |
| قائد الفوج | 400 | 1200 | 300 |
| قائد الفرقة | 475 | 1600 | 337 |
| قائد السلاح | 550 | 2000 | 364 |
لقد قدر أنه في عام 1937 كان متوسط الدخل السنوي للأفراد وضباط الصف 150 روبلا، أما متوسط الدخل السنوي للضباط فكان 8000 روبل. (28) أثناء الحرب العالمية الثانية، كان الأفراد في الجيش السوفيتي يحصلون على مكافأة تبلغ 10 روبلات في الشهر في حين كان الملازم الأول يحصل على 1000 روبل والعقيد على 2400 روبل شهريا. وفي تناقض حاد مع هذا التفاوت الكبير – ونحن هنا لا نقتبس تعبيرا عن رضانا وإنما لأغراض المقارنة فقط – كان الفرد في جيش الولايات المتحدة يحصل على خمسين دولار شهريا، والملازم 150 والعقيد 333 دولار شهريا. (29)
وعلى الرغم من أن قيمة الروبل قد انخفضت بحدة أثناء العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة إلا أن تأثير هذا على الضباط كان أقل منه على المدنيين، وذلك بسبب استفادتهم من (الفوينتورج)، وهي منظمة تعاونية قاصرة على الضباط تدير محلات ومطاعم ومغاسل ومؤسسات خياطة وصناعة أحذية. كما تبنى لهم بيوت خاصة بها كل التسهيلات، كما يحق لهم ولعائلاتهم السفر مجانا بالسكك الحديدية والأوتوبيسات والسفن… الخ (لا يحصل الجنود العاديون على أي من هذه الامتيازات، الامتياز الوحيد الذي يحصلون عليه هو البريد المجاني بالنسبة لرسائلهم ورسائل عائلاتهم إليهم). (30)
أدخل مرسوم صادر في 22 سبتمبر 1935 الرتب التالية في الجيش والقوات الجوية: ملازم ثان، ملازم أول، نقيب، مقدم، عقيد، عميد، قائد فرقة، قائد سلاح، قائد جيش من الدرجة الثانية، قائد جيش من الدرجة الأولى وأخيرا ماريشال الاتحاد السوفيتي.(31) كما أدخلت رتب مماثلة في البحرية. وأعطيت رتب إضافية للخدمات التقنية العسكرية. (23) في 7 مايو1940، أدخلت رتب إضافية في الجيش والقوات الجوية؛ لواء، فريق، فريق أول، مشير للجيش، كما أدخلت الرتب التالية في البحرية: عميد بحري، لواء بحري، فريق بحري، مشير. (33) وأخيرا في 26 يونيو 1945 تم إدخال رتبة القائد العام للقوات المسلحة للاتحاد السوفيتي. (34) في 3 سبتمبر 1940 تمت إعادة علامات الرتب على النمط القيصري القديم مثل الشريط المقصب على كتف السترة العسكرية والنجوم المصنوعة من الذهب والبلاتين والماس (والتي يرتديها الماريشالات). (35) لقد كان هذا بعيدا جدا عن أيام الحرب الأهلية عندما أطلق على البيض لقب “ذوي الشارات المقصبة”. ذكر أحد أجزاء الموسوعة السوفيتية الصغيرة المنشورة في عام 1930 أن الشرائط المقصبة قد تم إلغاؤها بواسطة ثورة نوفمبر 1917 باعتبارها رموز للقمع الطبقي في الجيش”. (36) وعلى النقيض تماما من ذلك، كتبت جريدة الجيش الأحمر في عام1943، بعد إدخال الشرائط المقصبة: ” إن إدخال الشرائط المقصبة التقليدية للجنود والضباط.. يؤكد ويرمز لاستمرارية مجد العسكرية الروسية على مدى التاريخ وحتى أيامنا هذه”. (37)
و تم حظر العلاقات الأخوية بين الضباط والجنود. (38) حتى الجنود الاحتياطيين مقسمون إلى نفس الرتب المطبقة في الجيش كما أن لديهم الحق في ارتداء الزي العسكري في أي وقت.
كتب جون جيبونز، مندوب الـ “ديلي ووركر” في موسكو: “في أيامنا هذه، ينبغي على الجنود وضباط الصف المسافرين في أتوبيس أو سكة حديدية تحت الأرض أو قطار أن يتنازلوا عن مقاعدهم لأصحاب الرتب الأعلى إذا كانوا واقفين”. (39)
لكي يحافظوا على مظهر التنشئة الأرفع، لا يسمح للضباط بحمل أشياء كبيرة في الشارع، أو ارتداء أحذية صوفية عندما يزورون مسرحا. ولا يسمح لكبار الضباط بالسفر بواسطة السكة الحديدية تحت الأرض أو الترام. (40) هناك غرف طعام (ميس الضباط) وأندية خاصة بالضباط. ولا يحق للضابط حتى عندما يكون في إجازة، أن يجلس على نفس المنضدة مع رتب أخرى علنا. ولكل ضابط مراسله الدائم. وقد أنشئت مدارس خاصة بأبناء الضباط، منذ مرحلة الحضانة. وقد أصبح ضابط سابق بالحرس الخاص القيصري اللواء الكسي اجناتييف، مديرا للانضباط في جيش ستالين. وجدير بالذكر أن دروس الرقص إجبارية في المدرسة العسكرية.
من المشكوك فيه أن يكون لدى ضباط أي جيش آخر في التاريخ سلطات تأديبية أكبر من تلك التي يتمتع بها الضباط الروس. جاء في القوانين التي أدخلت في 12 أكتوبر 1940: “في حالة العصيان، يحق للقائد أن يلجأ لكافة الإجراءات القسرية بما في ذلك استخدام القوة والسلاح الناري. لا يتحمل القائد أي مسئولية عما يترتب من نتائج في حالة اضطراره لاستخدام القوة والسلاح الناري لكي يجبر عاصي على تنفيذ أوامره ومراعاة النظام.. القائد الذي لا يلجأ في مثل هذه الحالات لكافة الإجراءات الضرورية لتنفيذ أمر يحال للمحاكمة أمام مجلس عسكري”. (41) يعلق ف0 اولريتش، الذي رأس محاكمات موسكو، على هذه القوانين قائلا: “القوانين التأديبية توسع بشدة من حق القادة فيما يتعلق باستخدام القوة والسلاح الناري… لم تعد هناك علاقات رفاقية بين الجنود والضباط… إن روح الود المفرط في العلاقات بين قائد ومرءوس لا يمكن أن يكون لها مكان في الجيش الأحمر. أي نوع من النقاش محظور تماما بين المرءوسين”. (42)
يلقى مقال في “برافدا” في نفس الفترة الضوء على جانب آخر من هذه القوانين: ” يمكن تقديم التظلمات بشكل شخصي وفردي فقط. تقديم التظلمات الجماعية عن الآخرين محظور. يحظر بعد اليوم التصريحات الجماعية والمناقشات المشتركة – سواء أكانت تتعلق بنظام، أو بطعام أو أي موضوع آخر – إن هذا كله يندرج تحت “العصيان”، ويمكن بسببه إطلاق النار في الحال على الجندي دون مجلس عسكري أو استماع أو تحقيق، إذا قرر ضابط من رتبة أعلى ذلك بشكل فردي”. (43)
هكذا، فقد تطور الضباط إلى هيئة عسكرية هرمية محددة بوضوح لا يقل عنه في أي مجتمع في التاريخ.
السوفييتات
من ناحية رسمية، تعتبر المؤسسات التي تكمن فيها السيادة في الاتحاد السوفيتي هي السوفييتات التي يرأسها “السوفيت الأعلى” (الذي حل محل مؤتمر السوفييتات، منذ1937). هناك العديد من المؤشرات على أنه لسنوات طويلة لم تكن لهذه الهيئات سوى سلطة اسمية فقط، أما السلطة الحقيقية فهي توجد في مكان آخر.
في الأيام الأولى، كانت الأمور مختلفة. ففي عام 1918، على سبيل المثال، اجتمع المؤتمر خمس مرات. وبين عام 1919 و1922، كان يجتمع مرة سنويا، ولكن منذ ذلك الوقت أخذت الفترات الفاصلة بين الاجتماعات تتسع بشدة. في عام 1923 انضمت وحدات أخرى إلى الجمهورية الروسية السوفيتية الفيدرالية الاشتراكية فتكون على اثر ذلك اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. انعقد “مؤتمر السوفييتات الأول لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في ديسمبر1922، والثاني في يناير – فبراير1924، والثالث في مايو1925، وبعد ذلك مرة واحدة فقط كل سنتين حتى عام1931. انعقد المؤتمر السابع في يناير – فبراير1935، أي بعد الاجتماع السابق له بأربع سنوات، لم يحدث أي تحسن منذ ذلك الوقت (وان كانت ظروف الحرب بلا شك تمثل عذرا، وان كان ضعيفا، لتأجيل الجلسات). لقد انعقد هذا “البرلمان” السوفيتي لمدة 104 يوما فقط في السنوات 1917 الى1936، أي أقل من ستة أيام في السنة. (44) بل أن الرقم بالنسبة للسنوات اللاحقة أقل من ذلك، ومما له دلالته أن المؤتمر لم ينعقد على الإطلاق أثناء الفترة من 1931 الى1935، فترة أكبر وأسرع تحول لروسيا. تم إقرار العديد من الخطوات الكبرى، مثل الخطة الخمسية والتجميع الزراعي والتصنيع دون استشارة “السلطة العليا” في البلاد.
أثناء الفترة من 1917 إلى 1936 كانت سلطة تشريع القوانين تكمن من الناحية الصورية في أيدي مؤتمر السوفييتات ولجنته المركزية التنفيذية المنتخبة لتمثيله. إلا أنه، منذ انتصار ستالين، لم تزد اجتماعات اللجنة المركزية التنفيذية في المتوسط عن عشرة أيام سنويا.
لقد قطعت روسيا شوطا بعيدا منذ ذلك الوقت الذي كان في استطاعة رئيس اللجنة المركزية التنفيذية أن يقول فيه: “اللجنة المركزية التنفيذية، بوصفها الجهة العليا في الجمهورية السوفيتية… تضع السياسات.. لكي ينفذها قوميسارو الشعب”.(45)
أما فيما يتعلق بمجلس السوفيت الأعلى، فليس من المعروف متى يجتمع، أو ماذا يناقش في جلساته، حيث لا تظهر أي تقارير عن أعماله.
منذ نهاية العشرينات، صدرت جميع القرارات التي اتخذها مؤتمر السوفييتات، والسوفيت الأعلى بعد ذلك، عن طريق الإجماع. ولم يحدث مطلقا أن صوت نائب واحد ضد اقتراح مطروح، بل ولم يحدث أن نائبا واحدا امتنع عن التصويت أو تقدم باقتراح بالتعديل، او حتى ألقى خطابا معارضا.
إن الطبيعة المراسمية البحتة للسوفييت الأعلى تظهر بوضوح من خلال طابع مداولاته، هكذا، على سبيل المثال، عندما حدث هذا التحول الكبير في السياسة الخارجية من التحالف مع فرنسا وانجلترا إلى التعاون مع هتلر، قرر السوفيت الأعلى أنه لا توجد حاجة لمناقشة المسألة “بسبب وضوح واتساق السياسة الخارجية للحكومة السوفيتية”. (46)
أحيانا ما تعرض الميزانية السنوية على السوفييت الأعلى بعد عدة شهور من الشروع في تنفيذها. هكذا، على سبيل المثال، فان الميزانية السنوية لعام 1952، الموضوعة موضع التنفيذ منذ أول يناير من تلك السنة، لم يعلنها وزير المالية زفيريف إلا في 6 مارس 1952.(47) كما نوقشت ميزانية عام 1954 في 11 إبريل.(48) وبالمثل، يجد المرء أنه في حين وضعت الخطة الخمسية الأولى موضع التنفيذ في أول أكتوبر 1928، فلم يتم إقرارها إلا في ابريل1929. ودخلت الخطة الخمسية الثانية حيز التنفيذ في أول يناير1933، الا أن الموافقة الرسمية عليها جاءت بعد ذلك باثنين وعشرين شهرا، في 17 نوفمبر1934. التواريخ المماثلة بالنسبة للخطة الخمسية الثالثة كانت أول يناير 1939 ومارس1939، بالنسبة للخطة الرابعة، أول يناير 1946 ومارس1946، وبالنسبة للخامسة، أول يناير 1951 وأكتوبر1952.
في ضوء هذه الوقائع، لا يمكن وصف التصريح التالي لعميد كانتربوري، الدكتور هيوليت جونسون، إلا بأنه هراء وقح: “السلطة التنفيذية تخضع للسوفييت الأعلى.. جميع أعمال السلطة التنفيذية يجب أن يصدق عليها السوفييت الأعلى: “الجهة العليا للدولة”، كما تقول المادة30، “هي السوفيت الأعلى”. ان أهمية تنفيذ هذا القانون ستظهر على الفور لأولئك الذين يراقبون في قلق النزعة العكسية تماما هنا، كما يحدث مثلا عندما تقوم الوزارة البريطانية بالتصرف دون التشاور مع البرلمان أو بدون السعي للحصول على تصديق فوري وسريع من البرلمان على عملها. وأما ما له دلالة أعمق من ذلك، فهو الإصرار على رقابة السوفيت الأعلى على الميزانية. أولئك الذين يسيطرون على الخزانة يسيطرون على السلطة”.(29) عنوان الفصل الذي جاءت فيه هذه الفقرة هو: “الدستور الأكثر ديمقراطية في العالم” !
الانتخابات
أعلن ستالين قبيل الانتخابات العامة لعام 1937: لم ير العالم مطلقا من قبل انتخابات تتسم بالحرية الكاملة والديمقراطية الحقيقية مثل انتخاباتنا ! لم يسجل التاريخ أي مثال آخر من نفس النوع”.(50) ويقول أمريكي مؤيد لنظام ستالين بحماس: “بالاقتراع السري، بلا خوف أو تملق، يستطيع (المواطن السوفيتي) أن يصوت للشخص أو السياسة التي يريدها فعلا”.(51) ومع ذلك، ففي هذه الانتخابات “كاملة الحرية وشديدة الديمقراطية” لا يوجد أكثر من مرشح واحد يستطيع الناخبون اختياره في كل دائرة. كما أنه لم يحدث مطلقا في أي من مئات الدوائر الانتخابية أن انخفضت نسبة الناخبين عن 98%. وكان عدد الأصوات دائما على وجه التقريب 9ر99%، كما حدث بالفعل أن حصل مرشح على أكثر من 100% ! كان ستالين هو المرشح الذي حصل على 2122 صوتا في انتخابات السوفييتات المحلية التي جرت في 21 ديسمبر1947، على الرغم من أن الدائرة التي “انتخبته” كان فيها 1617 ناخبا فقط ! ولا يفوق السخافة التامة لهذه الحادثة سوى التفسير الوقح الذي قدمته “برافدا” في اليوم التالي، حيث ذكرت: “ان أوراق الاقتراع الإضافية قد وضعها في الصناديق مواطنو الدوائر المجاورة الحريصون على انتهاز الفرصة للتعبير عن شعورهم بالعرفان إزاء زعمائهم”.(52)
يتم عادة، بالطبع، ترتيب الأمور بعناية زائدة، وبالتالي لا توجد سوى أدلة قليلة على التزوير. ومع ذلك فهناك حالات أخرى مسجلة. إحدى هذه الحالات كانت الاستفتاء الذي جرى في ليتوانيا في 12 يوليو 1940 للبت في الضم المقترح لليتوانيا إلى الاتحاد السوفيتي. لم يتم تبليغ وكالة تاس في موسكو أن السلطات المحلية قررت مد مدة الاستفتاء إلى يومين، ومن ثم أعلنت موسكو النتائج بعد اليوم الأول للاستفتاء، رغم أن العد الفعلي للأصوات لم يحدث إلا في اليوم التالي، و”بالمصادفة”، جاءت النتائج مطابقة تماما للتوقعات: “لقد كانت زلة غير موفقة مكنت جريدة لندنية من نشر النتائج الرسمية نقلا عن وكالة أنباء روسية قبل أربع وعشرين ساعة من إغلاق الصناديق رسميا”.(53)
لقد نصت قواعد الانتخابات على أن أي تدخل في الحقوق الانتخابية للمواطنين يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. ومع ذلك، فقد اختفى 37 مرشحا – منهم عضوان في المكتب السياسي، هما كوسيبور وشوبار – في الفترة بين تحديد المرشحين والانتخابات الفعلية للسوفييت الأعلى في ديسمبر1937، وتم استبدالهم بآخرين. لم يقدم أي تفسير للناخبين، ويبدو أن أحدا لم ير من السليم أن يبحث في الأمر.
وقبل خمسة عشر يوما من نفس الانتخابات، أرسل مراسل الـ “نيويورك تايمز” في موسكو لصحيفته توقعا بتشكيل وأفراد السوفييت الأعلى القادم. ذكر أنه سيتكون من 246 مسئولا حزبيا كبيرا، و 365 مسئولا مدنيا وعسكريا، و78 ممثلا للمثقفين، و131 عاملا، و223 عضوا بالكولخوزات، وأعطى أسماءهم.(54) وباستثناء الـ 37 الذين اعتقلوا في الدقيقة الأخيرة، تطابق توقعه مع النتائج تماما في كل التفاصيل. كيف يمكن تصور حدوث ذلك في أية انتخابات خالية من التلاعب؟
الحزب
بما أن الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي هو حزب دولة، فان تحليل هيكله وتكوينه وعمله هو بالضرورة أيضا تحليل لجهاز الدولة. وقبل أن نحلل عمل الحزب منذ الوقت الذي أمسك فيه ستالين بزمام الأمور. من المهم أن نبين كيف أنه على النقيض من طابعه الجامد (المقصود بالطابع “الجامد” أن يكون الحزب كالكتلة الصخرية الواحدة، لا تتعدد فيه الآراء “المترجم”) والشمولي الحالي، كان الحزب يعمل بأسلوب ديمقراطي في الفترة السابقة على صعود البيروقراطية.
لم يكن الحزب البلشفي أبدا حزبا جامدا أو شموليا، بل كان على النقيض من ذلك، لقد كانت الديمقراطية الداخلية دائما ذات أهمية قصوى في حياة الحزب، ولكن لسبب أو لآخر، تم التغاضي عن هذا الأمر في أغلب الأدبيات التي تناولت الموضوع.
سيكون اذن من المفيد أن نستطرد قليلا ونخصص بعض الصفحات لإيراد عدد من الأمثلة التي تبين وجود الديمقراطية الحزبية الداخلية في سنوات ما قبل الستالينية.
لنبدأ بالقليل من الأمثلة من الفترة التي سبقت ثورة أكتوبر. في 1907 بعد الهزيمة النهائية للثورة، عانى الحزب من أزمة حول مسألة الموقف الذي يتخذه من انتخابات الدوما القيصري وفي المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (المنعقد في يوليو1907)، الذي كان البلاشفة علاوة عن المناشفة ممثلين فيه، نشأت حالة غريبة: صوت جميع المندوبين البلاشفة باستثناء لينين فقط، لصالح مقاطعة الانتخابات وصوت لينين مع المناشفة. (55) وبعد ذلك بثلاث سنوات، صدر عن جلسة للجنة المركزية للبلاشفة قرار يدعو للوحدة مع المناشفة، مرة أخرى كان الصوت الوحيد المنشق هو صوت لينين. (56)
عندما اندلعت حرب 1914 -1918، لم يتبن أي من فروع الحزب الموقف الانهزامي الثوري الذي دعا اليه لينين، (57) وأثناء محاكمة بعض زعماء البلاشفة في عام 1915، تبرأ كامينيف ونائبان بلاشفة في الدوما من موقف لينين الانهزامي الثوري. (58)
وبعد ثورة فبراير، يجد المرء أن الغالبية العظمى من زعماء الحزب لم يكونوا مؤيدين لحكومة سوفيتية ثورية، وإنما أيدوا الحكومة الانتقالية الائتلافية. كان للبلاشفة أربعون عضوا في سوفييت بتروجراد في 2 مارس 1917، ومع ذلك فعندما تم التصويت على قرار نقل السلطة للحكومة الائتلافية البرجوازية، صوت تسعة عشر فقط ضد القرار. (59) وفي اجتماع للجنة الحزب في بتروجراد (5 مارس1917)، حصل قرار يدعو لحكومة سوفيتية ثورية على صوت واحد فقط. (60) كان لـ “برافدا”، التي كان يحررها ستالين في ذلك الوقت، موقف لا يمكن وصفه بالثورية بأي حال من الأحوال. لقد أعلنت بحسم تأييدها للحكومة الانتقالية “بمقدار ما تصارع ضد الرجعية أو الثورة المضادة” (61)
مرة أخرى، عندما وصل لينين إلى روسيا في 3 أبريل1917، ونشر “أطروحات أبريل” الشهيرة – ضوء مرشد للحزب إلى ثورة أكتوبر – كان لفترة من الوقت في أقلية صغيرة داخل حزبه. كان تعليق “برافدا” على “أطروحات إبريل” هو أنها “رأي لينين الشخصي” وهو رأي “مرفوض” تماما. (62) في اجتماع للجنة الحزب في بتروجراد، انعقد في 8 أبريل1917، حصلت “الأطروحات” على صوتين فقط، في حين صوت ثلاثة عشر ضدها وامتنع واحد عن التصويت. (63) ومع ذلك، ففي مؤتمر الحزب المنعقد في 14 – 22 ابريل حصلت “الأطروحات ” على أغلبية: صوت 71 لها، و 39 ضدها، وامتنع 8 عن التصويت. (62) ولقد هزم المؤتمر ذاته لينين حول مسألة هامة أخرى، وهي مسألة ما إذا كان ينبغي للحزب أن يشترك في مؤتمر ستوكهولم للأحزاب الاشتراكية المقترح. فعلى العكس من آراء لينين، أصدر الحزب قرار مؤيدا للمشاركة الكاملة. (65)
ومرة أخرى، في 14 سبتمبر، عقد كيرينسكي “مؤتمرا ديمقراطيا”، وتحدث لينين بقوة مؤيدا مقاطعته. قررت اللجنة المركزية بأغلبية 9 أصوات مقابل 8 مقاطعة المؤتمر، ولكن حيث أن الأصوات كانت متساوية تقريبا، فقد ترك القرار الأخير لمؤتمر الحزب الذي تقرر أن يتشكل من الجناح البلشفي داخل “المؤتمر الديمقراطي”. وقد قرر هذا الاجتماع بأغلبية 77 ضد 50 صوتا عدم مقاطعة المؤتمر”. (66)
عندما كانت أهم المسائل على الإطلاق، مسألة انتفاضة أكتوبر، مدرجة على جدول الأعمال، كانت القيادة مرة أخرى منقسمة بشدة: عارض جناح قوى، قاده زينوفييف وكامينيف وريكوف بياتاكوف وميليوتين ونوجين، الانتفاضة. ومع ذلك، فعندما أنتخب المكتب السياسي بواسطة اللجنة المركزية، لم يستبعد أي من زينوفييف أو كامينيف.
وبعد الاستيلاء على السلطة، استمرت الاختلافات داخل قيادة الحزب بنفس الحدة التي كانت عليها في السابق. فبعد أيام قليلة من الثورة، طالب عدد من قيادات الحزب بتكوين ائتلاف مع الأحزاب الاشتراكية الأخرى. وقد تضمن الذين أصروا على ذلك ريكوف، قوميسار الشعب للداخلية، ومليوتين، قوميسار الشعب للزراعة، ونوجين، قوميسار الشعب للصناعة والتجارة، ولوناشارسكي، قوميسار الشعب للتعليم، وشليابنيكوف، قوميسار الشعب للعمل، وكامينيف، رئيس الجمهورية، وزينوفييف. لقد ذهبوا إلى حد الاستقالة من الحكومة، مجبرين لينين ومؤيديه بذلك على عقد مفاوضات مع الأحزاب الأخرى. (67) (انهارت المفاوضات لأن المناشفة أصروا على استبعاد لينين وتروتسكي من الحكومة الائتلافية). (68)
ومرة أخرى، حول مسألة إجراء أو تأجيل انتخابات الجمعية التأسيسية (في ديسمبر1917)، وجد لينين نفسه في أقلية داخل اللجنة المركزية، وتم إجراء الانتخابات على نقيض ما نصح به. (69) وبعد ذلك بقليل، هزم مرة أخرى حول مسألة مفاوضات السلام مع ألمانيا في بريست – ليتوفسك. لقد كان يريد سلاما فوريا. إلا أنه في اجتماع اللجنة المركزية والعمال النشطين، المنعقد في 21 يناير1918، لم يحصل اقتراحه إلا على 15 صوتا مقابل 32 صوتا لاقتراح بوخارين، “الحرب الثورية”، و 16 صوتا لاقتراح تروتسكي، “لا سلام ولا حرب”. (70) في جلسة اللجنة المركزية في اليوم التالي، هزم لينين مرة أخرى. ولكنه نجح أخيرا، تحت ضغط الأحداث، في إقناع غالبية أعضاء اللجنة المركزية بوجهة نظره، وفي جلسة اللجنة المركزية في 24 فبراير، حصل اقتراح السلام الذي تقدم به لينين على 7 أصوات، في حين صوت 4 ضده. وامتنع 4 عن التصويت.(71)
إن المناخ الجامد الذي نسب للحزب البلشفي قبل الثورة وبعدها مباشرة، يتلاشى عند مواجهته الحقائق. إلا أن هذا المناخ قد أصبح حقيقة فيما بعد.
لفترة طويلة، كانت أهم هيئة في الحزب هي المؤتمر. أعلن لينين، على سبيل المثال: “المؤتمر.. هو التجمع صاحب المسئولية الأهم في الحزب والجمهورية”. (72) ولكن مع ازدياد قوة البيروقراطية، فقد المؤتمر أهميته بشكل متزايد. نصت قواعد الحزب الصادرة في أعوام 1919 و 1922 و1925 (القواعد20، 21، 22على التوالي) على انعقاد المؤتمر سنويا (73)، وقد تم الالتزام بذلك حتى المؤتمر الرابع عشر (1925). أما بعد ذلك فقد أخذت المؤتمرات تتباعد عن بعضها بشكل متزايد. انعقد المؤتمر التالي بعد ذلك بسنتين، وبين هذا الأخير والمؤتمر السادس عشر (في1930) مرت سنتان ونصف، وبين السادس عشر والسابع عشر (في1934)، ثلاث سنوات ونصف. أصدر هذا المؤتمر الأخير قواعد جديدة تقضي بعقد المؤتمر “مرة واحدة على الأقل كل ثلاث سنوات” (القاعدة27). (74)
إلا انه حتى هذا لم يتم الالتزام به. مرت خمس سنوات بين المؤتمر السابع عشر والثامن عشر (1939)، وبعد ذلك كانت هناك فترة طويلة تزيد على ثلاث عشرة سنة بين المؤتمر الثامن عشر والمؤتمر التاسع عشر (1952).
وفقا لقواعد الحزب، ينبغي أن تعقد اللجنة المركزية مؤتمرات حزبية بين المؤتمرات، ووفقا للقواعد التي أقرها المؤتمر الثامن عشر والتي لا تزال سارية رسميا، ينبغي أن تعقد هذه المؤتمرات “مرة واحدة على الأقل سنويا “. منذ1919، عقدت مؤتمرات في1919، 1920، 1921(مرتان)، 1923، 1924، 1925، 1926، 1929، 1932، 1934، وأخيرا في1941.
ينتخب المؤتمر اللجنة المركزية وهي الهيئة العليا للحزب. من الناحية الصورية، اللجنة المركزية مسئولة أمام مؤتمر الحزب، ولكن عندما لا ينعقد الأخير لأكثر من ثلاث عشرة سنة، فان هذا النص يتحول إلى نص بلا حياة.
من الناحية الصورية، تنتخب اللجنة المركزية المكتب السياسي، وبالتالي ينبغي أن يكون الأخير مسئولا أمام الأولى، إلا أنه من الناحية الفعليـة، تخضع اللجنة المركزية تماما للمكتب السياسي.
إذا كانت اللجنة المركزية تمارس فعلا السلطة العليا داخل الحزب، فانه كان سيكون من المستحيل أن يطرد ويعدم غالبية – في الواقع أكثر من ثلاثة أرباع – أعضائها بوصفهم “أعداء للشعب”، كما حدث بين المؤتمرين السابع عشر والثامن عشر. إن 16 فقط من بين الـ 71 عضوا في اللجنة المركزية المنتخبة في عام 1934 ظهرت أسماؤهم مرة أخرى في قائمة أعضاء اللجنة المركزية المنتخبين بعد ذلك بخمس سنوات، ومن بين 68 عضوا مرشحا ظهر على القائمة مرة أخرى 8 فقط.
المكتب السياسي، الذي يضم ثلاثة عشر أو أربعة عشر عضوا، يختار السكرتارية، التي يرأسها السكرتير العام. لمدة ثلاثين عاما شغل ستالين هذا المنصب. ومنذ وفاة ستالين صار النظام الإداري أكثر تعقيدا. رغم أن كل المظاهر كانت تشير إلى أن جورجي مالينكوف هو خليفة ستالين، فقد أعطي منصب السكرتير العام لشخص آخر – نيكيتا خروتشوف. من الواضح الآن أن خروتشوف له اليد العليا.
تتضح سيطرة البيروقراطية من خلال ملاحظة أن السكرتير العام الذي كان في الأصل، مجرد منفذ لإرادة اللجنة المركزية، (75) أصبح في ظل حكم ستالين، مطلق الصلاحية، يحمل سلطة أكبر من تلك التي كان أي قيصر يجرؤ على أن يحلم بها0
لينين، مثلا، لم يكن أبدا عضوا في سكرتارية الحزب في أيامه، لم تتضمن السكرتارية أبدا قادة الحزب الأكثر صيتا. على سبيل المثال، قبل انضمام ستالين مباشرة (1922)، كانت السكرتارية تتكون من مولوتوف وياروسلافسكي وميخاثيلوف الذين لا يمكن وضع أي منهم ضمن الصف الأول من القادة البلاشفة. ولم يصبح منصب السكرتير العام شديد الأهمية إلا مع تعزز موقف البيروقراطية وبناء تسلسل هرمي حزبي تتم السيطرة عليه من أعلى.
من المستحيل تتبع التغيرات في التكوين الاجتماعي للحزب منذ عام 1930 بدقة0 فمنذ هذه السنة، توقف نشر مثل هذه المعلومات. (الإلغاء ذاته ذو دلالة كبيرة). ومع ذلك، من الممكن الحصول على بعض المؤشرات عن التكوين الاجتماعي للحزب من خلال المستوى التعليمي للأعضاء.
في روسيا، يكمل واحد فقط من كل عشرين طفلا الدراسة الثانوية، ودع عنك الجامعة، ومع ذلك، فمن بين أعضاء الحزب الـ 1,588,852 في عام 1939، كان 127,000 قد حصلوا على تعليم جامعي، بالمقارنة بـ 9000 فقط في عام 1934، و 8396 في 1927، وكان 335,000 قد حصلوا على تعليم ثانوي، بالمقارنة بـ 110,000 في عام 1934، و 84,111 في عام 1927.(76) في مؤتمر الحزب لعام 1924، كان 5ر6% من المندوبين ذوي حق التصويت قد حصلوا على تعليم جامعي، في مؤتمر عام 1930: كانت النسبة 2ر7%، في 1934: حوالي 10%، في 1939: 5ر31%، وفي مؤتمر عام 1941: 8ر41%. وكانت النسبة المئوية للمندوبين الذين كانوا قد حصلوا على تعليم ثانوي كالتالي: في عام 1924 9ر17%، في 1930 7ر15%، في عام 1934 حوالي 31%، في 1939 5ر22% وفي عام 1941 1ر29% (بما في ذلك أولئك الحاصلون على تعليم جامعي غير مكتمل) (77) هكذا (بإضافة الاثنين معا)، فان نسبة المندوبين الذين يمكن تصنيفهم للـ “انتلجنسيا سوفيتية” كانت في عام 1924 4ر24%، في عام 1930 9ر22%، في عام1939، 54%، وفي عام 1941 9ر70%. في مؤتمر عام1934، عندما كان 41% من المندوبين المنتخبين قد حصلوا على تعليم ثانوي وعالي، كان 3ر9% فقط عمالا صناعيين وزراعيين. لابد أن النسبة كانت أقل كثيرا في عامي 1939 و1941.
فيما يتعلق بالكومسومول، ذكر سكرتيره، ميخائيلوف: “في الوقت الحالي، أكثر من نصف سكرتيري اللجان المحلية والإقليمية والمركزية للجمهوريات الاتحادية لديهم تعليم عالي أو تعليم عالي غير مكتمل. باقي السكرتيرين لديهم تعليم ثانوي. ومن بين سكرتيري لجان المناطق للكومسومول، 67% لديهم تعليم ثانوي أو عالي”. (برافدا، 30مارس1949)
إضافة إلى ذلك، كان عدد كبير من العمال اليدويين في مؤتمرات الحزب من الاستاخانوفيين. أثناء الحرب، عندما ارتفع عدد أعضاء الحزب من مليونين ونصف إلى ستة ملايين، كان 47% من جميع المرشحين المقبولين قد حصلوا على تعليم ثانوي أو جامعي. (78) في أول يناير1947، من بين ستة ملايين عضو ومرشح، كان 400,000 قد حصلوا على تعليم جامعي، و 1,300,000 قد حصلوا على تعليم ثانوي، و 1,500,000 قد حصلوا على تعليم ثانوي غير مكتمل. (79)
تظهر المعلومات المحلية عن الوضع الاجتماعي للمنضمين الجدد للحزب الاتجاه نفسه. فمثلا، خلال 1941 والشهرين الأولين من عام 1942، في إقليم شيليا بنسك، من بين أولئك المقبولين للعضوية تحت الاختبار، كان هناك 600 عامل، و 289 عضوا في كولخوز، و 2035 موظفا يقوم بعمل كتابي. ومن بين أولئك الذين أكملوا حتى فترة اختبارهم أثناء هذه الفترة وأصبحوا أعضاءا كاملين، كان هناك 909 عاملا، و 399 عضوا في كولخوز، و 3515 موظفا كتابيا. هكذا، فان 70% من المرشحين الجدد والأعضاء الجدد كانوا من الفئة الأخيرة. (80)
في عام 1923 كان 29% فقط من مديري المصانع في الحزب. في عام 1925، مع الانتصار الجزئي لجناح ستالين، أصبح 7ر73% من أعضاء إدارة الاتحادات الاحتكارية، و 5ر81% من أعضاء مجالس اتحادات رؤوس الأموال، و 95% من مديري المشروعات الكبرى، أعضاءا في الحزب، وبحلول عام1927، أصبحت نسب الفئات الثلاث نفسها على التوالي: 1ر75%، 9ر82%، 9ر96%.(81) في عام 1936، كان ما بين 5ر97% و 1ر99% من هذه النوعية من المسئولين ينتمون للحزب، وكان الرقم بالنسبة لرؤساء الاتحادات الاحتكارية 100%. (82)
أما بالنسبة لقادة الجيش الأحمر، ففي حين أنه في عام 1920 كان 5ر10 منهم فقط ينتمون للحزب، فان النسبة قد وصلت إلى 6ر30% في عام 1924 و1ر51% في عام 1929 (83)، وإذا أضفنا أولئك الذين ينتمون إلى الكومسمول تقفز النسبة إلى 71.8% بحلول عام 1931 (84)، واليوم ليس هناك شك في أنهم جميعا ينتمون للحزب.
إذا أخذنا في الاعتبار أنه في يناير1937، بلغ عدد المديرين1,751,000، (85) وأن تسعة أعشار هؤلاء على الأقل كانوا ينتمون للحزب، فمن البديهي أن عددا قليلا من الناس من خارج هذه الطبقة كان في إمكانهم أن يكونوا أعضاء، حيث أن العدد الإجمالي لأعضاء الحزب والمرشحين لعضويته كان حوالي مليونين ونصف مليون فقط. ليس هناك رقم دقيق متوفر لعام1937، إلا أن أرقام 1934 و 1939 كانت 2,807,000 و 2,477,000 على التوالي.
يتأكد هذا التخمين من خلال أمثلة مثل مصنع برسنيا لبناء الآلات في موسكو من بين الـ 1300 موظف في هذا المصنع كان عدد أعضاء الحزب 119، بينهم أكثر من مائة موظف يحصل على مرتب وحوالي 12 عاملا يدويا فقط. (86) ستكون هذه النسب، بالطبع، متشابهة في أغلب المصانع الأخرى.
وبنفس نمط التغيير في التكوين الاجتماعي لأعضاء الحزب، جاء القضاء على الأعضاء القدامى للحزب. من بين الـ 1,588,852 عضوا بالحزب في أول مارس 1939، كان 3ر1% فقط ينتمون للحزب منذ ثورة1917، و3ر8% منذ 1920، أي منذ نهاية الحرب الأهلية. (87) في نهاية المؤتمر الثامن عشر، تم في الواقع التأكيد على أن 70% من أعضاء الحزب كانوا قد انضموا منذ عام 1929 فقط. قبيل ثورة فبراير كانت عضوية الحزب23,600، في أغسطس1917 200,000، في مارس 1921 730,000.(88) من البديهي، إذن، أن حوالي واحد على أربعة عشر من أعضاء عام 1917 وحوالي سدس أعضاء عام 1920 فقط كانوا لا يزالون أعضاء في الحزب بحلول عام 1939.
إن هذا الاختفاء الضخم للأعضاء القدامى لا يمكن تفسيره بالأسباب الطبيعية، حيث أن الغالبية العظمى من أعضاء الحزب في عام 1917 و1920 كانوا صغيري السن جدا. بل حتى عام1927، كان 8ر53% من أعضاء الحزب أقل من 29 عاما، وكان 32% بين 30 – 39 عاما، و 4ر11% بين 40 و 49 عاما، 8ر2% فقط أكبر من 50 عاما. (89)
بعض الحقائق الإضافية القليلة ستكفي لبيان إلى أي مدى ذهب ستالين في التصفية الجسدية للزعماء القدامى للحزب البلشفي.
لقد تم تشكيل أول مكتب سياسي في 10 أكتوبر 1917 (ولم يكن يحمل هذا الاسم بعد)، من لينين وتروتسكي وزينوفييف وكامينيف وسوكولنيكوف وبوبنوف وستالين (90) في عام 1918 أضيف بوخارين. وفي عام 1920 أضيف بربوبرازفسكي وسيريبرياكوف، إلا انهما استبدلا بعد سنة بزينوفييف وتومسكي. وفي عام 1923، أخذ ريكوف مكان بوخارين. (91)
طيلة فترة الحرب الأهلية، تكون المكتب من لينين وتروتسكي وكامينيف وبوخارين وستالين. من بين كل هؤلاء القادة البارزين اثنان فقط ماتا ميتة طبيعية، هما لينين وستالين، أما زينوفييف وكامينيف وبوخارين وريكوف وسيريبرياكوف فقد تم إعدامهم بعد محاكمة صورية، ثم تروتسكي الذي اغتيل في المكسيك بواسطة عميل للبوليس السري الستاليني، وانتحر تومسكي قبيل القبض عليه، ووصف بعد موته بأنه “عدو الشعب” و”فاشي” وحكم على سوكولنيكوف بالسجن المؤبد، كما اختفى بربوبرازنسكي وجوبنوف أثناء “التطهير العظيم”.
في الوثيقة المعروفة بـ “وصيته”، يخص لينين ستة أشخاص بالذكر الخاص. من بين هؤلاء الستة، قتل أربعة رميا بالرصاص بأمر ستالين بعد أن تمت “محاكمتهم”، هؤلاء هم بياتاكوف وبوخارين (وصف لينين هذين الاثنين أنهما: في رائي، القوة الأكثر قدرة بين الأكثر شبابا)، وزينوفييف وكامينيف. أما تروتسكي فقتل. الوحيد من بين الستة الذي انتقده لينين نقدا لاذعا هو من أعدم الخمسة الآخرين ! (جوزيف ستالين).
ومن بين الأعضاء الخمسة عشر لأول حكومة بلشفية يتم تنظيمها (مجلس قوميساري الشعب لأكتوبر1917)، لم ينج من “التطهير” سوى واحد فقط، هو ستالين. مات أربعة أعضاء ميتة طبيعية: لينين، نوجين، سكفورتسوف – ستيبانوف ولوناشارسكي. أما العشرة الآخرون – تروتسكي، ريكوف، شليابنيكوف، كريلنكو، ديبنكو، انطونوف – اوفسنكو، لوموف -أوبوكوف، ميليوتين، جليبوف – أجفيلوف، تيودوروفيتش – فأما أنهم اعدموا بأمر ستالين أو ماتوا في سجونه !
لقد تكرر “تطهير ” كبار مسئولي القوميساريات المختلفة. هكذا، على سبيل المثال، تم عزل قوميسار بعد آخر ثم إعدامه أو إيداعه السجن. أول من نال هذا المنصب كان شليابنيكوف، ثم سميرنوف، وبعد ذلك ميخائيل أو جلانوف وأخيرا ف. ف. شميدت.
من بين أولئك الذين تم تطهيرهم بوصفهم “كلاب فاشية” كان تروتسكي من البروز في الحزب حتى أن الحزب سمى أثناء وبعد الحرب الأهلية “حزب لينين وتروتسكي”، كما عرفت الحكومة الأولى بالاسم ذاته، وحل ريكوف محل لينين، بعد وفاته، كرئيس مجلس قوميساري الشعب (أو رئيس الوزراء)، وكان زينوفييف رئيسا لمجلس اللجنة التنفيذية (أو رئيس) للأممية الشيوعية، وكان تومسكي رئيس لمؤتمر نقابات العمال. تضمن المطرودون الآخرون رؤساء الجيش. أعدم نائب قوميسار للدفاع، م. ن. توخاشيفسكي، وانتحر آخر، جان جامارنيك، عندما واجه القبض عليه (وفقا لإعلان رسمي)، كما “اختفى” آخر، مارشال اجوروف، بعد ذلك بقليل، وكذلك فعل قوميسار البحرية، سميرنوف. من بين الخمسة عشر من قادة الجيش المعينين في عام1935، استمر واحد فقط في التمتع بمنصبه الكبير بعد التطهيرات. وقد مات واحد ميتة طبيعية. الا أن الآخرين جميعا قد وصموا بالـ “خيانة” وطهروا. (92) تعرض جميع سفراء الاتحاد السوفيتي تقريبا أيضا للـ “تطهير” كما حدث لرئيسين للبوليس السياسي: ياجودا، الذي كان قد أعد بنفسه محاكمة زينوفييف – كامينييف، وييزوف، الذي أعد المحاكمات اللاحقة الأخرى، والتي كان ياجودا متهما في إحداها.
لو أن كل أولئك الذين صفاهم ستالين كانوا بالفعل “فاشيين” و “خونة”، فانه يصبح من غير المفهوم بالمرة كيف أنهم – وقد كانوا يشكلون مالا يقل عن تسعة أعشار قيادة الحزب والدولة على امتداد ثورة أكتوبر والحرب الأهلية – قادوا ثورة اشتراكية. هكذا، فقد أثبت حجم ” التطهيرات”، ذاته طابعها الزائف.
ولكي يضيف لمسة من السخرية المرة إلى تراجيديا “التطهيرات” وضع ستالين مسئولية حجمها الضخم على عاتق أول ضحاياها، التروتسكيين، الذين زعم أنهم أرادوا بذلك بذر بذور السخط والمرارة بطريقة مصطنعة، هكذا، فان “المنافقين التروتسكيين يستطيعون أن يصيدوا ببراعة.. الرفاق الذين يشعرون بالمرارة، يجروهم إلى مستنقع الخراب التروتسكي”.(93) وفي خطاب أمام المؤتمر الثامن عشر للحزب، كرر زدانوف هذا الادعاء الأحمق بزعمه أن التروتسكيين، من خلال توسيعهم للـ “تطهير”، استهدفوا “تدمير الجهاز الحزبي”. بنفس المنطق كانت محاكم التفتيش تستطيع أن تتهم ضحاياها بمسؤوليتهم عن فعل الايمان (فعل الإيمان هو الاحتفال الذي يرافق إصدار الحكم بالموت “المترجم”)وتبين الحادثة الآتية، والتي ذكرها زدانوف في نفس الخطاب، المدى الضخم للـ “تطهير” بسخرية وحشية. لقد قال: “لجأ بعض أعضاء الحزب لطلب مساعدة المؤسسات الطبية في محاولة لإنقاذ أنفسهم من “التطهير”. هذه هي شهادة طبية صادرة لأحد هؤلاء المواطنين: “بسبب حالته الصحية والعقلية، فان الرفيق (فلان الفلاني) ليس صالحا للاستخدام كأداة بواسطة أي عدو طبقي. الطبيب النفسي للمنطقة، منطقة أكتوبر، مدينة كييف (إمضاء)” (94)
زوال الدولة والقانون
ذهب ماركس إلى أنه مع قيام المجتمع الاشتراكي وإلغاء الطبقات الاجتماعية سينتفي وجود الدولة. ذلك أن غياب الصراعات بين الطبقات أو المجموعات الاجتماعية الأخرى سيجعل من غير الضروري وجود أي جهاز قمع دائم في شكل جيش وبوليس وسجون. القانون أيضا سيختفي من الوجود، حيث أن “القانون يساوي لا شيء بدون جهاز قادر على ضمان الالتزام بالقانون”. (95) في ظل الاشتراكية، ستكون جميع الصراعات بين أفراد. ولن يقتضي القضاء على هذه الاعتداءات الفردية التي ستستمر في التعبير عن نفسها بعد القضاء على البؤس- وهو السبب الرئيسي للـ “جريمة” في المجتمع الحالي – لن يقتضي ذلك وجود منظمات قمعية متخصصة. “الإرادة العامة” – إذا استخدمنا تعبير روسو – ستسود وتتعامل مع هذه المشاكل. وكما قال ستالين مرة، منذ زمن طويل، في عام 1927: “المجتمع الاشتراكي هو مجتمع بلا طبقات، مجتمع بلا دولة”. (96)
وجدت هذه الكلمات تعبيرا عنها في دستور الجمهورية الروسية السوفيتية الفيدرالية الاشتراكية، الصادر في 10 يوليو1918. لقد ذكر الدستور: ” ان الهدف الرئيسي لدستور الجمهورية الروسية الاشتراكية الفيدرالية السوفيتية، وهو دستور مصمم لخدمة الفترة الانتقالية الحالية، هو تأسيس دكتاتورية البروليتاريا المدنية والريفية بالاشتراك مع فقراء الريف، في شكل سلطة سوفيتية قوية تشمل كل روسيا، وضمان القمع الكامل للبرجوازية، وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان، وتحقيق الاشتراكية، التي لن توجد في ظلها لا الانقسامات الطبقية ولا سلطة الدولة. (97)
ولكن، بعد انتصار ستالين، تغير الخط تماما. توقف الستالينيون عن الحديث عن “زوال الدولة”، وذهبوا بالفعل للنقيض تماما، زاعمين أن “الاشتراكية في بلد واحد” بل وحتى “الشيوعية في بلد واحد” منسجمة تماما مع تقوية الدولة. هكذا كتب يودين في عام 1948: “الدولة السوفيتية هي القوة الرئيسية، الأداة الرئيسية لبناء الاشتراكية وإقامة المجتمع الشيوعي. ولهذا السبب فان مهمة تقوية الدولة السوفيتية بكل الوسائل هي المهمة الرئيسية للنشاط الحالي والمستقبلي في بناء مجتمع شيوعي”. (98) ومرة أخرى: “لقد كان تعزيز الدولة السوفيتية بكل الوسائل هو الشرط الضروري لبناء الاشتراكية، والآن الشيوعية، هذا أيضا أحد أهم قوانين تطور المجتمع السوفيتي. (99)
وقال منظر سوفييتي آخر: “تفترض الشيوعية وجود جهاز يبلغ حد الكمال يدير الاقتصاد والثقافة. ينمو الجهاز تدريجيا ويأخذ شكله في ظروف الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية.. ولهذا السبب فان نمو الشيوعية سيسير وفقا لدرجة الكمال التي يصل اليها جهاز الدولة والاقتصاد لدينا” (100)
إن تقوية الدولة الروسية، وطابعها الشمولي المتزايد، لا يمكن أن يكون الا نتيجة لعداءات طبقية عميقة، وليس نتيجة لانتصار الاشتراكية.
الفصل الثالث: اقتصاد دولة العمال
قبل تناول الخصائص الأساسية لاقتصاد دولة العمال، من الضروري أن نذكر عاملا هاما جدا. لقد توقع ماركس وإنجلز أن تبدأ الثورة في البلاد المتقدمة. وبالتالي فقد افترضا أن المجتمع الجديد سيكون منذ نشأته أكثر تطورا من الناحية المادية والثقافية من البلاد الرأسمالية الأكثر تقدما. ولكن كل تنبؤ مشروط ببعض العوامل. فالتاريخ لم يتطور كما توقع ماركس وإنجلز بالضبط. فقد اندلعت الثورة لأول مرة واستولى العمال على السلطة في روسيا، إحدى أكثر البلاد الرأسمالية تخلفا، في حين فشلت الثورات التي تلت ذلك في البلاد الأكثر تقدما.
تحول علاقات الإنتاج الرأسمالية إلى علاقات إنتاج اشتراكية
هناك نوعان من القوى الإنتاجية: وسائل الإنتاج وقوة العمل. إن تطور هذه القوى الإنتاجية في ظل الرأسمالية – والذي يتمثل في تمركز رأس المال من ناحية وإضفاء الطابع الاجتماعي على عملية العمل من ناحية أخرى – يخلق الشروط المادية الضرورية للاشتراكية.
ومن بين جميع علاقات الإنتاج التي تهيمن في ظل الرأسمالية – العلاقات بين الرأسماليين والرأسماليين – بين الرأسماليين والعمال – بين العمال أنفسهم – بين التقنيين والعمال – بين التقنيين والرأسماليين، الخ.. – فأن قسما واحدا فقط سيمتد إلى المجتمع الاشتراكي، ألا وهو العلاقات المكتسبة بين العمال في “عملية الإنتاج “، العمال المتحدون من خلال الإنتاج الاجتماعي يصبحون الأساس لعلاقات إنتاج جديدة. كما أن بعض العناصر في علاقات الإنتاج القائمة في ظل الرأسمالية يتم القضاء عليها تماما بواسطة الاشتراكية من خلال إلغاء الرأسماليين، في حين أن عناصر أخرى مثل ” الطبقة المتوسطة الجديدة” (التقنيون والمحاسبون.. الخ) سيتم إيجاد مكان لها في سياق جديد.
وهذه ” الطبقة المتوسطة الجديدة” تمثل جزءا من القوى الإنتاجية وهي بالتالي عنصر إنتاج ضروري. ومع ذلك فان وضعها في التسلسل الهرمي للمجتمع الرأسمالي هو وضع انتقالي، مثله في ذلك مثل الرأسمالية ذاتها. و ستقضي الاشتراكية تماما على هذا الوضع الهرمي فوق البروليتاريا في عملية الإنتاج. ستخلق علاقة جديدة بين العناصر المختلفة الضرورية لنمط الإنتاج الاشتراكي، بين العمل الذهني واليدوي. تبدأ العلاقة الجديدة (التي سنتناولها بمزيد من التفصيل فيما بعد) في التشكل مع فترة الانتقال.
أما بالنسبة للطبقة العاملة، التي تكون جزءا من القوى الإنتاجية وجزءا من علاقات الإنتاج الرأسمالية في نفس الوقت، فأنها تصبح الأساس لعلاقات الإنتاج الجديدة ونقطة الانطلاق لتطور القوى الإنتاجية على أساس هذه العلاقات. وكما ذكر ماركس “من بين جميع أدوات الإنتاج، فأن القوة الإنتاجية الأعظم هي الطبقة الثورية نفسها. إن تنظيم العناصر الثورية كطبقة يفترض وجود القوى الإنتاجية التي يمكن أن تنشأ في حضن المجتمع القديم”(1)
تقسيم العمل والتقسيم إلى طبقات
يكتب إنجلز ” في كل مجتمع تطور فيه الإنتاج تلقائيا – ومجتمعنا الحالي من هذا النوع – ليس المنتجون هم الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج، وإنما وسائل الإنتاج هي التي تسيطر على المنتجين. ففي مجتمع كهذا تتحول كل وسيلة جديدة للإنتاج بالضرورة إلى وسيلة جديدة لإخضاع المنتجين لوسائل الإنتاج. وهذا ينطبق بشكل خاص على دعامة الإنتاج التي كانت، قبل إدخال الصناعة الكبيرة، الأقوى – ألا وهي تقسيم العمل”(2)
إن تقسيم العمل كما يعبر عنه انفصال العمل اليدوي عن العمل الذهني ذو طبيعة انتقالية تاريخيا، ذلك أن جذوره تكمن في انفصال العمال عن وسائل الإنتاج وفي العداء بين هذين العنصرين الناتج عن هذا الانفصال. ويعبر ماركس عن ذلك قائلا:
إن الذكاء في الإنتاج يتوسع في اتجاه واحد لأنه يختفي في اتجاهات أخرى عديدة. وما يفقده العمال يتركز في رأس المال الذي يوظفهم. ونتيجة لتقسيم العمال في الصناعة يوضع العامل وجها لوجه مع القوى الذهنية لعملية الإنتاج المادية، بوصفها ملكية الغير، وبوصفها قوة تسيطر عليه. وهذا الانفصال يتمخض عنه تعاون من نوع بسيط، حيث يمثل الرأسمالي بالنسبة للعامل الفرد وحدة حاكمة، وإرادة العمل المترابط. وهو ينمو في الصناعة التي تحول العامل إلى عامل يؤدى عملا روتينيا معزولا. يكتمل ذلك في الصناعة الحديثة التي تجعل من العلم قوى منتجة مستقلة عن العمل وتسخره لخدمة رأس المال”.(3)
إن الانتصار الكامل للاشتراكية يعني الإلغاء الكامل للفصل بين العمل الذهني واليدوي. من الواضح أنه سيكون من المستحيل إلغاء هذا الانفصال عقب الثورة الاشتراكية مباشرة، إلا أن سيطرة العمال على الإنتاج ستصبح جسرا مباشرا بين العمل الذهني واليدوي ونقطة الانطلاق لاندماجهم المستقبلي، الإلغاء الكامل للطبقات.
هنا نصل إلى مسألة أساسية من ناحية تحول علاقات الإنتاج، ألا وهى الجسر بين العمل الذهني واليدوي.
العمال والتقنيون
يشكل التقنيون عنصرا ضروريا في عملية الإنتاج، وجزءا هاما من القوى الإنتاجية للمجتمع، سواء كان رأسماليا أو شيوعيا. في نفس الوقت، كما ذكرنا من قبل، فانهم في ظل الرأسمالية يشكلون شريحة في التسلسل الهرمي للإنتاج، انهم يظهرون كجزء لا يتجزأ من هذا التسلسل الهرمي. إن وضعهم الاحتكاري فيما يتعلق بـ”وسائل الإنتاج الذهنية”، (كما يقول بوخارين)، هو نتيجة لانفصال العمال عن وسائل الإنتاج من ناحية، وإضفاء الطابع الاجتماعي على العمل من ناحية أخرى. ستقضي الاشتراكية على هذا التسلسل الهرمي. ولكن في فترة الانتقال، فانه سيستمر في الوجود بمعنى معين، ولكنه سيختفي بمعنى آخر. فطالما أن العمل الذهني يستمر كامتياز للقلة، ستستمر العلاقات الهرمية في الوجود في المصانع والسكك الحديدية، الخ، حتى بعد الثورة البروليتارية. ولكن حيث أن مكان الرأسمالي في التسلسل الهرمي ستشغله الدولة العمالية، أي العمال كجماعة بحيث يخضع التقنيون للعمال، فان النفوذ الذهني بهذا المعنى سيتم القضاء عليه. إن سيطرة العمال على التقنيين تعني خضوع العناصر الرأسمالية لتلك الاشتراكية. وكلما ازدادت كفاءة السيطرة العمالية، كلما ارتفع المستوى المادي والثقافي للجماهير، وسيؤدي هذا بدوره إلى زيادة تآكل الوضع الاحتكاري للعمال الذهنيين، حتى يتم القضاء على هذا الوضع تماما وتحقيق وحدة تامة بين العمل الذهني واليدوي.
بسبب الدور المزدوج للتقنيين في علاقاتهم بالعمال في عملية الإنتاج، أشار مؤسسو الماركسية إلى أن إخضاع التقنيين لمصالح المجتمع ككل سيكون أحد أكبر الصعاب التي يواجهها المجتمع الجديد. ومن هنا كتب إنجلز “إذا.. أوصلتنا حرب إلى السلطة قبل الأوان، سيكون التقنيون أعداءنا الرئيسيين، سوف يخدعوننا ويخونوننا ما استطاعوا، وسينبغي علينا استخدام الإرهاب ضدهم إلا إننا سنكون عرضة للغش على كل حال”.(4)
نظام العمل
إن كل شكل للإنتاج الاجتماعي يحتاج لتنسيق جهود الأشخاص المختلفين المشاركين فيه، بعبارة أخرى، كل شكل للإنتاج الاجتماعي يحتاج إلى نظام. في ظل الرأسمالية، فأن هذا النظام يواجه العامل كقوة قهرية خارجية، بوصفه السلطة التي يملكها رأس المال فوق هذا العامل. أما في المجتمع الاشتراكي، فسيكون الانضباط نتيجة للوعي، سيصبح عادة شعب حر. في فترة الانتقال، سيكون النظام نتيجة للوحدة بين عنصرين – الوعي والقهر. ستصبح مؤسسات الدولة بمثابة تنظيم الجماهير كعامل واعي. الملكية الجماعية لوسائل الإنتاجية بواسطة العمال، أي ملكية الدولة العمالية لوسائل الإنتاج، ستصبح أساس العنصر الواعي في نظام العمل. وفي نفس الوقت، فان الطبقة العاملة كجسم واحد، من خلال مؤسساتها – السوفييتات، النقابات، الخ – ستظهر كقوة قاهرة فيما يتعلق بتنظيم العمال كأفراد في عملية الإنتاج. الاستهلاك ذو الطابع الفردي، “الحق البرجوازي” فيما يتعلق بالتوزيع، سيستخدم كسلاح للانضباط القهري.
إن التقنيين والمشرفين، وغيرهم، لديهم مكانة خاصة في نظام العمل. ففي ظل النظام الرأسمالي، يمثل المشرف طوق جهاز نقل الحركة الذي يمارس من خلاله القهر الرأسمالي على العامل. أما في المجتمع الشيوعي، لن يقوم المشرف بأي دور قمعي. ستكون علاقاته بالعمال مماثلة لتلك القائمة بين قائد الأوركسترا وأفراد هذه الأوركسترا، إذ أن نظام العمل سيعتمد على الوعي والعادة. في فترة الانتقال، حيث أن العمال أنفسهم، سيكونون العامل المنظم والمنظم في نفس الوقت، فاعلا وموضوعا معا، فان التقنيين في الواقع سيكونون طوق جهاز نقل الحركة هذه المرة للدولة العمالية، وان كانوا سيظلون من الناحية الصورية منظمين للعمال.
العامل ووسائل الإنتاج
ورد في البيان الشيوعي ما يلي:
في المجتمع البـرجوازي، العمل الحي ليس سوى وسيلة لزيادة العمل المتراكم. في المجتمع الشيوعي، العمل المتراكم ليس سوى وسيلة لتنمية وإثراء حياة العمال والارتقاء بها. في المجتمع البرجوازي، إذن، يهيمن الماضي على الحاضر، في المجتمع الشيوعي الحاضر يهيمن على الماضي. وفي المجتمع البرجوازي رأس المال مستقل وله ذاتية مميزة، في حين أن الفرد الفاعل لا استقلال له ولا ذاتية مميزة”(5)
في المجتمع الشيوعي سيكون التراكم مشروطا بالحاجات الاستهلاكية للشـعب. وفي المجتمع الرأسمالي يحدد التراكم حجم العمالة ومعدل الأجور – أي معدل استهلاك الشعب العامل. حتى فيما يتعلق بالرأسمالي ذاته، فان العنصر الذي يجعله رأسماليا هو التراكم وليس الاستهلاك، وكما قال ماركس “التراكم من أجل التراكم، الإنتاج من أجل الإنتاج: بواسطة هذه القاعدة عبر الاقتصاد الكلاسيكي عن الرسالة التاريخية للبرجوازية، ولم يخدع هذا الاقتصاد نفسه للحظة واحدة بشأن آلام مخاض الثروة”(6)
نظرا لأن نتاج عمل العامل يسيطر عليه، فان عملية التراكم الرأسمالي تحدد الاستهلاك وتحد منه وتضعفه. ولأن العامل سوف يسيطر على إنتاجه، فان الاستهلاك في المجتمع الشيوعي سوف يحدد تراكم وسائل الإنتاج.
في أي مجتمع، بغض النظر عن الشكل الذي تأخذه علاقات الإنتاج فان عقلنة الإنتاج تقضى عموما بأتباع أسلوب اكثر التواء للإنتاج، أي زيادة في نسبة العمل الاجتماعي الإجمالي المخصصة لإنتاج وسائل الإنتاج. ويعني هذا زيادة في معدل “التراكم” بالنسبة لمعدل الاستهلاك. في ظل الشيوعية، فان هذه الزيادة في معدل “التراكم” مقابل معدل الاستهلاك ستعنى في الوقت نفسه زيادة مطلقة كبيرة في استهلاك العمال. أما في ظل الرأسمالية، وبسبب طريقة التوزيع العدائية فان معدل فائض القيمة يتزايد، وبالتالي يتزايد أيضا معدل التراكم، في حين يخضع معدل استهلاك الجماهير لهذين المعدلين.
إن التراكم من اجل التراكم في ظل الرأسمالية هو نتيجة لعاملين اثنين هما: أولا، انفصال العمال عن وسائل الإنتاج، وثانيا، وجود المنافسة بين الرأسماليين، سواء كان هؤلاء الرأسماليون محتكرين أفراد أو دول. تقضي الاشتراكية على هذين الجانبين معا من علاقات الإنتاج. يوجد شرطان للإخضاع الكامل للتراكم للاستهلاك – سيطرة العمال على الإنتاج وإلغاء الحدود الوطنية. في ظل مثل هذه الظروف سيراكم المجتمع لكي يستهلك.
إن هذا الإخضاع للتراكم للاستهلاك، برفعه للمستوى المادي والثقافي للجماهير، سوف يضعف في الوقت نفسه من احتكار التقنيين لـ “وسائل الإنتاج الذهنية” وبالتالي يقوي سيطرة العمال على الإنتاج.
علاقات التوزيع في فترة الانتقال
أعطى ماركس التحليل الأكثر دقة واختصارا لهذه المسألة في نقده لبرنامج جوته:
ما ينبغي علينا التعامل معه هنا هو مجتمع شيوعي، ليس كما تطور وفقا للأساس الخاص به، وإنما كما ينبثق من المجتمع الرأسمالي، وهو بالتالي مجتمع لا يزال مدموغا في كل جوانبه، اقتصاديا وأخلاقيا وثقافيا، بعلامات ميلاد المجتمع القديم الذي خرج من رحمه. ووفقا لذلك، فان المنتج الفرد يحصل من المجتمع في مقابل إنتاجه – بعد إجراء الخصومات (وهي خصومات لصالح المجتمع ككل) – يحصل على ما أعطاه للمجتمع بالضبط. إن ما أعطاه للمجتمع هو مقدار العمل الخاص به. على سبيل المثال، يتكون يوم العمل الاجتماعي من مجموع ساعات العمل الفردية، وقت العمل الفردي الخاص بالمنتج الفرد هو ذلك الجزء من يوم العمل الاجتماعي الذي يساهم به، أي نصيبه منه. انه يحصل على شهادة من المجتمع بأنه قدم مقدارا معينا من العمل (بعد خصم عمله لصالح الصندوق الجماعي) ويحصل بهذه الشهادة من المخزون الاجتماعي لوسائل الاستهلاك ما يتكلف نفس مقدار العمل. نفس مقدار العمل الذي أعطاه بصورة معينة للمجتمع، يحصل عليه بصورة أخرى.
هنا، من الواضح، يسود نفس المبدأ الذي حكم تبادل السلع، من حيث كونه تبادلا لقيم متساوية. إلا أن المضمون والشكل قد تغيرا لأنه في ظل الظروف المتغيرة لا يمكن لأي فرد أن يعطي سوى عمله، ولأنه من جهة أخرى، لا يستطيع الأفراد امتلاك أي شيء سوى وسائل الاستهلاك الفردية. ولكن فيما يتعلق بتوزيع وسائل الاستهلاك هذه بين المنتجين الأفراد، فان نفس المبدأ السائد في تبادل السلع المتكافئة يسود، إلا وهو أن مقدارا معينا من العمل في صورة معينة تتم مبادلته بنفس مقدار العمل في صورة أخرى.
ومن هنا، فان الحق المتساوي هنا لا يزال من حيث المبدأ هو الحق البرجوازي، إلا أن المبدأ والممارسة لم يعد بينهما تنافر، في حين أن تبادل الأشياء المتكافئة في التبادل السلعي يحدث فقط في المتوسط وليس في الحالة الفردية.
على الرغم من هذا التقدم، فان هذا الحق المتساوي لا يزال موصوما بقيد برجوازي. إن حق المنتجين متناسب مع العمل الذي يقدمونه، تتمثل المساواة في أن القياس يتم بمقياس متساوي، وهو العمل.
إلا أن رجلا قد يتفوق على آخر بدنيا أو عقليا، وبالتالي يقدم عملا أكثر في نفس الوقت، أو يستطيع أن يعمل لوقت أطول، والعمل، لكي يصلح كمقياس، ينبغي تحديده وفقا لوقته أو كثافته، وإلا فانه لا يظل أساسا للقياس. إن هذا الحق المتساوي هو حق غير متساوي للعمل غير المتساوي. انه لا يعترف بفروق طبقية، لأن كل شخص عامل فقط مثل الباقين جميعا، إلا انه يعترف ضمنا بالمواهب الفردية غير المتساوية، وبالتالي بالقدرة الإنتاجية، بوصفها مميزات طبيعية. انه في مضمونه بالتالي حق في عدم المساواة مثل كل حق. إن الحق بطبيعته لا يمكن إلا أن يتمثل في تطبيق مقياس متساوي، ولكن الأفراد غير المتساوين (ولن يكونوا أفرادا مختلفين إن لم يكونوا غير متساوين) لا يمكن قياسهم بمقياس متساوي إلا إذا تم النظر إليهم من وجهة نظر متساوية، من جانب محدد واحد فقط، فهم في الحالة الحالية مثلا ينظر إليهم فقط كعمال، ويتم تجاهل كل شيء آخر عنهم. وفضلا عن ذلك، فان من العمال من هو متزوج ومنهم من ليس متزوجا، ومنهم من لديه أبناء ومن ليس لديه أبناء، وهكذا. وبالتالي فبنفس القدرة على العمل، ومن ثم نفس النصيب في صندوق الاستهلاك الاجتماعي سيحصل أحد العمال فعليا على ما يزيد عما يحصل عليه آخر، سيكون عامل أغنى من عامل آخر، وهكذا. ولتجنب كل هذه العيوب فان الحق بدلا من أن يكون متساويا، ينبغي أن يكون غير متساوي.
إلا أن هذه العيوب لا يمكن تجنبها في المرحلة الأولى للمجتمع الشيوعي، عندما يكون الأخير قد انبثق لتوه من المجتمع الرأسمالي بعد آلام مخاض طويلة. الحق لا يمكن أن يكون أعلى من البناء الاقتصادي للمجتمع والتطور الثقافي الذي يحدده هذا البناء.
في مرحلة أعلى للمجتمع الشيوعي، بعد زوال الخضوع الاستعبادي للأفراد لتقسيم العمل ومعه التناقض بين العمل الذهني والبدني، وبعد أن أصبح العمل ليس مجرد وسيلة للحياة وإنما أولى ضروريات الحياة، وبعد أن تكون القوى الإنتاجية قد زادت هي أيضا مع التطور الشامل للإنسان الفرد، ومع تدفق ينابيع الثروة التعاونية بوفرة اكبر – حينئذ فقط يمكن تجاوز الأفق الضيق للحق البرجوازي ويستطيع المجتمع أن ينقش على راياته: من كل وفق قدراته ولكل حسب حاجاته “(7)
على الرغم من أن العمال يختلفون فيما بينهم في المهارة، ومن حيث حاجاتهم وحاجات عائلاتهم، الخ، فلكي يتم إعطاء كل عامل نفس مقدار العمل الذي يقدمه للمجتمع في صورة معينة، ينبغي أن تكون هناك مساواة مطلقة بين العمال في شيء واحد: وهو ملكية وسائل الإنتاج. إن نمو الإنتاج، وزيادة مقدار وسائل الإنتاج المملوكة للمجتمع (أي التي يملكها جميع العمال بشكل متساوي) سيقلل بشكل متصاعد من أهمية الحقوق المتساوية في توزيع المنتجات. إن هذا بدوره سيزيد المساواة بين أفراد الشعب تصاعديا، وهكذا فان الحق البرجوازي في فترة الانتقال يحمل شروط نفيه.
إن الحق البرجوازي في فترة الانتقال، في حين انه يقضي بحصول كل عامل على وسائل الاستهلاك من المجتمع وفقا للعمل الذي يقدمه له، إلا انه قائم على أساس المساواة الاجتماعية فيما يتعلق بوسائل الإنتاج، وبالتالي فان هذا الحق سيتلاشى من تلقاء نفسه.
الفلاحون والعمال
كانت ثورة أكتوبر اندماج ثورتين: ثورة الطبقة العاملة الاشتراكية نتاج الرأسمالية الناضجة، وثورة الفلاحين، نتاج الصراع بين الرأسمالية الصاعدة والمؤسسات الإقطاعية القديمة. مثلما هو الحال في كل الأوقات، كان الفلاحون مستعدين بالقدر الكافي لنزع الملكية الخاصة لكبار ملاك الأراضي، إلا أنهم كانوا يريدون الملكيات الخاصة الصغيرة الخاصة بهم. في حين أنهم كانوا مستعدين للثورة ضد الإقطاع، فان هذا لم يكن يعني أنهم يحبذون الاشتراكية. يظهر التاريخ الفرنسي نفس الموقف من جانب الفلاحين الفرنسيين. بعد عام 1789، أيدوا دائما الحكومات الرجعية ضد “التهديد الأحمر” من جانب الطبقة العاملة الباريسية. لقد كانوا هم الذين شكلوا التأييد القوي لبونابرت، وبعد ذلك لابن أخيه نابليون الثالث، ولكافينياك ولتيير. في أوروبا الغربية (باستثناء أسبانيا وإيطاليا)، حيث تم القضاء على الضياع الكبيرة، نادرا ما ترسل القرى عضوا اشتراكيا أو شيوعيا للبرلمان. ومن هنا فليس من المفاجئ إن التحالف المنتصر بين العمال والفلاحين في ثورة أكتوبر قد تلته مباشرة علاقات شديدة التوتر. فمع التغلب على الجيوش البيضاء، ومع خطر عودة كبار ملاك الأراضي، لم يبق سوى القليل جدا من ولاء الفلاحين للعمال. لقد كان من الممكن للفلاح أن يؤيد حكومة وزعت الأرض، إلا أن الأمر اختلف تماما عندما بدأت نفس الحكومة تستولي على إنتاجه لإطعام سكان المدن الجوعى. إن هذا الموقف المزدوج للفلاحين إزاء الحكومة السوفيتية قد عبر عنه عدد من المندوبين الريفيين للمؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي، في إبريل. 1923 لقد أظهرت تقاريرهم أن الفلاحين نظروا للبلاشفة والشيوعيين على أنهم أناس مختلفون تماما، فالبلاشفة أعطوهم الأرض، أما الشيوعيون فقد فرضوا عليهم قهر الدولة. (وكان مما ساعد على سوء الفهم هذا إن اسم “الحزب الشيوعي” لم يعتمد استخدامه إلا في المؤتمر السابع للحزب في عام 1918).
يقف العمال الاشتراكيون إلى جانب العمل الجماعي، وملكية الدولة، والتخطيط الاشتراكي، أما الفلاحون، فيقفون إلى جانب الإنتاج الفردي الصغير، والملكية الخاصة، وحرية التجارة. ومن المستحيل تجنب الصراع الدائم بين نظامي الإنتاج هذين. “الإنتاج صغير الحجم يؤدي إلى الرأسمالية والبرجوازية، وهو يفعل ذلك دوما، يوميا، كل ساعة، على مستوى العنصر البسيط، وعلى مستوى العناصر الأولية”(8) إن تخلف الإنتاج الزراعي وطابعه الفردي يمثلان عائقا جديا أمام نمو الإنتاج الصناعي المخطط. نستطيع إعادة صياغة ما ذكره ابراهام لنكولن قائلين: “لا يمكن أن يعتمد نصف بيتك على العمل الجماعي، المخطط، ويعتمد نصفه الآخر على العمل الفوضوي والفردي”.
لقد زادت حدة الطابع المحافظ للفلاحين الروس بعد ثورة أكتوبر، ليس فقط لأن الثورة الزراعية قد انتزعت الرياح الثورية من الفلاحين بقضائها على الملكية الإقطاعية للأرض، وإنما أيضا لأن هذه الثورة قللت كثيرا الفروق الطبقية داخل الفلاحين أنفسهم. إن الثورة الزراعية – التي كانت ديمقراطية بشكل أكثر اتساقا وذهبت أبعد كثيرا في روسيا منها في فرنسا في عام 1789 – أقول أن الثورة الزراعية خفضت بشدة عدد العمال وأنصاف العمال الزراعيين، الحلفاء الطبيعيين للطبقة العاملة المدينية. في الثورة الفرنسية، بيعت أغلب الضياع الكبيرة وبالتالي وقعت في أيدي من يملكون المال – أغنياء المدن والريف، أما في روسيا، فقد استولى الفلاحون ليس فقط على الضياع الكبيرة وإنما على كثير من مزارع الفلاحين الأغنياء كذلك، وتم توزيع الأرض جماعيا.
من الصعوبة بمكان تطبيق أساليب الإنتاج الاجتماعية على الزراعة. فالزراعة، على العكس من الصناعة، حتى في أكثر البلاد تقدما، تقوم أساسا على وحدات الإنتاج صغيرة الحجم. تشغل كثير من الوحدات الصناعية مئات الآلاف من العمال ولكن حتى في الولايات المتحدة، تسود المزرعة الصغيرة. هكذا، فان نسبة 77% من العمل الزراعي في الولايات المتحدة في عام 1944 كان عملا عائليا.(9)
إن حقيقة أن بقاء المزرعة الصغيرة قد يعود في حالات كثير إلى أن المزارع الصغير – الذي يمثل العامل والرأسمالي ومالك الأرض مجتمعين -مستعد للعمل بجدية كبيرة- بجدية أكثر من العامل الصناعي- متخليا عن الإيجار والربح، وحاصلا رغم ذلك على دخل يقل عن دخل العامل المديني، لا تتصل بما نحاول إثباته هنا.
العامل الحاسم هو أن التفوق التقني للإنتاج كبير الحجم على الإنتاج صغير الحجم أقل في الزراعة منه في الصناعة بما لا يقارن. بل إن هذا ينطبق على الزراعة المختلطة المكثفة اكثر منه على إنتاج الحبوب. (وبالمناسبة، ينبغي أن لا ننسى أنه كلما زاد السكان في المدن وارتفع مستوى المعيشة، كلما انخفضت أهمية إنتاج الحبوب بالمقارنة بالزراعة المكثفة – إنتاج اللبن والخضراوات واللحوم وهكذا.) في بلاد كثيرة، جاءت المزارع الكبيرة للوجود ليس كنتيجة للتغلب على صغار المزارعين من خلال المنافسة الحرة وإنما كنتيجة لعوامل غير اقتصادية – مثل تطويق الأراضي أو كبقايا للضياع الإقطاعية وما إلى ذلك.
كان رأي إنجلز حول الموقف الذي ينبغي اتخاذه إزاء الفلاحين بعد الثورة الاشتراكية كما يلي:
من الواضح بالنسبة لنا انه عندما تصبح سلطة الدولة في أيدينا لن يخطر ببالنا أن ننتزع ملكية الفلاحين الصغار بالعنف (بتعويض أو بغير تعويض سيان).00 إن مهمتنا تجاه الفلاحين الصغار تقوم قبل كل شيء على توجيه إنتاجهم صغير الحجم وملكياتهم الخاصة في الاتجاه التعاوني، لا بواسطة العنف ، بل عن طريق المثل وتقديم مساعدة المجتمع لهذا الغرض. ومن المؤكد أنه سيكون لدينا من ذاك ما يكفي من الوسائل لكي نبين للفلاح الصغير المنافع المرتبطة بمثل هذا التحول.
إننا نقف بحزم إلى جانب الفلاح الصغير: سنبذل جهدنا في نطاق الممكن لكي نجعل أرضه أكثر احتمالا ولكي نسهل عليه الانتقال إلى التعاونية إذا ما أقدم على هذه الخطوة. وإذا كان لا يستطيع أن يتخذ مثل هذا القرار بعد، فسوف نعطيه وقتا كافيا للتفكير في الأمر، وهو في أرضه الصغيرة”.(10)
لقد كان من المعتقد أن الأمر يحتاج لأجيال لكي يقرر فلاحوا أوروبا الغربية والوسطى طوعا أن ينضموا للمزارع التعاونية. ومن البديهي انه في بلد تعمل الغالبية العظمى من السكان فيه في الزراعة وحيث الصناعة أقل قدرة على تلبية حاجات الفلاحين وبالتالي جذبهم للإنتاج الجماعي كما في روسيا في عام 1917 – فان العوائق أمام الانخراط الطوعي للفلاحين في تعاونيات المنتجين تكون أكبر. إن التعاون الطوعي يتطلب زراعة عالية الميكنة وأسعار جيدة للمنتجات الزراعية، مدفوعة بواسطة الدولة، وإمداد وفير بالسلع الصناعية الرخيصة للفلاحين، وضرائب منخفضة جدا عليهم، باختصار، وفرة عامة.
بعد الثورة مباشرة، أصبح من الواضح لعدد من المنظرين البلاشفة -وخاصة للاقتصادي افيجيني بريوبرازينسكي- أن الفائض المنتج في الصناعة لن يكون كافيا بذاته لتراكم رأس المال، خاصة أنه منذ لحظة انتصارها.. لا تستطيع الطبقة العاملة أن تتعامل مع عملها وصحتها وظروف عملها بنفس طريقة الرأسمالي. إن هذا عائق حاسم أمام سرعة إيقاع التراكم الاشتراكي، وهو عائق لم تعرفه الصناعة الرأسمالية في الفترة الأولى لتطورها.(11) في مواجهة “التراكم الاشتراكي” (الذي يعرف بأنه إضافة إلى وسائل الإنتاج القائمة كنتيجة للناتج الفائض المتحقق في الاقتصاد الاشتراكي ذاته) اقترح بريوبرازينسكي التراكم الاشتراكي البدائي (أول من استخدم هذا المقترح ف. م. سميرنوف) (12) الذي عرفه بأنه “مراكمة الموارد المادية التي يتم الحصول عليها أساسا من مصادر تقع خارج النظام الاقتصادي الخاص بالدولة في يد الدولة “. “في بلد زراعي متخلف، سيلعب هذا التراكم بالضرورة دورا ضخما. التراكم البدائي سيسود أثناء فترة التصنيع… علينا إذا أن نصف هذه المرحلة بأجمعها بأنها فترة التراكم الاشتراكي البدائي أو التحضيري”(13) هذا ” المصدر الواقع خارج النظام الاقتصادي الخاص بالدولة” كان الزراعة. فمثلما أنه خلال الفترة الماركنتيلية في أوروبا الغربية، جمع الرأسماليون – التجار الثروة بالاستغلال الاستعماري فان الصناعة الاشتراكية ستعتمد على (المستعمرات) الداخلية (وهذا تعبير عارضه بريوبرازينسكي بشدة)، وهي الزراعة الفردية الصغيرة. لم يدعو بريوبرازينسكي إلى إتباع التجار الماركنتايليين في استخدام العنف ضد الفلاحين أو إلى رفع أي طبقة – في هذه الحالة الطبقة العاملة – إلى موضع طبقة مستغلة. لقد اقترح إجراءات كانت أخف كثيرا من تلك التي استخدمتها البرجوازية الماركنتالية، اقترح القمع الجزئي لقانون القيمة عن طريق تغيير أسعار التبادل بين الصناعة والزراعة لصالح الأولى وضد الأخيرة، وحيث يتم تبادل وحدة العمل في صناعة الدولة بأكثر من وحدة عمل في الزراعة. لقد افترض أن أسعار التبادل تلك ستؤدي إلى ارتفاع سريع في المستوى العام للإنتاج في المجتمع، بما يؤدي ليس فقط إلى زيادة دخل المجتمع ككل، وإنما أيضا زيادة دخل الفلاحين بصورة مطلقة.
في الواقع إن تنفيذ “التراكم البدائي الاشتراكي” كان سيؤدي منطقيا لحالة مختلفة جدا عن تلك التي تصورها بريوبرازينسكي. فأية محاولة لاعتصار الفلاحين كان من المتوقع أن تواجه بتخفيض متعمد في الإنتاج، بحيث انه إذا كانت أسعار التجارة بين الزراعة والصناعة لصالح الأخيرة، فان حجم التجارة كان سيهبط. كانت ستكون هناك وسيلة واحدة فقط للتعامل مع مثل هذه العقبة، وهي استخدام العنف ضد الفلاحين، وانتزاع أراضيهم وتجميعهم في مزارع كبيرة بحيث يصبح بإمكان الدولة أن تسيطر على عملهم وإنتاجهم. وإذا استخدمت الدولة هذه الوسائل، فأنها ستواجه أيضا بمعارضة جادة من العمال الذين لا يزال الكثير منهم، في بلد متخلف مثل الذي نحن بصدده، روابط عائلية قوية بالقرى، حيث أنهم حديثو الانخراط في الصناعة. وفضلا عن ذلك، فإذا كانت الدولة بفرضها تراكما اشتراكيا بدائيا، قد لجأت إلى القمع، فما الذي كان سيمنعها من نفس الشيء فيما يتعلق بـ”التراكم الاشتراكي” ذاته، فيما يتعلق باستخراج فائض القيمة من العمال في صناعة الدولة ذاتها؟
أحد حلول الصراع بين صناعة الدولة والزراعة الفردية في بلد متخلف هو جعل معدل نمو الصناعة يعتمد على معدل زيادة الفوائض الزراعية. و نتيجة للثورة الزراعية، حدث انخفاض كبير في فوائض الزراعة التي تذهب للسوق، لأن كبار ملاك الأراضي والكولاك كانوا المساهمين الأساسيين في هذه الفوائض. إن توزيع الأرض، بزيادته لنصيب الفلاح المتوسط، الذي كان يعمل أساسا لسد الرمق، أدى إلى تخفيض مصادر الناتج الزراعي الذي يمكن تسويقه.
كان من الممكن بالتأكيد الحصول بالقطع على فوائض أكبر بزيادة نسبة الأرض المملوكة للفلاحين الأغنياء، الذين يطلق عليهم اسم الكولاك في روسيا. ولكن جعل نمو صناعة الدولة يعتمد على نمو زراعة الكولاك كان سيجعل من الضروري خفض معدل سير النمو الصناعي إلى سرعة السلحفاة وبالتالي إضعاف الطبقة العاملة الصناعية بالمقارنة بالكولاك. إن ذلك كان سيؤدي حتما إلى انتصار الرأسمالية الفردية على امتداد الاقتصاد.
كبديل آخر، كان يمكن حل الصراع بين الصناعة والزراعة بواسطة التصنيع السريع القائم على أساس “التراكم البدائي” من خلال نزع ملكية الفلاحين ودفعهم قسرا إلى المزارع المميكنة الكبيرة، وبالتالي إتاحة قوة عمل للصناعة وتوفير فوائض زراعية للسكان المدينيين. مثل هذه الطريقة لتحقيق “التراكم البدائي” يجب أيضا، في نهاية المطاف، أن تؤدي لإخضاع العمال الصناعيين لحاجات تراكم رأس المال. انه طريق انغمار الإنتاج الزراعي الفردي في اقتصاد رأسمالية دولة.
في كلا الحالين، سيكون من المضحك توقع ازدهار الديمقراطية الاشتراكية. فعلى العكس، في الحالة الأولى، يتعين بالضرورة أن تتعرض الدولة لضغط متزايد من الكولاك وبالتالي تصبح منفصلة عن العمال أكثر فأكثر. وفي الحالة الثانية لابد أن تصبح الدولة مطلقة القدرة، ويستتبع ذلك أن يصبح مسئولو الدولة اتوقراطيين في علاقتهم بالعمال والفلاحين جميعا.
هاتان الطريقتان للتعامل مع المشكلة قد جربتا بالفعل، الأولى أثناء فترة (السياسة الاقتصادية الجديدة – النيب) 1921 – 1928 والثانية مع الخطط الخمسية.
ختاما
إن اقتصاد الدولة العمالية والاقتصاد الرأسمالي بينهما خصائص مشتركة كثيرة. الدولة العمالية – وهي مرحلة انتقالية بين الرأسمالية والشيوعية -تتضمن حتما بعض سمات المجتمع الذي تنشأ على أنقاضه وبعض نويات مجتمع المستقبل. وهذه العناصر، رغم تنافرها، إلا أنها مرتبطة ببعضها البعض في فترة الانتقال، حيث تخضع الأولى للأخيرة، يخضع الماضي للمستقبل. يجمع بين الدولة العمالية والرأسمالية تقسيم العمل وبصفة رئيسية الفصل بين العمل الذهني واليدوي. أما السمة التي تميز إحداهما عن الأخرى فهي وجود أو عدم وجود السيطرة العمالية على الإنتاج. تشكل السيطرة العمالية الجسر “وان يكن جسرا ضيقا” الذي يؤدي إلى إلغاء الانفصال بين العمل اليدوي والذهني والذي سوف يتحقق بالكامل مع إقامة المجتمع الشيوعي. كما يجمع بين الدولة العمالية والرأسمالية، حقيقة أن التقنيين يشكلون سلطة فوق العمال (وان لم تكن سلطة في الجوهر في الدولة العمالية). أما السمة المميزة فتتمثل في أنه في الدولة العمالية لا يخضع التقنيون لرأس المال، وإنما لإرادة الدولة العمالية، لجماعة المنتجين. هذه هي نقطة الانطلاق نحو إلغاء أي هرمية اجتماعية في الإنتاج. إن عناصر القهر في نظام العمل ستوجد في الدولة العمالية مثلما توجد في الرأسمالية. ولكن في الدولة العمالية، على عكس ما هو سائد في ظل الرأسمالية لن تكون هذه هي العناصر الوحيدة، وسيتم إخضاعها أكثر فأكثر لعناصر الوعي إلى أن يحين ذلك الوقت الذي يكون فيه التضامن الاجتماعي والعلاقات المتجانسة بين الناس والتعليم قد جعلوا القهر في عملية الإنتاج أمرا لا حاجة له على الإطلاق. في الدولة العمالية كما في الاقتصاد السلعي الرأسمالي يتم تبادل أشياء متساوية، يتم تبادل منتج يحتوي على كمية معينة من العمل الضروري اجتماعيا بمنتج آخر يحتوي على نفس الكمية. ولكن في الدولة العمالية يتم تحقيق هذه النتيجة أولا من خلال التوجيه الواعي للاقتصاد وليس من خلال عمل القوى العمياء، وثانيا -وهذا مهم جدا- يعتمد تبادل الأشياء المتساوية على وجود مساواة في الحقوق بين كل المنتجين المباشرين فيما يتعلق بملكية وسائل الإنتاج. الحق البرجوازي في ظل البرجوازية يعني الاستغلال، أما الحق البرجوازي في التوزيع في الدولة العمالية فهو يعترف ضمنا بالمواهب الفردية غير المتساوية، وبالتالي بالقدرة الإنتاجية بوصفها مميزات طبيعية، ولكنه في نفس الوقت يقر المساواة بين المنتجين فيما يتعلق بوسائل الإنتاج. الشرطان الأساسيان للحق البرجوازي في التوزيع في الدولة العمالية هما غياب أي استغلال والتطور نحو الإلغاء الكامل لأية فوارق اقتصادية، بما في ذلك تلك الناتجة عن المواهب الفردية الطبيعية.
الفصل الرابع: الإرث المادي لمجتمع ما قبل ثورة أكتوبر
في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي يصيغ ماركس بإيجاز الاستنتاجات الأساسية للمادية التاريخية. حيث يكتب:
إن أي نظام اجتماعي لا يمكن أن يختفي قبل أن يطور كافة القوى الإنتاجية التي يسمح بتطويرها، كما أنه لن تظهر علاقات إنتاج جديدة أعلى قبل نضج ظروف وجودها المادية في رحم المجتمع القديم.
وقد استدل المناشفة بهذه الجملة ليثبتوا أن الرأسمالية في روسيا لم تكن ناضجة بعد للثورة الاشتراكية، وأن مستقبلا طويلا كان ينتظرها حتى تصل إلى مثل هذه المرحلة. ولكن هذا الاستنتاج البسيط، يغفل سلسلة كاملة من العوامل التي تحدد أو تحد من أو توسع إمكانيات تطور القوى المنتجة.
إن ما حدد التطور في روسيا القيصرية كان – من ناحية – علاقات القوى بين الطبقات داخل روسيا نفسها، ومن ناحية أخرى تبعية روسيا للرأسمالية العالمية. فهذان العاملان يرتبطان ببعضهما البعض جدليا. فبدون الإقرار بوحدة العالم، لا يمكن تفسير التطور اللامتكافيء والمركب للبلاد المختلفة: لماذا كان على الصراع الطبقي أن يتخذ الشكل الأكثر عمقا والأكثر حدة في بلد متخلف كروسيا. وكيف أن البروليتاريا الروسية في ظل القيصرية كانت مركزة في مؤسسات عملاقة بقدر أكبر من حتى بروليتارية الولايات المتحدة الأمريكية. إن هذه الظواهر تدل على المستوى العالي للإنتاج الاجتماعي الذي وصل إليه الاقتصاد العالمي، ونضج العالم لإحلال علاقات الإنتاج الاشتراكية محل تلك الرأسمالية. إن الحرب العالمية الأولى التي عجلت بسقوط القيصرية لم تكن دليلا على المستوى المتقدم للقوى الإنتاجية في كل من البلاد المتحاربة، ولكنها أظهرت أن الظروف المادية كانت ناضجة للثورة الاشتراكية على النطاق العالمي. كذلك فان سلسلة الهزائم العسكرية التي كبدت الجيش الروسي خسائر فادحة، قد أوضحت بجلاء التخلف الصناعي والعسكري لروسيا داخل العالم المتقدم. وكون أن الماركسية ثمرة التوليف بين الاشتراكية الفرنسية والنظرية الاقتصادية الإنجليزية والفلسفة الألمانية – قد تم استجلابها إلى روسيا عندما كانت الحركة العمالية لا تزال في مهدها لدليل على الوحدة الروحية للعالم. ومن ناحية أخرى، فكون أن الأفكار الانتهازية والتحريفية لم تكن قد تأصلت وترسخت في الحركة العمالية الروسية كما حدث في بلاد الغرب تكشف عن تخلف روسيا في عالم ناضج للاشتراكية: مستوى المعيشة المنخفض للعمال والذي ساعد في بقائه كذلك تيار هجرة الفلاحين للمدن، عدم امتلاك البرجوازية الروسية لاستثمارات في الخارج وبالتالي القدرة على استخدام جزء من الأرباح العالية الناتجة عن هذه الاستثمارات في رشوة شريحة من العمال وتحقيق تحسن مؤقت في ظروف الجماهير ككل لفترة من الوقت، كما حدث في الغرب، تركيز العمال في مؤسسات عملاقة وجلوس البلد متقلقلا على برميل بارود الثورة الزراعية.
كون أن القوى الإنتاجية تتطور داخل إطار العلاقات الاجتماعية الوطنية والعالمية، وليس في فراغ، كما يتصور المناشفة، قد أبطل تماما حلمهم بإمكانيات التطور الهائلة المفتوحة أمام الرأسمالية الروسية. فعلى العكس من اعتقادهم، كان استمرار وجود الرأسمالية الروسية داخل العلاقات الوطنية والعالمية القائمة آنذاك كان سيحافظ على إيقاع الإقطاع. لقد كان سيوقع البلد في حروب كان من الجائز جدا أن تحول روسيا المتخلفة إلى مستعمرة أو شبه مستعمرة للقوى الغربية. كان هذا سيعني أن تطور الأقليات الوطنية التي كونت نصف سكان روسيا، كان سيبقى معرقلا.
الاقتباس السابق من نقد الاقتصاد السياسي ينطبق على النظام العالمي، وليس على بلد منعزل. ومجرد قيام أول ثورة بروليتارية في بلد متخلف يؤكد هذا، انه أفضل شاهد على نضج العالم للثورة الاشتراكية.
من بين الأسباب الرئيسية للأزمة المستعصية في العالم الحديث هو أنه، مع التقسيم العالمي للعمل، أصبحت الحدود الوطنية إطارا ضيقا جدا لتطور القوى الإنتاجية. بالنسبة لبلد مثل روسيا، فان وجود الحدود الوطنية لا يضع فقط عقبات جدية في طريق الحصول على المساعدات المادية من البلاد الصناعية الأكثر تقدما، وإنما يفرض أيضا العبء الثقيل لسباق التسلح مع الدول الوطنية الأخرى. حتى وفاة لينين، لم يشر أحد في الحزب البلشفي إلى أن روسيا تستطيع أن تبني الاشتراكية بجهودها الذاتية. لقد أكد لينين نفسه مرارا وتكرارا على العكس. “الثورة الروسية” كتب يقول في 4 يونيو 1918 – “لا ترجع للمزايا الخاصة للبروليتاريا الروسية، وإنما لمسار الأحداث التاريخية، وقد وضعت هذه البروليتاريا مؤقتا في موضع القيادة بإرادة التاريخ، وأصبحت لبعض الوقت طليعة الثورة العالمية” (1)
“لقد راهنا دائما على ثورة عالمية وكان هذا موقفا سليما تماما، لقد أكدنا دائما… أنه من المستحيل إنجاز عمل مثل الثورة الاشتراكية في بلد واحد” (6 نوفمبر1920، لينين، الأعمال (بالروسية) الطبعة الثالثة، الجزء25، ص 473 – 474 “التشديد من عندي، هذه الكلمات محذوفة من الطبعة الرابعة للأعمال الكاملة للينين (بالروسية). أنظر الجزء 31 ص 370).
حتى بعد وفاة لينين فان ستالين الذي طرح فيما بعد فكرة “الاشتراكية في بلد واحد” كان قد قال: “ولكن إسقاط سلطة البرجوازية وإقامة سلطة البروليتارية في بلد واحد لا يضمن بعد الانتصار الكامل للاشتراكية. فالمهمة الرئيسية، وهى تنظيم الإنتاج الاشتراكي، تبقى في انتظار الإنجاز. هل ننجح ونضمن الانتصار الحاسم للاشتراكية في بلد واحد بدون الجهود المجتمعة البروليتاري عدة بلاد متقدمة؟ بالقطع لا. إن جهود بلد واحد تكفي لإسقاط البرجوازية. هذا هو ما يثبته تاريخ ثورتنا. ولكن من أجل الانتصار الحاسم للاشتراكية، تنظيم الإنتاج الاشتراكي، فان جهود بلد واحد وحدها لا تكفي، خاصة إذا كان بلدا ريفيا بالأساس مثل روسيا، إن الأمر يحتاج لجهود بروليتاري عدة بلاد متقدمة”. (ستالين، نظرية وممارسة اللينينية، الحزب الشيوعي البريطاني، 1925، ص 45 – 46. في الطبعة الروسية الثانية لهذا الكتاب، التي ظهرت في ديسمبر 1924 حذفت هذه الفقرة، وكتب محلها: “أما وقد عززت سلطتها وقادت الفلاحين فان بروليتاريا البلد المنتصر تستطيع وينبغي عليها بناء مجتمع اشتراكي… هذه هي بصفة عامة السمات المكونة للنظرية اللينينية للثورة البروليتارية” (ستالين، الأعمال “بالروسية” الجزء السادس، ص 107 – ص 108) أيضا ستالين ” مشاكل اللينينية”، ص 27. ص 28)).
مما يجدر ذكره أن تروتسكي عبر عن ذات الفكرة الأممية في عدة مناسبات.
يمكن فهم الثورة الروسية بواسطة قانون التطور اللامتكافيء الذي يمثل أحد وجهي وحدة التطور العالمي. ولكن هذا القانون يسمح باحتمالين للتطور: أولا، أن الثورة الروسية، كونها دليلا على نضج العالم للاشتراكية، تمثل المقدمة لسلسلة من الثورات الجديدة التي تقوم فورا أو بعد فترة معينة، ثانيا – وهذه إعادة صياغة للاحتمال الأول – بسبب اللاتكافؤ، قد تطول هذه “الفترة المعينة” إلى سنوات تاركة الثورة الروسية معزولة في عالم رأسمالي معادي. قبل أكتوبر 1917 كان من المستحيل تحديد أي طريق ستسلكه الإنسانية بمجرد الاعتماد على اعتبارات عامة تتعلق بالطابع الشمولي للتاريخ العالمي، فالتناقضات التي يحتوي عليها هذا الشمول – أي قانون التطور اللامتكافىء – يجب أيضا أخذها في الاعتبار. الممارسة الإنسانية وحدها تستطيع أن تقرر الطريق الذي يسير فيه التاريخ. الآن، نستطيع أن نقول بأثر رجعي أية ممارسة إنسانية بعينها – مثلا التأييد الذي أعطته الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية للرأسمالية في أوروبا الغربية والوسطى – تسببت في فشل الثورات التي اندلعت في أعقاب ثورة أكتوبر.
لكي يمكن للقوى الإنتاجية أن تتطور، كان لابد من اختفاء النظام الاجتماعي القائم في ظل القيصرية. ولكن أي نظام اجتماعي كان ينبغي أن يحل محله؟ بالنظر إلى أن تدمير النظام الاجتماعي لروسيا القيصرية كان تعبيرا عن نضج العالم للاشتراكية، فليس هناك شك في أنه، لو كانت الثورة قد انتشرت، فان النظام الاجتماعي الذي كان سيحل محله كان سيكون المرحلة الأولى للمجتمع الشيوعي. ولكن حيث أن ثورة أكتوبر لم تنتشر، فأي نظام اجتماعي كان يمكن أن يظهر في روسيا !
إن الخطوة الأولى التي ينبغي اتخاذها للإجابة على هذا السؤال هي تحليل الإرث المادي الذي تركه النظام الاجتماعي الموجود قبل أكتوبر:
الناس لا يبنون لأنفسهم عالما جديدا بـ “المتاع الدنيوي كما تقول الخرافة الفجة” وإنما بالإنجازات التاريخية للعالم القديم الآيل للزوال. في مسار التطور، عليهم أن يبدأوا بالاعتماد على أنفسهم تماما في إنتاج الظروف المادية لمجتمع جديد، ولا يمكن لأي جهد من جانب العقل أو الإرادة الإنسانية أن يخلصهم من هذا المصير.(2)
الإرث المادي للفترة القيصرية
في عام1913، كان 80% من سكان روسيا يعتمدون على الزراعة كمصدر لعيشهم و 10% فقط على الصناعة والتعدين والنقل. هذه الأرقام وحدها تكفي لكي تبين تخلف روسيا. من بين جميع بلدان أوروبا، لا يوجد مثل هذا التوزيع المهني للسكان إلا في يوغوسلافيا وتركيا ورومانيا وبلغاريا.
في بلاد أوروبا الغربية والوسطى و الولايات المتحدة الأمريكية، في منتصف القرن التاسع عشر، كانت النسبة المئوية من السكان الذين يعملون في الصناعة والتعدين والنقل أعلى كثيرا، كما كانت النسبة المئوية التي تعمل في الزراعة، أقل كثيرا مقارنة بروسيا في عام 1913. هكذا ففي بريطانيا في عام1841، كانت نسبة السكان الذين يعملون في الزراعة وصيد الأسماك والصيد 7ر22%، ونسبة العاملين في الصناعة والبناء والتعدين والنقل 3ر47%. أما فرنسا التي كانت متأخرة جدا عن بريطانيا، فكان بها 63% يعملون في الزراعة في عام 1837، وفي عام 1866 كان بها 43% يعملون في الزراعة و 38% في الصناعة. أما ألمانيا، ففي عام 1800 كان حوالي ثلثي سكانها يعملون بالزراعة، في عام 1852 أصبح بها 4ر44% يعملون بالزراعة و 9ر40% يعملون بالصناعة والحرف اليدوية. أما الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أصلا بلا استيطان زراعي بالأساس، فكان 3ر72% من سكانها يعملون بالزراعة والصيد، وصيد الأسماك في مقابل 3ر12% في الصناعة والبناء والتعدين في عام1880، وفي عام1850، أصبحت النسبتان 8ر64% و 8ر17% على التوالي.
يتضح من إحصائيات الدخل القومي مدى فقر الإرث المادي الذي وجده البلاشفة عندما استولوا على السلطة، ليس فقط بالمقارنة مع البلاد الرأسمالية المتقدمة المعاصرة لهم، وإنما حتى بالمقارنة بتلك البلاد نفسها في مستهل تطورها الرأسمالي.
الحساب أكثر تكاملا ودقة – في الحدود التي تكون الدقة فيها ممكنة في مثل ذلك الحساب الضخم والمعقد – للدخل القومي في بلدان مختلفة في فترات مختلفة أجراه كولين كلارك في كتابه شروط التقدم الاقتصادي. (لندن، 1940)
يقدر كلارك أن الدخل الحقيقي للفرد العامل في روسيا في عام 1913 يعادل 306 وحدة عالمية (و.ع) (يعرف كلارك الوحدة العالمية بأنها مقدار السلع والخدمات التي يمكن للدولار الواحد شراؤها في الولايات المتحدة فوق متوسط الفترة من عام 1925 إلى 1934″).
في مقابل هذا، كان متوسط الدخل الحقيقي للفرد العامل في بعض البلدان المتقدمة كما يلي: (3)
| بريطانيا | فرنسا | ألمانيا | الولايات المتحدة | ||||
| السنة | و.ع | السنة | و.ع | السنة | و.ع | السنة | و.ع |
| 1688 | 372 | 1850-1859* | 382 | 1850 | 420 | 1850 | 787 |
| 1860-1869* | 638 | 1860-1869* | 469 | 1877 | 632 | 1880 | 1032 |
| 1904-1910* | 999 | 1911 | 786 | 1913 | 881 | 1900 | 1388 |
| 1913 | 1071 | 1917 | 1562 | ||||
| 1929 | 1636 | ||||||
* المتوسط السنوي
هكذا فان متوسط دخل الفرد العامل في روسيا في عام 1913 كان 9ر80% فقط من الرقم المقابل في بريطانيا في عام 1688 – أي قبل الثورة الصناعية بحوالي مائة عام.
حكم الطبقة العاملة عندما لا تتوفر الشروط المادية لإلغاء علاقات الإنتاج الرأسمالية
يتناول ماركس وإنجلز في أكثر من مناسبة مسألة ما يمكن أن يحدث إذا استولت الطبقة العاملة على السلطة قبل وجود الشروط التاريخية لإحلال علاقات الإنتاج الاشتراكية محل علاقات الإنتاج الرأسمالية. وقد توصلا إلى أنه في مثل هذه الحالة ستفقد الطبقة العاملة السلطة لصالح البرجوازية. ستمكث الطبقة العاملة في السلطة لفترة مؤقتة فقط وستمهد طريقا للرأسمالية المتنامية. هكذا، على سبيل المثال، فقد كتب ماركس في عام1847:
إذا كان صحيحا أن البرجوازية من الناحية السياسية، أي من خلال سلطة الدولة ” تحافظ على عدم عدالة علاقات الملكية (تعبير هاينزن)، فانه ليس أقل صحة أنها لا تخلق هذه العلاقات. إن عدم عدالة علاقات الملكية مشروط بالتقسيم الحديث للعمل، والشكل الحديث للتبادل والتنافس وتجميع رأس المال، الخ،،، وهو لا يعود في أصله بأي شكل من الأشكال للسيطرة السياسية للطبقة البرجوازية،.. إن السيطرة السياسية للبرجوازية تنشأ من علاقات الإنتاج القائمة. لذا إذا تمكنت البروليتاريا من إسقاط الهيمنة السياسية للبرجوازية، فأن هذا الانتصار سيكون مؤقتا فقط و نقطة في عملية الثورة البرجوازية ذاتها، وسيخدم قضيتها غرضه كما فعل في عام1794، وذلك طالما أن حركة التاريخ لم تخلق الظروف المادية التي تجعل من الضروري إلغاء نمط الإنتاج البرجوازي ومعه بالتأكيد إسقاط السيطرة السياسية للبرجوازية. كان على ” عصر الإرهاب ” في فرنسا إذن أن ينجز مهمة تنظيف سطح فرنسا من الحطام الإقطاعي بواسطة ضربات المطرقة الرهيبة. لم تكن البرجوازية الجبانة المترددة لتستطيع أن تكمل هذه المهمة في عقود من الزمن.. لم تفضي الأعمال الدموية للشعب إذن إلا إلى تمهيد الطريق للبرجوازية.(4)
كتب إنجلز في الاتجاه ذاته:
إن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لزعيم حزب متطرف، هو أن يضطر لرئاسة الحكومة في زمن لا تكون فيه الحركة ناضجة بعد لسيطرة الطبقة التي يمثلها ولاتخاذ التدابير التي تمليها هذه السيطرة… انه بالضرورة يجد نفسه في ورطة. ما يستطيع أن يفعله هو على نقيض كل أعماله السابقة، وكل مبادئه، والمصالح الحالية لحزبه، وما ينبغي أن يفعله لا يمكن تحقيقه. بكلمة واحدة، انه يضطر لتمثيل ليس حزبه ولا طبقته، وإنما الطبقة التي تكون الظروف ناضجة لسيطرتها. ولصالح الحركة ذاتها، يضطر للدفاع عن مصالح طبقة غريبة، وتغذية طبقته بالجمل والوعود، مؤكدا أن مصالح هذه الطبقة الغريبة هي مصالحهم. إن من يضع نفسه في هذا الوضع المحرج يضيع ضياعا لا رجعة فيه. (5)
إن ما يقوله ماركس وإنجلز، حول الثورة التي تأتي بالبروليتاريا إلى السلطة قبل وجود المقدمات التاريخية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، لا ينطبق على ثورة أكتوبر بشكل مباشر. والأمر ليس كذلك فقط لأن المقدمات التاريخية المادية كانت قائمة على النطاق العالمي، وإنما أيضا بسبب الظروف المحددة القائمة في روسيا. فالبرجوازية الروسية لم يتم إسقاطها سياسيا فقط، وإنما أيضا نزعت ملكيتها الاقتصادية بعد أشهر قليلة من أكتوبر. والبرجوازية الريفية التي استمرت لم تنجح في إسقاط البروليتاريا، وكان وزنها الاجتماعي خاصة من تاريخ إعلان الخطة الخمسية، شبه معدوم. إن عزلة أكتوبر لم يجعل منها “نقطة في عملية التطور البرجوازية الروسية لأن البرجوازية الروسية قد تم تصفيتها. فإذا كان الأمر كذلك فأية علاقات إنتاج يمكن أن تلي أكتوبر؟
أهي علاقات إنتاج اشتراكية؟
إن إقامة علاقات إنتاج اشتراكية يتطلب وجود مستوى من القوى الإنتاجية أعلى كثيرا مما كان عليه ارث القيصرية. إن تفسير إنجلز لسبب الانقسام الطبقي في المجتمع، وللانقسام إلى مستغلين ومستغلين، يصلح تماما لظروف روسيا حتى بعد أكتوبر:
إن انقسام المجتمع إلى طبقتين، مستغلة ومستغلة، حاكمة ومضطهدة، قد كان النتيجة الحتمية لضعف تطور الإنتاج في الماضي. فحيث لا يقدم العمل الاجتماعي الإجمالي إلا كمية من المنتجات لا تكاد تفيض عما هو ضروري لبقاء المجتمع ككل، وحيث يستوعب العمل، بالتالي، جل وقت الأغلبية العظمى لأفراد المجتمع، أو تقريبا كل وقتهم، كان هذا المجتمع منقسما بالضرورة إلى طبقات. والى جانب هذه الأغلبية العظمى المستوعبة بالكامل في العمل، تتكون طبقة معفاة من العمل المنتج المباشر ومكلفة بإدارة الشئون العامة للمجتمع: توجيه العمل، والشؤون السياسية، والقضاء، والعلوم، والفنون، الخ.. لذا فان قانون تقسيم العمل هو الذي يكمن في جذور انقسام المجتمع إلى طبقات. ولكن هذا لا ينفي إطلاقا أن تقسيم المجتمع إلى طبقات لم يتم باستعمال العنف والسلب والحيلة والغش، أو أن الطبقة الحاكمة فور توليها السلطة لم تتوانى قط في توطيد سيطرتها على حساب الطبقة العاملة، و تحويل الأشراف الاجتماعي إلى استغلال للجماهير. (6)
وظيفة الرأسمالية
يلخص لينين الرسالة التاريخية للبرجوازية في نقطتين: زيادة القوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي وإضفاء، الطابع الاجتماعي على العمل. فعلى النطاق العالمي، تم إنجاز هذه المهمة بالفعل. و في روسيا، قضت الثورة على معوقات تطور القوى الإنتاجية، ووضعت نهاية لبقايا الإقطاع، وأقامت احتكارا للتجارة الخارجية يحمي تطور القوى الإنتاجية للبلاد من الضغط المدمر للرأسمالية العالمية، كما أعطت كذلك دفعة رهيبة لتطور القوى الإنتاجية في شكل ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. في ظل ظروف كهذه، أزيلت جميع المعوقات من أمام الرسالة التاريخية للرأسمالية – إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل وتركيز وسائل الإنتاج، والتي تعد شروطا ضرورية لإقامة الاشتراكية لم تكن البرجوازية قادرة على توفيرها. وقفت روسيا ما بعد أكتوبر على أعتاب تحقيق الرسالة التاريخية للبرجوازية.
حتى في بلد متقدم، ستكون هناك بعض المهام البرجوازية التي سيتعين على ثورة بروليتارية ظافرة أن تنجزها. على سبيل المثال، في بعض أجزاء الولايات المتحدة (الزراعية أساسا) يعوق النظام الرأسمالي تطور القوى الإنتاجية، بحيث أن الإنتاج الاجتماعي وتركيز وسائل الإنتاج لم يتحققا بعد. ولكن لأن القوى الإنتاجية للولايات المتحدة ككل متطورة جدا، فان هذه المهام البرجوازية ستكون إضافات ثانوية بالنسبة للعمل الأساسي وهو بناء مجتمع اشتراكي. هكذا، على سبيل المثال، فان إقامة الإنتاج الاجتماعي وتركيز وسائل الإنتاج حيث لا يوجدان بعد، لن يتحقق من خلال خلق بروليتاريا من ناحية ورأس مال من ناحية أخرى ؛ فالعمال من البداية لن يكونوا منفصلين عن وسائل الإنتاج. على العكس من ذلك، كان تحقيق المهام البرجوازية المشكلة الرئيسية في روسيا ما بعد أكتوبر مع المستوى المنخفض لدخلها القومي. في الولايات المتحدة يمكن أن تقترن إضافة وسائل إنتاج جديدة ضرورية لإضفاء الطابع الاجتماعي على العمل بزيادة في مستوى معيشة الجماهير، وتقوية عنصر الاقتناع في نظام الإنتاج، وتعزيز السيطرة العمالية، والتخفيض التصاعدي في فروق الدخل بين العمال اليدويين والذهنيين، الخ.. ولكن هل يمكن تحقيق هذا في بلد متخلف في ظل ظروف حصار؟ هل يمكن أن يسود نظام العمل القائم أساسا على الاقتناع عندما يكون مستوى الإنتاج منخفضا جدا؟ هل يمكن إنجاز معدلات عالية للتراكم، يحتمها تخلف البلد وضغط الرأسمالية العالمية، بدون انقسام المجتمع إلى مديرين لشؤون المجتمع العامة ومدارين، قادة للعمل ومقودين؟ هل يمكن إنهاء الانفصال قبل أن يتمكن من يديرون الإنتاج من إدارة التوزيع أيضا لمصلحتهم الخاصة؟ هل يمكن لثورة عمالية في بلد متخلف، منعزلة بفعل الرأسمالية العالمية المنتصرة، أن تكون أي شيء آخر غير “نقطة في عملية ” تطور الرأسمالية، حتى لو كانت الطبقة الرأسمالية قد قضي عليها؟
لماذا تعني الخطة الخمسية تحول البيروقراطية إلى طبقة حاكمة
في الفصلين الأول والثاني رأينا أن بدء الخطة الخمسية شكل نقطة التحول في تطور علاقات التوزيع، والعلاقات بين التراكم والاستهلاك، وبين إنتاجية العمل ومستوى معيشة العمال، والسيطرة على الإنتاج، والحقوق القانونية للعمال، وجهاز العمل القسري، وعلاقة المزارعين بوسائل الإنتاج، والارتفاع الهائل في ضريبة المبيعات، وأخيرا، في هيكل وتنظيم جهاز الدولة.
جاءت حقيقة التصنيع ونظام المزارع الجماعية على النقيض تماما لآمال الجماهير فيهما، بل والنقيض تماما لأوهام البيروقراطية ذاتها. لقد اعتقدوا أن الخطة الخمسية ستأخذ روسيا شوطا بعيدا نحو الاشتراكية، ومع ذلك، فان هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي تكون فيها نتائج الأعمال الإنسانية على النقيض لأماني وآمال القائمين بهذه الأعمال أنفسهم.
كيف يمكن أن نجيب على السؤال: لماذا كانت الخطة الخمسية الأولى نقطة التحول هذه؟
الآن، ولأول مرة، تحاول البيروقراطية خلق بروليتاريا وتحقيق تراكم سريع لرأس المال. بعبارة أخرى، كان هذا هو الوقت الذي سعت فيه البيروقراطية لإنجاز الرسالة التاريخية للبرجوازية بأسرع ما يمكن. إن تراكما سريعا لرأس المال على أساس تدنى مستوى الإنتاج، وانخفاض متوسط دخل الفرد لابد أن يحدث ضغطا شاقا على استهلاك الجماهير، و على مستوى معيشتهم. في ظل ظروف كهذه، فان البيروقراطية – وقد تحولت إلى تجسيد لرأس المال، يمثل تراكم رأس المال بالنسبة لها الغاية القصوى – يتعين عليها التخلص من جميع بقايا السيطرة العمالية، ويتعين عليها إحلال القهر في عملية العمل محل الاقتناع، وتجزئة الطبقة العاملة، وحشر الحياة الاجتماعية و السياسية بأسرها في قالب شمولي. ومن البديهي أن البيروقراطية، التي أصبحت ضرورية في عملية تراكم رأس المال، والتي أصبحت مضطهدة العمال، لن تتوانى في استخدام تفوقها الاجتماعي في علاقات الإنتاج لكسب امتيازات لنفسها في علاقات التوزيع. هكذا فان التصنيع والثورة التقنية في الزراعة (المزارع الجماعية) في بلد متخلف في ظل ظروف حصار يحولان البيروقراطية من شريحة تخضع للضغط والسيطرة المباشرين وغير المباشرين للبروليتاريا، إلى طبقة حاكمة، إلى مدير للشؤون العامة للمجتمع: إدارة العمل، وشئون الدولة، والقضاء، والعلم، والفن وما إلى ذلك “.
إن التطور التاريخي الجدلي، المليء بالتناقضات والمفاجآت، جعل من الخطوة الأولى التي اتخذتها البيروقراطية بهدف الإسراع ببناء “الاشتراكية في بلد واحد” الأساس لبناء رأسمالية الدولة.
الفصل الخامس: أوجه الشبه والاختلاف بين رأسمالية الدولة والدولة العمالية
لم يشك أي من المنظرين الماركسيين في أنه إذا وصل تركيز رأس المال إلى درجة تجعل رأسماليا واحدا، أو مجموعة من الرأسماليين، أو الدولة يركز كل رأس المال الوطني في يديه بينما تستمر المنافسة في السوق العالمي، فان اقتصادا كهذا سيظل اقتصادا رأسماليا. وفي نفس الوقت أكد جميع المنظرين الماركسيين أنه قبل أن يصل تركيز رأس المال إلى مثل هذا المستوى بكثير، فإما أن العداء بين البروليتاريا والبرجوازية سيكون قد أدى إلى ثورة اشتراكية ظافرة، أو أن العداءات بين الدول الرأسمالية ستدفعها إلى حرب إمبريالية مدمرة بحيث ينحدر المجتمع كليا. وفي حين أن رأسمالية الدولة ممكنة نظريا، إلا انه من المؤكد أن الرأسمالية الفردية لن تصل أبدا عمليا من خلال التطور التدريجي إلى تركيز رأس المال الاجتماعي بأكمله في يد واحدة. لقد شرح تروتسكي بوضوح لماذا لا يمكن حدوث ذلك قائلا:
من الناحية النظرية بالتأكيد، يمكن تصور حالة تكون فيها البرجوازية ككل شركة مساهمة تقوم، من خلال دولتها، بإدارة الاقتصاد القومي بأسره. و لن تكون هناك أية صعوبة في تفهم القوانين الاقتصادية لمثل هذا النظام. إن الرأسمالي الفرد، كما هو معروف جيدا، يحصل في شكل ربح، لا على هذا الجزء من فائض القيمة الذي يخلقه مباشرة عمال مشروعه هو، وإنما على نصيب من فائض القيمة الإجمالي المخلوق على مستوى القطر يتناسب مع حجم رأسماله. في ظل “رأسمالية دولة” موحدة، فان قانون معدل الربح المتساوي هذا سيتحقق، ليس بوسائل ملتوية – أي المنافسة بين رؤوس الأموال المختلفة – وإنما فوريا ومباشرة عن طريق دفاتر الدولة. إلا أن نظاما كهذا لم يتواجد من قبل، وبسبب التناقضات العميقة بين الملاك أنفسهم، فانه لن يتواجد أبدا – خاصة أنه عندما تكون الدولة المستودع الشامل للملكية الرأسمالية، فأنها ستكون مصدر إغراء شديد بالثورة الاجتماعية. (1)
إن العاملين الأخيرين – “التناقضات بين الملاك أنفسهم” ومسألة إذا كانت الدولة هي “المستودع الشامل للملكية الرأسمالية، فأنها ستكون مصدر إغراء شديد بالثورة الاجتماعية – يفسران لماذا أن تطور الرأسمالية الفردية التقليدية بالتدريج حتى تصل إلى رأسمالية دولة بنسبة 100% لأمر بعيد الاحتمـال. ولكن هل يستبعد هذان العاملان إمكانية عودة الرأسمالية في شكل رأسمالية الدولة وليس الرأسمالية التقليدية بعد إسقاط طبقة عاملة حاكمة من على السلطة؟ إن البروليتاريا الثورية قد ركزت بالفعل وسائل الإنتاج في أيدي هيئة واحدة، بذلك استبعدت العامل الأول. أما فيما يتعلق بالعامل الثاني، فان أي قمع أو استغلال للعمال بواسطة الدولة يجعل الدولة “مصدر إغراء بالثورة الاجتماعية” بالتالي فان تجريد الطبقة العاملة من سلطتها السياسية لا يختلف عن نزع ملكيتها الاقتصادية.
إن الحجة الوحيدة التي يمكن تقديمها ضد إمكانية وجود رأسمالية الدولة هي أنه إذا أصبحت الدولة مستودع كل رأس المال، فان الاقتصاد يتوقف عن أن يكون رأسماليا، أي بعبارة أخرى، انو رأسمالية الدولة مستحيلة نظريا.
لقد قدم هذه الحجة بالفعل بيرنهام ودوايت ماكدونالد وغيرهم. فقد كتب بيرنهام، على سبيل المثال:
يبدو أن مصطلح (رأسمالية الدولة) قد جاء نتيجة لسوء فهم… فعندما تمتلك الدولة جزءا فقط، وجزءا صغيرا، من الاقتصاد، مع بقاء باقي الاقتصاد في صورة مشروعات فردية رأسمالية، نستطيع أن نتحدث بحق عن “رأسمالية الدولة” فيما يتعلق بهذا الجزء الصغير المملوك للدولة، وذلك لأن الاقتصاد يظل في مجمله رأسماليا، كما رأينا، بل وحتى الجزء المملوك للدولة قد يكون موجها في الأساس لخدمة مصالح الجزء الرأسمالي. ولكن “الرأسمالية” في “رأسمالية الدولة” ليست ناتجة عن الجزء الذي تسيطر عليه الدولة، وإنما عن الجزء الخاص. عندما يختفي الأخير، أو يصبح غير ذي شأن، فأن الرأسمالية تكون قد اختفت. ليس هناك تناقض في القول بأن عشرة أضعاف 10% رأسمالية دولة بعيدا عن أن تساوي 100% رأسمالية، بل تساوي 0% رأسمالية. إن الذي يتضاعف هو الدولة وليس الرأسمالية. وعلى الرغم من أن الحسابات ستكون أكثر تعقيدا بكثير، فانه أقرب إلى الدقة أن نقول انه كما أن 10% اقتصاد رأسمالية دولة تساوي 90% فقط اقتصاد رأسمالي، فان 100% (أو حتى 80% أو 70%) اقتصاد دولة تكون قد ألغت الرأسمالية جملة وتفصيلا. (2)
بالطبع إذا كانت رأسمالية الدولة تناقضا لفظيا، فان اسم ذلك المجتمع الذي تسود فيه المنافسة في السوق العالمي، والإنتاج السلعي، والعمل المأجور، الخ، سيتم اختياره عشوائيا. يمكن للمرء أن يسميه المجتمع الإداري، أو الجماعية البيروقراطية، الذي يحدد قوانينه بشكل عشوائي. يخبرنا برونو آر بأن الجماعية البيروقراطية تؤدي تلقائيا إلى الشيوعية. ويخبرنا بيرنهام بأنه في المجتمع الإداري سينمو الإنتاج بشكل متواصل (ص 115-116)، ولن تحدث أزمة زيادة الإنتاج كما في النظام الرأسمالي (ص 114)، ولن توجد البطالة أبدا، كما أن المجتمع الإداري سيطور البلاد المتخلفة (ص 154 -155)، وانه سيصبح ديمقراطيا يوما بعد يوم (ص 145 -147)، وأنه بسبب كل هذا سيحصل على التأييد الحماسي للجماهير (ص 160). ومقابل ذلك، يخبرنا شاختمان بأن الجماعية البيروقراطية هي البربرية.
إذا عاد آدم سميث للحياة اليوم، لكان قد وجد صعوبة كبيرة في اكتشاف أوجه الشبه بين اقتصاد ألمانيا النازية مثلا، بمؤسساته الاحتكارية الضخمة، وتحكم الدولة في توزيع المواد الخام، وتحكم الدولة في سوق العمل، وشراء الدولة لأكثر من نصف الناتج القومي، الخ.، من ناحية، وصناعة القرن التاسع عشر القائمة على تشغيل عدد قليل من موظفي الدفاتر، والمنافسة الحرة بين المشروعات، والمشاركة الفعالة من جانب الرأسماليين في تنظيم الإنتاج، وعدم وجود أزمة زيادة الإنتاج الرأسمالية، الخ.، من ناحية أخرى، فان النظر بإمعان في التطور التدريجي للرأسمالية من مرحلة لأخرى يجعل من الأسهل رؤية ما هو مشترك بين الاقتصاديين، و أن القوانين التي تحكم الاثنين هي قوانين رأسمالية. فالفارق بين الاقتصاد الروسي والاقتصاد النازي أقل كثيرا من الفارق بين الاقتصاد النازي واقتصاد أيام آدم سميث. انه فقط غياب التدرج في التطور من خلال مرحلة الرأسمالية الاحتكارية، الذي يجعل من الصعب استيعاب نواحي الشبه والاختلاف بين الاقتصاد الروسي والرأسمالية الاحتكارية التقليدية، ووجه الاختلاف بين رأسمالية الدولة والرأسمالية التقليدية من ناحية، وبين الدولة العمالية من ناحية أخرى.
إذا علما أن رأسمالية الدولة هي الحد النظري الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه الرأسمالية، فهي بالضرورة أبعد أشكال الرأسمالية عن الرأسمالية التقليدية. إنها نفي الرأسمالية على أساس الرأسمالية ذاتها. وبالمثل، فإذا علمنا أن الدولة العمالية هي أدنى مراحل المجتمع الاشتراكي الحديث، فهي بالضرورة ذات سمات مشتركة مع رأسمالية الدولة. إن ما يفرق بينهما نوعيا هو الفارق الجوهري، الأساسي، بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي. إن مقارنة رأسمالية الدولة بالرأسمالية التقليدية من ناحية، وبالدولة العمالية من ناحية أخرى، سوف تظهر أن رأسمالية الدولة هي مرحلة انتقالية إلى الاشتراكية، إذا نظرنا إلى أحد جوانب الثورة الاشتراكية، في حين أن الدولة العمالية هي مرحلة انتقالية إلى الاشتراكية، إذا نظرنا إلى الجانب الآخر للثورة الاشتراكية.
رأسمالية الدولة – نفي جزئي للرأسمالية
إن إدارة الدولة للنشاط الاقتصادي هي، في حد ذاتها، نفي جزئي لقانون القيمة (من أجل فهم أوفى لهذا، أنظر الفصل السابع) حتى لو لم تصبح الدولة بعد مستودعا لوسائل الإنتاج.
يفترض قانون القيمة إدارة الوظائف الاقتصادية بطريقة فوضوية. انه يحدد علاقات التبادل بين فروع الاقتصاد المختلفة، ويفسر كيف أن العلاقات بين الناس لا تظهر كعلاقات واضحة مباشرة، وإنما تظهر بطريقة غير مباشرة، مغلفة بالأسرار. والآن، فان قانون القيمة لا تكون له الهيمنة المطلقة إلا في ظل ظروف المنافسة الحرة، أي حيث تتوفر حرية الحركة لرأس المال والسلع وقوة العمل. لذا، حتى الأشكال الأكثر بدائية من التنظيم الاحتكاري تنفي قانون القيمة إلى حد معين. هكذا، فعندما تدير الدولة عملية توزيع رأس المال وقوة العمل، وسعر السلع، الخ، فان هذا بكل تأكيد نفي جزئي للرأسمالية. بل إن الأمر يكون اكثر وضوحا، عندما تصبح الدولة مشتريا هاما للمنتجات. حول هذه المسألة قال لينين:
عندما يعمل الرأسماليون للدفاع، أي لخزانة الحكومة، فمن البديهي إننا لا نكون أمام الرأسمالية “النقية” وإنما شكل خاص من الاقتصاد القومي. الرأسمالية النقية تعني الإنتاج السلعي. والإنتاج السلعي يعني العمل لسوق مجهول وحر. ولكن الرأسمالي الذي “يعمل” للدفاع لا “يعمل” للسوق على الإطلاق. انه ينفذ طلبية الحكومة، وفي أغلب الأحوال مقابل أموال قدمتها له الخـزانة. (3)
مع الاحتكار المتزايد للاقتصاد، يصبح النفي الجزئي لقانون القيمة أكثر اتساعا. يصل رأس المال المصرفي إلى شكل اجتماعي قبل رأس المال الصناعي بكثير. وكما لاحظ ماركس: “إن النظام المصرفي. يبين بالفعل شكل مسك الدفاتر العامة وتوزيع وسائل الإنتاج على نطاق اجتماعي ولـكن الشكل فقط” (4)
بل إن الأمر يكون أكثر وضوحا عندما تصبح الدولة الشكل الرئيسي لاستثمار رأس المال التمويلي. وهو يصل إلى مداه عندما تأخذ الدولة الرأسمالية النظام المصرفي في أيديها.
تنتفي الملكية الرأسمالية جزئيا أيضا عن طريق شكل الاحتكار. ففي حين أنه في ظل رأسمالية المنافسة الحرة كان الرأسمالي هو المالك المطلق لملكيته الخاصة، إلا أنه في ظل الرأسمالية الاحتكارية، وخاصة في أقصى أشكالها، أي رأسمالية الدولة، لا يكون للرأسمالي الفرد ملكية مطلقة لوسائل الإنتاج. في الشركات المساهمة، يصبح رأس المال “مرتبطا مباشرة بشكل رأس المال الاجتماعي.. انه بمثابة إلغاء رأس المال كملكية خاصة داخل حدود الإنتاج الرأسمالي ذاته”. (5) ويصبح هذا صحيحا أكثر عندما تنظم الدولة تدفق رأس المال. في حالة كهذه تحرم الملكية الخاصة من حرية التعاقد. يختفي رأس المال الخاص، في حين تستمر السيطرة الفردية. يصل هذا إلى مداه عندما تأخذ الدولة وسائل الإنتاج في أيديها. إن حامل الأسهم كفرد لا تعود إليه أية سيطرة على الجزء الذي يملكه من رأس المال الاجتماعي.
وفضلا عن ذلك، فان رأسمالية الدولة هي نفي جزئي لقوة العمل كسلعة. فلكي تبرز قوة العمل كسلعة “نقية” في السوق، لابد من توفر شرطين: أولا، يجب أن يكون العامل “حرا” من وسائل الإنتاج، وثانيا، يجب أن يكون حرا من أي عوائق قانونية أمام بيع قوة عمله. في ظل تنظيم الدولة لسوق العمل، كما في الفاشية مثلا، لا يكون العامل حرا في بيع قوة عمله. فإذا أصبحت الدولة المالك الفعلي لوسائل الإنتاج، فان حرية اختيار صاحب العمل تلغي تماما، في حين يتقيد كثيرا اختيار مكان العمل. وإذا صاحب رأسمالية الدولة تجميد للأجور، وتعبئة إجبارية، الخ، فان هذه الحرية تنتفي أكثر.
على أن النفي الجزئي لقانون القيمة لا يحرر الاقتصاد من هذا القانون، بل على العكس، فان الاقتصاد ككل يصبح أكثر خضوعا له. فالفارق يتمثل فقط في الشكل الذي يعبر به قانون القيمة عن ذاته. فعندما يزيد أحد الاحتكارات معدل ربحه في مواجهة صناعات أخرى، فانه ببساطة يزيد نصيبه من إجمالي فائض القيمة الإجمالي، أو يزيد معدل استغلال عماله بإجبارهم على إنتاج فائض قيمة أكثر. وعندما تحصل إحدى الصناعات على دعم من الدولة، وبالتالي تبيع سلعها بسعر أقل من نفقات إنتاجها، فان جزءا من نفقات الإنتاج الإجمالية يكون ببساطة قد انتقل من فرع إلى آخر. وعندما تنظم الدولة الأسعار، فان نقطة الانطلاق تكون دائما نفقات الإنتاج. وفي ظل كل هذه الظروف أيا كان شكلها المعين، يستمر العداء بين العمل المأجور ورأس المال، ويستمر إنتاج فائض القيمة وتحويله إلى رأس مال. إن وقت العمل الإجمالي للمجتمع ووقت العمل الإجمالي الموجه لإنتاج الحاجات الضرورية لحياة العمال ككل، يحددان معدل الاستغلال، و معدل فائض القيمة. كما يحدد وقت العمل الإجمالي المخصص لإنتاج وسائل إنتاج جديدة معدل التراكم. في حين أن سعر كل سلعة لا يعبر عن قيمتها بالضبط (وهذا لم يحدث، إلا عرضيا، حتى في ظل الرأسمالية الفردية)، فان تقسيم الناتج الإجمالي للمجتمع على الطبقات المختلفة، وكذلك تقسيمه إلى تراكم واستهلاك، يعتمد على قانون القيمة. وحيث أن الدولة تمتلك كافة وسائل الإنتاج ويكون العمال مستغلين بينما يظل الاقتصاد العالمي مفككا ومجزئا، فان هذه التبعية تتخذ شكلها الأكثر نقاءا والأكثر مباشرة والأكثر إطلاقا.
رأسمالية الدولة – مرحلة انتقال إلى الاشتراكية
إن كل ما يركز وسائل الإنتاج يركز الطبقة العاملة. ورأسمالية الدولة تصل بهذا التركيز إلى أعلى مرحلة ممكنة في ظل النظام الرأسمالي، كما أن رأسمالية الدولة تصل بالطبقة العاملة إلى أعلى درجة تركيز ممكنة.
إن النفي الجزئي للرأسمالية على أساس علاقات الإنتاج الرأسمالية، يعني أن القوى الإنتاجية التي تنمو في كنف النظام الرأسمالي تتجاوزه إلى درجة تضطر الطبقة الرأسمالية لاستخدام وسائل “اشتراكية” وتسخيرها لمصلحتها. “على الرغم منهم” يجر الرأسماليون إلى نظام اجتماعي جديد، نظام اجتماعي انتقالي بين المنافسة الحرة الكاملة وإضفاء الطابع الاجتماعي بالكامل على الإنتاج”. (6)
إن القوى الإنتاجية أقوى مما تستوعبه الرأسمالية، لذا فأن عناصر “اشتراكية”، تتسرب إلى الاقتصاد (أطلق إنجلز وصف ” المجتمع الاشتراكي الغازي” على هذا). ولكنها خاضعة لمصلحة استمرار الرأسمالية. وبالمثل، ففي الدولة العمالية، لأن القوى الإنتاجية ليست متطورة بالقدر الكافي لبناء الاشتراكية، تضطر الطبقة العاملة لاستخدام إجراءات رأسمالية (مثل القانون الرأسمالي مطبقا على التوزيع) لصالح بناء الاشتراكية.
رأسمالية الدولة والدولة العمالية هما مرحلتان في فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. رأسمالية الدولة هي نقيض الاشتراكية – انهما متضادان تماثليا، ومتحدان جدليا مع بعضهما البعض. ففي حين أنه في ظل رأسمالية الدولة ينتفي العمل المأجور جزئيا من حيث أن العامل لا يكون حرا في اختيار صاحب العمل، إلا انه ظل دكتاتورية البروليتاريا ينتفي العمل المأجور جزئيا من حيث أن العمال كجماعة يكونون “”أحرارا” من وسائل الإنتاج. وفي نفس الوقت، في الدولة العمالية لا يكون العمل المأجور سلعة. فـ “بيع” قوة العمل يكون مختلفا عن بيع قوة العمل في ظل الرأسمالية، حيث أنه في ظل الدولة العمالية لا يبيع العمال كأفراد قوة عملهم وإنما يضعونها تحت خدمتهم في دورهم كجماعة. تتوقف قوة العمل حقا عن أن تكون سلعة، حيث أن التبادل هنا يتم بين العمال كأفراد، ونفس العمال كجماعة، وليس بين كيانين مستقلين تماما عن بعضهما البعض فيما عدا عملية التبادل. في حين أن رأسمالية الدولة تؤدي إلى اندماج النقابات مع الدولة حتى تنتهي كنقابات في آخر المطاف، فان الدولة العمالية ترفع تأثير نقابات العمال إلى أقصى حد. وفي حين أن رأسمالية الدولة تعني تاريخيا إضفاء الطابع الشمولي على الدولة، فان الدولة العمالية تأتي بأعلى درجة من الديمقراطية عرفها المجتمع من قبل. تعني رأسمالية الدولة الإخضاع التام للطبقة العاملة بواسطة طبقة رأسمالية تسيطر على وسائل الإنتاج. أما الدولة العمالية فتعني قمع الرأسماليين بواسطة طبقة عاملة تسيطر على وسائل الإنتاج.
بهذه الكلمات صاغ لينين بوضوح العلاقة بين رأسمالية الدولة والاشتراكية:
الإجراء المسمى “اشتراكية الحرب” بواسطة أمثال بليخانوف من الألمان (شيدمان ولينش وغيرهم) هو في الحقيقة رأسمالية دولة احتكارية خاصة بظروف الحرب. ولكي نتحدث ببساطة ووضوح أكثر، هو العمل العقابي العسكري للعمال، والدفاع عسكريا عن أرباح الرأسماليين
ولكن حاول أن تستبدل دولة الرأسمالي الأرستقراطي ودولة الرأسمالي مالك الأرض بدولة ديمقراطية ثورية، أي دولة تحطم كل الامتيازات ثوريا دون أن تخشى إقامة أكمل ديمقراطية ممكنة وبطريقة ثورية – وسترى أنه في دولة ديمقراطية ثورية حقيقية، فان رأسمالية الدولة الاحتكارية تعني حتما وبالضرورة التقدم نحو الاشتراكية.
…فالاشتراكية ليست سوى الخطوة التالية للأمام بعد احتكار رأسمالية الدولة. وبكلمات أخرى، الاشتراكية ليست سوى احتكار رأسمالية الدولة وقد تم لصالح الشعب كله، وبهذا فان هذا الاحتكار لا يظل احتكارا رأسماليا (7)
بوخارين، الذي تناول بتوسع مسألة رأسمالية الدولة، صاغ العلاقة بين رأسمالية الدولة ودكتاتورية البروليتاريا بوضوح شديد:
في نظام رأسمالية الدولة، الذات الفاعلة الاقتصادية هي الدولة الرأسمالية، الرأسمالي الجماعي. أما في ظل ديكتاتورية البروليتارية، فالذات الفاعلة الاقتصادية هي الدولة البروليتارية، الطبقة العاملة المنظمة جماعيا، ” البروليتاريا المنظمة في شكل سلطة الدولة”. في ظل رأسمالية الدولة، عملية الإنتاج هي عملية إنتاج فائض القيمة الذي يصب في أيدي طبقة رأسمالية، تحاول تحويل هذه القيمة إلى فائض إنتاج. في ظل ديكتاتورية البروليتاريا، عملية الإنتاج هي وسيلة لتلبية الحاجات الاجتماعية وفق خطة محددة. نظام رأسمالية الدولة هو أكمل أشكال استغلال الجماهير بواسطة أقلية من الحكام. أما ديكتاتورية البروليتاريا فتجعل أي نوع من الاستغلال مستبعدا بالمرة، حيث تحول الملكية الرأسمالية الجماعية ومعها شكلها الرأسمالي الفردي إلى “ملكية” جماعية – بروليتارية ! على الرغم من تشابههما الصوري، فانهما متناقضان تماما في المضمون. يحدد هذا العداء أيضا العداء بين كافة أجزاء النظامين رهن الحوار، على الرغم من التشابه الصوري. هكذا، على سبيل المثال، فان واجب العمل العام في ظل رأسمالية الدولة يعني استعباد الجماهير العاملة، وفي مقابل هذا، فانه في ظل دكتاتورية البروليتاريا لا يعدو أن يكون التنظيم الذاتي للعمل بواسطة الجماهير ؛ في رأسمالية الدولة تعبئة الصناعة تعنى زيادة قوة البرجوازية وتقوية النظام الرأسمالي، في حين أنها في ظل دكتاتورية البروليتاريا تعني تقوية الاشتراكية. في ظل هيكل رأسمالية الدولة، تمثل كافة أشكال الإكراه من جانب الدولة ضغطا يضمن ويوسع ويعمق عملية الاستغلال، في حين أن الإكراه من جانب الدولة في ظل دكتاتورية البروليتاريا يمثل وسيلة لبناء المجتمع الشيوعي. باختصار، فان التناقض الوظيفي بين الظاهرتين المتشابهتين صوريا يتم تحديده هنا بالكامل بالتناقض الوظيفي بين النظامين وخصائصهما الطبقية المتناقضة.(8)
وقبل لينين وبوخارين بكثير، طرح إنجلز ما يعتبر جوهريا نفس الأفكار في كتابه ضد دوهرنج:
كلما زادت القوى الإنتاجية التي تستولي عليها (الدولة)، كلما أصبحت الهيئة الجماعية الحقيقية لكل الرأسماليين، وكلما زاد المواطنون الذين تستغلهم. يظل العمال أجراء، بروليتاريين. لا يتم إلغاء العلاقة الرأسمالية، إنها بالأحرى تدفع إلى حد أقصى. ولكنها عند هذا الحد تتحول إلى عكسها. ملكية الدولة للقوى الإنتاجية ليست هي حل المشكلة، ولكنها تحمل في طياتها الوسائل الشكلية، التي تعتبر الطريق إلى الحل.(9)
الفصل السادس: تأملات إضافية في الستالينية ـ المجتمع والاقتصاد والسياسة
البيروقراطية الستالينية طبقة
سيتضح لنا من دراسة التعريفات التي يقدمها مختلف المنظرين الماركسيين للطبقة الاجتماعية، أن البيروقراطية الستالينية ينطبق عليها تعريف الطبقة حسبما يراه جميع هؤلاء المنظرون. على سبيل المثال، يكتب لينين:
نطلق وصف الطبقات على الجماعات العريضة من الناس التي تتميز بالموقع الذي تحتله في نظام إنتاج اجتماعي قائم تاريخيا ومحدد، و بعلاقاتها بوسائل الإنتاج (التي تكون في أغلب الأحوال (ليس دائما) محددة ومصاغة في قوانين)، ودورها في النظام الاجتماعي للعمل، وبالتالي وسائلها في الحصول على النصيب الذي يحوزونه من الثروة الوطنية، فضلا عن حجم هذا النصيب. الطبقات هي جماعات من الناس تستطيع واحدة منها أن تستولي على عمل الأخرى بسبب اختلاف مواقعهم في نظام معين للاقتصاد الاجتماعي (1)
يعطي بوخارين تعريفا مماثلا جدا:
الطبقة الاجتماعية… هي مجموع الأشخاص الذين يلعبون نفس الدور في الإنتاج، وتكون لديهم نفس العلاقة نحو الأشخاص الآخرين في عملية الإنتاج، وهي علاقات تتعلق أيضا بالأشياء (أدوات العمل). (2)
إذا كانت هناك أية شكوك أخرى حول ما إذا كانت البيروقراطية الستالينية طبقة أم لا، فإننا لا نحتاج سوى إلى فحص تحليل إنجلز لطبقة التجار التي لم تلعب دورا مباشرا في عملية الإنتاج. انه يكتب:
لقد خلقت الحضارة تقسيما ثالثا للعمل: خلقت طبقة لا تلعب دورا في الإنتاج، وإنما تعنى فقط بتبادل المنتجات- وهى طبقة التجار. إن كافة المحاولات السابقة لتكوين طبقات قد انحصرت في الإنتاج. وقد قسمت المنتجين إلى مديرين ومدارين، أو إلى منتجين على نطاق واسع بدرجة أو بأخرى. ولكن هنا تظهر لأول مرة طبقة تسيطر على الإنتاج بصفة عامة وتخضع المنتجين لحكمها، دون أن تلعب أدنى دور في الإنتاج. وهي طبقة تجعل من نفسها الوسيط الذي لا غنى عنه بين منتجين، وتستغلهما معا بحجة تجنيبهما مشقة ومخاطر التبادل، ومد أسواق منتجاتهما إلى مناطق بعيدة، وبذلك تصبح أكثر الطبقات نفعا في المجتمع: طبقة من الطفيليين والنموس (جمع نمس “المترجم”) الاجتماعية الأصيلة، تستأثر بقشدة الإنتاج داخل وخارج البلاد كمكافأة في مقابل خدمات تافهة، طبقة تجمع سريعا ثروة هائلة وتكتسب بالتالي نفوذا اجتماعيا، وهي لهذا السبب تحصد على الدوام تشريفات جديدة وسيطرة أكبر على الإنتاج أثناء فترة الحضارة، حتى تزيح النقاب أخيرا عن منتج خاص بها – الأزمات الدورية في الصناعة. (3)
في ضوء هذا التعريف، يتضح لماذا استطاع ماركس أن يصف رجال الدين، والمحامين، الخ..، بأنهم “الطبقات الأيديولوجية”، التي لديها احتكار طبقي لما يسميه بوخارين بذكاء ” وسائل الإنتاج الذهنية”.
من الخطأ تسمية البيروقراطية الستالينية بالطائفة للأسباب التالية: في حين أن الطبقة هي مجموعة من الناس لديهم مكانا محددا في عملية الإنتاج، فان الطائفة هي مجموعة قضائية – سياسية، أعضاء الطائفة يمكن أن يكونوا أعضاءا في طبقات مختلفة، أو في الطبقة الواحدة يمكن أن يتواجد أعضاء في طوائف مختلفة، الطائفة هي نتاج الجمود النسبي للاقتصاد – تقسيم عمل جامد وجمود القوى الإنتاجية – في حين أن البيروقراطية الستالينية قد تحولت إلى طبقة حاكمة في أوج ديناميكية الاقتصاد.
البيروقراطية الستالينية – أقصى وأنقى تجسيد لرأس المال.
كتب ماركس:
ليس للرأسمالي أية قيمة تاريخية، ولا أي حق في ذلك الوجود التاريخي، إلا كتجسيد لرأس المال… ولكن طالما أنه رأس مال متجسد، فان ما يدفعه للعمل ليس القيمة الاستعمالية، ولا الاستمتاع، وإنما القيمة التبادلية وزيادتها. إن الرأسمالي، وهو الخادم المتعصب للتراكم، يجبر الجنس البشرى بلا رحمة على الإنتاج من أجل الإنتاج،… وحيث أن أعماله ليست إلا مجرد وظيفة لرأس المال – وهو رأس مال لديه، في شخصه، وعي وإرادة – فان استهلاكه الشخصي يصبح سرقة، تتم على حساب التراكم… وبالتالي، ادخروا، ادخروا، ادخروا، أي أعيدوا تحويل أكبر قدر ممكن من فائض القيمة أو فائض المنتج إلى رأس مال ! التراكم من أجل التراكم، والإنتاج من أجل الإنتاج”.(4)
تصبح الوظيفتان – استخراج فائض القيمة وتحويله إلى رأس مال – وهما أساسيتان للرأسمالية – منفصلتين مع انفصال السيطرة والإدارة. ففي حين أن وظيفة الإدارة هي استخراج فائض القيمة من العمال، فان السيطرة تشرف على تحويله إلى رأس مال. بالنسبة للاقتصاد الرأسمالي، هاتان الوظيفتان فقط ضروريتان، يبدو حاملو السندات أكثر فأكثر كمستهلكين لجزء ما من فائض القيمة. إن استهلاك جزء من فائض المنتج بواسطة المستغلين ليس قاصرا على الرأسمالية، وإنما وجد في ظل كافة الأنظمة الطبقية. أما ما يميز الرأسمالية فهو التراكم من أجل التراكم، بهدف الاستمرار في المنافسة.
في الشركات الرأسمالية، معظم التراكم يكون مؤسسيا، تمول الشركة نفسها داخليا، في حين يستخدم الجانب الأعظم من العوائد الموزعة على حاملي الأسهم للاستهلاك. في ظل رأسمالية دولة تطورت بالتدريج من الرأسمالية الاحتكارية، يظهر حاملو السندات أساسا كمستهلكين في حين تظهر الدولة كأنها الجهة المسئولة عن التراكم.
كلما ازداد ذلك الجزء من فائض القيمة المخصص للتراكم مقارنة بالجزء المستهلك كلما كشفت الرأسمالية عن نفسها بصورة أكثر نقاءا. وكلما ازداد الوزن النسبي لعامل السيطرة مقابل عامل حمل السندات. أي بعبارة أخرى، كلما ازداد خضوع العوائد للتراكم الداخلي بواسطة الشركة أو الدولة المالكة، كلما كشفت الرأسمالية عن نفسها بصورة أكثر نقاءا.
(الكل يعرف أن أولئك الذين يسيطرون على رأس المال، أي الذين يمثلون أقصى تجسيد لرأس المال، لا يحرمون أنفسهم من متع هذا العالم، ولكن أهمية إنفاقهم تقل كثيرا من الناحية الكمية وتختلف من الناحية النوعية عن أهمية التراكم، ولا يمثل إنفاقهم أهمية تاريخية رئيسية).
إننا نستطيع بالتالي أن نقول أن البيروقراطية الروسية، من خلال “امتلاكها” للدولة وسيطرتها على عملية التراكم، تمثل التجسيد الأكثر نقاء لرأس المال. إلا أن روسيا مختلفة عن النموذج – أي مفهوم رأسمالية الدولة المتطورة بالتدريج من الرأسمالية الاحتكارية. إن هذا الاختلاف عن مفهوم رأسمالية الدولة التي تتطور تدريجيا، وعضويا، من الرأسمالية الاحتكارية لا يجعل مسألة مفهوم رأسمالية الدولة غير ذات أهمية. بل على العكس من ذلك، فما له أهمية عظمى أن نجد أن الاقتصاد الروسي يقترب من هذا المفهوم أكثرا كثيرا مما تستطيعه أية رأسمالية دولة تطورت تدريجيا على أساس رأسمالي. فكون أن البيروقراطية تنفذ مهام الطبقة الرأسمالية، وبذلك تحول نفسها إلى طبقة، يجعلها التجسيد الأكثر نقاءا لهذه الطبقة. وعلى الرغم من اختلافها عن الطبقة الرأسمالية، فإنها في الوقت نفسه الأقرب لجوهرها التاريخي. البيروقراطية الروسية كنفي جزئي للطبقة الرأسمالية التقليدية هي في الوقت نفسه التجسيد الأكثر صدقا للرسالة التاريخية لهذه الطبقة.
إن القول بأن طبقة بيروقراطية تحكم في روسيا والوقوف عند هذا الحد هو تحايل على القضية الأساسية – علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة في روسيا. والقول بأن روسيا رأسمالية دولة سليم تماما، ولكنه غير كافي، فمن الضروري أيضا الإشارة إلى الاختلافات في العلاقات القانونية بين الطبقة الحاكمة في روسيا والطبقة الحاكمة في رأسمالية الدولة التي تتطور تدريجيا من الرأسمالية الاحتكارية. الاسم الأكثر دقة إذن للمجتمع الروسي هو “رأسمالية الدولة البيروقراطية”.
شكل ملكية البيروقراطية يختلف عن شكل ملكية البرجوازية
في روسيا، تظهر الدولة كصاحب عمل، ويظهر البيروقراطيون كمديرين فقط. هناك فصل كامل بين وظيفة الملكية ووظيفة الإدارة. إلا أن الأمر كذلك من الناحية الصورية فقط. فمن الناحية الجوهرية، تتركز الملكية في أيدي البيروقراطيين كجماعة، إنها متمثلة في دولة البيروقراطية. ولكن كون أن المدير الفرد يبدو وكأنه لا يمتلك وسائل الإنتاج، وكون أن حصوله على الجزء الخاص به من الدخل القومي في شكل راتب قد يخدع المرء ويجعله يعتقد أنه يحصل فقط على مكافآت مقابل قوة عمله بنفس الطريقة التي يحصل بها العامل على مكافأة مقابل قوة عمله. وفضلا عن ذلك، فحيث أن عمل الإدارة ضروري لكل عملية إنتاج اجتماعي، وبالتالي ليس له صلة بعلاقات الاستغلال، فان الفارق بين وظيفة العامل ووظيفة المدير يصبح ضبابيا لأن الوظيفتين متضمنتان في عملية الإنتاج الاجتماعي. هكذا فان العلاقات الطبقية العدائية تبدو كأنها متناغمة. ويبدو عمل المستغلين وعمل تنظيم الاستغلال كلاهما متجسد كعمل. كما تبدو الدولة وكأنها تقف فوق الشعب، كأنها ملكية مجسدة، في حين يبدو البيروقراطيون، الذين يشرفون على عملية الإنتاج ويعتبرون بالتالي تاريخيا تجسيدا لرأس المال من الناحية الجوهرية، يبدون كعمال، وبالتالي منتجين للقيمة بعملهم ذاته.
ولكن، من الواضح أن دخل البيروقراطية له علاقة مباشرة بعمل العمال لا بعمل البيروقراطية ذاتها. كما أن حجم هذا الدخل في حد ذاته يكفي لكشف الفارق الكيفي بين دخل البيروقراطية وأجور العمال. لو لم يكن ثمة فارق كيفي بينهما، فيتعين علينا إذن أن نقول أن اللورد ماكجوان، الذي يحصل على أعلى مرتب يتقاضاه مدير في بريطانيا، لا يفعل سوى بيع قوة عمله. والى جانب ذلك، فان الدولة، التي هي صاحب العمل وتبدو كأنها تقف فوق الشعب، هي في الحقيقة تنظم البيروقراطية كجماعة.
ما الذي يحدد تقسيم فائض القيمة بين الدولة والبيروقراطيين كأفراد؟
في حين أن التقسيم الكمي للقيمة الإجمالية المنتجة بين الأجور وفائض القيمة يعتمد على عنصرين مختلفين كيفيا – قوة العمل ورأس المال – فان تقسيم فائض القيمة بين البيروقراطية كجماعة (الدولة) والبيروقراطيين الأفراد لا يمكن أن يقوم على أي فارق كيفي بينهما. لا يستطيع المرء إذن أن يتحدث عن قوانين دقيقة عامة لتقسيم فائض القيمة بين الدولة والبيروقراطية أو توزيع نصيب البيروقراطية بين مختلف البيروقراطيين. وبالمثل لا يستطيع المرء أن يتحدث عن قوانين عامة دقيقة تنظم توزيع الربح بين ربح المشروع والفائدة، أو بين ملاك مختلف أنواع الأسهم في البلاد الرأسمالية. (أنظر كارل ماركس، رأس المال، الجزء الثالث، ص 428).
سيكون من الخطأ، مع ذلك، أن نفترض أن هذا التقسيم يحدث بشكل اعتباطي تماما. فالنزعات يمكن أن تعمم. وهي تعتمد على ضغط الرأسمالية العالمية الذي يتطلب الإسراع بالتراكم، والمستوى المادي الذي وصل إليه الإنتاج بالفعل، وميل معدل الربح للانخفاض الذي تقلل نسبيا مصادر التراكم، الخ.. إذا أخذنا هذه الظروف في الحسبان، نستطيع أن ندرك لماذا تتم مراكمة جزء أكبر على الدوام من فائض القيمة. وفي الوقت نفسه، فان البيروقراطية التي تدير عملية التراكم لا تهمل إشباع رغباتها الشخصية، وتزداد كمية فائض القيمة التي تستهلكها بشكل مطلق. إن هاتين العمليتين ممكنتان فقط إذا كان هناك تزايد مستمر في معدل استغلال الجماهير، وإذا وجدت مصادر جديدة لرأس المال بشكل مستمر (يفسر هذا عملية التراكم البدائي التي تم بها نهب الفلاحين الروس، والنهب الذي تم لبلاد أوروبا الشرقية.)
علاقات الإنتاج والقانون
إن الغالبية العظمى من وسائل الإنتاج في روسيا تتركز في أيدي الدولة. السندات وغيرها من المطالبات القانونية تغطي جزءا ضئيلا من وسائل الإنتاج بحيث لا يكون لها سوى أهمية طفيفة.
لماذا يكون الأمر كذلك؟ أليست هناك نزعة لإدخال مثل هذا الشكل من المطالبات الفردية على نطاق واسع؟ لماذا يوجد فارق بين قانون الملكية السائد في روسيا و نظيره في بقية العالم الرأسمالي؟ لكي نجيب على هذه الأسئلة، علينا أولا أن نحلل العلاقة بين علاقات الإنتاج وقانون الملكية.
إن القانون يعتمد على الاقتصاد. و علاقات الملكية هي التعبير القانوني عن علاقات الإنتاج. إلا أنه لا يوجد توازي دقيق وتام بين علاقات الإنتاج وتطور القانون، بنفس الطريقة التي لا يوجد بها توازي دقيق وتام بين الأساس الاقتصادي وسائر عناصر البناء الفوقي. وذلك لأن القانون لا يعبر عن علاقات الإنتاج مباشرة، وإنما بشكل غير مباشر. فإذا عكس القانون علاقات الإنتاج مباشرة بحيث يصحب كل تغيير تدريجي في علاقات الإنتاج تغييرا فوريا وموازيا في القانون، فانه يتوقف عن أن يكون قانونا. فوظيفة القانون، إن صح هذا التعبير، هي خلق التجانس بين المصالح المتعارضة للطبقات، ملء الفجوات التي تظهر في النظام الاجتماعي – الاقتصادي. ولكي يحقق هذا، ينبغي له أن يرتفع فوق الاقتصاد في الوقت الذي يقوم فيه على أساس هذا الاقتصاد.
من ناحية مضمونه، فان القانون هو الانعكاس غير المباشر للأساس المادي الذي يقوم عليه، ولكن من ناحية شكله، فهو ليس إلا استيعابا واستكمالا للقانون الموروث من الماضي. ويوجد دوما اختلاف زمني بين حدوث التغييرات في علاقات الإنتاج، وحدوث التغييرات في القانون. وكلما كان التغير في علاقات الإنتاج أعمق وأسرع، كلما صعب على القانون أن يلاحق التغير مع احتفاظه شكليا بالاستمرارية مع تطوره السابق. وهناك أمثلة تاريخية عديدة لصعود طبقة جديدة تمتنع عن إعلان وصولها للسلطة وتحاول بالتالي أن تكيف وجودها وحقوقها مع الإطار الذي يقدمه الماضي، على الرغم من التناقض التام بينها وبين هذا الإطار. هكذا، فان البرجوازية الصاعدة سعت لفترة طويلة جدا لإثبات أن الربح والفائدة ليسا سوى نوعان من الإيجار – في ذلك الوقت كان الإيجار الذي يحصل عليه مالك الأرض مبررا في أعين الطبقات الحاكمة. حاولت الطبقة الرأسمالية الإنجليزية أن تقيم حقوقها السياسية على أساس الماجناكارتا، ميثاق حقوق الطبقة الإقطاعية، الذي يتناقض جوهريا مع الحق البرجوازي من ناحية المضمون والشكل معا. إن محاولة طبقة حاكمة إخفاء امتيازاتها تحت عباءة القانون الموروث من الماضي تكون في أقوى صورها في حالة حدوث ثورة مضادة لا تجرؤ على الإعلان عن وجودها.
إن الاشتراكية الثورية لا تخفي أهدافها، وبالتالي فان القانون الذي تمليه عند وصولها للسلطة يكون ثوريا في المضمون والشكل معا. لو كانت جيوش التدخل قد انتصرت بعد ثورة أكتوبر، فان حكمهم الدموي كان سيصحبه إعادة أغلب القوانين القديمة التي ألغتها ثورة أكتوبر. ولكن، حيث أن البيروقراطية في روسيا حولت نفسها تدريجيا إلى طبقة حاكمة، فان التغيرات في علاقات الإنتاج لم يتم التعبير عنها مباشرة في شكل تغيير كامل للقانون. لأسباب عديدة، أهمها حاجة السياسة الخارجية الستالينية لدعاية ثورية زائفة بين عمال العالم، لم تعلن البيروقراطية الروسية صراحة أن ثورة مضادة قد حدثت.
إلا أن هذا وحده لا يكفي لتفسير عدم إعادة البيروقراطية للملكية الفردية في صورة سندات أو أسهم تغطي الاقتصاد كله بطريقة تسمح لكل عضو في البيروقراطية أن يورث وضعا اقتصاديا آمنا لابنه. ينبغي أخذ عوامل أخرى في الحسبان. إن رغبات أي طبقة أو طائفة أو شريحة اجتماعية تصيغها ظروف حياتها المادية. و ليس لدى كل طبقة موقعها الخاص في عملية الإنتاج فحسب، بل إن كل طبقة مالكة لها قلعة مختلفة في الثروة الاجتماعية. لو كانت الرغبة البسيطة المجردة في الحصول على الحد الأقصى من المكاسب المادية والثقافية، هي القوة الدافعة للإنسانية، إذن فليس فقط الطبقة العاملة وإنما أيضا البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، بل والبرجوازية الكبيرة كذلك، كانت سترغب في الاشتراكية، خاصة في عصرنا هذا حيث يعيش هذا الجيل تحت شبح الحرب الذرية. ولكن واقع الأمر ليس كذلك. عندما يصنع الناس التاريخ فانهم يصنعونه وفقا للواقع الخارجي الموضوعي الذي يجدون أنفسهم فيه، والذي يصوغ رغباتهم. هكذا، فان صاحب الأرض الإقطاعي يكافح لزيادة مساحة ضياعه هو وابنه، كما يسعى التاجر لتوفير الأمن لأبنائه بتوريثهم مبلغا كبيرا من المال، أما الطبيب والمحامي وغيرهم من أعضاء المهن الحرة، فانهم يحاولون نقل امتيازاتهم لأبنائهم بإعطائهم “وسائل الإنتاج الذهنية – التعليم. وحيث أنه لا توجد أية أسوار صينية بين الطبقات والشرائح المختلفة، فان كل منها ستحاول بالطبع أن تورث ما يزيد على امتيازاتها الخاصة: فأصحاب المهن الحرة سيرثون وسائل إنتاج مادية وذهنية معا، والتجار سيتوفر لهم تعليم عالي، وهكذا.
إن بيروقراطية الدولة، كما قال ماركس في نقد فلسفة القانون لهيجل، تمتلك الدولة كملكية خاصة. ففي الدولة التي تكون مستودع وسائل الإنتاج، يكون لدى بيروقراطية الدولة – الطبقة الحاكمة – أشكال لنقل امتيازاتها تختلف عن تلك الخاصة بملاك الأرض الإقطاعيين أو البرجوازية أو أصحاب المهن الحرة. فإذا كان قرار الهيئة المنتخبة هو الأسلوب السائد لاختيار مديري المؤسسات ورؤساء الإدارات.. الخ فان كل بيروقراطي سيكون أكثر اهتماما بأن ينقل لابنه “علاقاته” من أن ينقل له، مثلا، مليون روبل (وان كان لهذا أيضا أهميته). ومن البديهي أنه سيحاول في الوقت نفسه أن يحد عدد المنافسين على مناصب داخل البيروقراطية بوضع قيود على إمكانيات حصول الجماهير على تعليم عالي، الخ..
الجمع بين متناقضات التطور
تقدم لنا روسيا مثالا للجمع بين شكل للملكية تولد من ثورة بروليتارية وعلاقات إنتاج ناتجة من مزيج من قوى الإنتاج المتخلفة وضغط الرأسمالية العالمية. و مضمون التوليفة يظهر استمرارية تاريخية مع فترة ما قبل الثورة، أما الشكل، فيظهر استمرارية تاريخية مع الفترة الثورية. وعند التراجع عن الثورة لا يعود الشكل مباشرة إلى نقطة انطلاقه. وعلى الرغم من خضوعه للمضمون، إلا إن الشكل له أيضا أهمية كبيرة.
كثيرا ما يقفز التاريخ إلى الأمام أو إلى الخلف. وعندما يقفز إلى الخلف، فانه لا يعود مباشرة إلى نفس الموضع، وإنما يهبط بشكل حلزوني بحيث يجمع بين عناصر النظامين الذين انتقل المجتمع من أحدهما إلى الآخر. على سبيل المثال، في رأسمالية الدولة التي تكون استمرارا عضويا، تدريجيا لتطور الرأسمالية، سيبقى شكل من أشكال الملكية الخاصة ألا وهو ملكية الأسهم والسندات، ولكننا لا يجب أن نستنتج من هذا أن الشيء نفسه ينطبق على رأسمالية الدولة التي نمت تدريجيا على أشلاء دولة عمالية. إن الاستمرارية التاريخية في حالة رأسمالية الدولة التي تتطور من الرأسمالية الاحتكارية، تظهر من خلال وجود الملكية الفردية (السندات). أما الاستمرارية التاريخية في حالة رأسمالية الدولة التي تتطور من ثورة عمالية انحطت وماتت، فهي تظهر من خلال عدم وجود الملكية الفردية.
إن هذا التطور الحلزوني يتمخض عنه الجمع بين طرفين للتطور الرأسمالي في روسيا، التوليف بين المرحلة العليا التي يمكن للرأسمالية أن تصل إليها، والتي لن يصل إليها أي بلد آخر في الأغلب، وبين مرحلة دنيا للتطور تتطلب إعداد الشروط المادية الضرورية للاشتراكية. إن هزيمة ثورة أكتوبر قد أصبحت بمثابة نقطة انطلاق للرأسمالية الروسية التي هي في الوقت نفسه متخلفة جدا عن الرأسمالية العالمية.
يكشف هذا التوليف عن نفسه في تركيز عالي جدا لرأس المال، وتركيب عضوي عالي جدا لرأس المال؛ ومن ناحية أخرى، إذا أخذنا المستوى التقني في الحسبان، فهو يكشف عن نفسه في إنتاجية متدنية للعمل، ومستوى ثقافي متدني. وهي تفسر سرعة تطور القوى الإنتاجية في روسيا، وهي سرعة تتجاوز كثيرا ما شهدته الرأسمالية الفتية، كما أنها تمثل النقيض المطلق لما تشهده الرأسمالية في فترات التآكل والركود.
مارست الرأسمالية الفتية وحشية لا إنسانية ضد الكادحين، كما يتضح من الصراع ضد “المتشردين”، وقوانين الفقراء، وإجبار النساء والأطفال على العمل خمسة عشر وثمانية عشر ساعة في اليوم، الخ، ترتكب الرأسمالية المعمرة مرة أخرى الكثير من الجرائم الوحشية المميزة لطفولتها، مع فارق أنها قادرة، كما أظهرت الفاشية، على تنفيذها بدرجة أكبر. تتسم الفترتان باستخدام الإكراه بالإضافة إلى الآلية الأوتوماتيكية للقوانين الاقتصادية. إن التوليف بين رأسمالية الدولة والمهام الفتية للرأسمالية يعطي البيروقراطية الروسية شهية غير محدودة لفائض القيمة، وقدرة غير محدودة على الوحشية اللاإنسانية، كما أنه يسمح لها في الوقت نفسه بإظهار أعلى كفاءة ممكنة في تنفيذ قمعها.
عندما قال إنجلز “الإنسان انحدر من الحيوانات، وكان عليه بالتالي أن يستخدم وسائل بربرية وشبه بهيمية لكي يخلص نفسه من البربرية” فمن المؤكد أنه لم يصف الثورة الاشتراكية، حيث يصبح التاريخ “واعيا بذاته”. ولكنه وصف جيدا تاريخ ما قبل الإنسانية. سيذكر التاريخ لبطرس الأكبر انه كان أحد المحاربين ضد البربرية باستخدام وسائل بربرية. كتب هرزن ” أنه حقق الحضارة والكرباج في يده، وبالكرباج في يده اضطهد العقل” وسيذكر التاريخ لستالين أنه مضطهد الطبقة العاملة، والقوة التي كان بإمكانها التقدم بالقوى الإنتاجية والثقافية الإنسانية بدون الكرباج، لأن العالم كان ناضجا بما فيه الكفاية لذلك، إلا أنها (قوة ستالين) تقدمت بها والكرباج في يدها “، مهددة في الوقت ذاته الإنسانية كلها بخطر الانحطاط من خلال الحروب الإمبريالية.
لقد اكتسحت الثورة البروليتارية من طريقها كل معوقات تطور القوى الإنتاجية، وألغت الكثير من أنواع البربرية القديمة. إلا أنها بسبب انعزالها وحدوثها في بلد متخلف، انهزمت تاركة المجال مفتوحا أمام محاربة البربرية بوسائل البربرية.
الاقتصاد والسياسة
الدولة هي “هيئات خاصة من الرجال المسلحين والسجون، الخ ” – إنها سلاح في أيدي طبقة لاضطهاد طبقة أو طبقات أخرى. في روسيا، الدولة سلاح في أيدي البيروقراطية لاضطهاد جماهير الكادحين. إلا أن هذا وحده لا يصف كل وظائف الدولة الستالينية. فهذه الدولة تلبي أيضا الحاجات المباشرة للتقسيم الاجتماعي للعمل، وتنظيم الإنتاج الاجتماعي. لقد أنجزت مهمة مماثلة، مع ما يلزم من التبديل والتعديل، بواسطة دول مثل الصين ومصر وبابل القديمة. هناك، ولأن أعمال الري الكبرى التي لم يكن من الممكن تنفيذها إلا على نطاق واسع كانت ضرورية تماما، فقد تطورت الدولة ليس فقط كنتيجة لظهور الانقسامات الطبقية، وبالتالي بطريقة غير مباشرة كنتيجة لتقسيم العمل الاجتماعي، وإنما أيضا بطريقة مباشرة كجزء من عملية الإنتاج. إن الاعتماد والتأثير المتبادل للانقسامات الطبقية وظهور وتقوية الدولة، لهى علاقة معقدة بدرجة تجعل الفصل بين الاقتصاد والسياسة أمرا مستحيلا. وبالمثل، في روسيا، لم تظهر الدولة الستالينية فقط كنتيجة للهوة المتسعة بين الجماهير والبيروقراطية، وبالتالي الحاجة المتنامية لـ “هيئات خاصة من الرجال المسلحين” وإنما أيضا كاستجابة مباشرة لحاجات القوى الإنتاجية ذاتها، كعنصر ضروري في نمط الإنتاج.
قال أحد الملوك الكلدانيين:
لقد أخضعت أسرار الأنهار لمصلحة الإنسان… وقد وجهت مياه الأنهار إلى حيث القفر، وملأت بها الخنادق الجافة… ورويت السهول الصحراوية، لقد جلبت لهم الخضرة والوفرة وأسكنتهم مساكن البهجة” يلاحظ بليخانوف الذي يقتبس هذا الكلام: “على الرغم مما فيه من تفاخر، فان هذا وصف دقيق لدور الدولة الشرقية في تنظيم عملية الإنتاج الاجتماعية. (5)
كان بوسع ستالين أيضا أن يزعم أنه بنى الصناعات، ودفع القوى الإنتاجية في روسيا إلى الأمام، الخ.. ولكن، بالطبع، على الرغم من أن استبداد الملك الكلداني كان ضروريا تاريخيا وتقدميا في وقته، إلا أن استبداد ستالين كان غير ضروري و رجعي من الناحية التاريخية.
وكما في المجتمعات القديمة، فان الوظيفة المزدوجة للدولة، كحارس للطبقة الحاكمة ومنظم للإنتاج الاجتماعي، تؤدي في روسيا اليوم إلى اندماج كامل للاقتصاد والسياسة.
يعد هذا الاندماج من سمات الرأسمالية في مرحلتها العليا، ومن سمات الدولة العمالية أيضا. ولكن في حين أن هذا الاندماج يعني في ظل الدولة العمالية أن العمال مسيطرون سياسيا، يتقدمون دوما نحو وضع يتم فيه “استبدال حكم الأشخاص بإدارة الأشياء والأشراف على عملية الإنتاج ” (6) فانه يعني في ظل الرأسمالية في مرحلتها العليا أن الإكراه السياسي يضاف إلى لاإرادية الاقتصاد و يعطي بالفعل الدور الرئيسي. “السمة المميزة للنظام الرأسمالي هي أن جميع عناصر مجتمع المستقبل تظهر فيه بشكل لا تقترب به من الاشتراكية وإنما تبتعد به عنها”.
هكذا على سبيل المثال:
“فيما يتعلق بالجيش، فان التطور يؤدى إلى ظهور الخدمة العسكرية الإلزامية العامة… وهو اقتراب من الميليشيا الشعبية. ولكنها تتحقق في الشكل الحديث للعسكرية، الذي يأتي بسيطرة الدولة العسكرية فوق الشعب ويدفع الطابع الطبقي للدولة إلى الحد الأقصى”. (7)
ان هذا الاندماج يثبت أن عصرنا ناضج جدا للاشتراكية حتى أن الرأسمالية تضطر لاستيعاب عناصر من الاشتراكية. وكما قال إنجلز، هذا هو غزو المجتمع الاشتراكي للرأسمالية. ومع ذلك، فان هذا الاستيعاب لا يخفف عبء الاستغلال والاضطهاد، بل على العكس، انه يزيد من ثقل هذا العبء. (في الدولة العمالية يكون العمال أحرارا اقتصاديا لأنهم أحرار سياسيا. الدولة العمالية هي أيضا اندماج للاقتصاد والسياسة، ولكن بنتائج متضادة تماثليا.)
حيثما يوجد اندماج للاقتصاد والسياسة، يكون من الخطأ نظريا التمييز بين الثورة السياسية والاقتصادية. أو بين الثورة المضادة السياسية والاقتصادية. تستطيع البرجوازية أن توجد كبرجوازية، لديها ملكية فردية، في ظل أشكال مختلفة للحكم: في ظل ملكية إقطاعية، ملكية دستورية، جمهورية برجوازية، نظام بونابارتي مثل نظام نابليون الأول والثالث، دكتاتورية فاشية، ولبعض الوقت حتى في ظل دولة عمالية (وجد الكولاك ورجال السياسة الاقتصادية حتى عام 1928). في جميع هذه الحالات، توجد علاقة ملكية مباشرة بين البرجوازية ووسائل الإنتاج. وفيها جميعا تكون الدولة مستقلة عن السيطرة المباشرة للبرجوازية، ومع ذلك فان البرجوازية لا تتوقف في أي منها عن أن تكون طبقة حاكمة. عندما تكون الدولة مستودع وسائل الإنتاج، يوجد اندماج مطلق بين الاقتصاد والسياسة، نزع السلطة سياسيا يعني أيضا نزع الملكية اقتصاديا. لو كان الملك الكلداني الذي اقتبسنا منه الفقرة أعلاه قد نزعت سلطته السياسية، فانه كان بالضرورة ستنزع ملكيته الاقتصادية. ينطبق هذا على البيروقراطية الستالينية كما ينطبق أيضا، مع مايلزم من التبديل والتعديل، على الدولة العمالية. فحيث أن العمال كأفراد ليسوا ملاكا لوسائل الإنتاج حتى في الدولة العمالية، وحيث أن ملكيتهم كجماعة يعبر عنها من خلال ملكيتهم للدولة التي هي مستودع وسائل الإنتاج، فإننا نرى أنه إذا نزعت سلطتهم السياسية فقد نزعت ملكيتهم الاقتصادية.
هل يمكن حدوث انتقال تدريجي من دولة عمالية إلى دولة رأسمالية؟
لا يمكن للبروليتاريا أن تستولي على جهاز الدولة البرجوازي بل لا بد لها من تحطيمه. إلا يستتبع هذا أن الانتقال التدريجي من الدولة العمالية للينين وتروتسكي (1917-1923) إلى الدولة الرأسمالية لستالين، يناقض أساس النظرية الماركسية للدولة؟ هذا هو أحد أركان الدفاع عن النظرية القائلة بأن روسيا اليوم لا تزال دولة عمالية. أولئك الذين يتمسكون بهذه النظرية يستشهدون بمقولة لتروتسكي في عام 1933 (ولكنهم يمتنعون عن الاستشهاد بمقولته المعاكسة في وقت لاحق) لقد كتب في الاتحاد السوفيتي والأممية الرابعة:
الأطروحة الماركسية المتعلقة بالطابع المأساوي لانتقال السلطة من طبقة إلى طبقة أخرى تنطبق ليس فقط على الفترات الثورية، عندما ينطلق التاريخ إلى الأمام بجنون، وإنما أيضا في فترة الثورة المضادة عندما يتدحرج المجتمع إلى الوراء. إن من يزعم أن حكومة السوفيتيات قد تغيرت تدريجيا من حكومة بروليتارية إلى حكومة برجوازية لا يفعل سوى، إذا جاز التعبير، عرض فيلم الإصلاح بالاتجاه المعاكس.
السؤال المطروح هو مدى صحة الجملة الأخيرة.
إن عودة الرأسمالية يمكن أن تحدث بطرق كثيرة. يمكن أن تسبق العودة السياسية العودة الاقتصادية: كان هذا سيحدث لو كان الحرس الأبيض وجيوش التدخل فد نجحوا في إسقاط البلاشفة. أو قد تسبق العودة الاقتصادية، حتى لو لم تكن كاملة، العودة السياسية: كان هذا سيحدث لو كان الكولاك ورجال السياسة الاقتصادية الجديدة الذين عززوا امتيازاتهم الاقتصادية حتى عام 1928 قد نجحوا في إسقاط النظام. في الحالتين المذكورتين، لم يكن الانتقال من دولة عمالية إلى دولة رأسمالية سيكون تدريجيا. وبالفعل، فان القول بأن هذا الانتقال كان يمكن أن يكون تدريجيا، يحق وصفه بأنه “ليس سوى، اذا جاز التعبير، عرض لفيلم الإصلاح بالاتجاه المعاكس”. ولكن حيث تتحول بيروقراطية الدولة العمالية إلى طبقة حاكمة، فإن العودة الاقتصادية والسياسية تتشابكان بحيث لا يمكن الفصل بينهما. تصبح الدولة تدريجيا أكثر انفصالا عن العمال، وتصبح العلاقات بينها وبين العمال أكثر فأكثر مثل العلاقات بين صاحب العمل والرأسمالي وعماله. في مثل هذه الحالة، فان الزمرة البيروقراطية التي تبدو أول الأمر كتشوه، تحول نفسها تدريجيا إلى طبقة تنفذ مهام البرجوازية في علاقات الإنتاج الرأسمالية. ان الانفصال التطوري التدريجي للبيروقراطية عن سيطرة الجماهير، والذي استمر حتى عام1928، وصل إلى مرحلة التغير الكيفي الثوري مع الخطة الخمسية الأولى.
ولكن السؤال، مع ذلك، يظل قائما: ألا يناقض هذا النظرية الماركسية للدولة؟ من منطلق المنطق الصوري، لا يمكن تفنيد القول بأنه إذا كانت البروليتاريا لا تستطيع تحويل الدولة البرجوازية تدريجيا إلى دولة عمالية وإنما عليها أن تحطم جهاز الدولة، فان البيروقراطية عندما تصبح الطبقة الحاكمة لا تستطيع أيضا تحويل الدولة العمالية تدريجيا إلى دولة برجوازية وإنما عليها أن تحطم جهاز الدولة. ولكن من وجهة النظر الجدلية، علينا أن نطرح المشكلة بشكل مختلف، ما هي الأسباب التي تمنع البروليتاريا من تحويل جهاز الدولة البرجوازي تدريجيا، وهل تستمر هذه الأسباب كعائق لا يمكن إزالته أمام التغيير التدريجي في الطابع الطبقي للدولة العمالية؟
قال ماركس وإنجلز إن إنجلترا فقط تستطيع تجنب تحطيم جهاز الدولة باعتباره الخطوة الأولى في الثورة البروليتارية. لم ينطبق هذا على القارة الأوروبية. لقد قالا أنه في إنجلترا “يمكن القيام بالثورة الاجتماعية بالوسائل السلمية والقانونية فقط”، ويعلق لينين على هذا قائلا: “كان هذا طبيعيا في عام1871، عندما كانت إنجلترا لا تزال نموذجا للبلد الرأسمالي الخالص، ولكن بدون نزعة عسكرية (المقصود بدون النزعة العسكرية المتمثلة في الايمان المتطرف بأن القوة العسكرية هي عماد الدولة “المترجم”) و – إلى حد كبير – بدون بيروقراطية”. (8)
انهما إذن البيروقراطية والجيش النظامي اللذان يشكلان العائق أمام الوصول السلمي للعمال للسلطة. ولكن الدولة العمالية ليس بها بيروقراطية أو جيش نظامي. ومن ثم فان انتقالا سلميا يمكن تحقيقه من دولة عمالية لا توجد بها هذه المؤسسات، إلى نظام رأسمالية دولة تتواجد فيه.
دعونا الآن نرى إذا كان ما يستبعد ثورة اجتماعية تدريجية يستبعد كذلك ثورة مضادة تدريجية.
إذا سعى الجنود في جيش مبني هرميا للسيطرة الحاسمة على الجيش، فانهم سيواجهون على الفور معارضة طائفة الضباط، لا توجد طريق للتخلص من طائفة كهذه إلا بالعنف الثوري. وعلى العكس، فإذا اصبح ضباط ميليشيا شعبية مستقلين أكثر فأكثر عن إرادة الجنود، فمن الممكن، مع رؤيتهم أنهم لا يواجهون أية بيروقراطية مؤسسية، أن يتحولوا تدريجيا إلى طائفة ضباط مستقلة عن الجنود. إن الانتقال من جيش نظامي إلى ميليشيا لا يمكن إلا أن يكون مصحوبا باندلاع هائل للعنف الثوري، أما الانتقال من مليشيا إلى جيش نظامي، فبمقدار ما يكون نتيجة لنزعات داخل الميليشيا ذاتها، يمكن وينبغي أن يكون تدريجيا. إن معارضة الجنود للبيروقراطية الصاعدة قد تدفع الأخيرة لاستخدام العنف ضد الجنود.. ولكن هذا ليس ضروريا. وما ينطبق على الجيش ينطبق بالمثل على الدولة. الدولة التي لا توجد بها بيروقراطية، أو توجد بها بيروقراطية ضعيفة غير مستقلة عن الضغط الجماهيري قد تتحول تدريجيا إلى دولة تكون البيروقراطية فيها متحررة من سيطرة العمال.
كانت محاكمات موسكو هي الحرب الأهلية التي شنتها البيروقراطية ضد الجماهير، وهي حرب كان أحد طرفيها فقط مسلحا ومنظما. وقد شهدت إتمام التحرر الكامل للبيروقراطية من السيطرة الشعبية. ان تروتسكي، الذي اعتقد أن محاكمات موسكو و “الدستور” كانت خطوات نحو إعادة الرأسمالية الفردية بالوسائل القانونية، تخلى في ذلك الوقت عن فكرة أن التغير التدريجي من دولة بروليتارية إلى دولة برجوازية هو “عرض لفيلم الإصلاح بالاتجاه المعاكس” لقد كتب:
في الحقيقة، فان الدستور الجديد… يفتح أمام البيروقراطية طرقا “قانونية” للثورة المضادة الاقتصادية، أي إعادة الرأسمالية بواسطة “ضربة باردة” (9)
الستالينية – بربرية؟
كلمة “بربرية” تدل على أشياء مختلفة. إننا نتحدث عن الاستغلال البربري للعمال، الاضطهاد البربري للشعوب المستعمرة، القتل البربري لليهود بواسطة النازيين.. الخ. “بربري” هنا لا تدل على مرحلة في تاريخ الإنسانية، أو مضمون معين للعلاقات الاجتماعية، وإنما جانب معين من أفعال طبقة، قد تكون حتى طبقة صاعدة، تقدمية، إننا مثلا نتحدث عن الطرد البربري للفلاحين في بريطانيا وقت الرأسمالية الصاعدة، أو النهب البربري لسكان أمريكا الجنوبية.. الخ، إلا أن “البربرية”، مع ذلك، قد تدل على شئ مختلف تماما وان كان له بعض الارتباط بالمعني السابق. أنها قد تدل على الدمار الشامل للحضارة عن طريق تدهور المجتمع إلى عصر قبل تاريخي. هذا المعنى يجعل البربرية مرحلة كاملة في تاريخ الإنسانية. إن حدثا معينا قد يكون بالفعل بربريا بالمعنيين. فأعمال الطبقات الحاكمة في حرب عالمية ثالثة، مثلا، ستكون بربرية بالمعنى الأول، ولكونها السبب في الانحدار الكامل للمجتمع ستكون بربرية بالمعنى الثاني أيضا. من ناحية جوهرية، مع ذلك، المعنيان منفصلان ويجب أن يظلا منفصلين. إذا استخدمنا البربرية بالمعنى الأول فيما يتعلق بعصرنا، فهي تعني الثمن الذي تدفعه الإنسانية بسبب تأخر الثورة الاشتراكية. أما اذا استخدمت بالمعنى الثاني، فهي تعنى فقدان كل أمل في مجتمع تآكل وانحط. وفقا لهذا، يكون من الخطأ تعريف النازية بأنها بربرية بالمعنى الثاني، بوصفها ” إقطاع متجدد”، أو “دولة النمل الأبيض”، أو فترة قبل تاريخية، الخ..، حيث أن النظام النازي كان قائما على عمل بروليتاريين يعتبرون تاريخيا حفارو قبره ومنقذو الإنسانية. وسنجد حتى تبريرا أقل لوصف النظام الستاليني بأنه بربري بالمعنى بالثاني، حيث أن هذا النظام، في مواجهة تخلف روسيا وخوفه من الهلاك من خلال المنافسة العالمية، يزيد أعداد الطبقة بسرعة كبيرة.
إن هذا السؤال ليس مسألة جدال في توافه الأمور، وإنما هو ذو أهمية كبرى. فاستخدام كلمة بربرية بمعناها الثاني سيكون مثل خطأ استخدام كلمة عبد لوصف العمال الروس، إذا استخدمت كلمة عبد كشيء مختلف عن بروليتاري. فالعبودية، مثل البربرية بمعناها الأول، إذا استخدمت للإشارة إلى أحد جوانب ظروف العامل الروسي في ظل ستالين والعامل الألماني في ظل هتلر – أي فقدانه للحرية، ونفيه الجزئي لنفسه كعامل – ستكون مصطلحا سليما. أما إذا استخدمت كتعريف أساسي للنظام فسيكون هذا خطأ. علينا إذن أن نعارض بقوة استخدام كلمة بربرية بمعناها الثاني للدلالة على النظام الستاليني. علينا بالفعل أن نعارض استخدامها عموما للدلالة على المرحلة التي وصل إليها المجتمع اليوم، ويمكن أن نقر فقط باستخدامها بمعناها الأول، أي استخدامها لوصف بعض جوانب الرأسمالية الهابطة ككل، سواء كانت أمريكية أو روسية أو بريطانية أو يـابانية. هل روسيا الستالينية مثال للبريرية الرأسمالية؟ نعم. هل هي مثال لتلك البربرية التي هي نفي كامل للرأسمالية؟ لا.
هل النظام الستاليني تقدمي؟
النظام الاجتماعي الذي يكون ضروريا لتطوير القوى الإنتاجية وإعداد الشروط المادية لنظام أعلى للمجتمع، هو نظام تقدمي. يجب أن نؤكد على الشروط المادية. لأننا إذا أدخلنا كل الشروط (الوعي الطبقي، ووجود أحزاب ثورية جماهيرية، الخ..)، فان أي نظام اجتماعي سيكون تقدميا، حيث أن مجرد وجوده يثبت عدم وجود كل شروط إسقاطه.
من غير الصواب أن نستنتج من هذا التعريف أنه عندما يصبح نظام اجتماعي ما رجعيا، و يصبح عائقا أمام تطور القوى الإنتاجية، فان هذه القوى تتوقف عن التقدم، أو أن معدل التقدم ينخفض بشكل مطلق. فمما لا شك فيه أن الإقطاع في أوروبا أصبح رجعيا في القرون من الثالث عشر إلى الثامن عشر، ولكن هذا لم يمنع القوى الإنتاجية من التطور بنفس المعدل كما في السابق، بل والتطور بمعدل أسرع. وبالمثل، ففي حين أن لينين قال أن فترة الإمبريالية (والتي بدأت مع العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر) تعبر عن هبوط وتعفن الرأسمالية، فقد قال في نفس الوقت:
سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن هذه النزعة للتعفن تعيق إمكانية النمو السريع للرأسمالية. فالأمر ليس على هذا النحو. ففي عصر الإمبريالية، تقوم بعض فروع الصناعة وبعض شرائح البرجوازية وبعض البلاد، بدرجة أو بأخرى، بخيانة واحدة أو أكثر من هذه النزعات. إجمالا، تنمو الرأسمالية أسرع كثيرا من ذي قبل. ولكن هذا النمو لا يصبح فقط غير متكافئ يوما بعد يوم بصفة عامة، بل إن عدم تكافؤه يكشف عن نفسه أيضا، بصفة خاصة في تعفن البلاد الأغنى في رأس المال (مثل إنجلترا). (10)
تحدث لينين عن تعفن الرأسمالية، وفي الوقت نفسه قال ان الثورة الديمقراطية في روسيا، باكتساحها لبقايا الإقطاع، ستوفر إمكانات هائلة للتطور للرأسمالية الروسية، التي ستنطلق للأمام بسرعة إيقاع أمريكية. وقد تبنى هذا الرأي في الوقت الذي كان يعتقد فيه أن “الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” ستحقق مهام الثورة البرجوازية في روسيا.
إذا نظرنا في أرقام الإنتاج الصناعي العالمي منذ عام1891، فيمكننا أن نرى أنه في فترة الإمبريالية كانت القوى الإنتاجية للعالم بعيدة عن الركود المطلق. (11)
الإنتاج الصناعي العالمي (في 1913 يساوي100)
| 1891 | 33 |
| 1900 | 51 |
| 1906 | 73 |
| 1913 | 100 |
| 1920 | 102 |
| 1929 | 148 |
فيما يتعلق بالقدرة الإنتاجية، لا نحتاج إلا أن نأخذ في الاعتبار السيطرة على الطاقة الذرية لنرى الخطوات الجبارة التي تمت.
لو كانت البلاد المتخلفة منعزلة عن بقية العالم، لكان بإمكاننا أن نقول بصورة قاطعة، إن الرأسمالية ستكون تقدمية فيها. فمثلا، لو تدهورت أو اختفت دول الغرب، فان الرأسمالية الهندية كان سيكون لها تاريخ لا يقل طولا وعظمة عن الرأسمالية البريطانية في القرن التاسع عشر. ويصح هذا بالنسبة لرأسمالية الدولة الروسية. إلا أن الماركسيين الثوريين يتخذون العالم كنقطة انطلاقهم، ويستنتجون بالتالي أن الرأسمالية رجعية حيثما وجدت. ذلك أن المشكلة التي يتعين على الإنسانية حلها اليوم، تحت ضغط الإبادة، ليست كيفية تطوير القوى الإنتاجية، وإنما إلى أية غاية ووفق أية علاقات اجتماعية ستستغل هذه القوى الإنتاجية.
إن هذا الاستنتاج الخاص بالطابع الرجعي لرأسمالية الدولة الروسية، على الرغم من التطور السريع لقواها الإنتاجية، لا يمكن تفنيده إلا إذا استطاع المرء أن يثبت أن الرأسمالية العالمية لم تهيئ بعد الشروط المادية الضرورية لبناء الاشتراكية، أو أن النظام الستاليني بصدد تهيئة ظروف أخرى ضرورية لبناء الاشتراكية أكثر من تلك التي هيأها العالم ككل. الادعاء الأول يدفع المرء إلى استنتاج أننا لم نصل بعد إلى فترة الثورة الاشتراكية. أما عن الادعاء الثاني، فأكثر ما يمكن للمرء أن يقوله هو أن روسيا الستالينية ستورث الاشتراكية تركيزا لرأس المال والطبقة العاملة أعلى منه في أي بلد آخر. ولكن هذا فارق كمي فقط: إذا قارنا الاقتصادين الأمريكي والإنجليزي، فأننا نجد أن تركيز رأس المال وإضفاء الطابع الاجتماعي على العمل أعلى كثيرا في الاقتصاد الأول منه في الأخير، ولكن هذا لا يجعل رأسمالية اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية تقدمية تاريخيا.
قد يزعم المرء أن التخطيط في روسيا هو عنصر يحول الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد تقدمي بالمقارنة برأسمالية البلاد الأخرى. ان هذا غير سليم إطلاقا، فطالما أن الطبقة العاملة لا تسيطر على الإنتاج، فالعمال ليسوا ذاتا للتخطيط وإنما موضوعا له. ينطبق هذا على التخطيط داخل مؤسسة فورد العملاقة تماما، كما ينطبق على اقتصاد روسيا كله. وطالما أن العمال هم الموضوع، فان التخطيط يهمهم فقط كعنصر من الشروط المادية الضرورية للاشتراكية: كجانب من جوانب تركيز رأس المال والعمال.
في مصنع يشغل 100,000 عامل يكون التخطيط أكثر تعقيد وتطورا منه في مصنع يشغل 100 عامل، وهو يكون أكثر تعقيدا وتطورا بما يفوق ذلك في رأسمالية الدولة التي تشغل 10 مليون عامل. إن هذا لا يجعل علاقات الإنتاج في المؤسسة الكبيرة تقدمية مقارنة بتلك القائمة في المؤسسة الأصغر. فالخطة في كل منهما تحددها القوة الخارجية العمياء للمنافسة بين المنتجين المستقلين عن بعضهم البعض. إن مجرد وجود النظام الستاليني يعلن عن طابعه الرجعي، حيث أن النظام الستاليني لم يكن ليوجد لولا هزيمة ثورة أكتوبر، ولولا نضوج العالم للاشتراكية لما اندلعت ثورة أكتوبر.
الفصل السابع: الاقتصاد الروسي وقانون القيمة الماركسي ونظرية الأزمة الرأسمالية (الحتمية الاقتصادية في النظام الستاليني)
مقدمة
وفقا لماركس وإنجلز، فان القانون الأساسي للرأسمالية، كنظام يتميز عن كافة الأنظمة الاقتصادية الأخرى، والقانون الذي تشتق منه جميع قوانين الرأسمالية الأخرى، هو قانون القيمة. “إن شكل القيمة للمنتجات يحمل بالفعل في طوره الجنيني نمط الإنتاج الرأسمالي بأسره، العداء بين الرأسماليين والعمال الأجراء، جيش الاحتياطي الصناعي، الأزمات”.(1) قانون القيمة، إذن، هو القانون الأساسي للاقتصاد السياسي الماركسي.
في مقدمة كتابهما الدراسي في الاقتصاد السياسي، تساءل اقتصاديان سوفيتيان بارزان، هما لابيدوس وأوستروفيتيانوف، قائلين: هل الاقتصاد السياسي يدرس كافة العلاقات الإنتاجية بين الناس !” وكانت أجابتهما:
لا، خذ مثلا الاقتصاد الطبيعي للفلاح الأبوي البدائي الذي يلبي حاجاته من الداخل ولا يدخل في أية علاقات تبادل مع الفلاحين الآخرين. لدينا هنا نوع خاص من علاقات الإنتاج. دعنا نقول أنها تتمثل في تنظيم جماعي للعمل… مع بعض الخضوع من جانب الجميع لرأس العائلة… على الرغم من الفارق الهائل بين الاقتصاد الطبيعي الفلاحي والاقتصاد الشيوعي، إلا أنه يوجد بينهما سمة مشتركة، إذ يتم تنظيم وتوجيه الاثنين بواسطة الإدارة الإنسانية الواعية… هناك، بلا شك، بعض القوانين التي تحكم العلاقات غير المنظمة للمجتمع الرأسمالي. إلا أن هذه القوانين عفوية، ومستقلة عن الإرادة الواعية والموجهة للمشاركين في هذه العملية الإنتاجية… و هذه القوانين الأولية العفوية هي التي تشكل موضوع الاقتصاد السياسي.(2)
وبعد ذلك تساءلا: “كيف والى أي مدى تؤثر القوانين الرأسمالية للاقتصاد السياسي على الاقتصاد السوفيتي؟ ما هي العلاقة بين النشاط العفوي و المخطط في اقتصاد الاتحاد السوفيتي؟ ما هو الوزن المحدد لهذه العناصر، ما هو اتجاه تطورها؟ (3) وقد توصلا إلى أن الاقتصاد السياسي ينطبق فقط على العمليات العفوية وليس على اقتصاد مخطط كالاشتراكية، وأنه ينطبق على روسيا فقط باعتبار أن الاقتصاد الروسي ليس اشتراكيا بعد، و إنما في مرحلة الانتقال نحو الاشتراكية. وقد وافق جميع الاقتصاديين السوفييت الآخرين على هذا الرأي في ذلك الوقت.
في ذلك الوقت، أجمع الاقتصاديون السوفييت على عدم وجود مكان لقانون القيمة في المجتمع الاشتراكي. وقد فسروا أية آثار لوجوده في الاتحاد السوفيتي على أنها انعكاس لوضعه الانتقالي، أي نتيجة لأنه لم يصل بعد بالكامل للاشتراكية، هكذا فقد كتب لابيدوس وأوستروفينيانوف:
إذا طرح علينا السؤال: هل الاقتصاد السوفيتي رأسمالي أم اشتراكي، فان علينا بالطبع أن نعلق بأن الإجابة بأنه “رأسمالي” أو “اشتراكي” مستحيلة، حيث أن السمة المميزة للاقتصاد السوفيتي تتمثل… بالضبط في كونه انتقالي الطابع، يسير من الرأسمالية إلى الاشتراكية.. وبنفس الطريقة بالضبط سيكون علينا أن نجيب الشخص الذي يسألنا: هل يعمل قانون القيمة بالكامل هنا، أم أنه قد توقف عن العمل تماما وتم استبداله بالإدارة الواعية؟ إن تأكيد أن “هذا أو ذاك” صحيح هو أمر مستحيل، حيث أن الأمرين معا ليسا صحيحين، أما الصحيح فهو أمر ثالث: إننا نعيش عملية انتقال من الوضع الأول إلى الآخر. لم يختف قانون القيمة بعد وإنما هو مستمر في العمل في ظروفنا، ولكنه لا يعمل بنفس الشكل الذي كان يعمل به في النظام الرأسمالي، ذلك أنه يمر خلال عملية الزوال. (4)
استخدم بريوبرازينسكي نفس الحجة التي تقول: “إن قانون القيمة وعنصر التخطيط الذي تتمثل سمته الأساسية في التراكم الاشتراكي، يتصارعان فيما بينهما، خلال فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومع انتصار الاشتراكية، سيختفي قانون القيمة”.(5)
وكتب اقتصادي آخر، هو ليونتيف: “إن قانون القيمة هو قانون الحركة الخاص بالإنتاج السلعي الرأسمالي ” إن بذور كافة “تناقضات الرأسمالية تكمن في القيمة”. (6)
كان بإمكان الاقتصاديين السوفيت أن يتوسعوا في الاعتماد على أعمال ماركس وإنجلز تأييدا لأفكارهم. فالفقرة التي اقتبسناها أعلاه من ضد دوهرنج تؤكد وجهة نظرهم. وفي موضع آخر من نفس الكتاب، يسخر إنجلز من تصور دوهرنج أن قانون القيمة الماركسي ينطبق على الاشتراكية: في ظل الاشتراكية، يكتب إنجلز سيكون باستطاعة الناس إدارة كل شيء ببساطة شديدة، دون تدخل قانون القيمة المعروف”. (7)
وواصل إنجلز بأنه سيكون من العبث التام “أن يتم تنظيم مجتمع سيسطر فيه المنتجون في النهاية على منتجاتهم عن طريق التطبيق المنطقي لمقولة اقتصادية (القيمة) تعد التعبير الأكثر شمولا عن خضوع المنتجين لمنتجاتهم”. (8) وإذا اقتبسنا من ماركس قوله: “القيمة هي التعبير عن الطبيعة المميزة تحديدا لعملية الإنتاج الرأسمالي”. (9) وفي مناسبة أخرى، أثناء نقده لكتاب لفاجنر، يسخر ماركس من “فرضية أن نظرية القيمة، التي تم تطويرها لتفسير المجتمع “البرجوازي” تنطبق على “دولة ماركس الاشتراكية” (10) كانت مثل هذه الأفكار شبه بديهية بالنسبة لجميع الاقتصاديين السوفيت أثناء فترة العقد ونصف التالية للثورة.
وبعد عقد من الصمت التام تقريبا حول هذه المسألة، دوت صاعقة في عام 1943، فقد نشرت المجلة النظرية للحزب، بود زيامينيم ماركسيزما، مقالا طويلا غير موقع بعنوان “بعض التساؤلات حول تدريس الاقتصاد السياسي”، أحدث قطيعة تامة مع الماضي. (11) لقد أخبر القارئ بأن “… تدريس الاقتصاد السياسي في كلياتنا قد استؤنف بعد غياب لبضع سنوات. قبل هذا الانقطاع، عانى تدريس الاقتصاد السياسي، بالإضافة إلى الكتب الدراسية القائمة والمنهج الدراسي، من عيوب خطيرة “، “فيما يتعلق بالقوانين الاقتصادية للاشتراكية، كثيرا ما تسللت أخطاء جوهرية عديدة إلى منهج الاقتصاد السياسي وكتبه الدراسية ” وزعم المقال بأن الخطأ الأساسي لما كان يدرس في السابق كان “إنكار عمل قانون القيمة في المجتمع الاشتراكي”. وعلى الفور سار جميع الاقتصاديين السوفييت على النهج الجديد.
يمكن تفسير هذا التحول التام من خلال استعداد جديد لدى السلطات للإعلان الصريح في ذلك الوقت عن الكثير مما كان في الماضي مقبولا عمليا ولكن غير معترف به علنا مثل الشوفينية الروسية، وتمجيد التقاليد القيصرية، وأشياء أخرى كثيرة ذات طابع مماثل.
ولكن يبدو أن الاقتصاديين السوفيت قد أصبحوا متورطين في تناقضات جديدة مع كتابات ماركس وإنجلز بحيث أصبح من المتعين أن تتم معالجة المشكلة مرارا وتكرارا. وحتى في تاريخ متأخر كفبراير 1952، وجد ستالين نفسه أنه من الضروري أن يكتب:
أحيانا ما يسأل حول ما إذا كان قانون القيمة يوجد ويعمل في بلدنا، في ظل النظام الاشتراكي، نعم انه يوجد ويعمل.(12)
على النقيض من كل التعاليم الماركسية حول الموضوع، يذكر ستالين: “هل قانون القيمة هو القانون الاقتصادي الأساسي للرأسمالية؟ لا. “(13) يذكر ماركس أنه حيثما تكون قوة العمل سلعة، فان النتيجة الطبيعية الحتمية لبيعها هي ظهور فائض القيمة، ظهور الاستغلال، يجد ستالين من المناسب أن يعلن أنه في حين يسود قانون القيمة في الاقتصاد الروسي، فانه لا يوجد بيع لقوة العمل وبالتالي لا يوجد فائض قيمة. انه يكتب ” “الحديث عن كون قوة العمل سلعة”، وعن “استئجار” العمال يبدو غير معقول “الآن” في ظل نظامنا: فكأن الطبقة العاملة التي تمتلك وسائل الإنتاج، تستأجر نفسها وتبيع قوة عملها لنفسها”.(14) (والافتراض الضمني، والذي لا سند له، لحجة ستالين هو بالطبع، أن الدولة التي تمتلك وسائل الإنتاج وتشتري قوة العمل هي بالفعل “مملوكة” للعمال ويسيطرون عليها. ولا تسيطر عليها بيروقراطية مطلقة السلطة). إضافة إلى ذلك، فهو يكتب: “أعتقد أن علينا… أن ننبذ بعض المفاهيم الأخرى المأخوذة من كتاب رأس المال لماركس – حيث كان ماركس معنيا بتحليل الرأسمالية – والمفروضة بشكل مصطنع على علاقتنا الاشتراكية، إنني أشير إلى مفاهيم مثل العمل “الضروري” و “الفائض”، والناتج “الضروري” و “الفائض”، والوقت “الضروري” و “الفائض”. (15)
انه، بالطبع، من الأهمية القصوى أن نكتشف العلاقة الصحيحة بين قانون القيمة الماركسي والاقتصاد الروسي، آخذين في الاعتبار أن ماركس رأي ارتباطا بين هذا القانون وجميع تناقضات الرأسمالية.
قانون القيمة الماركسي
يمكن شرح نظرية القيمة لماركس باختصار كما يلي:
في ظل الرأسمالية، وفي ظل الرأسمالية فقط، تتخذ كل، أو حتى أغلب المنتجات شكل السلع، (16) لكي تتحول المنتجات إلى سلع لابد من وجود تقسيم عمل داخل المجتمع. إلا أن هذا وحده لا يكفي. فقد كان هناك تقسيم عمل داخل القبائل البدائية، إلا أن سلعا لم تنتج. كما أن سلعا لم تنتج أيضا في نظام المجتمع القائم على اللاتيفنديات الرومانية القديمة بعملها العبودي واكتفائها الذاتي. وداخل كل مصنع رأسمالي، أيضا، يوجد تقسيم عمل، دون أن تصبح ثمار عمل كل عامل سلعة، فقط بين القبائل البدائية، أو بين اللاتيفنديات أو بين مصنع رأسمالي وآخر، يتم تبادل المنتجات، وبالتالي تتخذ شكل السلع. يكتب ماركس: ” إن المنتجات التي يمكن أن تصبح سلعا قابلة للتبادل، الواحدة لقاء الأخرى، هي فقط تلك الناتجة عن أنوع مختلفة من العمل، يتم كل منها مستقلا عن الآخر ولحساب أفراد ” (17) أو “مجموعات من الأفراد” (18)
تعرف القيمة بأنها السمة المشتركة لكل السلع والتي يتم التبادل على أساسها. ليس للمنتجات قيمة تبادلية إلا بوصفها سلعا، حيث القيمة التبادلية هي تعبير عن العلاقات الاجتماعية بين منتجي السلع، أي تعبير عن الطابع الاجتماعي لعمل كل منتج. إنها، في الواقع، التعبير الوحيد عن الطابع الاجتماعي للعمل في مجتمع من المنتجين المستقلين. يكتب ماركس: “ولما كان المنتجون لا يتصلون ببعضهم البعض اجتماعيا إلا بواسطة تبادل منتجاتهم، فان الطابع الاجتماعي المحدد لعمل كل منتج لا يظهر إلا في عملية التبادل. وبكلمات أخرى، فان عمل الفرد يؤكد نفسه كجزء من عمل المجتمع، فقط عن طريق العلاقات التي تنشأ بفعل التبادل بين المنتجات بصورة مباشرة، و بصورة غير مباشرة، بين المنتجين”. (19)
عندما يكتب ماركس أن السلعة هي قيمة، فانه يؤكد أنها عمل مجرد متجسد ماديا، ويؤكد أنها نتيجة قسم ما من إجمالي العمل المنتج للمجتمع. يعبر مقدار القيمة عن علاقة إنتاج اجتماعي، انه يعبر عن الصلة القائمة بالضرورة بين صنف معين ونسبة العمل الاجتماعي المطلوبة لإنتاجه”.(20)
لماذا تكون القيمة التبادلية التعبير الوحيد عن هذه الصلة، ولماذا لا يمكن التعبير عن هذه العلاقة مباشرة، بدلا من التعبير عنها من خلال الأشياء؟ الإجابة هي أن الصلة الاجتماعية الوحيدة التي يمكن قيامها بين منتجين مستقلين هي من خلال الأشياء، من خلال تبادل السلع.
في مجتمع من المنتجين المستقلين، يحدد قانون القيمة ما يلي:
علاقة التبادل بين السلع المختلفة.
الكمية الإجمالية للسلع من نوع معين التي سيتم إنتاجها بالمقارنة بالسلع من نوع آخر، وبالتالي،
تقسيم وقت العمل الإجمالي للمجتمع بين المشروعات المختلفة.
ومن هنا فانه يحدد علاقة التبادل بين قوة العمل كسلعة وغيرها من السلع، وبالتالي تقسيم يوم العمل إلى وقت ينفق على “العمل الضروري” (الذي يعيد العامل خلاله إنتاج قيمة قوة عمله) ووقت ينفق على “العمل الفائض” (الذي ينتج العامل خلاله فائض قيمة للرأسمالي). كما يتحكم قانون القيمة أيضا في نسبة العمل الاجتماعي المخصص لإنتاج السلع الإنتاجية والاستهلاكية، أي في العلاقة بين التراكم والاستهلاك (وهذه نتيجة لازمة للفقرة أ أعلاه).
أجرى ماركس مقارنة بين تقسيم العمل في المجتمع الرأسمالي ككل (والذي يتم التعبير عنه من خلال ظهور القيم)وبين تقسيم العمل في داخل مصنع واحد (الذي لا يعبر عنه بهذا الشكل).
تقسيم العمل في المجتمع يحدث من خلال شراء وبيع منتجات مختلف فروع الصناعة، في حين أن الصلة بين الأعمال الجزئية في المصنع هو نتيجة بيع قوة العمل الخاصة بعديد من العمال لرأسمالي واحد، يستخدمها بمثابة قوة عمل جماعية. إن تقسيم العمل في المصنع يقتضي تركيز وسائل الإنتاج في أيدي رأسمالي واحد، أما تقسيم العمل في المجتمع فيقتضي تفرقها بين العديد من منتجي السلع المستقلين. في حين أن قانون التناسبية الصارم داخل المصنع يخضع أعداد معينة من العمال لوظائف محددة، إلاّ أن المصادفة والهوى، في المجتمع خارج المصنع، يلعبان لعبتهما غير المقيدة في توزيع المنتجين ووسائل إنتاجهم على مختلف فروع الصناعة. صحيح أن مختلف دوائر الإنتاج تنزع إلى التوازن باستمرار: فمن جهة، في حين أنه ينبغي على كل منتج لسلعة أن ينتج قيمة استعمالية، أي أن يلبي حاجة اجتماعية معينة، وفي حين أن مقدار هذه الحاجات يختلف كميا، فثمة، مع ذلك، رابطة داخلية تنظم نسبها جميعا في نظام متناسق، ينمو عفويا، ومن جهة أخرى، فان قانون القيمة يحدد في آخر المطاف كم يستطيع المجتمع أن ينفق من وقت العمل المتيسر له على إنتاج كل نوع من أنواع السلع. ولكن هذا النزوع المستمر، لمختلف دوائر الإنتاج، إلى التوازن، يتم فقط كرد فعل للاضطراب المستمر لهذا التوازن. إن النظام الافتراضي الذي يتم على أساسه تقسيم العمل، داخل المصنع، يصبح في تقسيم العمل داخل المجتمع استدلاليا و ضرورة تفرضها الطبيعة، تحكم الهوى غير المنظم للمنتجين، ولا تظهر إلا في التقلبات في أسعار السوق. يقتضي تقسيم العمل داخل المصنع سلطة الرأسمالي المطلقة على ناس جرى تحويلهم إلى مجرد أعضاء في جهاز يملكه الرأسمالي.. أما تقسيم العمل داخل المجتمع، فهو ينشئ الاتصال بين منتجي السلع المستقلين، الذين لا يعترفون بسلطة غير سلطة المنافسة، ولا بقوة غير القوة القسرية التي تفرضها عليهم مصالحهم المتبادلة “. (21)
هكذا فعلى الرغم من اختفاء التخطيط المركزي داخل مجتمع منتجي السلع، فان قانون القيمة يخلق النظام من اللانظام، من خلال التغير الدائم في الطلب والعرض الناتج عن المنافسة. ينشأ توازن معين في إنتاج السلع المختلفة، في تقسيم إجمالي وقت العمل الخاص بالمجتمع بين مختلف فروع الاقتصاد، إلى آخره. ومن ناحية أخرى، داخل المصنع الواحد، ليست الفوضى غير الشخصية وإنما الإدارة الواعية للرأسمالي هي التي تحدد تقسيم العمل وكمية مختلف السلع التي يتم إنتاجها.
من البديهي أنه في جميع أشكال المجتمع، من المشاعية البدائية في الماضي القديم إلى مجتمع المستقبل الاشتراكي، يجب أن يكون هناك تقسيم معين لوقت العمل الخاص بالمجتمع، بين مختلف فروع الاقتصاد لكي يتم إنتاج كميات مناسبة من السلع التي يحتاج لها. إلا أن طريقة إجراء هذا التقسيم قد اختلفت مع اختلاف شكل المجتمع. “إن كل طفل يعرف”..، كتب ماركس:
إن البلد الذي يتوقف عن العمل، لن أقول لسنة ولكن لأسابيع قليلة، سيموت. كما يعرف كل طفل أيضا أن مجموع المنتجات المقابلة للحاجات المختلفة تقتضي كميات مختلفة ومحددة كميا من إجمالي عمل المجتمع. ومن البديهي أن هذه الضرورة المتمثلة في توزيع العمل الاجتماعي بنسب محددة لا يمكن الاستغناء عنها بواسطة الشكل الخاص للإنتاج الاجتماعي، وإنما يمكن فقط أن تغير الشكل الذي تتخذه. لا يمكن الاستغناء عن القوانين الطبيعية. ما يمكن أن يتغير، بتغير الظروف التاريخية، هو الشكل الذي تعمل به هذه القوانين.. وفي حالة المجتمع الذي يظهر فيه الاتصال بين العمل الاجتماعي من خلال التبادل الفردي لمنتجات العمل الفردية، فان الشكل الذي يتخذه هذا التقسيم النسبي للعمل هو بالتحديد القيمة التبادلية لهذه المنتجات. (22)
ولكي تكون القيمة التبادلية هي التعبير عن تقسيم وقت العمل الإجمالي للمجتمع بين إنتاج السلع المختلفة، فان الشرط الضروري لذلك هو أن تكون أنشطة الناس في عملية الإنتاج “تلقائية تماما”، ينبغي أن تكون هناك منافسة حرة بين المنتجين المستقلين وبين ملاك السلع المختلفة، بما في ذلك بائعي قوة العمل. وينبغي ألا تتحدد العلاقات بين أعضاء المجتمع أثناء عملية الإنتاج بواسطة الفعل الواعي.
إمكانية تطبيق قانون القيمة على الاحتكار الرأسمالي
في رأس المال، اتخذ ماركس من نظام المنافسة الحرة المطلقة نموذجا للرأسمالية. الاقتصادي الماركسي الوحيد الذي ناقش بالتفصيل قانون القيمة فيما يتعلق بالرأسمالية الاحتكارية هو رودولف هلفيردينج في كتابه، رأس المال المالي (فيينا، 1910). انه يذكر أنه من المستحيل أن نستنتج من نظرية القيمة لماركس أي قانون عام يتم من خلاله تفسير الأثر الكمي للاحتكار على علاقات التبادل بين السلع المختلفة، انه يكتب:
الطلب هو العنصر غير المحدد وغير القابل للقياس في ظل حكم الاحتكارات. فلا يمكن التيقن من كيفية رد فعل الطلب على ارتفاع الأسعار. إن أسعار الاحتكار يمكن تحديدها عمليا، ولكن لا يمكن تحديد مستواها نظريا… إن علم الاقتصاد الكلاسيكي (هلفيردينج يضع ماركس ضمنه) يفهم الأسعار على أنها الشكل الذي يظهر به الإنتاج الاجتماعي الفوضوي، كما يعتبر مستوى الأسعار معتمدا على الإنتاجية الاجتماعية للعمل. قانون السعر الموضوعي لا يتحقق إلا من خلال المنافسة. وعندما تلغي الهيئات الاحتكارية المنافسة، فإنها تزيل معها الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها وضع قانون أسعار موضوعي.. ويتوقف السعر عن أن يكون مقدارا محددا موضوعيا، ويصبح مشكلة حسابية لأولئك الذين يحددونه بإرادة ووعي، وبدلا من أيكون نتيجة يصبح افتراضا، وبدلا من أن يكون موضوعيا يصبح ذاتيا، وبدلا من كونه حتميا ومستقلا عن إرادة ووعي الفاعلين سيصبح عشوائيا وعرضيا. يبدو أن تحقيق نظرية التركيز الماركسية – الاندماج الاحتكاري -سيؤدي إلى إبطال نظرية القيمة الماركسية. (23)
يستحيل بالمثل تحديد الكميات التي ستنتج من السلع المختلفة والكيفية التي سيوزع بها إجمالي وقت العمل الخاص بالمجتمع بين مختلف أفرع الاقتصاد. ولكن من الممكن تقدير اتجاهات العوامل المذكورة أعلاه في ظل ظروف الاحتكار بالمقارنة بما يحتمل أن تكون عليه في ظل ظروف المنافسة الحرة. في ظل ظروف التوازن، فان القيمة التبادلية للسلع المنتجة بواسطة الاحتكارات ستزيد بالمقارنة بغيرها، وبالتالي فان عدد أقل منها سيتم إنتاجه بالمقارنة بالسلع غير الاحتكارية، ومن ثم فان نسبة إجمالي وقت عمل المجتمع المنفق في الصناعة المحتكرة ستقل. ويمكن التأكيد على أنه في ظل ظروف الاحتكار، فان علاقات التبادل بين السلع، والكميات المنتجة وتقسيم إجمالي وقت عمل المجتمع هي تعديلات على نفس العوامل التي كانت ستظهر في ظل المنافسة الحرة. فقانون القيمة ينتفي جزئيا، ولكنه يستمر في الوجود من حيث الجوهر، وان يكن بشكل معدل. ذلك أن المنافسة، وان لم تكن مطلقة، موجودة، وبالتالي فان أطروحة ماركس لا تزال صحيحة، أي أن “سلوك الناس في عملية الإنتاج الاجتماعي تلقائي تماما. ومن ثم فان العلاقات فيما بينهم في عملية الإنتاج تتخذ طابعا ماديا مستقلا عن سيطرتهم وعن أفعالهم الفردية الواعية”.(24)
نظرا للمنافسة بين الاحتكارات المختلفة، سواء في نفس الفرع من الاقتصاد أو في فروع مختلفة، فان علاقات التبادل بين السلع ترتبط، و إن لم تكن متطابقة تماما، بوقت العمل المستغرق في إنتاجها أو معدلات تكاليف الإنتاج المترتبة على ذلك. وعلى الرغم من أن تقسيم العمل داخل المجتمع ككل ليس مستقلا تماما عن الأفعال الواعية للأفراد أو المجموعات (مثل الاحتكارات)، فان هذا التقسيم يمكن أن يختلف فقط في حدود ضيقة نسبيا عما يحتمل أن يكون عليه في ظل المنافسة الحرة تماما. وعلى الرغم من “التخطيط” بواسطة الاحتكارات فان التقسيم يظل عشوائيا ومختلفا تماما عن تقسيم العمل داخل المصنع، “ليس فقط في الدرجة، ولكن في النوع أيضا”. الرأسمالية الاحتكارية تعنى نفيا جزئيا لقانون القيمة الماركسي ولكن على أساس قانون القيمة ذاته، أنه نفي وتأكيد في نفس الوقت. إلا أن النفي الجزئي لقانون القيمة يقف عند أعتاب نفيه الكامل.
رأسمالية الدولة الاحتكارية وقانون القيمة
كيف يعمل قانون القيمة عندما تتدخل الدولة في النظام الاقتصادي بالتحكم في سعر السلع، وشراء جزء هام من منتجات الاقتصاد القومي، وتخصيص المواد الخام، والتحكم في استثمار رأس المال؟
بالنسبة للينين: عندما يعمل الرأسماليون للدفاع، أي لخزانة الدولة، فمن البديهي أننا لا نكون أمام رأسمالية “خالصة”، وإنما شكل خاص للاقتصاد القومي. الرأسمالية الخالصة تعني الإنتاج السلعي. والإنتاج السلعي يعنى العمل لسوق مجهول وحر. ولكن الرأسمالي الذي “يعمل” للدفاع لا “يعمل” للسوق على الإطلاق. انه ينفذ طلبية للحكومة، وفي أغلب الأحوال مقابل أموال تقدمها له الخزانة مقدما” (25)
هل يعني هذا أن إمداد المؤسسات الرأسمالية للدولة بالمنتجات يقع خارج نطاق قانون القيمة؟ في ألمانيا النازية – حيث اشترت الدولة أكثر من نصف، إجمالي الناتج القومي، وركزت في أيديها تخصيص المواد الخام، وتحكمت في تدفق رأس المال إلى فروع الاقتصاد المختلفة، وحددت أسعار السلع، وأخضعت سوق العمل لنظام عسكري – فان إدارة علاقات التبادل بين السلع المختلفة، والكميات النسبية للسلع المنتجة المختلفة، وتقسيم إجمالي وقت عمل المجتمع بين مختلف الصناعات، لم تترك للنشاط الأعمى التلقائي للسوق. صحيح أن الدولة النازية لم تتخذ كل القرارات المتعلقة بالإنتاج، إلا أنها اتخذت القرارات الأكثر حسما. في الاقتصاد النازي حددت الدولة كمية السلع الاستهلاكية المنتجة، ولم تكن هناك حرية في بيع قوة العمل، كما تحدد تقسيم إجمالي وقت عمل المجتمع بين فروع الصناعة المختلفة لا بواسطة آلية السوق، وإنما عن طريق تخصيص الدولة للطلبيات والمواد الخام وتحكمها في استثمار رأس المال. ولم يبق سوى مجال ضيق جدا للأنشطة المستقلة لمختلف المستثمرين داخل ألمانيا.
وكما كتب هلفيردينج: “في ألمانيا… فان الدولة في سعيها للحفاظ على سلطتها وتقويتها، تحدد طبيعة الإنتاج والتراكم. والأسعار تفقد دورها التنظيمي وتصبح مجرد وسيلة للتوزيع. كما أن الاقتصاد، ومعه أصحاب النشاط الاقتصادي، يتم إخضاعهم بدرجة أو بأخرى للدولة، بحيث يصبحـوا تابعين لها”. (R. Hilfending, “State Capitalism or Totalitarian Economy “, Left, September, 1947 وقد كتب المقال في عام 1940)”.
إن مصطلح “رأسمالية الدولة” يمكن أن يدل على اقتصاد الحرب الرأسمالي، وعلى المرحلة التي تصبح فيها الدولة الرأسمالية مستودع كل وسائل الإنتاج. فبوخارين، مثلا، استخدمه للدلالة على الاثنين. وعلى الرغم، كما سيظهر، من أنه لا يوجد فارق كيفي أساسي بين الاثنين فيما يتعلق بأثرهما على (أ) علاقة التبادل بين السلع، و (ب) الكميات النسبية المنتجة، و(ج) تقسيم إجمالي وقت عمل المجتمع، فإننا نعتقد أنه من الأفضل أن نفرق بين الاثنين لتجنب الارتباك. سنستخدم مصطلح “رأسمالية الدولة” فقط للدلالة على المرحلة التي تصبح فيها الدولة الرأسمالية مستودع وسائل الإنتاج، في حين سنسمي اقتصاد الحرب الرأسمالي “رأسمالية الدولة الاحتكارية”.
إن رأسمالية الدولة الاحتكارية هي، في التحليل الأخير، تحت رحمة القوى الاقتصادية العمياء، وليست محكومة بالإرادة والقرارات الواعية لأي رجل أو رجال. على سبيل المثال، فان طلبيات الحكومة يتم تخصيصها وفقا للقدرات النسبية (معبر عنها بالسعة الإنتاجية) للشركات المختلفة التي تتقدم لها بعطاءات، هكذا، على كل شركة أن تحاول تحقيق معدل معين لتراكم رأس المال. انهم يدفعون لزيادة الأرباح على حساب الأجور. انهم يخلقون طلبا متزايدا على وسال الإنتاج مقارنة بالطلب على وسائل الاستهلاك إلي آخره. في ألمانيا، خلال الحكم النازي، لم يتحدد تقسيم إجمالي الناتج القومي بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتوزيع إجمالي وقت العمل بين إنتاج السلع الاستهلاكية الرأسمالية، بواسطة قرار عشوائي للحكومة، وإنما بضغط المنافسة. وقد نتج نفس الشيء من الضغط التنافسي – الاقتصادي والعسكري معا – للقوى التي حاربت ألمانيا ضدها.
قانون القيمة الماركسي والاقتصاد الروسي، من زاوية انعزاله عن الرأسمالية العالمية
من الوهلة الأولى، تبدو العلاقة بين مختلف المؤسسات الإنتاجية في روسيا مماثلة للعلاقة بين مختلف المؤسسات التجارية في البلاد الرأسمالية التقليدية. ولكن هذا صحيح من الناحية الشكلية فقط. في مجتمع من المنتجين الأفراد، الفارق الأساسي بين تقسيم العمل داخل المصنع وتقسيم العمل داخل المجتمع ككل، هو أنه في الحالة الأولى تتركز ملكية وسائل الإنتاج في أيدي رجل واحد أو مجموعة واحدة من الرجال، في حين أنه في المجتمع الرأسمالي ككل لا يوجد مركز للقرارات، وإنما فقط “المتوسط الأعمى” الذي يحدد عدد العمال الذين ينبغي أن يعملوا في مختلف المؤسسات الإنتاجية، ونوع السلع التي ينبغي إنتاجها، وهكذا. لا يوجد اختلاف كهذا في روسيا، فكل من المؤسسات المفردة والاقتصاد ككل يخضع للإدارة المخططة للإنتاج. الاختلاف بين تقسيم العمل داخل مصنع جرارات مثلا، وتقسيم العمل بينه وبين مصنع الصلب الذي يوفر له الإمدادات، هو اختلاف في الدرجة فقط. إن تقسيم العمل داخل المجتمع الروسي من حيث الجوهر مماثل لتقسيم العمل داخل المصنع الواحد.
من ناحية شكلية توزع المنتجات بين مختلف أفرع الاقتصاد من خلال وسيط التبادل. ولكن بما أن ملكية جميع المؤسسات الإنتاجية تتركز في هيئة واحدة، الدولة، فليس هناك تبادل حقيقي للسلع. “إن المنتجات التي يمكن أن تصبح سلعا للتبادل، الوحدة لقاء الأخرى، هي فقط تلك الناتجة عن أنواع مختلفة من العمل، يتم كل منها مستقلا عن غيره ولحساب أفراد، (26) أو “مجموعات من الأفراد”، (27) في مجتمع من المنتجين الأفراد، المتصلين ببعضهم البعض فقط من خلال التبادل، فان الوسيط الذي يحكم تقسيم العمل في المجتمع ككل هو التعبير النقدي عن القيمة التبادلية – السعر. في روسيا توجد صلة مباشرة بين المؤسسات الإنتاجية من خلال الدولة التي تسيطر على الإنتاج فيها كلها تقريبا وبالتالي فان السعر يتوقف عن أن تكون له تلك الأهمية الخاصة المتمثلة في كونه التعبير عن الطابع الاجتماعي للعمل، أو المنظم للإنتاج.
إذا زاد الطلب على الأحذية عن عرضها في بلد رأسمالي تقليدي، فان سعر الأحذية سيرتفع تلقائيا مقارنة بسعر السلع الأخرى، ستزيد الأرباح في صناعة الأحذية، وسيتدفق رأس المال والعمل نحوها، وسينفق جزء أكبر من إجمالي وقت عمل المجتمع في إنتاج الأحذية. يميل قانون القيمة للموازنة بين العرض والطلب، وهي حالة يكون السعر فيها مساويا للقيمة، أو بصورة أصح مساويا لسعر الإنتاج. (العلاقة بين قيمة وسعر الإنتاج هي علاقة معقدة جدا، ولا يمكن أن نتناولها هنا. (أنظر رأس المال، الجزء الثالث، القسم الثاني) إذا زاد الطلب على الأحذية عن عرضها في روسيا، فعلى الرغم من أن سعر الأحذية سيرتفع إما رسميا أو في السوق السوداء، إلا أن إنتاج الأحذية لن يزداد، وبالتالي لن يزداد وقت العمل المخصص لإنتاجها.
لنأخذ مثالا أخرا؛ في البلاد الرأسمالية التقليدية، تتحدد النسبة بين إنتاج السلع الإنتاجية والاستهلاكية بواسطة قانون القيمة. إذا كان عرض الأحذية أقل من الطلب عليها وعرض الماكينات أكثر من الطلب عليها، فان سعر الأحذية سيرتفع وسعر الماكينات سينخفض، ويتحول رأس المال والعمل من أحد أفرع الاقتصاد للآخر إلى أن تتم استعادة التوازن الصحيح. ولكن في روسيا تمتلك الدولة كلا القسمين الصناعيين، وبالتالي فان ارتفاع معدل الربح في إنتاج السلع الاستهلاكية لن يجذب رأس المال والعمل إلى هذا القطاع وخارج القطاع الآخر، والعكس بالعكس، وذلك لأن النسب القائمة بين القطاعين ليست ناتجة عن الآلية الحرة للسوق الداخلي الروسي.
إن العلاقة بين إنتاج القسمين (إنتاج السلع الإنتاجية والسلع الاستهلاكية) تعتمد بشكل مباشر على العلاقة بين التراكم والاستهلاك. وفي حين أن المنافسة بين ملاك المصانع المختلفين في البلاد الرأسمالية التقليدية تدفعهم إلى تجميع رأس المال وزيادة التركيب العضوي لرأس المال، فان هذا العامل لا وجود له في روسيا حيث أن كل المصانع مملوكة لسلطة واحدة. هنا التراكم والتحسين التقني لا يتخذان كتدابير دفاعية في الحرب التنافسية مع المؤسسات الإنتاجية الأخرى.
لقد رأينا أن السعر ليس هو الوسيط الذي يتم من خلاله تنظيم الإنتاج الروسي وتقسيم العمل في المجتمع الروسي ككل. فالحكومة هي التي تنظم ذلك. أما السعر فهو فقط أحد الأسلحة التي تستخدمها الدولة في هذا الشأن. انه ليس المحرك، وإنما حزام الحركة.
هذا لا يعني أن نظام الأسعار في روسيا عشوائي، يعتمد تماما على نزوات البيروقراطية. أساس السعر هنا أيضا هو تكلفة الإنتاج. (الاستخدام واسع النطاق للدعم من ناحية، وضريبة المبيعات من ناحية أخرى، لا يناقضان ذلك..) وعلى الرغم من ذلك يوجد فارق جوهري بين هذا النظام السعري وبين ذلك القائم في الرأسمالية التقليدية. فالأخير يعبر عن النشاط المستقل للاقتصاد (الذي يكون في أكثر حالاته حرية في ظل المنافسة الحرة، وأقل حرية في ظل الاحتكار)، أما النظام السعري في روسيا فهو مؤشر على أن الاقتصاد لا يسير بالدفع الذاتي على الإطلاق. إن الفارق بين هذين النوعين من الأسعار سيصبح أوضح على الأرجح إذا أجرينا مقارنة بمجتمع أقل تعقيدا، مجتمع الفراعنة في مصر القديمة مثلا.
كان على الفرعون أن يحسب كيف يقسم إجمالي وقت العمل – وهذا هو نفقة الإنتاج الحقيقية في أي مجتمع – لعبيده بين حاجات المجتمع. وكان يتبع طريقة مباشرة في هذا الحساب. تم وضع عدد معين من العبيد في إنتاج الطعام، وعدد معين في إنتاج السلع الكمالية، وآخرين في بناء نظام الري، وآخرين في بناء الأهرامات، وهكذا. وحيث أن عملية الإنتاج كانت بسيطة نسبيا، فلم تكن هناك ضرورة لأية فحوصات فيما عدا التأكد من توزيع عدد العبيد وفقا للخطة. في روسيا، أيضا، تضع الدولة مباشرة خطة كاملة تقريبا (“تقريبا” لأن هناك بعض الحالات الجانبية التي تكون فيها سيطرة الدولة غير كاملة. ووقت عمل عضو الكولخوز في قطعة الأرض الخاصة به، يعتبر مثال على ذلك. ونفس الشيء بالنسبة لعمل الحرفي. ولكن حتى لو لم تكن هذه الأنشطة مخططة بوعي بواسطة الدولة، فإنها ليست متحررة تماما من السيطرة. فمن خلال رافعات الأسعار والضرائب وبصفة خاصة تخطيط الدولة لمجال الإنتاج الرئيسي، تدفع هذه الأنشطة الهامشية أيضا إلى داخل قنوات تريدها الدولة.) لتقسيم إجمالي وقت العمل، ولكن حيث أن عملية الإنتاج أكثر تعقيدا بكثير مما كانت عليه قبل بضعة آلاف من السنين، فان مجرد التأكد من عدد العمال المنخرطين في مختلف الفروع، لا يكفي لكي يسير الاقتصاد وفقا للخطة، بعض النسب يجب تحديدها فيما بين استخدام الماكينات والعمال، واستخدام ماكينات من هذا النوع أو ذاك، الكمية المنتجة، والمادة الخام والوقود المستخدمين، إلى آخره. ومن أجل هذا العمل، ينبغي وجود مقياس مشترك لكل النفقات وكل المنتجات. يعمل السعر بوصفه هذا المقياس المشترك. إن الفارق بين تقسيم العمل بدون نظام سعري في ظل الفراعنة، وتقسيم العمل بنظام سعري في ظل ستالين، هو فارق في الدرجة، وليس في الجوهر. وبالمثل، فسواء أدار فورد جميع مشروعاته كوحدة إدارية واحدة، أو قسمها إلى وحدات أصغر لكي يجعل الحساب والإدارة أسهل، فان الفارق سيكون في الدرجة فقط، مادامت نفس الإدارة توجه الإنتاج.
هنـاك شيء واحد في روسيا يظهر على السطح، ليفي بمتطلبات السلعة: قوة العمل. فإذا كانت قوة العمل سلعة، إذن فالسلع الاستهلاكية التي يحصل عليها العمال في مقابل قوة عملهم هي أيضا سلع، حيث أنها تنتج للتبادل. بذلك يكون لدينا، إن لم يكن دورة عالية التطور للسلع، نظام مقايضة ضخم يشمل إجمالي استهلاك العمال. ولكن ماركس يرى أن “دورة السلع تختلف عن التبادل المباشر للمنتجات (المقايضة)، ليس فقط في الشكل، وإنما في المضمون”. (28) و يواصل ماركس الفكرة مشيرا إلى أنه مع دوران السلع، “يخترق التبادل جميع الحدود المحلية والشخصية الملازمة للمقايضة المباشرة، ويحقق دوران منتجات العمل الاجتماعي”…إنه يخلق شبكة متكاملة من العلاقات الاجتماعية العفوية في نموها والخارجة بالكامل عن نطاق سيطرة الفاعلين”.(29)
لكي نرى ما إذا كانت قوة العمل في روسيا سلعة بالفعل، كما هي في ظل الرأسمالية التقليدية، فمن الضروري أن نتناول تلك الشروط المحددة التي تعد ضرورية لجعل قوة العمل سلعة. يذكر ماركس شرطين لهذا: أولا، أن العامل يجب أن يبيع قوة عمله، حيث أنه لا يملك أخرى للكسب لكونه ‘حرا’ من وسائل الإنتاج، ثانيا أن العامل يستطيع أن يبيع قوة عمله حيث أنه المالك الوحيد لها، أي أنه حر في بيع قوة عمله. إن حرية العامل من ناحية، وعبوديته من ناحية أخرى، يظهران من خلال بيعه الدوري لنفسه، وتغييره لسادته، والتذبذبات في سعر قوة العمل في السوق”. (30) يقول ماركس إذن أنه لكي تصبح قوة العمل سلعة، فمن الضروري:
“أن يبيع مالك قوة العمل قوة عمله لفترة محددة فقط، ذلك لأنه لو باعها جملة واحدة، مرة واحدة، فانه يبيع ذاته، محولا نفسه من حر إلى عبد، ومن مالك السلعة إلى سلعة. عليه على الدوام أن ينظر إلى قوة عمله كملكيته هو، كسلعته هو، وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا بوضعه قوة عمله تحت تصرف المشتري مؤقتا، لفترة زمنية محددة. وبهذه الطريقة يستطيع تجنب التخلي عن حقوق ملكيته لها. (31)
إذا كـان هناك مخدم واحد فقط، فان “تغيير السادة” يكون مستحيلا ” يصبح بيعه الدوري لنفسه” مجرد مسألة صورية. ويصبح العقد أيضا مسألة صورية عندما يكون هناك عدة بائعين ومشتري واحد فقط. (ويتضح من نظام الغرامات والعقوبات، و “العمل التأديبي”، وما إلى ذلك، أن حتى هذا الجانب الصوري من العقد لا تتم مراعاته في روسيا).
لاشك أن “التذبذبات في سعر قوة العمل في السوق” تحدث في روسيا، ربما أكثر منها في البلاد الأخرى. ولكن هنا أيضا، يتناقض الجوهر مع الشكل. تحتاج هذه النقطة لبعض الاستفاضة. في الاقتصاد الرأسمالي التقليدي، حيث توجد منافسة بين بائعي قوة العمل، وبين مشتري قوة العمل، وبين البائعين والمشترين، يتحدد سعر قوة العمال بواسطة الفوضى الناتجة عن هذه المنافسة. فلو كان معدل التراكم عاليا، يكون هناك تشغيل واسع مما يؤدي، في ظل الظروف العادية إلى زيادة الأجور الاسمية. يؤدي هذا إلى زيادة الطلب على السلع الاستهلاكية، وبالتالي يزداد إنتاج هذه السلع مما يرفع الأجور الحقيقيـة. (في ظل الظروف العادية للمنافسة الحرة، تعد هذه صورة حقيقية لما يحدث، إلا أن الاحتكارات تشوهها بعض الشيء.) هذه الزيادة في الأجور الحقيقية تؤثر تأثيرا عكسيا على معدل الربح، الذي يخفض بدوره معدل التراكم، وهكذا. على العكس من هذا، يتحدد المقدار الإجمالي للأجور والمرتبات الحقيقية في روسيا مسبقا عن طريق كمية السلع الاستهلاكية المستهدفة في الخطة. قد يحدث – وهذا هو ما يحدث غالبا – أنه، بسبب العيوب في إعداد وإنجاز الخطة، تكون كمية الأموال الموزعة كأجور ومرتبات أكبر من السعر الإجمالي للسلع الاستهلاكية المنتجة. إذا لم تتولى الدولة الفارق بين الاثنين، فان هذا سيسبب ارتفاعا في الأسعار (سواء في السوق الرسمي أو السوق السوداء) ولكن ليس ارتفاعا في الأجور الحقيقية. الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يسفر بها هذا الوضع عن زيادة الأجور الحقيقية هي أن يدفع ارتفاع الأسعار الدولة لزيادة إنتاج ذلك الفرع الذي ترتفع فيه الأسعار. إلا أن الدولة الروسية لا تفعل هذا. (هنالك نقطة لا يمكن للأجور الحقيقية أن تنخفض عنها لأية فترة من الزمن. وهذه النقطة هي الحد الأدنى الطبيعي، الذي ينطبق على روسيا كما ينطبق على أي مجتمع آخر، سواء كان قائما على العمل العبودي، أو عمل الأقنان، أو العمل المأجور. وفيما يتعلق بالمشكلة التي نناقشها هنا، فان كون الأجور الحقيقية غير موزعة بالتساوي بين العمال الروس، يعد أمرا ثانويا بالمقارنة بكون إجمالي الأجور الحقيقية محدد مباشرة بواسطة الدولة).
هكذا، فإذا فحص المرء العلاقات داخل الاقتصاد الروسي، مجردا إياها من علاقاتها بالاقتصاد العالمي، فلا بد له من استنتاج أن مصدر قانون القيمة، بوصفه محرك ومنظم للإنتاج، ليس موجودا في هذا الاقتصاد. من حيث الجوهر، فأن القوانين القائمة بين الوحدات الإنتاجية، وبين العمال والدولة المخدمة، لن تكون مختلفة سواء كانت روسيا مصنع واحد كبير يدار مباشرة من مركز واحد، أو كان جميع العمال يحصلون على السلع التي يستهلكونها مباشرة، ولو في صورة عينية.
قانون القيمة الماركسي والاقتصاد الروسي، من زاوية علاقاته بالرأسمالية العالمية
إن وضع الدولة الستالينية فيما يتعلق بإجمالي وقت عمل المجتمع الروسي مماثل لوضع مالك المصنع فيما يتصل بعمل مستخدميه. بعبارة أخرى، تقسيم العمل يتم وفق خطة. ولكن ما الذي يحدد التقسيم الفعلي لإجمالي وقت عمل المجتمع الروسي؟ لو لم يكن على روسيا أن تتنافس مع البلاد الأخرى، فان التقسيم كان سيكون عشوائيا تماما. ولكن في واقع الأمر تعتمد القرارات الستالينية على عوامل خارج سيطرتها، وهي بالتحديد الاقتصاد العالمي، والتنافس العالمي. من هذه الزاوية، فان الرأسمالية الروسية في وضع مماثل لمالك مشروع رأسمالي واحد في حالة تنافس مع مشاريع أخرى.
إن معدل الاستغلال، أي النسبة بين فائض القيمة والأجور (ف ÷ م) (ف =فائض القيمة. م = رأس المال المتغير “المترجم”)، لا يعتمد على الإرادة المطلقة للحكومة الستالينية، وإنما تمليه الرأسمالية العالمية. ينطبق نفس الشيء على التحسينات في التقنية، أو – إذا استخدمنا جملة مماثلة بالمصطلحات الماركسية – العلاقة بين رأس المال الثابت والمتغير، أي العلاقة بيـن الماكينات والأبنية والمواد من ناحية، والأجور من ناحية أخرى (ث ÷ م) (ث = رأس المال الثابت. “المترجم”). ينطبق نفس الشيء إذن على تقسيم إجمالي وقت عمل المجتمع الروسي بين إنتاج وسائل الإنتاج ووسائل الاستهلاك. هكذا، فعندما ننظر إلى روسيا في نطاق الاقتصاد العالمي، فسوف نرى بوضوح السمات الأساسية للرأسمالية: الفوضى في التقسيم الاجتماعي للعمل والتعسف في تقسيم العمل داخل الورشة، شرطان يكمل أحدهما الآخر”…
إذا حاولت روسيا إغراق السوق العالمي بمنتجاتها، أو إذا أغرقت البلاد الأخرى السوق الروسي بمنتجاتها، فان البيروقراطية الروسية ستضطر لخفض نفقات الإنتاج بتخفيض الأجور بالنسبة لإنتاجية العمل أو بشكل مطلق بزيادة (ف ÷ م)، أو من خلال التحسين التقني (بزيادة ث ÷ م)، أو زيادة إنتاج السلع الإنتاجية بالنسبة للسلع الاستهلاكية. وستكشف نفس النزعات عن نفسها إذا اتخذت المنافسة العالمية شكل الضغط العسكري بدلا من المنافسة التجارية العادية.
حتى الآن، كان اقتصاد روسيا متخلفا بدرجة لا تسمح لها بإغراق الأسواق الأجنبية بسلعها. أما أسواقها هي، فهي محمية من احتمال إغراقها بالسلع الأجنبية بفضل احتكار الدولة للتجارة الخارجية، وهو احتكار لا يمكن كسره إلا بالقوة العسكرية. ومن هنا فان الصراع التجاري كان حتى الآن أقل أهمية (هكذا، فأثناء فترة الخطط الخمسية، عندما تضاعف الإنتاج الصناعي عدة مرات، فان كلا من الواردات والصادرات قد انخفضت بصورة ملموسة). من الصراع العسكري ولأن المنافسة العالمية تتخذ بالأساس شكلا عسكريا، فان قانون القيمة يعبر عن نفسه من خلال نقيضه أي السعي وراء القيم الاستعمالية.
واردات وصادرات الاتحاد السوفيتي بالأسعار الجارية(32)
| الصادرات | الواردات | الإجمالي | |
| (بملايين الروبلات) | |||
| 1913 | 4ر6596 | 5ر6022 | 9ر12618 |
| 1924 | 1ر1476 | 8ر1138 | 9ر2614 |
| 1928 | 9ر3518 | 6ر4174 | 5ر7693 |
| 1930 | 3ر4539 | 5ر4637 | 8ر9176 |
| 1937 | 6ر1728 | 3ر1341 | 9ر3069 |
هذه النقطة تحتاج لبعض الاستفاضة. فبقدر ما أن القيمة هي التعبير الوحيد عن الطابع الاجتماعي للعمل في مجتمع من المنتجين المستقلين، فان الرأسمالي يحاول أن يقوي نفسه ضد منافسيه بزيادة إجمالي القيم التي يمتلكها. وحيث أن القيمة يعبر عنها بالمال، فلا فارق لديه بين استثمار مليون جنيه مثلا في إنتاج الأحذية والحصول على ربح قدره 100,000 جنيه، أو في إنتاج السلاح والحصول على ربح قدره 100,000 جنيه. فطالما أن ما ينتجه له قيمة استعمالية ما، فانه ليس معنيا بنوع هذه القيمة الاستعمالية. ففي معادلة دوران رأس المال، نقود – سلعة – نقود
(ن1 – س – ن2)، تظهر س فقط كجسر بين ن1 و ن2 (حيث تكون ن2، إذا سار كل شيء على ما يرام بالنسبة للرأسمالي، اكبر من ن1).
إذا كانت روسيا تتاجر بشكل موسع مع البلاد خارج إمبراطوريتها، فإنها كانت ستحاول إنتاج سلع يكون لها سعر مرتفع في السوق العالمي، وشراء السلع الأرخص من الخارج، هكذا فإنها كانت ستسعى، مثل الرأسمالي الخاص، لزيادة مجموع القيم تحت تصرفها بإنتاج هذه القيمة الاستعمالية أو تلك، بغض النظر عن طبيعة القيمة الاستعمالية. (هذا العامل له تأثير كبير على تجارة روسيا مع توابعها). (33)
ولكن بما أن المنافسة مع البلاد الأخرى هي منافسة عسكرية في المقام الأول، فان الدولة كمستهلك تكون معنية ببعض القيم الاستعمالية المحددة، مثل الدبابات والطائرات وما إلى ذلك. القيمة هي التعبير عن المنافسة بين المنتجين المستقلين، وتنافس روسيا مع بقية العالم يتم التعبير عنه من خلال رفع القيم الاستعمالية إلى مرتبة الغاية، تخدم الغاية النهائية المتمثلة في الانتصار في المنافسة. فعلى الرغم من كونها غاية، تظل القيم الاستعمالية وسيلة.
تحدث عملية مشابهة في البلدان الرأسمالية التقليدية أيضا، وان يكن بطريقة أقل وضوحا. فليس هناك فارق بالنسبة لصانع السلاح الفرد بين استثمار رأس ماله في إنتاج المدافع أو الزبد، مادام يحقق ربحا. إلا أن الدولة التي ينتمي إليها معنية بشدة بالقيمة الاستعمالية لمنتجاته. فعلاقاته مع الدولة هي علاقات البائع والمشتري، حيث يكون الأول معنيا فقط بالقيمة، والأخير بالقيمة الاستعمالية. ولكن علاقات التبادل هذه هي في الواقع صورية فقط. فالدولة لا تقدم سلعة أخرى في مقابل السلاح إنها تدفع ثمنه من الضرائب والقروض المفروضة على الاقتصاد كله. (بعبارة أخرى يوزع عبء التسلح على الاقتصاد ككل بدرجة أو بأخرى، ويصبح هذا واضحا كل الوضوح عندما تقوم الدولة بإنتاج الأسلحة بنفسها، بدلا من جمع الضرائب والحصول على القروض لشرائها من الشركات الخاصة).
إن شعار ” المدافع قبل الزبد” يعني أن المنافسة بين القوى الرأسمالية قد وصلت المرحلة التي يحدث فيها خللا في تقسيم العمل العالمي، ويتم استبدال المنافسة من خلال الشراء والبيع بالمنافسة العسكرية المباشرة. لقد أصبحت القيم الاستعمالية هدف الإنتاج الرأسمالي.
يقدم الفارق بين التقدم التقني في الحرب وفي السلام دليلا إضافيا على هذا. في اقتصاد الحرب لا يوجد فعليا حدود للسوق، كما لا توجد حاجة لخفض نفقات الإنتاج لصالح المنافسة التجارية. فالحاجة الساحقة تكون زيادة كمية السلع المتوفرة. ومن هنا أدخلت أثناء الحرب العالمية الثانية تحسينات تقنية كانت الاحتكارات والكارتلات تعارضها وقت السلم. كون أن الاقتصاد الروسي موجه نحو إنتاج قيم استعمالية معينة لا يجعله اقتصادا اشتراكيا، على الرغم من أن الأخير كان أيضا سيكون موجها نحو إنتاج قيم استعمالية (مختلفة جدا). بل على العكس، انهما نقيضان كاملان. فمعدل الاستغلال المتزايد، الإخضاع المتزايد للعمال لوسائل الإنتاج في روسيا مصحوبين بإنتاج هائل للمدافع وليس للزبد، يسفر عن تكثيف وليس تقليل اضطهاد الشعب.
هكذا، فعندما ينظر إلى الهيكل الاقتصادي الروسي في إطار الوضع التاريخي القائم اليوم – السوق العالمي الفوضوي – فان قانون القيمة يظهر بوصفه المنظم المتحكم في هذا الهيكل.
هل يمكن قيام نظام رأسمالية دولة عالمي؟
إذا سيطرت هيئة واحدة على الإنتاج العالمي كله، أي إذا كان بوسع البيروقراطية الستالينية أن توحد العالم تحت حكمها، وإذا أجبرت الجماهير على القبول بنظام كهذا، فان الاقتصاد الناتج عن ذلك سيكون نظاما للاستغلال غير خاضع لقانون القيمة وكل ما يستتبعه. في دراسته للمشكلة – في شكل افتراض بالطبع في ذلك الوقت (عام 1915) – توصل بوخارين إلى نفس هذا الاستنتاج. ففي كتابه الاقتصاد العالمي والإمبريالية. يشرح بوخارين أنه إذا نظمت الدولة الوطنية الاقتصاد الوطني، فان الإنتاج السلعي سيبقى “في السوق العالمي في المقام الأول”، وسيكون الاقتصاد، بالتالي، اقتصاد رأسمالية دولة. ولكن إذا حدث “تنظيم الاقتصاد العالمي كله كاتحاد احتكاري دولاتي عملاق واحد، (وهو ما لم يكن بوخارين يعتقد بإمكانية حدوثه)، “فإننا سنكون أمام شكل اقتصادي جديد ومتفرد تماما. ولن يكون هذا الشكل رأسماليا، لأن إنتاج السلع سيكون قد اختفى، ولكنه لن يكون اشتراكيا أيضا، حيث أن سيطرة طبقة على أخرى ستكون مستمرة (وربما تكون قد أصبحت أقوى). هيكلا اقتصاديا كهذا سيشبه في أغلب الأحوال اقتصاد العبد – السيد، مع غياب سوق العبيد “. (34)
(بسبب الصراعات الوطنية والاجتماعية، فانه من المشكوك فيه جدا أن تتواجد مثل هذه الإمبراطورية العالمية).
نظرية الأزمة الرأسمالية لماركس
من المستحيل في إطار هذا الكتاب أن نتناول بشكل واف تحليل ماركس لأزمة الإنتاج الزائد في النظام الرأسمالي. لابد لنا أن نقتصر على تلخيص موجز.
بخلاف جميع أشكال الإنتاج “قبل الرأسمالية” تضطر الرأسمالية لتجميع المزيد والمزيد من رأس المال. ولكن هذه العملية يعوقها عاملان متكاملان، وان كانا متناقضين، يبرزان من داخل النظام نفسه، أحدهما هو انخفاض معدل الربح، الذي يعني تقلص مصادر التراكم الإضافي، والآخر هو زيادة الإنتاج بما يفوق القدرة الاستيعابية للسوق. لولا التناقض الأول لكان حل الأزمة المسمى بحل “نظرية تدني الاستهلاك” – زيادة أجور العمال” – حلا بسيطا وممتازا. ولولا التناقض الثاني لكانت الفاشية قد استطاعت من خلال التخفيض المستمر للأجور، أن نتجنب الأزمة لفترة طويلة على الأقل.
في تناوله للشق الثاني لمعضلة الرأسمالية، القوة الشرائية المنخفضة للجماهير، كتب ماركس:
إن مجموع السلع كله، الناتج الإجمالي – والذي يحتوي على قسم يعيد إنتاج رأس المال الثابت والمتغير بالإضافة إلى قسم يمثل فائض القيمة – ينبغي أن يباع. إذا لم يحدث هذا، أو تحقق جزئيا فقط، أو بأسعار أقل من أسعار الإنتاج، فان هذا يعني أن العامل قد تم استغلاله، إلا أن استغلاله لم يحقق نفس المقدار للرأسمالي، قد لا يدر هذا الاستغلال أي فائض قيمة على الإطلاق للرأسمالي، أو قد يحقق جزءا فقط من فائض القيمة المنتج، بل وقد يعني خسارة جزئية أو كاملة لرأسماله. لا يوجد تطابق بين ظروف الاستغلال المباشر وظروف تحقيق فائض القيمة. انهما منفصلان منطقيا فضلا عن الانفصال الزماني والمكاني. فالأولى لا تتحدد إلا بواسطة القوة الإنتاجية للمجتمع. أما الأخيرة، فتتحدد بواسطة العلاقات التناسبية لمختلف فروع الإنتاج والقوة الاستهلاكية للمجتمع. وهذه القوة المذكورة أخيرا لا تتحدد بواسطة القوة الإنتاجية المطلقة ولا القوة الاستهلاكية المطلقة، وإنما بواسطة القوة الاستهلاكية القائمة على علاقات التوزيع العدائية والتي تقلل استهلاك الغالبية العظمى من السكان إلى حد أدنى متغير داخل حدود ضيقة بقدر أو بآخر. وفضلا عن ذلك، تتقيد القوة الاستهلاكية عن طريق الميل لتجميع رأس المال، والنهم لتوسيع رأس المال وإنتاج فائض قيمة على نطاق واسع. (35)
كما يضيف:
القوة الإنتاجية الهائلة التي تنمو في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي بالمقارنة بالسكان، والزيادة، وان لم تكن بنفس النسبة، في القيم الرأسمالية (ليس مضمونها المادي)، والتي نمت أسرع كثيرا من السكان، تناقض الأساس الذي يتضاءل بشكل متزايد بالمقارنة بالثروة المتنامية. والذي تعمل هذه القوة الإنتاجية الضخمة لأجله، كما تناقض الظروف التي يرفع رأس المال من قيمته في ظلها. هذا هو سبب الأزمة. (36)
وفي موضع آخر عبر عن نفس الفكرة بهذه الكلمات:
السبب الأخير لكل الأزمات الحقيقية يظل دائما فقر الجماهير واستهلاكها المقيد بالمقارنة بميل الإنتاج الرأسمالي لتنمية القوى الإنتاجية بحيث لا يحدها سوى القوة الاستهلاكية المطلقة للمجتمع كله(37)
في التحليل الأخير، سبب الأزمة الرأسمالية هو أن جزءا متزايدا باستمرار من دخل المجتمع يتركز في أيدي الطبقة الرأسمالية، وأن جزءا متزايدا من هذا الدخل يوجه ليس نحو شراء وسائل الاستهلاك، وإنما وسائل الإنتاج، أي انه يوجه نحو تراكم رأس المال. ولكن، حيث أن جميع وسائل الإنتاج هي وسائل استهلاك -أي بعد فترة زمنية معينة تتجسد قيمة وسائل الإنتاج في وسائل الاستهلاك- فان الزيادة النسبية في ذلك الجزء من الدخل القومي الموجه للتراكم بالمقارنة بالجزء الموجه للاستهلاك، لابد أن تؤدي إلى الإنتاج الزائد. وهذه عملية تراكمية، فالزيادة في التراكم تصحبها العقلنة، التي تسفر عن معدل متزايد للاستغلال. وكلما ازداد معدل الاستغلال، كلما كبر المصدر الذي يستمد منه التراكم، بالمقارنة بأجور العمال ودخل الرأسمالي. التراكم يولد التراكم.
إذا كان “فقر الجماهير واستهلاكها المحدود” هو السبب الوحيد للأزمة الرأسمالية، فان الأزمة ستكون دائمة، لان أجور العمال، بصفة عامة، دائما ما تتخلف عن زيادة إنتاجية العمل. وفي هذه الحالة، لم نكن سنعرف المعادلة المأساوية الآنية للعناصر المختلفة، وإنما كساد دائم.
ولكن هناك الشق الآخر للمعضلة، انخفاض معدل الربح. إن عملية تراكم رأس المال يصحبها ارتفاع في التركيب العضوي لرأس المال، أي إحلال للعمل الميت (المتجسد في الماكينات، الخ…) محل العمل الحي. ولما كان الأخير ينتج فائض القيمة في حين أن الأول لا يفعل، فان هناك ميلا ثابتا لانخفاض معدل الربح. وهذا الانخفاض بدوره يجعل المنافسة بين الرأسماليين أكثر حدة، حيث يتعين على كل واحد أن يحاول زيادة أرباحه الإجمالية على حساب منافسيه. المنافسة تؤدي إلى الترشيد، وبالتالي إلى زيادة أكبر دائما في التركيب العضوي لرأس المال. ولا يوجد مهرب من هذه الحلقة المفرغة.
وهذا الميل ليس في ذاته سبب دورة الصحوة، الانتعاش، الأزمة، الركود. يشرح ماركس أن الانخفاض في معدل الربح هو عملية بطيئة جدا،(38) تخضع للعديد من القوى المعوقة لها. ومع ذلك فإنها تمثل خلفية الدورة الاقتصادية. الأسباب المباشرة للدورة هي التغيرات في معدل الأجور الناتجة عن التغيرات في الطلب على قوة العمل التي تصاحب عملية التراكم. حول انخفاض معدل الربح، كتب ماركس: “انه يعزز الإنتاج الزائد، والمضاربة، والأزمات، وفائض رأس المال بالإضافة إلى فائض السكان”. (39) “تصبح العقبة أمام نمط الإنتاج الرأسمالي واضحة… من حيث أن تطور القوة الإنتاجية للعمل يخلق، في صورة معدل الربح المائل للانخفاض، قانونا يتحول إلى عدو لنمط الإنتاج هذا عند نقطة معينة، وهو عدو تتطلب هزيمته أزمات دورية”. (40)
وحول الارتفاع في مستوى الأجور في أعقاب توظيف متزايد أثناء فترة انتعاش، أعلن أنه إذا قيل “إن الطبقة العاملة تحصل على نصيب منخفض جدا من إنتاجها، وانه من الممكن معالجة الخلل بإعطائها نصيبا أكبر منه، أو زيادة أجور العمال، فعلينا أن نرد بأن الأزمات دائما ما تسبقها فترة ترتفع فيها الأجور عموما وتحصل فيها الطبقة العاملة فعليا على نصيب أكبر من الناتج السنوي المقرر للاستهلاك”.(41)
وحول الصلة بين دورة التجارة، ومعدل الربح، ومستوى الأجور، ومقدار التوظيف، عندما يكون هذا العامل الأخير ذا أهمية حاسمة حيث يشير نهاية الانتعاش وبداية الأزمة، كتب ماركس:
يعتمد شكل حركة الصناعة الحديثة، إذن، على التحول الثابت لجزء من السكان العاملين إلى أيدي عاطلة أو نصف عاملة… وكما أن الأجسام السماوية، متى دفعت إلى حركة محددة معينة، تظل تكرر هذه الحركة دائما، فالأمر كذلك مع الإنتاج الاجتماعي عندما يدفع إلى هذه الحركة من التوسع والانكماش المتناوبين. النتائج، بدورها، تصبح أسبابا، والحوادث المتفاوتة للعملية كلها، والتي تعيد دائما إنتاج شروطها، تتخذ شكل الدورية”. (42)
وفقا لتحليله، فإن معدل الربح يحدد معدل التراكم، ومعدل التراكم يحدد مقدار التوظيف، ومقدار التوظيف يحدد مستوى الأجور، ومستوى الأجور يحدد معدل الربح، وهكذا في حلقة مفرغة. فمعدل ربح مرتفع يعني تراكما سريعا، وبالتالي زيادة في التشغيل وارتفاع في الأجور. وتستمر هذه العملية إلى الحد الذي يؤثر عنده ارتفاع معدل الأجور سلبا على معدل الربح، بحيث ينخفض التراكم بشكل مأساوي أو يتوقف تماما.
إن دورة معدل الربح ودورة التراكم ودورة التوظيف هي دورة حياة رأس المال الثابت (أي الماكينات والمباني.. الخ.):
بمقدار ما أن حجم قيمة وأمد رأس المال الثابت ينموان مع تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، فان حياة الصناعة ورأس المال الصناعي تنمو أيضا مع كل استثمار معين إلى حياة من سنوات عديدة، قل عشر سنوات في المتوسط. وإذا كان نمو رأس المال الثابت يطيل هذه الحياة من ناحية، فأنها من ناحية أخرى تقصر بسبب الثورة المستمرة لأدوات الإنتاج، التي تزيد كذلك بلا انقطاع مع نمو الإنتاج الرأسمالي. يعني هذا تغيرا في أدوات الإنتاج وضرورة استبدالها المستمر على أساس الاستعمال والتداول، وذلك قبل وقت طويل من بلائها من الناحية المادية. يستطيع المرء أن يفترض أن دورة الحياة هذه، في الفروع الأساسية للصناعة الكبيرة، تبلغ حاليا عشر سنوات في المتوسط. ومع ذلك، فان المسألة هنا ليست أي عدد محدد. فمن الواضح على الأقل أن هذه الدورة التي تستغرق عددا من السنوات، ويضطر رأس المال من خلالها لتجاوز الجزء الثابت منه، توفر أساسا ماديا للأزمات التجارية الدورية حيث تمر الأعمال بفترات متتالية من النشاط والنشاط المتوسط، والسرعة الزائدة، والأزمة. صحيح أن الفترات التي يستثمر فيها رأس المال تختلف في الزمان والمكان. ولكن الأزمة هي دائما نقطة البداية لمقدار كبير من الاستثمارات الجديدة. وبالتالي فأنها أيضا تشكل، من وجهة نظر المجتمع، أساسا ماديا جديدا بقدر أو بآخر لدورة دوران رأس المال القادمة. (43)
تفسر هذه النظرية كيف أنه، على الرغم من نمط التوزيع العدائي وميل معدل الربح للانخفاض، فلا توجد مع ذلك أزمة إنتاج زائد دائمة، وإنما حركة دورية للاقتصاد. فأثناء الفترة التي يتعرض خلالها رأس المال الثابت للتجديد والإضافة، لا يؤدي إدخال وسائل إنتاج جديدة مباشرة إلى عرض إضافي للسلع النهائية. ولكن بعد فترة، ربما بضع سنوات، تبدأ قيمة وسائل الإنتاج الجديدة في التجسد في منتجات جديدة، في شكل وسائل إنتاج ووسائل استهلاك معا. يحدث هذا بدون استثمار أي رأسمال، أو باستثمار مقدار ضئيل نسبيا من رأس المال، في ذلك الوقت، وبكلمات أخرى، فلبضع سنوات تكون الاستثمارات في بناء صناعات جديدة أو توسيع الصناعات القائمة كبيرة جدا بالمقارنة بالزيادة في إنتاج السلع الاستهلاكية. هذه هي سنوات الانتعاش، ويتلوها فترة يتوسع فيها بشكل ملحوظ إنتاج السلع النهائية، في نفس الوقت تقريبا الذي يحدث فيه انخفاض في معدل التراكم. هذا هو أوج الانتعاش وتباشير الأزمة القادمة. ثم تأتي الأزمة: ينخفض الإنتاج بشكل مأساوي في حين يتوقف الاستثمار أو حتى يتحول استثمار بالسالب.
هناك عامل آخر يجب بحثه في هذا الصدد؛ عدم التناسب بين الصناعات المختلفة. قد يكون هذا النتيجة المباشرة للطابع الفوضوي للإنتاج الرأسمالي. قد يبالغ الرأسماليون في إحدى الصناعات في تقدير الطلب على منتجات هذه الصناعة وبالتالي يبالغون في توسيع قدرتها الإنتاجية. وحيث أن هناك العديد من الرأسماليين، فان الرأسمالي لا يعي أن العرض قد زاد على الطلب إلا بعد إنتاج السلع، ومن خلال السوق، يؤدي هذا إلى هبوط في الأسعار، وانخفاض الأرباح، وتقييد وانخفاض الطلب على قوة العمل، والمواد الخام والماكينات المنتجة بواسطة المصانع الأخرى، وهكذا. وهذا الانكماش لا يعوضه بالضرورة توسع الإنتاج في صناعات أخرى بل على العكس، قد يؤدي انكماش الإنتاج في صناعة واحدة إلى نتائج مماثلة في صناعات أخرى تعتمد عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. إذا كانت الصناعة التي تعاني من الإنتاج الزائد صناعة هامة، فان أزمة عامة قد تنتج عن ذلك. “لكي تصبح الأزمة (وبالتالي أيضا الإنتاج الزائد) عامة، فيكفي أن تلحق بالمواد الأساسية للتجارة” (44)
في هذه الحالة، يكون عدم التناسب بين الصناعات المختلفة سبب الانخفاض في معدل الربح وانخفاض استهلاك الجماهير، وتؤدي هذه العوامل الثلاثة مجتمعة للأزمة.
ولكن عدم التناسب بين الصناعات المختلفة قد يكون نتيجة الانخفاض في معدل الربح أو قلة استهلاك الجماهير كما أنه، بدوره، سببهما. فإذا حدث أنه على أساس معدل ربح معين كان هناك معدل تراكم معين، فان معدل الربح يحدد الطلب على وسائل الإنتاج ويؤدي إلى علاقة معينة بين الطلب على السلع الإنتاجية والاستهلاكية. الانخفاض في معدل الربح، بتسببه في هبوط معدل التراكم، يغير فوريا نمط الطلب، وبالتالي يخل بتوازن الطلب على نوعي الإنتاج. توجد علاقة مماثلة بين انخفاض استهلاك الجماهير والتناسب أو عدم التناسب بين مختلف الصناعات. “القوة الاستهلاكية للمجتمع”، و “تناسب مختلف فروع الإنتاج” – ليسا على الإطلاق أمرين فرديين مستقلين غير متصلين. على العكس، إن حالة معينة للاستهلاك لهي أحد عناصر التناسب”. (45)
إن أحد أعراض عدم التناسب بين الصناعات المختلفة هو التغير في العلاقة بين إنتاج المواد الخام والطلب عليها. بصفة عامة في بداية الصحوة يزيد عرض المواد الخام عن الطلب عليها، وتكون الأسعار بالتالي منخفضة. ومع تزايد النشاط الاقتصادي، ترتفع هذه الأسعار وبالتالي تزداد تكلفة الإنتاج، مما يؤثر سلبا على معدل الربح. (46) أثناء الانتعاش، عادة ما ترتفع أسعار المواد الخام أكثر من أسعار السلع النهائية، وأثناء الأزمة تهبط بشكل أكثر حده: السبب في هذا هو أن عرض المواد الخام أقل مرونة بكثير من عرض السلع النهائية.
و مؤشر آخر لعدم التناسب نفسه، والذي يعتبر نتيجة وليس سببا في الدورة الاقتصادية ولكن، مع ذلك، له تأثير انعكاسي هام، هو معدل الفائدة. فرجال الأعمال الرأسماليون لا يحصلون على كل فائض القيمة المنتج من مشروعاتهم، وإنما فقط ما يتبقى بعد خصم الإيجار والضرائب والفائدة. في بداية صحوة تجارية، توجد عادة زيادة في الائتمان عن الطلب عليه. وبالتالي يكون معدل الفائدة منخفضا، وهذا بدوره يؤدي لتنشيط الانتعاش. وأثناء الرخاء يظل معدل الفائدة منخفضا حتى وقت قصير قبل نهاية الانتعاش عندما يرتفع بحدة، إلى أن يصل إلى حده الأقصى مع بداية الأزمة. وبعد ذلك يهبط معدل الفائدة بشكل حاد. (47) هكذا، ففي حين أن منحنى معدل الربح العام ومنحنى الدورة الاقتصادية ككل يتطابقان على وجه التقريب، فان منحنى معدل الفائدة يظهر تعرجات أكبر كثيرا تتقاطع مع منحنى الدورة الاقتصادية. فالتغيرات في معدل الفائدة تدفع الصحوة للأمام بسرعة أكثر جموحا على الدوام من ناحية، ومن ناحية أخرى تغرق النظام الاقتصادي في أزمات أكثر عمقا على الدوام.
الائتمان وفر للرأسمالية إمكانية النمو بسرعة إيقاع غير مسبوقة، ولكنه أيضا يزيد عدم استقرار النظام. انه يعمي الصناعيين عن الحالة الحقيقية للسوق، بحيث يظلون يوسعون الإنتاج إلى أبعد من المدى الذي كانوا سيتوقفون عنده لو كانت كل المدفوعات تتم نقدا. إن هذا يؤجل بداية الأزمة، ولكن فقط لكي يجعلها أكثر خطورة.
هناك عامل إضافي يساهم في بداية الأزمة وهو وجود سلسلة من الوسطاء بين رأس المال الصناعي والمستهلكين. فبسبب نشاطهم، يمكن للإنتاج، داخل حدود معينة، أن يزيد دون حدوث زيادة موازية في بيع المنتجات للمستهلكين. تبقى المنتجات غير المباعة مخزونة في أيدي التجار، مما يجعل الأزمة، عندما تأتي، أشد قسوة. هذه هي، باختصار، نظرية الأزمة الرأسمالية لماركس.
رأسمالية الدولة والأزمة – طرح المشكلة:
من الواضح أن بعض أسباب أزمات الإنتاج الزائد في الرأسمالية التقليدية ما كانت لتوجد في نظام رأسمالية الدولة. فعلى سبيل المثال، الوسطاء ليس فقط ما كانوا ليوجدوا في ظل رأسمالية الدولة ولكن حتى في المشروع الفردي يمكن التخلص منهم من خلال بيع صاحب المصنع لمنتجه مباشرة للمستهلك عن طريق الشبكة التجارية الخاصة به. كذلك، فأن الائتمان سيتوقف عن أن يكون عاملا إذا كانت كل المدفوعات تتم نقدا. أيضا في ظل رأسمالية الدولة، لم يكن معدل الفائدة ليسهم في التذبذبات في سرعة إيقاع الإنتاج. فحيث أن الدولة تملك كل رأس المال، فان استخدام الائتمان لن يكون مختلفا عن استخدام كل رأسمالي لرأسماله. كما أن عدم التناسب بين فروع الاقتصاد المختلفة لم يكن ليعمل كالسبب الأول للازمة. ورغم أنه يمكن حدوث سوء حساب في الاستثمار، ويمكن لعرض منتج معين أن يتجاوز الطلب، فكون أن الدولة تخطط الإنتاج والطلب يجعل أي احتمال لحدوث عدم تناسب خطير أمرا مستحيلا. إضافة إلى ذلك، بما أن الدولة تملك كل الصناعات، فلن تحدث العملية التراكمية بسبب انتشار انخفاض الأسعار وتدني معدل الربح من صناعة لأخرى، وإنما سينتشر أثر الإنتاج الزائد الجزئي مباشرة عبر الاقتصاد كله. وعندما تبدأ دورة الإنتاج التالية سيتم تخفيض إنتاج بعض السلع واستعادة التوازن.
إلا أن الصحيح هو أن هذه العوامل ستتوقف عن أن تكون ذات تأثير فقط إذا كان اقتصاد رأسمالية الدولة مكتفي ذاتيا. أما إذا كان ينتج للسوق العالمي، ويحصل على ائتمان من البلاد الأخرى، الخ. فان هذه العوامل سيكون لها إذن تأثير معين.
ولكن ماذا عن المأزق الأساسي الذي يواجه الرأسمالية التقليدية؟ كيف يمكن تحقيق معدل ربح عالي مع تحقيق فائض قيمة؟ كيف يمكن إنجاز مهمة تراكم رأس المال بسرعة دون إضعاف السوق الذي يحتاج إليه؟ في مرحلة معينة من الدورة – الانتعاش – تحل الرأسمالية التقليدية المشكلة مؤقتا: فمعدل الربح المرتفع يؤدي إلى تراكم سريع، أي زيادة كبيرة في إنتاج وسائل الإنتاج بالمقارنة بإنتاج وسائل الاستهلاك. ومن ثم فان جزءا كبيرا من فائض القيمة يمكن تحقيقه في صناعات وسائل الإنتاج، أي داخل نظام الإنتاج نفسه. (إن هذا وحده يكفي لتفسير لماذا لا يسبب انخفاض استهلاك الجماهير أزمة دائمة – ولا يعوق التوسع في الإنتاج في ظل الرأسمالية.) لو استطاعت الرأسمالية تحويل الانتعاش من مرحلة مؤقتة إلى حالة دائمة، لما وجد الإنتاج الزائد. هل تستطيع رأسمالية الدولة أن تفعل هذا؟ هل تستطيع أن تضمن معدل ربح عالي ومعدل تراكم عالي، ومستوى إنتاج عالي، في نفس الوقت الذي تحتفظ فيه بطريقة التوزيع العدائية، “فقر الجماهير واستهلاكها المحدود”؟
بوخارين حول الأزمة في رأسمالية الدولة
كان بوخارين هو الاقتصادي الماركسي الوحيد الذي تناول المشكلة النظرية لأزمة الإنتاج الزائد في اقتصاد رأسمالية الدولة. في مناقشته لنظرية التراكم لروزا لكسمبورج، يطرح بوخارين، ضمن مشكلات أخرى، كيفية حدوث إعادة الإنتاج على نطاق واسع في ظل رأسمالية الدولة (يعرف بوخارين رأسمالية الدولة بهذه الكلمات: الطبقة الرأسمالية متحدة في اتحاد احتكاري واحد، اقتصاد منظم ولكنه في الوقت نفسه، من وجهة نظر الطبقات، عدائي)(48) ويناقش ما إذا كان سيكون هناك أزمة إنتاج زائد فيكتب كما يلي:
هل التراكم ممكن هنا؟ طبعا. إن رأس المال الثابت ينمو، ما دام استهلاك الرأسماليين ينمو. يتم دائما إقامة فروع إنتاج جديدة، تقابل الحاجات الجديدة، كما ينمو استهلاك العمال، رغم أن قيودا محددة تفرض عليه. ورغم انخفاض استهلاك الجماهير، فان الأزمات لا تنشأ، حيث أن طلب فروع الإنتاج المختلفة لمنتجات كل منها بالإضافة إلى طلب المستهلكين، رأسماليين وعمال، يحدد مسبقا. (بدلا من الفوضى في الإنتاج، يوجد ما يعد، من وجهة نظر رأس المال، خطة عقلانية.) إذا وقع خطأ في السلع الإنتاجية، يضاف الفائض إلى المستودع ويحدث تصحيح مقابل في فترة الإنتاج التالية. إذا وقع خطأ في سلع استهلاك العمال، يمكن توزيع الفائض بين العمال أو تدميره. وأيضا في حالة وقوع خطأ في إنتاج السلع الترفيهية، فان المخرج واضح. ومن ثم لا يمكن أن توجد أزمة إنتاج زائد عامة من أي نوع. إن استهلاك الرأسماليين هو القوة المحركة للإنتاج ولخطة الإنتاج. وبالتالي فالموجود في هذه الحالة ليس نموا سريعا بشكل خاص للإنتاج (هناك عدد ضئيل من الرأسماليين.)
كلمات بوخارين “في هذه الحالة ليس نموا سريعا بشكل خاص للإنتاج” قد تكون خادعة. فالإنتاج لن يكون فقط “ليس سريعا بشكل خاص” وإنما سيبطئ بالمقارنة بالقدرة الإنتاجية الهائلة للاقتصاد الرأسمالي الحر: سيكون هناك ركود فعلي.
من المهم أن نلاحظ أن ماركس ربط بين الركود أو “حالة البيات” وانخفاض عدد الرأسماليين إلى مجرد حفنة في العالم كله. وقد كتب أن معدل الربح، أي الإضافة النسبية لرأس المال، هو قبل كل شيء مهم لكل السلالات الجديدة لرأس المال الباحثة عن مكان مستقل. وبمجرد سقوط تكوين رأس المال في أيدي عدد قليل من رؤوس الأموال الضخمة ذات المركز الوطيد، والتي تعوضها ضخامة الأرباح عن الخسارة التي تحدث من خلال انخفاض معدل الربح، فان نار حيوية الإنتاج اليومية ستنطفئ وستتدهور إلى حالة البيات.(50)
“حل” توجان – بارانوفسكي
ألا يمكن وجود نمط إنتاج رأسمالي بمستوى إنتاج عالي ومتنامي باستمرار إلى جانب نمط التوزيع العدائي الحالي؟
سيكون من الممكن بناء نموذج على الأسس التالية. كل ارتفاع في إنتاجية العمل سيكون مصحوبا بارتفاع مماثل في إنتاج وسائل الإنتاج، في حين أن إنتاج وسائل الاستهلاك لن يتخطى معدل نمو السكان واستهلاك الطبقة الرأسمالية. ومع تغير التقنية سيتم تحويل العمال ورأس المال من إنتاج وسائل الاستهلاك إلى إنتاج وسائل الإنتاج: سيكون عدد أكبر من الناس ومقدار أكبر من رأس المال منشغلا في إنتاج الماكينات من أجل إنتاج الماكينات، من أجل إنتاج الماكينات، وهكذا، في حين أن إنتاج وسائل الاستهلاك لن يزيد تناسبيا مع القدرة الإنتاجية للمجتمع. سيصبح الإنتاج غير مباشر أكثر فأكثر، وبذلك سيكون السوق الذي تنتج له الرأسمالية في داخلها. ومع الحفاظ على العلاقة السليمة بين قطاعي الصناعة، فانه لن توجد أزمة إنتاج زائد مهما كان مستوى انخفاض القوى الشرائية للجماهير.
كانت هذه حجة ميخائيل توجان – بارانوفسكي، وهو اقتصادي روسي غير ماركسي. لقد كتب:
تثبت الأفكار المقتبسة أعلاه مبدءا يمكن أن يواجه باعتراضات إذا لم يفهم العملية جيدا، ألا وهو أن الإنتاج الرأسمالي يخلق سوقا لنفسه. طالما أنه من الممكن توسيع الإنتاج الاجتماعي – إذا كانت القوى الإنتاجية كافية لذلك – فان التقسيم المتناسب للإنتاج الاجتماعي ينبغي أن يسفر كذلك عن توسع موازي في الطلب، حيث أنه في ظل مثل هذه الظروف، تمثل كل سلعة منتجة حديثا قوة شرائية مخلوقة حديثا، للحصول على سلع أخرى. ومن خلال مقارنة إعادة الإنتاج البسيطة لرأس المال الاجتماعي بإعادة إنتاجه على نطاق أوسع، فان أهم استنتاج يمكن استنباطه هو أن الطلب على السلع في الاقتصاد الرأسمالي هو بمعنى ما مستقل عن الحجم الإجمالي للاستهلاك الاجتماعي: من الممكن أن ينخفض الحجم الإجمالي للاستهلاك الاجتماعي وينمو إجمالي الطلب الاجتماعي على السلع في نفس الوقت، مهما بدا ذلك عبثيا بالنسبة لـ ” الفهم العام”. (51)
يمكن فقط لمعدل غير متناسب لتوسع قطاعي الصناعة أن يسبب أزمة. “.00 إذا كان توسع الإنتاج غير محدود عمليا، إذن فعلينا أن نفترض أن توسع الأسواق غير محدود بالمثل، ذلك أنه لو كان الإنتاج الاجتماعي موزعا بشكل متناسـب، فانه لا يوجد حد لتوسع السوق إلا القوى الإنتاجية المتاحة للمجتمع”.(52)
يتم التعبير عن التقدم التقني من خلال ازدياد أهمية وسيلة العمل، الماكينة، أكثر فأكثر بالمقارنة بالعمل الحي.. العامل نفسه. تلعب وسائل الإنتاج دورا متزايدا باستمرار في عملية الإنتاج وفي سوق السلع. وبالمقارنة بالماكينة، يتراجع العامل إلى الخلف أكثر فأكثر، ويتراجع أيضا بالتالي الطلب الناتج عن استهلاك العمال بالمقارنة بالطلب الناتج عن الاستهلاك الإنتاجي لوسائل الإنتاج. وتتخذ جميع آليات الاقتصاد الرأسمالي طابع الآلية القائمة من أجل ذاتها، والتي يبدو الاستهلاك الإنساني فيها كلحظة بسيطة في عملية إعادة إنتاج ودوران رؤوس الأموال. (53)
في كتاب آخر أنزل توجان – بارانوفسكي فكرته إلى مستوى العبث:
إذا اختفى جميع العمال وبقى واحد فقط، وتم استبدالهم بالماكينات، فان هذا العامل الوحيد سيحرك كتلة الماكينات الضخمة كلها، وسينتج بمساعدتها ماكينات جديدة – بالإضافة إلى السلع الاستهلاكية للرأسماليين. ستختفي الطبقة العاملة، وهو أمر لن يصيب عملية التوسع الذاتي لرأس المال بأدنى اضطراب. ولن يحصل الرأسماليون على مقدار أقل من السلع الاستهلاكية، فالناتج الإجمالي لكل سنة سيتحقق، ويستعمل بواسطة إنتاج واستهلاك الرأسماليين في السنة التالية. وحتى إذا رغب الرأسماليون في الحد من استهلاكهم، فان هذا لن يشكل أية صعوبة، في هذه الحالة يتوقف جزئيا إنتاج السلع الاستهلاكية للرأسماليين، ويتكون جزء أكبر من الناتج الاجتماعي من وسائل الإنتاج، التي تخدم غرض التوسع الإضافي للإنتاج، فعلى سبيل المثال، يتم إنتاج حديد وفحم يستخدمان دائما في توسع إنتاج الحديد والفحم. يستخدم الإنتاج المتزايد من الحديد والفحم في كل سنة تالية الكتلة المتزايدة من المنتجات التي وفرتها السنة السابقة حتى يتم استنفاذ عرض المعادن الضرورية”. (54)
من الواضح، كما يلاحظ توجان بارانوفسكي نفسه، أن النقطة الأساسية في تحليله ليست هي “الافتراض العشوائي تماما وغير الواقعي القائل بأن استبدال العمل اليدوي بالماكينات يؤدي إلى انخفاض مطلق في عدد العمال… وإنما هي أطروحة إن الانخفاض في الاستهلاك الاجتماعي غير قادر على أن يسفر عن إنتاج زائد، بشرط وجود توزيع متناسب للإنتاج الاجتماعي”. (55)
يستحيل تطبيق حل توجان بارانوفسكي، في ظل الرأسمالية الفردية، بسبب اعتماد كل من قطاعي الاقتصاد على الآخر، وبسبب التبادل غير المنظم فيما بينهما.
في ظل الرأسمالية يتم إنتاج كل من القيم الاستعمالية والقيم. وغرض الأول هو تلبية الحاجات الإنسانية، بغض النظر عن شكل الاقتصاد، ولكن غرض الأخير (إنتاج القيم) هو التراكم – وذلك، كما عبر ماركس، من أجل “غزو عالم الثروة الاجتماعية، وزيادة عدد الأشخاص الذين يستغلهم الرأسمالي”. (56)
على الرغم من أن الرأسمالي قد يعتبر أن القيمة الاستعمالية فقط هي حاملة القيمة، وعلى الرغم من أنه قد يعتبر الاستهلاك وسيلة فقط وليس هدفا، إلاّ أن الوسيلة مع ذلك جوهرية، لأنه بدونها لا يمكن أن يتحقق الهدف. “الاستهلاك يولد الإنتاج بخلق الضرورة للإنتاج الجديد… لا حاجات، لا إنتاج، ولكن الاستهلاك يعيد إنتاج الحاجة”. (57)
إن اعتماد التراكم على الاستهلاك يعني أن قطاع الاقتصاد المنتج للسلع الرأسمالية يعتمد على القطاع المنتج لوسائل الاستهلاك. في ظل الرأسمالية الفردية، يتم تحقيق هذه العلاقة دون تخطيط واعي. فإذا تجاوز عرض السلع الرأسمالية الطلب عليها بمقدار أكبر من تجاوز عرض السلع الاستهلاكية للطلب عليها، فان سعر الأولى سينخفض بالنسبة لسعر الأخيرة. وبالتالي ينخفض معدل الربح في الصناعات المنتجة لوسائل الإنتاج ويرتفع في الصناعات المنتجة لوسائل الاستهلاك. يؤدي هذا إلى هبوط التراكم في الأولى وزيادة معدل التراكم في القطاع الآخر من الاقتصاد. سيتحول رأس المال إذن من القطاع الأول إلى الثاني حتى يتم استعادة التوازن بين الاثنين.
تقتضي هذه العملية حرية في حركة أسعار السلع، وحرية في حركة رأس المال من قطاع لآخر، وارتفاع معدلات الأجور الناتجة عن العمالة المتزايدة في القطاع الأول التي تسبب أصلا زيادة في الطلب على منتجات صناعات السلع الاستهلاكية.
تجعل هذه العوامل تطبيق حل توجان بارانوفسكي مستحيلا في ظل الرأسمالية الفردية. ومع ذلك، فانه يحتوى، من وجهة نظر رأسمالية، على عنصر صائب. انه في الحقيقة امتداد لمرحلة الصحوة والانتعاش في الدورة الاقتصادية، وهي مرحلة يزداد خلالها التراكم أكثر من الاستهلاك، ويزداد إنتاج وسائل الإنتاج أسرع من إنتاج وسائل الاستهلاك، ولعدد من السنوات يمكن للتراكم أن يتجاوز كثيرا الاستهلاك دون الإخلال بتوازن الاقتصاد. إن هذه الحقيقة بالإضافة إلى كون الصلة بين دورات معدل الربح والتراكم والتوظيف هي معدل استهلاك رأس المال الثابت (الماكينة والمباني الخ.)، يشيران إلى أنه لو أمكن منع زيادة إنتاج السلع الاستهلاكية، في الوقت الذي يزيد فيه بانتظام إنتاج السلع الرأسمالية، فان الانتعاش قد يستمر لفترة أطول من المعتاد في الدورة العشرية. إن هذا جائز في ظل رأسمالية الدولة، لأن الدولة تملك كل رأسمال المجتمع، وتستطيع أن تتحكم في حركته بين قطاع وآخر.
تقضي رأسمالية الدولة على عامل آخر يسبب في ظل الرأسمالية الفردية التحول من الانتعاش إلى الأزمة، وهي بذلك تجعل حل توجان بارانوفسكي ممكنا لبعض الوقت. في ظل الرأسمالية الفردية، يؤدي معدل الربح المرتفع إلى تراكم سريع، ومستوى تشغيل مرتفع وأجور مرتفعة. تصل هذه العملية إلى نقطة تكون الأجور عندها عالية جدا، حتى أنها تؤدي إلى تآكل معدل الربح الذي يهبط بحدة، ساحبا معه إلى أسفل التراكم والتشغيل والأجور. وحيث أن العمال أحرار في المساومة حول بيع قوة عملهم، فان فائض السكان النسبي هو المحور الذي يعمل على أساسه قانون العرض والطلب. انه يحد مجال عمل هذا القانون داخل الحدود المناسبة تماما لنشاط الاستغلال ولسيطرة رأس المال. (58)
في ظل نظام رأسمالية دولة شمولي، حتى لو لم يوجد من الناحية العملية فائض في السكان، وحتى لو توفر التوظيف الكامل، فان الأجور يمكن أن تظل لفترة طويلة “في الحدود المريحة تماما لنشاط الاستغلال وهيمنة رأس المال “.
إن حل توجان بارانوفسكي إذن ممكن في ظل رأسمالية الدولة، إذا كانت متخلفة بالمقارنة بالرأسمالية العالمية، وإذا كانت وسائل الإنتاج نادرة، وإذا كانت بالتالي الحاجة الأساسية للاقتصاد هي إنتاج الماكينات من اجل إنتاج المزيد من الماكينات، وهكذا. ولكن عندما ينجح إنتاج الماكينات في رفع الاقتصاد إلى مستوى بقية العالم، فهل سيواجه نظام رأسمالية الدولة هذا بأزمة الإنتاج الزائد؟ لا يوجد سوى رد واحد على هذا السؤال، وهو الذي قدمه بوخارين، وهو أن الاقتصاد سيكون راكدا من الناحية العملية. لأول وهلة يبدو وصف بوخارين للعلاقة بين رأسمالية الدولة وأزمة الإنتاج الزائد على النقيض تماما من حل توجان بارانوفسكي. يتحدث توجان بارانوفسكي عن نظام رأسمالي فيه ارتفاع سريع جدا في الإنتاج والتراكم، أما بوخارين فيتحدث عن نظام يكون فيه الإنتاج والتراكم على نطاق ضيق جدا. يصف الأول التراكم بأنه يتزايد بمعزل عن الاستهلاك، ويصفه الأخير بأنه يلازم الاستهلاك ويعتمد عليه. ومع ذلك، فالنظريتان بينهما نقطة مشتركة: تشير الاثنتان إلى التناقض الجوهري في الرأسمالية بين التراكم والاستهلاك. يقترح الأول أن هذا التناقض يمكن حله بتحرير التراكم والإنتاج بالكامل من الاستهلاك، واقترح الأخير إمكان حله بإبطاء التراكم والإنتاج إلى سرعة الاستهلاك. يقول الأول أن زيادة الإنتاج يمكن أن تحدث باستفادة التراكم فقط من هذه الزيادة، ويذهب الأخير إلى أن التراكم السريع مستحيل وأن الإنتاج يجب بالتالي أن يبطئ. يعكس الأول الانتعاش في الدورة الرأسمالية، في حين يعكس الأخير الأزمة. ويترك الحلان العامل خاضعا لرأس المال.
إن حل توجان بارانوفسكي جائز في ظل نظام رأسمالية دولة في بلد متخلف. أما وصف بوخارين فينطبق على رأسمالية الدولة التي تصل إلى نقطة التشبع في وسائل الإنتاج. الأخيرة هي رأسمالية تعتبر في الواقع في أزمة دائمة رغم أنها تبدو خالية من الأزمات، ذلك، لأنه إذا كان الإنتاج لا يتجاوز الطلب، فان الإنتاج يتقيد بالطلب. والاثنان هما نتاج التناقض بين القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاج والتوزيع الرأسمالية. ولكن إلى جانب هذه الحلول هناك وسيلة أخرى تستطيع رأسمالية الدولة بفضلها أن تقضي على الأزمة، وهي اقتصاد الحرب.
إنتاج واستهلاك وسائل الدمار
وفقا لماركس، فان السمة المميزة لاستهلاك الرأسماليين هي أنه لا يشكل جزءا من عملية إعادة الإنتاج. يؤدي استهلاك وسائل الإنتاج (تآكل الماكينات الخ.) إلى خلق وسائل إنتاج جديدة أو وسائل استهلاك جديدة، كما يسفر استهلاك العمال عن إعادة إنتاج قوة العمل، إلا أن المنتجات التي يستهلكها الرأسماليون لا تسهم أبدا في دورة الإنتاج الجديدة، ولكن مع ذلك، هناك شكل للاستهلاك يتسم بأنه، رغم امتلاكه لهذه السمة نفسها، يعتبر وسيلة للحصول على رأسمال جديد وإمكانيات جديدة للتراكم، “وسيلة لغزو عالم الثروة الاجتماعية وزيادة عدد الأشخاص المستغلين”. وهذا الشكل الاستهلاكي هو إنتاج الحرب.
مثل أزمة الإنتاج الزائد، فان اقتصاد الحرب، في حين أنه جزء لا يتجزأ من الرأسمالية، إلاّ أنه يتخلص من العقبات التي تواجه نمط الإنتاج الرأسمالي، والموجودة داخل النظام ذاته. وفضلا عن ذلك، تؤدي الحرب الرأسمالية ليس فقط لوقف التراكم وتدمير رأس المال على نطاق واسع بما يكفي لكي يبدأ التراكم من جديد، ولكن أيضا بقدر من الدمار يخلق نزعة نحو النفي الكامل للرأسمالية والعودة للبربرية.
على الرغم من التشابهات الظاهرية، إلا أن اقتصاد الحرب والاقتصاد الاشتراكي يعتبران قطبان متضادان. ففي اقتصاد الحرب، كما في الاقتصاد الاشتراكي، تسيطر الدولة على الاقتصاد، وتخطط الإنتاج والتوزيع. في اقتصاد الحـرب، كـما فـي الاقتصاد الاشتراكي، يتم تحقيق أقصى مستوى للإنتاج. ولكن إذا كانت علاقات التوزيع عدائية، وإذا كان التراكم الهائل في الماضي يعيق التراكم الجديد، فان الحد الأقصى من الإنتاج يكون ممكنا فقط إذا لم يتم تبادل جزء كبير من المنتجات، أي إذا تم إنتاجه ليس كقيم ولكن كقيم استعمالية. في الاقتصاد الاشتراكي، الهدف من الإنتاج هو خلق قيم استعمالية، والهدف الأساسي لاقتصاد الحرب أيضا هو إنتاج قيم استعمالية. ولكن في مجتمع اشتراكي، القيم الاستعمالية هي تلك التي يحتاجها الشعب، في حين أنها في اقتصاد الحرب مدافع ومعدات عسكرية وذخيرة – قيم استعمالية معادية لمصالح الشعب. واقتصاد الحرب يكون بالضرورة مصحوبا لا بأزمة إنتاج زائد، وإنما بأزمة نقص إنتاج، لأن الطلب على السلع يتجاوز القدرة الإنتاجية للاقتصاد. ودائما ما يصحب التضخم سواء كان على نطاق واسع أو ضيق، أزمة نقص الإنتاج.
إن الدور الذي تلعبه الاستعدادات الحربية والحرب في رأسمالية الدولة الروسية هو أنها لم تضطر بعد لمواجهة حل بوخارين. وبما أن الاقتصاد موجه ليس لإنتاج وسائل الدمار وإنما وسائل الإنتاج من اجل إنتاج وسائل الإنتاج وهكذا، فإنها تتبع حل توجان بارانوفسكي. وفي كل الأحوال، يقل إنتاج وسائل الاستهلاك كثيرا عن إنتاج كل من مواد الحرب والسلع الرأسمالية.
وبالنظر إلى الوضع العالمي الراهن، يبدو أن حل اقتصاد الحرب هو الحيلة الوحيدة للبيروقراطية الروسية إلى أن يحين الوقت الذي ستقضي فيه الاشتراكية أو البربرية على الحاجة إلى إيجاد حل، حل للتناقضات الملازمة للرأسمالية – سواء كانت رأسمالية تقليدية أو رأسمالية دولة.
الفصل الثامن: التوسع الإمبريالي لروسيا
لقد وجدت الإمبراطوريات قبل المرحلة الاحتكارية للرأسمالية، بل وقبل الرأسمالية ذاتها، إلا أن إمبريالية كل فترة تختلف من حيث دوافعها ونتائجها، وبالتالي فان استخدام كلمة واحدة، الإمبريالية، لوصف الظواهر المختلفة قد يؤدي إلى التشويش أكثر منه إلى الوضوح. استخدم لينين هذا المصطلح للمرحلة العليا للرأسمالية، للرأسمالية في حالة الانحطاط عندما تكون الثورة البروليتارية على جدول أعمال اليوم. ولكن حتى إمبراطوريات هذه الفترة الواحدة لها طبيعة مختلفة جدا. يقول زينوفييف في مقالته ‘ما هي الإمبريالية؟’:
عندما نعرف الإمبريالية الحديثة – علينا أن لا ننسي أن هناك أصنافا مختلفة من الإمبريالية. تختلف الإمبريالية البريطانية عن الإمبريالية الألمانية، الخ. هناك إمبريالية أوروبية، وإمبريالية آسيوية، وإمبريالية أمريكية، هناك إمبريالية بيضاء وإمبريالية صفراء. الإمبريالية اليابانية لا تشبه الصنف الفرنسي، الإمبريالية الروسية هي من صنف متميز تماما، لأنها إمبريالية متخلفة(لم يعد من الممكن أن نقول آسيوية)، تنمو على أساس تخلف مدهش (1)
إذا كانت السمة النموذجية للإمبريالية، كما يشرح لينين، هي البحث عن مجالات لتصدير رأس المال، في حين أن السمة النموذجية للرأسمالية الفتية كانت البحث عن أسواق، فانه يبدو من الخطأ أن نسمي روسيا القيصرية إمبريالية. ولكن جميع الماركسيين، بما فيهم لينين وتروتسكي، أسموها إمبريالية. وقد كانوا على صواب. ذلك أنه في سياق الاقتصاد العالمي والعلاقات القائمة بين روسيا القيصرية والبلاد المتقدمة جدا، وهذا هو معيار تعريفها، فان روسيا القيصرية كانت إمبريالية بالمعنى اللينيني.
يتضمن تعريف لينين للإمبريالية السمات الخمسة التالية:
يتطور تركيز الإنتاج ورأس المال إلى تلك المرحلة التي يخلق عندها احتكارات تلعب دورا حاسما في الحياة الاقتصادية.
اندماج رأس المال المصرفي مع رأس المال الصناعي، وخلق أوليجاركية مالية على أساس رأس المال المالي.
تصدير رأس المال – الذي أصبح شديد الأهمية، كما أصبح متميزا عن تصدير السلعة.
تكوين احتكارات رأسمالية عالمية تقتسم العالم فيما بينها.
اكتمال التقسيم الإقليمي للعالم كله بين القوى الرأسمالية الكبرى. (2)
رأسمالية الدولة تحمل بالتأكيد السمة الأولى، حيث أنها تتكون من احتكار عام مفرد تنفذه الدولة. أما فيما يتعلق بالسمة الثانية، فان اندماج رأس المال المصرفي والصناعي يصل للمرحلة العليا عندما تكون الدولة هي رأس المال الصناعي والمصرفي معا. وأما فيما يتعلق بالسمة الرابعة، فان المنافسة المتزايدة بين القوى الرأسمالية – وهو ما يظهر بصفة خاصة في ألمانيا واليابان -تدفع الدولة لاختراق الاحتكارات الرأسمالية العالمية. من الواضح أن الغزو الاقتصادي بواسطة احتكار رأسمالي عالمي هو أمر يكاد يكون مستبعدا تماما في حالة اقتصاد رأسمالية الدولة. (من الممكن بالطبع تفهم وجود بعض الامتيازات الأجنبية) تحتاج السمتان الثالثة والخامسة – علاقة رأسمالية الدولة الروسية بتصدير رأس المال، وبالتقسيم الإقليمي للعالم – لمزيد من الإفاضة.
نموذج الإمبريالية اليابانية
من بين جميع بلاد العالم ماعدا روسيا الستالينية، فإن تلك التي بلغت أعلى مركزة لرأس المال كانت اليابان. لقد قدر أن الزيباتسو (المنظمات الاحتكارية العائلية) “الأربعة الكبار ” سيطرت على 60% من رأس المال المستثمر في جميع شركات المساهمة اليابانية، وأن ميتسوى وحدها حازت 25% من الإجمالي. في عام 1938، استحوذت أكبر ستة (زيباتسو) معا على 57% من كل الأموال المودعة في البنوك وشركات الائتمان وشركات التأمين. (كان الرقم المقابل في عام 1929 هو 45%.)
(يعتبر هذا إشارة إلى أنه ليس من المستبعد نظريا أن يتم تركيز كل رأس المال الوطني في أيدي احتكاري واحد، وان لم يكن هناك أساس لافتراض أن هذا سيحدث عمليا.)
ومع ذلك، فعلى الرغم من أن تمركز راس المال في اليابان أعلى كثيرا منها في أي بلد رأسمالي آخر، باستثناء روسيا الستالينية، فان القوى الإنتاجية لليابان تتلكأ كثيرا وراء تلك الخاصة ببلاد الغرب. إن هذا الجمع بين رأسمال عالي التمركز والتخلف الكبير للبلد ككل، يفسر الطابع الخاص للإمبريالية اليابانية، أي تميزها عن الإمبرياليات الأخرى، كما يفسر تشابهها الكبير من نواحي كثيرة مع الإمبريالية الستالينية. يساعد إذن تناول الخطوط العريضة للسمات الخاصة للإمبريالية اليابانية على توضيح بعض أبعاد الإمبريالية الستالينية.
لقد توسع الإنتاج الصناعي لليابان بسرعة كبيرة خلال القرن الحالي. في السنوات من 1913 إلى 1928، كانت سرعة هذا التقدم ثلاثة أمثال تلك الخاصة ببريطانيا في السنوات ما بين 1860 -1913، أي أنهم في كل سنة كانوا ينتجون في المتوسط 6% أكثر من السنة السابقة. وبين عام 1927 و 1936 زاد الإنتاج الصناعي لليابان بما يقرب من 100% وكان بإمكان شومبيتر أن يجد مبررا يجعله يكتب ما يلي:
لم يعد ممكنا أن نذكر، كما فعل كاتب مدقق وحسن الإطلاع في عام 1930، أن اليابان لا يمكن أن تصبح أمة صناعية ذات أهمية كبرى، بسبب افتقاد الوقود والحديد، وهما ضروريان في السلم كما هما في الحرب. لقد أصبحت اليابان أمة صناعية كبرى، كان نمو الصناعات الثقيلة يمثل التطور المدهش للسنوات الأخيرة. قبل الكساد، كانت الصناعات المهيمنة هي النسيج وإعداد الطعام وصناعة الفخار والورق. كونت المعادن والمواد الكيميائية والماكينات والمنتجات الصناعية أقل من نصف القيمة الإجمالية للإنتاج الصناعي في عام 1935، 55% منه في عام 1937، وما يقرب من 61% عام 1938. ويعنى هذا أن اليابان كانت تقوم بإنتاج سفنها والكثير من طائراتها، إلا أنها كانت تستورد السيارات وقطع الغيار، لم تعد تعتمد على العالم الخارجي فيما يتعلق بجزء كبير من احتياجاتها من الصلب، والسماد، والسلاح، والذخيرة، والماكينات، إلا أنه ظل عليها أن تستورد جزءا كبيرا من المواد الخام المستخدمة في تصنيعها. ومنذ عام 1937، بذلت اليابان جهدا عظيما لتنمية المواد الخام في‘كتلة الين’ فضلا عن مواد الأقاليم المتاخمة في منطقة المحيط الهادي.(3)
وفي الفترة من عام 1920 إلى 1936 زاد إنتاج الحديد الخام أربعة أضعاف، وإنتاج الصلب ثمانية أضعاف، وقدرة محطات الكهرباء مقدرة بالكيلو وات خمسة أضعاف ونصف. حدثت الزيادة الأساسية في الإنتاج الصناعي في وسائل الإنتاج: ارتفعت قيمة إنتاج الصناعات الكيمائية والمعدنية وصناعة الماكينات من حوالي 2000 مليون ين في عام 1926 إلى أكثر من 9000 مليون في 1937، أي بزيادة تقدر بحوالي أربعة أضعاف ونصف، أما إنتاج جميع الصناعات الأخرى فقد زاد من حوالي 5150 مليون ين إلى 7420 مليون ين، أي بزيادة مقدارها 44%. وفي السنوات نفسها، ارتفعت الأسعار بمقدار 40%، بحيث نستطيع أن نستنتج أن إنتاج وسائل الإنتاج تضاعف حوالي ثلاث مرات، في حين ظل إنتاج وسائل الاستهلاك دون تغيير.
أثناء هذا الارتفاع السريع في الإنتاج الصناعي في اليابان، ونتيجة لتخلفها العام من ناحية وتركيز رأس المال العالي من ناحية أخرى، لم يظهر فائض من رأس المال، وظل معدل الربح مرتفعا. وكان المستوى شديد الانخفاض للأجور عاملا هاما آخر سمح بمعدل الربح العالي هذا.
كان متوسط الإيرادات في عامي 1936 و 1937 من 16 – 20% من رأس المال المدفوع، وبلغت الفوائد 8 – 9% في المتوسط.(4)
في ضوء هذا يكون من الخطأ القول بأن الإمبريالية اليابانية سعت وراء مجالات لاستثمار رأس المال لأنها واجهت فائض في سيولة راس المال ومعدل ربح منخفض في اليابان نفسها. ومع ذلك، فكون أن معدل الربح كان مرتفعا وأنها لم تعاني من وفرة في رأس المال، وإنما من افتقاده، فما هذا سوى التعبير عن تخلفها. لقد سبب هذا تطورا جدليا شيقا جدا: لقد دفعها تخلفها ذاته لتصدير رأس المال على نطاق واسع جدا، والاستيلاء على إمبراطورية هائلة. وبكلمات ستيرنبيرج:
عندما كونت بريطانيا العظمى وفرنسا إمبراطوريتيهما، فانهما كانتا بلدين صناعيين رائدين. لم يكن المقصود على الإطلاق من إمبراطوريتيهما تقوية مركزيهما الصناعيين. كانت اليابان في حالة مختلفة جدا. كان هدفها هو تحقيق معدل للتطور يكون من شأنه تخفيض الفجوة الصناعية بينها وبين البلاد الرأسمالية الأخرى، وان تصبح بنفس قوة هذه البلاد وأقوى منها إن أمكن.(5)
بعد الحرب العالمية الأولى، لم تزد الاستثمارات الأجنبية لجميع البلاد الأكثر تقدما، والتي كانت تعاني من ” فائض هائل في رأس المال، باستثناء الولايات المتحدة، إنما على العكس انخفضت. وحتى إذا لم نستثني الولايات المتحدة، فان الاستثمارات الأجنبية لهذه البلاد لم ترتفع عن مستوى عام 1914، كما يظهر من الجدول التالي: (6)
رأس المال المستثمر في الخارج (بالألف مليون فرنك على أساس معدلات ما قبل 1914)
| السنة | بواسطة بريطانيا العظمى | بواسطة فرنسا | بواسطة ألمانيا | الولايات المتحدة | المجموع |
| 1862 | 6ر3 | – | – | – | 6ر3 |
| 1872 | 15 | 10 (1869) | – | – | 25 |
| 1882 | 22 | 15 (1880) | – | – | 37 |
| 1893 | 42 | 20 (1890) | – | – | 62 |
| 1902 | 62 | 27-37 | 5ر12 | 6ر2 (1900) | 104-114 |
| 1914 | 75-100 | 60 | 44 | 9ر9 (1912) | 189-224 |
| 1930 | 94 | 31-40 | 9ر4 – 1ر6 | 81 | 211-220 |
| 1935 | 58 | – | – | 9ر41 | 130-140* |
* لقد قدرنا استثمارات فرنسا وألمانيا لعام 1935 بأنها من 30 – 40 مليار فرنك، وان لم يكن هذا دقيقا، فانه تقدير مبالغ فيه.
هكذا، ففي حين أن حجم رأس المال المستثمر في الخارج بواسطة البلاد الرأسمالية قد اتسع بشكل يكاد يكون غير متقطع بين 1860 و 1914، فمنذ عام 1914، عندما بلغت الإمبريالية النضج لم ترتفع كمية رأس المال المستثمر في الخارج أبدا فوق مستوى عام 1914، بل وانخفضت دونه.
وفي مقابل هذا، باشرت اليابان تصديرا هائلا لراس المال، خاصة لمنشوريا، مستعمرتها الهامة الوحيدة حتى الحرب الصينية – اليابانية
الاستثمارات اليابانية في منشوريا (بالمليون ين)(7)
| 1932 | 2ر97 | 1937 | 3ر348 |
| 1933 | 2ر151 | 1938 | 5ر439 |
| 1934 | 7ر271 | 1939 | 7ر1103 |
| 1935 | 6ر378 | 1940-1943. | ر2340 |
| 1936 | 0ر263 |
إن الخطة الخمسية لمنشوريا (1937-1941) تضمنت استثمارا يبلغ 2800 مليون ين، وهو ما ارتفع فيما بعد إلى 6000 مليون ين. كان هذا رقم مستحيل التحقيق بسبب افتقاد رأس المال وندرة العمل الماهر في اليابان. لقد بلغت الاستثمارات حوالي نصف المستهدف فقط خلال فترة تنفيذ الخطة. وعلى الرغم من ذلك فان هذا الاستثمار سبب زيادة كبيرة جدا في الإنتاج، مما يظهر في الجدول التالي: (8)
إنتاج بعض المنتجات في منشوريا
| السنة | الفحم بالمليون طن | الحديد بالمليون طن | الحديد الخام بالألف طن | الكهرباء بالمليون كيلووات ساعة |
| 1932 | 1ر7 | 7ر0 | 2ر368 | 593 |
| 1936 | 6ر13 | 3ر1 | 4ر633 | 1351 |
| 1940 | 0ر21 | – | 2ر1061 | 3250 |
| 1944 | 0ر30 | 3ر5 (1943) | 9ر1174 | – |
كانت صناعة الصلب تنتج أكثر من مليون طن سنويا، بعد سنوات قليلة من قيامها في عام 1935، كما أقيمت مصانع ماكينات أمدت الجزء الأكبر من معدات الصناعة المنشورية. وفي عام 1939، أقيمت صناعة سيارات كان مخططا لها أن توظف 100 ألف عامل. كما تم بناء مصنع طائرات كبير. وبدأ كذلك بناء السفن، كما تضاعفت شبكة السكك الحديدية لمنشوريا حوالي ثلاث مرات بين 1932 – 1943 وبذلك تجاوزت شبكة الصين بأسرها. لقد لاحظ ستيرنبيرج أن:
الظروف التاريخية المعينة التي تطورت فيها الإمبريالية اليابانية دفعتها لتشجيع ودفع تطور التصنيع في إمبراطوريتها، في حين أن ظروفا تاريخية أخرى دفعت الإمبرياليين الأوروبيين لمنع أو تأخير التطور الصناعي في إمبراطورياتهم. خلال السنوات العشر التي انقضت بين غزو اليابان لمنشوريا ودخولها الحرب العالمية الثانية(1931-1941) – عجلت اليابان التصنيع في منشوريا لدرجة أن الصناعة التي أقيمت هناك في عقد واحد كانت تساوي، أن لم تكن تفوق، تلك المقامة في الهند خلال قرن من الحكم الإمبريالي، وذلك رغم أن سكان منشوريا لا يزيدون عن حوالي 10% فقط من سكان الهند البريطانية.(9)
لم يترك تصنيع منشوريا للنشاط الأعمى لمختلف الشركات اليابانية، وإنما تم القيام به وفقا لخطة بواسطة شركات مختلطة للاحتكارات والدولة. لقد وجد أن مثل هذا التنظيم ضروري من أجل التصنيع السريع.
دافع توسع البيروقراطية الستالينية
إن امتيازات البيروقراطية الروسية، مثل امتيازات البرجوازية، مشروطة بالتقدم المستمر للتراكم. ولكن، وعلى النقيض من برجوازية الغرب، فان رأسمالية الدولة في روسيا في‘المرحلة التي يتحدث عنها توجان-بارانوفسكي’ لا تعاني من فائض في رأس المال، أي من القيود على فرص التراكم التي يسببها نمط التوزيع العدائي في البلاد الرأسمالية التقليدية، ولا من زيادة في الأجور يمكن أن تهدد معدل الربح. فيما يتعلق بهذه الأمور، فان رأسمالية الدولة الروسية أقرب إلى الإمبريالية اليابانية قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية منها إلى البلاد الإمبريالية الغربية. وبالنظر إلى أن الدولة في روسيا تمتلك كل وسائل الإنتاج تقريبا، فان التطور الصناعي لمناطقها المستعمرة، أي مناطق الأمم التي تضطهدها البيروقراطية الروسية، هو مباشرة جزء من التطور الصناعي العام لروسيا نفسها. لقد رأت الدولة اليابانية في منشوريا “امتدادا للوطن”. والدولة الستالينية تنظر إلى أوكرانيا والقوقاز ورومانيا وبلغاريا، الخ، بنفس الطريقة، وبسبب وضعها الاقتصادي الاحتكاري، فان تطويرها لهذه المناطق أكثر فاعلية الآن وفي المستقبل من تطوير الإمبريالية اليابانية لمنشوريا. وكما أن الإمبريالية اليابانية نظرت إلى تطوير منشوريا كخطوة ضرورية لعبور المسافة بينها وبين القوى الغربية المتقدمة، فان البيروقراطية الستالينية مدفوعة إلى سياسة إمبريالية لنفس السبب.
إن نفس التخلف النسبي، يدفع روسيا نحو إقامة صناعات في بلاد الأمم المضطهدة، كما يدفعها، وهذا هو الوجه الآخر لنفس العملة، لنهب رأس المال متى استطاعت أن تضع يدها عليه. قامت الإمبريالية اليابانية بالنهب على قطاع واسع في الصين. وفيما يتعلق بألمانيا: “في الأراضي المغتصبة، استولت الشركات الألمانية على أصول المؤسسات القائمة بحق الغزو، وليس من خلال النشاط الاقتصادي المعتاد”. (10)
نهبت روسيا الستالينية بلاد أوروبا الشرقية ومنشوريا. وقد فعلت هذا بنقل المصانع إلى روسيا، مثلها في ذلك مثل ألمانيا النازية، وبعقد اتفاقات مقايضة مع توابعها كانت مهلكة بالنسبة لهم. هكذا فان الرأسمالية الاحتكارية الممركزة لليابان وألمانيا ورأسمالية الدولة الروسية يظهران خاصية أخرى تتسم بها فترة التراكم الأولى لرأس المال – عدم إمكان التمييز بين التجارة والنهب. إذا كان الفريد مارشال قد استطاع أن يقول عن ذلك الوقت أن “الفضة والسكر نادرا ما جاءا إلى أوروبا بدون بقعة من الدم” فان نهب الممتلكات اليوم أكثر دموية بكثير، وما ينهب ليس هو الفضة أو السكر وإنما وسائل الإنتاج.
وهناك دافع إضافي للتوسع الإمبريالي الروسي، وهو افتقاد بعض المواد الخام. فعلى سبيل المثال، يلعب بترول الشرق الأوسط وشمال إيران دورا كبيرا في خطط البيروقراطية الستالينية، ويعود هذا بالأساس إلى التنفيذ المتأخر لعملية استخراج البترول في روسيا. هكذا، على سبيل المثال، فقد استهدفت الخطة الخمسية الثانية زيادة الإنتاج من 3ر23 مليون طن في 1932 إلى 5ر47 مليون طن في 1937. في الواقع لم يرتفع الإنتاج إلا إلى 5ر30 مليون طن. وفي عام 1940 لم يتجاوز ال 35 مليون طن، رغم أن الخطة استهدفت مستوى يزيد على الخمسين مليون طن.
ومع هذه الأخطاء في التقدير استهدفت الخطة الخمسية الرابعة هدفا أكثر تواضعا لعام 1950 – 4ر35 مليون طن. عند دراسة الخطة العامة لزيادة الإنتاج، يكون من الواضح أن البترول سوف يكون أحد أهم العوائق في روسيا. وحاولت البيروقراطية الستالينية التغلب على هذا العائق بالاستيلاء على رومانيا وشمال إيران (لم تنجح في الحالة الأخيرة.)
ويقف عامل آخر وراء توسع روسيا، وهو الحاجة لقوة عمل جديدة. في البلاد الأكثر تقدما نجد أن تصدير رأس المال هو رد فعل لارتفاع الأجور الذي يصيب معدل الربح بالتآكل، وهذا ما يوجهه نحو مناطق تكون فيها قوة العمل رخيصة، وبالتالي يزداد حجم العمل المستغل بواسطة نفس كمية رأس المال. لقد تحققت نفس النتيجة بطريقة مختلفة عندما جلبت ألمانيا النازية ملايين العمال من البلاد التي استولت عليها، خاصة من الشرق إلى ألمانيا. إلا أن أوروبا لا يوجد بها قوة عمل أرخص من تلك الخاصة بالعامل الروسي وخاصة، العامل المستعبد، حيث أن احتلال مناطق جديدة إلى روسيا لا يمكن أن يكون مدفوعا بالحاجة لإيجاد قوة عمل أرخص. ولكن هذا لا يعني أنه ليس مدفوعا بضرورة إيجاد كمية إضافية من قوة العمل. فعلى الرغم من أن كمية رأس المال بالنسبة للسكان ضئيلة جدا في روسيا، إلا أنها تعاني مع ذلك من نقص في قوة العمل. ويعود هذا لاستخدامها التبديدي لقوة العمل، والذي يسببه نقص رأس المال، بحيث أنه جنبا إلى جنب مع نقص رأس المال يظهر نقص قوة العمل: ومن ثم يأتي العمل العبودي والإنتاجية المنخفضة للعمل في الزراعة. إن كل عامل يعوق إنتاجية العمل – بما في ذلك البيروقراطية ذاتها – سيزيد من تبديد قوة العمل. هكذا، فعلى الرغم من العدد الهائل للسكان في روسيا، تجد الحكومة من الضروري أن تتخذ إجراءات خاصة لزيادة هذا العدد، إجراءات مثل منع الإجهاض، وفرض غرامات على العزاب، ومنح جوائز للعائلات التي لديها الكثير من الأطفال. تخلق إذن حلقة مفرغة: نقص رأس المال يسبب تبديدا لقوة العمل تجعل من الصعب حدوث تراكم لكميات كافية من رأس المال، وهكذا. إن إضافة مائة مليون شخص من بلاد أوروبا الشرقية إلى روسيا هو إذن دافع هام لتوسع الإمبريالية الروسية، يوازي تصدير رأس المال من البلاد الرأسمالية المتقدمة.
وبالطبع تمثل الاعتبارات الاستراتيجية دافعا آخر لتوسع روسـيا الستالينية.
سجل التوسع الإمبريالي – ابتلاع روسيا لأوروبا الشرقية
استغلت البلاد الإمبريالية التقليدية مستعمراتها بطرق ثلاثة: بشراء منتجات مستعمراتها بأسعار منخفضة، ببيع منتجات البلد الأم للمستعمرات بأسعار مرتفعة، وبإقامة مشروعات مملوكة لرأسمالية البلد الأم يعمل بها أبناء البلد المستعمرة. وتستخدم رأسمالية الدولة الروسية نفس الطرق الثلاث في استغلال مستعمراتها.
هناك إحصائيات عديدة تثبت أن روسيا تدفع أسعارا منخفضة مقابل المنتجات التي تشتريها من توابعها. ولنعطي بعض الأمثلة: نص الاتفاق الروسي – البولندي، بتاريخ 16 أغسطس 1945، على أنه بدءا من عام 1946 فصاعدا، يتعين على بولندا أن تقدم لروسيا بسعر خاص(2 دولار للطن) الكميات الآتية من الفحم: 1946- 8 مليون طن، من 1947 إلى 1950 – 13 مليون طن في كل سنة، وبعد ذلك 12 مليون طن سنويا، طالما استمر احتلال ألمانيا. ولا يدفع ثمن هذا الفحم عن طريق منتجات روسية، وإنما بالتعويضات التي تأخذها روسيا من ألمانيا – حسب ما هو معلوم، لم تحصل بولندا على أي شيء من هذا. وعلى أي حال، فان 12 – 13 مليون طن من الفحم بسعر دولارين للطن، عندما يكون سعر الفحم في السوق العالمي 12 – 15 دولارا للطن، يعني ربحا صافيا لروسيا مقداره 10 – 14 دولار في الطن، أو ما مجموعه 120 إلى 180 مليون دولار سنويا (وهو مبلغ يمكن مقارنته بالأرباح السنوية القصوى للرأسماليين البريطانيين من استثماراتهم في الهند). تكتب الجريدة اليومية اليوغسلافية “بوربا” في 31 مارس 1949 أن طن المولبيد نوم، وهو مكون أساسي للصلب، والذي يكلف يوغسلافيا 500 ألف دينار لإنتاجه، قد بيع للاتحاد السوفيتي أثناء فترة شهر العسل بين ستالين وتيتو بمبلغ 45 ألف دينار. وكان على شركات باتا سابقا بتشيكوسلوفاكيا أن تمد روسيا بأحذية(قدمت روسيا الجلد اللازم لها) مقابل 170 كرونة تشيكية، رغم أن سعر التكلفة الفعلي للزوج كان 300 كرونة. كان التبغ البلغاري يمثل حالة صارخة بشكل خاص للاستغلال الرأسمالي: ففي حين أن روسيا كانت تشتريه بنصف دولار فأنها كانت تبيعه مرة أخرى في أوروبا الغربية مقابل 5ر1 إلى 2 دولار. (11)
ما ينطبق على علاقات روسيا التجارية مع توابعها الأوروبية، ينطبق بالمثل على علاقاتها التجارية مع الصين. فشعر الخنزير والزيت الصيني، اللذان يكونان نسبة كبيرة من الصادرات الصينية، يعرضان حاليا في أسواق أوروبا الغربية بأسعار أقل منها في شانغهاي وتيتنسـن، موانئ الصادرات الأساسية لهذه الصادرات. إن روسيا هي الوكيل الوحيد الذي يبيع المنتجات الصينية في الأسواق الغربية، وكون أنها تستطيع بيعها بأسعار أقل من تلك السائدة في الصين نفسها – ولا شك أن روسيا تحقق ربحا من الصفقة – فان هذا يشير بوضوح إلى أنها تدفع أسعار منخفضة بشكل استثنائي مقابل تلك المنتجات. وهذا يفسر جزئيا الجهود التي تبذلها بكين لإقامة علاقات تجارية مباشرة مع الغرب، بما يلغي دور الوسيط الروسي.
يكفي هذا فيما يتعلق بالشراء بأسعار منخفضة. أما فيما يخص تقاضي مبالغ أكثر مما ينبغي من التوابع مقابل المنتجات الروسية، فسنورد الأمثلة الصارخة الآتية: تتقاضى روسيا من الصين مقابل منتجاتها أسعارا أعلى بكثير من تلك التي يتقاضاها البائعون الرأسماليون الغربيون في هونج كونج المجاورة. هكذا، على سبيل المثال، فان شاحنة سوفيتية من طراز زيس تزن أربعة أطنان قد بيعت في تينتسن بواسطة روسيا مقابل سعر يعادل 50 ألف دولار هونج كونجي، في حين أن شاحنة غربية مماثلة تزن ستة أطنان تباع في هونج كونج مقابل 15 ألف دولار هونج كونجي. كما أن السكرين التشيكي، المستورد عن طريق روسيا يباع في تنتش بسعر يعادل 40ر106 دولار هونج كونجي للرطل، في حين أن السـكرين الألماني من نفس النوعية يباع في هونج كونج بـ 5ر6 دولار هونج كونجـي. (12)
يظهر وضع المشروعات المملوكة لروسيا في أوروبا الشرقية بشكل صارخ إلى أقصى حد الوسيلة الثالثة للاستغلال الرأسمالي التي تنتهجها روسيا: استغلال “أبناء البلد” المشتغلين في مشروعات مملوكة للرأسمال الأجنبي. في منطقة الاحتلال الروسي لألمانيا، اتخذت الدولة الروسية حوالي ثلث إجمالي الصناعة كممتلكات لها بجرة قلم، تتمثل الملكية فيما يسمى “شركات المساهمة السوفيتية”(الساجات). (SAGs “المترجم”). إن أهمية الساجات عظيمة جدا. فهي تمتلك كل المشروعات الكبيرة تقريبا. في عام 1950 كانت كل ساج تشغل 2400 عامل في المتوسط، في مقابل 139 – 146 في الليبات (LEBs “المترجم”) -المشروعات المملوكة لما يسمى جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وحوالي 10 في الصناعات الخاصة. وستكون أهمية الساجات أكثر وضوحا إذا أخذنا في الاعتبار أنها تسيطر على الصناعات الثقيلة بالكامل. في الساجات، ينتج العمال الألمان فائض قيمة تأخذه البيروقراطية الروسية. في رومانيا والمجر وبلغاريا توجـد شركـات مشتركة، تمتلك روسيا 50% منها وتسيطر عليها بالكامل. على سبيل المثال، تسيطر إحدى تلك الشركات على أغنى حقول بترول رومانيا، وتسيطر شركات أخرى على الصلب والهندسة ومناجم الفحم، والشحن البحري، والاتصالات الهوائية، وألواح الخشب، والإنتاج الكيميائي، وإنتاج الجرارات، وصناعة مواد البناء، واستغلال رواسب الغاز الطبيعي والبنوك، وشركات التأمين، الخ – مما يكون في المجموع أكثر كثيرا من نصف الصناعات والنقل والبنوك والتأمين في رومانيا. توجد شركات مشتركة في المجر وبلغاريا أيضا، إلا أنها تقل كثيرا في أهميتها. أخذ نصف أرباح الشركات المشتركة، في حين أن كل العمال من “أبناء البلد” – أليست هذه حالة واضحة للاستغلال الاستعماري؟
إضفاء صفات الكمال على الإمبراطورية القيصرية
ليس بوسع البيروقراطية الستالينية إلا أن تعطي استحسانها لروادها في البناء الإمبراطوري- الإمبريالية القيصرية. على مدى أجيال، اعتبر الاشتراكيون والديمقراطيون الروس، روسيا القيصرية ‘سجنا للشعوب’ كما اعتبروا الاضطهاد الإمبريالي القيصري للبولنديين والفنلنديين والليتوانيين والاستونيين، والاكرانيين، والجورجيين، والأرمن، والاوزبك، والكازاخ، وغيرهم، قوة ممعنة في الرجعية. ولكن روسيا الستالينية تعتقد غير ذلك.
هكذا فقد ذكرت مجلة روسية: “لقد كانت السياسة التوسعية لروسيا، الطريق الوحيد للتطور الاجتماعي الاقتصادي والثقافي وكذلك إنقاذ الوجود الوطني لشعوب القوقاز وما وراء القوقاز… كان لضم روسيا لهم وسيلتهم الوحيدة لإنقاذ أنفسهم، والحفاظ على ثقافاتهم القديمة، والتطور اقتصاديا وثقافيا”(13)
كتبت جريدة أخرى انه ابتداء من القرن السادس عشر، خاضت الملكيات الإقطاعية لتركيا وإيران صراعا طويلا وعنيدا للاستيلاء على عدة أقاليم في القوقاز. وحيث أنهم كانوا عاجزين بسبب طابعهم المشتت عن مقاومة الاعتداء الأجنبي، فان كثيرا من شعوب القوقاز “نشدوا الإنقاذ والشفاعة من الدولة الروسية، ولجأوا إليها طلبا للمساعدة والرعاية” (14) وأنه في منتصف القرن السادس عشر ناشد الأمراء الشراكسة(الكرباديين) ايفان الرابع أن يعطيهم الجنسية الروسية ويحميهم من غزوات ونهب تركيا وخادم تركيا، خان القرم. كما أنشأت شعوب ما وراء القوقاز روابط مع روسيا نحو نهاية القرن الخامس عشر، تقوت هذه الروابط بالتناسب مع زيادة الخطر العسكري الذي مثلته تركيا وإيران. ومن خلال أعمالهم ضد تركيا وإيران “كثيرا ما أنقذت القوات الروسية شعوب القوقاز من الخطر العسكري”. ما أجمله من تعبير!: القوات القيصرية التي احتلت القوقاز أنقذته من الخطر العسكري!
ذكرت مجلة أدبية روسية:
كان ضم روسيا لكازاخستان، الذي وقع في القرن الثامن عشر، ذا دلالة عميقة للتقدمية. كان هذا العمل التاريخي مشروطا بأسباب اقتصادية وسياسية، بالمجرى الكامل للتطور التاريخي لشعب الكازاخ، الذي عذبته الغزوات التي لا تنقطع من جانب دول الشرق المسلمة الإقطاعية. لقد خلق هذا العمل التاريخي الظروف المناسبة للتأثير العظيم للاقتصاد والثقافة الروسية في كازاخستان. لقد أتم شعب الكازاخ اختياره التاريخي بحكمة وسلامة. في ذلك الوقت، إلى جانب روسيا، كان يمكن للكازاخ أن يسقطوا في عبودية خانات آسيا الوسطى الذين تدعمهم بريطانيا. ففي ظل استعداده لانتهاج أية أساليب، زحف رأس المال البريطاني على أرض وموارد كازاخستان، سعيا وراء المكاسب الكبيرة.(15)
كما أضافت: “إن شعب كازاخستان العامل، من خلال خبرته اليومية، قد أدرك مزايا العيش في كنف دولة عظيمة مثل روسيا”. (16)
لقد اختار شعب الكازاخ أن تحتله روسيا القيصرية ! لقد فضلوا أن يكونوا “جزء من دولة عظيمة” ! أبرزت “برافدا” هذه النقطة: ” كان شعب الكازاخ العامل شديد الرغبة في ضم كازاخستان إلى روسيا”.(17)
تتبع الدعاية الروسية منذ وفاة ستالين نفس الخط. فقد أعطى هذا التفسير لاحتلال لاتفيا بواسطة روسيا القيصرية:
مضت عدة قرون منذ أن استقر أسلاف اللاتفيين على سواحل بحر البلطيق… خلال هذه القرون كلها، كان الروس جيرانا جيدين للاتفيين. إن غزو واستعباد البلطيق بواسطة الفرسان الألمان هو تاريخ مظلم مليء بالقتل والنهب والعنف بواسطة الغزاة الغربيين المتعطشين للدماء.. انو القبائل اللاتفية والاستونية المحبة للحرية لم تكن بالقوة الكافية للدفاع عن حريتها واستقلالها. ولكن قربهم من الروس وصداقتهم لهم مكنا أسلاف اللاتفيين من الدفاع عن أراضيهم ضد الاستعباد بنشدان المساعدة من الأمراء الروس.(18)
الصراع من أجل الحرية الوطنية – التيتوية
إن الأمم المضطهدة بواسطة الإمبريالية الروسية العظمى، أو المهددة مباشرة منها، يتمثل رد فعلها في صراع ذي كثافة متزايدة باستمرار من أجل الاستقلال الوطني، وهو صراع يحمل اسم “التيتوية” الذي تمت صياغته مؤخرا. الأوكرانيون هم أكبر الشعوب غير الروسية في الاتحاد السوفيتي من الناحية العددية.. لقد قمعت أمانيهم الوطنية باستمرار من خلال سلسلة من التطهيرات. في عام 1930، تم حل أكاديمية العلوم الأوكرانية وألقي القبض على أعضاء منها بسبب “انحرافات وطنية”. في عام 1933، انتحر سكرجنيك، أبرز زعماء الحزب الشيوعي الأوكراني وعضو لجنته المركزية ومكتبه السياسي، لكي يتجنب الاعتقال. وفي نفس الوقت، تم إعدام كل من كستوبينسكي، نائب رئيس مجلس قوميساري شعب أوكرانيا(حكومة أوكرانيا)، وكوفنار، قوميسار الزراعة، وعدد من كبار المسئولين رميا بالرصاص كوطنيين. ولمنع مزيد من الانحرافات، تم إرسال بوستيشيف إلى أوكرانيا من موسكو في عام 1933 لإعادة تنظيم الحزب – وإدارة الدولة. وقد تم إعطائه سلطات دكتاتورية في المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الأوكراني في عام 1933، قال:
في أوكرانيا، أبرز زعماء حزبنا والرفيق ستالين نفسه مكروهون بصفة خاصة. لقد ذهب العدو الطبقي إلى مدرسة جيدة في هذا البلد وتعلم كيف يناضل ضد الحكم السوفيتي. في أوكرانيا استقرت بقايا الكثير من الأحزاب والمنظمات المضادة للثورة. لقد أصبح خاركوف تدريجيا مركز الجاذبية لكافة أنواع المنظمات الوطنية والمنظمات الأخرى المضادة للثورة. لقد جذبوا جميعا إلى هذا المركز ونشروا شبكتهم على امتداد أوكرانيا، مستخدمين نظامنا الحزبي لصالح أحزابهم. إنكم تذكرون أيها الرفاق، عندما تجرأ عشرون من سكرتيري لجان المناطق الحزبية على إعلان استحالة تنفيذ خطة الحصاد.(19)
طرد بوستيشيف أكثر من ربع أعضاء الحزب الشيوعي الأوكراني. وقد عانى هو نفسه من مصير مماثل بعد ثلاث سنوات من ذلك، حيث طرد والقي القبض عليه. وقد حل محله كوسيور، من موسكو، والذي قبض عليه أيضا بدوره. في عام 1937، انتحر ليوبتشنكو، رئيس مجلس قوميساري الشعب في أوكرانيا، لكي يتجنب الاعتقال. وقد تمت تصفية القوميسارين بيتروفسكي وآيش. كما القي القبض على خليفة ليوبتشنكو بعد شهرين من تعيينه بسبب نزعات “وطنية”، وتمت تصفية خليفته بعد ذلك بشهور قليلة. في إبريل عام 1937، كان هناك ثلاثة عشر عضوا في المكتب السياسي الأوكراني، بحلول يونيو 1938، لم يبق أي من هؤلاء.
الجمهوريات الأخرى لها تاريخ مماثل. إن جولوديد، الذي كان رئيسا لمجلس قوميساري الشعب في جمهورية روسيا البيضاء لمدة عشر سنوات، قد القي القبض عليه باعتباره تروتسكيا في عام 1937. وبعد ذلك ببضعة شهور انتحر خليفته، شرفياكوف، تجنبا للاعتقال. وكان الأخير قد أمضى سبعة عشر عاما رئيسا للجنة التنفيذية المركزية لروسيا البيضاء (أي رئيسا للجمهورية). في طاجاكستان، ثم تطهير رئيس اللجنة التنفيذية بتهمة الوطنية في عام 1934. وقد شغل خليفته المنصب لثلاث سنوات ثم لقي نفس المصير.
فيما يلي قائمة قصيرة ببعض أبرز الأشخاص في الجمهوريات الوطنية الذين تمت تصفيتهم كـ(وطنيين) في تطهيرات الثلاثينيات الكبيرة:
| الرؤساء | الجمهورية | رؤساء الوزراء | الجمهورية |
| بيتروفسكي | أوكرانيا | ليوبتشكنو | أوكرانيا |
| شرفياكوف | روسيا البيضاء | بوندارنكو | أوكرانيا |
| كونج | فولجا الألمانية | شوبار | أوكرانيا |
| لوفت | فولجا الألمانية | جولوديد | روسيا البيضاء |
| جيليج | كارليان | ويلش | فولجا الألمانية |
| أركوبوف | كارليان | رخيمبايبف | طاجاكستان |
| خورزيباييف | طاجاكستان | رفينوف | طاجاكستان |
| شوتمور | طاجاكستان | مجالوبيشفيلي | جورجيا |
| ماكسوم | طاجاكستان | خودجاييف | أوزبكستان |
| دولجات | داجستان | عبدورجانوف | كيرجيستان |
| مسامورسكي | داجستان | أوفاكابلاشفيلي | ما وراء القوقاز |
| لوردكيبانيدز | أدجار |
لم يكن هؤلاء سوى قلة من الضحايا. في المجموع، شهد تطهير 1937 – 1938 الكبير تصفية كل أو أغلب أعضاء ثلاثين حكومة وطنية. كان الاتهام الأساسي ضدهم هو رغبتهم في الانفصال عن الاتحاد السوفيتي.
ولعل أقوى دليل على أن سياسية روسيا الوطنية لا تخلق علاقات متجانسة وأخوية بين الشعوب المختلفة، هو حل عدد من الجمهوريات الوطنية.
قبل سنة من الحرب، عندما كان هناك توتر بين روسيا واليابان على حدود منشوريا، تم نقل جميع السكان الكوريين على الجانب الروسي من الحدود إلى كازاخستان أو اوزبكستان.
في 28 أغسطس 1941 تم نقل جميع سكان جمهورية فولجا الألمانية إلى شرق الاورال. كانت الجمهورية الألمانية إحدى اقدم الجمهوريات الوطنية في روسيا. فمنذ تاريخ 18 أكتوبر 1918 تكونت كوميونة عمال فولجا الألمانية، وفي 19 ديسمبر 1923 أعيد تكوينها كجمهورية فولجا الألمانية الاشتراكية السوفيتية المستقلة. وقد كانت واحدة من أول الجمهوريات التي طبقت نظام المزارع الجماعية بشكل شبه كامل. قالت مجلة “المراسلة الصحفية الدولية”(مجلة الكومينترن) في 18 إبريل 1936: “إن الجمهورية السوفيتية الألمانية في الفولجا هي الدليل الحي على التقدم الثقافي والوطني الذي يلي انتصار الاشتراكية وتفنيد حي للأكاذيب والافتراءات التي يروجها الأعداء الفاشيون للبروليتاريا”.
قبل سنتين فقط من طردهم، ظهرت مقالة في “أنباء موسكو” تقول: “جمهورية فولجا الألمانية، هي مثال حي للسياسة القومية السوفيتية في التطبيق”. وبعد ذلك، وبعد أن كان ألمان فولجا قد امتدحوا لسنوات طويلة لتأييدهم الإجماعي للنظام، جاء مرسوم حل جمهوريتهم، تحت التفسير التالي:
وفقا لمعلومات موثوق بها حصلت عليها السلطات العسكرية، يوجد الآلاف وعشرات الآلاف من المحرفين والجواسيس بين سكان فولجا الألمان، ممن هم مستعدون لتنفيذ انفجارات في هذه المناطق بإشارة من ألمانيا. ولم يحدث أن ألمانا (من سكان مناطق فولجا) أخبروا السلطات السوفيتية عن وجود مثل تلك الأعداد الضخمة من المحرفين والجواسيس. إذن، فان سكان مناطق فولجا الألمان يتسترون على أعداء الشعب السوفيتي والسلطة السوفيتية.
في مناطق الاتحاد السوفيتي التي سبق احتلالها بواسطة الألمان، تم حل عدد من الجمهوريات. ووصل الأمر إلى أن إجراءات الحل هذه لم يرد لها ذكر في الصحافة، بحيث أنه عندما أعطت “برافدا”، في 17 أكتوبر 1945 قائمة الدوائر الانتخابية الخاصة بالانتخابات العامة التالية، اكتشف الناس أن عددا من الجمهوريات قد اختفت، منذ متى لا يستطيع المرء أن يعرف: ألغيت جمهوريات القرم التتارية ذات الحكم الذاتي وكالموك وشيشينو – اينجوش، ومنطقة كارتشيف ذات الحكم الذاتي، وتم إجلاء السكان غير الروس. وأصبحت جمهورية كاباردينيا بالكار ذات الحكم الذاتي جمهورية كاباردينيا بعد طرد البالكار.
في أوكرانيا، أعلن خروتشوف، رئيس الحكومة في أغسطس 1946، أن نصف الأشخاص القياديين في الحزب الأوكراني قد طردوا أثناء الشهور الثمانية عشر السابقة. انه من المبالغة، حتى بالنسبة للبيروقراطية الروسية العظيمة، طرد ثلاثين مليون أوكراني وحل “جمهوريتهم”.
بعد الحرب العالمية الثانية، امتد الصراع الوطني ضد الإمبريالية الروسية إلى المستعمرات الروسية التي كونت حديثا في أوروبا الشرقية. كان المثل الأكثر بروزا هو التمرد الناجح ليوغسلافيا ضد الكرملين. وكان للديمقراطيات الشعبية الأخرى في أوروبا أيضا حركات “تيتوية”، أي حركات مقاومة وطنية ضد الحكم الروسي، إلا أن هذه الحركات لم تنجح أساسا بسبب ضغط القوات الروسية. ولعل ما يثبت المدى الواسع لحركات المقاومة الوطنية هذه هو أن اغلب زعماء الأحزاب الشيوعية للديمقراطيات الشعبية قد اتهموا بالتيتوية من الكرملين. من بين الستة أشخاص الذين شغلوا منصب أمين عام الحزب عقب إنشاء “الديمقراطيات الشعبية” مباشرة، اتهم الأربعة الآتي ذكرهم بالتيتوية: تيتو، أمين عام الحزب الشيوعي اليوغسلافي، كوستوف، أمين عام الحزب البلغاري(اعدم)، جومولكا، أمين عام الحزب البولندي(قبض عليه)، اسلانسكي، أمين عام الحزب التشيكي(اعدم). ومن بين وزراء الخارجية الستة، اتهم الأربعة الآتي ذكرهم بنفس الجريمة: كارديلج اليوغسلافي، وانابوكر الروماني(قبض عليه)، وكليمنتز التشيكي(أعدم)، وراجك، المجري(اعدم). ويمكن للقائمة أن تطول. (20)
من المؤكد أن الصراع من أجل الاستقلال الوطني ضد الإمبريالية الروسية سيستمر طالما استمرت الإمبريالية الروسية وهو أحد العوامل الأكثر أهمية التي قد تحسم مصير النظام الستاليني.
الفصل التاسع: الصراع الطبقي في روسيا
من الخطأ الحديث عن مرحلة ستالينية
إن صعود البيروقراطية إلى مرتبة الطبقة الحاكمة، يوضح أن الرسالة التاريخية للبيروقراطية الستالينية، وهي إنجاز مرحلة الرأسمالية في روسيا، قد تم استنفادها على الصعيد العالمي، ولكن لم يتم استنفادها بعد على الصعيد الوطني. في نفس الوقت، فان البيروقراطية باعتمادها على التخطيط – وهو أحد عناصر “المجتمع الاشتراكي الغازي” الذي تطبقه لإنجاز رسالتها الرأسمالية لتراكم رأس المال – تجتاز المضمار التاريخي التقليدي، الذي استغرق برجوازية الغرب حوالي مئتي سنة لكي تقطعه، في بضعة عقود قليلة معتمدة على عناصر من مجتمع المستقبل لكي تعزز علاقات الماضي، فان البيروقراطية تقوض سريعا هذه العلاقات نفسها، وبذلك تعد إضافة جديدة عظيمة للثورة البروليتارية على أساس تاريخي أقوى كثيرا من عام 1917.
إن البيروقراطية وهى في سنواتها الأولى كطبقة حاكمة، قد تبنت بالفعل الخصائص الشمولية للرأسمالية المنحطة، الشائخة ؛ إنها تثبت فعلا طبيعتها كشذوذ تاريخي لا مستقبل له. تضطر البيروقراطية لشن حملة دعائية واسعة ضد البيروقراطيين، لتظهر كأنها المدافع عن العمال ضد البيروقراطية: لدى البيروقراطية شعور بالذنب، أنها مغتصب للسلطة يفتقد الشرعية التاريخية.
إن ملكية الدولة الرأسمالية تزيد من سخط الجماهير. فمنذ بداية تشكل البيروقراطية كطبقة، إذن، تسلط سيف ديموقليس فوق رأسها. ففي حين أن رأسمالي القرون من السادس عشر إلى التاسع عشر كان بإمكانه أن يتصور مستقبلا عظيما يكون هو فيه ممثلا لكل الإنسانية، إلا أن البيروقراطية الستالينية التي تنجز اليوم الوظيفة التاريخية لهذا الرأسمالي، لا تستطيع إلا أن تشعر بأن جذورها تستند على سلسلة مؤقتة وعابرة من الظروف الوطنية والعالمية، ومن هنا تأتي شموليتها.
يكشف الإرهاب البيروقراطي، الذي يطال البيروقراطيين أنفسهم، عن الوضع الشاذ لهذا الهجين. في الرأسمالية التقليدية، تضمن المنافسة بين الرأسماليين أن كل منهم سيكون على أعلى كفاءة ممكنة. أما في ظل الاقتصاد الاشتراكي، فأن أساس الكفاءة هو الوعي الاجتماعي الحريص على مصالح المجتمع، والعلاقات المتجانسة بين الناس. ولكن البيروقراطية الستالينية هي النتيجة والسبب في نفس الوقت لغياب التجانس بين الناس، والعداءات الطبقية والشخصية، للأنانية اللانهائية القائمة في روسيا. إن الحافز في الاقتصاد الاشتراكي القائم على التخطيط – سيطرة المنتجين لصالح المنتجين أنفسهم – لا يوجد إذن في روسيا، ولا يمكن أن يضمن كفاءة الإنتاج، ومن ناحية أخرى فان الارتباط المباشر بين كفاءة المشروع الواحد ودخل مديريه، وهو ارتباط موجود في ظل الرأسمالية الفردية، لا يوجد أيضا. لذا فأن الوسيلة الهامة الوحيدة لضمان الكفاءة المتبقية للدولة البيروقراطية هي الإرهاب الموجه ضد البيروقراطيين الأفراد. إن إرهاب البيروقراطية ضد البيروقراطيين له وظيفة أخرى إلى جانب ذلك، وكما كتب سيليجا:
ذكرتني هذه الطريقة الأصيلة لتهدئة غضب الشعب (التطهيرات الإرهابية) بتقرير ماركوبولو عن الإمبراطور المنغولي الذي كان يحكم بكين في ذلك الوقت. كان من المعتاد مرة كل عشرة أو خمس عشرة سنة أن يسلم للجماهير الوزير الذي يمقتونه اشد المقت، مما كان يتيح للإمبراطور اضطهاد شعبه بهدوء خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة التالية. ما رأيته في روسيا، كان يدفع بهذا الإمبراطور المنغولي بشكل متكرر إلى ذهني. (1)
وحيث أن الفجوة القائمة بين البيروقراطية الستالينية والجماهير أعمق كثيرا من أي فجوة وجدت في التاريخ بين الحكام والمحكومين، فانه لمن الأهمية القصوى للبيروقراطية أن تجد أكباش فداء.
وعلى الرغم من أن البيروقراطية قد ولدت بكل سمات الطبقة المنحطة، فانه سيكون من التبسيط الشديد أن نقول إن كل تقدم للقوى الإنتاجية، كل إضافة للطبقة العاملة ستقوض مباشرة وفورا وضع البيروقراطية. لا، الواقع أكثر تعقيدا من ذلك بكثير.
التأثير المباشر الأولي للتصنيع والتجميع على علاقات القوى بين البروليتاريا والبيروقراطية:
لقد زاد عدد العمال في روسيا سريعا جدا أثناء الخطة الخمسية الأولى. في عام 1928 كان عدد الأشخاص المشتغلين في الصناعات التحويلية واستخراج المعادن ثلاثة ملايين، وقد وصل في عام 1932 إلى ثمانية ملايين، بزيادة مقدارها 160%. هكذا فان الغالبية العظمى من الطبقة العاملة كانت عناصر خام جاءت حديثا من القرى، لم يتم تعليمها وتنظيمها بعد من خلال عملية الإنتاج الاجتماعي.
في نفس الوقت، فان التنمية الصناعية السريعة، والنقص الحاد الناتج عنها في التقنيين، والعمال المهرة، والموظفين، الخ، فتح أبواب البيروقراطية أمام الكثير من العمال القدامى، وبالطبع كلما ازداد العامل خبرة و ذكاء، كلما ازدادت فرصته في الصعود في التسلسل الهرمي.
هذان العاملان، إضعاف تركيبة الطبقة العاملة بإضافة عناصر خامة إليها وخروج العناصر الصلبة المقاتلة منها كانا عقبة خطيرة، أمام بروز حركة عمالية مستقلة قبل بضعة عقود في الظروف التاريخية المختلفة للولايات المتحدة الأمريكية. في روسيا، كانت الصعوبات أمام الحركة العمالية أثناء الخطط الخمسية أكبر كثيرا من تلك التي واجهتها الحركة العمالية الأمريكية. إلى جانب الضغط الرهيب للبوليس السري، وإنهاك الجماهير بعد سنوات كثيرة من الجهد فوق الإنساني، والحيرة الأيديولوجية التي تظهر كنتيجة وسبب في نفس الوقت لضعف الحركة العمالية الروسية في ذلك الوقت، هناك عامل إضافي: خلق البيروقراطية لشريحة من الصفوة بين المضطهدين. هذا هو أحد الأسلحة الأكثر كفاءة التي يمكن للمضطهد أن يستخدمها في اضطهاده للجماهير.
عندما قال نابليون أن حتى المدافع الثقيلة لا تستطيع أن تقف في وجه البطون الفارغة، لم يكن صائبا تماما. البطون الجائعة في ظل ظروف معينة تؤدي لا إلى التمرد وإنما إلى الخضوع. كان هذا هو الحال في السنوات الأولى للتصنيع الذي نفذته البيروقراطية الستالينية. وكما قال فيكتور سيرج:
ستؤدي سياستها (البيروقراطية) إلى بؤس عظيم، ولكن في ظل هذا البؤس تصبح اتفه المكاسب المادية ثمينة، سيكون كافيا إعطاء العامل طبقا من الشوربة يوفر الحد الأدنى من التغذية ومأوى يوفر الحد الأدنى للسكن في الشتاء، لكي يلحق نفسه بالمترفين وسط الحرمان العام… بتلك الطريقة ستتكون شريحة من البيروقراطيين التابعين في المشروعات، وفي خلايا الحزب، وفي القرى حيث ينتظر أن يؤدى نظام التجميع إلى تمييز جديد بين القادة والمقودين. وحول القادة سيدور العملاء المتشوقون للخدمة. سيعزز البؤس مركز أولئك الذين جلبوه.(2)
ضغط الآلة البوليسية الشمولية
لا يمكن للمرء أن يبالغ في تقدير الصعوبات التي تضعها الآلة البوليسية أمام التنظيم المستقل للعمال في روسيا. إن الطبقة العاملة مفتتة، وأية محاولة لبناء تنظيمات مستقلة من أي نوع أو للتعبير عن رغبات الجماهير تقمع بوحشية. يجبر العمال على الانضمام لمنظمات تقودها وتسيطر عليها الدولة وتغص بجواسيسها. إن الجمع بين الدعاية والإرهاب المصمم لضمان احتكار البيروقراطية للدعاية لا يضع حدودا للأكاذيب التي تنشرها، لاغتصاب روح الجماهير بدفعهم إلى المظاهرات الجماهيرية والاجتماعات العامة، وإجبارهم على الحط من أنفسهم والتغني بالمديح لمضطهديهم. كل هذه الأسلحة البيروقراطية تجعل العملية الجزئية لتنظيم وتعليم العمال عسيرة جدا. لدينا جميعا مؤشرات على أنه حتى البروليتاريا الألمانية الخبيرة والمثقفة كانت ستحتاج لسنوات عديدة، وربما عقود، لتحطيم الآلة النازية بقدرتها الذاتية، حتى في ساعات أكبر الهزائم العسكرية التي منيت بها ألمانيا النازية لم تحدث ثورة جماهيرية للعمال في الجبهة الداخلية.
(فيما يتعلق بهذا، لا يجب على المرء أن يهمل التأثير الهام للدعاية الشوفينية لايلياهرنبيرج في مساعدة النازيين على علاج الشروخ في حائط “الوحدة الوطنية الألمانية”.)
إن البروليتارية الروسية الخام التي جاءت غالبيتها العظمى من الريف من سنوات قليلة مضت، والتي لم يعرف سوى 10% منها على الأكثر الظروف في ظل القيصرية، عندما كانت النقابات العمالية قانونية، وكان للأحزاب العمالية المختلفة صحافة قانونية، ستجد صعوبة قصوى في تعلم ألف باء التنظيم والأيديولوجية الاشتراكية في ظل حكم ستالين.
الانتصارات العسكرية لروسيا
أحد العوامل التي قوت حكم البيروقراطية هو انتصاراتها العسكرية. وقد ساهمت عدة عوامل في هذه الانتصارات. أولا، يسمح قمع الجماهير المطلق لستالين بتخصيص نسبة من الدخل القومي لأهداف الحرب، أكبر مما هو ممكن في بلدان الغرب. كان بوسعه، على سبيل المثال، أن يحقق “معجزة” بنقل ملايين العمال إلى الشرق وإسكانهم في حفر داخل الأرض. ثانيا، يضمن القهر البوليسي هدوء الجبهة الداخلية، “ميزة” أخرى لروسيا على البلاد الرأسمالية الديمقراطية. سبب نفس هذين العاملين التفوق المطلق لألمانيا على فرنسا وبريطانيا، والذي لم تتم موازنته آخر الأمر إلا بتعاون الآلة الصناعية الأمريكية (التي تنتج أربعة أضعاف ما تنتجه ألمانيا) والروسية. في حين أن الانتصارات العسكرية الروسية كانت إلى حد كبير نتيجة “للهدوء” على الجبهة الداخلية وإحباط ويأس الجماهير الكادحة، فهي قد أصبحت كانت بدورها عاملا هاما في استقرار النظام الستاليني. وعلى سبيل المناظرة، لا يستطيع المرء أن يقلل من أهمية انتصارات ألمانيا النازية في الإلساز والنمسا والسويد وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وفرنسا كعامل في التأثير على نفسية الجماهير الألمانية.
البيروقراطية تخلق حفار قبرها
النتيجة الأولية للتصنيع ونظام التجميع في روسيا كانت تقوية وضع البيروقراطية. بعد سنوات قليلة، بدأت عملية عكسية، الآن، كل خطوة للأمام للقوى الإنتاجية تقوض وضع البيروقراطية.
خلال الخطة الخمسية الأولى، ارتفع عدد العمال المشتغلين بالصناعة والتعدين من ثلاثة مليون إلى ثمانية مليون، ارتفاع مقداره 160%. خلال الخطة الخمسية الثانية ارتفع العدد من ثمانية مليون إلى 1ر10 مليون فقط، ارتفاع مقداره 25%. استهدفت الخطة الخمسية الثالثة الزيادة إلى 9ر11 مليون في عام 1942، ارتفاع مقداره 7ر16%. هكذا فعلى الرغم من تصفية الكثير من العمال في “التطهيرات ” فان عدد العمال القدامى أصحاب السنوات العديدة من المشاركة في عملية الإنتاج يزداد بانتظام.
في نفس الوقت تضيق الأبواب إلى البيروقراطية مع وضع المزيد والمزيد من العراقيل في طريق التعليم العالي، وينخفض معدل انضمام أفضل العناصر بين العمال إلى البيروقراطية.
إن تبلور البروليتاريا الناتج عن نضوب تيار العناصر الخام الواردة إليها ونضوب تيار العناصر الخبيرة الخارجة منها هو عملية فائقة الأهمية.
إن المهمة التاريخية للبيروقراطية هي رفع إنتاجية العمل. وبقيامها بذلك تدخل البيروقراطية في تناقضات عميقة. لكي يتم رفع إنتاجية العمل فوق نقطة معينة، ينبغي أن يرتفع مستوى معيشة الجماهير، حيث أن العمال ناقصي التغذية وذوي الإسكان الرديء وغير المتعلمين يكونون عاجزين عن الإنتاج الحديث. تتعامل البيروقراطية مع مشكلة مستوى معيشة الجماهير بنفس الطريقة التي يتعامل بها الفلاح مع مشكلة تغذية جياده: “كم ينبغي أن أعطي لكي أحصل على المزيد من العمل المنجز؟” ولكن العمال إلى جانب أن لهم أيدي، لهم عقول. إن رفع مستوى معيشة وثقافة الجماهير، يعني زيادة ثقتهم بأنفسهم، وزيادة شهيتهم، ونفاذ صبرهم حيال افتقاد الحقوق الديمقراطية والأمن الشخصي، ونفاذ صبرهم من البيروقراطية التي تبقى على هذه الأعباء. من ناحية أخرى، فان تدنى مستوى معيشة الجماهير يعنى الإبقاء على الإنتاجية المنخفضة الحالية للعمل، وهو أمر مهلك للبيروقراطية في الوضع العالمي الحالي، ويميل لدفع الجماهير أن عاجلا أو آجلا إلى تمردات اليأس.
إن البيروقراطية، تزيد أعداد الطبقة العاملة على أساس أعلى تركيز عرفه التاريخ. ورغم محاولاتها المستميتة لسد الفجوة بين العمل المأجور المركز ورأس المال المركز، ومحاولاتها المستميتة لإخفاء هذه الفجوة وراء شعار “الملكية الاشتراكية”، فان البيروقراطية تأتي إلى الوجود بقوة ستصطدم بها بعنف إن عاجلا أو آجلا.
إن كون ستالين قد اضطر، بعد سنوات قليلة من التصنيع والزراعة الجماعية، عندما كانت الطبقة العاملة لا تزال شابة وخام نسبيا – إلى أن يكون شموليا بالكامل ويصنع مكائد لا سابق لها في التاريخ، يشير إلى سرعة الإيقاع الكبيرة التي تطور بها الصراع الطبقي في روسيا.
الكفاءة المتناقصة للدعاية الستالينية
إن الفعالية المتناقصة للدعاية السوفيتية وضعفها عندما تكذبها وقائع الحياة الصلبة، تشير إليها ظاهرتان لا يمكن تفسيرهما بغير ذلك. الأولى هي المدى الواسع الذي انضم به أسرى الحرب السوفيت طوعا للجيش النازي، والثانية هي الأعداد الضخمة من الروس الذين لم يعودوا بعد الحرب.
أثناء الحرب، خدم نصف مليون مواطن سوفيتي أو أكثر في الجيش النازي تحت القيادة الألمانية. (3) ومن بين حوالي خمسين جنرال سوفيتي أسرهم الألمان، تعاون حوالي عشرة مع هتلر ضد ستالين. (4) لم تظهر أية مجموعة وطنية أخرى من أسرى الحرب استعدادا مشابها للانضمام للنازيين. وبعد الحرب، لم يعد الكثير من المواطنين السوفيت إلى بلدهم، وكون أن “غير العائدين” هؤلاء ليسوا، بصفة عامة، نفس الأشخاص الذين انضموا للقوات النازية، يتضح من أن الأخيرين قد أعيدوا قسرا إلى وطنهم بواسطة الجيش السوفيتي وبواسطة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أيضا. إن عدد غير العائدين كبير، وان لم يكن من الممكن قياسه بدقة. وفقا لتصريح سوفيتي رسمي، فان عدد المواطنين السوفيت الذين لم يعودوا للاتحاد السوفيتي بعد الحرب كان 400 ألف (في مقابل 5ر5 مليون عادوا). (5) ولم يظهر مواطنو بلد آخر مثل هذا الرفض في العودة للوطن، ومثل هذا التفضيل لمخاطر ومصاعب معسكرات المنفى. يعكس هذا الواقع السوفيتي، كما يشير إلى القدرة المحدودة للدعاية الستالينية.
الأهداف الاجتماعية للمعارضة المعادية للستالينية
على الرغم من افتقارها للتنظيم وعدم القدرة على التعبير عن نفسها، فان قوى المعارضة المعادية للستالينية في الاتحاد السوفيتي تسعى بوعي أو بشبه وعي أو حتى بلا وعي لهدف يمكن، إلى حد كبير، استنتاجه من البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لرأسمالية الدولة البيروقراطية، البناء الذي تهدف هذه القوى لإسقاطه. لا يمكن التراجع خطوات من اقتصاد مملوك للدولة ومخطط إلى اقتصاد فوضوي يقوم على الملكية الفردية. ولا يعود هذا فقط أو حتى أساسا إلى عدم وجود أفراد يستطيعون ادعاء الحق القانوني أو التاريخي في ملكية القسم الأعظم للثروة. إن استبدال صناعة الدولة كبيرة الحجم بالصناعة الفردية سيكون تراجعا تقنيا اقتصاديا. وهكذا فبالنسبة لجماهير الشعب، يمكن أن يكون لإسقاط الشمولية الستالينية معنى حقيقي فقط إذا حولت الديمقراطية السياسية الثروة العامة إلى ملكية حقيقية للمجتمع، مكونة بذلك ديمقراطية اشتراكية. إن هذا الاستنباط للبرنامج المحتمل للمعارضة المعادية للستالينية من المعلومات الموضوعية لرأسمالية الدولة البيروقراطية تؤيده بوضوح البرامج الفعلية لحركتين منظمتين معاديتين للستالينية، ظهرتا أثناء الحرب العالمية الثانية – حركة فلاسوف وجيش النهضة الأوكراني.
قال الجنرال ماليشكين، الجنرال السوفيتي السابق وأحد أهم مساعدي الجنرال فلاسوف:
موقفنا… هو أن كل هذه الصناعات التي شيدت أثناء فترة البلشفية على حساب دماء وعرق الشعب كله، يجب أن تصبح ملكية الدولة.. الملكية القومية… وإذا ظهر مع ذلك أن هذا مجديا، وفي مصلحة الشعب، فان الدولة لن تعارض مشاركة المبادرة الفردية… ستكون المبادرة الفردية ممكنة ليس فقط في الممتلكات الفلاحية والصناعية… إننا نؤمن بأن المبادرة الفردية يجب أن تشارك أيضا في جوانب أخرى من النشاط الاقتصادي مثل التجارة والصناعات اليدوية والعمل الحرفي… لجميع المشاركين السابقين في الحركة البيضاء، نستطيع أن نقول بحسم ما يلي: ليس منا من يؤمن بعودة النبلاء وكبار الملاك، بعودة الامتيازات القائمة على أساس الأصل أو المقام أو الثروة، بعودة الأشكال الحكومية التي تجاوزت عمرها الافتراضي، إلى روسيا. (6)
لا يهمنا هنا إن كان قادة فلاسوف مخلصين أم لا. إن مجرد كونهم قد اتخذوا موقفا لصالح ملكية الدولة في الصناعة الكبيرة، وهذا في ألمانيا النازية – لدليل على أن موقفا كهذا فقط كان يمكن أن يجذب أسرى الحرب السوفيت الذين حاولوا تجنيدهم. اتخذ جيش النهضة الاوكراني موقفا مماثلا. شنت هذه المجموعة حرب عصابات ضد الجيشين الألماني والروسي معا، وتمكنت من الحفاظ على مقاومة تحت الأرض في أوكرانيا السوفيتية. في عام 1943، في نشراتها في فولهينيا، كان أهم شعار لها “فقط في دولة اوكرانيا المستقلة يمكن تحقيق الشعارات العظيمة لثورة أكتوبر” (7) اقترح جيش النهضة الأوكراني، ما يلي كبرنامج له لإقامة نظام اجتماعي جديد في الدولة الأوكرانية:
مع ملكية الدولة – المؤممة، والتعاونية – الاجتماعية في الصناعة والمالية والتجارة.
مع ملكية الدولة – المؤممة، في الأرض، وممارسة الزراعة جماعيا أو فرديا، وفقا لرغبات السكان.
العودة للرأسمالية في أية حال تعتبر تراجعا. (8)
ذكرت نشرة أخرى لجيش النهضة الأوكراني:
تتطلب التصفية الكاملة للصراع الطبقي تدمير مصدر الطبقات ذاتها، أي في البلاد الرأسمالية – نظام الملكية الفردية لوسائل الإنتاج – وفي حالة الاتحاد السوفيتي الاحتكار السياسي للحزب الستاليني والنظام الدكتاتوري الشمولي. (9)
ومرة أخرى:
النظام السوفيتي… ليس نظاما اشتراكيا، حيث لا تزال توجد فيه الطبقات المستغلة والمستغلة. عمال الاتحاد السوفيتي لا يريدون الرأسمالية ولا الاشتراكية الستالينية الزائفة. انهم يطمحون لمجتمع لا طبقي فقط، إلى ديمقراطية شعبية حقا، إلى حياة حرة في دول حرة ومستقلة. اليوم المجتمع السوفيتي، أكثر من أي مجتمع آخر على أعتاب الثورة الاجتماعية. في الاتحاد السوفيتي، تقوى الثورة الاجتماعية بالثورات الوطنية للقوميات المضطهدة”. (10)
ختـاما:
في بلاد الديمقراطية الرأسمالية، بل والى حد كبير في روسيا القيصرية والبلاد المستعمرة، يتخذ الصراع الطبقي للبروليتاريا مبدئيا شكل الصراعات الاقتصادية الجزئية و “السلمية” والمنظمة و “المخططة”. في روسيا الستالينية، وبسبب القهر البوليسي الوحشي فان مثل هذه الصراعات مستبعدة. هنا كما في جيوش البلاد الرأسمالية حيث يكون الجنود بصفة مستمرة تحت سياط القانون العسكري، لا تجد العملية الجزئية لتبلور المعارضة الجماهيرية للحكام تعبيرا خارجيا مباشرا وواضحا. ولا تستطيع الجماهير أن تنضم للمعركة إلا عندما تكون الظروف قد أصبحت غير محتملة، ويكون قد أصبح واضحا للجماهير أن نصرا حاسما يمكن تحقيقه. فبالنسبة للجماهير الروسية أن تقاتل اليوم أمر اصعب مما كان عليه الأمر بالنسبة للجنود في روسيا القيصرية. فقد تمرد جنود العهد القيصري فقط بعد أن رأوا أن جماهير الشعب كانت في حالة تمرد. أعطت متاريس العمال للجنود الثقة في قوة الشعب وألهمتهم بالثورة ضد ضباطهم. في روسيا لا توجد أي جماعة بين الشعب ليست تحت رقابة اشد مما كان عليه الجيش القيصري في أي وقت. ولن تشتعل الجماهير بالتمرد إلا عندما يتراكم الغضب والسخط الكامن في قلوبهم حتى يصبح جاهزا للانفجار. (يمكن لثورة بروليتارية في الغرب بداهة أن تسرع هذه العملية بمقدار يصعب تقديره). إن الصراع الطبقي في روسيا الستالينية ينبغي حتما أن يعبر عن نفسه في انفجارات تلقائية هائلة للملايين. وحتى ذلك الوقت سيبدو على السطح أن البركان خامد. حتى ذلك الوقت سيجعل التسلط فائق القدرة للبوليس السري، من المستحيل على حزب ثوري أن يخترق الجماهير أو ينظم أي عمل منظم كائنا ما كان. الثورة التلقائية، بتحطيمها للكعب الحديدي للبيروقراطية الستالينية، ستفتح المجال للنشاط الحر لجميع الأحزاب والاتجاهات والجماعات داخل الطبقة العاملة. إنها ستكون الفصل الأول في الثورة البروليتارية المنتصرة. الفصل الأخير لا يمكن أن يكتبه غير الجماهير المعبأة ذاتيا، والواعية بالأهداف الاشتراكية، وبوسائل تحقيقها، والتي يقودها حزب ماركسي ثوري.
حاشية 1988: من ستالين إلى جورباتشوف
بقلم: كريس هارمان
ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب (1) عندما كانت الستالينية في قمتها – بعد الاحتلال الروسي لأوروبا الشرقية وقبل الشقاق بين تيتو وستالين.
في مارس 1953 مات ستالين، وخلال شهور ظهرت تصدعات هائلة في الصرح الذي بناه. سرعان ما بدأ نوابه السابقون في الشجار الحاد. في بادئ الأمر بدا أن مالينكوف قد ورث سلطة ستالين، مدعـوما بقـوة مـن بيريا، قائد البوليس الشهير بسوء سمعته. ثم اعدم بيريا فجأة وحل خروتشوف محل مالينكوف في الوضع المسيطر داخل القيادة.
كانت المشاحنات مصحوبة بالتغييرات الفجائية والحادة في السياسة، فآلة الإرهاب التي كانت شديدة الأهمية في أيام ستالين انتكست فجأة. وأدينت أحدث المؤامرات المكتشفة (ما يسمى بمؤامرة الأطباء) باعتبارها مكيدة، وتم القبض على أولئك الذين قيل أنهم كانوا قد حرضوا على حملات الاعتقال. وفي السنوات الثلاث التالية، افرج عن 90% من أولئك الذين كانوا في معسكرات العمل.
اعترفت القيادة الروسية الجديدة علانية أن أخطاء هائلة قد ارتكبت على مدى السنوات الثلاث الأولى، ألقت اللوم فيما يتعلق بهذه الأخطاء على بيريا و “عصابة من الجواسيس المعادين للاشتراكية” الذين “اخترقوا” جهاز الدولة. ولكن بعد ذلك في عام 1956، أدان خروتشوف ستالين نفسه (وان كان في السر) في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي، وفي عام 1962 جعل جزءا من سياسة الإدانة علنيا، بنقل جثمان ستالين من ضريح لينين في موسكو.
لقد صحبت الخلافات في قمة إمبراطورية ستالين باندلاع موجة سخط مفاجئة من اسفل. فالعمال في معسكرات العمل العبودي في روسيا لم ينتظروا حتى يقوم النظام بإعادة النظر في قضاياهم: في يوليو 1953 أضرب نزلاء أكبر وأسوأ المعسكرات على الرغم من إعدام أكثر من 120 من قادة الإضراب رميا بالرصاص. وفي برلين الشرقية رد عمال البناء على الزيادة في معدلات العمل بإضراب تحول إلى شبه انتفاضة لكل العمال في ألمانيا الشرقية.
في يونيو 1956 تكرر هذا العمل بواسطة عمال بوزنان في بولندا، وفي أكتوبر 1956 بواسطة عمال كل المجر. وقمعت هذه التمردات بأكثر الأشكال دموية. إلا أن هذا لم يحدث إلا بعد أن اهتزت الأوهام التي كانت لدى الكثير من الاشتراكيين حول روسيا – كما إنها تحدت أيضا أي رأي يقول بأن الدول الشرقية هي كتل صخرية ميتة لا يمكن تخيل التمرد فيها.
على الرغم من ذلك، فان الاعتقاد بأن روسيا مختلفة عن ومتفوقة جوهريا على الغرب، ظل أمرا مسلما به من جانب أغلب اليسار عالميا. فحتى عام 1960 جادل سياسي حزب العمل البريطاني ريتشارد كروسمان (كان قبل ذلك محرر كتاب الحرب الباردة، “الإله الذي فشل”) بأن تفوق “التخطيط” الروسي على الرأسمالية الغربية سيكون من شأنه آخر الأمر أن يجبر الدول الغربية على انتهاج توجه اشتراكي. (2) وعلى يسار ذلك، جادل أبرز مثقفي الأممية الرابعة ايرنست مانديل في عام 1956 بأن: “يحتفظ الاتحاد السوفيتي بإيقاع ثابت بدرجة أو بأخرى للنمو الاقتصادي، خطة بعد خطة، وعقد بعد عقد، دون أن يؤثر تقدم الماضي على احتمالات المستقبل… إن جميع قوانين التطور للاقتصاد الرأسمالي التي تسبب إبطاءاً في سرعة النمو الاقتصادي قد تم التغلب عليها”…. (3)
دفع مثل هذا التفكير مانديل للتعبير عن تفضيله لمحاولة إصلاح النظام فوقيا بواسطة جمولكا مثلا في بولندا على تحقيق ذلك بواسطة تمرد العمال في المجر. (4) بل انه دفع كاتب سيرة تروتسكي – اسحق دويتشر إلى ابعد من ذلك – إلى تأييد سحق الثورة المجرية.
كانت مثل هذه الآمال في التوجهات الإصلاحية لحكام الدول الشرقية منتشرة في سنوات ما بعد عام 1956. ورغم أنها انهارت مع عزل خروتشوف عن السلطة فـي عام 1964، إلا أنها قد انتعشت لفترة قصيرة أثناء فترة دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا في النصف الأول من عام 1968. وهي تنتعش الآن مرة أخرى مع برنامج الجلاسنوست (المكاشفة) والبيروسترويكا (إعادة البناء) الذي يطرحه جورباتشوف.
فترة خروتشوف
وسع توني كليف عمله عن الستالينية بدراسات عن دول أوروبا الشرقية (5) والصين (6) كتبت في عامي 1950 و 1957. وفي أواخر الخمسينات وأوائل الستينات شرع في تعميق تحليله لروسيا لكي يفسر إصلاحات فترة خروتشوف ويبين أوجه قصورها المتأصلة فيها.
في عام 1947 كان قد أشار بالفعل إلى التناقض المركزي في روسيا الذي ضمن تزايد الأزمة والتمرد العمالي آخر الأمر. كان دور البيروقراطية هو تصنيع روسيا برفع إنتاجية العمل. كان بإمكانها حتى نقطة معينة أن تفعل ذلك بواسطة القهر والحد الأدنى من مستويات المعيشة. واصل كليف قوله: ولكن بعد نقطة معينة “لكي يتم رفع إنتاجية العمل ينبغي أن يرتفع مستوى معيشة الجماهير، حيث أن العمال الذين يعانون من سوء التغذية ورداءة الإسكان وفقر المستوى التعليمي، لا يستطيعون إنجاز الكثير في مجال الإنتاج الحديث”. وقد رأى أن الفشل في رفع مستويات المعيشة، قد يؤدى بالفعل إلى هبوط معدل نمو الإنتاجية والى اهتزاز تطور الإنتاج. (7) إلا أن ضآلة المعلومات التي يعتمد عليها حول الاقتصاد الروسي والطابع الجديد لهذه النظرية حول روسيا يعنى أن مقولات كليف هنا كانت بالضرورة غير متطورة – مثلها مثل مقولته حول الشكل الذي تأخذه الأزمة الاقتصادية في رأسمالية الدولة (الجزء الأخير من الفصل السابع لهذه الطبعة). وبحلول أواخر الخمسينات توافرت معلومات أكثر، إلا أن التنقيب عنها من بين كتل الإحصاءات الرسمية وتقارير الصحف وخطب القيادة قد ظل عملا هائلا.
وقد فعل كليف هذا أولا في سلسلة من المقالات، (8) وكتيب قصير (9) وبعد ذلك في تحديث من 140 صفحة لطبعة عام 1964 من العمل الحالي والتي نشرت تحت عنوان ” روسيا: تحليل ماركسي “.
إن المواد الإضافية كانت متعلقة تحديدا بفترة خروتشوف، ولم تتضمنها الطبعات التالية لأنها أصبحت قديمة وقت صدور هذه الطبعات. ومع ذلك فان كثيرا من النقاط التي أوردها كليف في هذه الإضافات، جديرة بتعليق موجز.
كانت مقولة كليف المركزية أن خروتشوف قد ورث عن ستالين اقتصادا موبوءا أكثر فأكثر بعناصر الأزمة. وقد دفع في اتجاه الإصلاحات لأنه بدونها، كان خطر الثورة باديا.
كان منهج ستالين في التعامل مع كل فشل أو صعوبة جديدة، هو زيادة الضغط والإرهاب، ولكن هذا المنهج الجامد قد أصبح ليس فقط لا إنسانيا يوما بعد يوم وإنما أيضا غير فعال. فكل طرقعة جديدة للسوط قد زادت المقاومة العنيدة، وان كانت صامتة، للشعب. اصبح القهر الستاليني الجامد عائقا أمام كل تقدم زراعي وصناعي حديث.
لم تقتصر الأزمة في روسيا على الأساس الاقتصادي، وإنما اجتاحت البنى الفوقية، الثقافية والأيديولوجية والسياسية أيضا. و لم تؤثر فقط على الوضع الداخلي في روسيا، وإنما أيضا على العلاقات بين روسيا ودول شرق أوروبا التي تدور في فلكها وعلى الحركة الشيوعية العالمية.
أجرى كليف بعد ذلك دراسة تفصيلية لكل من جوانب الأزمة.
الأزمة في الزراعة
إن الإرث الذي تركه ستالين في الريف هو زراعة موحلة في مستنقع من الركود دام لأكثر من ربع قرن. كان إنتاج الحبوب في الفترة من عام 1949 إلى عام 1953 أعلى بنسبة 8ر12% فقط منه في الفترة من 1910 إلى 1914، في حين أن عدد السكان زاد في نفس الوقت حوالي 30%. لم تصل إنتاجية العمل في الزراعة السوفيتية إلى خمس مثيلتها في الولايات المتحدة…
أصبح هذا الركود تهديدا للنظام لعدة أسباب. أولا، بعد التغلب على البطالة المقنعة في الريف إلى حد كبير، اصبح من المستحيل نقل العمل إلى الصناعة بنفس المعدل السابق دون رفع إنتاجية العمل في الزراعة. ثانيا، اصبح من المستحيل بعد نقطة معينة سحب موارد رأسمالية من الزراعة لمساعدة النمو في الصناعة.
تحول أسلوب “التراكم البدائي” لستالين من عامل مساعد إلى عائق، وهو عائق أبطأ حركة الاقتصاد كله. (10)
حاول خروتشوف أن يتعامل مع هذه الأزمة بطريقتين – “الجزرة والعصا”. شملت الجزرة إصلاحات رفعت الأسعار المدفوعة للمنتجين الزراعيين وزادت استثمارات الدولة في الزراعة، مما أعطى المزارع الجماعية حرية أكبر لتخطيط إنتاجها، وتخفيف السيطرة على الإنتاج من خلال الأراضي التي خصصت للفلاحين. إلا أن تلك الإصلاحات كانت محفوفة بالمصاعب: “كان هناك حوالي 25 سنة من الاحباطات التي مارستها الستالينية… من المرجح جدا أن الارتفاع البسيط في الموارد الرأسمالية المخصصة للزراعة، في السلع الاستهلاكية للمزارعين، في الأسعار التي تدفعها الدولة للإنتاج الزراعي، يمكن لفترة من الوقت – وربما لفترة فد تطول – أن يكون له تأثير تثبيطي وليس تحفيزي للفلاحين. فمع ارتفاع الأسعار قد تهبط الرغبة في العمل. إن الحوافز الهائلة المقدمة على مدى فترة طويلة جدا هي فقط القادرة على التغلب على الماضي ودفع المزارعين لزيادة نشاطهم. ولكن للأسف يفتقد خروتشوف كلا من الفوائض الرأسمالية الكافية والوقت أيضا، كما أن الحصول عليها قد أصبح مستحيلا بفعل الوضع العالمي الذي يتطلب إنفاقا هائلا على الأسلحة، والإدارة البيروقراطية للاقتصاد التي تمثل أزمة الزراعة لديها إحدى أهم الجوانب. (11)
كان هذا هو ما دفع القادة الروس للجوء المتكرر لعصا السيطرة المركزية الأكبر، حتى لو تناقض هذا مع محاولاتهم لتقديم حوافز أكبر. هكذا فان التحرك نحو إعطاء الفلاحين حرية أكبر في الأرض الخاصة بهم قد تبعه تضييق اشد على هذه الأراضي ؛ والتوجه نحو الاستقلال الذاتي للمزارع الجماعية، تبعته حملة لبناء مزارع الدولة عالية المركزية. ومع فشل كل من العصا والجزرة في تحقيق النتائج المنشودة، اندفعت ا لقيادة نحو حملات كبرى كان من المفترض أن تسمح للزراعة الروسية باللحاق بأمريكا بين يوم وليلة، مثل حملات الأراضي البكر والذرة في منتصف الخمسينات.
إلا أنه لم يكن هناك مخرج من الأزمة. كان من المفترض أن يرتفع إنتاج الحبوب بمقدار 40% خلال الفترة من عام 1956 إلى 1960 وبدلا من ذلك زاد بمقدار 7ر2% فقط، ثم أصابه الركود إلى درجة أنه في عام 1963 كان على الروس إن يشتروا ملايين الأطنان من الحبوب من الخارج. وكان إنتاج اللحوم في عام 1960 أكثر قليلا من ثلث الهدف الأصلي.
كتب كليف عن خروتشوف أنه قصد أن يكون ” حل الأزمة الزراعية هو المبدأ الأساسي في برنامجه، والفشل في تحقيق ذلك قد يؤدي إلى سقوطه”. (12) وبعد ذلك بشهور قليلة تم عزل خروتشوف عن السلطة بواسطة بقية أعضاء المكتب السياسي، الذين شكوا من الخطط الطائشة التي لم تحقق آية نجاحات.
الأزمة في الصناعة
كانت الصناعة على عكس الزراعة، قد شهدت توسعا هائلا خلال فترة ستالين، واستمرت في النمو في ظل خروتشوف. إلا أن معدل النمو انخفض. كما أن الإنتاجية التي كانت قد نمت أسرع منها في الغرب في الثلاثينات توقفت الآن عند مستوى اقل كثيرا منها عند المنافس الأكبر للبيروقراطية الروسية، الولايات المتحدة. وكما لاحظ كليف:
في نهاية عام 1957 كان عدد العمال الصناعيين في الاتحاد السوفيتي أكبر بمقدار 12% من الولايات المتحدة.. ومع ذلك، وحتى وفقا للتقديرات السوفيتية، فان الإنتاج السنوي للصناعة في الاتحاد السوفيتي في عام 1956 كان يساوي نصف الإنتاج للولايات المتحدة. (13)
بسبب الأزمة في الزراعة لم يعد من الممكن تعويض المستوى الأدنى للإنتاجية في الصناعة، من خلال نمو هائل في عدد العمال الصناعيين. هكذا فقد اضطرت البيروقراطية الروسية لإعطاء عناية متزايدة لانتشار التبديد و رداءة الإنتاج في الاقتصاد الروسي.
حدد كليف العديد من مصادر التبديد: استقلالية الوحدات الإنتاجية دفعت وحدات إنتاجية إلى إنتاج سلع كان من الممكن أن تنتج بتكلفة أقل في أماكن أخرى. (14) تخزين الإمدادات بواسطة المديرين والعمال. (15)، ميل المديرين لمقاومة الإبداع التقني (16)، الاهتمام بالكم على حساب الكيف (17)، إهمال الصيانة (18)، انتشار العمل الورقي والفوضى (19)، الفشل في إقامة آلية السعر المتسمة بالكفاءة والعقلانية التي كان المديرون يحتاجون إليها لقياس الكفاءة لمختلف المصانع. (20)، وقد استنتج:
إذا فهمنا مصطلح الاقتصاد المخطط على أنه اقتصادا يتم فيه تكييف وتنسيق جميع العناصر المكونة في إيقاع واحد، تقل فيه الاضطرابات إلى الحد الأدنى، كما – قبل كل شيء – يسود فيه بعد النظر في اتخاذ القرارات الاقتصادية، فالاقتصاد الروسي ليس مخططا على الإطلاق، وبدلا من الخطة الحقيقية، يتم اللجوء إلى الوسائل الصارمة للأوامر الحكومية لسد الثغرات في الاقتصاد الناتجة عن قرارات وأنشطة هذه الحكومة نفسها. وبالتالي، فبدلا من الحديث اقتصاد سوفيتي مخطط سيكون من الأدق أن نتحدث عن اقتصاد تتم إدارته بيروقراطيا… (21)
كانت هناك روايات عن عدم كفاءة الصناعة الروسية قبل توني كليف، كما ظهرت العديد من الروايات الأخرى بعدها. وقد وفرت “الأدلة” العملية لكل أولئك – على اليسار كما على اليمين – الذين يزعمون أن النظام الروسي أدنى درجة من ناحية الكيف من النظام الغربي. ما ميز رواية كليف، لم يكن التركيز على التبديد وعدم الكفاءة، وإنما الطريقة التي نظر بها إلى تلك الأمور بوصفها ناتجة عن طابع رأسمالية الدولة للنظام.
إن السبب المباشر لأنواع التبديد العديدة هو أن المخططون وضعوا أهدافا للإنتاج أكبر مما كان من الممكن تحقيقه بسهولة. ولكي يحموا أنفسهم من هذه الضغوط، قام المديرون بتخزين المواد وإمدادات العمل. ولكي يحموا أنفسهم من ضغوط المديرون المفاجئة، كان العمال يعملون بهمة تقل كثيرا من الحد الأقصى. وقد دفع إدراك هذه الظاهرة على امتداد الاقتصاد، المخططين بدورهم لتعمد فرض أهداف كبيرة. وكما وضعها كليف:
ما هي الأسباب الأساسية للفوضى والتبديد في الاقتصاد الروسي؟ إن الأهداف العالية للإنتاج مع قلة الموارد – مثل ذراعي كسارة البندق – يضغطان على المديرين لكي يغشوا، ويخفوا إمكانيات الإنتاج، ويضخموا احتياجاتهم من الأدوات والإمدادات ويلعبوا بحرص، وبصفة عامة يتصرفون بطريقة محافظة.
يؤدي هذا إلى تبديد وبالتالي ندرة الإمدادات والى زيادة الضغط من فوق على المدير، الذي يضطر للغش مرة أخرى.. وهكذا في حلقة مفرغة.
الأهداف العالية والموارد الشحيحة، تؤدي إلى المزيد من التصرف المستقل للوحدات الإنتاجية، مرة أخرى حلقة مفرغة. كبر الأهداف وشح الموارد تجعل الوعي بالأولويات ضروريا من جانب المديرين. إلا أن نظام الأولويات هذا، وأسلوب “الحملات”، الذين يعوزهما المعيار الكمي الواضح يؤديان إلى التبديد، وبالتالي إلى الحاجة المتزايدة إلى جداول الأولويات. مرة أخرى حلقة مفرغة.
جميع هذه المتطلبات تقتضي تعدد أنظمة الرقابة، وهي في ذاتها تبديدية، كما أنها تؤدي إلى مزيد من التبدد بسبب افتقادها للنظام والتجانس. بالتالي هناك حاجة لرقابة أكبر ؛ لأهرامات من الورق وسيل من البيروقراطيين، مرة أخرى حلقة مفرغة.
إن ما قيل عن الحلقة المفرغة الناتجة عن التناقض بين الأهداف المخططة شديدة الطموح وقلة الموارد ينطبق، مع ما يلزم من التبديل والتعديل على تأثير آلية السعر الضعيفة. هكذا، على سبيل المثال، فان آلية السعر الضعيفة تؤدي إلى استقلالية الوحدات الإنتاجية وحملات الأولويات وسيل من أنظمة الرقابة. وتؤدي هذه الأمور إلى أخطاء متزايدة لآلية السعر. مرة أخرى حلقة مفرغة. (22)
تم استخدام وصف “الحلقة المفرغة” لكليف في مناسبات لا تحصى منذ عام 1964 بواسطة اقتصاديين من أوروبا الشرقية(23). وقد أقام بعض هؤلاء الصلة بين الأهداف المبالغ فيها (التي يشار إليها أحيانا بأنها استثمار زائد)، والنقص في الإنتاج(الذي يشار إليه أحيانا بأنه حاجز التضخم) وتخزين الإمدادات، واستقلالية الوحدات الإنتاجية في الاقتصاد. بل لقد ذهب عدد من هؤلاء الاقتصاديين لأبعد من كليف فيما يتعلق بإحدى النواحي ببيان كيفية انسجام هذه العوامل المختلفة فيما بينها في دورة الاستثمار والإنتاج قريبة بعض الشيء من نمط الانتعاش – الركود الكلاسيكي للتطور الرأسمالي الغربـي. (24) إلا أن نقطة بالغة الأهمية لكليف فاتتهم. إن الحلقة المفرغة، والتي تبدو غير عقلانية، من عدم الكفاءة والتبديد، لها، من وجهة نظر البيروقراطية الحاكمة، نقطة انطلاق عقلانية. “الاستثمار الزائد” هو نفسه نتيجة لإقحام الاقتصاد الموجه بيروقراطيا في نظام عالمي تنافسي:
العقبتان العظيمتان على طريق تخفيض أهداف الإنتاج هما التنافس العالمي على القوة، والإنفاق العسكري الهائل. (25)
لا يمكن النظر إلى النظام الروسي، كما يفعل الكثيرون ممن يركزون على طبيعته التبديدية اليوم، على انه ببساطة فشل عظيم:
على المرء مع ذلك أن يتجنب خطأ افتراض أن سوء الإدارة الذي يصيب الاقتصاد القومي لروسيا بالتآكل، يحول دون إنجازات هامة، بل وهائلة. في الواقع، توجد بين سوء الإدارة البيروقراطية، والاندفاع العظيم لا على للصناعة في روسيا وحدة جدلية محكمة. فلا يمكن تفسير رأسمالية الدولة البيروقراطية إلا من خلال تخلف قوى الإنتاج في البلد، والاندفاع العظيم نحو تنميتها السريعة (بالإضافة إلى سلسلة كاملة من العوامل المرتبطة بذلك) وقبل كل شيء، إخضاع الاستهلاك لتراكم رأس المال.
إن جهود وتضحيات الجماهير قد رفعت روسيا، على الرغم من سوء الإدارة البيروقراطية والتبديد، إلى قوة صناعية عظيمة.
إلا أن رأسمالية الدولة تصبح عقبة متزايدة أمام تطور أهم قوى إنتاجية – العمال أنفسهم – والتي لا يمكن إلا لمجتمع اشتراكي متجانس أن يحررها.(26)
لا يمكن تقدير ما إذا كانت الإنتاجية المنخفضة قد جاءت نتيجة لسوء الإدارة والحماقات في القمة أم نتيجة لمقاومة العمال من أسفل. من الطبيعي يصعب فصل الأمرين عن بعضهما. الرأسمالية بصفة عامة – ورأسمالية الدولة البيروقراطية بصفة خاصة تعنى بخفض النفقات ورفع الكفاءة وليس تلبية الحاجات الإنسانية. إن عقلانيتها ليست عقلانية بالأساس، حيث أنها تغرب العامل، محولة إياه إلى “شيء”، إلى موضوع متحكم فيه، بدلا من ذات تشكل حياتها وفقا لرغباتها. لهذا السبب يعمد العمال إلى تخريب الإنتاج. (27)
وكما في الزراعة، سعى ورثة ستالين للتعامل مع هذه المشكلة في الصناعة بواسطة الجزرة، ووجدوا أنهم لا ينجحون هكذا، وعادوا جزئيا على الأقل للعصا.
إن إغلاق معسكرات العمل العملاقة بعد وفاة ستالين، قد تلاه إبطال للقوانين التي جعلت العمال عرضة للعقوبات القانونية عند غيابهم أو تأخرهم عن العمل. يقارن كليف هذه التغييرات بما حدث خلال تطور الرأسمالية الغربية: في المراحل الأولى للثورة الصناعية استخدمت كافة أنواع الإكراه “قوانين التشرد، نظام ملاجئ الفقراء” لإجبار الناس على قبول نظام الانضباط في المصنع، ولكن متى صار للنظام الرأسمالي الجديد جذور فان أنواع الإكراه هذه بدأت تعطل إنتاجية العمل، واستبدلت بأشكال إكراه ذات طابع اقتصادي صرف. (28)
ولكن كانت هناك قيود صارمة على حجم الجزرة التي كان بالإمكان استخدامها لتحفيز العمال لرفع الإنتاجية. في عام 1953 / 1954 وعد أول رئيس وزراء بعد ستالين، مالينكوف، بإنتاج أكبر للسلع الاستهلاكية على حساب وسائل الإنتاج. إلا أن فترة شهر العسل للصناعة الخفيفة لم تدم طويلا، ففي إطار التنافس الاقتصادي، والعسكري العالمي، لا يمكن تجنب إخضاع الاستهلاك للتراكم. وما أن حل خريف عام 1954 حتى شنت هجمة، قادها خروتشوف وبولجانين (وزير الدفاع وقتها) وشيبيلوف، ضد “تدليل المستهلكين”، ودعت للعودة إلى المزيد من التركيز على الصناعة الثقيلة. في يناير 1955 أعلن خروتشوف أن:
المهمة الأكثر أهمية، والتي يكرس الحزب كافة جهوده لإنجازها كانت وتظل، تقوية الدولة السوفيتية، وبالتالي الإسراع بتطوير الصناعة الثقيلة.
بعد ذلك بأسبوعين أجبر مالينكوف على الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء. أما نصيب الصناعات الخفيفة والصناعات الغذائية في الاستثمار الصناعي للدولة، والذي تراوح بين 16 و 17% في الخطط الخمسية للثلاثينات، و 3ر12% في النصف الثاني من الأربعينات، فقد انخفض لأقل من ذلك في الخمسينات وأوائل الستينات إلى حوالي 9%. (29)
بدون أي حل للأزمة الزراعية وبدون أية زيادة في الاستثمار في صناعات السلع الاستهلاكية، كان هناك حد للارتفاع الممكن في مستويات معيشة العمال خلال سنوات خروتشوف. وبحلول 1963:
بشكل مطلق، تحسن إنتاج السلع الاستهلاكية. ومع ذلك، فإجمالا لم تصل النتائج في حالات كثيرة حتى إلى أهداف الخطة الخمسية الأولى فيما يتعلق بنصيب الفرد من الإنتاج… على الرغم من كل التغييرات، إلا أن مستويات المعيشة في روسيا ما زالت أقل كثيرا منها في أوروبا الغربية وأعلى قليلا فقط منها في روسيا في عام 1928 (قبل عهد الخطط). (30)
هكذا فعلى الرغم من أن الأوضاع كانت أفضل كثيرا بالنسبة للعمال في نهاية فترة خروتشوف، مما كانت عليه في ظل ستالين (يذكر أن مستوى معيشتهم كان قد انخفض في منتصف الثلاثينات إلى حوالي ثلاثة أخماس ما كان عليه في عام 1928) ,فان التحسينات لم تكن بأي حال كافية لكي تحدث زيادات هائلة في إنتاجية العمل. هكذا ختم كليف فصله عن العامل الروسي:
إحدى الهموم الرئيسية للقادة الروس اليوم هي كيفية تنمية إنتاجية العامل. لم يسبق أن كان موقف عمالهم بهذه الأهمية بالنسبة للمجتمع.
فمن خلال جهدهم في تحويل العامل إلى ترس في آلة بيروقراطية، يقتلون فيه ما هم في أشد الحاجة إليه، الإنتاجية والقدرة الإبداعية. الاستغلال المرشد والصارم يخلق عقبة رهيبة أمام ارتفاع إنتاجية العمل.
كلما زادت مهارة ووحدة الطبقة العاملة، كلما قامت ليس فقط بمقاومة الاغتراب والاستغلال، وإنما أيضا بإظهار احتقار متزايد لمستغليها ومضطهديها. لقد فقد العمال احترامهم للبيروقراطية بوصفهم مديرين تقنيين. لا تستطيع أي طبقة حاكمة أن تحافظ على نفسها لفترة طويلة في مواجهة الاحتقـار الشـعبي.(31)
التغييرات في البناء “الفوقي”
لم يقتصر تشخيص كليف لفترة خروتشوف على الاقتصاد فقط. فقد تجاوز ذلك إلى إبراز انعكاس تغير الحاجات الاقتصادية في ” البناء الفوقي” الاجتماعي والسياسي.
إن ابرز الخصائص التي ميزت فترة ما بعد ستالين كان تخفيف الإرهاب. فقد أغلقت أغلب معسكرات العمل وأصبحت التطهيرات الجماعية شيئا من الماضي. كما أن عناصر هامة من حكم القانون، قد أعيدت إلى الحياة إذ فقد البوليس سلطة اعتقال الناس وإعدامهم دون أحكام قضائية.
بالنسبة لكليف، كان السبب الرئيسي وراء هذه التغييرات هو أنها كانت الوجه الآخر للتحول من “التراكم البدائي”، القائم على أساس مقدار كبير من العمل القسري، إلى “رأسمالية الدولة الناضجة” القائمة على العمل الحر. إلا أن هذه التغييرات تماشت أيضا مع الرغبات الفردية لأعضاء البيروقراطية:
إن الطبقة الحاكمة في روسيا، من أجل مصلحتها الذاتية، تريد أن تسترخي. يريد أعضاؤها أن يعيشوا لكي يستمتعوا بامتيازاتهم. إحدى المفارقات التي عانى منها نظام ستالين هي أنه حتى البيروقراطيين المتميزين اجتماعيا لم يكونوا على وفاق معه. فكثيرا ما وقعت أيدي الـ م. ف. د (الاسم القديم للـ كيه. جي. بي.) حتى على البيروقراطيين الممجدين. لقد قدر انه خلال الفترة من عام 1938 إلى عام 1940 سجن أو اعدم حوالي 24% من المتخصصين التقنيين. لقد سعت البيروقراطية الآن لتطبيع حكمها. (32)
ولكن كما كانت هناك حدود ” للجزرة ” في المجال الاقتصادي، كانت هناك حدود على تخفيض سلطة البوليس. استمرت الـ كيه. جي. بي. مركزا هاما للقوة داخل الدولة. واستمر العمل بالعديد من القوانين التي تعاقب الناس على أي اعتراض جاد على سلطة الطبقة الحاكمة أو على تنظيم الإضرابات والمظاهرات. وتكونت “محاكم رفاقية” للتعامل مع “انتهاكات الشرعية السوفيتية وقانون السلوك الاشتراكي”. وكان المقصود بهذا نطاق من الأنشطة التي تمثل تحديا لاحتكار البيروقراطية لملكية الدولة أو لإجبار باقي المجتمع للعمل لصالح البيروقراطية – “الاستخدام غير القانوني للمواد أو الأدوات أو وسائل النقل التابعة للدولة أو العامة… التهرب من العمل المفيد اجتماعيا والعيش كطفيلي… الصيد بغير إذن… الإضرار بالمحاصيل أو المزارع بواسطة حيوانات… الإثراء الدنيء… السكر… والتلفظ بألفاظ غير لائقة”…(33)
بالنسبة لكليف، كان المزيد من التخفيف لاستبداد سلطة الدولة مستبعدا بسبب الندرة العامة للسلع، وعدم القدرة على التعامل مع “التعسف البيروقراطي والأوامر الإدارية” في الاقتصاد، وأيضا ” لأن الدولة مستودع جميع وسائل الإنتاج ومركز التنظيم التعليمي والثقافي” وبالتالي محور “كل أشكال النقد لكافة جوانب النظام”.
هكذا فان رأسمالية الدولة بطبيعتها، على عكس الرأسمالية الفردية، تستبعد إمكانية الديمقراطية السياسية الواسعة، ولو كانت شكلية. فحيث تكون الدولة مستودع وسائل الإنتاج، لا يمكن فصل الديمقراطية السياسية عن الديمقراطية الاقتصادية.(34)
وراء القيود على الإصلاحات السياسية تقف حقيقة أن السلطة قد استمرت مركزة في طبقة بيروقراطية ضيقة:
إن الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي لم يكن أقل احتكارا للسلطة في ظل خروتشوف مما كان عليه في ظل ستالين. كما أن تكوينه الاجتماعي لم يتغير أيضا. بل إن تركز القمم القيادية للحزب في أيدي البيروقراطية كان أكثر مما كان عليه في ظل ستالين… الأرجح أن العمال العاديين والمزارعين في المزارع الجماعية لا يشكلون أكثر من خمس وبالتأكيد ليس أكثر من ربع أعضاء الحزب. وكلما صعدنا في هرمية الحزب، كلما قل عدد العمال ومزارعي المزارع الجماعية. (35)
إن التناقضات بين محاولات خروتشوف لتمرير الإصلاحات وعدم قدرته على ذلك، بعد نقطة معينة قد عبرت عن نفسها في العلاقات بين القوميات المختلفة داخل الاتحاد السوفيتي.
جاءت وفاة ستالين في قمة حملة الروسنة… كان على ورثة ستالين أن يقرروا إذا كانوا سيستمرون على هذه السياسات أم سيقدمون تنازلات للأقليات القومية. (36)
في بداية الأمر كانت التنازلات تبدو ممكنة:
“إن ثقة الشعوب غير الروسية في الاتحاد السوفيتي بأنفسهم عقب تقدمهم الاقتصادي والثقافي ينبغي أن تؤدي إلى معارضة متزايدة للاضطهاد القومي… حيثما تم التراجع عن المركزية المفرطة لستالين في الإدارة الاقتصادية… أصبحت قسوة وتطرف سياسته تجاه القوميات، غير محتملة”…
بدأت مؤشرات التغيير في الظهور بعد فترة وجيزة من وفاة ستالين. وقد أعطى كليف عددا من الأمثلة لزعماء حزبيين في الجمهوريات المختلفة أنزلت درجاتهم لفرط حماسهم وتأييدهم لسياسة ستالين تجاه القوميات، وآخرين تمت تبرئتهم من اتهامات سابقة بالـ ” وطنية البرجوازية”. في خطابه في المؤتمر العشرين للحزب، خرج خروتشوف عن مساره لكي يدين تهجير ستالين لقوميات بأسرها، وبعد ذلك بقليل أعيد تسكين عددا منهم (ولكن ليس تتار القرم وألمان الفولجا).
ولكن الخطوط الرئيسية لسياسة القوميات لم تتغير جذريا في حقيقة الأمر. في حكومات الجمهوريات الآسيوية المعينة حديثا في عام 1959، كان من بين الـ 118 وزيرا مالا يقل عن 38 أوروبيا” وقد شغل هؤلاء المناصب الرئيسية مثل وزارات أمن الدولة والتخطيط ونيابة رئاسة مجلس الوزراء. واستمر إضفاء صفات الكمال على عمليات الضم القيصرية، كما ” تستمر اللغة الروسية في تهميش اللغات القومية حتى في مدارس الجمهوريات القومية.
على الرغم من أن المواطنين غير الروس يشكلون حوالي نصف سكان الاتحاد السوفيتي، فان توزيع الجرائد باللغات غير الروسية مثلا في عام 1958 بلغ نسبة 18% فقط من التوزيع الإجمالي.(37)
قد لا يتعرض من يقاومون هذه النزعة للرمي بالرصاص كما في زمن ستالين، إلا أنهم يتعرضون لتخريب مستقبلهم المهني. استمر القيام بالحملات “المعادية للقومية” في مختلف الجمهوريات القومية، وظلت هذه الحملات تتمخض عن عمليات طرد وإنزال للدرجات على نطاق واسع.
واجهت القيادة الروسية مشكلة “قومية” داخل حدود الاتحاد السوفيتي وخارجها أيضا. في زمن ستالين كانت موسكو مركز حركة شيوعية دولية تمسك بالسلطة في ثلث العالم، وتحظى بتأييد العديد من أكثر قطاعات العمال نضالية في بقية دول العالم. كان هذا مفيدا لستالين بطريقة مزدوجة. كان بالإمكان استخدام الأحزاب الشيوعية الأجنبية كأوراق ضغط في الألعاب الدبلوماسية مع القوى الغربية، كما أن مديحهم لروسيا كان بالإمكان استخدامه كسلاح أيديولوجي في معركة الاستمرار في السيطرة على عمال وفلاحي روسيا – أي دليل على صحة أساليب ستالين أفضل من أن العمال على مستوى العالم يمتدحونها؟
ولكن قدرة روسيا على السيطرة على الأحزاب الشيوعية الأخرى اعتمدت على كونها القوة الشيوعية المستقلة الوحيدة:
لمدة طويلة…. عانت الحركة الشيوعية العالمية من نكسة بعد أخرى: في ألمانيا، من هزيمة الثورة في عام 1919 إلى ظهور هتلر، في الصين، هزيمة الثورة في الفترة بين عامي 1925 و 1927، هزيمة الجمهورية في الحرب الأهلية الأسبانية في عام 1936، انهيار الجبهة الشعبية في فرنسا.. الخ. الحزب الشيوعي الوحيد المحتفظ بالسلطة كان في روسيا.
إذا كان ضعف الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة أو المجتمع يؤدي إلى تعاطيه أفيون الدين بوعده بعالم آخر أفضل، فان الستالينية أصبحت قطعا أفيون الحركة العمالية العالمية أثناء فترة المعاناة والعجز التي دامت طـويلا. (38)
لقد تغيرت الأمور بعد الحرب العالمية الثانية. أولا في يوغسلافيا وألبانيا وبعد ذلك، وهذا أهم كثيرا، في الصين، وفي وقت لاحق في كوبا وفيتنام، وصلت للسلطة أنظمة شيوعية لم تكن تعتمد على الروس. وقد أوضح كليف في عدد من الكتب والمقالات (39) إن هذه الأنظمة كانت مدفوعة بنفس منطق تراكم رأسمالية الدولة مثل روسيا. ولكن هذا المنطق ذاته أدى بها حتما إلى صراعات مريرة مع حكام روسيا.
قاطع تيتو ستالين في عام 1948 لان ستالين، ولمصلحة تراكم رأس المال الروسي، حاول فرض سياسات تضر بإمكانية بناء رأسمالية دولة وطنية مستقلة في يوغسلافيا. وبعد ذلك باثني عشر عاما واجه خروتشوف انشقاقا أهم كثيرا وهو انشقاق حكام “جمهورية الصين الشعبية” العملاقة.
أرجع كليف جذور هذا الانشقاق إلى الحاجات الاقتصادية المختلفة للطبقتين الحاكمتين. كان الروس معنيين بمحاولة اللحاق بالولايات المتحدة في الإنتاجية – وقد تضمن هذا تركيز الاستثمار في صناعاتهم المتقدمة نسبيا بالفعل واستخدام ما يتبقى من موارد لمحاولة رفع مستويات المعيشة الروسية. أما الصينيون، على النقيض، فكانوا في حاجة ماسة للاستثمار في بناء صناعات جديدة من الصفر مستخدمين أكثر الوسائل بدائية إذا لزم الأمر، وكانوا بحاجة إلى إبقاء مستويات المعيشة على اقل مستوى ممكن. أدت المصالح المتباينة لمشاحنات مريرة حول توزيع الموارد. و تمخضت عن الانقسامات الاقتصادية انقسامات أيديولوجية. احتاجت القيادة الروسية، أثناء إنجازها للانتقال من التراكم البدائي إلى رأسمالية الدولة الناضجة لأيديولوجية تتباهى بالمكاسب المباشرة لسياستها المنعكسة على مستويات المعيشة. احتاجت لأن تدير ظهرها بحدة للأيديولوجية الستالينية المبنية على التضحية التي لا تنتهي والتعبئة التي لا تعرف الكلل. أما الصينيون الذين كانوا لا يزالون في مرحلة التراكم البدائي فقد احتاجوا لهذه الأيديولوجية أكثر من أي وقت آخر:
أن تنتمي الصين لنفس الكتلة في حين تحصل من الناحية المادية على حصة أقل فأقل مقارنة بشريكها الغني، لهو أمر سيئ في حد ذاته. ولكن كأمر مهبط للروح المعنوية، فان تأثير ذلك على معسكر ماو الشديد التنظيم يمكن أن يكون كارثيا في المدى البعيد.(40)
كان استنتاج كليف هو أن الشقاق بين روسيا والصين لم يكن مجرد مرحلة عابرة ولكنه دائم. وقد عني ذلك انه ” أيا كان الطريق الذي يتطور إليه الصراع بين موسكو وبكين، فهناك شيء مؤكد – لقد تهشمت الصخرة الشيوعية العالمية. ” (41)
مرة أخرى، هذا استنتاج قد لا يبدو عميقا بشكل خاص اليوم. ولكن في أوائل الستينات كان هذا رأيا تتبناه الأقلية. كان الرأي السائد في صفوف اليمين واليسار في الغرب هو أن روسيا والصين ستصفيان خلافهما عاجلا. عبر اسحق دويتشر عن رأي أغلب الاشتراكيين عندما قال أن ما هو مشترك بين البلدين كان عظيما جدا، بحيث لا يمكن للشقاق بينهما أن يدوم لوقت طويل. (42)
سنوات بريجينيف
عزل نيكيتا خروتشوف عن السلطة بواسطة المكتب السياسي الروسي في خريف عام 1964، ومات في ظل تعتيم رسمي. حكم خليفته، ليونيد بريجينيف لمدة 18 سنة، ضعف فترة خروتشوف، ومات وهو في منصبه، ومع ذلك فلم يكد جثمانه يبرد إلا وكانت الصحافة الروسية قد وصفت سنوات بريجينيف بأنها فترة “ركود”
تمكن بريجينيف من الاستيلاء على السلطة في عام 1964 لأن سلسلة الإصلاحات والإصلاحات المضادة لخروتشوف قد ضايقت شريحة كبيرة من البيروقراطية دون أن تؤدى إلى نتائج اقتصادية باهرة. كان من السهل تكوين ائتلاف من المصالح البيروقراطية المختلفة المعارضة لأية “خطط طائشة” أخرى. ومن خلال مناوراته بين هذه المصالح، استطاع الزعيم الجديد أن يحقق المزيد من الهيمنة لنفسه حتى أصبح غير قابل للتحدي، إذ أنه جمع بين منصبي سكرتير الحزب ورئيس الدولة.
إلا انه، مع ذلك، كان لابد له أن يدفع ثمنا لنجاحه. كان عليه أن يسترضى جميع الذين ساعدوه في الصعود، وقد عنى ذلك ترك بيروقراطيين أقوياء في أماكنهم، بصرف النظر عن كفاءتهم في أداء أعمالهم. لقد تميزت فترة ستالين بالتطهيرات الضخمة و الدموية، وفترة خروتشوف بالتطهيرات غير الدموية. أما فترة بريجينيف، فقد افتقدت الاثنين معا. كانت فترة طويلة من الاستقرار البيروقراطي، عزل الموت فقط خلالها الكثير من كبار البيروقراطيين من مناصبهم. عندما مات ستالين عام 1953 كان متوسط عمر أعضاء المكتب السياسي 55 سنة ومتوسط عمر سكرتيري اللجنة المركزي 52 وعند وفاة بريجينيف ارتفع المتوسط إلى 70 و 67.
في البداية كانت هناك جهودا رمزية لمواصلة الإصلاح، حاول كوسيجين، أول رئيس وزراء لبريجينيف أن يدخل نظاما جديدا يتم فيه قياس نجاح مديري المصانع من خلال الربحية، وليس فقط الإنتاج الكمي. في عام 1967 سلطت الأضواء على نجاح مجمع شيكينو الكيميائي في زيادة الإنتاج مع تخفيض قوة العمل كنموذج يتعين على المشروعات الأخرى إتباعه. إلا أن الإصلاحات الجديدة سرعان ما تلاشت. لم تنجح المحاولات العشوائية لإصلاح النظام في تحقيق المكاسب المتوقعة، كما أن المعارضة التي شكلتها المصالح البيروقراطية الراسخة قد حالت دون حدوث ما هو أكثر من مجرد محاولات عشوائية لإصلاح النظام.
لمدة اثنا عشر عاما، كان يتراءى أن المشكلات التي طاردت خروتشوف بشده كان من الممكن ببساطة تجاهلها. قد يكون معدل نمو الاتحاد السوفيتي في حالة انخفاض، إلا أنه ظل أسرع منه في معظم الدول الغربية. إن مجرد حجم الاتحاد السوفيتي والوجود المستمر لموارد معدنية كبيرة قد سمح له بتجاهل الضعف الذي اعترى قطاعات بأكملها من اقتصاده. فإذا كان الاستثمار في الزراعة و السلع الاستهلاكية قد تأخر بسبب ضغوط التنافس العسكري، فقد ظل من الممكن مع ذلك زيادة الإنتاج – ومستويات المعيشة. كان متوسط محصول الحبوب في سنوات خروتشوف 4ر124 مليون طن، وقد بلغ 7ر176 مليون طن خلال العقد الأول من حكم بريجينيف. (43) في عام 1965، كان 24% فقط من العائلات السوفيتية يمتلكون تلفزيون، و 59% يمتلكون جهاز راديو و 11% ثلاجة و 21% غسالة غسيل، بحلول عام 1984 ارتفعت النسب إلى 85%، و 96% و 91% و 70%. (44)
بينما تحسنت الأوضاع بهذه الطريقة، كان يبدو أنه من الممكن تجاهل كل المشكلات التي استحوذت تماما على خروتشوف. إلا أنها بدأت تظهر مرة أخرى بحده في أواخر السبعينات. بدأ معدل النمو الاقتصادي في الهبوط بسرعة. وضعت خطة 1976 – 1980 أقل أهداف نمو منذ العشرينات، ومع ذلك لم تتحقق. إذا كان معدل النمو السنوي قد بلغ في المتوسط 5% في سنوات خروتشوف الخمس الأخيرة، و 2ر5% في سنوات بريجينيف الخمس الأولى، فقد بلغ 7ر2% فقط خلال الفترة من 1976 إلى 1980 وفقا للتقديرات الأمريكية. (45) (الأرقام الروسية الرسمية أعلى قليلا، لكنها تظهر نفس النزعة).
لقد أصابت ظاهرة النزوع إلى الكساد صناعات معينة بقسوة بالغة: كان إنتاج الكهرباء والبترول ينمو بحلول عام 1980 فقط بحوالي ثلثي معدل السنوات الخمس السابقة، في حين أن إنتاج الفحم والصلب وأدوات ماكينات قطع المعادن قد انخفض بعض الشيء بالفعل. (46) بل وأسوأ من ذلك فان المحصول الجيد نسبيا لعام 1978 قد تبعته محاصيل فقيرة في عامي 1979 و 1980 ومحصول مأساوي في 1981.
تقول القيادة الروسية اليوم:
“النزعات غير المواتية التي ظهرت على السطح فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية خلال السبعينات أصبحت اكثر حدة في أوائل الثمانينات بدلا من أن تهدأ. استمر تباطؤ معدلات النمو خلال السنتين الأوليتين. وتدهورت مؤشرات الجودة الخاصة بالإدارة الاقتصادية. في عام 1982 كان معدل الزيادة في الصناعة، أقل بنسبة 4ر33% من متوسط فترة الخطة الخمسية السابقة”. (47)
كان رد فعل جيل بريجينيف من البيروقراطيين المتقدمين في السن هو محاولة التهرب من كل المشكلات التي طرحها الهبوط الاقتصادي. لقد حاولوا الاستمرار بالطريقة القديمة واستخدام التأثير السياسي لحماية إمبراطورياتهم الصغيرة. مرة أخرى كما تقول القيادة الآن:
في المركز كما في المناطق المحلية، استمر الكثير من القادة في العمل بالوسائل البالية واثبتوا انهم غير مستعدين للعمل في الظروف الجديدة. تدهور الانضباط والنظام إلى مستوى غير محتمل. كان هناك هبوط في مستوى الدقة والمسئولية: كما أن الممارسة الرديئة للتعديل السلبي للخطط قد انتشر على نطاق واسع.(48)
خلال فترتي ستالين وخروتشوف، كان بوسع البيروقراطيين على مختلف المستويات أن يكون لديهم شعور معين بالفخر بمنجزاتهم. ربما عاشوا في خوف من ستالين أو سخطوا على تقلبات سياسات خروتشوف، إلا انهم على الأقل قد رأوا نمو الاقتصاد في ظل سيطرتهم الجماعية، إلى جانب هيبتهم الفردية. كان بوسعهم الاعتقاد في ” التقدم الذي لا يتوقف للشيوعية” – ليس بمعنى تقدم التحرر الإنساني الذي دعا إليه ماركس ولينين، وإنما بمعنى نمو قوة رأسمالية الدولة الروسية.
في ظل بريجينيف تحول الفخر إلى تهكم، وأفضى التهكم بسهولة إلى الفساد الصريح. على القمة تورطت أسرة بريجينيف نفسها فيما يلي: اتهمت ابنته بالاشتراك في فضيحة تعلقت بمجوهرات مسروقة، واتهم زوج أخته، نائب رئيس الكي. جي. بي. بالتستر عليها. (49) وتحت هذا قليلا في التسلسل البيروقراطي، يبدو أن القيادات الوطنية لعدد من الجمهوريات قد بنوا قاعدة لأنفسهم بالتستر على عناصر شبه مجرمة: وجهت اتهامات بهذا الخصوص إلى قيادات كازاخستان واوزبكستان وجورجيا وأرمينيا عقب وفاة بريجينيف.
من الواضح أن تهكم البيروقراطية قد رافقه اغتراب جماهيري مستمر عند القاعدة. تزايد إدمان الخمر إلى مستوى قياسي. لم يتحسن مستوى إنتاج المصانع. ظلت الإنتاجية في الصناعة عند مستوى 55% من المستوى الأمريكي (50) وكانت ترتفع أسرع من الأجور بقدر ضئيل فقط (51).
جورباتشوف
تولي يوري اندروبوف الزعامة بعد وفاة بريجينيف. وبوصفه رئيسا للكي. جي. بي. فقد كان من الممكن توقع أن يكون محافظا في منهجه. ولكن في الدولة الشمولية كثيرا ما يكون البوليس السري هو الجهة الأكثر دراية بالمزاج الحقيقي لجماهير الشعب: فلديهم شبكة من المخبرين الذين يقدمون التقارير عما يقوله جيرانهم حقا، في حين أن أعضاء حزب النظام لا يضمنون تقاريرهم إلا ما يريد قادتهم سماعه. هكذا فقد كان أندروبوف ملما بالتهكم والفساد وعمق الاغتراب الشعبي. كما أنه كان أيضا سفيرا لروسيا في المجر عام 1956 وتعلم مدى السرعة التي يمكن بها لمثل هذه العناصر أن تشعل تمردا شعبيا – وهو درس عززه الصعود المفاجئ لحركة التضامن في بولندا في عام 1980. لقد سار على طريق الإصلاح، كما فعل خروتشوف قبل 30 عاما، لكي يقلل هذه المخاطر على الحكم البيروقراطي.
عاش اندروبوف لمدة 14 شهرا أخري فقط، وكانت القوى المحافظة -قوى بريجينيف- لا تزال قوية عند وفاته بما يكفي لضمان تولي أحدهم، تشيرنينكو المسن، للحكم. ولكن أندروبوف قد نجح في تحويل ميزان القوى بعض الشيء. وعندما مات تشيرنينكو بدوره بعد 13 شهرا وهو في منصبه، تم تعيين ميخائيل جورباتشوف سكرتيرا عاما.
في هذه الأثناء، استمر الركود الاقتصادي: كان إنتاج سلسلة كاملة من السلع، من الصلب إلى الأسمدة أقل فعليا مما كان عليه في العام الماضي. ولم يكن بوسع الزعيم الجديد تجنب القفز إلى الوراء فوق سنوات بريجينيف إلى الحديث عن الإصلاح والتغيير الذي كان قد دفن مع عزل خروتشوف.
ابتدع جورباتشوف شعاري البيروسترويكا (إعادة البناء) والجلاسنوست (المكاشفة). وتحدث عن الحاجة إلى “ثورة سلمية”. وشجع الاقتصاديين ذوي الميول الإصلاحية إلى إبراز الأخطاء في تنظيم الصناعة والزراعة. كما تحدث عن الحاجة لاستبدال القادة المحليين الفاسدين والمديرين غير الأكفاء.
وقد أفضى الحديث عن الإصلاح الاقتصادي إلى الحديث عن الإصلاح السياسي. فقد تمت مصالحة مع أشهر المنشقين، سخاروف، الذي سمح له بالعودة إلى موسكو من منفاه في جوركي. كما تجدد النقد لستالين وأعيد اعتبار القادة البلاشفة الذين اعدمهم وخاصة بوخارين. وكان هناك تسامح إزاء مجموعات النقاش غير الرسمية المستقلة. كما حدث تغيير في النظام الانتخابي يسمح بوجود أكثر من مرشح في بعض الحالات. وجرى حديث حول السماح بالاقتراع السري في الانتخابات الحزبية الداخلية. بل وكان هناك وعد انتخاب مديري المصانع بواسطة القوى العاملة.
دفع كل ذلك الكثير من الناس في اليسار إلى تكوين نفس نوع الثقة في الحماس الإصلاحي لجورباتشوف الذي كان أشخاص مثل دويتشر قد أظهروها تجاه خروتشوف قبل ثلاثين سنة. ولكن، مثل خروتشوف، تراجع جورباتشوف عن الإصلاح الراديكالي الوارد في بعض كلماته. فإصلاحه الاقتصادي، مثل خروتشوف، يعنى العصاة والجزرة معا.
لقد أشار جورباتشوف بحماس للحركة الستاخانوفية في الثلاثينات والأربعينات كنموذج ينبغي الاهتداء به. (52)
وقد ذكر في اجتماع في خاباروسك: “إن الشيء الأساسي الذي نحتاج إليه الآن، وأنا أقوله لكم وأطلبه منكم، هو: العمل العمل العمل !”(53) وكان أول إجراء رئيسي اتخذه في مجال التعامل مع عدم الكفاءة الاقتصادية هو منع العمال من تناسي أحزانهم، فقد أصدر مرسوما يحد من بيع الكحول ويرفع سعره بنسبة 30%. وبالفعل، بالنسبة لعدد كبير من العمال كانت كفة العصا ترجح كثيرا على الجزرة: فحين طبق الإصلاح على مستوى الوحدة الإنتاجية، أدى إلى تخفيضات في الأجور – والى إضرابات، كما في توقف الترام في تشيخوف. (54) وما وصفته إزفستيا بأنه مظاهرة وحشية في مصنع شاحنات نهر كاما. (55) اعترف جورباتشوف نفسه بوقوع عدة حالات “توقف عن العمل” بسبب إجراءات الرقابة على الجودة التي خفضت مكافآت العمال. (56)
لم تسفر وعود الجلاسنوست عن حتى الديمقراطية المحدودة جدا المعروفة في الدول الغربية المتقدمة. كان هناك اختيار المرشحين في انتخابات عام 1987 – ولكن في 5% فقط من الدوائر، وحتى في هذه لم يسمح بالحملات الانتخابية المفتوحة للدعاية للسياسات المختلفة.
إن القواعد الخاصة بانتخابات المديرين قد أوضحت أن العمال لن تكون لهم سيطرة حقيقية، حيث لا يحدد العمال أنفسهم من على قائمة المرشحين النهائية سيتم التصويت له. على المرشح الناجح أن يحصل على موافقة الجهاز الأعلى المسئول عن الوحدة الإنتاجية. (57) كما أن التصويت لا يقوم به العمال فقط وإنما كل الموظفين (بما في ذلك المديرين والمشرفين والملاحظين). وأخيرا ففي الانتخابات التي جرت حتى الآن لم يسمح للعمال بالقيام بحملات لصالح أو ضد مرشح محدد (كما شكي العمال في مصنع سيارات راف في لاتفيا عام 1987). (58) من السهل أن نرى كيف انه، في مثل هذه الظروف، ستستطيع المجموعة الوحيدة المسموح لها بإجراء الحملات داخل الوحدة الإنتاجية، أي خلية الحزب، أن تحدد من يفوز وتظهر الإحصائيات أن 7ر16% فقط من أولئك الذين يحتلون مواقع رئيسية في خلايا الحزب المحلية من العمال.(59)
إلى جانب الانتخاب المزعوم للمديرين، تم تكوين مجالس منتخبة للوحدات الإنتاجية، ولكن مرة أخرى، أوضحت قواعد الانتخاب إن هذا ليس مثالا للديمقراطية العمالية الحقيقية. ذلك أن “مجال السلطة الأساسي” للمجالس هو مراقبة أداء العمال وتعزيز إنتاجية الوحدة الإنتاجية.
… يركز المجلس اهتمامه الأساسي على تطوير مبادرة الشعب العامل، وعلى إسهام كل عامل في القضية المشتركة، كما يطبق الضوابط الكفيلة بتحقيق أعلى مستوى من النتائج المستهدفة… وجنى الإيرادات الجماعية المجدية من الناحية الاقتصادية.(60)
كانت الحملات الانتخابية الأولى قائمة بالكامل على سجلات المرشحين في تعزيز الكفاءة والإنتاجية وولائهم “لقواعد القانون والأخلاق الاشتراكية”. (61) من الواضح أن هذه الهيئات اقرب كثيرا إلى دوائر مراقبة الجودة منها إلى المجالس الحقيقية للمصانع.
وإذا كانت هناك أية شكوك حول هذا الأمر، فان المادة 6 من القانون الجديد تقول صراحة أن جهاز الحزب “يشرف على عمل تنظيم الإدارة الذاتية الجماعية”.
ويظهر نفس الجمع بين الحديث عن الإصلاح والسيطرة الحقيقية من أعلى عند تناول مسألة القوميات. حيث اعتبرت الكثير من المجموعات العرقية المضطهدة التي تشكل أكثر من نصف سكان الاتحاد السوفيتي أن الجلاسنوست تعني انهـم يستطيعون لأول مرة خلال سبعين عاما أن يتحدثوا عن التمييز الذي يعانونه. ففي عام 1987 كانت هناك مظاهرات في جمهوريات البلطيق وأخرى قام بها تتار القرم.
وشهد شهر فبراير من عام 1988 مظاهرة لمليون شخص في العاصمة الأرمينية. ومع ذلك فان الإجراءات التي اتخذتها حكومة جورباتشوف كانت بناء على توجيهات مركزية من موسكو بدلا من الاعتماد على المبادرة المحلية. في نهاية عام 1986 فرض شخص روسي على جمهورية كازاخستان الآسيوية كسكرتير أول بدلا من زعيم محلي ادعي أنه فاسد – وتدفقت آلاف عديدة من الكازاخ إلى “الما آتا” واشتبكوا مع البوليس إعرابا عن احتجاجهم. كما أدار النظام ظهره للاحتجاجات في جمهوريات البلطيق وتلك التي قام بها التتار. وعندما التقى جورباتشوف بوفد منتخب من المظاهرة الجماهيرية للأرمن، اخبرهم انه سيكون عليهم الانتظار لبضع سنوات قبل التخلص من آلامهم. وكما في حالة خروتشوف قبل ثلاثين سنة، فان وعد جورباتشوف بالإصلاح يناقضه اندفاعه لجعل الصناعة الروسية أكثر كفاءة – وهذا يعني توجيها مركزيا، وليس محليا، للموارد.
مرة أخرى مثل خروتشوف، تميزت فترة حكم جورباتشوف بالتقلبات المفاجئة. ففي الفترة بين عامي 1984 و 1986، تحدث عن الإصلاح ولكنه ركز أساسا على تغيير الأشخاص، بحيث يستبدل أنصار بريجينيف برجاله هو. ثم بدأ خلال الشهور العشر الأولى من عام 1987 يدعو للتغيير السريع في سلسلة من الخطب وفي كتابه البيروسترويكا. ولكن في أكتوبر من ذلك العام حدث تراجع مفاجئ إلى أساليب اقدم.
في طليعة حملة المطالبة بالإصلاح كان بوريس يلتسين، زعيم التنظيم الحزبي في موسكو الذي عيّن مؤخرا. قد افتتح جلسة أكتوبر للجنة المركزية بخطبة يبدو أنها تضمنت هجوما شديدا على أولئك الذين يعرقلون البيروسترويكا (لا نعرف المضمون الدقيق لخطبته، حيث أن الجلاسنوست لا تصل إلى مستوى المصارحة حول مثل هذه الإجراءات). تلا ذلك الهجوم عليه من جانب ما لا يقل عن 26 متحدثا، ثم مرر الاجتماع بالإجماع قرارا “يعتبر كلمته خطأ سياسيا”. تم إطلاع الصحافة الأجنبية على النقاشات الدائرة، ولكن ليس شعب الاتحاد السوفيتي. كان أول شيء يسمعه الشعب رسميا بعد ثلاثة أسابيع من ذلك، عندما صوت اجتماع خاص لحزب مدينة موسكو لصالح طرد يلستين. كان الذي حدد لهجة الاجتماع هو جورباتشوف نفسه، الذي زعم أن يلتسين “تبنى منذ البداية مقولات ووعود طنانة غذاها إلى حد كبير طموحه المفرط وغرامه بالبقاء في الأضواء”. لم تكن اللغة مختلفة كثيرا عن تلك التي استخدمها ستالين ضد خصومه في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات (قبل أن يتحول إلى تسميتهم بعملاء الإمبريالية). وقد كشف رد فعل يلتسين عن النطاق المحدود جدا للجدل المفتوح لدى القيادة التي تستلهم الجلاسنوست، وبدلا من أن يدافع عن نفسه رد يلتسين باعتراف كان يمكن أيضا أن يصدر عن عهد ستالين:
لابد أن أقول أنني لا أستطيع تفنيد هذا النقد… إنني مذنب جدا أمام التنظيم الحزبي لمدينة موسكو، إنني مذنب جدا أمام اللجنة الحزبية للمدينة، وأمام المكتب السياسي، و، بالطبع، أمام ميخائيل جورباتشوف صاحب المكانة العظيمة في تنظيمنا، في بلدنا، وعلى امتداد العالم. (62)
لم تكن مسألة يلتسين حدثا معزولا. لقد شكلت ما يشبه نقطة التحول في الاندفاع نحو الجلاسنوست. يظهر هذا من خلال تحول في منهج جورباتشوف ذاته. قبل مسألة يلتسين، في صيف عام 1987، كتب كتابه البيروسترويكا، الذي يطالب بالإصلاح الراديكالي. وبعد الهجوم على يلتسين في اللجنة المركزية ألقى خطابا في الذكرى السبعين لثورة أكتوبر، كان من المتوقع على نطاق واسع أن يدعو هذا الخطاب للإسراع بالبيروسترويكا والجلاسنوست. ولكنه بدلا من ذلك ركز بنفس المقدار على “مخاطر” ” السير السريع جدا” ومخاطر مقاومة البيروسترويكا.
إن مثل هذه الانتكاسات المفاجئة في السياسة ليست أمرا عرضيا. فالركود في الاقتصاد الروسي يولد ضغوطا من أجل الإصلاح، ولكن هذه الضغوط تواجه عقبات هائلة داخل البيروقراطية نفسها. والأمر ليس فقط أن ملايين من البيروقراطيين الأفراد ملتزمون بالطرق القديمة لتنظيم الأمور، أنها أيضا خوف البيروقراطية كلها من أن يؤدي الجدل المرير فيما بينها إلى فتح ثغرة أمام الملايين من أفراد الشعب تحتها، يستطيعون من خلالها اتخاذ خطوات في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة.
كانت بالتحديد شقاقات كهذه داخل البيروقراطية هي التي مهدت الأرض لانتفاضة ألمانيا الشرقية في عام 1953، وانتفاضة بوزنان في يونيو 1956، ثورة أكتوبر – نوفمبر 1956 المجرية، وأحداث 1968 في تشيكوسلوفاكيا. (63) في كل حدث، فان ما بدأ كجدالات في أقسام مختلفة من البيروقراطية شل جزئيا آلة القمع وسمح للطلبة والمثقفين وأخيرا العمال بالتحرك.
كانت الإشارات الأولى لتحركات كهذه قد ظهرت بالفعل كنتاج للجدالات على الجلاسنوست. كان هناك الصدام بين المتظاهرين والبوليس في “الما آتا” في عام 1986، والمظاهرات القومية في دول البلطيق في عام 1987، والمظاهرة الضخمة في أرمينيا في أواخر فبراير 1988. وخارج الاتحاد السوفيتي نفسه، في دائرة نفوذه في أوروبا الشرقية، كانت هناك مؤشرات إلى أن الأمور قد تخرج تماما عن السيطرة، مع حدوث إضرابات ومظاهرات المجر، وشبه انتفاضة في مدينة براسوف الرومانية، واستمرار السخط في بولندا وتشيكوسلوفاكيا.
وأكثر من ذلك، فان أولئك الذين يقاومون الإصلاح لديهم حجة قوية جدا: ليس بديهيا بأي حال أن الإصلاح الاقتصادي سيحل مشاكل الاقتصاد. في بلدين من أوروبا الشرقية، المجر ويوغسلافيا، أجريت إصلاحات واسعة النطاق في اتجاه ما يسمى أحيانا اشتراكية السوق، ولبعض الوقت حظيت هذه الإصلاحات بمديح هائل في الإعلام الغربي. ومع ذلك فان الاقتصاديين المجري واليوغسلافي اليوم ليسا أحسن حالا من الاقتصاد الروسي، يعاني الاثنان من الركود الصناعي ومعدلات تضخم عالية، وديون أجنبية كبيرة، ويسعى الاثنان لفرض تخفيضات في الأجور والعمالة على عمالهما، مما يخلق سخطا متزايدا أدى، في حالة يوغسلافيا، إلى موجة ضخمة من الإضرابات في عام 1987.
المقصود هو أن الإصلاحات لا تستطيع التعامل مع السبب الجذري للإخفاقات الاقتصادية للاتحاد السوفيتي. يكمن هذا، كما ذكر كليف قبل أربعين عاما في الطريقة التي تخضع بها البيروقراطية الحاكمة الاقتصاد كله للتنافس العسكري والاقتصادي مع الغرب (و، اليوم، مع الصين). يفرض هذا مستوى تراكم لا تستطيع الموارد تحمله. كما انه يدفع جماهير السكان – العمال والمزارعين في المزارع الجماعية – إلى اغتراب عميق عن عملهم بالدرجة التي تجعلهم لا يهتمون بنوعية إنتاجهم.
الأخطاء التي يركز عليها المصلحون الاقتصاديون – التبديد، الطابع الرديء لسلع كثيرة، عدم عناية العمال بعملهم، المشاريع العملاقة التي تتعرض للصدأ من عدم الاستعمال – لها جميعا نظائر في المؤسسات العملاقة للرأسمالية الغربية. كارثة المفاعل النووي في تشيرنوبل يقابلها جزيرة ثري مايل في الولايات المتحدة، وقبل ذلك حادث وينسكيل في بريطانيا في عام 1957. الفاقد في الاقتصاد الروسي تقابله مصانع الصلب والكيماويات الحديثة العاطلة المنتشرة على امتداد أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، ضحايا السوق الذي يراه كثير جدا من المصلحين كإنقاذ لروسيا.
ربما تعاني روسيا من رداءة الإنتاج. ولكن هذا هو أيضا حال صناعات كاملة في الغرب – انظر تجربة بلاد مثل بريطانيا حيث انتج انتعاش البناء في أواخر الستينات وأوائل السبعينات مئات الآلاف من الشقق والمنازل التي كانت من الناحية الفعلية غير صالحة للسكن الآدمي بعد اقل من 15 سنة. إذا كان البيروقراطيون الروس يحاولون رمى سلع رديئة النوعية على جمهور غير مشكك، فهذا ما فعله الباعة الغربيون الذي قدموا أدوية “ثاليدومان” “أوبرين”، والذين حثوا النساء على استخدام الواقي “دلكن”، والذين أغروا الناس باستخدام معدية “هيرالد أوف فرى انتربرايز”. وبدلا من أن يعاقب السوق الشركات العملاقة المعنية، فانه كثيرا ما سمح لها بحصد مكاسب هائلة. وحتى الشركات عديمة الكفاءة بالمعايير النقدية الضيقة نادرا ما تدفع إلى الإفلاس الصريح في ظل ظروف الرأسمالية الغربية الحديثة: تتحرك الدولة لإنقاذهم كما فعلت مع كرايسلر في الولايات المتحدة وإيه اي جيه في ألمانيا الغربية، وماسي فيرجسون في كندا وبريطانيا. إن وحدات الرأسمالية الحديثة ضخمة جدا بحيث يكون الخراب الماثل في حالة ترك كل شيء للعب قوى السوق الحر عظيم جدا حتى بالنسبة لأكثر الحكومات ميلا للسوق، مثل حكومة تاتشر في بريطانيا وحكومة ريجان في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك فان مقاييس عدم الكفاءة الداخلية للشركات (والتي اسماها أحد الاقتصاديين “س – عدم كفاءة”) تشير إلى أن كثيرا من الشركات يمكن أن تعمل بضعف إنتاجيتها الحالية.(64)
يبلغ الاقتصاد الروسي نصف حجم منافسه الأساسي، الولايات المتحدة. وهو لا يتحمل أن يعمل بوحدات إنتاجية اصغر من منافسه، هكذا فان تركيز الإنتاج أعلى نسبيا، وتأثير حالات معينة من عدم الكفاءة والتبديد أكبر نسبيا. ولا يستطيع حكام روسيا بالطبع أن يتعاملوا مع هذه الحالات ببساطة باستخدام السوق لدفع وحدات رئيسية خارج مجال العمل، حيث أن الخراب الناتج سيكون اكبر كثيرا منه في الولايات المتحدة.
القيادة الروسية اليوم واقعة في ورطة كبيرة. إنها لا تجرؤ على ترك الأشياء كما هي لوقت أطول. إنها تخشى أن يؤدي الركود الاقتصادي فجأة، إلى نفس نوع التمرد الشعبي الذي خلق حركة التضامن في بولندا عام 1980. ومع ذلك فهي تخشى أن تدفع الإصلاح للأمام باتساق ولا تعرف حتى إذا كان الإصلاح سينجح أم لا. إنها تتأرجح بين سياسة وأخرى، ويصحب ذلك مشاحنات مريرة داخل البيروقراطية. هذه النزاعات تجعل من الصعب على البيروقراطية أن تفرض إرادتها على باقي السكان. تلك كانت المكونات التي فتحت الطريق لأحداث ألمانيا الشرقية في عام 1953، والمجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا عام 1968.
كتب ماركس في عام 1859 أنه “بعد أن كانت أشكالا لتطور القوى الإنتاجية، فأن علاقات الإنتاج القائمة تتحول إلى قيود. ثم يبدأ عهد ثورة اجتماعية”. من الواضح تماما إن علاقات الإنتاج التي خلقتها البيروقراطية الستالينية أصبحت قيودا من هذا النوع. يمكن جدا لروسيا أن تكون في طريقها إلى “عهد جديد للثورة الاجتماعية”.
لقد حذر ماركس انه من المستحيل “تحديد الأشكال القانونية أو السياسية أو الدينية أو الجمالية أو الفلسفية – باختصار، الأيديولوجية – التي يصبح بها الناس واعين للصراع ثم يخوضون الحرب ضده”. إننا قطعا لا نستطيع التنبؤ بالسرعة التي ستتطور بها الفترة الجديدة في روسيا ولا بالتكوينات السياسية والأيديولوجية التي ستبرز. ما نستطيع أن نقوله بيقين، مع ذلك، هو أن البيروقراطية تواجه فترة أزمة خطيرة جدا. شهدت هذه الأزمة بالفعل اكبر مظاهرات قومية منذ العشرينات وانتشار للأفكار الإصلاحية. ينتظر أن يلي ذلك صراعات الطبقة العاملة. ولكن لكي يفرض العمال حلهم للازمة فانهم سيحتاجون لفهم واضح لطبيعة النظام ودينامياته – فهم يمكن فقط أن يأتي من نظرية رأسمالية الدولة مثل تلك التي طورها توني كليف قبل أربعين عاما.
الملحق الأول: اختبار لتعريف تروتسكي لروسيا بأنها دولة عمالية منحطة
تكمن نقطة انطلاق تحليل تروتسكي للنظام الستاليني في البلشفية، وهو يبين التناقض بين الماركسية والستالينية، بين ثورة أكتوبر الاشتراكية والثورة المضادة البيروقراطية. ولكونه تلميذا تروتسكي ولاعتقاده معه بأن ما هو حيوي في تقويم الستالينية هو مقارنتها من وجهة نظر علاقتها بالماركسية – اللينينية، فان هذا الكتاب يرى أنه من الضروري تكريس أكبر عناية ممكنة للتقويم النقدي لتحليل تروتسكي للنظام الستاليني.
هل يمكن لدولة ليست تحت سيطرة العمال أن تكون دولة عمالية؟
في أعمال تروتسكي نجد تعريفين مختلفين ومتناقضين تماما للدولة العمالية. وفقا لأحدهما، معيار الدولة العمالية هو أن تكون للبروليتاريا سيطرة مباشرة أو غير مباشرة، مهما كانت مقيدة، على سلطة الدولة: أي أن يكون بوسع البروليتاريا أن تتخلص من البيروقراطية بالإصلاح وحده، دون الحاجة للثورة في 1931 كتب:
إن الإقرار بأن الدولة السوفيتية الحالية هي دولة عمالية لا يعني فقط أن البرجوازية لا تستطيع الاستيلاء على السلطة إلا بالانتفاضة المسلحة، وإنما أيضا أن بروليتاريا الاتحاد السوفيتي لم تفقد إمكانية إخضاع البيروقراطية، أو إحياء الحزب وإصلاح نظام الدكتاتورية – بدون ثورة جديدة، بأساليب الإصلاح وسيرا على طريقه. ” (1)
وفي رسالة إلى بورودي، عضو في المجموعة المعارضة المسماة المركزيون الديمقراطيون، يعبر عن هذه الفكرة بطرية أوضح الرسالة غير مؤرخة ولكن كل المؤشرات تظهر أنها كتبت في نهاية 1928. انه يكتب:
انك تكتب: هل انحطاط الجهاز والسلطة السوفيتية أمر واقع؟ هذا هو السؤال الثاني؟. لاشك أن انحطاط الجهاز السوفيتي هو أكثر تقدما بكثير من نفس العملية في الجهاز الحزبي ومع ذلك، فان الحزب هو الذي يقرر وفي الوقت الحالي، فان هذا يعني: الجهاز الحزبي سؤالك إذن يمكن التعبير عنه بطريقة أخرى مماثلة: هل الجوهر البروليتاري للحزب، بمساعدة الطبقة العاملة، قادر على الانتصار على أوتوقراطية الجهاز الحزبي الذي يندمج مع جهاز الدولة؟ إن الذي يجيب مسبقا بأنه غير قادر، يتحدث بالتالي ليس فقط عن ضرورة حزب جديد وأساس جديد، وإنما أيضا عن ضرورة ثورة بروليتارية ثانية وجديدة. (2)
ولاحقا في نفس الرسالة يقول:
إذا كان الحزب جثة، فان حزبا جديدا ينبغي بناءه على بقعة جديدة، ويجب إخبار الطبقة العاملة بذلك صراحة. إذا كان ثرميدور قد اكتمل، وإذا كانت دكتاتورية البروليتاريا قد صفيت، فيجب بسط راية الثورة البروليتارية الثانية. هذه هي الطريقة التي سنتصرف بها إذا أثبت طريق الإصلاح، الذي نقف في صفه، عدم جدواه. (3)
تعريف تروتسكي الثاني له معيار مختلف جوهريا. بغض النظر عن معنى استقلالية جهاز الدولة عن الجماهير، وحتى لو كانت الطريقة الوحيدة للتخلص من البيروقراطية هي الثورة، فطالما أن وسائل الإنتاج “مدولته فان الدولة تظل دولة عمالية وتبقى البروليتاريا الطبقة الحاكمة. هكذا، ففي “الثورة المغدورة ” يكتب تروتسكي:
إن تأميم الأرض، ووسائل الإنتاج الصناعي، والنقل، والصرافة، مع احتكار التجارة الخارجية، يمثل أساس البنية الاجتماعية السوفيتية. من خلال هذه العلاقات، التي أقامتها الثورة البروليتارية، يتم بالأساس تعريف الاتحاد السوفيتي بالنسبة لنا كدولة عمالية.(4)
يمكن استخلاص ثلاثة استنتاجات من هذا:
تعريف تروتسكي الثاني للدولة العمالية ينفي الأول.
إذا كان التعريف الثاني سليما فان البيان الشيوعي كان مخطئا في قوله: “ستستخدم البروليتاريا سيادتها السياسية لكي تنتزع بالتدريج، كل رأس المال من البرجوازية لكي تمركز كل وسائل الإنتاج في أيدي الدولة”، وكان مخطئا في قوله “الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة هي رفع البروليتارية إلى وضع الطبقة الحاكمة”. وفضلا عن ذلك ففي هذه الحالة فلا كوميونة باريس ولا الدكتاتورية البلشفية كانتا دولا عمالية، حيث أن الأولى لم تدولت وسائل الإنتاج، والثانية لم تفعل ذلك لبعض الوقت.
إذا كانت الدولة هي مستودع هي وسائل الإنتاج، والعمال لا يسيطرون عليها فانهم لا يملكون وسائل الإنتاج، أي انهم ليسوا الطبقة الحاكمة. التعريف الأول يقر بهذا. التعريف الثاني يتجنبه، ولكنه لا يفنده.
تعريف روسيا بأنها دولة عمالية والنظرية الماركسية للدولة
يتعين أن يؤدي افتراض أن روسيا دولة عمالية منحطة إلى استنتاجات تتناقض مباشرة مع المفهوم الماركسي للدولة. تحليل دور ما أسماه تروتسكي الثورة السياسية، والثورة المضادة الاجتماعية سيثبت ذلك.
في “الثورة المغدورة” يكتب تروتسكي:
لكي نكون فهما افضل لطابع الاتحاد السوفيتي الحالي، دعونا نضع افتراضين مختلفين فيما يتعلق بمستقبله، دعونا نفترض أولا أن البيروقراطية السوفيتية تم إسقاطها بواسطة حزب ثوري لديه كافة خصائص البلشفية القديمة، وازداد ثراءا فضلا عن ذلك من خلال التجربة العالمية للفترة الأخيرة. سيبدأ حزب كهذا بإعادة الديمقراطية في النقابات والسوفييتات. سيكون قادرا على، وسيكون عليه، إعادة حرية الأحزاب السوفيتية. ومع الجماهير وعلى رأسهم، سيجري تطهيرا لا يعرف الرحمة لجهاز الدولة. سوف يلغي الرتب والنياشين، وكل أنواع الامتيازات، وسيحد من عدم المساواة فيما يدفع مقابل العمل بضرورات الحياة الخاصة بالاقتصاد وجهاز الدولة. وسيعطي الشباب الفرصة في التفكير المستقل والتعلم والنقد والنمو. سيدخل تغييرات عميقة في توزيع الدخل القومي بما يتفق مع مصالح وإرادة جماهير العمال والفلاحين. ولكن فيما يتعلق بعلاقات الملكية، لن يكون على السلطة الجديدة أن تلجأ لإجراءات ثورية. إنها ستحتفظ بتجربة الاقتصاد المخطط وتطورها أكثر بعد الثورة السياسية – أي بعد التخلص من البيروقراطية – سيكون على البروليتاريا أن تدخل سلسلة من الإصلاحات الهامة جدا في الاقتصاد، ولكن ليس ثورة اجتماعية أخرى….
أما إذا – هذا هو الافتراض الثاني – أطاح حزب برجوازي بالفئة السوفيتية الحاكمة، فانه سيجد عدد غير قليل من الخدم الجاهزين بين البيروقراطيين والإداريين والفنيين والمديرين وسكرتيري الحزب والدوائر العليا المتميزة بصفة عامة. وبالطبع، سيكون ضروريا في هذه الحالة أيضا القيام بتطهير لجهاز الدولة. إلا أن العودة للبرجوازية ستطهر على الأرجح عددا أقل من الناس بالمقارنة بما يمكن لحزب ثوري أن يفعله. المهمة الأساسية للسلطة الجديدة ستكون بإعادة الملكية الفردية لوسائل الإنتاج.. و. بصرف النظر عن أن البيروقراطية السوفيتية قد ذهبت بعيدا في الاعتداد للعودة البرجوازية، فان النظام الجديد سيكون عليه أن يدخل فيما يتعلق بأشكال الملكية وأساليب الصناعة، ليس إصلاحا وإنما ثورة اجتماعية. (5) دعونا نختبر هذا. أثناء الثورات السياسية البرجوازية، على سبيل المثال ثورات 1830 و 1848 الفرنسيتان، تغير شكل الحكومة بدرجة أو بأخرى، إلا أن نوع الدولة ظل كما هو – “هيئات خاصة من الرجال المسلحين والسجون.. الخ” مستقلة عن الشعب وتخدم الطبقة الرأسمالية.
من المؤكد أن انتصار هتلر في ألمانيا أتى معه بتطهير واسع المدى لجهاز الدولة، ولكن آلة الدولة ككل لم تدمر، حيث بقيت من حيث الجوهر كما هي. يوجد ارتباط أوثق كثيرا بين المضمون والشكل في الدولة العمالية مما هو عليه في أي دولة أخرى. إذن، فحتى لو افترضنا إمكانية وقوع ثورات سياسية في الدولة العمالية، فان شيئا واحدا واضح، ينبغي على آلة الدولة العمالية التي كانت قائمة قبل الثورة السياسية البروليتارية أن تستمر في الوجود بعد هذه الثورة. إذا كانت روسيا دولة عمالية، فعلى الرغم من أن الحزب العمالي الثوري قد يجري تطهيرا واسع المدى لجهاز الدولة عندما يأتي للسلطة، إلا أنه يتعين عليه يكون قادرا على استخدام وأن يستخدم بالفعل آلة الدولة القائمة: ومن جانب آخر، فإذا صعدت البرجوازية للسلطة، لن تكون قادرة على استخدام آلة الدولة القائمة، بل ستكون مضطرة لتدميرها وبناء أخرى على أنقاضها.
هل هذه هي الشروط القائمة في روسيا؟ إن طرح السؤال بطريقة صائبة هو نصف الطريق نحو الإجابة عليه؟. انه من البديهي يقينا أن الحزب الثوري لن يستخدم وزارة الداخلية ولا البيروقراطية ولا الجيش النظامي. سيكون على الحزب الثوري أن يدمر الدولة القائمة ويستبدلها بالسوفييتات والميليشيا الشعبية، الخ.
وعلى النقيض من هذا، فإذا صعدت البرجوازية للسلطة فإنها تستطيع بالقطع أن تستخدم وزارة الداخلية والجيش النظامي، الخ. يتجنب تروتسكي تطبيق النظرية الماركسية للدولة على الثورة السياسية والثورة المضادة الاجتماعية في روسيا، جزئيا بالقول بأن الحزب الثوري “سيبدأ بإعادة الديمقراطية في النقابات والسوفييتات”. ولكن فعليا لا توجد نقابات ولا سوفييتات في روسيا، يمكن إعادة الديمقراطية فيها. إن المسألة ليست هي إصلاح آلة الدولة، وإنما تدميرها وبناء دولة جديدة. سواء افترضنا أن البروليتاريا ينبغي أن تدمر آلة الدولة القائمة عند وصولها للسلطة، في حين أن البرجوازية تستطيع استخدامها، أو افترضنا انه لا البروليتاريا ولا البرجوازية تستطيع استخدام جهاز الدولة القائم (حيث أن “تطهير جهاز الدولة ” يتضمن بالضرورة تغييرا من العمق بحيث يحوله كيفيا) – فان الافتراضين ينبغي أن يصلا هنا إلى استنتاج أن روسيا ليست دولة عمالية. إن افتراض أن كلا من البروليتاريا والبرجوازية تستطيعان استخدام نفس آلة الدولة كأداة تسلط كل منهما هو بمثابة تنصل من المفهوم الثوري للدولة الذي عبر عنه ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي.
تناول شكل الملكية مستقلا عن علاقات الإنتاج – تجريد ميتافيزيقي.
يقر كل ماركسي بأن مفهوم الملكية الخاصة في ذاته، مستقلا عن علاقات الإنتاج، هو تجريد فوق – تاريخي. يعرف التاريخ الإنساني الملكية الخاصة للنظام العبودي، والنظام الإقطاعي، والنظام الرأسمالي، وهي كلها مختلفة جوهريا عن بعضها البعض. استهزأ ماركس بمحاولة برودون تعريف الملكية الخاصة مستقلة عن علاقات الإنتاج. ما يحول وسائل الإنتاج إلى رأسمال هو إجمالي علاقات الإنتاج. وكما قال ماركس:
في كل عصر تاريخي، تطورت الملكية بشكل مختلف وفي ظل مجموعة من العلاقات الاجتماعية المختلفة تماما. ومن هنا تعريف الملكية البرجوازية ليس يقل عن إعطاء عرض لكافة العلاقات الاجتماعية للإنتاج البرجوازي. إن محاولة إعطاء تعرف للملكية كأنها علاقة مستقلة، أو مقولة بذاتها – فكرة خالدة مجردة – لايمكن إلا أن يكون وهما ميتافيزيقيا أو قانونيا. (6)
إن جميع المقولات التي تعبر عن العلاقات بين الناس في عملية الإنتاج الرأسمالية – القيمة، السعر، الأجور، الخ – تشكل جزءا أساسيا من الملكية الخاصة للبرجوازية. إن قوانين حركة النظام الرأسمالي هي التي تحدد الطابع الاجتماعي التاريخي للملكية الخاصة الرأسمالية، وهي التي تفرقها عن الأنواع الأخرى للملكية الخاصة. لقد قام برودون، الذي جرد شكل الملكية عن علاقات الإنتاج “باختزال مجمل هذه العلاقات الاقتصادية (علاقات الإنتاج الرأسمالية) في المفهوم القانوني العام “للملكية”.
وبالتالي، ” فلم يكن برودون قادرا على الذهاب أبعد من الإجابة التي كان بريسوت، في عمل مماثل، قد أعطاها بالفعل، قبل 1789، وبنفس الكلمات “الملكية سرقة”. (7)
لقد أوضح ماركس تماما أن ملكية خاصة معينة يمكن أن يكون لها طابع تاريخي مختلف عن أخرى، أي يمكن أن تكون أساسا لطبقة مختلفة عن الأخرى. ليس من البديهي تماما أن الشيء نفسه ينطبق على الملكية المدولته. والسبب الرئيسي في ذلك هو أ، التاريخ المعروف للإنسانية كان في الأساس تاريخ الصراع الطبقي على أساس الملكية الخاصة. حالات الانقسام الطبقي على أساس مختلف عن الملكية الخاصة ليست عديدة جدا وهي في الإجمالي غير معروفة جيدا. ومع ذلك، فان هذه الحالات قد وجدت كمثال أول، أو دعونا نأخذ فصلا من تاريخ أوروبا، الكيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى.
كان لدى الكنسية قطع هائلة من الأرض عمل عليها مئات الآلاف من الفلاحين. كانت العلاقات بين الكنسية والفلاحين هي نفس العلاقات الإقطاعية التي وجدت بين صاحب الضيعة الإقطاعي وفلاحيه. الكنيسة في ذاتها كانت إقطاعية. وفي نفس الوقت، فان أحدا من الأساقفة والكاردينالات، الخ، لم يكن له حقوق فردية على الملكية الإقطاعية. إن علاقات الإنتاج هي التي تحدد الطابع الطبقي لملكية الكنيسة، التي كانت إقطاعية، على الرغم من أنها لم تكن فردية.
قد يقال أن الكنيسة الكاثوليكية كانت مجرد ذيل للنظام الإقطاعي ككل، ومن هنا يأتي طابعها الإقطاعي – ولكن هذه الحجة لا تعنينا هنا، حيث أننا لا نريد تفسير صعود الكنيسة الكاثوليكية، مركزة في أيديها قطع هائلة من الأرض وداخلة في علاقات إقطاعية، حيث يقوم الفلاحون بزرع أرضها. إننا نريد فقط أن نظهر أن نفس العلاقات الإنتاجية يمكن أن يتم التعبير عنها من خلال أشكال مختلفة للملكية، واحد منها خاص، والآخر مؤسسي.
من تاريخ الشرق نستطيع أن نضرب أمثلة عديدة لأنظمة اقتصادية ذات انقسام طبقي عميق، قائمة على أساس لا الملكية الخاصة وإنما ملكية الدولة. وجدت أنظمة كهذه في مصر الفرعونية، ومصر الإسلامية، والعراق وفارس والهند. يبدو أن ملكية الدولة للأرض كانت ترجع بالأساس إلى أن الزراعة اعتمدت بالكامل على نظام الري في هذه البلاد، والذي اعتمد بدوره على نشاط الدولة. المثال التالي مفيد بما يكفي لتبرير الاستطراد.
الإقطاع العربي – مثال للمجتمع الطبقي القائم على ملكية الدولة
دعونا نختبر الخصائص الأساسية للإقطاع العربي في ظل المماليك:
كان خضوع الفلاحين هنا للدولة الإقطاعية القوية أكثر قسوة كثيرا منه في أوروبا العصور الوسطى، ولكن العضو الفرد في الطبقة الحاكمة لم تكن له أي حقوق ملكية فردية على الإطلاق. كان السلطان هو مالك الأرض الوحيد وكان يقسم حق جمع الإيجار في المناطق المختلفة، على مختلف النبلاء (الملتزمين). في حين أنه في أوروبا كان كل نبيل إقطاعي يملك ضيعة معينة يتم توارثها أبا عن جد، فان النبيل الإقطاعي في المشرق العربي لم تكن له ضيعة دائمة خاصة، وإنما كان عضوا في طبقة سيطرت جماعيا على الأرض، وكان له الحق في الاستيلاء على الإيجار. في سوريا وفلسطين، كانت المنطقة التي يجمع منها هؤلاء النبلاء الإقطاعيون الإيجار تتغير من سنة لأخرى، وفي مصر حصلوا على حق جمع الإيجار من منطقة معينة على مدى حياتهم، وكان لورثتهم حق الأسبقية في التعيين كخليفة للمتوفى، في حين أنه في أوروبا كان النبيل الإقطاعي قوة مستقلة نسبيا في مواجهة الملك، الذي لم يكن أكثر من النبيل الإقطاعي الأول، ففي المشرق العربي كانت الجماعة الإقطاعية فقط عاملا ذا أهمية، كان النبلاء العرب ضعفاء كأفراد، لأنهم كانوا يعتمدون على الدولة في مواقعهم. لقد دلت طريق تخصيص الضياع بوضوح على ضعف النبيل الإقطاعي في مواجهة الدولة: كان السلطان يوزع الضياع بين الأمراء والفرسان، بحيث يحصل كل منهم على نصيب من الأرض يختلف في الحجم والكيف وفقا لرتبته. هكذا فقد كان النبلاء العرب منقسمين إلى مجموعات مختلفة بدخول مختلفة، وكانت الفروق بينهم كبيرة جدا (على سبيل المثال كان “أمراء المائة” يحصلون على ما بين 80,000 – 200,000 دينار جيشي سنويا، وأمراء “الطبل” ما بين 23,000 -30,000، “أمراء العشرة” 9000 وأقل، وأمراء الخمسة 3000 وهكذا). كان نمط السيطرة أقرب كثيرا إلى ذلك الخاص بمسئول في الدولة منه إلى النمط الخاص بنبيل إقطاعي أوروبي. وكنتيجة لهذا الاعتماد من جانب النبلاء على الدولة، تكررت في الشرق العربي ظاهرة غير معتادة. من وقت لآخر، كانت شرائح إقطاعية كاملة تتعرض للـ “التطهير” والإبادة، حيث تحل شرائح أخرى محلها. استبدل النبلاء العرب بعبيد السلطان المحررين – المماليك – الذين لم يكونوا من أصول عربية ولم يتحدثوا العربية وإنما التركية. في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، غالبا ما ارتدت أصولهم إلى الدولة المنغولية، “القبيلة الذهبية”، التي كان مركزها على ضفاف الفولجا السفلي، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كانوا في الأساس قوقازيين. ومع المقاومة المتزايدة للقيصر للتجنيد في القوقاز لصالح السلطان بدأ العنصر البلقاني (الألبان، البوسنيون..) يسود.
إن ملكية الدولة للأرض لم تمنع فقط نمو الإقطاع القائم على الملكية الخاصة، وإنما منعت أيضا ظهور أي مجموعة اجتماعية ذات نزعات فردية على الإطلاق. كانت المدينة معسكرا عسكريا، ولم يكن أغلب الحرفيين مستغلين. وحتى عندما تطورت الطوائف الحرفية، فإنها لم تصل إلى مكانة هامة على الإطلاق في المدن، ولم تصبح قوى مستقلة ذات شأن. لقد أخضعتها الحكومة لها عن طريق تعيين الكثير من رؤساء الطوائف، وجعلهم مسئوليها، وتحويل الطوائف إلى منظمات حكومية.
كون أن وسائل الإنتاج الأساسية – الأرض – كانت ملك الدولة لا إلى أفراد، وأن النبلاء العرب والمماليك افتقدوا مواطئ القدم القانونية وبالتالي لم يكن لهم حق الوراثة، فان ذلك لم يحسن وضع جماهير الفلاحين. كما أن الأصل السوقي للمماليك لم يسبب أي تغيير. إن تركيز الطبقة الحاكمة في المشرق العربي في المدن وفر لها قوة عسكرية كبيرة على الفلاحين، كما أنه فضلا عن ذلك فتح شهيتها في هذا، أيضا، اختلفوا عن النبلاء الإقطاعيين الأوربيين في العصور الوسطى. الإنتاج الذي كان الأقنان الأوروبيون يعطونه لنبلائهم الإقطاعيين كإيجار، لم يكن بصفة عامة يرسل ليباع، لم يكن الأقنان إذن يحتاجون لإعطاء نبيلهم الإقطاعي اكثر مما كان يحتاجه هو وأهل بيته للاستعمال اليومي. “وضعت حوائط معدنه (النبيل الإقطاعي) حدود استغلاله للفلاحين” (ماركس). كان للإقطاعيين العرب أذواق مختلفة، ويمكن تلخيص وجهة نظرهم في الكلمات التي استخدمها الخليفة سليمان مع مبعوثه حول الفلاحين: “احلب حتى تجف البقرة، ودع الدم يسيل حتى آخر قطره”.
إن نمط الإنتاج، وشكل الاستغلال، وعلاقة الكادحين بوسائل الإنتاج في المشرق العربي، كانت مثل ما هو قائم في أوروبا العصور الوسطى. وكان مصدر دخل الطبقة الحاكمة مماثل أيضا، الفارق الوحيد كان في نمط الاستيلاء، في التعبير القانوني عن حق الاستغلال. (8)
البيروقراطية الروسية – شرطي يظهر في عملية التوزيع؟
يكتب تروتسكي أن قهر الدولة الستالينية للجماهير هو نتيجة.
كون الهيكل الانتقالي الحالي لا يزال مليئا بالتناقضات الاجتماعية، التي هي شديدة التوتر في دائرة الاستهلاك – التي يشعر بها الجميع عن كثب وبحساسية شديدة – والتي تهدد على الدوام بالوصول إلى دائرة الإنتاج. (9)
إذن،
أساس الحكم البيروقراطي هو فقر المجتمع في أدوات الاستهلاك، مما يسفر عن صراع كل فرد ضد الكل. عندما تكون هناك سلع كافية في مخزن، يستطيع المشترون أن يحضروا حين يشاءون. عندما تكون هناك سلع قليلة يضطر المشترون للوقوف في طابور. وعندما تكون الطوابير طويلة جدا، يصبح من الضروري تعيين شرطي للحفاظ على النظام. هذه هي نقطة البداية لسلطة البيروقراطية السوفيتية. أنها “تعرف” من الذي ينبغي أن يحصل على شيء ومن الذي عليه أن ينتظر. (10)
هل صحيح أن البيروقراطية تظهر بوصفها “الشرطي” في عملية التوزيع فقط، أم أنها تظهر هكذا في عملية إعادة الإنتاج ككل، التي ليست عملية التوزيع سوى جزء خاضع لها؟ إن هذا لذا أهمية نظرية وسياسية لا حدود لها. قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال، دعونا نختبر ما اعتقده ماركس وإنجلز حول الارتباط بين علاقات الإنتاج والتوزيع. يكتب ماركس:
بالنسبة للفرد الواحد يظهر التوزيع بالطبع كقانون أقره المجتمع يجدد وضعه في دائرة الإنتاج، التي ينتج داخلها، وهو بالتالي سابق على الإنتاج. في بادئ الأمر، لا يمكن الفرد رأسمال لا أرض. منذ مولده يكلف بأعلم الأجير بواسطة عملية التوزيع الاجتماعية. ولكن هذا نفسه – نعنى ظرف التكليف بالعمل الأجير – هو نتيجة وجود رأسمال وملكية الأرض كوكلاء مستقلين للإنتاج.
من وجهة نظر المجتمع ككل، يبدو التوزيع كسابق على الإنتاج ومحدد له بطريقة أخرى أيضا، كواقع سابق على الاقتصاد، إذا جاز القول. يقسم الشعب الغازي الأرض بين الغزاة مكونا بذلك تقسيما وشكلا معينا لملكية الأرض، ومحددا طابع الإنتاج. أو تقوم أمة، بواسطة الثورة، بتفتيت الضياع الكبيرة إلى قطع صغيرة من الأرض، وتعطي طابعا جديدا للإنتاج بواسطة هذا الإنتاج الجديد. أو قد يكرس التشريع ملكية الأرض في العائلات الكبيرة أو يوزع العمل كميزة وراثية وبالتالي يثبته في فئات مغلقة.
في جميع هذه الحالات، وهي كلها تاريخيا، ليس التوزيع هو الذي يبدو منظما وموزعا بواسطة التوزيع.
في الفهم الأكثر سطحية للتوزيع، يبدو الأخير كتوزيع للمنتجات، وبالتالي يبدو أكثر تباعدا عن الإنتاج وشبه مستقل عنه. ولكن قبل أن يعني التوزيع توزيع المنتجات، فهو أولا توزيع لوسائل الإنتاج، وثانيا، وهذا عمليا تعبير بكلمات أخرى عن نفس الشيء، توزيع لأعضاء المجتمع بين مختلف أنواع الإنتاج (إخضاع الأفراد لظروف إنتاج معينة). من الواضح أن توزيع المنتجات هو نتيجة لهذا التوزيع المرتبط بعملية الإنتاج والذي يحدد تنظيم توزيع المنتجات ذاته. (11) إن هذا الاقتباس من ماركس، والذي يتكرر جوهره مرارا وتكرارا على امتداد أعماله، يكفي كنقطة انطلاق لتحليل مكان البيروقراطية الستالينية في الاقتصاد.
عدونا نطرح هذه الأسئلة بالارتباط مع البيروقراطية الروسية، هل البيروقراطية تدير فقط توزيع وسائل الاستهلاك بين الشعب، أنها تدير توزيع الشعب كله في عملية الإنتاج؟ هل البيروقراطية تمارس احتكارا على السيطرة على التوزيع فقط، أم على السيطرة على وسائل الإنتاج كذلك؟ هل تعين حصص وسائل الاستهلاك فقط أم أنها توزع أيضا إجمالي وقت العمل الخاص بالمجتمع بين التراكم والاستهلاك، بين إنتاج وسائل الإنتاج وإنتاج وسائل الاستهلاك. ألا تقوم البيروقراطية بإعادة توزيع معينة؟ ألا تحدد علاقات الإنتاج القائمة في روسيا علاقات التوزيع التي تشكل جزءا منها.
ثورة اجتماعية أم ثورة سياسية؟
إذا اتفق المرء مع تروتسكي في أن ثورة تقوم بها الطبقة العاملة الروسية ضد البيروقراطية ليست ثورة اجتماعية، فان المرء يدخل في تناقضات مباشرة مع علم الاجتماع الماركسي.
لقد حدد ماركس الحرب كالأهلية في الولايات المتحدة أنها ثورة اجتماعية. كان تحرير العبيد وتحولهم إلى عمال أجراء ثورة اجتماعية: اختفت طبقة من المجتمع وحلت أخرى محلها. لماذا لا يكون إسقاط بيروقراطية ستالين وتحرير ملايين العبيد في معسكرات العمل ثورة اجتماعية، وإنما ثورة سياسية فقط؟ إن الثورة الزراعية، التي تنقل الضياع الإقطاعية إلى أيدي الفلاحين وتحول الأقنان إلى فلاحين أحرار، كانت ثورة اجتماعية. لماذا لا يكون وقف النهب الذي تقوم به الدولة، ووقف “التسليم الإجباري”، وتحويل الكولخوزات إلى الملكية الحقيقية لأعضاء الكولخوز، يملكونها ويسيطرون عليها، لماذا لا يكون كل هذا ثورة اجتماعية؟
الثورة السياسية تفترض أنه مع تغير الحكومة، يتغير الأفراد أو المجموعات أو الشرائح الحاكمة فقط، إلا أن نفس الطبقة تحتفظ بالسلطة. وفقا لذلك، فان البيروقراطي والعامل، حارس وزارة الداخلية وسجينه، ينتميان لنفس الطبقة. كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك، عندما تكون مواقعهم في عملية الإنتاج شديدة العدائية، عندما تكون مواقفهم من وسائل الإنتاج ليس فقط غير متماثلة، وإنما متصادمة بحدة في الواقع؟ إذا قبلنا أن العمال والبيروقراطيين ينتمون بالفعل لنفس الطبقة، فعلينا إذن أن نستنتج أنه يوجد في روسيا صراع داخل طبقة واحدة، ولكن ليس صراعا بين الطبقات، أي ليس صراعا طبقيا. ألا يسحب هذا البساط من تحت أقدام هجوم تروتسكي على تأكيد ستالين انه لا يوجد صراع طبقي في روسيا؟
كتاب تروتسكي الأخير؟
حيث أن الطبقة العاملة في روسيا كانت الوحيدة التي أمسكت بالسلطة لفترة ممتدة، وحيث أن إسقاطها اتخذ شكلا غير متوقع، في ظل ظروف روسيا الاقتصادية والسياسية شديدة التعقيد، فليس غريبا أنه حتى تروتسكي، بقدراته التحليلية العبقرية، كان عليه أن يعيد تقييم تحليله الأساسي للنظام الستاليني من وقت لآخر. حدث تحول هائل في موقف تروتسكي، وان يكن في التشديد فقط، منذ وقت أن كان قبول نظرية الدولة العمالية المنحطة شرطا لعضوية المعارضة اليسارية حتى الوقت الذي لم يقترح فيه تروتسكي استعباد المعادين للدفاعية من الأممية، وثم انه لم يقبل موقفهم. لم يكن صدفة أنه في سجلاته مع شاختمان في نهاية 1939 وفي 1940 كان يستطيع أن يقول انه رغم كونه في أقلية ضد شاختمان وبورنهام، فانه سيعارض الانشقاق وسيستمر في النضال لصالح موقفه في الحزب الموحد. (12) تجد خطوة واضحة في اتجاه تقييم جديد للبيروقراطية كطبقة حاكمة تعبيرا عن نفسها في كتاب تروتسكي الأخير، ستالين. في تفسير الطبيعة الاجتماعية لصعود البيروقراطية الستالينية للسلطة، قال:
إن جوهر الثرميدور كان ولا يزال ولم يكن ممكنا إلا أن يكون اجتماعيا في طابعه. لقد وقف في صف بلورة شريحة متميزة جديدة، خلق أساس جديد للطبقة المسيطرة اقتصاديا. كان هناك متنازعان على هذا الدور: البرجوازية الصغيرة والبيروقراطية ذاتها. لقد حاربا جنبا إلى جنب (في معركة القضاء على) مقاومة الطليعة البروليتارية. عندما تحققت هذه المهمة اندلع صراعا وحشيا بينهما. أصيبت البيروقراطية بالذعر من عزلتها، من انفصالها عن البروليتاريا. لم تستطيع وحدها أن تسحق الكولاك ولا البرجوازية الصغيرة التي كانت قد نمت واستمرت في النمو على أساس السياسة الاقتصادية الجديدة، كان عليها أن تنال مساعدة البروليتاريا ومن هنا تأتي جهودها الحثيثة لتصوير صراعها ضد البرجوازية الصغيرة على فائض الإنتاج وعلى السلطة على أنه صراع البروليتاريا ضد محاولات إرجاع الرأسمالية. (13)
يقول تروتسكي: إن البيروقراطية، في حين أنها تدعي النضال ضد الرأسمالية، فأنها في الواقع استخدمت البروليتاريا فقط لكي تسحق الكولاك من أجل “بلورة شريحة متميزة جديدة، خلق أساس جديد للطبقة المسيطرة اقتصاديا”. وهو يقول أن أحد المتنازعين على دور الطبقة المسيطرة اقتصاديا هو البيروقراطية. يجب إعطاء دلالة عظيمة لهذه الصياغة خاصة إذا ربطنا هذا التحليل للصراع بين البيروقراطية والكولاك بتعريف تروتسكي للصراع الطبقي. انه يقول:
الصراع الطبقي ليس شيئا آخر غير الصراع على فائض الإنتاج. ذلك الذي يمتلك فائض الإنتاج يسيطر على الموقف – يمتلك الثروة، يمتلك الدولة، لديه مفتاح الكنيسة والمحاكم والعلوم والفنون. (14)
الصراع بين البيروقراطية والكولاك كان، وفقا لاستنتاج تروتسكي الأخير، “الصراع… على فائض الإنتاج”.
القوى الداخلية غير قادرة على إرجاع الرأسمالية الفردية في روسيا: ماذا نستنتج فيما يتعلق بطابعها الطبقي؟
عندما تحدث تروتسكي عن خطر الثورة المضادة الاجتماعية في روسيا، عني بذلك إرجاع الرأسمالية القائمة على الملكية الخاصة. البونابارتية الستالينية. تصور كعامل توازن بين قوتين على الساحة الوطنية – من ناحية، الطبقة العاملة المؤيدة للملكية المدولتة والتخطيط، و، من ناحية أخرى، العناصر البرجوازية الساعية نحو الملكية الخاصة. انه يكتب:
تستمر البيروقراطية في الحفاظ على ملكية الدولة فقط بمقدار ما تخاف البروليتاريا. يغذي هذا الخوف المنقذ ويؤيده حزب البلاشفة – اللينينيين غير الشرعي، الذي يعد التعبير الأكثر وعيا عن النزعات الاشتراكية المعارضة لتلك الرجعية البرجوازية التي تعبئ بها تماما البيروقراطية الثرميدورية. كقوة سياسية واعية، خانت البيروقراطية الثورة. ولكن من حسن الحظ أن الثورة المنتصرة ليست فقط برنامج وراية، وليست فقط مؤسسات سياسية، وإنما نظام علاقات اجتماعية أيضا. لا يكفي أن تخونها. بل عليك أن تسقطها. (15)
هذا العرض يكشف بوضوح شديد التجريد القانوني لشكل الملكية، ويكشف بوضوح شديد، بالتالي، التناقضات الداخلية للتحليل. لم تكن البروليتاريا الروسية قوية بما يكفي للحفاظ على سيطرتها على وسائل الإنتاج، وقد أطاحت بها البيروقراطية، ألا إنها قوية بما يكفي لمنع إعلان هذه العلاقة في القانون! لم تكن البروليتاريا قوية بما يكفي لصد توزيع شديد العدائية للإنتاج، لمنع البيروقراطية من تخفيض مستوى معيشتها بوحشية وحرمانها من الحقوق الأكثر أولية، لمنع الحكم على الملايين من أعضائها بالعمل العبودي في سيبيريا، ولكنها قوية بما يكفي للدفاع عن شكل الملكية ! وكأن هناك علاقة بين الشعب والملكية غير تلك القائمة على أساس علاقات الإنتاج. وفضلا عن ذلك، لو كان الخوف من البروليتاريا هو العامل الوحيد الذي منع إرجاع الرأسمالية الفردية في روسيا، ولو كانت البيروقراطية، كما قال تروتسكي، تتكون من إرجاعيين (أنصار إرجاع الرأسمالية الفردية) واعين، فان مقولته بأن استقرار النظام الستاليني هو مثل الهرم الواقف على رأسه كان سيثبت صحتها، وتنبوءه بمصير الاقتصاد المدولت أثناء الحرب كان سيتحقق، لقد لخص موقفه هكذا:
في مناخ الحرب الساخن يمكن للمرء أن يتوقع تحولات حادة نحو المبادئ الفردية في الزراعة والصناعة اليدوية، ونحو جذب رأس المال الأجنبي و “الحليف”، وانكسارات في احتكار التجارة الخارجية، وضعف الرقابة الحكومية على الاتحادات الاحتكارية، وزيادة حدة المنافسة بين الاتحادات الاحتكارية، وزيادة حدة نزاعاتهم مع العمال، الخ… في الدائرة السياسية، قد تعني هذه العمليات اكتمال البونابارتية مع التغير الموازي، أو عدد من التغيرات في علاقات الملكية. بكلمات أخرى، في حالة حرب ممتدة مصحوبة بسلبية البروليتاريا العالمية، فان التناقضات الاجتماعية للاتحاد السوفيتي ليس فقط يمكن أن تؤدي بل سيتعين أن تؤدي إلى ثورة مضادة برجوازيـة – بونابارتية. (16)
قبل تجربة الحرب العالمية الثانية، كان افتراض إمكانية إرجاع الرأسمالية الفردية إلى روسيا بدون احتلالها بواسطة قوة إمبريالية افتراضا مفهوما، وان يكن غير سليم. ولكن انتصار الاقتصاد الروسي المركز المدولت على آلة الحرب الألمانية أسكت كل حديث عن مثل هذه الإمكانية.
لا يجب مع ذلك استبعاد أن تتمكن القوى الخارجية من إعادة الرأسمالية الفردية، أو حتى أن تقوم حرب مدمرة، مصحوبة بإبادة غالبية السكان الروس، بإعادتها إلى مستوى التطور التاريخي أدنى كثيرا من الرأسمالية الفردية.
عندما عرف تروتسكي روسيا بأنها مجتمع في حالة انتقال، أكد، وكان على صواب في ذلك، أنه لو كان الأمر كذلك فان هذا المجتمع ينبغي بحكم قوانينه الداخلية أن يسير نحو إما انتصار الاشتراكية، أو إرجاع الرأسمالية الفردية. وإذا استبعدنا الاحتمال الأخير، فهناك ثلاثة احتمالات باقية:
القوى الداخلية في روسيا تؤدي إلى اتجاه واحد فقط – نحو الشيوعية. وجهة النظر هذه يتبناها الستالينيون وأيضا برونو أر.
المجتمع الروسي ليس رأسماليا ولا اشتراكيا، ورغم أن القوى الإنتاجية تتصاعد بلا انقطاع فأنها لن تؤدي إلى الشيوعية، ورغم أن استغلال الجماهير يستمر بلا فتور، فانه لن يؤدي إلى الرأسمالية. هذه هي نظرية “الثورة الإدارية” والجماعية البيروقراطية في صياغة شاختمان سنة 1943.
المجتمع الروسي هو إما مجتمع انتقالي أمامه طريقان محتملان – رأسمالية الدولة أو الاشتراكية – أو انه رأسمالية دولة بالفعل. إن رفض إمكانية أن تؤدي القوى الداخلية إلى الرأسمالية الفردية والتبرؤ في نفس الوقت من الستالينية والجماعية البيروقراطية (وفقا لصياغة كل من برونو آر وشاختمان) والبورنهامية، لا يبقى لنا إلا البديل الثالث.
في ظل كل من رأسمالية الدولة والدولة العمالية، الدولة هي مستودع وسائل الإنتاج. الفارق بين النظامين لا يمكن أن يكون في شكل الملكية. وبالتالي فان ملكية الدولة لوسائل الإنتاج التي يستخدمها تروتسكي كأساس لتحديده للطابع الطبقي لروسيا، يجب طرحها جانبا كمعيار غير سليم.
“الديمقراطيات الجديدة” وتعريف روسيا بأنها دولة عمالية
وفر ظهور “الديمقراطيات الجديدة” اختبارا لتعريف روسيا بأنها دولة عمالية. إذا كانت ملكية الدولة، والتخطيط، واحتكار التجارة الخارجية تعرف البلد بأنه دولة عمالية، فلا شك أن روسيا، وكذلك “الديمقراطيات الجديدة ” هي دول عمالية. وهذا يعني أن ثورات بروليتارية قد حدثت في الأخيرة. وقد قاد الستالينيون هذه الثورات على أساس الوحدة الوطنية، والائتلافات الحكومية مع البرجوازية، والشوفينية التي أدت إلى طرد ملايين الكادحين الألمان وعائلاتهم. لقد أسهمت مثل هذه السياسات في تيسير سير الثورة البروليتارية.
ما هو إذن مستقبل الاشتراكية الدولية، ما هو تبريرها التاريخي؟ الأحزاب الستالينية لها كل المزايا بالمقارنة بالاشتراكيين الدوليين – جهاز دولة، منظمات جماهيرية، أموال، الخ. الميزة الوحيدة التي يفتقدونها هي الأيديولوجية الطبقية الأممية. ولكن إذا كان من الممكن إنجاز الثورة البروليتارية بدون هذه الأيديولوجية، فلماذا ينبغي أن يبتعد العمال عن الستالينية؟
إذا كانت ثورة اجتماعية قد حدثت في بلاد أوروبا الشرقية بدون قيادة بروليتارية ثورية، فعلينا أن نستنتج أن الثورات الاجتماعية التي ستحدث في المستقبل، كما في تلك التي حدثت في الماضي، فان الجماهير ستقوم بالنضال ولكن ليس بالقيادة.
إن افتراض أن “الديمقراطيات الجديدة” هي دول عمالية يعني القبول بأنه من حيث المبدأ فان الثورة البروليتارية، مثلما كانت الحروب البرجوازية، تقوم على خداع الشعب.
إذا كانت “الديمقراطيات الجديدة” دولا عمالية، فان ستالين قد حقق ثورة البروليتارية، وفضلا عن ذلك، فانه قد أنجزها سريعا جدا. لقد مرت سبع وأربعون سنة منذ كوميونة باريس حتى قيام أول دولة عمالية في بلد يتكون من 140 مليون شخص، ثم مرت أقل من أربعين سنة حتى أصبح عدد من البلاد الأخرى دولا عمالية. في الغرب، أضافت بولندا ويوغوسلافيا والمجر ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا 75 مليون شخص (وهذا لا يتضمن دول البلطيق، وشرق بولندا وبيسارابيا، التي تحوي 20 مليون شخص، والتي ضمها الاتحاد السوفيتي). وفي الشرق، أضيفت الصين، ذات الـ 600 مليون شخص. إذا كانت هذه البلاد دولا عمالية، فلماذا لا تكون إذن الماركسية، ولماذا الأممية الرابعة؟ إذا كانت “الديمقراطيات الجديدة” دولا عمالية، فان ما قاله ماركس وانجلز عن كون الثورة الاشتراكية هي “التاريخ واعيا بذاته” قد تم تفنيده، ثم تفنيد مقولة إنجلز:
من هذه النقطة (الثورة الاشتراكية) سيقوم الناس، بوعي كامل، بصياغة تاريخهم، من هذه النقطة فقط، سيكون للأسباب الاجتماعية التي يضعها الناس موضع التطبيق، بالأساس وبشكل متزايد بثبات، النتائج التي يريدها الناس. إنها قفزة الإنسانية من نطاق الضرورة إلى نطاق الحرية. (17)
ولابد أن روزا لكسمبورج، أيضا، قد نطقت بكلام فارغ في تلخيصها لما كتبه جميع المعلمين الماركسيين عن مكان الوعي البروليتاري الثوري:
في جميع الصراعات الطبقية، والتي انتهت لصالح الأقلية، وحيث – إذا استخدمنا كلمات ماركس – “حدثت كل التطورات بما يتعارض مع جماهير الشعب الغفيرة”، كان أحد الشروط الأساسية للعمل هو جهل هذه الجماهير فيما يتعلق بالأهداف الحقيقية للصراع، بمضمونه المادي، وبحدوده. كان هذا التفاوت، في الواقع، الأساس التاريخي المحدد “للدور القيادي” للبرجوازية “المستنيرة”، والذي توازى مع دور الجماهير كأتباع طيعين. ولكن، كما كتب ماركس في وقت مبكر مثل 1845، “كلما تعمق العمل التاريخي كلما تعين أن يزداد عدد الجماهير المنخرطة فيه !” إن الصراع الطبقي للبروليتاريا هو “أعمق” الأعمال التاريخية حتى يومنا هذا، انه يشمل كل الشرائح السفلي للشعب، و – منذ اللحظة التي أصبح فيها المجتمع منقسما إلى طبقات – هو أول حركة تتفق مع المصالح الحقيقية للجماهير. وهذا هو السبب في أن استنارة الجماهير فيما يتعلق بمهامها ووسائلها هي شرط تاريخي لا غنى عنه للعمل الاشتراكي، مثلما كان جهل الجماهير في فترات سابقة شرط عمل الطبقات المسيطرة. (18)
هل انتصارات روسيا الحربية دليل على أنها دولة عمالية؟
في حين أن تروتسكي، متتبعا تحليله القائل بأن روسيا دولة عمالية منحطة، توقع أن البيروقراطية لن تصمد أمام حرب، فان تروتسكيين كثيرين اليوم يستنتجون من هذه الانتصارات ذاتها أن روسيا دولة عمالية. إلا أن هذه الحجة المبنية على ما قد وقع بالفعل، لا تستطيع أن تصمد أمام النقد.
يمكن تحليل هذه الحجة إلى جزئين: 1- حماسة الجماهير في الحرب تثبت أن لديهم شيئا يفقدونه بجانب أغلالهم، انهم في الواقع الطبقة الحاكمة. 2 -القوة الصناعية – العسكرية لروسيا تثبت التفوق التاريخي للنظام الروسي على الرأسمالية.
الجزء الأول من الحجة، والشائع في صحافة الأممية الرابعة خلال 41 -1943، فنده مجرى الأحداث. الجيش الألماني أيضا، خلال السنوات التي تبدد فيها كل أمل في النصر، حارب بكل قوته حتى أبواب برلين نفسها. هل كان للجنود الألمان أيضا شيء يفقدونه بجانب أغلالهم؟ هل كانت الطبقة العاملة الألمانية أيضا طبقة حاكمة؟
فيما يتعلق بالجزء الثاني من الحجة، لاشك أن المشروع كبير الحجم له مزايا هائلة على صغير الحجم. إن هذا، بالفعل يفسر إلى حد كبير تفوق الإنتاج الأمريكي على البريطاني رغم أن الاثنين يقومان على نفس النظام الاجتماعي. الصناعة الروسية، الأجدر والأكثر حداثة تقنيا، مبنية بحجم أكبر من الصناعة الأمريكية. وبجانب ذلك، فان التضارب وافتقاد التجانس الشائع في البلاد الرأسمالية الفردية يتم تجنبه في روسيا من خلال ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وهناك مع ذلك ميزة أخرى خلال الحرب، لا تستطيع بلاد أخرى كثيرة أن تدعيها، وهي أن عمالها يفتقدون جميع الحقوق الديمقراطية. في روسيا، كما في ألمانيا النازية، من الممكن إنتاج المدافع بدلا من الزبد، ونقل ملايين العمال من الغرب إلى ما وراء الاورال، وتسكينهم في خنادق في الأرض، دون خوف من معارضة منظمة. سلطة الدولة على الاقتصاد وعلى العمال – هذه هي نقاط القوة للإنتاج الصناعي – العسكري لروسيا. ولكن هذه العوامل نفسها التي تفسر التفوق العسكري لألمانيا النازية على فرنسا الديمقراطية البرجوازية التي، كما نعرف، انهارت أمام جيوشها المتقدمة مثل بيت الورق، بل وحتى بريطانيا، “مصنع العالم” سابقا، لم ينقذها من الغزو سوى القناة الإنجليزية، والمساعدة الأمريكية من الغرب والتهديد الروسي لألمانيا من الشرق.
انتصارات ألمانيا العسكرية في بداية الحرب خدعت بعض الناس ودفعتهم إلى الاعتقاد بأن ألمانيا لم تكن بلدا رأسماليا، وإنما مثلت نظما جديدا ومتفوقا للمجتمع. كان برونهام بارزا بين هؤلاء.
الاعتقاد بأن الانتصارات العسكرية الروسية هي في حد ذاتها دليل على أن روسيا تمثل نظاما جديد للمجتمع ليس على أساس أكثر من الاعتقاد بأن ألمانيا النازية مثلت نظاما كهذا.
ما الذي منع تروتسكي من التخلي عن نظرية أن روسيا دولة عمالية؟
يميل المرء لرؤية المستقبل في تعقيدات الماضي. لسنوات عديدة، الاشتراكيون الذين حاربوا الاستغلال ضد أصحاب الملكية الفردية – البرجوازية. عندما قال لينين وتروتسكي وباقي القادة البلاشفة، إن الدولة العمالية الروسية ستهلك إذا ظلت معزولة، تصورا شكلا محددا لهذا الهلاك – إرجاع الملكية الفردية، في حين أنهم رأوا ملكية الدولة كثمرة من صراع الشعب العامل. كان هذا يبعد خطوة واحدة فقط عن استنتاج أنه إذا كانت ملكية الدولة قائمة في روسيا، فان الفضل في هذا يعود إلى “خوف البيروقراطية من الطبقة العاملة وانه، بالعكس، إذا سعت البيروقراطية لزيادة امتيازاتها (بما في ذلك الحق في الوراثة) فقد سعت لإرجاع الملكية الفردية. كانت خبرة الماضي العائق الأساسي أمام تروتسكي في استيعاب أن انتصار الرجعية لا يعني دائما العودة لنقطة الانطلاق الأصلية، وإنما قد يؤدي إلى هبوط، في شكل حلزوني، تختلط فيه عناصر من الماضي السابق على الثورة بأخرى من الماضي الثوري، مع خضوع الأخيرة للأولى، سيظهر المضمون الطبقي الرأسمالي القديم إذن في شكل جديد “اشتراكي” معطيا بذلك تأكيدا إضافيا لقانون النمو المركب – وهو قانون فعل تروتسكي نفسه الكثير لتطويره.
تلخيصا، يمكن القول بأنه في حين أن تروتسكي قد أسهم مساهمة لا يمكن مقارنتها بأي ماركسي آخر في فهم النظام الستاليني، فان تحليله قد عانى من عيب خطير – ارتباط محافظ بالصورية، هو بطبعه مناقض للماركسية التي تخضع الشكل للمضمون.
الملحق الثاني: نقد نظرية الجماعية البيروقراطية
مقدمة:
لأسباب بديهية، كانت مناقشة طبيعة المجتمع السوفيتي مركزية في تفكير أغلب اشتراكيي الجيل الأخير.
إن فهم روسيا في ظل ستالين وخلفاءه كاشتراكية، أو كنوع مشوه من الاشتراكية (“دولة عمالية منحطة” بلغة التروتسكيين الأرثوذكس الدوجماتيين)، قد قابل نوعين من النقد من الماركسيين، الأول، الذي يوافق عليه هذا الكتاب، يعرف النظام الستاليني بأنه رأسمالية دولة والثاني يراه لا اشتراكية من أي نوع، ولا رأسمالية. لقد سكت هذه المدرسة الفكرية الأخيرة مصطلحا خاصا للنظام الستاليني الجماعية البيروقراطية. كان أول كاتب مسك هذا المصطلح هو الماركسي الإيطالي برونو آر، في كتابه بقرطة العالم (باريس، 1939). وقد تبنى هذا الاشتراكي الأمريكي ماكس شاختمان نفس المصطلح وقام بتطوير الفكرة (دون الاعتراف بعمل برونو آر).
موضوع هذا المقال هو تقييم ونقد هذه الأطروحة.
من الصعب جدا القيام بنقد للجماعية البيروقراطية لأن أصحابها لم ينشروا أبدا عرضا متطورا للنظرية. صحيح أن شاختمان كتب مئات الصفحات من النقد لنظرية أن روسية الستالينية بلد اشتراكي أو دولة عمالية من أي نوع (هو طرح جانبا نظرية رأسمالية الدولة في جملة أو اثنتين). ولكنه يكاد يكون لم يكتب شيئا عن قوانين حركة الاقتصاد “الجماعي البيروقراطي”، كما لم يجر أي تحليل على الإطلاق للطابع الخاص للصراع الطبقي داخل هذا الاقتصاد. وهو لم يذكر بوضوح أيضا مكان المجتمع الجماعي البيروقراطي في سلسلة التطور التاريخي، وكثيرا، على كل حال، ما يفتقد عرض شاختمان الاتساق. إحدى الاطروحات المركزية لهذا المقال هي أ، الفقر النظري لنظرية الجماعية البيروقراطية ليس صدفة. سنحاول أن نبين أن نظرية الجماعية البيروقراطية سلبية فقط، وهي لذلك فارغة، مجردة، وبالتالي تعسفية.
سيوحي نقد النظرية بعدد من الخصائص المشتركة – ضمنيا على الأقل – في تصورات أخرى عن الستالينية – من تصور التبريريين إلى تصور رواية 1984 لجورج اورويل. وسيظهر في نقد النظرية قوة أو ضعف النظرية البديلة عن روسيا الستالينية – نظرية رأسمالية الدولة.
مكان الجماعية البيروقراطية في التاريخ:
لأول وهلة لا يوجد ما هو أكثر إقناعا من وصف روسيا الستالينية أنها ليست رأسمالية ولا دولة عمالية. ولكن هذا التبسيط ذو قيمة ضئيلة، لأنه لا يقول الكثير عن النظام، فالإقطاع أيضا لم يكن رأسمالية ولا اشتراكية، وكذلك المجتمع العبودي، بل وكذلك أي نظام آخر لم يوجد في الواقع وإنما يخلقه الخيال. كان سبينوزا مصيبا عندما قال إن “التعريف هو نفي”، ولكن ليس كل نفي تعريفا. إن مقولة أن النظام الستاليني لم يكن رأسماليا ولا اشتراكيا قد تركت الهوية التاريخية لهذا النظام غير محددة. ومن ثم فقد كان بوسع شاختمان أن يقول في إحدى المناسبات أن الجماعية البيروقراطية أكثر تقدمية من الرأسمالية (مهما كانت غير تقدمية بالمقارنة بالاشتراكية)، وأن يقول، بعد سنوات قليلة من ذلك، إنها أكثر ربحية من الرأسمالية.
وصف شاختمان روسيا بأنها دولة جماعية بيروقراطية لأول مرة في 1941. ذكر قرار حول المسألة الروسية صادر عن مؤتمر عام 1941 لمنظمته الميتة حاليا “حزب العمال”.
من وجهة نظر اشتراكية، الدولة الجماعية البيروقراطية نظام اجتماعي رجعي، إما بالمقارنة بالعالم الرأسمالي، فإنها تقف على أرضية أكثر تقدمية تاريخيا.
على أساس هذا، تم إقرار سياسة “دفاعية مشروعة”. يقول القرار:
لا تستطيع البروليتارية الثورية أن تتخذ موقفا دفاعيا ثوريا (أي نقدي، مستقل تماما، طبقي) فيما يتعلق بالنظام الستاليني إلا عندما تكون القضية الحاسمة في الحرب هي محاولة قوة معادية لردع الرأسمالية في روسيا، وحيث لا تكون هذه القضية ثانوية بالنسبة لقضايا أخرى، أساسية أكثر. هكذا ففي حالة حرب أهلية يسعى خلالها أحد أقسام البيروقراطية لإرجاع الملكية الخاصة الرأسمالية، يمكن للطليعة الثورية أن تحاب مع جيش النظام الستاليني ضد جيش الإرجاع الرأسمالي. وهكذا، ففي حالة حرب تحاول الإمبريالية العالمية بواسطتها أن تخضع الاتحاد السوفيتي وأن تحصل على فرصة حياة جديدة بإنزال روسيا إلى مستوى المستعمرة الإمبريالية، يمكن للبروليتاريا أن تتخذ موقفا دفاعيا ثوريا في روسيا. وهكذا، ففي حالة حرب أهلية منظمة ضد النظام القائم بواسطة جيش يستند على “السخط الشعبي” ولكن فعليا على العناصر الرأسمالية وشبه الرأسمالية التي لا تزال موجودة في البلد والساعية لإرجاع الرأسمالية، فمن الممكن مرة أخرى أن تحارب البروليتاريا في جيش ستالين ضد جيش الرجعية الرأسمالية. في جميع هذه الحالات أو حالات مماثلة، فان التأييد المشروط للبروليتاريا جائز فقط إذا لم البروليتاريا مستعدة بعد لإسقاط النظام الستاليني.
منطقيا، كان على شاختمان وأتباعه، عندما هاجمت ألمانيا الهتلرية روسيا بعد أشهر قليلة من هذا المؤتمر، أن يدافعوا عن روسيا بحكم أنها كانت تقف “على أرضية أكثر تقدمية تاريخيا”.
كانت الحجة التي قدمها شاختمان الآن هي أنه، رغم أن روسيا كانت أكثر تقدمية من المانيا الرأسمالية، إلا أن حربها مع ذلك كانت جزءا ثانويا فقط من الحرب الشاملة، والتي كان الطابع الأساسي لها هو الصراع بين معسكرين رأسماليين إمبرياليين. لقد كتب:
إن طابع الحرب، وإدارة الحرب، و(بالنسبة للوقت الحالي) نتيجة الحرب، يحددون بواسطة الماردين الإمبرياليين الذين يسيطران على كل معسكر على الترتيب، الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى من جهة، وألمانيا واليابان من جهة أخرى. (وداخل كل مارد من الاثنين، كذلك، شريك كبير وآخر صغير !) جميع البلاد الأخرى في الائتلافين العظيمين ليست سوى توابع للعمالقة، وهذا أمر يختلف من حيث الدرجة فقط في كل حالة. تتحدد هذه التبعية بواسطة سيطرة “زوجي القوة” العظيمين على الحرب اقتصاديا (صناعيا – تقينا)، وبالتالي ماليا، وبالتالي سياسيا. إيطاليا أقل تبعية لأسيادها في الائتلاف من المجر، والمجر أقل تبعية من سلوفاكيا. ولكن هذه الأمور لا تغير واقع التبعة – إنما فقط تحدد درجتها. روسيا الستالينية أقل تبعية لأسيادها في الائتلاف من الصين (ولكنها بمعنى آخر أكثر تبعية للولايات المتحدة – إنجلترا من الصين، إلا أننا سنبتعد كثيرا عن الموضوع اذا حاولنا أن نبين كيفية ذلك)، والصين أقل تبعية من الفليبين. ولكن، مرة أخرى، هذه الأمور تحدد فقط درجة التبعية. باستثناء، إذن، أصحاب الأطوار الشاذة غير المؤثرين، فان الجميع في العالم البرجوازي يفهم الطبيعة الشاملة للحرب ككل، والطبيعة الشاملة لكل ائتلاف، والوضع والوزن النسبيين لكل قطاع من الائتلاف، والاعتماد المتبادل لجميع الجبهات. (1)
هكذا، فعلى الرغم من أن الجماعية البيروقراطية أكثر تقدمية من الرأسمالية فقد تم اتخاذ موقف انهزامي بسبب تبعية روسيا للإمبريالية الانجلو-أمريكية. أكدت “الأممية الجديدة” في سبتمبر 1941 هذه النقطة:
لقد فقد ستالين آخر آثار الاستقلال… الدبلوماسية السوفيتية تملى بالفعل في لندن.
لن نتناول الأخطاء المتعلقة بالوقائع، فهي أقل خطورة من المنهج الذي يصل به شاختمان لاستنتاجاته. تتطلب الماركسية أن نشتق استنتاجاتنا السياسية من تحديدات اجتماعية. عندما ناقض مجرى الحرب حكم شاختمان على روسيا بأنها دولة تابعة، كان عليه أن يرفض موقفه الانهزامي السابق، حيث أن الجماعية البيروقراطية، كما قال، أكثر تقدمية من الرأسمالية. بدلا من ذلك، تمسك بالاستنتاج السياسي الانهزامي وغير الأساس الاجتماعي. أصبح يطلق على الجماعية البيروقراطية الآن البربرية الجديدة، انحدار الحضارة، الخ. ومع ذلك فانه لم يقدم أية وثيقة تحتوى على تحليل جديد للاقتصاد الروسي بعد قرار مؤتمر 1941.
كان العنصران الثابتان الوحيدان في النظرية هما: أولا، استنتاج انه في أي ظرف ملموس، لا يجب الدفاع عن روسيا الستالينية (بصرف النظر عن أن الظروف الملموسة تتغير باستمرار)، وثانيا، أن اسم النظام الستاليني هو الجماعية البيروقراطية.
فيما يتعلق بالعنصر الأول، فان الماركسيين الجادين، في حين أنهم يسعون للحفاظ باتساق المبادئ نفسها، فانهم كثيرا ما يغيرون تكتيكاتهم، حيث أن التكتيكات يجب أن تتغير مع الظروف المتغيرة. يجب على الماركسيين أن يتمسكوا بتكتيك بعينه يثبت خطأ المنهج الذي اتخذه شاختمان. انه يستنتج نفس الاستنتاج من افتراضين متضادين، أحدهما هو ان الجماعية البيروقراطية أكثر تقدمية من الرأسمالية، والآخر هو أنها صورة البربرية، وأنها أكثر رجعية من الرأسمالية، أما التكتيك المتبع فهو الانهزامية. لماذا؟ مرة لأن روسيا ليست القوة الأساسية وإنما مجرد تابع الإمبريالية الأنجلو- أمريكية، والآن لأن روسيا قوة إمبريالية كبرى تهدد بغزو العالم.
أما فيما يتعلق بالاسم، فربما يحق لنا أن نكرر نقد ماركس الذكي لبرودون، الذي اعتاد على اختراع الكلمات الشامخة، معتقدا أن هذه هي الطريقة التي تقدم بها العلم. لقد اقتبس ماركس ما يلي:
“حيث يوجد نقص في الأفكار، تحل محلها الجمل الجوفاء”.
في تحليل ماركس وانجلز للرأسمالية، ظلت الأساسيات – مكان الرأسمالية في التاريخ، تناقضاتها الداخلية، الخ – ثابتة منذ أول اقتراب لهما من المشكلة حتى نهاية حياتهما. أتت سنواتهما الأخيرة فقط بتوضيحات وإضافات القيمة الأساسية. أما نظرية الجماعية البيروقراطية، فقد كان لها مصير أقل سعادة كثيرا خلال تاريخها القصير. اعتبر شاختمان أولا الجماعية البيروقراطية أكثر تقدمية من الرأسمالية، ثم اعتبرها “بربرية شمولية”. ويعتبرها داعية آخر للنظرية، هو برونو آر، مجتمع عبودي، وعتبة الانتقال السلمي للشيوعية في نفس الوقت.
“برونو آر” حول الجماعية البيروقراطية
يختلف برونو آر عن شاختمان في أساسيات كثيرة. يختلف تحليله لأصل الجماعة البيروقراطية، على سبيل المثال، بشكل أساسي من تحليل شاختمان. انهما يتفقان حول أصل النظام في روسيا. ولكنهما يختلفان عندما يتخطيان حدود روسيا. في حين أن قرار مؤتمر حزب العمال في 1941 ذهب إلى أن “الجماعية البيروقراطية هي ظاهرة محدودة وطنيا، تظهر في التاريخ في مجرى تضافر معين للأحداث”، فقد رآها برونو آر كمجتمع سيحل محل الرأسمالية على النطاق العالمي من خلال تجريد البرجوازية من السلطة بواسطة البيروقراطية الستالينية والبيروقراطية الفاشية. أما فيما يتعلق بتحديد ووصف وتحليل الجماعية البيروقراطية في حد ذاتها – كنظام اجتماعي – فهما على اتفاق كامل.
في كتابه بقرطة العالم (باريس، 1939)، يكتب برونو آر.:
في رأينا، يمثل الاتحاد السوفيتي نوعا من المجتمع تقوده طبقة اجتماعية جديدة: هذا هو استنتاجنا. تمتلك هذه الطبقة بالفعل الملكية المجمعة وقد أدخلت نظاما جديدا – ومتفوقا – للإنتاج. ينتقل للاستغلال من الفرد إلى الطبقة. (2)
وفي رأينا أن النظام الستاليني نظام وسيط. انه يلغي الرأسمالية التي انتهى عمرها الافتراضي، ولكنه لا يستبعد الاشتراكية بالنسبة للمستقبل. انه شكل اجتماعي جديد قائم على الملكية الطبقية والاستغلال الطبقي.(3)
وفي رأينا أن أصحاب الملكية في الاتحاد السوفيتي هم البيروقراطيون، حيث أنهم هم الذين يمسكون بالسلطة في أيديهم، وهم الذين يديرون الاقتصاد كما كان معتادا في صفوف البرجوازية، وهم الذين يستولون على الأرباح لأنفسهم كما كان معتادا في صوف الطبقات المستغلة (بكسر الغين)، وهم الذين يحددون الأجور وأسعار السلع: مرة أخرى، انهم البيروقراطيون. (4)
ما هو طابع الطبقة المحكومة؟ هل توجد بروليتاريا روسية؟ أم أنه كما استبدلت البرجوازية بطبقة مستغلة جديدة، استبدلت البروليتارية بطبقة مستغلة (بفتح الغين) جديدة؟ هكذا يجيب برونو آر:
يحدث الاستغلال بالضبط كما في مجتمع قائم على العبودية: يعمل الشخص الخاضع للدولة لصالح السيد الذي اشتراه، ويصبح جزءا من رأسمال سيده، ويمثل الماشية التي يجب العناية بها وإسكانها والتي تكون إعادة إنتاجها مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للسيد. إن دفع ما يسمى بالأجور، والتي تتكون جزئيا من خدمات وسلع الدولة، لا يجب أ، يدفعنا للخطأ ويجعلنا نفترض وجود شكل اشتراكي للدفع: فالأجر في الواقع لا يعني سوى العناية بالعبد ! الفارق الجوهري الوحيد هو أن العبيد في الأزمنة القديمة لم يكن لديهم شرف حمل السلاح، في حين أن عبيد العصر الحديث مدربون بمهارة على فن الحرب… لم تعد الطبقة العاملة الروسية تتكون من بروليتاريين، انهم مجرد عبيد. إنها طبقة من العبيد في مضمونها الاقتصادي وفي تعبيراتها الاجتماعية. إنها تركع عند مرور “الإله الصغير” وتقدسه وهي تتخذ جميع خصائص الخنوع وتسمح لنفسها بأن تقذف من أحد طرفي الإمبراطورية الضخمة إلى الطرف الآخر. إنها تحفر القنوات، وتبني الطرق والسكك الحديدية، كما كانت هذه الطبقة نفسها تشيد الأهرامات في الأزمنة القديمة.
ان جزءا صغيرا من هذه الطبقة لم يفقد نفسه بعد في لا دراية كاملة، انهم، وقد، احتفظوا بإيمانهم، يلتقون في الكهوف لأغراض المناقشة، كما كان المسيحيون قديما يصلون في السراديب. ومن وقت لآخر، ينظم الحرس غزوة ويلقون القبض على الجميع. ثم تجرى محاكمات شيطانية “على طريقة نيرو” وبدلا من أن يدافعوا عن أنفسهم، فان المتهمين يعترفون بالذنب. يختلف العمال الروس تماما عن البروليتاريين من كل النواحي، لقد اصبحوا رعايا للدولة واكتسبوا جميع سمات العبيد.
ولم يعد لديهم أي شيء مشترك مع العمال الأحرار باستثناء عرق جبينهم. سيحتاج الماركسيون بالفعل إلى مصباح يوجينيس اذا كانوا ينوون إيجاد أي بروليتاريين في المدن السوفيتية. (5)
رغم أن برونو آر يصف روسيا الستالينية بأنها تجديد العبودية بكل التخلف التاريخي المرتبط بالعبودية، فانه مع ذلك يقول أن هذا النظام أكثر تقدمية من الرأسمالية، وانه بالإضافة إلى ذلك – يؤدي مباشرة، دون قفزات أو صراعات، إلى المجتمع الشيوعي. انه يقول:
إننا نعتقد أن المجتمع الجديد سيؤدي مباشرة للاشتراكية، بسبب الحجم الهائل الذي وصل إليه الإنتاج.
إن القادة (هكذا سنسمى الآن أولئك الذين أطلقنا عليهم بازدراء اسم “البيروقراطيين” وسنسمي الطبقة الجديدة الطبقة القائدة)، وقد حققوا احتياجاتهم المادية والثقافية والمعنوية، قد يجدون بالطبع الرفع الثابت للمستوى المادي والثقافي والمعنوي للطبقة العاملة عملا ممتعا. (6)
لا ينبغي أن تبهر الدولة الشمولية الماركسيين. في الوقت الحالي، هذه الدولة شمولية بالمعنى السياسي أكثر من المعنى الاقتصادي. وسوف تنعكس هذه العوامل في مجرى التطورات الاجتماعية المتوقعة والعادية. ستفقد الدولة الشمولية أكثر فأكثر خصائصها السياسية وتحتفظ فقط بخصائصها الإدارية. في نهاية هذه العملية سيكون لدينا مجتمع لا طبقي واشتراكيا. (7)
انه “زوال” جديد “للعبودية الجماعية”، “للجماعية البيروقراطية الشمولية”، في الشيوعية ! ويعلن برونو آر بفخر أن هذا التطور هو “انتصار المادية التاريخية”! (انظر بصفة خاصة الفصل الذي يحمل هذا الاسم في كتابه).
ان جماعية برونو آر البيروقراطية تؤدي مباشرة، أوتوماتيكيا، للشيوعية، إنها بلا شك مفهوم مادي، ولكن ليس جدليا، إنها مدخل ميكانيكي، قدري للتاريخ ينكر الصراع الطبقي للمضطهدين باعتباره القوة المحركة الضرورية.
النظام الستاليني – بربرية
يكتب شاختمان عن النظام الستاليني:
إنها التحقيق القاسي لتنبؤ جميع العلماء الاشتراكيين، من ماركس وإنجلز فصاعدا، بأن الرأسمالية يجب أن تنهار بسبب عجزها عن حل تناقضاتها، وأن البديلين الذين يواجهان الإنسانية ليسا الرأسمالية والاشتراكية، بقدر ما هما: الاشتراكية أو البربرية. الستالينية هي هذه البربرية الجديدة.(8)
إذا كان النظام الستاليني يعني انحدار الحضارة، والنفي الرجعي للرأسمالية، فهو إذن بالطبع أكثر رجعية من الرأسمالية. ينبغي بالتالي الدفاع عن الرأسمالية أمام البربرية الستالينية.
ولكن شاختمان يضع نفسه في معضلة.
عندما تحدث ماركس عن “الخراب المشترك للطبقات المتنازعة” – كما حدث في روما بعد تفكك المجتمع العبودي – فان هذا الخراب قد ارتبط بهبوط عام للقوى الإنتاجية. لا ينطبق هذا الوصف بالطبع على النظام الستاليني، بالتطور الديناميكي لقواه الإنتاجية. لقد عنت البربرية في مفهوم ماركس موت جنين المستقبل في رحم المجتمع القدم. ان جنين الاشتراكية في رحم الرأسمالية وهو الإنتاج الاجتماعي الجماعي الكبير الحجم، ومرتبطة به، الطبقة العاملة. لم يضعف النظام الستاليني هذه العناصر بل دفعها للأمام.
دافع الاستغلال في مجتمع البيروقراطية الجماعية
يفسر شاختمان دافع الاستغلال في مجتمع البيروقراطية هكذا:
في الدولة الستالينية، يجري الإنتاج ويتوسع من أجل تلبية حاجات البرجوازية، ومن اجل زيادة ثروتها وامتيازاتها وسلطتها” والآن إذا كان دافع الاستغلال في ظل البيروقراطية، هو مجرد تلبية حاجات الحكام، فما هي الصلة بين هذا وبين الجذور التاريخية العامة للاستغلال في مختلف الأنظمة الاجتماعية؟
يشرح إنجلز لماذا انقسم المجتمع في الماضي إلى مستغِلين ومستغَلين؟:
كان انقسام المجتمع إلى طبقة مستغلة وأخرى مستغلة، طبقة حاكمة وأخرى مضطهدة، النتيجة الحتمية للتطور الضعيف للإنتاج في ذلك الوقت. طالما أن إجمالي العمل الاجتماعي أثمر إنتاجا زاد بمقدار ضئيل فقط على ما كان ضروريا لمجرد وجود الجميع، وطالما، إذن، إن كل أو أغلب وقت الغالبية العظمى من أعضاء المجتمع كان مستوعبا في العمل طالما تحتم أن ينقسم المجتمع إلى طبقات. والى جانب هذه الغالبية العظمى المستغرقة تماما في العمل، تطورت طبقة، محررة من العمل الإنتاجي المباشر، تولت إدارة شئون المجتمع العامة: إدارة العمل، شئون الدولة، العدالة، العلم، الفن، وما إلى ذلك.(9)
في الاقتصاد الذي يكون فيه الدافع للإنتاج هو إنتاج القيم الاستعمالية للحكام، هناك حدود معينة لمقدار الاستغلال. هكذا، على سبيل المثال، ففي المجتمع الإقطاعي، أخضعت القرية والمدينة معا لحاجة النبلاء الإقطاعيين للسلع الاستهلاكية، وطالما أن الإنتاج الذي أعطاه الاقنان لسيدهم لم يسوغ على نطاق واسع، فقد “وضعت حدود جدران معدته حدود استغلاله للفلاحين” (ماركس). ان هذا لا يفسر وجود الاستغلال في ظل الرأسمالية.
لا شك أن حوائط معدة الرأسمالي أوسع كثيرا من حوائط معدة النبيل الإقطاعي في العصور الوسطى، ولكن، في الوقت نفسه، القدرة الإنتاجية للرأسمالية أكبر بما لا يقارن من قدرة الإقطاعي الإنتاجية نكون إذن مخطئين تماما إذا فسرنا زيادة استغلال جماهير العمال بأنها نتيجة لاتساع حوائط معدة البرجوازية.
إن الحاجة لتراكم رأس المال، التي تمليها المنافسة الفوضوية لرؤوس الأموال، هي الدافع للاستغلال في ظل الرأسمالية. في الواقع إذا كان الاقتصاد الجماعي البيروقراطي موجها نحو تلبية “حاجات البيروقراطية” – وليس خاضعا لتراكم رأس المال – فليس هناك ما يمنع أن ينخفض معدل الاستغلال مع الوقت، وحيث أن القوى الإنتاجية في العالم الحديث ديناميكية، فان هذا سيؤدي – طوعا أو كرها – إلى “زوال الاستغلال”.
مع ديناميكية القوى الإنتاجية عالية التطور، فان الاقتصاد الذي يكون على إشباع حاجات الحكام، يمكن أن يوصف بشكل متعسف بأنه مؤدي إلى عصر الرخاء والسعادة أو إلى ‘1984’. في ظل نظام كهذا، يصبح حلم برونو آر وكابوس جورج اورويل، وأي شيء بينهما – أمور ممكنة. إن نظرة الجماعية البيروقراطية إذن هوائية وتعسفية تماما في تعريف حدود واتجاه الاستغلال في ظل النظام الذي تدعي تعريفه.
العلاقات الطبقية في ظل الجماعية البيروقراطية
يتلخص جوهر موقف شاختمان في مقولة أن حكام روسيا في ظل ستالين لم يكونوا عمال ولا أصحاب ملكية خاصة لرأس المال. ما هو الأمر الحاسم، وفقا للمنهج الماركسي، في تعريف الطابع الطبقي لاي مجتمع؟ حيث أن تاريخ جميع المجتمعات الطبقية هو تاريخ الصراع الطبقي، فمن الواضح أن ما يحدد مكان أي نظام في سلسلة التطور التاريخي، هو تلك العوامل التي تحدد طابع الصراع الطبقي فيه. والآن، فان طابع ووسائل وأهداف الصراع الطبقي للطبقة المضطهدة يعتمد على طبيعة الطبقة المضطهدة ذاتها: مكانها في عملية الإنتاج، والعلاقة بين أعضائها في هذه العملية، وعلاقتهما بملاك وسائل الإنتاج. ولا تتحدد هذه العلاقة بواسطة نمط الاستيلاء أو نمط التجنيد الخاص بالطبقة الحاكمة. يمكن شرح ذلك من خلال بعض الأمثلة.
إننا نعرف أن النبيل الإقطاعي في العصور الوسطى كان له حق توريث حقوقه الإقطاعية لورثته، من ناحية أخرى، لم يكن للأسقف هذا الحق، ولا حتى الحق في تكوين عائلة. كان النبيل الإقطاعي ابن نبيل إقطاعي، أما الأساقفة فقد تم تجنيدهم من طبقات وشرائح مختلفة من المجتمع، وكثيرا ما جاءوا من صفوف الفلاحين. (أشار إنجلز للأصل السوقي لهيراركية الكنيسة العليا – وحتى لعدد من البابوات – بوصفه أحد أسباب استقرار الكنيسة في العصور الوسطى). هكذا فان نمط تجنيد الأساقفة كان مختلفا عن ذلك الخاص بالنبلاء الإقطاعيين الفرديين. أما فيما يتعلق بنمط الاستيلاء، فقد كان الاختلاف عظيما بالمثل: فالنبيل الإقطاعي كمالك، كان مخولا بالحصول على كل الإيجار الذي يستطيع جمعه من أقنانه، في حين أن الأسقف كان مفتقدا للملكية من الناحية القانونية، وبالتالي كان مخولا بالحصول على “رابت” فقط. ولكن هل أدت هذه الاختلافات في نمط الاستيلاء ونمط التجنيد الخاصين بالنبلاء الإقطاعيين وهيراركية الكنسية العليا إلى أي اختلاف أساسي بين الصراع الطبقي للاقنان على أرض الكنيسة من ناحية، وعلى ارض النبيل من ناحية أخرى؟، بالطبع لا. كان للفلاح، بوسائل إنتاجه البدائية، بنمط الإنتاج الفردي، نفس العلاقة بالفلاحين الآخرين، ونفس العلاقة بوسائل الإنتاج (الأرض أساسا)، ونفس العلاقة بمستغله – الفئة العليا من الاكليروس (أو الذين اسماهم كاوتسكي في كتاب أشاد به إنجلز كثيرا، “الطبقة البابوية”).
وبالمثل، ففي المجتمع العبودي كان هناك إلى جانب الملكية الخاصة للعبيد، ملكية دولة جماعية، كما في سبارتا.(10)
من وجهة نظر المستغلين تكتسب مسألة نمط استيلاءهم وتجنيدهم أهمية أساسية. هكذا، على سبيل المثال، فان كاوتسكي يقول في توماس مور واليوتوبيا:
لقد بدا وكأن الكنيسة قد سعت لان تصبح مالك الأرض الوحيد في العالم المسيحي. إلا انه تعين أن يتم كبح جماح الأقوى. لقد كان النبلاء دائما معادين للكنيسة، وعندما حصلت الأخيرة على أراضي كثيرة جدا، تحول الملك إلى النبلاء طلبا للمساعدة لوضع حدود لطموحات الكنيسة. وفضلا عن ذلك أضعفت الكنيسة بسبب غزوات القبائل الوثنية والمسلمين. (11)
حصلت الكنيسة – ليس بدون صراع (وهو صراع كان أحد الأسلحة المستخدمة في تزوير مستندات الهبة) – على حوالي ثلث جميع الأراضي في أوروبا ككل، بما في ذلك اغلب الأراضي في بعض البلاد (مثل المجر وبوهيميا) ومن ثم، فربما اعتبر النبلاء إن الاختلافات بينهم وبين الفئات العليا من الاكليروس، في الأصل وفي نمط الاستيلاء – ذات أهمية.
ولكن من وجهة نظر الصراع الطبقي للاقنان أو البرجوازية الصاعدة ضد الإقطاع، كانت هذه الاختلافات ذات أهمية ثانوية تماما. ليس من الصواب القول بأنها كانت بلا أهمية، حيث أن الاختلافات في تكوين الطبقة الحاكمة شكلت إلى حد ما صراع الاقنان والبرجوازية الصاعدة. هكذا، على سبيل المثال، فان تركيز وسائل الإنتاج في أيدي الكنيسة جعل صراع الاقنان ضد الكنيسة اصعب كثيرا من صراعهم ضد ملاك الأراضي الأفراد، كما كان هناك اختلاف في شكل التبرير الأيديولوجي للملكية الإقطاعية، بين استعراض الـدم الأزرق وسـترة السـلاح (سترة السلاح هي رمز أو شعار النبالة “المترجم”) من ناحية، واقتباس الجمل الدينية باللاتينية من ناحية أخرى. ومما يساعد على إظهار أن هذه الاختلافات القانونية لم تكن عديمة الأهمية، إن ملكية الكنيسة كانت مسماة رسميا “ميراث الفقراء” في حين أن الملكية الإقطاعية الخاصة لم تمنح هذا اللقب الفخم. ولكن من وجهة نظر العملية التاريخية ككل، أي من وجهة نظر الصراع الطبقي، فان جميع الاختلافات بين نمط الاستيلاء وطريقة التجنيد للمجموعات المختلفة ليست سوى ثانوية.
ينسى شاختمان وبرونو آر (وكذلك التروتسكيون “الأرثوذكس”) مقولة ماركس منذ قرن مضى: “إن تناول شكل الملكية مستقلا عن قوانين حركة الاقتصاد، مستقلا عن علاقات الإنتاج، هو تجريد ميتافيزيقي”. هكذا فان الاختلافات الكبيرة بين نمط استيلاء وتجنيد البيروقراطيين الروس والبرجوازية، لا تثبت على الإطلاق أن روسيا تمثل مجتمعا غير رأسمالي، مجتمعا طبقيا جديدا هو الجماعية البيروقراطية. لإثبات ذلك، ينبغي إظهار أن طبيعة الطبقة المحكومة – ظروف حياتها وصراعها – تختلف جوهريا في روسيا عن ما هو قائم، حتى بالنسبة لشاختمان، في الرأسمالية. وهذا هو بالضبط ما حاول برونو آر، ثم شاختمان بعده أن يفعلاه.
طبيعة الطبقة العاملة في روسيا
حول مسألة ما إذا كان العمال في روسيا برولتياريين أم لا، يجيب دعاة نظرية البيروقراطية الجماعية، ويجب أن يجيبوا، بأنهم ليسوا كذلك. انهم يقارنون العامل الروسي بالعامل الكلاسيكي الذي كان “حرا” من وسائل الإنتاج ومتحررا أيضا من أي عوائق قانونية على بيع قوة عمله. من الصحيح انه كثيرا ما وجدت عوائق قانونية أما حركة العمال الروس من مشروع لآخر. ولكن هل هذا سبب كافي للقول بأن العامل الروسي لم يكن بروليتاريا؟
إن الأمر كذلك، فلا شك أن العامل الألماني في ظل هتلر لم يكن بروليتاريا. أو، على النقيض الآخر، العمال الذين يصلون للسلطة ليسوا أيضا بروليتاريين بمقدار ما انهم ليسوا “أحرارا” كجماعة من وسائل الإنتاج. لاشك أن العامل الأمريكي يختلف كثيرا عن فتاة تحت التدريب في مصنع ياباني تتعاقد لعدد من السنوات وتضطر للعيش في ثكنات للشركة خلال ذلك الوقت. ولكنهما أساسا عضوان في الطبقة نفسها. لقد ولدا مع أكثر أشكال الإنتاج ديناميكية في التاريخ، وهما متحدان بواسطة عملية الإنتاج الاجتماعي، وهما – في الواقع – نفي رأس المال، وفي الإمكانية، الاشتراكية ذاتها (بسبب ديناميكية الاقتصاد الحديث، فان أية قيود قانونية لم توقف بالكامل في الواقع حركة العمال من مشروع لآخر في ظل ستالين).
كان هلفردينح وبرونو آر ودوايت ماكدونالد متسقين، ومثلما لم يعتبروا العامل الروسي بروليتاريا، فانهم لم يعتبروا العامل في المانيا هتلر بروليتاريا. حاول الشاختمانيون أن يتجنبوا هذه النتيجة. وقد دفعهم ذلك لتحريف الوقائع. انهم يزعمون مثلا أن العمال الألمان في ظل هتلر كانوا اكثر حرية في الحركة من العمال الروس، وانهم كانوا اكثر حرية في المساومة مع أصحاب العمل، وان العمل العبودي لم ينتشر أبدا في ألمانيا بمثل انتشاره في روسيا. هكذا، فان ايفرينج هوو، أحد أتباع شاختمان في ذلك الوقت كتب:
“لم يستخدم النازيون العمل العبودي بمقدار ما فعلت روسيا الستالينية، في ظل نظام هتلر، لم يصبح العمل العبودي أبدا جزءا لا غنى عنه من الاقتصاد القومي لألمانيا، كما اصبح في روسيا في ظل ستالين… ظلت الصناعة في ظل هتلر معتمدة بشكل واسع على “العمل الحر” (بالمعنى الماركسي، أي متحررة من ملكية وسائل الإنتاج وبالتالي مضطرة لبيع قوة العمل، وإنما أيضا ممتلكا لحرية إن يقرر أن يبيع أو لا يبيع قوة العمل هذه.) ورغم كل القيود الهتلرية، كانت هناك مساومة لا بأس بها بين الرأسمالي والبروليتاري، وأيضا بين الرأسماليين سعيا وراء العمال أثناء فترات نقص الأيدي العاملة”. (12)
على الرغم من كافة القيود، فان العامل الروسي في الواقع يتحرك من مصنع إلى آخر أكثر كثيرا من العامل الألماني، أو فيما يتعلق بهذا الأمر، من أي عامل آخر في العالم كله. في وقت مبكر كسبتمبر 1930، منع العمال من تغيير أماكن عملهم بدون إذن خاص، وجلبت كل سنة بعد ذلك مزيد من المحظورات. ومع ذلك، فان معدل استبدال العمال كان هائلا. في 1928، في مقابل مائة عامل يشتغلون بالصناعة سجلت 4ر92 حالة ترك، في 1929، 2ر115، 1930، 4ر152، 1931، 8ر136، 1932، 3ر135، 1933، 4ر122، 1934، 7ر96، 1935، 1ر86. في السنوات التالية لم تنشر الأرقام، ولكن من الواضح أن معدل الاستبدال العالي استمر، وتشهد على ذلك المناشدات الحماسية الكثيرة في الصحافة. بل إن حتى الحرب لم تضع نهاية لذلك. كانت الإدارة الألمانية أكثر كفاءة بما لا يقارن في مكافحة الحركة الحرة للعمل في ظل هتلر. لقد جعل هذا، بالإضافة إلى عوامل أخرى (بصفة خاصة الدينامية الأعلى كثيرا نسبيا للاقتصاد الروسي)، معدل استبدال العمال في ألمانيا اقل كثيرا منه في روسيا. ماذا عن معسكرات العبيد في روسيا ستالين؟ لقد حاول شاختمان أن يوحي أن العمل العبودي كان عامل الإنتاج الأساسي في روسيا. إلا أن هذا خاطئ تماما. إن عمل السجناء مناسب فقط بالنسبة للعمل اليدوي، حيث لا تستخدم التقنية الحديثة، انه يشغل بالتالي في بناء المصانع، والطرق.. الخ.، وعلى الرغم من رخصه فانه بالضرورة ذو أهمية ثانوية فقط بالنسبة لعمل العمال، حيث أن العمل “غير الحر” دائما ما يكون ضعيف الإنتاجية نسبيا. ولو لم يكن العمل العبودي عائقا أمام زيادة إنتاجية العمل، لما انحدر المجتمع الروماني ولما ألغيت العبودية في الولايات المتحدة، مع اختلاف الظروف بين الحالتين، في مواجهة ظروف محددة – نقص وسائل الإنتاج ووفرة قوة العمل – من المفهوم أن تقوم البيروقراطية الستالينية بإدخال واستخدام العمل العبودي على نطاق واسع. ولكن من الواضح إن الميل التاريخي الأساسي يسير في اتجاه معاكس. فجميع المصانع التي تنتج الدبابات والطائرات والماكينات.. الخ في روسيا، كانت تقوم على العمل الأجير. وقد وجدت ألمانيا هتلر أثناء الحرب إن من المفيد استخدام اثني عشر مليون عامل أجنبي، تم تجنيد اغلبهم كسجناء وعلى هيئة عمل قهري.
أصر ماركس على أن الميل التاريخي نحو إذلال البروليتاريا – اضطهادها المتزايد بواسطة رأس المال – هو أمر جوهري بالنسبة للرأسمالية، في حين أن استبدال البروليتارية بطبقة جديدة، أو بالأحرى قديمة، من العبيد هو أمر مناقض تماما للميل العام للتاريخ. وكما قلنا، فان الاستخدام الواسع للعمل السجين في روسيا ستالين لا يمكن تفسيره إلا بنقص وسائل الإنتاج ووفرة قوة العمل. ومن هنا جاء الاختفاء شبه الكامل للعمل السجين منذ وفاة ستالين، حيث أن روسيا وصلت للنضج الصناعي.
إن نظرية البيروقراطية الجماعية لشاختمان، تؤدي بالضرورة إلى نتيجتها المنطقية. إذا لم يكن العامل الروسي بروليتاريا، فان العامل الألماني في ظل هتلر لم يكن بروليتاريا، كما أن ما كان قائما في ألمانيا هتلر، لم يكن نظام عمل أجير وإنما نظام “عبودية جماعية”. ووفقا لذلك فان الطبقة الحاكمة في ألمانيا هتلر، لا يمكن أن تسمى طبقة رأسمالية، حيث أن الرأسماليين هم مستغلو البروليتاريا. لدى برونو آر ودوايت ماكدونالد وهلفر دينج مزية الاتساق، على الأقل. لقد استخلصوا هذه الاستنتاجات وكانوا بالتالي مبررين في وصف ألمانيا هتلر بأنها جماعية بيروقراطية (برونو آر ودوايت ماكدونالد) أو “اقتصاد دولة شمولي” (هلفر دينج).
إذا قبلنا أن العمال الذين تشغلهم الدولة الستالينية ليسوا بروليتاريين، فينبغي أن نصل للاستنتاج العبثي القائل بأن العمال في مناطق القوى الغربية، في برلين بروليتاريون، أما في المنطقة الروسية فان العمال المشتغلين في الشركات الألمانية المؤممة ليسوا بروليتاريين، في حين أن أولئك المشتغلين في الصناعة الخاصة بروليتاريون!
ومرة أخرى، ينبغي أن نصل إلى الاستنتاج العبثي القائل بأن غير العمال في ظل ستالين قد تحولوا تدريجيا إلى بروليتاريين بعد وفاته.
وقبل كل شئ، إذا كان شاختمان على صواب وإذا لم يكن هناك بروليتاريا في النظام الستاليني، فان الماركسية كمنهج، كمرشد للبروليتاريا بوصفها صانعة التغيير التاريخي، تصبح بلا معنى. الحديث عن الماركسية في مجتمع بلا بروليتاريا يجعل الماركسية نظرية فوق – تاريخية.
الحدود التاريخية للجماعية البيروقراطية
عندما نقبل بالطبيعة الرأسمالية الدولتية للنظام الستاليني، فأننا لا نحدد فقط قوانين حركة هذا النظام – تراكم رأس المال الذي يمليه ضغط الرأسمالية العالمية – وإنما نحدد أيضا الحدود التاريخية لدوره. فمتى تكدس رأس المال وأصبحت الطبقة العاملة هائلة الحجم، تهتز الأرض تحت أقدام البيروقراطية.
بالنسبة للماركسي الذي يرى أن روسيا رأسمالية دولة، فان الرسالة التاريخية للبرجوازية هي إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل وتركيز وسائل الإنتاج. على النطاق العالمي، تحققت هذه المهمة بالفعل. وفي روسيا، أزالت الثورة العوائق أمام تطور القوى الإنتاجية، ووضعت نهاية لبقايا الإقطاع، وأقامت احتكارا للتجارة الخارجية يحمي تطور القوى الإنتاجية للبلد من الضغط المخرب للرأسمالية العالمية، كما أعطت أيضا دفعة هائلة لتطور القوى الإنتاجية في صورة ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. في ظل هذه الظروف ألغيت جميع هذه العوائق أمام الرسالة التاريخية للبرجوازية – إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل وتركيز وسائل الإنتاج، وهي شروط ضرورية لإقامة الاشتراكية – وهي الرسالة التي لم تكن البرجوازية قادرة على إنجازها. لقد وقفت روسيا ما بعد أكتوبر أمام إنجاز الرسالة التاريخية للبرجوازية، التي لخصها لينين في نقطتين: “زيادة في القوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي وإضفاء الطابع الاجتماعي على العمل”.
متى خلقت البيروقراطية الستالينية طبقة عاملة هائلة ورأس مال مركز هائل، فان الشروط الموضوعية لإسقاط البيروقراطية أصبحت قائمة. هكذا فقد خلقت البيروقراطية الستالينية حفار قبرها (ومن هنا جاءت توترات ما بعد ستالين في روسيا وأوروبا الشرقية).
إن نظرية الجماعية البيروقراطية عاجزة بحكم طبيعتها من أن تقول أي شئ عن الدور التاريخي والحدود التاريخية للبيروقراطية الستالينية. ومن ثم فان الاشتراكية أيضا تبدو كمجرد حلم يوتوبي، وليس عمل ضروري للتناقضات الكامنة في النظام الستاليني ذاته. إذا قمنا بتجريدها من تناقضات الرأسمالية، فان الدعوة للاشتراكية تصبح مجرد خيال مثالي.
الموقف من الأحزاب الستالينية
من افتراض أن الجماعية البيروقراطية أكثر رجعية من الرأسمالية، يستنتج شاختمان انه إذا تعين الاختيار بين الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي تؤيد الرأسمالية والأحزاب الشيوعية – عملاء الجماعية البيروقراطية – فعلى الاشتراكي أن يقف إلى جانب الأولى ضد الأخيرة.
هكذا، فقد كتب شاختمان في سبمتبر1948:
الستالينية هي تيار رجعي شمولي، معادي للبرجوازية ومعادي للبروليتاريا داخل الحركة العمالية ولكن ليس من الحركة العمالية… وفي الحالات التي لا يكون فيها المناضلون – كما هي القاعدة العامة اليوم – قد وصلوا بعد للقوة الكافية للصراع من اجل الزعامة مباشرة، وحيث يكون الصراع على السيطرة على الحركة العمالية، في الواقع، محصورا بين الإصلاحيين والستالينيين، سيكون من العبثي بالنسبة للمناضلين أن يعلنوا “حيدتهم”، كما سيكون تأييدهم للستالينين كارثة بالنسبة لهم. بدون أدنى تردد، عليهم أن يتبعوا الخط العام المتمثل في تأييد القيادة الإصلاحية ضد القيادة الستالينية. وبكلمات أخرى حيث لا يكون ممكنا بعد كسب النقابات لقيادة المناضلين الثوريين، فأننا نفضل صراحة زعامة الإصلاحيين، الذين يستهدفون الحفاظ على الحركة العمالية بطريقتهم الخاصة، على زعامة الشموليين الستالينيين الذين يستهدفون إبادتها… على الرغم من أن الثوريين ليسوا متساويين بالإصلاحيين وان الإصلاحيين ليسوا متساوين بالثوريين، إلا أن الاثنين الآن حليفان ضروريان وكاملان ضد الستالينية. إن الخلافات التي ينبغي تسويتها مع الإصلاحية ستسوى على أساس عمالي وبطريقة عمالية، وليس في ظل قيادة الرجعية الشمولية أو التحالف معها (13).
مرة أخرى، هناك افتقاد للأفق التاريخي وللتحليل الحقيقي للقوى الاجتماعية، فضلا عن الإفراط في التبسيط، كما أن هناك إغفال تام للدور المزدوج للأحزاب الشيوعية في الغرب – بوصفها عميلة لموسكو، وبوصفها مجموعة من المناضلين، الأفراد لمحاربين تخنقهم البيروقراطية نفسها.
إذا اتخذ الاشتراكيون في الغرب موقف شاختمان من الأحزاب الشيوعية، فان هذا سيؤدي إلى: أولا، تقوية الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية اليمينية. وثانيا، تقوية سيطرة قيادة الحزب الشيوعي على قواعده. هذه طريقة أكيدة لتصفية أي نزعة عمالية استقلالية.
استنتاج
إن نظرية الجماعية البيروقراطية فوق – تاريخية، وسلبية، ومجردة. إنها لا تحدد قوانين الحركة الاقتصادية للنظام، ولا تفسر تناقضاته المتأصلة فيه، ولا تبين الحافز وراء الصراع الطبقي. وهي تعسفية تماما. ومن ثم فأنها لا تعطي أفقا ولا يمكن أن تمثل أساسا لاستراتيجية الاشتراكيين.
الهوامش
الفصل الأول
(1) يوجد وصف جيد جدا للتغيرات في إدارة الاقتصاد الروسي في كتاب ج. بينستوك و س.ا. شفارتس و ا. يوجو: “الإدارة في الصناعة والزراعة في روسيا، اوكسفورد 1944.
(2) ا. بايكوف، تطور النظام الاقتصادي السوفييتي، لندن، 1946، ص 115.
(3) المصدر السابق، ص 116.
(4) الحزب الشيوعي (البلاشفة)، في قرارات وبيانات لمؤتمرات وجلسات اللجنة المركزية (سيتم إليها فيما بعد قرارات ل.م.ح.ش.)، بالروسية، موسكو 1941، المجلد الثاني ص 811.
(5) المصدر السابق، ص 812.
(6) الاشتراكية منتصرة، لندن، 1934، ص 137.
(7) Za Industrialization، (دورية كوميسارية الصناعة الثقيلة)، موسكو 1935، المجلد الأول، ص 8.
(8) ل. جنتسبرج وا. باشوكانتيس: دورة في القانون الاقتصادي السوفييتي، بالروسية، موسكو 1935، المجلد الأول، ص 8.
(9) برافدا، 11 مارس 1937.
(10) ا.ل. جرانوفسكي و ب.ل. ماركوس (محررين)، اقتصاديات الصناعة الاشتراكية، بالروسية، موسكو 1940، ص 579.
(11) المصدر السابق ص 563.
(12) هـ. جونسون، السُدس الاشتراكي في العالم، لندن 1944، ص 280.
(13) ترود، (جريدة نقابية يومية) موسكو، 8 يوليو 1933، مذكورة في م. جوردون، العمال قبل وبعد لينين، نيويورك 1941، ص 104-105.
(14) ج.ك. اردزونيكيدز، مختارات من المقالات والخطب، 1911-1937، بالروسية، موسكو 1939، ص 359.
(15) برافدا، 29 ديسمبر 1935.
(16) قرار المجلس المركزي للنقابات، 2 يناير 1933، القانون العمالي في الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو-لينينجراد، 1933، ص 320.
(17) ف.ا. لينين، الأعمال، بالروسية، الإصدار الرابع، المجلد العشرون، ص 6-7.
(18) المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة)، بالروسية، موسكو، مارس-إبريل 1922.
(19) العمل الأجور في روسيا، بالروسية، موسكو 1924، ص 160، و النقابات في الاتحاد السوفييتي 1926-1928، بالروسية، موسكو 1928، ص 358.
(20) ترود، 23 إبريل 1949.
(21) ج.ن. الكسندروف (المحرر)، قانون العمل السوفييتي، بالروسية، موسكو 1949، ص 166.
(22) Professionalnye Soiuzy (الدورية الشهرية النقابية)، موسكو 1940، العدد 4-5.
(23) المصدر السابق 1948، العدد 2.
(24) ا.ت. جولياكوف (المحرر)، التشريع بخصوص العمل، بالروسية، موسكو 1947، ص 15.
(25) ج.ن. الكسندروف ود.م. جنكين (المحرران)، قانون العمل السوفييتي، بالروسية، موسكو 1946، ص 100-101.
(26) قانون العمل للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1937، المادة 58، ص 28.
(27) جولياكوف، مصدر مذكور، ص 15.
(28) ترود، 13 إبريل 1952.
(29) ف. نيومان، بهيموث، لندن 1942، ص 352-353.
(30) المصدر السابق، ص 353.
(31) بايكوف، مصدر مذكور، ص 222.
(32) ج. سوركين، التخطيط الاشتراكي للاقتصاد القومي في الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1946، ص 95.
(33) الموسوعة السوفييتية الكبرى، بالروسية، موسكو 1948، العمود 1751.
(34) ترود، 20 إبريل 1949.
(35) ا.ا. بسكين، تنظيم وتخطيط الإنتاج في صناعة استخراج البترول، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1947، ص134.
(36) البلشفي، (دورية اللجنة المركزية للحزب)، موسكو 1952، العدد 5.
(37) Za Industrialization، موسكو، مارس 1936.
(38) ا.ا. اروتينان و ب.ل. ماركوس (المحرران)، تطور الاقتصاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1940، ص 492.
(39) ا. يوجو، جبهة روسيا الاقتصادية للحرب والسلام، لندن 1942، ص 193.
(40) المصدر السابق، ص 194.
(41) ترود، 17 إبريل 1941.
(42) Mashinostroenie، دورية كوميسارية تصنيع الميكنة، موسكو، 11 مايو 1939.
(43) ازفستيا، 2 إبريل 1936.
(44) ج. ماينارد، الفلاح الروسي، ودراسات أخرى، لندن 1942، ص 340.
(45) لحالات مسجلة لقتل وتخريب الستاخونوفيين بعد إدخال نظام الستاخوفينية أنظر إزفستيا، 23 أغسطس 1935، 27 سبتمبر 1935 و 5 أكتوبر 1935، برافدا، 2 و21 و22 نوفمبر 1935، ترود، 1 نوفمبر 1935. وهناك حالات أخرى كثيرة يمكن ذكرها.
(46) بسكين، مصدر مذكور، ص 31.
(47) ف.ا. لينين، الأعمال، بالروسية، مصدر مذكور، المجلد الحادي والعشرين ص 135.
(48) قانون العمل 1922، بالروسية، موسكو 1922، المادة 37.
(49) مذكور في ف. سيرج، روسيا بعد عشرين عاما، نيويورك 1937، ص 66.
(50) مجموعة قوانين وقرارات حكومة العمال والفلاحين في الاتحاد السوفييتي (يشار إليها فيما بعد: قوانين الاتحاد السوفييتي)، موسكو 1932، عدد 84، المادة 516.
(51) إزفستيا، 17 ديسمبر 1930.
(52) قانون عمل الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1937، المادة 37، ص 20.
(53) Za Industrialization، 12 فبراير 1931، مجموعة قرارات وقوانين حكومة الاتحاد السوفييتي، (يشار إليه فيما بعد: قرارات الاتحاد السوفييتي)، موسكو 1938، العدد 58، المادة 329.
(54) سيرج، مصدر مذكور، ص 68.
(55) قوانين الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1932، العدد 85، المادة 371.
(56) قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (البلاشفة) ومجلس كوميساريات الشعب في الاتحاد السوفييتي حول أهم قضايا البناء الاشتراكي، بالروسية، لينينجراد 1933، ص 127-130.
(57) قرارات الاتحاد السوفييتي، 1939، العدد الأول، المادة الأولى.
(58) مجلة السوفييت الأعلى (Supreme Soviet Gazette)، بالروسية، موسكو 1940، عدد 20.
(59) إزفستيا، 30 ديسمبر 1940.
(60) Bloknot Agitatova، (دورية قسم الدعاية والتحريض للجنة الحزب في موسكو)، موسكو 1952، العدد 4 ص 41-42.
(61) مجلة السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1940، العدد 42.
(62) الكساندروف وجنكين، مصدر مذكور، ص 278.
(63) المصدر السابق، ص 273-274.
(64) المصدر السابق، ص 275.
(65) انظر ج.ن. الكساندروف، قانون العمل السوفييتي، 1949.
(66) قوانين الاتحاد السوفييتي، 1927، العدد 49، مادة 330، و القانون الجنائي للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1937، المادة 58 فقرة 14.
(67) ف. جسوفسكي، القانون المدني السوفييتي، آن أربور Ann Arbor، 1948، مجلد 1 ص 805.
(68) قانون عمل 1922، بالروسية، موسكو 1922، مادة 129، ص18.
(69) النساء العاملات وحمايتهم في الصناعة الروسية، دورية العمل الدولية، أكتوبر 1929.
(70) ج.ن. سيريرنيكوف، Zhenskii Trend SSSR، موسكو 1934، ص 204. مذكور في ج. جرينفيلد ‘عمل المرأة في اقتصاد روسيا المخطط’، دورية البحث الاجتماعي، فبراير 1942. كان سيريرنيكوف حذرا في عدم وضع مثل هذه المعلومات في كتابه ‘وضع المرأة في الاتحاد السوفييتي’، لندن 1937، والذي كتب خصيصا للقارئ غير الروسي.
(71) نشرة الأخبار الروسية، 30 يوليو 1941.
(72) س. وولفسون، ‘الاشتراكية والعائلة’، في Pod Znamenem Marksizma (الدورية النظرية للحزب)، موسكو 1936، مذكور في ر. شلسنجر، العائلة في الاتحاد السوفييتي، لندن 1949، ص 287.
(73) المؤتمر الدولي للعمل، الجلسة الثامنة عشر، تشغيل المرأة في العمل في كافة أنواع المناجم تحت الأرض، جنيف 1934، التقرير السادس.
(74) ك. هالدين، التقرير الإخباري الروسي، لندن 1942، ص 151.
(75) م. هندوس، روسيا تستمر في النضال، لندن 1942، ص 135.
(76) برافدا، 1 يناير 1939.
(77) د.ج. دالين و ب.ا. نيكولايفسكي، العمل الجبري في الاتحاد السوفييتي، لندن 1948، ص 153.
(78) المصدر السابق، ص 52.
(79) المصدر السابق، ص 54-62.
(80) ا. سيليجا، اللغز الروسي، لندن 1940، ص 249.
(81) ي. جلوكستين، الدول التابعة لستالين في أوروبا، لندن 1952، ص 309-310.
(82) هـ. كولارتس، روسيا ومستعمراتها، لندن 1952، ص 185
(83) إضافات لقرار مجلس كوميسارات الشعب في الاتحاد السوفيتي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي، بالروسية.
(84) المصدر السابق، ص 10.
(85) دالين ونيكولافسكي، مصدر مذكور، ص 165.
(86) برافدا، 28 مارس 1953.
(87) إزفستيا، 20 ديسمبر 1937.
(88) ا.ي. فيشنسكي (المحرر)، قانون الدولة السوفييتية، بالروسية، موسكو 1938، ص 514-515.
(89) الخطة الخمسية للبناء الاقتصادي القومي للاتحاد السوفييتي، الإصدار الثالث (يشار إلية فيما بعد: الخطة الأولى)، بالروسية، موسكو 1930، المجلد 1 ص 132. و الخطة الخمسية الثانية لتنمية الاقتصاد القومي السوفييتي (يشار إليه فيما بعد: الخطة الثانية)، بالروسية، موسكو 1934، المجلد 1 ص 429.
(90) الخطة الأولى، المجلد الثاني، الجزء الأول ص 250، الخطة الثانية، المجلد الأول ص 172، ص 522، المجلد الثاني، ص 291-292 و ص 296. برافدا، 19 فبراير 1941. البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي، الكتاب الإحصائي 1936 (يشار إليه فينا بعد: البناء الاشتراكي 1936)، بالروسية، موسكو 1936 ص 192، 195، 201، 204، 206. البناء الاشتراكي للاتحاد السوفييتي 1933-1938، بالروسية، موسكو 1938، ص 73. برافدا 10 مارس 1950. إزفستيا، 17 إبريل 1951.
(91) البناء الاشتراكي (1933-1938)، ص xxv-xxiv.
(92) ا. بايكوف، التجارة الخارجية السوفييتية، برينستون 1946.
(93) الخطة الأولى، المجلد الأول، ص 145، 147. المجلد الثاني، ص 248-251، الخطة الثانية، المجلد الأول، ص 172، 522. المجلد الثاني ص 276، 278-280، 291-292، 296. القانون حول الخطة الخمسية لإعادة البناء والتنمية للاقتصاد القومي السوفييتي (1946-1950)، (يشار إليه فيما بعد: الخطة الرابعة)، بالروسية، موسكو 1946، ص 11-13. برافدا، 6 أكتوبر 1952.
(94) تم تقدير ذلك من: الخطة الأولى، المجلد الأول، ص 145، 147. المجلد الثاني، الجزء الأول، ص 248-251. ملخص إنجاز الخطة الخمسية الأولى لتنمية الاقتصاد القومي في الاتحاد السوفييتي، (يشار إليه فيما بعد: ملخص الخطة الأولى)، بالروسية، موسكو 1933، ص 83، 95، 105، 121. الخطة الثانية، المجلد الأول، ص 172، 522. المجلد الثاني، ص 276، 278-280، 291-293، 296. الخطة الرابعة، ص 11-13. إزفستيا، 17 إبريل 1951. (لا توجد إشارة إلى إنجازات الخطة الثالثة (38-1942) حيث توقفت بسبب الحرب ولم تنشر أي بيانات لإنجازاتها.
(95) البناء الاشتراكي 1936، ص 3.
(96) س.ن. بروكوفيتش، Russlands Volkswithschaft Unter der Sowjets، زيوريخ 1944، ص 203.
(97) الخطة الأولى، المجلد الأول ص 20، ف.ب. دياتشنكو (المحرر)، التمويل والائتمان في الاتحاد السوفييتي، موسكو 1938، ص 184، الخطة الرابعة، ص 9. الاقتصاد القومي السوفييتي، بالروسية، موسكو 1948، المجلد الثاني ص 185.
(98) الاقتصاد القومي السوفييتي، بالروسية، موسكو 1948، المجلد الثاني ص 129.
(99) بروكوبوفيتش، مصدر مذكور، ص 306.
(100) ن. جاسني، الزراعة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، ستانفورد 1949، ص 777-778.
(101) ك.كاوتسكي، المسألة الزراعية، شتوتجارت 1899، ص 24، 31.
(102) ن.ا.فوزنسنسكي، اقتصاد الحرب في الاتحاد السوفييتي في فترة الحرب القومية، بالروسية، موسكو 1948، ص 126.
(103) ن.جاسني، الاقتصاد القومي في مرحلة الخطة، ستانفورد، ص 74.
(104) المصدر السابق، ص 76.
(105) تم تقديره من إحصاءات إنتاج السلع الاستهلاكية، ص 35.
(106) ف.ف.كويبيشيف، مقالات وخطب 30-1935، بالروسية، موسكو 1935، 131.
(107) الخطة الأولى، المجلد الثاني، الجزء الثاني، ص 292-293. ملخص الخطة الأولى، ص 186. الخطة الثانية، المجلد الأول، ص 533.
(108) ميزانية العمال والموظفين؛ المجلد الأول: ميزانية عائلة عامل في 22-1927، بالروسية، موسكو 1929، ص 55. الخطة الثانية، المجلد الأول، ص 533. ب.ب. فسيسيلوفسكي، دورة في الاقتصاد والتخطيط للاقتصاد الشيوعي، بالروسية، موسكو 1945، ص 174.
(109) الأمم المتحدة، المشكلة السكانية الأوروبية، جنيف 1949، ص 41.
(110) الأمم المتحدة، المسح الاقتصادي لأوروبا في 1949، جنيف 1950، ص 31.
(111) دورية العمل الدولي، مايو 1932، ص 627.
(112) الأخبار السوفييتية، 23 يناير 1952.
(113) ف.ل. كوبالفسكي، تنظيم واقتصاديات الإسكان في الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1940، ص 109.
(114) فسلوفسكي، مصدر مذكور، ص 176.
(115) الخطة الرابعة، ص 55.
(116) فسلوفسكي، مصدر مذكور، ص 132، 473.
(117) الأخبار السوفييتية، 23 يناير 1952، برافدا 18 أكتوبر 1937.
(118) دورية العمل الدولية، مايو 1932، ص 627.
(119) ا.ج. سفيريف، ميزانيات الدولة للاتحاد السوفييتي 38-1945، بالروسية، موسكو 1946، ص 15، 22، 47، 104. ك.ن. بوتينكوف، ميزانية دولة اشتراكية، بالروسية، موسكو 1948، ص 142، 146، 216، 218. الاقتصاد القومي للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1951 المجلد الرابع ص 127، 340. Planovoc Khoziaistro ،(الدورية الشهرية للجنة تخطيط الدولة)، موسكو 1952، عدد 2، ص 24.
(120) هذه الاحصاءات من: خطة الدولة لتنمية الاقتصاد القومي للاتحاد السوفييتي 1941، عدد 127، 17 يناير 1941، مصدر مذكور، ص 11.
(121) ل.ب. شولكين، استهلاك الحديد والصلب في الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1940، ص 20. م. جادنر كلارك، بعض المشكلات الاقتصادية في صناعة الحديد والصلب السوفييتية، (دراسة أكاديمية غير منشورة)، جامعة كورنيل 1950، ص42.
(122) فوزنسنسكي، مصدر مذكور، ص 126.
(123) أروتينيان وماركوس، مصدر مذكور، ص 484.
(124) بركوبوفيتس، مصدر مذكور، ص 306.
(125) الاتحاد السوفييتي والدول الرأسماليةـ الكراسة الإحصائية، بالروسية، موسكو 1939، ص 75-80.
(126) الجريدة الأسبوعية السوفييتية، الملحق، 18 ديسمبر 1947.
(127) وزارة العمل، المسح العام للعمال البريطانيين، إبريل 1947.
(128) ن. جاسني، الزراعة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، مصدر مذكور، ص 374-375.
(129) المصدر السابق، ص 375.
(130) ا. ارينا، ‘الكولوخوزات في 1938’، Sotsialisicheskoe Selskokhoziaistro ، (الدورية الشهرية لكوميسارية الزراعة)، موسكو 1939، العدد 120.
(131) ارينا، المصدر السابق، وجاسني، الزراعة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، مصدر مذكور، ص 684.
(132) ت.ل. باسيوك، تنظيم الانتاج الكولوخوزي، بالروسية، موسكو 1946، ص 272-273.
(133) بروكوبوفيتز، مصدر مذكور، ص 164.
(134) ف. سيمينوف، ا. بانكروفا وآخرين، البروليتاريا في ثورة 1905-1907، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1930، ص232.
(135) م.ب. أوسادكو (المحرر)، مشكلات تنظيم الانتاج الكولخوزي، بالروسية، موسكو 1945، ص 94.
(136) المصدر السابق.
(137) المصدر السابق، ص95.
(138) المصدر السابق، ص 191.
(139) المصدر السابق، ص 201.
(140) المصدر السابق، ص 212.
(141) المصدر السابق، ص 217.
(142) ف.إ. لينين، الأعمال المختارة، المجلد الأول، ص 179.
(143) ك. ماركس، رأس المال، نيويورك، المكتبة الحديثة، المجلد الأول، ص 193.
(144) ك. ماركس و ف. إنجلز، المراسلات المختارة، لندن 1941، ص 509-510.
(145) م. دوب، التطور الاقتصادي السوفييتي منذ 1917، لندن 1948، ص 364.
(146) ا.ك. سوخكوف (المحرر)، عائدات ميزانية الدولة للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1945، ص 14. بلوتنيكوف، مصدر مذكور، ص 17، 26، 102، 181، 259. ن.ن. روفنسكي، ميزانية الدولة للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1949، ص 72. الاقتصاد القومي للاتحاد السوفييتي 1950، بالروسية، موسكو 1950، ص 393. الاقتصاد القومي للاتحاد السوفييتي 1951، بالروسية، موسكو 1951، ص 337. Planovo Khaziaistvo، 1952، العدد 2، ص 20.
(147) سوخوف، مصدر مذكور، ص 16.
(148) ن. جاسني، نظام الأسعار السوفييتي، ستانفورد 1951، ص 164-165.
(149) م. دوب، التخطيط السوفييتي والعمل في السلام والحرب، لندن 1942، ص 61-62.
(150) م. دوب، التطور الاقتصادي السوفييتي منذ 1917، مصدر مذكور، ص 371-372.
(151) بروكوبوفيتس، مصدر مذكور، ص 316. البلشفي، العدد 12، 1950.
(152) قرارات ل.م.ح.ش.، موسكو 1932، الإصدار الرابع، المجلد الأول، ص 22.
(153) المصدر السابق، ص 506.
(154) البناء الاشتراكي، 1935، ص 644. ن جاسني، نظام الأسعارالسوفييتي، مصدر مذكور، ص 78.
(155) البناء الاشتراكي، 1936، ص 646-647. ن. جاسني، المصدر السابق.
(156) زفيروف، مصدر مذكور، ص 43.
(157) قوانين الاتحاد السوفييتي 1932، عدد 62، المادة 360.
(158) ج.ف. ستالين، الأعمال، بالروسية، المجلد الثامن، ص 209.
(159) هذا الاقتباس والاقتباسين التاليين من جلوكسين، المصدر السابق، ص 93-95.
(160) برافدا، 5 يونيو 1947.
(161) المصدر السابق.
(162) برافدا، 9 يوليو 1947.
(163) القانون الجنائي للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1937، ص 70-71.
(164) المصدر السابق، ص 74.
(165) قوانين الزواج والعائلة والحضانة في الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1948، ص 19، المادة 69.
(166) المصدر السابق، ص 19، المادة 70.
(167) قوانين الاتحاد السوفييتي 1935، عدد 19، المادة 155.
(168) تم ذكرها في م. ايفون، L’URSS, Telle qu’elle est، باريس 1938، ص 243.
(169) Vecherniaia Moskva، 19 إبريل 1935 في ن.س. تيماشيف، التراجع الكبير، نيويورك 1946، ص 325.
(170) أنظر Sovetskaia Ustitsiia، 1935، عدد 10، مذكور في تيماشيف، مصدر مذكور، ص 321.
(171) مجلة السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي، 1941، عدد 25.
(172) ا.ت. جولياكوف (المحرر)، القانون الجنائي، بالروسية، الإصدار الثالث، 1943، ص 137. مذكور في جسوفسكي، مصدر مذكور، المجلد الأول ص 122.
(173) دالين ونيكولايفسكس، مصدر مذكور، ص 84.
(174) ك. ماركس وف. انجلز، الأعمال، بالروسية، المجلد الرابع، ص 312.
(175) ف.ا. لينين، الأعمال، بالروسية، المجلد الرابع والعشرون، ص 5.
(176) ك. ماركس، نقد برنامج جوتا، مذكور في لينين، الدولة والثورة، لندن 1942، ص 70.
(177) لينين، المصدر السابق، ص 76.
(178) المصدر السابق، ص 77.
(179) المصدر السابق، ص 78.
(180) المصدر السابق، ص 40.
(181) ف.ا. لينين، الأعمال، بالروسية، المجلد السابع والعشرون، ص 132.
(182) المصدر السابق، المجلد التاسع والعشرون، ص 159.
(183) المصدر السابق، المجلد الثالث والعشرون، ص 64.
(184) قرارات ل.م.ح.ش.، الإصدار الرابع، المجلد الأول، ص 337.
(185) المصدر السابق، ص 444.
(186) محاضر المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) في موسكو- مارس 1921، بالروسية، موسكو 1933، ص 317.
(187) س.ج. ستروملين، الأجور وانتاجية العمل في الصناعة الروسية 1913-1922، موسكو 1923، ص 35.
(188) م.ن. بوكروفسكي (المحرر)، 1905، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1925، المجلد الأول، ص 439.
(189) العمل في الاتحاد السوفييتي، المسح الاقتصادي الاحصائي، أكتوبر 1922- مارس 1924، بالروسية، موسكو 1924، ص 58.
(190) س. زاجورسكي، الأجور وتنظيم ظروف العمل في الاتحاد السوفييتي، جنيف، 1930، ص 176، 178.
(191) ل. لاوتن، التاريخ الاقتصادي لروسيا السوفييتية، لندن 1932، المجلد الثاني، ص 359-361.
(192) من ز.م. تشيرنلوفسكي (المحرر)، تاريخ الدولة والقانون، بالروسية، موسكو 1949، ص 29.
(193) مذكور في د.ا. تشيرنومريديك، السياسة الاقتصادية للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1936، ص 240.
(194) قانون العمل 1922، بالروسية، موسكو 1922، مادة 57، ص 9-10.
(195) المصدر السابق، تم الغاؤه في 17 مارس 1934 (قوانين الاتحاد السوفييتي 1934، عدد 15 المادة 109).
(196) قوانين الاتحاد السوفييتي، 1937، عدد 71، مادة 340.
(197) ل.أ. برونشتين و ب.ن. بوردين، التخطيط والمحاسبة في النقل بالسيارات، بالروسية، موسكو، 1948، ص 150.
(198) قوانين الاتحاد السوفييتي 1936، عدد 20، مادة 169.
(199) ج. بولياك، ‘حول صندوق المديرين في المؤسسات الصناعية’، Planovoe Khaziaistvo، 1938، عدد 4.
(200) البناء الاشتراكي 33-1938، مصدر مذكور، ص 138.
(201) ل. فيلنسكي، ‘مسائل مالية في الصناعة’، Planovoe Khaziaistvo، 1938، عدد 10.
(202) مذكور في ايفون، مصدر مذكور، ص 111.
(203) برافدا، 27 يونيو 1937.
(204) البناء الاشتراكي 1936، مصدر مذكور، ص 513.
(205) الجلسة الأولى للسوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو، 1948، ص 124، 205.
(206) إزفستيا، 18 يناير 1938.
(207) نيويورك تايمز، 23 اغسطس 1943.
(208) برافدا، 21 ديسيمبر 1943.
(209) إزفستيا، 6 إبريل 1940.
(210) أ. فيرث، عالم ستالينجراد، لندن 1946، ص 126.
(211) المصدر السابق، ص 104.
(212) المصدر السابق.
(213) أنظر ص 57.
(214) ن. جاسني، نظام الأسعار السوفييتي، مصدر مذكور، ص 44-45.
(215) قوانين الاتحاد السوفييتي 1918، عدد 34، المادة 456.
(216) قوانين الاتحاد السوفييتي 1929، عدد 8، المادة 78.
(217) ر. بيشوب، المليونيرات السوفييت، لندن 1945، ص 3.
(218) إ.إ. إفتخييف و ف.أ. فلاسوف، القانون الاداري للاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1946، ص 164، 418.
(219) المصدر السابق، ص 408.
(220) برافدا، 4 إبريل 1951.
(221) برافدا، 17 مارس 1949.
(222) الموسوعة السوفييتية الكبرى، مجلد الاتحاد السوفييتي،، بالروسية، العواميد 1225، 1228، 1233.
(223) البناء الثقافي في الاتحاد السوفييتي، بالروسية، موسكو 1940، ص 111-112.
(224) المصدر السابق، ص 114.
(225) قرارات الاتحاد السوفييتي، 1940، عدد 27، المادة 637.
(226) تعليم الشعب في الاتحاد السوفييتي في 1943، بالروسية، 1944، ص 42.
(227) توجيهات الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي (البلاشفة) وقرارات الحكومة السوفييتية حول التعليم – مجموعة وثائق 1917-1947، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1947، المجلد الثاني ص 109-111.
(228) قرار 28 ديسمبر 1940، مجلة السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي، 1941، العدد 1.
(229) المصدر السابق، 1947، عدد 21.
(230) الخطة الأولى، المجلد الأول، ص 329.
(231) المصدر السابق، ص 324-325.
(232) البناء الاشتراكي 1933-1938، مصدر مذكور.
(233) الخطة الأولى، المجلد الأول، ص 94.
(234) ملخص الخطة الأولى، ص 170.
(235) برافدا، 27 أكتوبر 1940.
(236) إ.ب. باردين و ن.ب. باني، صناعة الحديد والصلب في فترة الخطة الخمسية الجديدة، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1947، ص 166.
(237) المصدر السابق، ص 165.
(238) إزفستيا، 24 مايو 1952.
(239) إجتماع السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي (الجلسة الثالثة) 20-25 فبراير 1947، بالروسية، موسكو 1947، ص 20.
(240) ن. جاسني، الأسعار السوفييتية لسلع المنتجين، ستانفورد 1952، ص 83-84.
(241) ن. جاسني، نظام الاسعار السوفييتي، مصدر مذكور، ص 9-10.
(242) المصدر السابق، ص 10.
(243) ج.ف. ستالين، المشكلات الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، موسكو 1952، ص 24-25.
(244) Planovoe Khaziaistvo، 1946، عدد 23 ص 38-39.
(245) هـ.ج. بيرمان، العدالة في روسيا: تفسير للقانون السوفييتي، 1950، ص 66.
(246) المصدر السابق، ص 76-77.
(247) ستالين في برافدا، 7 نوفمبر 1929، مسائل اللينينية، ص 301، في ستالين، الأعمال، بالروسية، المجلد الثاني عشر، ص 129، تم إعادة نشر نفس المقال مع استبدال ‘40 إلى 50 ألف هيكتار’ بدلا من ‘50 إلى 100 ألف هيكتار’.
(248) إزفستيا، 20 يناير 1930.
(249) ج.ك. أردزونيكيدز، التنمية الصناعية في 1931 ومهام 1932، موسكو 1932، ص 40-41.
(250) Planovoe Khaziaistvo، 1931، عدد 5-6، ص 29، الخطة الثانية، المجلد الثاني، ص 276، 278-280.
(251) إزفستيا، 8 مارس 1931.
(252) Komsomolskaia Pravda، 6 ديسمبر 1935، مذكور في جوردو، مصدر مذكور، ص 389-390.
(253) ك. ماركس و ف. إنجلز، البيان الشيوعي، في الأعمال المختارة، لندن 1942، المجلد الأول، ص 208-210.
الفصل الثاني
(1) ك. ماركس، الأعمال المختارة، المجلد الأول، ص 226-227.
(2) ف. إنجلز في الزمن الجديد، المجلد العشرون، رقم 1، ص 8. مذكور في ك. ماركس و ف. إنجلز، المراسلات المختارة، لندن 1943، ص 486.
(3) مقدمة إنجلز لكتاب ك. ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا، لندن 1941، ص 19.
(4) المصدر السابق، ص 40-41.
(5) المصدر السابق، ص 18.
(6) ف. إنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، لندن 1943، ص 195.
(7) ف.إ. لينين، الدولة والثورة، لندن 1942، ص 10.
(8) ل. تروتسكي، الثورة المغدورة، لندن 1937، ص 211.
(9) قرارات ل.م.ح.ش.، الإصدار الرابع، المجلد الأول، ص 22.
(10) قوانين الاتحاد السوفييتي 1917، رقم 9، المادة 138.
(11) المصدر السابق، المادة 139.
(12) ي.ل. بيرمان (المحرر)، الحزب الشيوعي (البلاشفة) والمسألة العسكرية، في قرارات مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفيتي، بالروسية، موسكو 1928، الاصدار الثاني، ص 71-73.
(13) ل. تروتسكي، كيف سلحت الثورة نفسها، بالروسية، موسكو 1924، المجلد الثاني، الكتاب الأول، ص 118.
(14) المصدر السابق، المجلد الثاني، الكتاب الثاني، ص 16، كما طرحت هذه الفكرة مرة أخرى في أطروحة نشرها تروتسكي في 16 ديسمبر، المصدر السابق ص 33-36.
(15) بيرمان، مصدر مذكور، ص 84-85.
(16) إ سميلجا، مسائل أساسية في بناء الجيش الأحمر، بالروسية، موسكو 1921، ص 16-17. طرحت نفس الأفكار في مقال م.ن. توكاتشفسكي ‘الجيش الأحمر والميليشيا’ في كتابه: حرب الطبقات – مقالات 1919-1920، موسكو 1923، ص 60-77. الفرق الوحيد بين سميلجا وتوكاتشفسكي تقع في تركيز الأخير على عدم توافق نظام الميليشيا مع ‘المهمة العسكرية لروسيا السوفييتية في نشر الثورة في العالم كله.’
(17) مذكور في الموسوعة العسكرية السوفييتية، بالروسية، موسكو 1932، المجلد الأول، العمود 619.
(18) د.ف. وايت، نمو الجيش الأحمر، برينستون 1944، ص 63-64.
(19) تروتسكي، كيف سلحت الثورة نفسها، مصدر مذكور، المجلد الثاني، الكتاب الأول، ص 84-86، مذكور في وايت، مصدر مذكور، ص 121.
(20) وايت، مصدر مذكور، ص 252.
(21) المصدر السابق، ص 223.
(22) إ. فولنبرج، الجيش الأحمر، لندن 1940، ص 182-183.
(23) المصدر السابق، ص 188.
(24) وايت، مصدر مذكور، ص 303.
(25) المصدر السابق، ص 304.
(26) المصدر السابق، ص 305.
(27) ك. فوروشيلوف، في أرض الاشتراكية اليوم وغدا، موسكو 1939، ص 2218.
(28) ا. برجسون، الدخل القومي والمنتج القومي في الاتحاد السوفييتي، الملحق: المصادر والمناهج، نيويورك 1950، ص 8.
(29) نيويورك تايمز، 23 أغسطس 1943.
(30) افتيكييف وفلاسوف، مصدر مذكور، ص 166-167.
(31) قوانين الاتحاد السوفييتي 1935، رقم 57، المواد 468-469.
(32) المصدر السابق، 1937، رقم 51، المادة 219.
(33) مجلة السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي، بالروسية، 1940، العدد 15.
(34) المصدر السابق، 1945، العدد 36. يوجد وصف تفصيلي للقرارات التي أدخلت الرتب إلى الجيش والقوات الجوية والقوات البحرية في افتكييف وفلاسوف، مصدر مذكور، ص 156-157.
(35) Krasnaia Zverzda، (الجريدة اليومية للجيش السوفييتي)، موسكو 4 سبتمير 1940.
(36) الموسوعة السوفييتية الصغيرة، بالروسية، المجلد السادس. ص 624.
(37) Krasnaia Zverzda، 7 يناير 1943.
(38) المصدر السابق، 23 مايو 1940.
(39) جريدة العامل اليومية، 9 يوليو 1943.
(40) Krasnaia Zverzda، 22 أكتوبر 1940.
(41) المصدر السابق، 15 أكتوبر 1940.
(42) المصدر السابق، 22 أكتوبر 1940.
(43) برافدا، 6 أكتوبر 1940.
(44) ج. توستر، السلطة السياسية في الاتحاد السوفييتي، نيويورك 1948، ص 210.
(45) خطاب سفرلدوف، 5 يوليو 1918، مذكور في ج. بنيان، التدخل والحرب الأهلية والشيوعية في روسيا، إبريل-ديسمبر 1918، الوثائق والمادة، بلتيمور 1936، ص 205.
(46) إزفستيا، 1 سبتمبر 1939.
(47) برافدا، 7 مارس 1952.
(48) برافدا، 12 إبريل 1954.
(49) جونسون، مصدر مذكور، ص 353.
(50) ج. ف. ستالين، خطب في اجتماعات ما قبل الانتخابات لناخبي منطقة ستالين الانتخابية في مقاطعة موسكو، 11 ديسمبر 1937، و 9 فبراير 1946، موسكو 1946، ص5.
(51) أ. ر. وليامز، السوفييتات، نيويورك 1937، ص 49.
(52) برافدا، 22 ديسمبر 1947.
(53) ب. نيومان، أوروبا الجديدة، لندن 1942، ص 159.
(54) نيويورك تايمز، 25 نوفمبر 1937.
(55) قرارات ل. م. ح. ش.، الإصدار الرابع، المجلد الأول، ص 126.
(56) قرارات ل. م. ح. ش.، الإصدار السادس، المجلد الأول، ص 154-160.
(57) ل. تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، لندن 1932، المجلد الأول، ص 59.
(58) المصدر السابق، و ف. إ. لينين، الأعمال، بالروسية، المجلد 21، ص 432.
(59) أ. شليابناكوف، العام السابع عشر، بالروسية، موسكو 1924، المجلد الأول، ص 197.
(60) أ. س. بوبنوف وآخرين، الحزب الشيوعي (البلاشفة)، موسكو-لينينجراد، 1931، ص 113.
(61) برافدا، 15 مارس 1917، مذكور في تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، مصدر مذكور، المجلد الاول، ص 305.
(62) برافدا، 8 إبريل 1917.
(63) بوبنوف، مصدر مذكور، ص 114.
(64) قرارات ل. م. ح. ش.، الإصدار الرابع، مصدر مذكور، المجلد الأول، ص 258.
(65) ف. إ. لينين، الأعمال، بالروسية، الإصدار الثالث، المجلد العشرون، ص 652.
(66) المصدر السابق، المجلد 21، ص 526.
(67) ج. ريد، عشرة أيام هزت العالم، لندن 1932، ص 223-224.
(68) المصدر السابق.
(69) ل. تروتسكي، ستالين، لندن 1947، ص 341-342.
(70) بوبنوف، مصدر مذكور، ص 511.
(71) المصدر السابق، ص 512.
(72) ف. إ. لينين، الأعمال، بالروسية، الإصدار الثاني، المجلد 26، ص 232.
(73) قرارات ل.م.ح.ش.، الإصدار الثاني، المجلد 26، ص 232.
(74) المصدر السابق، الإصدار السادس، المجلد الثاني، ص 592.
(75) ف. إ. لينين، الأعمال، مصدر مذكور، المجلد 30، ص 414.
(76) التكوين الاجتماعي والقومي للحزب الشيوعي (البلاشفة)، بالروسية، موسكو-لينينجراد 1928، ص 41.
(77) توستر، مصدر مذكور، ص 328.
(78) س.ن. هاربر و ر.تومبسون، حكومة الاتحاد السوفييتي، نيويورك 1949، ص 80.
(79) Patiianaia Zhazn، (دورية اللجنة المركزية للحزب)، موسكو، العدد 20، أكتوبر 1947، ص 83.
(80) برافدا، 22 إبريل 1942.
(81) بوبنوف، مصدر مذكور، ص 626.
(82) الاتحاد السوفييتي أرض الاشتراكية، بالروسية، موسكو 1939، ص 94.
(83) بوبنوف، مصدر مذكور، ص 624.
(84) ك. فوروشيلوف، المقالات والخطب 1925-1936،، بالروسية، موسكو 1939، ص 94.
(85) أرض الاشتراكية اليوم وغدا، مصدر مذكور، ص 148.
(86) برافدا، 23 يوليو 1940.
(87) تقرير مالنكوف، برافدا، 14 مارس 1939.
(88) بوبنوف، مصدر مذكور، ص 612.
(89) المصدر السابق، ص 620.
(90) قرارات ل.م.ح.ش.، الإصدار الرابع، المجلد الأول، ص 315.
(91) ل. تروتسكي، ستالين، مصدر مذكور، ص 484.
(92) وايت، مصدر مذكور، ص 387.
(93) البلشفي، العدد 5، مارس 1937.
(94) أرض الاشتراكية اليوم وغدا، مصدر مذكور، ص 195-196.
(95) ف.إ. لينين، الأعمال، بالروسية، مصدر مذكور، المجلد 25، ص 442.
(96) ج.ف. ستالين، الأعمال، بالروسية، مصدر مذكور، المجلد 10، ص 95.
(97) الدستور والقانون الاساسي للاتحاد السوفييتي، موسكو 1919، المادة 9، ص 4-5.
(98) ب.ق. يودين، ‘المصدر الأكثر أهمية في تنمية الاتحاد السوفييتي’، حول المجتمع السوفييتي الاشتراكي، بالروسية، موسكو 1948، ص 22.
(99) المصدر السابق.
(100) ت.أ. ستبانيان، ‘شروط ومسارات التحول من الاشتراكية إلى الشيوعية’، حول المجتمع السوفييتي الاشتراكي، المصدر السابق، ص 526.
الفصل الثالث
(1) ك. ماركس، بؤس الفلسفة، لندن، ص 146.
(2) ف. إنجلز، ضد دوهرنج، لندن، ص 320.
(3) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، ص 396-397.
(4) ك. ماركس وف. إنجلز، المراسلات المختارة، لندن 1942، ص 493.
(5) ك. ماركس، الأعمال المختارة، مصدر مذكور، المجلد الأول، ص 221.
(6) ك. ماركس، رأس المال، مصدر مذكور، المجلد الأولـ ص 652.
(7) ك. ماركس، الأعمال المختارة، مصدر مذكور، المجلد الأول، ص 563-566.
(8) ف.إ. لينين، الأعمال، بالروسية، الإصدار الرابع، المجلد 31، ص 7-8.
(9) ك. كلارك، شروط التقدم الاقتصادي، لندن 1951، ص 268.
(10) ف. إنجلز، المسألة الفلاحية في فرنسا وألمانيا،، بالروسية، سان بيترسبرج 1920، ص 37، 39.
(11) إ.أ. بريوبرازنسكي، ‘قانون التراكم البدائي الاشتراكي’، مقال نشر في 1924 وتم ضمه كفصل في كتابه الاقتصاد الجديد، موسكو 1926، المجلد الأول، الجزء الأول، ص 100.
(12) أنظر خطاب تروتسكي لمؤتمر الحزب الثاني عشر، المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة)، بالروسية، موسكو 1923، ص 321.
(13) بريوبرازنسكي، مصدر مذكور، ص 57-58.
الفصل الرابع
(1) ف.إ. لينين، الأعمال، بالروسية، المجلد 27، ص 387.
(2) ك. ماركس، أخلاق النقد ونقد الأخلاق، بالألمانية، شتوتجارت 1902، الفصل 2، ص 456.
(3) ك. كلارك، شروط التقدم الاقتصادي، لندن 1940، ص 79، 83، 91، 98.
(4) ك. ماركس، أخلاق النقد ونقد الأخلاق، مصدر مذكور.
(5) ف. إنجلز، الحروب الفلاحية في ألمانيا، لندن 1927، ص 135-136.
(6) ف. إنجلز، ‘الاشتراكية الطوبوية والعلمية’، في ماركس-إنجلز، أعمال مختارة، المجلد الأول، ص 183.
الفصل الخامس
(1) ل. تروتسكي، الثورة المغدورة، لندن 1937، ص 232-233.
(2) ج. برنهام، الثورة الإدارية، لندن 1945، ص 103-104.
(3) ف.إ. لينين، الأعمال، بالروسية، المجلد 25، ص 51.
(4) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الثالث، شيكاغو 1909، ص 712.
(5) المصدر السابق، ص 517.
(6) ف.إ. لينين، الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، لندن 1942، ص 20.
(7) ف.إ. لينين، الأعمال الكاملة، لندن، المجلد 21، الكتاب الأول، ص 211-215.
(8) ن. بوخارين، اقتصاديات فترة التحول، بالألمانية، هامبورج 1922، ص 131-133.
(9) ف. إنجلز، ضد دهرنج، مصدر مذكور، ص 306-307.
الفصل السادس
(1) ف.إ. لينين، الأعمال، بالروسية، المجلد 29، ص 388.
(2) ن. بوخارين، المادية التاريخية، لندن 1926، ص 276.
(3) ف. إنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، مصدر مذكور، ص 201.
(4) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، ص 648-652.
(5) ج.ف. بليخانوف، الفهم المادي للتاريخ، لندن 1940، ص 32.
(6) ف. إنجلز، ضد دهرنج، مصدر مذكور، ص 309.
(7) ر. لوكسمبورج، إصلاح أم ثورة؟، ليبزيج 1908، ص 41.
(8) ف.إ. لينين، الدولة والثورة، مصدر مذكور، ص 30-31.
(9) الأممية الرابعة والاتحاد السوفييتي، أطروحات المؤتمر الأممي الأول للأممية الرابعة، جنيف، يوليو 1936.
(10) ف.إ. لينين، الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، مصدر مذكور، ص 109.
(11) ج. كوكزنسكي، الانتاج والتبادل الدوليين في المئة عام الماضية، بالألمانية، ليباد 1935، ص 20-21.
الفصل السابع
(1) ف. إنجلز، ضد دهرنج، مصدر مذكور، ص 341.
(2) إ. لابيدوس و ك. استروفتيانوف، الاقتصاد السياسي وعلاقته بنظرية الاقتصاد السوفييتي، موسكو-لينينجراد 1928، ص 8-9.
(3) المصدر السابق، ص10.
(4) المصدر السابق، ص 131-132.
(5) إ.أ. بريوبرازنسكي، الاقتصاد الجديد، مصدر مذكور، ص 28-29، 36-37.
(6) أ. ليونتيف، الاقتصاد السياسي: دورة للمبتدئين، لندن 1943، ص 76. لنفس الأفكار أنظر أ. ليونتيف و إ.ل. منلنتسكايا. أساسيات الاقتصاد الانتقالي، بالروسية، لينينجراد 1927، خاصة ص 132.
(7) ف. إنجلز، ضد دهرنج، مصدر مذكور، ص 340.
(8) المصدر السابق، ص 341.
(9) أرشيفات ماركس وإنجلز، بالروسية، موسكو 1933، المجلد الثاني، ص 6-7.
(10) المصدر السابق، المجلد الخامس، ص 59.
(11) Pod Znamenen Markisizma، عدد 7-8، 1943. مترجم بالكامل في الدورية الاقتصادية الأمريكية، سبتمبر 1944. أخذت الاقتباسات من الترجمة.
(12) ستالين، المشكلات الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، مصدر مذكور، ص 23.
(13) المصدر السابق، ص 42.
(14) المصدر السابق، ص 22.
(15) المصدر السابق، ص 21.
(16) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، ص 188.
(17) المصدر السابق، ص 49.
(18) المصدر السابق، ص 84.
(19) المصدر السابق.
(20) المصدر السابق، ص 114.
(21) المصدر السابق، ص 390-391.
(22) ماركس وإنجلز، المراسلات المختارة، مصدر مذكور، ص 246.
(23) ر. هيلفردنج، رأس المال التحويلي، فيينا 1910، ص 286.
(24) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، ص 105.
(25) ف.إ. لينين، الأعمال، بالروسية، المجلد 25، ص 51.
(26) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، ص 49.
(27) المصدر السابق، ص 84.
(28) المصدر السابق، ص 126.
(29) المصدر السابق.
(30) المصدر السابق، ص 633.
(31) المصدر السابق، ص 186-187.
(32) التجارة الخارجية للاتحاد السوفييتي خلال 20 عاما: 1918-1937، الكراسة الاحصائية، بالروسية، موسكو 1939، ص 10.
(33) أنظر ي. جلوكستين، مصدر مذكور، ص 62-67.
(34) ن. بوخارين، الاقتصاد العالمي والامبريالية، بالروسية، الإصدار الثالث، موسكو 1920، ص 157.
(35) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الثالث، ص 286.
(36) المصدر السابق، ص 312-313.
(37) المصدر السابق، ص 568.
(38) أنظر مثلا ماركس، رأس المال، المجلد الثالث، ص 199.
(39) المصدر السابق، ص 283.
(40) المصدر السابق، ص 303.
(41) المصدر السابق، المجلد الثاني ص 476.
(42) المصدر السابق، المجلد الأول، ص 694-695.
(43) المصدر السابق، المجلد الثاني، ص 211.
(44) ك. ماركس، نظريات حول فائض القيمة، بالألمانية، المجلد الثاني، الكتاب الثاني، ص 293.
(45) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الثاني، ص 562 مقتبس في ب.م. سويزي، نظرية التطور الرأسمالي، لندن 1946، ص 186.
(46) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الثالث، ص 140-141.
(47) المصدر السابق، ص569-576.
(48) ن. بوخارين، الامبريالية وتراكم رأس المال، بالألمانية، فيينا-برلين 1926، ص 80.
(49) المصدر السابق، ص 80-81.
(50) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الثالث، ص 304.
(51) م. توجان بارانوفسكي، دراسة في نظرية وتاريخ Handels Krisenفي انجلترا، بالألمانية، جينا 1901، ص 25.
(52) المصدر السابق، ص 231.
(53) المصدر السابق، ص 27.
(54) م. توجان بارانوفسكي، الأسس النظرية للماركسية، ص 230، مقتبس في سويزي، مصدر مذكور، ص 168.
(55) المصدر السابق، ص 230-231، مقتبس في سويزي، المصدر السابق، ص 169.
(56) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، ص 649.
(57) ك. ماركس، مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي، شيكاغو 1918، ص 278-279.
(58) ك. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، ص 701.
الفصل الثامن
(1)الأممية الجديدة، (مجلة شهرية ماركسية)، نيويورك، فبراير 1942.
(2) ف.إ. لينين، الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، مصدر مذكور، ص 81.
(3) ج.ك. ألين، م.س. جوردون، إ.ف. بنروز، إ.ب. شومبيتر، تصنيع اليابان ومانتشوكو 1930-1940، نيويورك 1940، ص 10-11.
(4) المصدر السابق، ص 26-27.
(5) ف. سترنسبرج، الأزمة القادمة، لندن 1947، ص 37.
(6) إ. فارجا ول. مندلسون (المحرران)، مادة جديدة لكتاب ف.إ. لينين ‘الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية’، لندن 1939، ص 141.
(7) شومبيتر، مصدر مذكور، ص 399، أ.ج. جراجدانريف، ‘منشوريا، مسح صناعي’، مجلة شئون المحيط الهادي، ديسمبر 1945.
(8) ك.ل. ميتشيل، تصنيع غرب المحيط الهادي، نيويورك، 1942، ص 57-78. آلان روجرز، ‘صناعة الحديد والصلب في منشوريا ومصادرها’، الدورية الجغرافية، نيويورك، يناير 1948، أ.ج. جراجدانزيف.
(9) سترنسبرج، مصدر مذكور، ص 73، 74.
(10) ر.أ. برادي، البيزنيس كنظام سلطة، نيويورك 1943، ص 3.
(11) جلوكستين، مصدر مذكور، ص 66-67.
(12) دورية اقتصاد الشرق الأقصى، 27 نوفمبر 1952.
(13) Prenodavaniye istorsii v Shkolye، 1950، عدد 6.
(14) Voprosy Istorii، 1950، عدد 10.
(15) Literatarnaia Gazetta، (الدورية الأسبوعية لاتحاد كتاب الاتحاد السوفييتي)، موسكو، 10 يوليو 1952.
(16) المصدر السابق.
(17) برافدا، 26 ديسمبر 1950.
(18) Literatarnaia Gazetta، 16 مايو 1953.
(19) البروليتاري، كاركوف 1934، عدد 15-21، مقتبس في د.إ.د. ألين، الأوكراني، كامبريدج 1940، ص 326.
(20) لمعلومات أكثر أنظر جلوكستين، مصدر مذكور، ص 281-310.
الفصل التاسع
(1) سيليجا، مصدر مذكور، ص 97.
(2) سيرج، مصدر مذكور، ص 166.
(3) ج. فيشر، المعارضة السوفييتية لستالين: دراسة حالة في الحرب العالمية الثانية، كمبريدج، ماساتشوستس، 1952، ص 106.
(4) المصدر السابق، ص 138.
(5) إجابات لأسئلة تهم مواطنين سوفييت منفيين في الخارج، بالروسية، موسكو 1949، ص 3. مذكور في ج. فيشر، المصدر السابق، ص 111-112.
(6) فيشر، المصدر السابق، ص 206.
(7) أنظر جريدة UPA في فولينيا، العدد 1، 1943. دفاعا عن أوكرانيا، مذكور في… في ‘الحركة الروسية الأوكرانية السرية’، الأممية الجديدة، إبريل 1949.
(8) أنظر كتاب وضع حركة التحرر الأوكرانية، نشرته UPA بشكل سري في أوكرانيا في 1947 وأعيد نشره من قبل المهاجرين في ألمانيا في 1948. المصدر السابق.
(9) المصدر السابق.
(10) المصدر السابق.
حاشية 1988
(1) توني كليف، طبيعة روسيا الستالينية، لندن 1948.
(2) في كراسة للجماعة الفابية.
(3) إ. جرمين (إرنست مانديل) في الأممية الرابعة، 14(1956) العدد 1-3.
(4) في الأممية الرابعة، ديسمبر 1956.
(5) توني كليف، الطبيعة الطبقية للديموقراطيات الشعبية، (1950)، أعيد نشره في لا واشنطن ولا موسكو، لندن 1982 و إيجال جلوكشتاين (توني كليف)، الدول التابعة لستالين في أوروبا، لندن 1952.
(6) إيجال جلوكشتاين (توني كليف)، صين ماو، لندن 1957.
(7) توني كليف، طبيعة روسيا الستالينية، ص 134-135.
(8) نشر بعضها في دورية اشتراكية، لندن 1965، و لا واشنطن ولا موسكو.
(9) توني كليف، من ستالين إلى خروتشيف، لندن 1956.
(10) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، لندن 1964، ص 198.
(11) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 209.
(12) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 234.
(13) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 240.
(14) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 254.
(15) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 256.
(16) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 256.
(17) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 254.
(18) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 255.
(19) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 248-249.
(20) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 250-254.
(21) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 274.
(22) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 262-263.
(23) أنظر ملخص لكتابات ج. باجتسكا، جولدمان وكوربا، باسكو، بنس وكيس، برانكو هورفات وآخرون في كريس هارمان، الصراع الطبقي في أوروبا الشرقية، لندن 1983، ص 288-296.
(24) أنظر مثلا برانكو هورفات، الدورات التجارية في يوجوسلافيا، عدد خاص من دورية اقتصاد أوروبا الشرقية، العدد العاشر، رقم 3-4. وجولدمان وكوربا، النمو الاقتصادي في تشيكوسلوفاكيا، براغ 1969، أنظر أيضا ملخصات هذه الكتابات في هارمان، الصراع الطبقي في أوربا الشرقية.
(25) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 263.
(26) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 274.
(27) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 283.
(28) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 284-285.
(29) الأرقام يذكرها كليف في روسيا: تحليل ماركسي، ص 291.
(30) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 289، 295.
(31) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 309-310.
(32) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 318.
(33) مذكور في كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 318.
(34) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 319.
(35) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 223-224.
(36) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 327.
(37) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 329-331.
(38) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 333.
(39) ‘الطبيعة الطبقية لدول أوروبا الشرقية’ (1949)، أعيد نشره في لا واشنطن ولا موسكو، الدول التابعة لستالين في أوروبا، 1952، صين ماو، 1957، و الثورة الدائمة المنحرفة، 1963، أعيد نشره في كراسة بنفس العنوان، لندن 1986.
(40) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 336.
(41) كليف، روسيا: تحليل ماركسي، ص 337.
(42) أعتمد هنا على ذاكرتي من محاضرة ألقاها في كلية لندن للاقتصاد في 1965.
(43) الأرقام مذكورة في م.إ. جولدمان، تحدي جورباتشوف، أونتاريو 1987، ص 32-33.
(44) الأرقام من ناردوني خوزياستفو، مذكورة في مايك هايس، ‘تفسير الأزمة السوفييتية’، في الاشتراكية الأممية، 34: 2، ص 18.
(45) الأرقام من اللجنة الأمريكية المشتركة للكونجرس الأمريكي، الاتحاد السوفييتي: إجراءات النمو الاقتصادي، واشنطن 1982، مذكور في جولدمان، ص 15.
(46) الأرقام من نارودني خوزياستفو، مذكور في جولدمان ص 66.
(47) نيكولاي ريزكوف، تقرير حول خطة مقترحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، قدم إلى المؤتمر السابع والعشرون للحزب الشيوعي السوفييتي، مارس 1986.
(48) ريزكوف، التقرير للمؤتمر السابع والعشرون.
(49) هناك عدة روايات لهذه روايات لهذه القصة، أنظر مثلا ك. شميدت-هاور، جورباتشوف؛ الطريق إلى السلطة، لندن 1986، ص 72-73.
(50) خطاب لجورباتشوف، مذكور في الفاينانشال تايمز، 12 يونيو 1986.
(51) الأرقام من إ. روزانوف توضح أنه في سنوات ستالين الأخيرة كانت الزيادة بنسبة 0.3% في الأجور تؤدي إلى زيادة بنسبة 1% في الإنتاجية. في أواخر الثمانينات نفس هذه الزيادة في الإنتاجية احتاجت إلى 0.9% زيادة في الأجور. مذكور في جولدمان، ص 29.
(52) برافدا، 12 ديسمبر 1984 و 22 أغسطس 1985، مذكور في جولدمان، ص 23.
(53) مذكور في جولدمان، ص 30.
(54) أنظر أندي زبروفسكي في دورية العامل الاشتراكي، ديسمبر 1987، وأنتوني بارنت، الحرية السوفييتية، لندن 1988، ص 216-217.
(55) إزفستيا، 4 ديسمبر 1986، مذكور في جولدمان، ص 87.
(56) وكالة الأنباء السوفييتية تاس، 27 يناير 1987. مذكور في زبروفسكي.
(57) قانون جمعيات مشروعات الدولة، في إزفستيا، 1 يوليو 1987.
(58) مذكور في زبروفسكي.
(59) بارتيتايا زيزن، رقم 5 (1969)، ص 5. مذكور في ميرفين ماتيوس، الطبقة والمجتمع في روسيا السوفييتية، لندن 1972، ص 224.
(60) بارتيتايا زيزن، مذكور في ماتيوس، ص 224.
(61) التفاصيل في برافدا، 15 فبراير 1987.
(62) هذه الرواية منقولة عن الجارديان، 12 نوفمبر 1987، وبارنت، ص 174-177.
(63) لتحليل تفصيلي لهذه الأحداث أنظر كريس هارمان، الصراع الطبقي في أوروبا الشرقية.
(64) هارفي ليبنشتاين، عدم الكفاءة في مواجهة عدم الكفاءة، في الدورية الاقتصادية الأمريكية، يونيو 1960.
الملحق الأول
(1) مشكلات تطور الاتحاد السوفييتي، مسودة لأطروحة المعارضة اليسارية الأممية حول المسألة الروسية، نيويورك 1931، ص 36.
(2) الأممية الجديدة، إبريل 1943.
(3) المصدر السابق.
(4) ل. تروتسكي، الثورة المغدورة، لندن 1937، ص 235.
(5) المصدر السابق، ص 238-240.
(6) ك. ماركس، بؤس الفلسفة، لندن، ص 129-130.
(7) المصدر السابق، ص 166.
(8) المصادر المستخدمة حول الإقطاع في الشرق العربي: أ.ن. بولياك، الإقطاع في مصر، سوريا، فلسطين ولبنان، لندن 1939. أ.ن. بولياك، الثورات الشعبية في مصر في عصر المماليك وأسبابها الاقتصادية، باريس 1934. أ.ن. بولياك، مقالات ظهرت بالعبرية في دورية هاميشيك هاشيتوفي، تل أبيب. أ. كريمر، التاريخ الثقافي للشرق تحت حكم الخلفاء، فيينا 1875-1877.
(9) الثورة المغدورة، مصدر مذكور، ص 110.
(10) المصدر السابق.
(11) ماركس، مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي، مصدر مذكور، ص 285-286.
(12) تروتسكي، دفاعا عن الماركسية، نيويورك، 1942، ص 63-70.
(13) ل. تروتسكي، ستالين، مصدر مذكور، ص 408.
(14) ل. تروتسكي، الثورة المغدورة، مصدر مذكور، ص 238.
(15) ل. تروتسكي، الأفكار الحية لكارل ماركس، لندن 1940، ص 9.
(16) ل. تروتسكي، الحرب والأممية الرابعة، نيويورك 1934، ص 22.
(17) إنجلز، ضد دهرنج، مصدر مذكور، ص 312.
(18) مذكور في ل. لورات، الماركسية والديمقراطية، لندن 1940، ص 69.
الملحق الثاني
(1) ‘الصين في الحرب العالمية’، الأممية الجديدة، يونيو 1942.
(2) بقرطة العالم، ص 31.
(3) المصدر السابق، ص 95.
(4) المصدر السابق، ص 56.
(5) المصدر السابق، ص 72-74.
(6) المصدر السابق، ص 283.
(7) المصدر السابق، ص 284.
(8) ماكس شاختمان، الثورة البيروقراطية، نيويورك 1962)، ص 32.
(9) إنجلز، ‘الاشتراكية الطوباوية والعلمية’، في ماركس-إنجلز، الأعمال المختارة، المجلد الأول، ص 183.
(10) وصف كاوتسكي هذا النظام كالتالي: كان السبارتيون أقلية، حوالي عشر السكان، وكانت دولتهم مبنية على أساس شيوعية الحرب، شيوعية ثكنات الطبقات الحاكمة. وقد استوحى أفلاطون دولته المثالية منها. وقد اختلفت سبارتا المثالية عن سبارتا الحقيقية فقط في أن الذين كانوا يديرون شيوعية الحرب فيها هم الفلاسفة أي المثقفين وليس القادة العسكريون.
(11) كارل كاوتسكي، توماس مور ويوتوبياه، ص 38.
(12) الأممية الجديدة، ديسمبر 1947.
(13) ماكس شاختمان، مصدر مذكور، ص 306، 308-309. كانت النتيجة الجانبية لهذه المعاداة الهستيرية للستالينية هي موقف متعاطف، بل مبجل للاشتراكية الديموقراطية: ‘.. في كل البلدان الأوروبية غرب الأسلاك الشائكة، تمثل الأحزاب الاشتراكية ليس فقط البديل الجاد الوحيد لأحزاب الوضع القائم المفلسة والتي ليس لها أي مستقبل، بل أيضا الأداة السياسية للطبقة العاملة الديمقراطية.
