في جميع الأديان، لا ينظر الناس بالتقوى والورع إلى الرجال المقدسين فقط، بل إلى أسلافهم أيضاً. هكذا، وبنفس الطريقة، نسب صانعو الأساطير الستالينيون الكثير من القناعات الثورية، ليس فقط للينين منذ طفولته المبكرة، لكن لوالديه أيضاً. في 1960، صدرت سيرة ذاتية رسمية للينين من 602 صفحة، برعاية معهد الماركسية اللينينية، لتصف والد لينين بأنه كان تقدمياً جذرياً يدير منزله وكأنه نادٍ ثوري.. “عادةً ما كان يبدأ أليكساندر (أخو لينين الأكبر) الحديث”، أما فلاديمير “فغالباً ما كان يشارك في النقاش بنجاح باهر”.
كل ذلك ليس سوى محض هراء؛ فلم يكن والد لينين، إيليا نيكولايفيتش أوليانوف، تقدمياً ولا جذرياً. لقد تم تعيينه في 1869 في منصب مفتش مدارس في بلدة صغيرة بمدينة سيمبيرسك الواقعة غربيّ نهر الفولجا، وفي 1874 ترقى إلى منصب مدير مدارس المحافظة بأكملها، وصار بذلك فعلياً عضواً بمجلس الدولة وعلى صدره وسام ستانيسلاف من الدرجة الأولى، وهذا ما جعله نبيلاً رفيع المستوى، في الصف الرابع في جدول من أربعة عشر مرتبة.
هذان التاريخان في صعود والد لينين اجتماعياً – 1869 و1874 – مهمان للغاية، وقد أشار إليهما لينين في مقال كتبه عام 1901 بعنوان “المضطهدون في الزيمستفو وهانيباليو الليبرالية” (1)، يتتبع فيه تاريخ صراع القيصرية ضد الحكومة المحلية (الزيمستفو). وربما تنبع أهمية التاريخين من كونهما يمثلان سنوات مهاجمة البيروقراطية القيصرية لأجهزة الحكم الذاتي المحلية، وانتزاعها الإشراف على التعليم العام في البلاد. أما منصب إيليا نيكولايفيتش في وزارة التعليم، وصعوده المطرد في على سلم الترقي، ربما لا يتسقا مع صورة الشخص الثوري، أو حتى الراديكالي.
يتذكر لينين ذات مرة، حينما أغتيل أليكساندر الثاني في 1881، كيف ارتدى والده ملابسه الرسمية وذهب إلى كاتدرائية سيمبيرسك حداداً على الطاغية المقتول. لقد كان مسيحياً أرثوذكسياً حتى نهاية حياته، وداعماً للاستبداد القيصري بشكل لا يتزعزع. وليس هناك أي داعي للاعتقاد بأن والد الثوري ينبغي بالضرورة أن يكون ثورياً هو الآخر.
ذهب الستالينيون إلى أبعد من ذلك، ونسبوا للينين أوصافاً خارقة؛ فقد أتى للحياة بكامل عتاده ماركسياً ثورياً منذ طفولته. ومن رأسه ذات الجبهة العريضة، وضع بشكل كامل أسس الحزب الذي سيقدر قيادة وتشكيل الطبقة العاملة في الثورة. لكن الواقع مختلف تماماً؛ فلقد استغرق الأمر من الشاب لينين شهوراً، وفي الواقع أعواماً كاملة، من الدراسة والتفكير كيف يصبح ماركسياً. في البداية اضطر للتخلي عن آراء والده المحافظة، ثم عن أفكار أخيه الأكبر النارودنية.
في 8 مايو 1887، شُنق أليكساندر إيليتش أوليانوف، أخو لينين الأكبر، بتهمة التآمر لاغتيال القيصر. كانت هذه صدمة مريعة للشاب لينين، ذي الـ 17 عام آنذاك، الذي لم يشك من قبل أن أخيه له علاقة بالسياسة. كان أليكساندر متحفظاً وكتوماً، و”كان دائم التأمل والحزن”. أخفى أليكساندر كل أفكاره عن عائلته، حتى أن أخته آنا، التي تكبره بعامين والتي كانت معه في سان بطرسبورج حيث تورط في مؤامرة الاغتيال، لم تكن تعرف شيئاً عن نشاطه السياسي. بعد ذلك الحدث بعدة أعوام، وتحديداً في 1893، حين استجوبه عدد من المحققين الاشتراكيين الديمقراطيين عن المؤامرة، أجاب لينين: “بالنسبة لي ولباقي العائلة، كان اشتراك أخي في مؤامرة 1 مارس مفاجئاً تماماً” (2).
كانت عائلة أوليانوف صغيرة، وكانت العلاقات الشخصية بين أفرادها مستقرة ودافئة للغاية، في حين لم ينطق أليكساندر كلمة عن نشاطه السياسي. كان أليكساندر إنساناً جيداً يشبه والدته كثيراً؛ كتبت آنا: “كانت لديه نفس التركيبة النادرة؛ حيث الحزم غير التقليدي مع الصفاء والحساسية الرائعتين.. الشدة والرأفة. كان أكثر زهداً وعنداً، وأكثر شجاعة”.
كان فلاديمير، الذي يصغر أخاه بأربعة أعوام، دائماً ما يحاول تقليد أخيه. وحين سُئل لينين عما إذا كان يفضل أن تؤكل الحبوب بالزبد أم اللبن، أجاب: “كما يأكلها ساشا”. أراد الفتى أن يفعل كل شيء مثلما يفعله ساشا، باستثناء نشاطه السياسي. في صيف 1886، عندما عاد أليكساندر أوليانوف من سان بطرسبورج كي يقضي إجازته الجامعية مع عائلته، أحضر معه عدة كتب عن الاقتصاد، من بينها كتاب “رأس المال” لكارل ماركس. ووفقاً لما كتبته آنا في مذكراتها، فإن فلاديمير لم ينظر حتى إلى هذه الكتب الخاصة بأخيه الذي يشاركه نفس الغرفة، ناهيكم عن قرائتها. وتنقل آنا أنه في ذلك الوقت لم يظهر عليه أي اهتمام بالسياسة (3).
لم يكن لإعدام أليكساندر أثراً بالغاً ودائماً في نفس فلاديمير، بل أيضاً وضعه أمام اختيارين: إما أن يتبع خطى أخيه الشهيد ويصير نارودنيا وإرهابياً، أو أن يحجم عن العمل الثوري أياً كان. وبالنسبة لصانعي الأساطير الستالينيين، كانت كل الأمور سهلة، ولم يكن هناك أي معضلات على الإطلاق؛ فبعد أن تلقى خبر إعدام أخيه، صرخ فلاديمير: “لا، لن نتبع هذا الطريق. ليس هذا هو الطريق الذي ينبغي أن نسلكه” (4).
كان ذلك هو رد الفعل الذي ينبغي افتراضه من قبل شاب في الـ 17 من عمره، شاب لم يكن قد تخلص بعد من الدين إلا قبلها بأشهر معدودة، ولم يكن في ذلك الوقت يسمع حتى عن ماركس، ولم يملك كتاباً شرعياً واحداً، ولم يكن يعرف شيئاً عن الحركة الثورية الروسية.
تسائل مؤرخ حياته، ليون تروتسكي، ساخراً، عمن قال له لينين هذه الكلمات الحكيمة. من البديهي أنه لم يكن والده الذي كان قد مات قبلها بعام، وليس لأليكساندر الذي كان قد لقى حتفه تواً على منصة الإعدام، وبالتأكيد ليس لأخته آنا التي كانت في السجن، وليس لأمه التي كانت قد ذهبت لسان بطرسبورج كي تتوسل إلى وزير بعد الآخر لإنقاذ ابنها. يكتب تروتسكي: “يبدو بوضوح أن فلاديمير خص بتصريحاته، على سبيل التكتيك، ديمتري البالغ 13 عاماً، وماريا البالغة 9 أعوام آنذاك”.
إذا كان لينين قد عقد العزم في مارس 1887 على اتباع خطوات أخيه ساشا، أو أن يأخذ طريقاً آخر للنضال الثوري، أو أن يتجنب السياسة تماماً، لصار الأمر مختلفاً في الستة أشهر اللاحقة؛ فلم يشارك لينين في أي أنشطة سياسية في تلك الفترة، وبدلاً من ذلك، ظل يدرس.
في نهاية يونيو 1887، انتقلت عائلة أوليانوف إلى كازان حيث بدأ فلاديمير في دراسة القانون بالجامعة. لكن الأمر لم يدم طويلاً؛ ففي 4 ديسمبر شارك فلاديمير في مظاهرة طلابية، وبالرغم من عدم قيامه بأي دور هام فيها، إلا أنه قضى ليلته في قسم الشرطة، طُرد بعدها من الجامعة ومن مدينة كازان. كان السبب ببساطة هو أنه أخو أوليانوف الأكبر. انتقل فلاديمير وعائلته بعد ذلك إلى كوكشينكو التي تبعد حوالي 30 ميلاً، حيث امتلكت أمه عقاراً هناك.
وفي خريف 1888، حين كانت كل عائلة أوليانوف، باستثناء آنا التي قُبض عليها في مارس 1887، تزور غرفة أليكساندر، تم السماح لهم بالإقامة مرة أخرى في كازان. وقتها، انضم لينين لحلقة اشتراكية كان يعرف بها قليلون، كانت تتكون من عدد محدود من الطلاب الذين يقرأون سوياً عدد من الكتب ويتبادلون الأفكار حولها. كانت أهم حلقة في كازان تلك التي يتزعمها ن. فيدوسييف، الذي لم يكن حتى في هذا الوقت ماركسياً. وطبقاً لمكسيم جوركي، الذي عاش في فولجا خلال تلك السنوات، فإن فيدوسييف كان قد أعلن تأييده للمسلك الماركسي الذي انتهجه بليخانوف لأول مرة في كتيبه “اختلافاتنا” في 1887. كانت لدى مجموعة فيدوسييف مكتبة غير شرعية، وحتى مطبعة سرية. وكان لينين قد تواصل أثناء مكوثه بكازان مع بعض الأعضاء الأقل أهمية في المجموعة.
في يوليو 1889، دشنت الشرطة القيصرية حملة واسعة من الاعتقالات في كازان، لم يُلق القبض فقط على فيدوسييف ومجموعته، بل أيضاً على بعض أعضاء الحلقة التي انتمى لها لينين، ولحسن حظه لم يُلق القبض عليه. وانتقلت عائلة أوليانوف في 3 مايو إلى قرية ألاكاييفكا قرب سمارا، ثم انتقلوا مرة أخرى في 11 أكتوبر إلى مدينة سمارا نفسها. هناك مكث فلاديمير حتى نهاية أغسطس 1893 حين انتقل إلى سان بطرسبورج. ومكوث لينين لمدة 4 سنوات في سمارا إنما تثبت أنه لم يكن مستعداً لربط نفسه بالنشاط السياسي، وأنه كان لا يزال يدرس، ويحاول في نفس الوقت أن يقرر في أي اتجاه يذهب. لم تكن مدينة سمارا مدينة صناعية، وبالتالي لم يكن هناك طبقة عاملة صناعية عريضة، وعلى عكس كازان، لم يكن هناك أي جامعة في سمارا، وبالتالي لم يكن هناك طلاب أيضاً. كانت مدينة ميتة دون أي حراك عمالي أو طلابي يُذكر.
احتاج لينين في تلك السنوات أن يفكر ويقرر ما إذا كان سيتبع خطى ساشا، وإذا لم يكن، فأي طريق سيختار. بغض النظر عما يقوله صانعو الأساطير الستالينيين، كان لينين بلا شك منجذباً للنارودية. يصف أحد زملاؤه الطلاب، والذي قُبض عليه مع لينين في ديسمبر 1887، كيف كان الطلاب المقبوض عليهم يتبادلون المزاح الخفيف، وفي لحظة التفت أحدهم إلى أوليانوف الذي كان جالساً بمفرده تائهاً في أفكاره، وسأله عما ينتوي فعله بعد الإفراج عنه، فأجاب أوليانوف: “ما الذي بوسعي أن أفكر فيه، لقد مهّد أخي الأكبر الطريق لي” (5).
في سمارا، سعى لينين لمقابلة المناضلين القدامى في الحركة الإرهابية السرية، وسألهم باهتمام عن أساليبهم التآمرية. ومن خلال ذلك، اكتسب لينين معرفته التي استخدمها في تنظيم الحزب البلشفي. قبل أن تبدأ آلة الأساطير الستالينية في العمل، أظهرت العديد من الأدلة أن لينين كان واقعاً تحت تأثير النارودية. كان في. في. أودوراتسكي، الذي أصبح فيما بعد مدير معهد “ماركس – إنجلز – لينين”، أحد الشهود على ذلك، ووفقاً لما ذكره فإن لينين قد أخبره عام 1905 أنه كان شديد التأثر بالأفكار النارودنية، واعترف أنه في 1887 كان قد فكر ملياً في الحركة النارودنية الإرهابية، وقد تطلب الأمر بعض الوقت ليحرر نفسه من هذه الأفكار. “في خلال عامه الأخير في سمارا، بين 1892 و1893، كان لينين قد أصبح ماركسياً بالفعل، على الرغم من أنه ظل محتفظاً بأفكار تتعلق بنارودنايا فوليا (وهي منظمة تتبنى فكر إرهابي من نوع خاص)” (6).
بعد عدة سنوات، كتب لينين في “ما العمل؟” عام 1902:
“الكثيرون من الاشتراكيين الديمقراطيين الروس كانوا قد بدأوا تفكيرهم الثوري كمتعاطفين مع جماعة نارودنايا فوليا. وتقريباً جميعهم كانوا، أثناء فترة شبابهم، يقدسون بحماسة بالغة أبطال الإرهاب. لقد تطلب الأمر نضالاً من أجل التخلي عن الانطباعات الآسرة لتلك التقاليد البطولية، وهذا النضال كان متوازياً مع قطع الصلات الشخصية مع أولئك المصممين على البقاء أوفياء لجماعة نارودنايا فوليا، والذين كان الشباب الاشتراكيون الديمقراطيون يكنون لهم احتراماً بالغاً” (7).
وحين اقتبست كروبسكايا، زوجة لينين، هذا المقطع في مذكراتها، أضافت أنه بمثابة توثيق لينين لحياته هو. أما المحققون، الذين ذكرناهم سالفاً، والذين عرفوا لينين جيداً في سمارا، أحسوا فيه في مارس 1893 بـ “نوع من التعاطف مع إرهاب جماعة نارودنايا فوليا”، ولاحظوا أن هذا النزوع قد أحدث صداماً بينه وبينهم. وفي خريف 1893، حين رغب لينين في الانضمام إلى حلقة سان بطرسبورج الاشتراكية الديمقراطية، كان قد تعرض لفحص جيد ببعض الأسئلة حول الإرهاب، ووجد أعضاء الحلقة أن لديه ميلاً أكثر من اللازم تجاه الإرهاب (8).
كان لينين بحاجة إلى دراسة طويلة ومتعمقة، ليس فقط لأن الأفكار النارودنية كان متجذرة فيه، لكن أيضاً لأن الخطوط الفاصلة بين الماركسية والنارودية لم تكن واضحة بشكل كافي لدى الشباب الراديكالي في ذلك الوقت. هناك سبب آخر لذلك، وهو أن أفكار الماركسية الروسية لم تكن متجسدة بعد لحماً ودماً في حركة نشطة للطبقة العاملة الصناعية. كان الأمر لا يزال منحصراً في قلة من المثقفين المعزولين على هامش الصراع.
كانت المراجع الأساسية لفلاديمير هي المجلدان الأول والثاني من “رأس المال” لكارل ماركس (لم يكن المجلد الثالث قد نُشر بعد). درس لينين هذه الأعمال بعناية بالغة فيما تلى من حياته، ووجد فيها دليلاً للتفكير ومصدراً لا ينضب للأفكار. لقد تعلم، كما ذكر هو نفسه بعد ذلك، كيف “يتناقش” مع ماركس. في نفس الوقت، كان قد درس الصحافة الجذرية الروسية في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، ولهذا كانت معرفته بالنارودية شديدة العمق. أحسن لينين استخدام ذلك في سنوات لاحقة في مناظراته وسجالاته مع النارودنيين، وفي محاولاته الأولى ككاتب في السنوات بين 1893 و1899. لم يقرأ لينين في حياته، كما ذكر هو أيضاً بعد ذلك، مثلما قرأ في تلك السنوات بين 1888 و1893 (9).
أنجز لينين أيضاً دراسة جادة عن مواد إحصائية عن الاقتصاد القومي الروسي، وكتب أولى دراساته المتخصصة التي هدف بها لإلقاء الضوء على المشهد الاقتصادي والاجتماعي الروسي. ويظهر من سجلات مكتبة سمارا لعام 1893، وهي سجلات السنة الوحيدة التي تم حفظها عن طريق الصدفة، أن لينين لم يغفل أي إصدارات متعلقة بدراسته، سواء كانت مجموعات إحصائية رسمية، أو دراسات اقتصادية كتبها باحثون نارودنيون (10).
كان لينين بحاجة إلى سنوات من الدراسة والبحث لحسم موقفه فيما يتعلق بالنارودية والماركسية، وقد منعته مأساة أخيه من اتخاذ قرار سريع في هذا الصدد. بدأ الشاب لينين في دراسة كتاب ماركس “رأس المال” في وقت ما خلال العام 1889، لكن ذلك لم يعن أنه قرر أن يدير ظهره للنارودية، وكما سنرى لاحقاً في هذا الفصل فإن النارودنيين أنفسهم قد درسوا ماركس. ويبدو أنه لم يحدث، حتى عام 1891، أن اطلع لينين على أعمال بليخانوف، التي كتب عنها تروتسكي أنه “من دونها لم يكن من الممكن أن يصل لمواقف اشتراكية ديمقراطية” (11). وخلال إجابته على استطلاع رأي في 1919، أوضح لينين أنه قد أصبح اشتراكياً ديمقراطياً، وهو الاسم الشائع للماركسيين آنذاك، فقط في العام 1893 (12). وفي 1920، في إجابته على استطلاع آخر عن الوقت الذي بدأ فيه الانخراط في الحركة الثورية، كتب: “عام 93 – 1892” (13).
أما الأسطورة الستالينية، التي تصف كيف كان الشاب فلاديمير قد قرر على الفور اتباع “الطريق الصائب” مباشرةً بعد تلقي نبأ أخيه، فهي ليست فقط حمقاء على المستوى النفسي، إنما أيضاً تمثل إهانة لسلامة لينين العاطفية والفكرية. فيبدو لينين في هذه الأسطورة كمجنون، كشخص صارم وجاف تماماً، وغير قابل للتغيير.
كان بحثه الطويل في النارودية ضرورياً له كي يتمكن من تجنب مأساة أخيه، والذي كان – حتى عشية مؤامرة الاغتيال – مازال في شك عما إذا كان قد اتخذ الطريق الصحيح.
“في الأسبوع الأخير من العام 1886، كان ساشا مازال يجادل ضد المؤامرة، قائلاً أنها سخيفة، بل وحتى انتحارية، أن يشتبك في نشاط سياسي قبل أن يستوضح المبادئ التي يجب أن يستند إليها. لقد أحس بالحاجة إلى عمل نظري أكثر وتعريفات أدق للأهداف والوسائل. لكنهم أجابوا وساوسه بالعتاب: هل سنجلس مكتوفي الأيدي بينما زملاؤنا يضحون بأنفسهم، وبينما الأمة كلها يجري قمعها والتنكيل بها؟ يقولون أن الاشتراك الآن في الإعداد للمبادئ النظرية يصبح داعياً للاستسلام. أي جاهل بإمكانه أن ينظّر، لكن الثوري إذن عليه أن يحارب. كان هذا بالطبع صوت انعدام الخبرة وانعدام الصبر – صوت الشباب. كانت فكرة الشرف الثوري شديدة الحساسية لدى أليكساندر، وفي مواجهة رغبته في المعرفة، صرخ: لا.. لا ينبغي أن نتراخي.. لا يجب أن نبقى مكتوفي الأيدي” (14).
ترتبط أفكار كل عصر ارتباطاً وثيقاً بأفكار العصر الذي يسبقه. لهذا لا يمكننا فهم حالة لينين الفكرية عام 1887 بدون الأخذ في الاعتبار أفكار أخيه الأكبر. لابد أن نرى تطوره الفكري كامتداد للتراث النارودني؛ فلكي يتمكن لينين من فهم النارودية ويقرر موقفه إزاءها، لم يكن بوسعه، كأي باحث جاد، الاعتماد على آراء الآخرين، واضطر لدراسة الأمر بنفسه.
في الواقع، كان لينين بحاجة إلى وقت أطول بكثير للدراسة مما احتاجته الأجيال اللاحقة من الماركسيين الروس، كتروتسكي مثلاً. أولاً، لم يمر تروتسكي بالطبع بتجربة صادمة كأن يُشنق أخوه الأكبر من أجل الإرهاب النارودني. ثانياً، ولكونه أصغر من لينين بتسعة أعوام، فقد اتصل تروتسكي بالسياسة الثورية مباشرةً بعدها بكثير، في عام 1896، حين كان الماركسيون ينخرطون بالفعل في إضرابات عمالية، وربما حتى في إضرابات عمالية جماهيرية واسعة. لم يكن هذا هو الحال عام 1887، حين كانت الحركة الماركسية كلها عبارة عن أربعة أو خمسة من المهاجرين مع حفنة من الطلاب الداعمين لهم هنا وهناك. لكن حتى تروتسكي نفسه قد تعاطى مع الأفكار النارودنية؛ فقد كانت أول مجموعة انضم لها في نيكولاييف مكونة من حلقة من الثوريين الذين اعتبروا أنفسهم نارودنيين. كان لديهم فكرة غير واضحة عن الماركسية. واحدة من هؤلاء الأعضاء كانت أليكساندرا سكولوفسكايا، والتي كانت ابنة لأحد النارودنيين، هي الوحيدة التي ادعت تبنيها للماركسية في ذلك الوقت. وتطلب الأمر عدة شهور من الجدل داخل الحلقة بالنسبة لتروتسكي، والذي كان في البداية يميل إلى النارودية، قبل أن يتحول بمساعدة سكولوفسكايا إلى الماركسية (تزوجها تروتسكي لاحقاً وأنجبا طفلين، واجه ثلاثتهم المصير المأساوي الذي واجهه تروتسكي في النهاية).
يبدو من الصعب تصور أن فلاديمير إيليتش أوليانوف، ذلك الشاب الجاد والنشيط كما سيُظهر التاريخ لاحقاً، قد تجنب أي التزام سياسي لمدة خمس أو ست سنوات. ولكي نتفهم لماذا انتظر لينين كل تلك الفترة، علينا أن نلم بطبيعة النارودية وعلاقتها بالأفكار الماركسية، والشغف العميق ببطولة النارودنيين التي تصاعدت في قلوب الشباب الراديكاليين في ذلك الوقت. يجب أيضاً أن نفهم البديل الأيديولوجي للنارودية، والذي تطور في ذلك الوقت على يد بليخانوف، الأب الروحي للماركسية الروسية. وأخيراً فإن التزام الأشخاص لا يتأثر فقط بالمنطق الصرف، وإنما بالعلاقة بين الأفكار والمجرى الموضوعي للأحداث. ولهذا فإننا نحتاج أولاً أن نلم بالوضع الحقيقي الذي تطورت في ظله حركة الطبقة العاملة آنذاك، وعدد الإضرابات التي نظمها العمال، وما إذا كان لدى أي من الماركسيين أو النارودنيين أي تأثير فيها، وهلم جرا. ويتطلب التعامل الصحيح مع كل هذا مساحة أكبر من التي لدينا، ومع هذا فإنه بدون فهم الصراعات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، فإن تطور لينين نفسه سيصبح غامضاً بشكل كبير. كانت جذوره تضرب بعمق في التراث الثوري الروسي لجيلين سابقين للنارودية، وهو تراث توّج لديه بشهادة أليكساندر. لا يمكننا هنا تجنب الإبحار في النارودية والماركسية الروسية. كان التطور الشخصي لفلاديمير مرتبطاً بشدة بتطور المثقفين الثوريين الروس وشريحة رقيقة من العمال الثوريين. لا شك أن حياة لينين الثورية امتزجت بتاريخ الحركة.
النارودنيين
بدأت النارودية كحركة ثورية في منتصف القرن التاسع عشر. وُلدت الحركة في زمن حرب القرم وانهيار العبودية (1861)، واكتسبت تأثيراً وشهرة واسعة في الستينات والسبعينات، ووصلت إلى ذروتها مع اغتيال القيصر أليكساندر الثاني في 1881، ومن ثم تراجعت بشكل حاد، إلا أنها نهضت بعد ذلك من تحت الرماد في أكثر من مناسبة.
وضع الثورة الروسي هيرزن أسس الحركة في الخمسينات والستينات، وقد كان لديه قناعة ثابتة بأن الفلاحين في روسيا سيرسون أسس الاشتراكية. “مستقبل روسيا إنما هو بيد الفلاح، تماماً كما كان مستقبل فرنسا بين يدي العامل”، هكذا كتب هيرزن إلى المؤرخ الفرنسي ميشيل في 1851.
لقد آمن بأن الكوميونة المملوكة جماعياً – الأوبشتشينا Obschchina – والتي استمرت في روسيا، ستشكل أساس الاشتراكية، وليس المصنع المملوك ملكية عامة. جادل هيرزن بأنه يمكن الحياد عن التطور الرأسمالي في روسيا. كتب هيرزن إلى مازيني يقول: “إني أؤمن تماماً بأنه لن تكون هناك ثمة ثورة في روسيا إلا في شكل حرب فلاحين”، وأشار إلى إيميليان بوجاتشيف، قائد حرب الفلاحين في 1773 وحتى 1775. كانت هذه الثورة لتضرب “الاستبداد الجليدي في بطرسبورج”، وتدمر الدولة، كان من شأنها أن تحافظ على إعادة التوزيع الدوري للأرض تبعاً لتقاليد قرى روسيا.. مما سيمكنها من تطوير إدارة ذاتية داخلية. “لماذا يتوجب على روسيا أن تفقد كوميوناتها الريفية، تلك الكوميونات التي صمدت طوال فترة التطور السياسي للبلاد، والتي بقت كما هي تحت النير الثقيل لقيصرية موسكو، وكذلك في ظل أوتوقراطية الأباطرة أوروبية الطراز؟”.
لكن هل كانت روسيا قادرة على إنجاز مثل هذه الثورة؟ هناك عاملان مهمان يقدمان لنا إجابة مؤكدة في هذه المسألة؛ أولاً، قوة الفلاح الروسي، الذي حافظ على آدميته وشعوره بالاستقلال والبعد عن السلطة، بالرغم من تعاقب القياصرة المستبدين. ثانياً، الحياة الثقافية والروحية لروسيا الحديثة (15). وكما رأى هيرزن، فإن ما تحتاج الثورة إليه هو الثوريون الذين يكرسون أنفسهم للشعب. وفي نداء كتبه للطلاب في 1861، قال هيرزن: “هذا مكانكم.. اثبتوا أنكم لن تصيروا موظفين، بل جنوداً للشعب الروسي”.
أما ن. جي. تشيرنيشيفسكي، فقد توصل إلى استنتاجات أكثر تطرفاً من هيرزن. وقد وصف مؤرخ النارودية، فرانكو فينتوري، العلاقة بين هيرزن وتشيرنيشيفسكي، على النحو التالي: “صنع هيرزن الشعبوية، بينما أصبح تشيرنيشيفسكي أبرز ساستها. لقد أمدَّ الشعبوية بمحتواها الأكثر صلابة؛ فهو لم يقدم للشعبوية أفكاراً جديدة فحسب، بل ألهم ممارستها العملية بأنشطته الدعائية المبهرة في الفترة بين 1853 و1862” (16).
في يوليو 1848، كتب تشيرنيشيفسكي في يومياته أنه قد أصبح “مقتنعاً أكثر وأكثر بأفكار الاشتراكيين”، وقد أدرك الحاجة إلى ترجمة هذه القناعات إلى المجتمع الروسي. لكن ماذا كانت “الثورة” و”الاشتراكية” تعنيان بالنسبة للمجتمع الروسي؟ أجاب تشيرنيشيفسكي على هذا السؤال بالانتفاضة الفلاحية. “الشيء الوحيد الذي نفتقر إليه هو الوحدة بين الانتفاضات المحلية المختلفة” (17). والخطاب التالي الذي تلقاه هيرزن من مجهول (لكنه يعبر عن رؤى تشيرنيشيفسكي وصديقه دوبروليوبوف) قد طرح بوضوح الدعوة للانتفاضة الفلاحية:
“من الواضح أنك مخطئ فيما يخص الوضع في روسيا. إن ملاك الأرض الليبراليون، والأساتذة والكُتّاب الليبراليون، يسكنونك ببعض الآمال حول الأهداف التقدمية للحكومة.. لكن عليك ألا تنسى أن أليكساندر الثاني يكشّر عن أنيابه تماماً كما فعل نيقولا الأول. لا تترك أذنيك للثرثرة حول تقدمنا؛ فنحن نقف تماماً حيث كنا من قبل.. ولا تنجرف مع الآمال الزائفة.. فوضعنا رهيب، لا يُحتمل، وفؤوس الفلاحين هي طوق النجاة الوحيد لنا، ولن يكون هناك استخداماً لشيء سوى هذه الفؤوس. نحن نعلم ذلك، وهو يبدو صحيحاً تماماً. ليس هناك أي طريق آخر للنجاة، فقد فعلت كل شيء ممكن للوصول إلى حل سلمي للقضية. دع جرسك يدق، لكن ليس للصلاة.. وجّه نداءك لحمل السلاح” (18).
وتماماً مثل هيرزن، رأى تشيرنيشيفسكي في الأوبشتشينا أسس بناء الاشتراكية، لكنه في نفس الوقت لم يقدس تلك المؤسسة الموروثة من العهود البطريركية، والتي كانت بحاجة إلى بث روح الاشتراكية الأوروبية فيها. وبالنسبة لتشيرنيشيفسكي لم يكن العدو الرئيسي هو الرأسمالية، بل تأخر المجتمع الروسي؛ “الظروف الآسيوية للحياة، والهيكل الاجتماعي الآسيوي، والنظام الآسيوي”، فيما كان هدفه الرئيسي إسقاط النظام السياسي القيصري.
في 1860، تأسست منظمة سرية صغيرة في سان بطرسبورج حملت إسم “روسيا الشابة”، استمدت إلهامها من تشيرنيشيفسكي، وكان هدفها الفوري “ثورة عنيفة ودموية تقوم بتغيير أسس المجتمع الحالي جذرياً”. وفي 1862، أُلقي القبض على تشيرنيشيفسكي وقضى ما يزيد عن 18 شهر بقلعة بطرس وبولس، ومن ثم أُرسل إلى الأشغال الشاقة في سيبيريا حيث مكث هناك حتى 1883، وبعد ذلك سُمح له بالعيش في أستراخان، وفي النهاية انتقل إلى موطنه الأصلي ساراتوف قبل أشهر معدودة من وفاته في 1889.
وفي 63 – 1862، تأسست جماعة زيمليا آي فوليا – Zemlya I Folya (الأرض والحرية)، من مجموعات طلابية متفرقة، فيما كان تشيرنيشيفسكي هو قائدها الروحي حتى بعد إلقاء القبض عليه. عمدت جماعة زيمليا آي فوليا إلى تصعيد الهجمات الإرهابية على السلطة القيصرية المستبدة. وفي 1866 قام الطالب ديمتري كاراكوزوف بمحاولة لاغتيال القيصر نفسه، وبالرغم من فشله وإعدامه، إلا أن تلك كانت المحاولة الأولى في سلسلة طويلة من الدراما الثورية استمرت حتى إسقاط القيصرية بعدها بنحو نصف قرن من الزمان.
بدأ عقد الستينات من القرن التاسع عشر بتحرير العبيد، في فبراير 1861، وانتهى بالحبس الانفرادي لناتشاييف، أحد أبرز الرموز البطويلة للنارودية، بقلعة بطرس وبولس. حاول ناتشاييف إنشاء جماعة تآمرية سُميت “انتقام الشعب” هدفت إلى قيادة انتفاضة فلاحية تطيح بالنظام السياسي القيصري، لكن كل تلك الجهود باءت بالفشل؛ فلم يكن هناك ثمة عصيان فلاحي شامل يطيح بالقيصرية، بل انتهى الأمر بناتشاييف بالحبس الانفرادي.
وبعيداً عن أساليب ناتشاييف التآمرية، بدأت موجة ثانية من الحركة الثورية في بداية عقد السبعينات، حيث كانت هناك هجرة جماعية للكثير من المثقفين إلى الريف للانخراط في حركة الفلاحين التي يمكن تقييم اتساعها عندما نعلم أنه في العام 1874 كان هناك 4 آلاف شخص تعرضوا إما للسجن أو التحقيقات، أو على الأقل مطاردة الشرطة لهم (19).
في تلك الفترة من عام 1874، والتي أُطلق عليها “الصيف المجنون”، كان مئات الآلاف من الرجال والنساء قد:
“تركوا بيوتهم وأملاكهم وعائلاتهم. لقد ارتموا بأنفسهم في الحركة بسعادة وحماسة وإيمان، ذلك الإيمان الذي يدركه المرء مرة واحدة في حياته، وبمجرد أن يفقده لا يمكن استعادته مجدداً. لم تكن تلك حركة سياسية، بل أشبه بحركة دينية بكل ما تحمله من أمراض مثل هذه الحركات. لم يكن الرجال يحاولون تحقيق هدف نهائي معين فقط، بل أيضاً يسعون لإشباع إحساسهم بالواجب، طامحين للوصول إلى الكمال الأخلاقي” (20).
صار الفلاح الروسي أقل تقبلاً للأفكار الاشتراكية التي يؤمن بها الثوريون الروس الذين وجدوا صعوبة بالغة في التواصل مع الفلاحين، والفلاحين من جانبهم كان مرتابين تجاههم. كان الفلاحون غالباً ما يلجأون للشرطة ضد أولئك الثوريين الذين قدموا في الأصل لخدمتهم.
اكتسبت الحركة النارودنية الكثير من الخبرة العملية التي تطلبت، بطبيعة الحال، ضرورة وضع سياسات جديدة. فإذا لم يكن الفلاحون على استعداد للتحرك بأنفسهم، فعلى الثوريين البدء في التحرك بدلاً منهم. يتحدث أحد القادة الجدد، م. تكاتشيف، بعد ذلك ببضع سنين في 1879، عن “الإخفاق التام” التي مُنيت به كافة محاولات الانخراط وسط الشعب، ويكتب بفخر بالغ ما يلي:
“لقد كنا أول من أشار إلى حتمية مثل هذا الفشل الذريع، لقد كنا أول من ناشد الشباب بالتخلي عن هذا المسار المعادي للثورة، وحثهم على العودة مرة أخرى لتقاليد العمل الثوري المباشر وللتنظيم المركزي المقاتل (أي تقاليد تيار ناتشاييف). لكن صوتنا لم يُبحّ في الفراغ.. تنظيم مقاتل للقوى الثورية، وإرهاب السلطات الحكومية وإرباكها، تلك هي المهام الأساسية في برنامجنا منذ البداية. والآن، هذه المهام بدأت في التحقق عملياً.. الآن، مهمتنا الوحيدة إنما تتمثل في إرهاب وإرباك السلطات الحكومية” (21).
وهكذا، بعد محاولات التوجه إلى قوى الشعب، عاد مؤشر البوصلة مرة أخرى إلى الإرهاب. وفي 24 يناير 1878، ذهبت الشابة فيرا زاسوليتش بمفردها لتطلق النار على رئيس شرطة بطرسبورج، الجنرال تريبوف، وتصيبه في منتصف رأسه، بعدما قام بتعذيب أحد السجناء، بوجوليوبوف، تعذيباً وحشياً. وفي مايو، تم اغتيال رئيس الدرك في كييف. وفي أغسطس 1879، قتل كرافيتشينسكي رئيس الدرك الروسي. وعلى عكس فيرا زاسوليتش، لم يكن كرافيتشينسكي بمفرده، بل كان عضواً بجماعة زيمليا آي فوليا، التي صارت في ذلك الوقت مجموعة متماسكة ومُحكمة التنظيم.
وفي 2 أبريل 1879، كان أليكساندر سولوفيف قد أخبر جماعة زيمليا آي فوليا بنيته لاغتيال القيصر أليكساندر الثاني، لكنه ذهب لينفذ العملية دون مساندة الجماعة وفشل. وبعد أسابيع قليلة، اندمجت منظمة إرهابية أخرى، “الحرية أو الموت”، مع زيمليا آي فوليا، وفي 1 مارس 1881 نجحوا في اغتيال القيصر.
لكن آمال الثوريين تحطمت في النهاية على صخرة الإحباط المرير؛ فتحركاتهم لم تشعل انتفاضة فلاحية، وبدلاً من ذلك صارت شوكة الاستبداد أكثر قوة، وقُمعت كافة الأنشطة الثورية لسنوات لاحقة. لم يكن إقدام الثوريين وشجاعتهم الفائقة وثباتهم الأخلاقي كافي لإسقاط القيصرية.
النارودنيون يكيّفون الماركسية وفق ممارستهم
من أجل فهم تطور الماركسية الروسية، علينا أولاً الإلمام بموقف النارودنيين تجاهها. منذ عام 1848، وحتى بعد ذلك بعدة سنوات، كان يتم توريد أعمال ماركس وإنجلز إلى روسيا بطريقة شرعية، لأن تلك الأعمال كانت بالنسبة للرقابة تحوي “تخمينات مجردة” ليس لها أي تأثير في الواقع الروسي ولا صلة به (22).
ففي 1872، صدرت الطبعة الروسية من المجلد الأول من “رأس المال” (أي قبل سنوات عديد من صدور الطبعة الفرنسية والإنجليزية)، وعلى الفور تم توزيع 3 آلاف نسخة منها. ومن ثم كتبت اللجنة التنفيذية لنارودنيا فوليا خطاباً إلى ماركس في 1880 تقول فيه: “إن طبقة المثقفين والتقدميين في روسيا قد تفاعلت ببالغ الحماس مع هذا العمل الأكاديمي الذي أنجزته. إنهم يتعرفون الآن بشكل علمي على المبادئ الأفضل في الحياة الروسية”.
لقد فُسِر كلٌ من وصف ماركس لفظائع التراكم البدائي لرأس المال والثورة الصناعية في إنجلترا، ونظرية فائض القيمة، وهجومه على تقسيم العمل والاغتراب في ظل الرأسمالية، ونقده للديمقراطية البرلمانية البرجوازية “الشكلية”، كل ذلك فُسِر من قبل النارودنيين كإثبات على أن كل الجهود المبذولة ينبغي أن تتوجه من أجل منع تطور الرأسمالية في روسيا. “بمجرد معرفته من ماركس عن الثمن الباهظ للتطور الرأسمالي، رفض النارودني أن يدفع هذا الثمن، وعقد آماله على الإمكانية المزعومة لإعادة الأشكال القديمة للحياة الاجتماعية وتكييفها لملائمة الظروف الجديدة” (23).
والحقيقة أن ماركس قد رأى الرأسمالية تقدمية مقارنةً بالإقطاع؛ فالديمقراطية البرلمانية بالرغم من شكليتها ومحدوديتها، إلا أنها مثلت خطوة للأمام مقارنةً بالحكم المطلق، وهذا ما عجز النارودنيون عن فهمه. وانطلاقاً من اطلاعهم على “رأس المال”، عمل الاقتصادويون النارودنيون على تسويد كتب كثيرة لإثبات إمكانية وضرورة التطوير اللا رأسمالي في روسيا، ومن أبرز هؤلاء كان ف. ب. فورونستوف، الذي استخدم الاسم المستعار ف. ف. في كتابه “مصير الرأسمالية في روسيا” عام 1882، جادل بأن الرأسمالية الروسية، التي أتت متأخرة كثيراً، لم تجد أسواقاً خارجية لمنتجاتها. وفي نفس الوقت، لم تكن أسواقها الداخلية تتوسع وتمتد، وذلك لأن الرأسمالية دمرت حياة الفلاحين والحرفيين وقلّصت من قدرتهم الشرائية. لم تستطع الرأسمالية أن تخلق أكثر من جزراً صغيرة من الصناعة الحديثة الضرورية لسد حاجات الطبقات العليا، وعجزت عن تكون هي شكل الإنتاج السائد والمهيمن. كل ما فعلته أن دمرت حياة الملايين من الفلاحين والحرفيين، فيما لم تستطع توظيفهم أو دمجهم في “الإنتاج الاجتماعي”. تمكنت من التطوير بكثافة من خلال استغلال العمل، لكن ليس على نطاق واسع بزيادة التوظيف. في البلدان المتأخرة بشكل عام، بإمكانها فقط أن تصبح مدمرة، “ابناً غير شرعي للتاريخ”، إلى حد أن هذه الجزر الرأسمالية المحدودة في روسيا، كانت بالأساس نتاجاً لجهود الدولة نفسها.
وخلال تناولهم للماركسية، صار النارودنيون بشكل أساسي اشتراكيين طوباويين يرون الجماهير الروسية خاملة، بينما يتمسكون بالاشتراكية كمثال أعلى يرغبون فيه، إلا أنهم لم يخلقوا أي صلة حقيقية بين حاضر الجماهير ومستقبلها. هذا ما يظهر بوضوح عندما نقرأ لميخائيلوفسكي، أحد منظري النارودية، الذي يعبر عن هذا الازدواج بالتحدث عن نوعين من الحقيقة: “الحقيقة الواقعة” وهي ما يحدث أمامنا، و”حقيقة العدل” وهي ما يجب أن يكون. لكن “العالم الذي يجب أن يكون، عالم العدل والمساواة” كان مقطوع الصلة بالمسار الموضوعي لتطور التاريخ. وهكذا فإن وصف ماركس للسمات الأساسية لرؤية الاشتراكية الطوباوية في عصره تلائم النارودنيين بشكل كبير. فقط كانت نقطة ضعفهم الرئيسية تتمثل، كما جاء في البيان الشيوعي، في اعتبار “البروليتاريا ليس لها أي فعل تاريخي تلقائي، أو أية حركة سياسية خاصة بها”، فهم لم يتبنوا النضال الطبقي كنقطة انطلاق لهم، والبروليتاريا من وجهة نظرهم هي فقط “الطبقة الأكثر معاناة” (24). ما علينا فقط هو استبدال كلمة “البروليتاريا” بـ “الفلاحين” كي يلائم هذا الوصف الشعبويين الروس بشكل كامل. ومن رؤيتهم الطوباوية ينشأ مفهومهم النخبوي عن دور الإنتلجنسيا باعتبارهم صانعي التاريخ الذين يتمثل دورهم في تشكيل خامة الجماهير الراكدة واللامبالية.
وبنفس الطريقة التي يؤمن بها الناس من مستويات مختلفة من التطور الاقتصادي بأحد الأديان، كلٌ حسب المضمون الذي يتصوره عنه، كانت “الماركسية” التي استخدمها المثقفون النارودنيون مختلفة بالتأكيد عن ماركسية حركة الطبقة العاملة. هذه التركيبة المتنافرة بين الماركسية والنارودية كان قد وضحها إنجلز في خطاب له بتاريخ 26 فبراير 1895 كما يلي:
“في بلد مثل بلدكم، حيث انغرست الصناعة الحديثة والواسعة في المجتمع الريفي البدائي، وفي نفس الوقت تتوازى كل المراحل الوسيطة للحضارة جنباً إلى جنب.. في بلد، بالإضافة إلى كل ذلك، يسيطر عليها الاستبداد والطغيان.. في بلد مثل هذه لا ينبغي أن يندهش المرء من ظهور أكثر تركيبات الأفكار غرابة وعجباً” (25).
ولا يسعنا هنا إلا أن نتفق مع أ. واليكي، صاحب واحدة من الدراسات الهامة عن الفلسفة الاجتماعية للشعبويين، حينما كتب أن الشعبوية كانت:
“ردة فعل للرأسمالية الغربية، وأيضاً استجابة روسية للاشتراكية الغربية؛ ردة فعل من قبل الإنتلجنسيا الديمقراطية في بلد فلاحي متأخر في مرحلة مبكرة من التطور الرأسمالي. ومن المفهوم جيداً أن الشعبوية الروسية الكلاسيكية كانت في المقام الأول ردة فعل للماركسية. فقبل كل شيء كان ماركس في ذلك الوقت القيادي الأبرز للاشتراكية الأوروبية، وفي نفس الوقت صاحب أكثر الكتب أهمية حول تطور الرأسمالية. ولعله ليس على سبيل المصادفة أن تتزامن بداية الشعبوية الكلاسيكية مع الموجة الأولى لانتشار الأفكار الماركسية في روسيا.. وليس على سبيل المبالغة أيضاً القول بأن اللقاء مع ماركس كان له أهمية كبيرة في التعرف على الأيديولوجيا الشعبوية، وبدون ماركس كان الأمر ليجري بغير ما سار عليه” (26).
بدون فهم العلاقة الوثيقة بين النارودية والماركسية، لن نتمكن من فهم الصعوبات البالغة التي واجهت الماركسيين الروس في طريقهم للأمام والنارودية وراء ظهورهم، تلك العقبات التي اتخذ بليخانوف، أبي الماركسية الروسية، سنوات عدة لتجاوزها، والتي ظهرت مجدداً في مسار من أتى بعده – فلاديمير إيليتش أوليانوف.
بطولة النارودنيين
هذا العرض السطحي لأفكار النارودنيين في ستينات وثمانينات القرن التاسع عشر لن يرسم صورة دقيقة عن طبيعة النارودية. لقد كانوا يقبضون على أفكارهم كما الجمر، الأمر الذي زوّدهم بشجاعة أدبية وإصرار غير عادي في مواجهة شتى ألوان المخاطر والأهوال. لقد أُرسلوا بالمئات للسجن الانفرادي في قلعة بطرس وبولس، ولسيبيريا، وحتى إلى المشانق.
لن نجد أفضل من الكاتب الأمريكي جورج كينان، الذي كان في البداية عدواً للنارودنيين، لوصف تضحياتهم البطولية. وبما أن كينان كان يجهر دائماً في الصحافة باستنكاره الشديد لأعمال الإرهابيين في 1882، فقد سمحت له السلطات الروسية بالدخول إلى روسيا وزيارة السجون ومعسكرات العمل القسري، على أمل أن يساهم موقفه السلبي تجاه الثوريين الروس في جذب الرأي العام العالمي في صف الحكومة القيصرية. إلا أنه، وبهد قضاء سنوات 86 – 1884 في سيبيريا، وجد كينان نفسه يقول (في خطاب اقتبست منه السيدة داويس في أغسطس 1888 في مجلة “القرن” الأمريكية) أن “ما رأيته وتعلمته في سيبيريا اعتصر روحي بعنف، وفتح أمامي عالماً جديداً من الخبرات البشرية، وارتقى في جوانب معينة بمعاييري الأخلاقية”.
“لقد تعرفت على شخصيات بطولية في داخلها، شخصيات سامية بقدر الكثيرين مما ذكرهم التاريخ، ورأيت شجاعتهم وجلدهم وتضحيتهم بأنفسهم وتفانيهم من أجل مُثل أرقى بكثير مما أتخيل نفسي قادراً على التضحية من أجلها.. لقد ذهبت إلى سيبيريا متخيلاً المنفيين السياسيين كمجموعات من المتعصبين والمختلين ذهنياً، الذين يلقون القنابل وينفذون عمليات الاغتيال، إلخ. لكني حينما هممت بالرحيل عن سيبيريا، قبّلتهم وودعتهم بالأحضان وعيناي يملأهما الدمع” (27).
طوال العقد التاسع من القرن التاسع عشر، كان القمع العنيف هو سيد الموقف؛ فبعد اغتيال أليكساندر الثاني بدت البلاد كلها كالمقبرة، ولم يكن هناك أي مقاومة للقمع. في 1883، أُلقي القبض على فيرا فينجر، إحدى أكثر الشخصيات تأثيراً في اللجنة التنفيذية لنارودنايا فوليا. وبعد عام واحد عاد جي. أ. لوباتين، الذي كان على صلة وثيقة بماركس وإنجلز بالخارج، إلى سان بطرسبورج ليعاود نشاطاته الإرهابية، لكنه هو الآخر أُلقي القبض عليه بعد وقت قصير، ومن ثم حصل الشرطة على الكثير من المعلومات التي مكنتها من تصفية بقايا نارودنايا فوليا.
عكَسَ العدد الأخير من مجلة نارودنايا فوليا، الذي صدر في أكتوبر 1885 الروح المعنوية المنهارة التي سيطرت على المثقفين:
“تفكك ثقافي كامل، وفوضى عارمة في الآراء المتناقضة في القضايا الاجتماعية الأساسية.. فمن جانب، هناك التشاؤم الشخصي والاجتماعي على السواء، ومن الجانب الآخر هناك التصوف الديني الاجتماعي.. وفود هائلة من المرتدين من كل نوع. المثقفون الأكثر صراحةً يعلنون بوضوح عن ضجرهم وضيقهم بالفلاحين، وأنه قد حان الوقت لنحيا لأنفسنا! والمجلات الليبرالية والراديكالية الباهتة تكشف عن تدهور الاهتمام الاجتماعي من الأصل” (28).
يأتي وصف آخر لتلك الفترة بقلم روزا لكسمبورج من محبسها خلال الحرب العالمية الأولى:
“بعد اغتيال أليكساندر الثاني، مرت فترة من فقدان الأمل طغت على روسيا بأكملها.. كانت سجون حكومة أليكساندر الثالث صامتة كالقبور. ووقع المجتمع الروسي في قبضة اليأس ليواجه نهاية كافة آمال الإصلاح السلمي وفشل كافة الحركات الثورية” (29).
ومن نوادر ذلك الوقت كان الانحراف التام لأحد أهم قادة النارودنيين، ليف تيخوميروف، الذي نشر في أوروبا الغربية اعترافاً تحت عنوان “لماذا أكف عن أن أكون ثورياً؟”، وبعد فترة قصيرة أصبح أحد الداعمين بشدة للقيصرية. أعداد كبيرة من الثوريين السابقين وجدوا ضالتهم لدى تولتسوي الذي رفض أي هجوم على القيصرية بينما أخذ يوعظ بمبدأ اللاعنف. وفرت تعاليم تولستوي دعماً أخلاقياً للمثقفين المحبطين المصابين بخيبة الأمل.
إلا أنه، في ظل حدة القمع والردة الرجعية، إلا أن ذلك لم يكن يعني نهاية للزوابع. الحدث الأكثر أهمية كان مؤامرة مارس 1887 التي كان أليكساندر أوليانوف رمزاً بارزاً فيها. اشترك في هذه المؤامرة ستة أشخاص؛ ثلاثة، منهم أوليانوف، عرّفوا أنفسهم كأعضاء في نارودنايا فوليا، فيما أطلق الثلاثة الآخرون على أنفسهم اشتراكيين ديمقراطيين. لم يكن في ذلك الوقت هناك تمايزاً واضحاً بين النارودية والاشتراكية الديمقراطية.
كان أليكساندر نفسه قد عكف على دراسة ماركس بجدية، لكنه ظل نارودياً كما هو واضح من البرنامج الذي كتبه بنفسه للمجموعة: “برنامج القسم الإرهابي لحزب نارودنايا فوليا”. كان أليكساندر هو العنصر الثوري الأكثر حيوية ليس فقط بين الفلاحين، لكن أيضاً في أوساط الطبقة العاملة الصناعية. “إن الاشتراكية نتيجة ضرورية للإنتاج الرأسمالي والهيكل الطبقي للمجتمع الرأسمالي” (30). لكن ذلك، كما يقول البرنامج، لم يستبعد “إمكانية انتقال آخر وأكثر مباشرةً إلى الاشتراكية؛ حيث أن هناك ظروف خاصة في عادات الشعب وفي سمات الإنتلجنسيا والحكومة”.
الرأسمالية وفقاً له لم تكن مرحلة ضرورية قبل الاشتراكية، وهي ضرورية فقط في البلدان التي “تُترك فيها عملية التحول لتتطور تلقائياً إذا لم يكن هناك تدخل واعي من جانب أي مجموعة اشتراكية”. اعترف البرنامج بضرورة “تنظيم وتثقيف الطبقة العاملة”، لكن هذه المهمة كان يجب تأجيلها حيث أن النشاط الثوري بين الجماهير “في ظل الحكم السياسي السائد شبه مستحيل”. لذا فإن الأوتوقراطية لابد من الإطاحة بها بوسائل الإرهاب لإفساح الطريق أمام الطبقة العاملة لتقتحم المشهد السياسي.
هذه الانتقائية الفريدة كانت في الواقع محاولة للدمج بين النارودية والماركسية. وكما ذكرنا من قبل، كان أليكساندر بحاجة إلى ترتيب أفكاره، الأمر الذي لم ينجح فيه حتى إعدامه. ذات مرة في العام 1893 كان لينين قد أخبر لالايان أن أليكساندر “اعتبر نفسه ماركسياً”، لكن ذلك كان بالطبع مبالغة. كانت مأساة أليكساندر الحقيقية تكمن الإرباك الذي عاشه خلال هذه الفترة الانتقالية. في كتابه عن الفكر الاجتماعي الروسي، كتب إيفانوف رازيومنيك، واصفاً السمة الانتقالية التي تميزت بها ثمانينات القرن التاسع عشر: “قبلهم كانت النارودية، وبعدهم كانت الماركسية.. أما هم فقد مثلوا فجوة أيديولوجية في التاريخ” (31).
بليخانوف يقطع صلته مع زيمليا آي فوليا
كنتيجة طبيعية للتحولات الحادة في مسارها، صار هناك نوعاً من النزاع في زيمليا آي فوليا خلال عامي 79 – 1878 بين مؤيدي التوجه للتحريض الجماهيري، ومؤيدي الإرهاب، فيما كان أبرز داعمي التوجه الأول هو جورجي فالينتينوفيتش بليخانوف.
بحلول أكتوبر 1879، اختفت زيمليا آي فوليا من الوجود، بينما أسس أنصار التحريض الجماهيري منظمة منفصلة باسم تشيرنيي بيريديل – Chernyi Peredel، وتعني “إعادة التوزيع الأسود”. كان الإسم يعني حرفياً التوزيع المتساوي للأرض على “السواد” الأعظم من الشعب؛ أي على الفلاحين. أما الإرهابيون فقد اختاروا اسم نارودنايا فوليا، والذي نظراً للمعنى المزدوج لكلمة فوليا – volya يعني “إرادة الشعب” أو “حرية الشعب”.
أُجهضت تشيرنيي بيريديل عملياً، و”لم يكن لها أي حظ منذ اليوم الأول لتشكيلها”، هكذا شكى دويتش، أحد مؤسسي المجموعة في مذكراته. أما في. أبتيكمان، مؤرخ تشيرنيي بيريديل وأحد أعضائها القياديين، فيبدأ حديثه بهذه الكلمات الحزينة: “لم يكن مقدراً لهذه المنظمة أن تولد أبداً، لم يكتب لها الرب الحياة، وبعد ثلاثة أشهر، فقدت معنى وجودها” (32).
وكنتيجة لنشاط أحد عملاء الأمن داخل المنظمة، أُجبِرَ قادتها واحد بعد الآخر (بليخانوف، وأكسيلورد، وزاسوليتش، ودويتش) على الهجرة خارج روسيا. وبعد سلسلة من هجمات الشرطة، صودرت فيها آلة الطباعة وتم القبض تقريباً على كل أعضاء المنظمة الذين بقوا داخل البلاد، اختفت المجموعة من الوجود.
إلا أنه برغم كل شيء، فقد اضطلعت المجموعة بدور تاريخي هام للغاية؛ فقد كانت بمثابة الجسر الواصل بين الشعبوية والماركسية.
التوجه نحو الطبقة العاملة
من دون أي استيعاب نظري للمشكلة الحقيقية لديهم، جنح أفراد من بين النارودنيين مرة بعد أخرى إلى الطبقة العاملة الصناعية. ومن دون الوضع في الاعتبار هذه البراعم الصغيرة، يظل من الصعب فهم نمو وتطور الماركسية الروسية.
في 1870، ولأول مرة في التاريخ الروسي، ألقت مجموعة من الطلاب، تحت قيادة ن. في. تشايكوفسكي، بذرة منظمة للطبقة العاملة في تربة النضال الطبقي (1*). لم يكن ذلك لأنهم أدركوا أن البروليتاري هي القوة الرافعة للاشتراكية، لكن لأنهم رأوا في المصانع مجالاً لنشر رسالة النارودية بين الفلاحين.
“هكذا نسجوا الصلات مع أولئك العمال الأقل مهارة وأولئك الذين لازالوا مرتبطين مباشرةً بحياة وروج الريف. وبشكل مبدئي كانوا دائماً ما يختارون عمال النسيج ويفضلونهم على عمال التعدين، إذ استشفوا فيهم أنهم يمثلون ما اعتبروه الشعب الحقيقي. أ. في نيزرفكين، أحد أكثر الدعاويين نشاطاً، قال أن عمال التعدين قد تطبعوا بالحضارة المدنية.. إنهم يرتدون ملابس أفضل، لا يعيشون حياة تشاركية، وتقاليد الحياة الريفية تنقرض فيما بينهم. عمال النسيج على الجانب الآخر، لازالوا يرتدون زي الريف ويحافظون على عادات القرية” (33).
كان أتباع تشايكوفسكي قليلي العدد:
“من الصعب أن نحدد بالضبط عدد الأعضاء في مجموعة سان بطرسبورج من أتباع تشايكوفسكي.. في 1928، أي بعد حوالي نصف قرن من الزمان، حاول ثلاثة منهم ممن بقوا أحياءاً حتى ذلك الحين، إعداد قائمة بالرفاق الذين عملوا سوياً في الفترة بين 1871 و1874. حصروا 19 عضواً في موسكو، و11 في أوديسا، و8 في كييف، وآخرين في خاركوف، وأوريل، وكازان، وتولا” (34).
كان كلٌ من أتباع تشايكوفسكي يبدأ عمله السياسي بالاتصال بمجموعة صغيرة من 3 إلى 5 عمال ويعلّمهم القراءة والكتابة. كانوا يعطونهم دروساً في الجغرافيا والفيزياء والتاريخ وغيرها من المواضيع الأخرى. كما انعقدت بعض المحاضرات حول مواضيع مثل تاريخ التمردات الشعبية في روسيا، وحركة الطبقة العاملة الألمانية والعالمية، والاقتصاد السياسي (انطلاقاً من أعمال ماركس). تم إنشاء مكتبة للعمال الذين كانوا على استعداد لدفع 2% من أجورهم من أجلها. لسوء الحظ، لم ينج أتباع تشايكوفسكي من قبضة الشرطة، وفي 1873 تم تصفية المجموعة واختفت ككيان منظم.
وبينما كان أتباع تشايكوفسكي ينشطون في سان بطرسبورج، أخذت مجموعة أخرى أكثر بروليتارية في الصعود في أوديسا. كانت المجموعة متمحورة حول زاسلافسكي، الذي عمل على قيادتها لمدة 8 أو 9 أشهر، وكانت تحمل إسم “اتحاد عمال جنوب روسيا”. من الممكن اعتبار هذه المجموعة بمثابة المنظمة الأولى ذات التركيبة العمالية في الامبراطورية الروسية (35). تمكن الاتحاد، الذي تكون تنظيمه المركزي من 50 أو 60 عضواً، من دعم إضرابين عماليين؛ الأول في يناير 1875 في مصنع بيلينو فيندريتش، والآخر في أغسطس من نفس العام في مصنع جوليير بلانكارد، والذي تم فيه توزيع البيان التأسيسي للاتحاد. توسع نفوذ الاتحاد سريعاً ليس فقط في أوديسا، لكن أيضاً في عدد من المدن على طول شاطئ البحر الأسود. تضمن برنامج الاتحاد نقاطاً جديدة، بينما اشتملت المهام التي وضعها الاتحاد لنفسه على “1- الدعاية لفكرة تحرر العمال من نير رأس المال والطبقات المتميزة. 2- تنظيم عمال جنوب روسيا استعداداً للنضال القادم ضد النظام الاقتصادي والسياسي” (36). وبحلول نهاية 1875، مَكّن أحد عملاء الأمن السلطات من وضع نهاية للاتحاد بالقبض على كافة قياداته.
لكن القبض على أتباع تشايكوفسكي في بداية 1874، ذلك الذي حطم كوادر المنظمة، لم يوقف الانتشار – البطيء والمحدود – للأفكار الثورية بين عمال سان بطرسبورج. وجاء أحد الانعكاسات لذلك الانتشار طوال قرابة الستة أعوام، في مظاهرة أقيمت في ميدان كاتدرائية كازان في 6 ديسمبر 1876. كانت تلك المظاهرة نقطة انطلاق حقيقية للحركة الثورية الروسية، وقد وضع بليخانوف، الذي لعب دوراً مركزياً في المظاهرة، وصفاً شاملاً لها بعد عدة سنوات. حيث نظمت مجموعة من العمال مظاهرة، بإلهام من مظاهرة قبلها لبعض المثقفين في ربيع 1875 في جنازة أحد الطلاب الذي قلته سجانوه. وعد العمال بليخانوف أن عدد العمال الذين سيشاركون في المظاهرة سيقارب ألفيّ عامل. لكن في اليوم المحدد، تجمع حشد طلابي بالأساس، مع تواجد بعض العمال، تراوح بين 150 إلى 500 متظاهر. وبعد تأجيل انطلاق المظاهرة لبعض الوقت أملاً في قدوم بعض العمال للمشاركة، في ظل التخوف من أن يذهب كل الجهد المبذول في الحشد سُدى، وقف بليخانوف وألقى خطبة انتهت بهذه الكلمات: “عاشت الثورة الاجتماعية.. عاشت زيمليا آي فوليا”. ومن ثم رُفعت لافتة حمراء كبيرة مكتوب عليها “الأرض والحرية”. هذه المظاهرة الصغيرة كانت أول مظاهرة عمالية في تاريخ روسيا.
اندلعت موجة من الإضرابات العمالية في بطرسبورج بين عاميّ 1877 و1879. وصل عدد الإضرابات إلى 26، وكان ذلك يمثل عدداً غير مسبوق في حركة الإضرابات بمقاييس ذلك العهد، الأمر الذي لم يتكرر حتى تسعينات القرن التاسع عشر. وبالتوازي مع ذلك، ظهرت منظمة عمالية أخرى في بطرسبورج وحملت إسم “اتحاد عمال شمال روسيا”. ضمت المنظمة 200 عضواً مقسّمين إلى مجموعات في أحياء الطبقة العاملة في المدينة، وكان قد أسسها ستيفان خالتورين الذي كان ابناً لأسرة فلاحية في محافظة فياتكا. وبعد عدة أشهر من النشاط الحيوي، تحطم الاتحاد هو الآخر على يد الشرطة، وفي 1880 اندثر تماماً.
في 1879، كان بليخانوف، القيادي بمنظمة تشيريي بيريديل، قد التفت مرة أخرى للإرهاب النارودني وللتشديد على الدعاية، كما جادل بضرورة التوجه للطبقة العاملة. لم يكن الحبل السُري بين فكره وبين الرؤية النارودنية للفلاحين كصناع للاشتراكية قد انقطع بعد. وفي فبراير 1879، كتب: “يزداد التحريض في المصانع يومياً.. هذه هي أخبار كل ساعة”. وهذا التحريض تضمن إحدى المشاكل التي “تجلبها الحياة نفسها وتدفعها لموقع الصدارة، بالرغم من أولوية الثوريين للقرارات النظرية.. في الماضي، وبدون سبب، وضعنا كافة آمالنا ووجهنا كافة قوانا لجماهير القرى، أما عامل الحضر فقد بقى فقط في المرتبة الثانية في حسابات الثوريين”.
وبينما يقع الفلاحية في القرى تحت تأثير “الأفراد الأكثر محافظةً وجبناً في العائلة الفلاحية.. يمثل عمال المدن الشرائح الأكثر تأثراً بالتحريض والأسهل تثويراً بين السكان”.
“في المراكز الصناعية الكبيرة يتجمع عشرات، وأحياناً مئات الآلاف من العمال. وفي أغلب الأحوال، فإن هؤلاء الرجال يكونون هم أنفسهم فلاحون في القرى.. المسألة الزراعية، وقضية الإدارة الذاتية للأوبشيتشنا، الأرض والحرية، كل تلك القضايا قريبة إلى قلوب العمال تماماً كما هي بالنسبة للفلاحين. باختصار، هذه ليست قضية جماهير تم استئصالها من الريف، بل هي جزء من الريف. قضيتهم واحدة، ونضالهم يمكن ويجب أن يكون واحداً. وبالإضافة إلى ذلك، تضم المدن طليعة سكان القرى.. وفي المدن يبقون بعيدين عن تأثير العناصر الأكثر محافظةً واعتدالاً في العائلة الفلاحية.. وبفضل كل ذلك، سيمثلون حليفاً غالياً للفلاحين حينما تندلع الثورة الاجتماعية” (37).
وبالتالي فإن الثورة الاشتراكية القادمة ستكون ثورة فلاحية يصبح فيها العمال حلفاء للفلاحين؛ إذ أنهم لا يزالون فلاحين بالأساس، وبإمكانهم الاضطلاع بدور الوسيط بين مثقفي المدن والفلاحين في القرى. كانت نارودنايا فوليا، حتى بعد انفصال بليخانوف بسنوات، تشدد على النشاط الدعائي بين العمال الصناعيين، وهكذا ذكرت إحدى المقالات التي تناولت برنامج المنظمة بعنوان “العمل التحضيري للحزب” في 1883، أنه “لابد أن يحظى سكان المدن من العاملين، الذين لهم أهمية عظيمة للثورة بفضل موقعهم وتطورهم الكبير، بالتفات جاد من جانب الحزب” (38).
إلا أنه كان هناك اختلافاً جوهرياً بين الموقف النارودني، بما يشمل موقف بليخانوف نفسه في 1879، فيما يخص العمل الدعائي بين عمال الصناعة، والموقف الماركسي. بالنسبة للماركسيين، فقد كانوا على قناعة تامة بأن “العمال ليسوا ضروريين من أجل الثورة، بل أن الثورة هي الضرورية للعمال” (39). أما النارودنيين، فقد كان العمال بالنسبة لهم مهمين للثورة. كان بمقدور النارودني أن يسأل “لماذا الطبقة العاملة؟”، بينما كان السؤال الذي يطرحه الماركسي “لماذا الماركسية؟”، إذ أن الطبقة العاملة هي بالنسبة له محرك التاريخ وليس مفعول به.
ونحن بصدد الموقف النارودني من العمال، نجد أنفسنا أمام قضية نظرية تجاوزتها الممارسة؛ تغيير في التكتيكات دون فهم الاستتباعات النظرية الضرورية لتغيير متماسك في المسار. لقد ولّى عهد النارودية، وصعدت العناصر الماركسية من داخل الإطار الأيديولوجي لها.
بليخانوف.. رائد ماركسي
بين عاميّ 1880 و1882، قطع بليخانوف طريقه من النارودية إلى الماركسية. وفي 1883، تأسست مجموعة “تحرير العمل”.
وأيضاً في 1883، كتب بليخانوف أول عمل ماركسي روسي “الاشتراكية والنضال السياسي”، كان ذلك عبارة عن كراس قصير تلاه بعد ذلك بعام تقريباً كتابه السميك “اختلافاتنا”. وفيما بعد ذكر المؤرخ البلشفي بوكروفسكي ما كان شائعاً خلال تلك الفترة بأن الكتاب قد “تضمن عملياً كافة الأفكار الرئيسية التي صارت بمثابة مخزون الماركسية الروسية حتى نهاية القرن” (40).
وبالنسبة لبليخانوف، الذي تناول المجتمع الريفي بتحليل بحثي طويل، فإن المستقبل لم يعد بين يديّ الفلاحين وكوميوناتهم، كما ذكر تفاصيل هامة تثبت تزايد الفردية واللامساواة في المجتمع الريفي. فمن ناحية، كان الكثير من الفلاحين يخسرون أراضيهم التي تتكدس في حصص الملاك الكبار من الأراضي، ومن الناحية الأخرى يتنازلون عن حقوقهم لفلاحين آخرين ويصبحون هم أجراء بلا أرض. وفي نفس الوقت، كان الفلاحون الأغنياء (الكولاك – Kulak) يزدادون ثراءاً وملكاً للأراضي، حيث شراء أو تأجير مساحات إضافية وتأجير فلاحين فقراء للعمل بها.
هاجم بليخانوف التحسر على ماضي الحياة في كوميونة القرية: “إن مجتمعنا الريفي، في الحقيقة، كان هو الدعامة الرئيسية للحكم المطلق الروسي”.. وهو “يصبح بشكل أكبر وأكبر أداة في أيدي البرجوزاية لاستغلال غالبية سكان الريف” (41). لقد حطم أفكار الاقتصادوي النارودني في. في. حول عجز الرأسمالية عن التطور في روسيا بسبب نقص الأسواق. وباطلاعه الواسع على التاريخ، مستخدماً أمثلة عدة من فرنسا كالبيرت، وألمانيا تحت حكم الزولفيرين، والولايات المتحدة، أوضح أن الدولة تدخلت دائماً لحماية الصناعات الناشئة في مواجهة التفوق الساحق لبريطانيا.
ذهب بليخانوف إلى أبعد من ذلك، فعلى العكس من جدالات في. في، لم تسبق الأسواق المحلية تطور الرأسمالية كشرط مسبق لها، بل أن هذه الأسواق خُلقت من قبل الرأسمالية نفسها. “البرجوازيون خلقوا الأسواق، ولم يجدونها جاهزة أمامهم” (42).. و”أي انتقال لبلد من الاقتصاد الطبيعي إلى اقتصاد المال يتوازى بالضرورة مع تمدد هائل للسوق المحلي، وليس هناك من شك أن هذه السوق في بلدنا ستنتقل بكليتها لبرجوازيتنا” (43).
جادل بليخانوف بأنه من الطوباوي أن يُعتقد، كما فعل النارودنيون، أنه يمكن منع الرأسمالية من تحويل الاقتصاد والمجتمع الروسيين. واستنتج أنه ينبغي على الاشتراكيين التوجه إلى الطبقة العاملة الصناعية باعتبارها طليعة المستقبل: “إن سكان الريف اليوم، الذين يعيشون في ظل هذه الظروف الاجتماعية المتأخرة، ليسوا فقط أقل قدرة على المبادرة السياسية الواعية من عمال الصناعة، لكنهم أيضاً الأقل استجابة للحركة التي بدأتها للتو الإنتجلنسيا الثورية”.
واستطرد بليخانوف: “وإلى جانب ذلك، يمر الفلاحون الآن بفترة صعبة وحرجة؛ فالأساسات الموروثة لاقتصادهم تتفتت، والمجتمع الفلاحي المشئوم أصبح مكشوفاً أمام أعينهم.. وعلى صعيد آخر، هناك أشكال جديدة من العمل والحياة في طور التشكيل، وعملية الإبداع هذه إنما تجري بشكل أكثر كثافة في المراكز الصناعية” (44).
كان بليخانوف هو أول روسي يجادل بأن الطبقة العاملة قادرة على لعب الدور الرئيسي في الثورة الروسية المُنتظرة ضد الأوتوقراطية القيصرية. وهكذا، في بيان قدمه للمؤتمر التأسيسي للأممية (الثانية) الاشتراكية (يوليو 1889)، صرح بأن: “بإمكان الحركة الثورية في روسيا الانتصار فقط كحركة ثورية للعمال. ولن يكون، ولا يمكن أن يكون هناك طريق آخر لنا” (45).
استمرار النزوع نحو النارودية
على الرغم من كل ذلك، كان بليخانوف لا يزال منجذباً للنارودنيين. كانت كتاباته زاخرة بالأفكار النارودنية، بالأخص تلك الكتابات في سنوات 84 – 1883. في ذلك الوقت، لم يتخذ بليخانوف موقفاً حاسماً من نارودنايا فوليا، وكل ما فعله هو أن طالبهم بتبني الماركسية. في “اختلافاتنا” كتب:
“في تقديمنا لهذه المسودة الأولى لبرنامج الماركسيين الروس إلى الرفاق داخل روسيا، نحن لا نسعى لمنافسة نارودنايا فوليا؛ بل على العكس، نحن نرغب بأكثر من الاتفاق الكامل والنهائي مع هذا الحزب. فنحن نعتقد أن حزب نارودنايا فوليا لابد أن يكون حزباً ماركسياً إذا رغب في أن يبقى مخلصاً وأميناً على تقاليده الثورية وأن ينهض بها من ركودها الراهن” (46).
وبالرغم من كل انتقاداته لدور المجتمعات الريفية، كانت تنازلاته للنارودنية في هذا الصدد غير محدودة. هكذا كتب أن:
“عندما تدق ساعة انتصار الحزب العمالي على الفئات العليات في المجتمع، مرة أخرى هذا الحزب، وفقط هذا الحزب، سيتخذ المبادرة في التنظيم الاشتراكي عبر البلد.. الكوميونات الريفية التي لا تزال موجودة ستبدأ في التحول إلى شكل شيوعي أعلى.. وحيازة الأرض المشاعية لن تكون ممكنة فقط، بل حقيقة، ستصير الأحلام النارودنية بالتطور الفلاحي الاستثنائي واقعاً” (47).
عمل بليخانوف أيضاً على توفيق أفكاره مع الإرهاب النارودني الفردي. “وماذا عن الإرهاب؟ نحن لا ننكر بأي حال الدور الهام للنضال الإرهابي في الحركة التحررية الراهنة. فلقد نشأ بشكل طبيعي في الظروف الاجتماعية والسياسية التي نعيش في ظلها. وبنفس القدر، لابد عليه أن يسهم في التغيير للأفضل”. ومن ثم فإن الحزب النارودني يجب أن:
“يتوجه إلى الطبقة العاملة كأكثر الطبقات ثورية في المجتمع الحالي.. نحن هنا نشير إلى المسار الذي سيوسع النضال، ويجعله أكثر تنوعاً، ومن ثم أكثر نجاحاً.. وهناك أقسام أخرى من السكان (غير العمال) ستتلائم بشكل أكبر مع النضال الإرهابي ضد الحكومة. أما الدعاية بين العمال، فهي لن تلغي ضرورة النضال الإرهابي، بل ستمده بفرص لم تتوفر من قبل” (48) (2*).
وعلاوة على ذلك، تسامح بليخانوف أيضاً مع الموقف النخبوي للنارودنيين من الإنتلجنسيا:
“لقد دُفعت الإنتلجنسيا الاشتراكية في بلدنا لموقع الصدارة في حركة التحرر اليوم، والمهمة الأساسية لها يتحتم أن تكون بناء مؤسسات سياسية حرة. أما على جانب الإنتلجنسيا فلابد عليهم أن يمدوا الطبقة العاملة بإمكانيات الاضطلاع بدور نشط ومثمر في الحياة السياسية المستقبلية في روسيا.. لذا، فإن على الإنتلجنسيا الاشتراكية الالتزام بتنظيم العمال وإعدادهم بقدر المستطاع للنضال ضد النظام الحكومي الحالي وأيضاً ضد الأحزاب البرجوازية مستقبلاً” (50).
قدم بليخانوف الماركسية الحقيقية الأصيلة لروسيا وجعل منها سلاحاً يخدم الثورة. لقد اكتشف الطبقة العاملة كرافعة للثورة الروسية المستقبلية. واستلزمت هذه الخطوة الواسعة للأمام منظور تاريخي واسع تمتع به بليخانوف بكل تأكيد. فلقد كان واحداً من أكثر المثقفين الروس علماً وبصيرة وثقافة في ذلك الوقت، بعقله القوي الأصيل، ومواهبه الجدلية الخلاقة في العديد من المجالات، علاوة على قدراته الأدبية المبهرة. درس بليخانوف في شتى المواضيع كالكيمياء العضوية، والجيولوجيا والأنثروبولوجيا، وعلم الحيوان والتشريح المُقارن، وتنوعت دراساته تنوعاً واسعاً بين التاريخ وعلم الجمال، والأنثروبولوجيا الوصفية، والأدب ونظرية المعرفة، والفن. كان البادئ في النقد الأدبي الماركسي، علاوة على ريادته في تطوير البحث الماركسي في عدد من المجالات الأخرى.
من الصعب الإلمام الكامل بأهمية إسهامات بليخانوف في الحركة الثورية الروسية إذا لم يكن لدينا تصوراً للوسط الاجتماعي للإنتلجنسيا في بدايات القرن التاسع عشر؛ فلقد كان في البداية غارقاً حتى أذنيه في النارودية التي كان لها قداسة عقود من نضال ودماء الشهداء. في هذه الحالة فقط يمكننا فهم الإثارة الحقيقية لوضع بليخانوف كرائد حقيقي، وكأول من ترجم الماركسية ونقلها للواقع الروسي. وكانت للمقالة الماركسية الأولى التي كتبها، الاشتراكية والنضال السياسي، كما شهد لينين، تأثيراً على روسيا يُقارن بتأثير البيان الشيوعي على الغرب. أما كتابه، في تطور النظرة الأحادية للتاريخ (1894) (3*)، فقد كان، وفقاً للينين، “قد ربى جيلاً كاملاً من الماركسيين الروس”. وكما ذكر تروتسكي، فإن “جيل الثمانينات من الماركسيين يقفون على الأساسات التي أرساها بليخانوف.. وإلى جانب ماركس وإنجلز، يدين لينين لبليخانوف بأكثر من ذلك” (51).
صلابة مجموعة تحرير العمل
من أجل فهم السبب وراء كل تلك الفترة التي استغرقها الشاب فلاديمير أوليانوف ليتحول إلى أفكار بليخانوف، علينا أن ننتبه إلى أن تلك الأفكار في تلك الفترة العصيبة كانت أفكاراً بلا أي جسد، مقطوعة الصلة بأي حركة؛ فلم يكن هناك إضرابات جماهيرية ولا مظاهرات تدعم هذه الأفكار وتوفر الأرضية اللازمة لانتشارها. وفي الحقيقة، ولمدة عشر سنوات (93 – 1883) عاشت مجموعة تحرير العمل بكاملها في المنفى، وكانت تمثل آنذاك كل الحركة الماركسية الروسية.
تشكلت المجموعة في الخارج فقط من خمسة أعضاء: بليخانوف، وأكسيلورد، ودويتش، وفيرا زاسوليتش، وإيجناتوف. وبعد فترة قصيرة للغاية، تقلصت المجموعة إلى ثلاثة بعد أن تغلب مرض السل على إيجناتوف في 1895، بينما كان الرجل يوفر كمية لا بأس بها من المال، إلا أن مرضه كان يمنعه كثيراً من القيام بدور نشط في عمل المجموعة، كما تم القبض على دويتش في منتصف 1884 أثناء محاولته لتنظيم عملية إرسال الأدبيات إلى روسيا. أما بليخانوف والاثنان الباقيان، فقد واجهوا عقداً كاملاً من العزلة التامة. وصحيح أن تواجدت بعض الحلقات في العديد من المدن الروسية وكانت تنخرط في بعض الأنشطة بين العمال في ثمانينات ذلك القرن، لكنها كانت واهنة للغاية، وكان نتاج العمال الشاق ضئيلاً، فيما كانت لهجمات الشرطة تأثيراً مدمراً، علاوة على عزلة تلك الحلقات عن بعضها. قد يتطلب الأمر عقوداً من البحث التاريخي للكشف عن مثل تلك المجموعات التي، بشكل ما، أثناء عملها في ظل الظروف المخيفة آنذاك، مهدت الأرض لنشاط أوسع في العقد اللاحق.
في 1884، كانت مجموعة صغيرة من المثقفين والعمال البلغار، بقيادة الطالب البلغاري بلاجويف (الذي أسس فيما بعد الحزب الشيوعي البلغاري)، قد كتبت لمجموعة تحرير العمل: “لقد توصلنا لاستنتاج مفاده أن هناك الكثير من الأمور المشتركة بين رؤانا ورؤى مجموعة تحرير العمل”. وبالتحدث عن الرفاق الأجانب، فهم “لديهم أكثر بكثير من الإعداد الأدبي والخبرة الثورية”.
“طلبت مجموعة بلاجويف الإبقاء على اتصال دوري منتظم، علاوة على طلبهم بإرسال شحنة من الأدبيات، ونقاش حول نقاط البرنامج، وقد وعدوا بإمدادنا بالأموال. ولا عجب أن بليخانوف قد بكى بكل تأثر لأكسيلورد قائلاً: “لم تذهب معاناتنا هباءاً”. وبدأ عام كامل من التعاون، انتهى في شتاء 86 – 1885 حينما دوهمت مجموعة بلاجويف، ومثلها مثل الكثير من المجموعات والحلقات الأخرى، اندثرت من الوجود كأنها لم تكن” (52).
وبعد فترة قصيرة من تحطم مجموعة بلاجويف، صعدت مجموعة أخرى حملت إسم “حلقة توتشييسكي”، عاشت هي الأخرى لفترة قصيرة حتى 1888. وبمجرد أن نجحت الشرطة في تصفيتها، برزت مجموعة ثورية أخرى بقيادة مهندس يُدعى بروسنيف عُرفت بإسمه. واشتملت المجموعة على عدد من الوجوه التي برزت فيما بعد بين العمال، أمثال بوجدانوف (4*)، ونورينسكي، وشيلجونوف، وفيدور أفاناسييف. تهشمت المجموعة بعد إغارة الشرطة عليها في 1892.
بشكل عام، كان ذلك العقد يمثل سنوات الحلقات الماركسية الدعوية الصغيرة التي نشطت بشكل محدود في أوساط العمال. تُذكر هذه السنوات بسنوات الظلام.. “رجل الثمانينات” كان مُحطماً، ويائساً، وخاملاً. هذه الحالة المزاجية وجدات تعبيراتها الأدبية المناسبة في أعمال تشيكوف – شخصية العم فانيا، وإيفانوف، وشخصيات أخرى – حيث مظاهر الإحباط والهزيمة.
كانت الإضرابات العمالية في الثمانينات محدودة للغاية. في الست سنوات بين 1881 و1886، كان هناك فقط 48 إضراباً (53)، فيما لم يكد للماركسيين أن يكون لهم أي تأثير عليها. أحد مؤرخي الحركة العمالية الروسية كتب في 1893 أنه، حتى ذلك العام، لم تكن للاحتجاجات العمالية في روسيا “أي صلة على الإطلاق بأيٍ من الوحدات الاشتراكية الديمقراطية” (54).
نفس السيناريو مع بعض الاختلافات
من أجل توضيح أفكاره بصدد النارودية، عمد الشاب فلاديمير أوليانوف إلى السجال الطويل ضد النارودنيين، “فالمرء لا يمكنه تطوير رؤى جديدة بطريقة أخرى غير الجدال”، هذا ما كتبه بعد حوالي عقدين من الزمن (55)، وتاريخ الأفكار هو بلا شك تاريخ الصراع فيما بينها. لم تكن تلك الكتابات السجالية القديمة فارغة من المضمون، بل كانت في الحقيقة دراسات نقّبت بعمق في شئون التطور الاقتصادي والاجتماعي في روسيا. وقبل كل شيء، أراد لينين أن يمسك بحقيقة المجتمع الذي عاش فيه، والذي كان مقدراً له الانخراط في تغييره جذرياً.
وبحلول نهاية فترة سمارا، كان يجري توزيع مخطوطة كتبها لينين بعنوان “نزاع بين اشتراكي ديمقراطي وشعبوي” بين الرفاق، وفي أغلب الظن كانت عبارة عن ملخص للنزاعات في سمارا مُقدمة في شكل حوار. ولسوء الحظ، فُقدت الورقة. ومن ثم كتب لينين مقالة طويلة كدراسة عن المسألة الزراعية تحت عنوان “التطورات الاقتصادية الجديدة في الحياة الفلاحية”. عجّت تلك المقالة بالإحصاءات، وكانت مكتوبة بالأساس للنشر في مجلة شرعية، لكن برغم ذلك رُفض نشرها – ربما نظراً لطولها المفرط أو بسبب نقدها الحاد لرؤية النارودية. وحينما قرأ أوليانوف مخطوطته في الحلقة الدراسية بسمارا، أسس لنفسه على الفور نفوذاً كبيراً في الحلقة. واحدة من نسختيّ المقالة المكتوبتين باليد وصلت إلينا بالفعل، والفضل في ذلك يرجع بالطبع لجامعي المخطوطات الثورية الذين لا يعرفون الكلل – الشرطة السرية القيصرية. كانت المقالة ناضجة للغاية، وتحليلها كان نافذاً بعمق في قلب المشهد الاقتصادي والاجتماعي في الريف، على الرغم من أن أوليانوف كان لا يزال في الثالث والعشرين فقط آنذاك. ومن ثم دُمِجت المخطوطة بكليّتها في كتابه اللاحق “تطور الرأسمالية في روسيا” الذي أنجزه بعد ذلك بخمسة أعوام.
ثالث كتابات أوليانوف كانت هي الأخرى سجالاً ضد النارودنيين، بعنوان “حول ما يُسمى بقضية السوق”، كتبها في بطرسبورج، خريف 1893. النقاط الأساسية في هذا العمل كان لينين قد شرحها لينين لأول مرة في اجتماع لواحدة من الحلقات الماركسية، حيث جرت مناقشة محاضرة قدمها الماركسي الشاب جي. بي. كراسين حول “قضية السوق”. ووفقاً لبعض المشاركين بالاجتماع، تركت ورقة لينين انطباعاً عظيماً لدى كافة الحضور (56). أبرزت الورقة فهماً عميقاً للمجلد الثاني من “رأس المال” لماركس؛ فقد تضمنت نقداً قاسياً لنظرية في. في. باستحالة التطور “الممتد” للصناعة في روسيا نظراً لنقص الأسواق (النسخة الوحيدة من المخطوطة أُعتُقِد أنها فُقدَت منذ وقت طويل، لكن عُثر عليها في 1937). أبرز ما كتب لينين في 1894 كان بعنوان “أصدقاء الشعب” و”كيف يحاربون الاشتراكيين الديمقراطيين” (رداً على مقالات روسكوي بوجاتستفو) (5*). أصبح للمخطوطة تأثيراً ملحوظاً بين الماركسيين القلائل في بطرسبورج، وبعد وقت قصير نُسخت باليد وانتقلت من رفيق لآخر. عُثر فيما بعد فقط على الجزء الأول والثالث منها، وشغلا معاً 199 صفحة من الطبعة الروسية الرابعة للأعمال الكاملة للينين. من الصعب تصور الجهد المضني الذي بُذل في نسخ كل هذه الصفحات.
سخّر لينين عمله اللاحق، في نهاية 1894 وبداية 1895، أيضاً لتقديم نقد آخر للنارودنيين، “المضمون الاقتصادي للنارودية ونقده في كتاب السيد ستروف – انعكاس الماركسية في الأدب البرجوازي”. كان ذلك أيضاً عملاً كبيراً احتل 166 صفحة في أعماله الكاملة، وكان أول أعماله الذي تتم طباعته, لكن تمكنت الشرطة من مصادرة المطبوعات ولم ينج سوى قليل من النسخ.
وفي خلال ما تبقى من العام 1895 وطوال 1896، لم يكتب أوليانوف أكثر من ذلك ضد النارودنيين. لكنه عاد في 1897 للهجوم مرة أخرى على نحو أكثر حدة، في عمل تألف من 18 صفحة بعنوان “تشخيص الرومانسية الاقتصادية – سيسموندي والسيسمونديين الأصليين”. وأخيراً أنجز عمله النظري الأعظم، “تطور الرأسمالية في روسيا”، والذي ملأ المجلد الثالث من الأعمال الكاملة بأكمله (535 صفحة). قدم الكتاب تحليلاً ماركسياً للتطور الاقتصادي الروسي في إطار السجال ضد النارودنيين. وكل الدراسة والبحث المتعلقين بهذا العمل أنجزهما لينين أثناء وقوعه في قبضة الشرطة، أولاً في السجن، ثم في سيبيريا. لقد استخدم 299 عملاً بالروسية، و38 دراسة أجنبية بلغات أخرى مثل الألمانية والفرنسية والإنجليزية (وأحياناً مُترجمة بالروسية). وكان يتحصّل على هذه الأبحاث والدراسات بالبريد من مكتبات مختلفة في مناطق نائية سواء أثناء مكوثه في السجن أو في سيبيريا. وصدر الكتاب في العام الأخير من منفاه (1899) بإسم في. إيلفين.
ومن زوايا عديدة، اتبعت أعمال لينين الطريق الذي كان بليخانوف مهده من قبل، وكان لينين يذكر على الدوام بامتنان بالغ أنه مدين بالكثير لبليخانوف. كان آخر ما يبحث عنه هو الأصالة أو التفرد بها، وربما كان يتذكر كلمات معلمه وملهمه العظيم تشيرنيشفسكي:
“الانشغال بالأصالة يدمر الأصالة نفسها، والاستقلال الحقيقي الذي يتمتع به.. وفقط ذلك الرجل الذي يرهب الارتباك بسهولة، هو الذي يخاف دائماً من ترك نفسه لتأثير الآخرين. والانشغال الحالي بالأصالة هو انشغال بالشكل، ورجل ذو مضمون لن يقلق على الأصالة بلا مبرر. إن الانشغال بالشكل يؤدي إلى الخواء والتلفيق غير المبني على أي أساس” (57).
إلا أن كتابات لينين، من جوانب عدة، كانت أصيلة بالفعل، ومختلفة جذرياً عن أعمال بليخانوف. فمن ناحية، لم يكن للتلميذ لينين كل ذلك الاطلاع التاريخي الواسع الذي تمتع به أستاذه. وبينما استخدم بليخانوف أمثلة تاريخية من بلدان مختلفة، وأبحاث أنثروبولوجية عن مصير المجتمعات المشاعية البدائية، لم يظهر أيٍ من ذلك في كتابات لينين التي حتى لم تتمتع بنفس الإشارات الأدبية والتلميحات الثقافية والروعة في الأسلوب. ومن ناحية أخرى، تفوق لينين بمراحل في إلمامه بالحقائق الاجتماعية والاقتصادية، واستخدامه للمادة الإحصائية في التحليل الدقيق للأمور كان أفضل من كل أعمال بليخانوف. وليس بوسعنا أن نقارن رؤيته الثاقبة للأشكال المعقدة للاستعباد الإقطاعي الذي تلى العلاقات الرأسمالية في الريف. وحتى أثناء اتباعه لبليخانوف، بلور أوليانوف أفكاره المختلفة بنفسه؛ تلك الأفكار التي انحرفت عن أستاذه في أمرين متدخلين أوضح المستقبل فيما بعد أنهما حاسمين للغاية: 1) موقفه من التطور الرأسمالي، 2) موقفه من النارودنيين.
ظهرت الاختلافات في النقطة الأولى بأوضح شكل في “المضمون الاقتصادي ونقده في كتاب السيد ستروف”. ومن أجل تقدير تلك النقطتين بشكل صحيح، علينا أولاً الاطلاع على الخلفية التي تطورت في ظلها.
لوقت طويل، لم تكترث السلطات القيصرية بالماركسية، وأثناء السبعينات والثمانينات وافقت الرقابة على تمرير وطبع المجلدين الأول والثاني من “رأس المال”. وفي تقرير له عن المجلد الأول، صرّح سكوراتوف، رئيس الرقابة القيصرية في 1872، بأنه يستطيع “القول بكل تأكيد أن القليليين فقط في روسيا هم من سيقرأون هذا الكتاب ولن يفمونه كلهم”. وفي 1885 صدرت الطبعة الروسية من المجلد الثاني من “رأس المال”، تلك التي مررتها رقابة أليكساندر الثالث دون أي تردد، على اعتبارها “شكلاً ومضموناً دراسة اقتصادية متعمقة يفهمها المتخصصون فقط” (58).
ومن أجل تحفيز الهجمة ضد النارودنيين، الذين رأى فيهم القيصر عدواً رئيسياً في تلك الفترة، فتحت السلطات باباً شرعياً أمام الماركسية في منتصف السبعينات، وفي بداية الثمانينات كان أحد عملاء الشرطة قد اقترح على رؤسائه بالسماح لبناء القوى الماركسية لمناهضة النارودنيين الأكثر خطورة. ولأن معظم الكتابات الماركسية انتقدت النارودية على هذا النحو أو ذاك، افترض عملاء الشرطة السرية أنها ستساهم في وأد الأيديولوجيا المعارضة الأكبر للسلطة القيصرية، فيما لم تتوقع الحكومة أية أخطار من جانب الماركسيين. هكذا عبر قائد شرطة نيجني نوفجورود عن هذا الرأي، قائلاً: “إنهم ليسوا خطرين في الوقت الراهن”، ووكيل الرقابة في بطرسبورج اعتبرهم “ليسوا أكثر من مجرد منظرين” (59).
في 1894، قدم بيتر ستروف كتاباً ماركسياً بوضوح في توجهاته للطبع، بعنوان “ملاحظات نقدية بخصوص التطور الاقتصادي في روسيا”، وسمحت الرقابة به. وبطباعة الكتاب في سبتمبر 1894، بدأت فترة “الماركسية الشرعية” التي استمرت زهاء خمسة أعوام.
وعلى الرغم من استفادة لينين بشكل ما من الانفراجة الشرعية أمام الأدبيات الماركسية، إلا أنه، على سبيل المثال، في كتابه “تطور الرأسمالية في روسيا”، وضع منذ البداية خطاً فاصلاً بينه وبين القيادي الماركسي “الشرعي” ستروف. فقد كان كتاب ستروف يهجم بشراسة على النارودية، إلا أنه في نفس الوقت كان يقدم في مضمونه اعتذاراً للرأسمالية.
أما بليخانوف، فلم يفعل سوى أن كال بالمديح على الكتاب. ومثل ستروف، تجاوز بليخانوف النظر إلى الأبعاد المتناقضة والمؤلمة والمأساوية في التطور الرأسمالي في روسيا، وفي أغلب الأحيان كان يكتب وكأنه يعتذر للتصنيع الرأسمالي. وفي مواجهة “الذاتية” النارودنية، اعتمد بليخانوف “موضوعية” جامدة. فالعلماء الاشتراكيون، وفقاً له، كانوا يناضلون ليس لأن الاشتراكية يجب أن تكون، لكن لأنها تمثل المرحلة المقبلة في المسار التاريخي الجارف (60). وهكذا فإن “الاشتراكي الديمقراطي إنما يسبح مع تيار التاريخ” (61)، وأن أسباب التطور التاريخي “ليس لها شأن بالإرادة البشرية والوعي” (62). كان جرامشي إذن على حق حينما اتهم بليخانوف بـ “الانتكاس إلى المادية المبتذلة” (63). وعلى خلفية مواقف بليخانوف، ذهب الرجل يقتبس من كتابات ستروف: “علينا أن نستنتج أننا نفتقر إلى الثقافة وأن علينا الذهاب إلى مدرسة الرأسمالية” (64).
لم يكن لينين أقل نقداً للنارودنيين من ستروف أو بليخانوف، لكن موقفه تجاههم كان مختلفاً جذرياً. ففي بداية دراسته حول المضمون الاقتصادي للنارودية ونقدها في كتاب السيد ستروف، أوضح لينين بجلاء أنه ليس للماركسية ما هو مشترك مع “الإيمان بضرورة مرور كل بلد بطور الرأسمالية” أو أيٍ من هذه الأفكار الخاطئة (65).
“الماركسية في روسيا لا تؤسس نفسها على أي شيء آخر سوى حقائق التاريخ الروسي، وهي الأخرى (مثل النارودية) تعد بمثابة أيديولوجيا للطبقة العاملة؛ لكنها تقدم رؤية مختلفة بالكليّة عن الحقائق المعلومة بشكل عام عن نمو وإنجازات الرأسمالية الروسية.. تقدم فهماً مختلفاً للمهام التي تطرحها حقائق هذه البلد أمام أيديولوجيي المنتجين المباشرين” (66).
ذهب لينين يهاجم ستروف وموضوعيته الضيقة:
“تلك الموضوعية المحصورة فقط في إثبات حتمية وضرورة العملية، لا تبذل أي جهد لكشف التناقضات الطبقية الملازمة لكل مرحلة في هذه العملية.. موضوعية تنخرط في وصف العملية بشكل عام، وليس وصف كلٍ من الطبقات المتناقضة والتي يصنع صراعها هذه العملية نفسها” (67).
“وبينما يسعى الموضوعي لشرح ضرورة هذه السلسلة من الحقائق، يجد نفسه دائماً يجازف بالاعتذار لها” (68).
وفي مواجهة ذلك، عرض لينين “أسلوباً مادياً يفضح التناقضات الطبقية، وخلال ذلك أرسى القواعد التي أسس عليها رؤيته وموقفه” (69).
بالنسبة للينين، كانت الرأسمالية بالتأكيد تقدمية مقارنةً بالإقطاع؛ فالرأسمالية تخلق حفاري قبرها. توقظ الرأسمالية الملايين من الطغيان الإقطاعي وتنظمهم، وفي ذلك يكمن جانبها التقدمي. أما توجيه النضال الطبقي للبروليتاريا بشكل أكثر حدة ضد الرأسماليين، ففي ذلك تكمن المهمة الرئيسية للماركسيين.
أما بليخانوف وأكسيلورد فقد انتقدا لينين على مقالته بصدد ستروف. فقد كان لينين في وجهة نظرهما حاداً للغاية تجاه البرجوازية الليبرالية. وهكذا وصف أكسيلورد في مذكراته نقاشه مع لينين آنذاك، كما يلي:
“قلت له: “أنت تعبر عن تيار مضاد تماماً لما قد أظهرته في مقالتي.. أنا.. أردت أن أوضح أنه في لحظة تاريخية معينة تصبح المصالح الحيوية للبروليتاريا الروسية متطابقة مع مصالح العناصر التقدمية في المجتمع.. الاثنان يواجهان معضلة عاجلة.. إسقاط الحكم المطلق”.
ابتسم أوليانوف، ثم رد: “أنت تعرف أن بليخانوف قد ذكر نفس الملاحظات حول مقالتي. لقد عبر عن أفكاره بشكل خلاب، حيث قال: أنت تدير ظهرك لليبراليين، أما نحن فنعطي لهم وجوهنا” (70).
اختمر هذا الاختلاف كثيراً لينفجر في النزاع المستقبلي بين لينين من ناحية، وبليخانوف وأكسيلورد من ناحية أخرى، حول الموقف من الليبراليين. وبقراءة متأنية لكتيب بليخانوف “الاشتراكية والنضال السياسي”، يمكن للمرء أن يتوقع كيف سارت علاقة بليخانوف بعد ذلك مع الليبراليين. فقد جادل في ذلك الكتيب أنه لابد من تحجيم الثورة ضد القيصرية في إطار “مطلب الدستور الديمقراطي”:
“وذلك بدون إخافة أحد بـ “الشبح الأحمر” البعيد، مثل ذلك البرنامج سوف يهيب بالتعاطف مع حزبنا الثوري من قبل كل أولئك الذين لا يحملون عداوة للديمقراطية، سوف يتشارك فيه الكثيرون من ممثلي الليبرالية وأيضاً الاشتراكيين.. وهكذا فإن مصالح الليبراليين سوف “تجبرهم” على “العمل المشترك مع الاشتراكيين ضد الحكومة”، إذ أنهم لن يجدوا في المطبوعات الثورية أي تأكيد على أن إسقاط الحكم المطلق إنما هو إشارة البدء للثورة الاجتماعية في روسيا. وفي نفس الوقت، فإن القطاع الآخر الأقل اعتدالاً في الوسط الليبرالي لن يرى الثوريين مرة أخرى في ثوب الشباب الطائش الذي يكتفي بوضع الخطط بعيدة المنال. هذه الرؤية، التي لا تعد ميزة بأي حال للثوريين، ستجعل الوسط الليبرالي أكثر احتراماً للثوريين ليس فقط لبطولتهم، بل أيضاً لنضجهم السياسي. وهذا التعاطف سوف ينضج تدريجياً ليتحول إلى دعم نشط، أو ربما في الأغلب إلى حركة اجتماعية مستقلة، ومن ثم ستدق أخيراً ساعة سقوط الحكم المطلق” (71).
اختلف لينين أيضاً عن بليخانوف في الموقف من النارودنيين. وبينما وضع لينين، في الفترة بين عاميّ 1893 و1895، الخطوط الفاصلة بينه وبين النارودنيين، خطوطاً أكثر حدة عن تلك التي رسمها بليخانوف، لم ينس لينين قط الجانب التقدمي والبعد الديمقراطي والثوري للنارودية، وذلك بعكس بليخانوف التي قطع كل صلته بالنارودية ولم يضع يديه على أي شيء تقدمي فيها. يجادل لينين في هذه المسألة كالتالي:
“من الواضح أنه من الخطأ تماماً رفض البرنامج النارودني ككل دون تمييز؛ فعلينا بالتأكيد أن نفرّق بين الجانب الرجعي والآخر التقدمي لها. فالنارودية رجعية طالما تفترض إجراءات تربط الفلاح بالأرض وبالأنماط القديمة للإنتاج.. طالما أنها تريد عرقلة تطور اقتصاد المال. لكن هناك عدد من النقاط الأخرى تتعلق بالحكومة الذاتية، وباقتصاد “الشعب”.. وبالتحسينات الفنية، وبإدارة أفضل للتسويق، إلخ، إلخ.. مثل هذه الإجراءات الديمقراطية تقدمية.. إن النارودنيين، على المستوى النظري، إنما هم أشبه بيانوس مزدوج الوجه، ينظر بأحد الوجهين إلى الماضي، وبالوجه الآخر للمستقبل، حيث أنه في الواقع الحيّ يرغب المنتج الصغير، الذي ينظر بأحد الوجوه للماضي، في إثراء مزرعته الصغيرة دون أن يعلم أو حتى يرغب في معرفة أي شيء عن النظام الاقتصادي العام وعن الحاجة إلى التعاطي مع الطبقة التي تتحكم فيه. وبالوجه الآخر ينظر للمستقبل نظرة عداء للرأسمالية التي تحطمه” (72).
لسنوات عدة، كما سنرى لاحقاً، كافح لينين من أجل بناء تحالف، ليس مع الليبراليين وحزب الكاديت الذي يمثلهم كما طرح بليخانوف، لكن مع الترودوفيك، الورثة البرجوازيين الصغار للنارودية. وفي 1912، أشار لينين إلى الجسر الواصل بين البلشفية ومحاولة استخلاص “اللب الديمقراطي القيّم” لدى النارودية:
“من الجليّ أنه ينبغي على الماركسيين أن يستخلصوا بعناية بالغة اللب القيّم للديمقراطية الصادقة والحاسمة والمكافحة لجماهير الفلاحين من تحت قشرة اليوتوبيا النارودنية. في الأدبيات الماركسية القديمة في الثمانينات، نلاحظ دائماً هذا الجهد المنتظم والدؤوب لاستخلاص هذا اللب والجوهر الديمقراطي، ويوماً ما سيدرس المؤرخون هذا الجهد وسيقتفون أثره وأثر صلته بما سُمي في العقد الأول من القرن العشرين “البلشفية” (73).
وبينما كان يجري النضال ضد النارودية باعتبارها مبدأ مخطئ للاشتراكية، تجاوز المناشفة المضمون التاريخي التقدمي الحقيقي للنارودية كنظرية لنضال جماهير البرجوازية الصغيرة من أجل رأسمالية ديمقراطية في مواجهة رأسمالية ملاك الأرض الليبراليين.. ومن هنا فإن فكرتهم الموحشة والبلهاء والمرتدة هي أن الحركة الفلاحية إنما تمثل حركة رجعية، حيث يعد الكاديت أكثر تقدمية من الترودوفيك” (74).
ردد لينين مراراً وتكراراً أن “الاشتراكيين الديمقراطيين الروس أدركوا دائماً ضرورة استخلاص واستيعاب الجانب الثوري من المبدأ والتيار النارودني” (75).
وفي “ما العمل؟” (1902)، جادل لينين بأن على الماركسيين الثوريي ألا يتغاضوا عن الإنجازات الإيجابية للنارودنيين على مستوى الهيكل التنظيمي:
“هذه المنظمة الرائعة التي كانت لدى الثوريين في العقد الثامن ينبغي لها أن تكون نموذجاً نحتذيه جميعاً.. ليس هناك ثمة جماعة قتالية مركزية تستهدف فعلاً القيام بنضال جدي ضد القيصرية، يمكنها أن تستغني عن مثل هذه المنظمة.. وفقط الفشل في فهم الماركسية (أو “فهمها” على نمط الستروفية) بشكل فظ إلى أبعد حدود الفظاظة، هو الذي يؤدي إلى الرأي القائل بأن نشوء حركة الجماهير العفوية يخلصنا من واجب تأسيس منظمة ثورية جيدة كالمنظمة التي أسستها زيمليا آي فوليا، أو أفضل منها بما لا يُقاس” (76).
سنعود لاحقاً لبليخانوف، أولاً كأستاذ لينين، ثم زميله الأكبر، وأخيراً نظيره الصلب العنيد (6*). إلا أن التلميذ، ومنذ البداية، قد أظهر استقلاليته عن الأستاذ حتى أثناء الجدال المتكرر في قضية موقف الماركسيين الروس من النارودية.
ترقب المستقبل
إن تتبع تأثير بليخانوف، أو أي شخص آخر، على الشاب أوليانوف، لهو أمر لا يحظى بأهمية كبيرة؛ فليس المهم هنا ما استعاره المرء من أفكار، بل ما فعله بما استعار، وهذا يعتمد على تاريخ وخبرة الفرد ومواقفه في مجرى النضال.
لقد كان انفصال فلاديمير أوليانوف عن النارودية، وموقفه مما جادل حوله ستروف بصدد العلاقة مع الليبرالية، وموقفه الجدلي ودعمه النقدي للنارودية إلى الحد الذي تبقى عليه حركة ديمقراطية ثورية، كل ذلك كان جوهرياً في تطوره المستقبلي ككل. وطوال حياته السياسية، كان لينين ينظر إلى الأمور وفق التقسيم الطبقي: بروليتاريا، وفلاحين، وبرجوازية.
وكتابات لينين نفسه خلال تلك الفترة تنطوي على جنين توجهاته المركزية التي افترشت الأرضية لتطوره النظري المقبل؛ حيث الموقف الصارم من البرجوازية الليبرالية، وقيادة البروليتاريا للفلاحين، والتحالف بين البروليتاريا في البلدان الصناعية مع حركات التحرر في البلدان المستعمرة، والتي كانت بالأساس حركات فلاحية. فباعتبارهم برجوازيين صغار، يتردد الفلاحون بين البروليتاريا والبرجوازية؛ فهم ثوريون طالما يكافحون ضد الإقطاع والإمبريالية، ورجعيون بقدر تشبثهم بالملكية الخاصة الصغيرة. وعلى البروليتاريا أن تسعى للتحالف مع الفلاحين، وفي نفس الوقت أن تبقى مستقلة عنهم.. عليها قيادتهم دون الذوبان فيهم، دون الانسياق وراء ترددهم ومراوحتهم. ووفقاً لرؤية لينين، فقد امتزجت الماركسية الآتية من الغرب بالتقاليد الروسية في النضال الثوري الذي شنه النارودنيون.
كتب ماركس أن “الفلاسفة لم يفعلوا شيئاً غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة، ولكن المهمة تتقوم في تغييره”. أما لينين، فلم يضف إلى هذه المهمة كل نشاطه وصبره، بل أيضاً التراث البطولي للنارودنيين. وبينما كتب أحد أبرز أبطال النارودية، جيليابوف (الذي نظم عملية اغتيال أليكساندر الثاني)، أن “التاريخ يسير ببطء شديد ويحتاج لدفعة إلى الأمام”، كان لينين على استعداد للقيام بذلك. لقد مثّل لينين البروليتاريا الروسية، تلك الطبقة الشابة شديدة القرب من الفلاحين، والتي لا يعوقها الروتين والنزعات المحافظة، طبقة جريئة وجسورة يحيط بها الملايين من الفلاحين المضطهَدين الذين يعانون الجوع والإذلال. وحينما تناضل البروليتاريا من أجل الديمقراطية، فهي لا تناضل فقط من أجل مصالحها، بل بوصفها ممثلة جماهير الشعب، وعلى رأسهم الفلاحون. وبدلاً من النارودنيين الفرادى الذين “ينخرطون وسط الشعب”، لدينا البروليتاريا المدنية التي تقود فلاحي القرى.. هذا ما نتناوله في الفصول القادمة من هذا الكتاب.
من حلقة الدراسة إلى إضراب المصانع
في 31 أغسطس 1893، وصل فلاديمير أوليانوف إلى سان بطرسبورج، وفي خريف نفس العام التحق بحلقة ماركسية لطلاب المعهد التكنولوجي (كرجيجانوفسكي، ورادشينكو، وستاركوف، وكراسين، وآخرين). وكما رأينا، ألقت الشرطة في ربيع 1892 القبض على أعضاء مجموعة بروسنيف في سان بطرسبورج. إلا أن عدداً من أعضاء المجموعة العمال بقوا أحراراً، وثمة منظمة عمالية مفككة استمرت في التواجد. كان أغلبها، إن لم يكن كلها، عمالاً كانت الدراسة هي شغلهم الشاغل؛ فالعمال الذين كانوا ينضموا للحلقات في ذلك الوقت كان لديهم نهم شديد للمعرفة. وصف بليخانوف نوعية العامل المنضم لهذه الحلقات الدراسية (الكراجكي – kruzhki)، قائلاً:
“بعد العمل لمدة تتراوح بين 10 و11 ساعة في اليوم، والعودة إلى المنزل فقط في المساء، كان يجلس جوار كتبه حتى الواحدة بعد منتصف الليل.. أدهشني بشدة تنوع وغزارة الأسئلة النظرية التي شغلت باله.. الاقتصاد السياسي، الكيمياء، القضايا الاجتماعية، نظرية داروين، كل ذلك احتل رأسه واحتكر انتباهه.. ولسوف يستغرق الأمر منه عقوداً حتى يشبع ظمأه الفكري” (1).
“وعندما سألت العمال ماذا يريدون تحديداً من الكتابات الثورية، تلقيت إجابات متنوعة للغاية. في أغلب الأحوال، أراد كلٌ منهم حلاً لتلك المشاكل التي لسبب ما أثارت أسماعي بشكل خاص في ذلك الوقت. كانت تلك المشاكل والقضايا تزداد بغزارة في أذهان العمال، وكلٌ منهم كان له أسئلته المفضلة وفقاً لميوله وسماته الشخصية. أحدهم كان يصب كل اهتمامه على قضية الإله، ورأى أن على الأدب الثوري أن يسخر كل طاقاته بالأساس لتحطيم المعتقدات الدينية لدى الناس. وآخرون اهتموا كثيراً بالقضايا التاريخية والسياسية، أو بالعلوم الطبيعية. ومن بين معارفي بالمصانع، كان هناك أحد العمال الذي كان منجذباً بشدة لقضية المرأة” (2).
حاول قادة إحدى المجموعات الدراسية الاشتراكية للعمال اليهود تنوير العمال في عدد كبير من الموضوعات، وهكذا شرع ليون برنشتاين يعلّم تلامذته “كيف خُلق العالم، الشمس والأرض، والبحار والبراكين”، علاوة على إلقاء المحاضرات عن “حياة البشر بدايةً من القبائل البرية وانتهاءاً بالبرلمان والنقابات الإنجليزية”. وفي حلقة أخرى “من بين المواضيع التي نوقشت كانت نشأة الطبقات الاجتماعية، والعبودية، والقنانة، والرأسمالية. درس أعضاء الحلقات داروين وميل، وقرأوا روائع الأدب الروسي” (3).
كتب أحد المؤرخين للحركة العمالية الروسية في ذلك الوقت، ذاكراً أن:
“هؤلاء العمال قد وجدوا في محو الأمية والتنوير طريقاً للفرار من وضعهم الاجتماعي البائس، لذا استغلوا الفرص التي أتاحتها لهم الحلقات الدراسية. بل أن هناك عدداً من العمال المتميزين لم يجتازوا فقط العناصر الأساسية في التعليم، لكنهم أيضاً أظهروا حرص واهتمام بالغ بالعلم وبالإدراك العلمي للعالم المحيط” (4).
وفي أحد اللقاءات السرية للاحتفال بعيد العمال في 1891، ألقى أحد العمال كلمة لخص فيها بوضوح النهج السائد بين أعضاء حلقته الدراسية:
“في هذا الوقت، الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو تكريس أنفسنا للتثقيف ولمنظمة العمال، تلك المهمة التي آمل أن نكملها برغم تهديدات الحكومة والعقبات التي تضعها أمامنا. ومن أجل أن تؤتي جهودنا ثماراً، علينا أن نبذل ما في وسعنا من أجل تثقيف أنفسنا وتثقيف الآخرين فكرياً وأخلاقياً، لابد أن نعمل في ذلك بأكبر قدر ممكن من الحيوية، كي ينظر إلينا الناس من حولنا كرجال أذكياء وأمناء وشجعان، كي نحوز ثقتهم، وأن يتخذوننا مثالاً لهم وللآخرين” (5).
كانت الكراجكي تستند، من الناحية العملية، إلى نشر الأفكار الماركسية للمضي قدماً في مشروع الثورة.
“هذه الحلقات كان مراداً لها أن تصبح مدارس للاشتراكية، لكن العمال اعتبروها مجرد مدارس، واضعين كافة آمالهم في التعلّم، بينما أبدوا قليلاً من الاهتمام بالمبادئ الثورية. هذا الموقف كان قد عبر عنه أحد عمال فيلنا، الذي صرح في 1892 أن: سوف تعبر بنا المعرفة عبر بحار الخوف والألم إلى بر الحياة” (6).
كانت رؤاهم ملتبسة، تماماً كوجهة نظر سكفورتسوف، الذي كان واحداً من أوائل الماركسيين الروس ومؤسس أول حلقة ماركسية في نيجني نوفوجورود. وصفه أحد تلامذته، ميتسكيفيتش، كما يلي:
“خضنا نقاشات طويلة حول مستقبل الحركة العمالية. كم كنا نتصور الأشكال المستقبلية للحركة العمالية بشكل مجرد وفقاً لوجهات النظر التي رسمها سكفورتسوف: تدريجياً كلما زادت أعداد العمال الذين يدرسون ماركس، كلما دفعوا أعداداً أكبر للالتحاق بحلقات دراسة ماركس، ومع الوقت ستغطي الكراجكي روسيا كلها ومن ثم سنشكل حزب عمالي اشتراكي. لكن المهمات التي تواجه هذا الحزب وكيفية خوضه للمعارك، كلها ظلت أمور غير واضحة” (7).
قامت لائحة القواعد الرسمية لاتحاد العمال الاشتراكي الديمقراطي في إيفانوفو فوزينسينسيك بتعريف عضويته بأنها أولئك “الأفراد الذين يفكرون بشكل نقدي رغبةً منهم في إدراك التقدم في الجنس البشري”، كما حددت الهدف الرئيسي لهم بـ “الدعاية بين العمال الأكثر ثقافة من الجنسين” (8). والأسوأ من ذلك أن الكثيرين من أعضاء الحلقات أصبحوا مغتربين فعلاً عن زملائهم العمال. “نتيجة للتعرض لفترات ممتدة للوجبات الفكرية الدسمة عن العالم الاشتراكي، صار العديد من العمال تقريباً لا يمكن تفريقهم عن الإنتلجنسيا في وجهات النظر، وفي مدى وعمق علمهم” (9).
“العمال المتقدمون، القادمون من أكثر القطاعات العمالية مهارة، صاروا تقريباً على نفس درجة اغتراب الإنتلجنسيا عن العمال العاديين. أصبحوا يتحدثون بلغة أكثر ثقافة كثيراً عن زملائهم، فخورين بمعرفة الكتب، يرتدون ملابس متكلّفة أكثر حتى من المثقفين الديمقراطيين المتنورين. ومنذ أن امتنعوا عن التدخين والكحوليات والسباب، أصبحوا لا يتميزون عن الباشكوفيين (أعضاء طائفة مسلك الكتاب المقدس) وصاروا أكثر عرضة للسخرية من قبل زملائهم. والأكثر إثارة للقلق أنهم صاروا أكثر ميلاً للانعزال عن الإضرابات وغيرها من مظاهر الاحتجاج التي أصبحت متكررة على نحو متزايد” (10).
هؤلاء العمال في الحلقات، كما وصفهم مارتوف، كانوا:
“يرون أنفسهم صاعدين من بين العامة المتأخرين، مؤسسين لبيئة ثقافية جديدة. لكن ذلك كان نصف المشكلة فقط، بينما تكمن المشكلة الحقيقية في أنهم رأوا عملية صعود طبقتهم ككل بشكل مخل في بساطته؛ حيث ظنوا أن ذلك سوف يحدث من خلال انتشار من هذه المعرفة وتلك المفاهيم الأخلاقية التي قد اكتسبوها في الحلقات ومن القراءة. والجدال معهم يجعلك تكتشف أن أسلوب تفكيرهم الاجتماعي مثالي للغاية، وأن اشتراكيتهم مجردة تماماً وطوباوية” (11).
بعض هؤلاء العمال صاروا يتعاملون بنوع من التعالي والاستخفاف تجاه الجماهير، إلى درجة تجعل البعض يقول بأنهم لم يكونوا جديرين بتعلم الاشتراكية. كانت الحلقات تعني بالنسبة للكثيرين “وسيلة لاكتساب المعرفة وللفرار الفردي من المناخ الكئيب الذي عاشت فيه الجماهير العمالية” (12).
نحو التحريض
دفعت مجاعة 1891 بليخانوف لأن يحاول، بالرغم من الفشل الذي مُني به، البدء في فصل جديد في الحركة الماركسية؛ أن يحاول الانتقال من عمل الحلقات إلى التحريض الجماهيري. وفي كراسه “حول مهمات الاشتراكيين في ظل المجاعة في روسيا”، جادل بليخانوف بأن على الماركسيين أن يواصلوا نشاطهم التثقيفي للبروليتاريا على مستويين، الدعاية والتحريض، ثم أوضح أن “يمكن أن ترضى فرقة ما بالدعاية، بالمعنى الضيق للكلمة، لكن الأمر غير ممكن بالنسبة للحزب السياسي.. يقدم الدعاوي أفكاراً كثيرة لشخص أو مجموعة صغيرة من الأشخاص، بينما يقدم المحرض فكرة واحدة أو عدد محدود من الأفكار لجماهير من الناس.. إلا أن التاريخ تصنعه الجماهير” (13).
باختصار، بدلاً من تقييد أنفسهم بـ “منظمة حلقات العمال الاشتراكية”، على الثوريين أن يحاولوا التحرك للخارج وأن يثيروا الحنق الجماهيري على أساس شعارات سياسية أو “اقتصادية”، مثل مطلب ثمان ساعات عمل في اليوم. فمطالب مثل هذه من شأنها أن تجذب كافة العمال للحركة الاشتراكية. “وهكذا فإن جميع العمال، بما يشمل أكثرهم تأخراً، سوف يقتنعون بأن تحقيق بعض الإجراءات الاشتراكية، على الأقل، لهو أمر ذو قيمة للطبقة العاملة. وهذه الإصلاحات الاقتصادية مثل تقليص يوم العمل هي مطالب جيدة على الأقل لأنها تحقق مكاسب مباشرة للعمال”. ودور الحزب هو “صياغة مطالب اقتصادية مناسبة للحظة الراهنة” (14).
إلا أن نداء بليخانوف لم يتردد صداه بين العمال الروس، على الرغم من الاستجابة التي أبداها العمال اليهود الذين يعيشون في الجانب الغربي من الإمبراطورية الروسية؛ في بولندا. وبشكل عام، كانت الحركة الاشتراكية في بولندا متقدمة كثيراً عنها في روسيا. وكما طرح المؤرخ السوفييتي إس. إن. فالك، فإن “الحركة الاشتراكية في بولندا، منذ بدايتها، كانت حركة عمالية وجماهيرية أيضاً، على العكس تماماً من الحركة الاشتراكية الثورية الروسية التي كانت فيها الإنتلجنسيا وحلقاتها هي اللاعب الأساسي” (15). في مايو 1891، كانت هناك موجة من الإضرابات التي اجتاحت المدن البولندية، تلك الموجة التي وصلت إلى أقصاها في العام التالي بإضراب عام في مدينة لودز.
أما الاشتراكيون اليهود، فقد كانوا أكثر نجاحاً في تنظيم عملية التحريض؛ ففي المناطق ذات الكثافة اليهودية بين السكان، لم تكن الإضرابات تتوقف، بل ووصلت إلى إحدى نقاط ذروتها في 1895 حيث إضراب بمصنع للنسيج في بياليستوك كان يضم حوالي 15 ألف عاملاً. وفي الحقيقة كان العمال اليهود يتصدرون العمال الروس على صعيد التنظيم النقابي. وبينما كان، لاحقاً في 1907، فقط 7% من عمال بطرسبورج منظمين في النقابات (16)، كان 20% من العمال اليهود في بياليستوك، عام 1900، منظمين في النقابات، و24% في فيلنا، و40% في جوميل، وبين 25 إلى 40% في منسيك (17).
وبالتالي فليس من المدهش أن يلقى نداء بليخانوف الاستجابة العملية الأولى من قبل الاشتراكيين اليهود، الذين نظموا أنفسهم فيما بعد في “البوند” اليهودي. في 1894، كتب العضو القيادي بمنظمة اليهود الاشتراكية، أ. كريمر، بالتعاون مع مارتوف، كراس بعنوان “حول التحريض”. استنكر الكراس بشدة انهماك أعضاء الحلقات الماركسية في “تحصين أنفسهم”. و”على وجه التحديد، يؤيد العمال الاشتراكيون الديمقراطيون أن عذا الانهماك الشديد في الحلقات الدعوية الذي نستنكره إنما هو عديم النفع”. وجادل الكراس بأن “العمال يمزجون المعرفة النظرية بطريقة خاصة في الحياة الحقيقية وفي الظروف المحيطة.. لكن كفاح العمال من أجل المعرفة وتشدقهم بها للفرار من الظلام، كان يتم استغلاله بغرض دس تعميمات ومبادئ الاشتراكية العلمية في رؤوسهم” (18).
لم نكن المهمة تكمن في خلق صف من العمال المثقفين المغتربين عن الطبقة العاملة، بل في تدريب محرضين ثوريين، وجماهير العمال لا يمكن تثقيفهم بالاشتراكية من خلال النشاط الثقافي المجرد. “الجماهير العريضة تندفع في النضال ليس بالاعتبارات الثقافية، لكن من خلال المجرب الحي للأحداث” (19).
“النضال الاقتصادي.. يعلّم العامل النهوض من أجل مصالحه، يثري شجاعته، ويعطيه ثقة كبيرة في قوته ووعيه بأهمية الوحدة، ويضع أمامه مهمات أكبر وأكثر أهمية تحتاج حلولاً. وفي استعدادها لنضال أكثر جدية وحسماً، تمسك الطبقة العاملة في طريقها بزمام هذه القضايا الحيوية. والنضال الطبقي في هذا الشكل الأكثر وعياً يمهد الأرض للتحريض السياسي الذي يهدف بدوره لتغيير الظروف السياسية السائدة واستبدالها لمصلحة الطبقة العاملة” (20).
من أجل إدراك القضية القادرة على دفع العمال للنضال، من الضروري فهم مظاهر الاستغلال الأكثر إثارة لمصالحهم، من الضروري اختيار اللحظة المناسبة للبدء، ومعرفة أساليب النضال المؤثرة في الظرف الراهن من الزمان والمكان. وكل ذلك يقتضي من المحرض أن يكون على صلة لصيقة بالجماهير العمالية، بحيث يستطيع تتبع كافة التطورات في هذا الفرع الصناعي أو ذاك. في كل مصنع هناك أعداداً لا حصر لها من مظاهر الاستغلال، ويكون العامل مهتماً حتى بأكثر التفاصيل دقة، ومهمة المحرض الحقيقية هي تحديد الوقت المناسب لتقديم المطلب وطرحه أمام العمال.. الإلمام بظروف الحياة، والمعرفة الدقيقة بمشاعر الجماهير.. ذلك سيجعله قائدهم الطبيعي” (21).
ودور الاشتراكيين كقادة للجماهير يُعرّف كالتالي:
“تتجسد إحدى مهمات الاشتراكيين الديمقراطيين في التحريض الثابت بين عمال المصانع على أساس احتياجاتهم اليومية ومطالبهم.. ومن الواضح أن وجهة النظر الاشتراكية الديمقراطية للمحرض سوف تحدد المسار الذي الذي يقود الجموع فيه. عليه دائماً أن يسبق الجماهير بخطوة، عليه أن ينير النضال الذين هم بصدده، وأن يوضح لهم من وجهة نظر أعم استحالة التوفيق بين مصالحهم ومصالح أرباب عملهم، وهكذا عليه أن يوسع آفاق الجماهير” (22).
تضمن كراس “حول التحريض” نظرية ميكانيكية للعلاقة بين النضال المصنعي، النضال ضد أصحاب العمل، والنضال السياسي ضد القيصرية، نظرية مبنية على منطق “المراحل”. في السنوات اللاحقة، ستصبح تلك النظرية بمثابة حجر الزاوية الذي تنشأ عليه “الاقتصادوية” التي ندد بها لينين بعنف. وهكذا يذكر لكراس أن:
“إذا توقفت الاشتراكية الديمقراطية عن طرح المهمات العريضة أمام الجماهير، لن يكون عليها سوى أن تترك الأمر برمته لخبرة النضال نفسه لكي يجعل المواجهة مباشرة، ليس مع أرباب العمل الفرادى، لكن مع الطبقة البرجوازية بكليتها، وسلطة الحكومة التي تقف من ورائها، وبناءاً على هذه الخبرة سيتوسع التحريض ويتعمق” (23).
أما رد فعل أعضاء الحلقات على “حول التحريض”، فقد كان في كثير من الأحيان معادياً للغاية. وقد لاحظ مارتوف أن مندوبي الحلقات الاشتراكية الديمقراطية القادمين من كييف وخاركوف في زيارتهم لفيلنا، جادلوا ضد تبني منطق التحريض. جادل أحدهم بأن ذلك سوف يؤدي إلى “خرق النظام التآمري المحكم الذي استغرق بناؤه سنوات والذي يعتمد عليه كل نظام الدعاية الحلقية”. واعترض آخر على التحريض باعتباره “يتعامل فقط مع قشرة الوعي البروليتاري، بينما تكمن مهمة الاشتراكية الديمقراطية في تدريب طليعة العمال الواعين طبقياً ليصبحوا عمالاً ماركسيين متماسكين” (24).
يقتبس أكيموف الكلمات التالية من أحد العمال الأعضاء في الحلقات الذي قال ذات مرة: “المنشورات والأوراق مضيعة للوقت بكل المقاييس. ما الذ ستقوله في ورقة واحدة؟ يجب أن نعطي للعامل كتاباً وليس ورقة. يجب أن يتعلم، يجب أن ينخرط في الحلقات” (25).
ويواصل رفيق آخر من كييف الحديث، ذاكراً ما يلي:
“ذهبت لرؤية امرأة عاملة ووجدتها غارقة في دموعها. ولما سألتها عما يبكيها، ردت بأن بعض من أصدقائها، الأعضاء السابقين في إحدى الحلقات العمالية، قد قاموا بزيارتها ووبخوها بشدة على إلقائها الخطب على العمال دون تلقي التدريب الكافي في الحلقة، قالت: يبدو أنهم ينظرون لي باعتباري محرضة.. قالوا لي أن عليّ أن أدرس جيداً قبل أن أقول شيئاً للناس” (26).
وفي كراس لعامل يُدعى إبرام جوردون بعنوان “رسالة إلى المثقفين” كان يُذكّر المثقفين بواجبهم في خدمة العمال وليس لاستخدامهم كـ “وقود للمدافع”. وها هو أيضاً يستنكر التحريض باعتباره وسيلة لتجاهل العمال والإبقاء عليهم معتمدين كلياً على القادة المثقفين ذوي الأصول البرجوازية (27).
وفي انتقاده لهذه المواقف، اعتبر أكيموف أن هؤلاء العمال قد:
“فشلوا في فهم ضرورة هذا التغيير في التكتيكات. لقد بدا لهم أن التخلي عن النشاط الدعوي في الحلقات العمالية يعني توقف الانتلجنسيا عن الاضطلاع بدورها الثقافي، حيث أن الأخيرين كانوا يسعون لاستغلال الحركة اللا واعية للجماهير، واعتبروا العمال مجرد “وقود للمدافع”. بالتأكيد أثبت العمال المنتمون للحلقات أنهم أقل ديمقراطية من الثوريين المنحدرين من الانتلجنسيا. لقد أحسوا بمكانتهم فوق الجماهير وليس معهم” (28).
وجد الكثيرون من أعضاء الحلقات “صعوبة في تقبل فكرة أنه بدلاً من تكريس الوقت من أجل أن يجعلوا أنفسهم “يفكرون بشكل نقدي”، عليهم أن يلتقطوا الأشخاص ذوي المواهب التحريضية وأن يزودوهم على الأقل بالحد الأدنى من المعرفة الضرورية للتأثير على الجماهير” (29).
لكن على الرغم من المعارضة الضارية داخل الحلقات، إلا أن التحريض قد صنع لنفسه جذوراً ونحى ذلك التوجه الحلقي جانباً، وفي أبريل 1894 وصل كراس “حول التحريض” إلى موسكو حيث تم نسخه وإرساله إلى مجموعات اشتراكية ديمقراطية أخرى في أنحاء روسيا. وفي 1897، أعادت مجموعة تحرير العمل طبعه في جينيف، بمقدمة جديدة كتبها أكسيلورد، وتم توزيعه على نطاق واسع.
بليخانوف يفشل في الاختبار
فشلت نسبة كبيرة من العمال أعضاء الحلقات، ربما أغلبهم، في عملية الانتقال إلى التحريض. وعلى الرغم من أن بليخانوف كان أول من دعا في 1891 إلى اتخاذ خطوات نحو تبني التحريض، إلا أنه ومجموعة تحرير العمل، لم يحركوا ساكناً عندما أصبح الأمر على المحك العملي.
في 1892، قدم الشاب الماركسي المثقف من سان بطرسبورج، يُدعى أ. فودن، لزيارة بليخانوف لينقل إليه توصية مجموعة بروسنيف بتجهيز تثقيف شعبي للعمال. لكن رد بليخانوف جاء محبطاً بأنه من الواضح أن هؤلاء العمال الشبان “يفتقرون إلى الرغبة في تعلّم كيف يفكر الماركسيون”، وبدا الأمر بالنسبة لفودن وكأن بليخانوف يتحدث “بقدر كبير من الغيظ المتراكم لفترة طويلة” (30). كان هناك ما لا يقل عن ست محاولات في ذلك الأمر، وكلها تسببت في شجارات عنيدة. وصفت روساليا ماركوفنا، زوجة بليخانوف، انزعاجه الشديد بـ”الفظاظة والفجاجة والغرور.. من أشباه لاسال المحليين” الذين، بحسب كلمات بليخانوف نفسه “أتوا لمناطحتنا” (31).
وفي 1897، أُرسل توتشابسكي إلى سويسرا ليطلب من بليخانوف وأكسيلورد أن يكتبا سلسلة من كراسات الدعاية الشعبية للعمال الروس، لكنهما رفضا الطلب على الفور بزعم أنه ليس هناك أي وقت من أجل مثل تلك المهمات (32).
إلا أن مجموعة بليخانوف، قبل ذلك بعام واحد، كانت قد وافقت على إصدار مجلة “الملحق العمالي” لتكريسها في المقام الأول لأخبار الحركة العمالية في روسيا. لكن على الرغم من ذلك، رفض بليخانوف الانخراط في عمل المجلة، فيما أبدا كلٌ من فيرا زاسوليتش وأكسيلورد امتعاضهما تجاه تولي هذه المهمة. وفي خطاب في أواخر 1896، عبرت فيرا زاسوليتش عن استيائها الشديد واشتكت أنها “بدأت بالفعل في التمرد” عندما وقعت عيناها على تلك “العبارات التي لا يمكن تصديق درجة بؤسها” في المقالات المُقدَمة لـ”الملحق العمالي” (33). فيما كتب أكسيلورد أنه “بالطبع من الممكن نشر مثل هذه النصوص الكاريكاتورية، لكن بدوني” (34). وبعد عامين، كتب إلى بليخانوف أن هو وزاسوليتش كانا “حريصين على التهرب من تحرير هذه الإصدارات التي تعج بالجهل” (35).
ولعل أكثر ما يدل على انعدام الحماس لهذا المشروع هو مضيّ أكثر من نصف عام بين اتخاذ القرار والظهور الأول لمجلة “الملحق العمالي”، علاوة على إصدار عدد واحد فقط من المجلة في الفترة بين نوفمبر 1896 ونوفمبر 1897.
أما الفجوة بين التأييد النظري من جانب مجموعة تحرير العمل للتوجه نحو التحريض الجماهيري، وضعف إرادتها في تنفيذ ذلك عملياً، فيمكن تفسيره بضيق أفق الفرص الثورية في الفترة في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، تلك الفترة التي نشأت فيها المجموعة. وبكل صراحة، أشارت فيرا زاسوليتش إلى تلك الفجوة بين المجموعة والنشاط التحريضي الجديد والمتصاعد في روسيا، فكتبت إلى بليخانوف: “لعله ليس من الواضح لك أننا لا يمكننا العمل مع شخص من هذا النوع في منظمة واحدة. وهذا ليس بسبب أنه سيء أو عديم النفع، لكن الأمر يتعلق ببساطة بالاختلاف في السنين وفي الفهم وفي المزاج والميول” (36). وبعد أسابيع قليلة، كتبت مجدداً:
“من الناحية العملية، يقف ضدنا كل الشباب المهاجرين بلا استثناء، متحدين مع العناصر الطلابية المنخرطين في العمل أو الذين يبدأون لتوهم جدياً فيه. إنهم يشعّون طاقة جبارة، ويشعرون أن روسيا برمتها خلف ظهورهم.. ليس بمقدورنا تفعيل الأمور، أن نبني أدباً عمالياً، وليس بإمكاننا إصدار أدبيات للعمال ترضي متطلبات الروس. ويبدو للجميع أننا نعيق من يستطيع فعل ذلك.. إنهم متعطشون لهذا النوع من النشاط، لكن ليس بتوجيه منا.
أنا أقر بأن تحريرنا للأدبيات العمالية لم يكن رائعاً وأن علينا أن نعطي لمن ينتقدوننا الفرصة لأن يجربوا بأنفسهم” (37).
لينين.. محرّض عمالي
لقد كيّف لينين نفسه على نحو كامل مع احتياجات التحريض المصنعي. وبعكس ما يروّجه المؤرخون وكُتاب السيرة الرسميون، لم يكن يستنكر في سنوات 96 – 1894 ما قدمه “حول التحريض” من أفكار باعتبارها أحادية الجانب أو ميكانيكية أو “اقتصادوية”، بل لقد توافقت كتاباته في تلك الفترة تماماً مع التوجهات التي طرحها الكراس.
وفي محبسه، كتب لينين مسودة لبرنامج الاشتراكيين الديمقراطيين في 1895، تلك الوثيقة التي تم تهريبها من السجن ومن ثم فُقدت لتُكتشف فقط بعد الثورة. كان ذلك عملاً مثيراً للانتباه، ملخصاً وجهة نظر لينين بوضوح تجاه “حول التحريض”:
“إن انتقال العمال للنضال الراسخ من أجل احتياجاتهم الحيوية، والكفاح من أجل مصالحهم، لتحسين ظروف الحياة، والأجور، وساعات العمل، هذا النضال الذي بدأ لتوه في كافة ربوع روسيا، يعني أن العمال الروس يخطون خطىً هائلة إلى الأمام، ولذلك ينبغي أن ينصب كل اهتمام الحزب الاشتراكي الديمقراطي وكافة العمال الواعين طبقياً بشكل أساسي على هذا النضال، وعلى تطويره” (38).
أوضح لينين أن النضال الاقتصادي يكشف أمام العامل طبيعة عملية الاستغلال الاقتصادي، ومن زاوية أخرى يجعله مشبعاً بالروح النضالية، ويطوّر وعيه السياسي. والوعي الطبقي، بما يشمل الوعي السياسي، يتبلور تلقائياً خلال النضال الاقتصادي.
إن الوعي الطبقي لدى العمال يعني أنهم يدركون جيداً أن الطريق الوحيد لتحسين شروط حياتهم ولإنجاز تحررهم هو شن النضال ضد طبقة الرأسماليين وملاك المصانع ككل، بل يعني أيضاً أنهم يدركون أن مصالح العمال هي مصالح موحدة، وأنهم يمثلون سوياً طبقة واحدة مستقلة عن كافة الطبقات الأخرى في المجتمع. وفي النهاية يعني أن العمال يدركون أن تحقيق أهدافهم يقتضي النضال ضد الدولة، كما كان الأمر بين الإقطاعيين والرأسماليين.
لكن يصل العمال إلى إدراك كل ذلك؟ إنهم يدركون ذلك من خلال ما يجنون من خبرات من نضالهم الذين يشنونه ضد أصحاب العمل، ذلك النضال الذي يتطور ويصير أكثر حدة ويشمل أعداداً أكبر من العمال كلما نمت الصناعات الكبيرة وانتشرت.
“إن ظروف حياة جماهير الشعب العامل تضعهم في هذا المأزق بحيث لا يتوفر لهم الوقت ولا الفرصة للتفكير ملياً في مشاكل الدولة. لكن من زاوية أخرى، فإن نضال العمال ضد أرباب المصانع من أجل احتياجاتهم ومطالبهم اليومية يدفعهم تلقائياً وحتمياً نحو التفكير في الدولة، وفي القضايا السياسية، كيف تحكم الدولة، وكيف توضع القوانين والتشريعات، وما هي المصالح التي تخدمها؟ إن أي صدام في المصنع يضع العمال بالضرورة في صراع مع القوانين وممثلي سلطة الدولة” (39).
واصل لينين هذا المسار في التفكير بشكل متماسك في كافة الأوراق والكراسات التي كتبها بين عامي 1894 و1896. وخطوة بعد خطوة، يصل القارئ لاستنتاجات سياسية لم تكن أصلاً مذكورة بشكل مباشر. وهكذا مثلاً فإن كراس “شرح قانون الغرامات المفروض على عمال المصانع”، الذي كتبه في السجن عام 1895، يذكر أن العمال:
“الحكومة وموظفيها يقفون إلى جانب ملاك المصانع، وأن هذه القوانين مصممة بطريقة تجعل من السهل على رب العمل أن يضطهد العامل.. وبمجرد أن يدركوا ذلك، سيرى العمال أن الطريقة الوحيدة المتبقية للدفاع عن أنفسهم هي الانضمام لقوى النضال ضد أصحاب المصانع والممارسات غير العادلة التي يقر بها القانون” (40).
كان خطاب لينين في ذلك الوقت معتدلاً بدرجة كبيرة، وعلى سبيل المثال، ركزت ورقته “عمال وعاملات مصنع ثورنتون” فقط على القضايا الاقتصادية، فيما لم تقدم أي إشارة لأي شأن سياسي، واختتمت بنغمة معتدلة للغاية: “خلال المطالبة بهذه المطالب، نحن لا نتمرد على الإطلاق أيها الرفاق، بل إننا فقط نطالب بإعطائنا ما يتمتع به كافة عمال المصانع الأخرى بالقانون، نطالب بعودة ما أخذه منا أولئك الذين يضعون آمالهم على عجزنا عن انتزاع حقنا” (41).
في نوفمبر 1895، في مقالة بعنوان “بم يفكر وزراؤنا؟”، ألحّ لينين على استبعاد القيصر من المجادلة، وبدلاً من ذلك أخذ يتحدث عن القوانين التي تجعل الأفضلية لأرباب العمل وعن الوزراء المعادين للطبقة العاملة. كان القيصر في ذلك الوقت لا يزال يمثل بالنسبة للعمال والفلاحين “أباً” لهم، وقد ذكرت أخت عنه أنه قال ذات مرة أنه “بالطبع إذا تحدثنا ضد القيصر وضد النظام الاجتماعي القائم، فإننا بذلك سنستعدي العمال” (42).
في أواخر عام 1894، قابل لينين مع رفيقه كرجيجانوفسكي كلاً من جريشين كوبليزون ونيكيتين سبونتي ولياخوفسكي، الذين كانوا يعملون في الحلقات الماركسية في فيلنا وموسكو وكييف، على التوالي، والذين كان لهم الخبرة الأكبر من حركة الإضراب في فيلنا. اتفق الاجتماع على الأطروحات الأساسية المُقدَمة في كراس “حول التحريض”، وفي 1895 أنشأ لينين ومارتوف وكرجيجانوفسكي وآخرون في بطرسبورج جماعة النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة. تشكلت الجماعة بالأساس من حوالي 20 عضو من المثقفين والعمال، وقد لعبت دوراً محورياً في بدء التحريض الاشتراكي الديمقراطي في أوساط الطبقة العاملة في بطرسبورج، منذ بداية تشكيلها لم تفك الماركسية يوماً ارتباطها بعمال بطرسبورج. كان مارتوف ولينين هما أكثر القادة خبرة وعلماً في الجماعة، وتركز نشاطهما بشكل أساسي في إصدار أوراق المصانع. وخلال إعداده تلك الأوراق، تلقى لينين مساعدةً هائلة من قبل ناديجدا كونستانتينوفنا كروبسكايا، تلك المناضلة الشابة التي قابلها لينين في 1894 وتزوجا بعد ذلك ببضع سنوات.
في 1890، انضمت كروبسكايا لحلقة بروسنيف، وعلى مدار خمس سنوات (96 – 1891) ألقت محاضرات التثقيف فيما أطلق عليه “مدرسة مساء الأحد” في ضواحي بطرسبورج العمالية. على مدار تلك السنوات كانت تعلّم العمال علم الحساب والتاريخ والأدب الروسي، وانتقلت بهم من مستوى الأمية إلى مرحلة متقدمة نسبياً. وفرت المدرسة صلة مباشرة بالكثير من العمال الجادين، مما جذب انتباه الشابة كروبسكايا والمحاضرين الماركسيين الآخرين في نفس المدرسة. كان هناك أيضاً أليكساندرا كالميكوفا، التي كانت تعمل ناشرة وتملك مكتبة شعبية عملت في سنوات لاحقة على تمويل جريدة لينين الأولى في الهجرة، الإيسكرا، وليديا كنيبوفيتش، التي أصبحت فيما بعد منظمة سرية لتوزيع نفس الجريدة، وأيضاً إيلينا ستاسوفا، التي خلفت كروبسكايا كسكرتيرة للحزب في 1917. أسس المحاضرون الماركسيون لهذه المدرسة حلقة سرية لتنسيق نشاطهم وحركتهم.
“أبدى العمال ثقة غير محدودة في “رفيقات المدرسة”. وهكذا يأتي ذلك الحارس من جروموف، الذي اعتادوا عليه مجتهماً دائماً، إلى أستاذته ليخبرها بوجه مشرق أنه رُزق بطفل.. وإحدى عاملات النسيج ذات الجرأة والبلاغة في الخطابة تطلب منها أن تعلمها القراءة والكتابة.. ويكتب لها أحد العمال المسيحيين، الذي قضى حياته في عبادة الرب، برضا تام، أنه تعلم أيام الأحد من روداكوف (تلميذ آخر) أن الرب ليس موجوداً على الإطلاق” (43).
كان المدرسة تمثل مجالاً لتجنيد العمال الثوريين:
“كان العمال المنتمون لمنظمتنا يذهبون إلى المدرسة لملاحظة الحضور وتحديد من يمكن أن ينضم إلى الحلقات أو أن ينخرط في الحركة ” (44).
كانت كروبسكايا تتحدث ببساطة مع تلامذتها من العمال، كما لعبت دوراً محورياً في تنظيم عملية توزيع الأوراق والمنشورات في المصانع، وفي جمع المعلومات عن أحوال المصانع، تلك المعلومات التي كان يتم الاستعانة بها في هذه الأوراق والمنشورات. ومن أجل جمع المعلومات المطلوبة، كان يتم توزيع عدد من الاستبيانات على كل عامل. كتب العامل إيفان بابوشكين: “كنا نتلقى قوائم من الأسئلة التي كنا نجيب عليها بوصف دقيق لظروف العمل داخل المصنع. كنت دوماً أحتفظ بدفتر من الأوراق، داخل صندوق الأدوات الخاص بي، أدوّن فيه ملاحظاتي، وكنت أسجل الأجور اليومية للعمال في ورش المصنع بشكل لا يلحظه أحد” (45).
وفي هذا الصدد، كتب لينين:
“أتذكر جيداً “تجربتي الأولى” التي لا أتمنى أن تتكرر مرة أخرى. لقد قضيت أسابيع عدة أتحدث مع أحد العمال الذي كان يأتي كثيراً لزيارتي، أحاول الحصول منه على معلومات تخص ظروف العمل في المصنع الهائل الذي يعمل به. صحيح أني نجحت في جمع مادة معقولة عن هذا المصنع “الوحيد”، لكن في نهاية الحوار مسح العامل العرق على جبينه، وقال مبتسماً: من الأسهل لي أن أعمل وقتاً إضافياً في المصنع من أن أجيب على أسئلتك” (46).
كانت تلك المعلومات يتم تحريرها وتُكتب في أوراق يتم توزيعها على العمال في المصانع. تناولت تلك الأوراق قضايا ملموسة يفهمها كل عامل.
قضى لينين شهوراً في دراسة تشريعات العمل من أجل أن يوضح التناقض بين القوانين والظروف السائدة في المصانع، ومن أجل أن يصيغ المطالب التي يجب أن يتوجه بها العمال إلى الإدارة. كتبت كروبسكايا:
“كان فلاديمير إيليتش مهتماً بأدق تفاصيل حياة العمال وظروف عملهم، وكان يسعى دائماً للإلمام بحياة العامل كلها. كان يريد أن يجد الطريقة الأفضل التي يمكن أن تصل بها الدعاية الثورية للعامل. في حين كان أغلب مثقفي تلك الأيام يسيئون فهم العمال؛ فكان يأتي بعضهم إلى الحلقة ويلقي محاضرة على العمال.
أتذكر على سبيل المثال كيف جُمعت المادة حول مصنع ثرونتون. تقرر أن أرسل لأحد تلامذتي، يُدعى كروليكوف يعمل بقسم الفرز في هذا المصنع، وقد تم ترحيله من بطرسبورج. كان ذلك من أجل جمع بعض المعلومات وفقاً لخطة عمل أعدها فلاديمير إيليتش. وصل كروليكوف مرتدياً معطف من الفرو استعاره من أحد أصدقائه، وأحضر معه كراس كامل مليئاً بالمعلومات التي استكملها بعد ذلك شفهياً. كانت المادة قيّمة للغاية، وكان إيليتش يعود إليها مراراً وتكراراً. بعد ذلك أمسكت أنا وأبوليناريا أليكساندروفنا يعقوبوفا بالمناديل في أيدينا كي نبدو كالعاملات، وذهبنا بأنفسنا إلى مساكن عمال ثرونتون، كانت ظروف الحياة مروّعة. وكتب فلاديمير إيليتش خطاباته وأوراقه مستخدماً المعلومات التي جُمعت. وبفحص تلك الأوراق المكتوبة خصيصاً لعمال وعاملات ثرونتون، يمكنك أن تلاحظ على الفور المعرفة الدقيقة والتفصيلية بحياتهم وظروف عملهم. لقد قد إيليتش بذلك درساً يحتذي به كل الرفاق، لقد تعلمنا ضرورة الاعتناء بالتفاصيل، تلك التفاصيل التي أصبحت محفورة في أذهاننا” (48).
وربما يمكننا الإلمام بقدر التحريض العملي الذي احتوته تلك الأوراق من خلال إعادة جمع ما ذكرته كروبسكايا عما كتبه لينين: “أتذكر الورقة الأولى التي كتبها فلاديمير إيليتش لعمال مصانع سيميانيكوف. لم يكن لدينا آنذاك أية أدوات تقنية تجعل مهمتنا أسهل. نُسخت الورقة بخط اليد وقام بابوشكين بتوزيعها. ومن إجمالي أربعة نسخ، وصلت اثنين إلى المراقبين، ودارت النسختين المتبقيتين على العمال يداً بيد” (49).
كان للتحريض المصنعي لحلقة بطرسبورج – لينين ومارتوف ورفاقهما – تأثيراً محدوداً. يصف أحد المؤرخين الوضع كالتالي:
“استخدمت الحلقة آلة النسخ الخاصة بها لإصدار ورقة لينين في 10 نوفمبر 1895، لكن في نفس اليوم عاد عمال النسيج للعمل دون أن أي تنازل من جانب الإدارة. وهكذا فشلت المحاولة الأولى للحلقة في تأجيج نار السخط العمالي.
وبينما كان إضراب عمال ثرونتون سارياً، اندلع إضراب عفوي آخر في مصنع ليفيرم للتبغ في 9 نوفمبر، وبعد أربعة أيام نظم عمال مصنع سكوروخود للأحذية. في هاتين الحالتين، وبناءاً على المعلومات التي قدمها عمال المصنعين المضربَين للمجموعة العمالية المركزية، أعدت حلقة لينين عدد من البيانات التي تلخص مطالب المضربين. لكن تلك المحاولات لم تحظ هي الأخرى بأي تأثير على مجرى الأحداث؛ فالإضرابان كانا قصيرين للغاية ولم تُقدم أية تنازلات تُذكر للعمال. لكن على أي حال، نجحت البيانات في نشر خطاب المنظمة غير الشرعية بين العمال.
الإضراب الوحيد الذي استطاعت الحلقة أن تلعب دوراً مهماً فيه كان في أحد أقسام مصنع بوتيلوف؛ حيث كان زينوفيف، أحد عمال المصنع وممثله في المجموعة العمالية المركزية، قد كتب بياناً لعمال قسم محركات البخار يدعوهم فيه للإضراب. هذا البيان كتبه مارتوف على آلة النسخ، وكانت النتيجة أن نظم العمال إضراباً ليوم واحد في 5 ديسمبر. في حين لم يكن هناك أي تأثير للنداء الذي كتبه مارتوف لعمال الغزل بمصنع كينيج.
وعلى المستوى الإنجازات الحقيقية، كانت محصلة البيانات والنداءات التي أصدرتها الحلقة طوال نوفمبر وبداية ديسمبر تساوي صفر” (50).
في ديسمبر 1895، تم القبض على لينين وخمسة من أعضاء الحلقة، علاوة على آخرين عدة، منهم مارتوف، في بداية العام الجديد. لكن كل ذلك النضال لم يذهب سُدى، وبعد أشهر قليلة اندلع إضراب جماهيري، هو الأول من نوعه في روسيا، تحت راية الاشتراكية الديمقراطية، كان ذلك إضراب عمال النسيج في بطرسبورج في مايو 1896، واضطلع أعضاء الحلقة الناجون من الاعتقال بدور مركزي في هذا الإضراب الضخم. بدأ الإضراب باحتجاج على عدم سداد الأجور المستحقة في للثلاثة أيام احتفال بتتويج القيصر نيقولا الثاني، لكنه تطور إلى نضال من أجل أجور أعلى وساعات عمل أقل، وانتشر كالعدوى لعشرين من أكبر مصانع روسيا التي يعمل بها حوالي 300 ألف عامل. خاض العمال نضالاً دؤوباً لثلاثة أسابيع متتالية من أجل يوم عمل من عشر ساعات ونصف الساعة، وحينما قرروا العودة إلى العمل، فعلوا ذلك دفعة واحدة. لم يكن ذلك الإضراب هو الأكبر في روسيا في ذلك الوقت فقط، بل أيضاً كان الأول الذي يمتد إلى مصانع أخرى. للمرة الأولى في التاريخ الطويل للحركة الثورية في روسيا، يدفع الثوريون الجماهير للحركة والنضال. ومنذ اللحظة، أصبحت الاشتراكية الديمقراطية حركة ذات تأثير.
ويمكن قياس مدى التغير الذي طرأ في روسيا حتى نهاية العام 1895 من خلال قراءة الخطاب السري الذي كان وزير المالية قد أرسله هيئة مفتشي الصناعة في ذلك الوقت: “لحسن الحظ، ليس لدى روسيا طبقة عاملة كما لدى الغرب، وبالتالي لن يكون هناك ثمة مشاكل عمالية، ولا حتى تربة خصبة لنمو مثل هذه المشاكل” (51).
هزيمة في النصر
وبالرغم من النجاح النسبي الذي حققته الحركة الاشتراكية الديمقراطية، إلا أنها أصيبت بأزمة داخلية كبيرة؛ حيث بدأت في الانقسام إلى تيارات “اقتصادوية” و”سياسية”. فمحاولات تصحيح مسار الحلقية – حيث التركيز المفرط على النظرية – أدى إلى النقيض التام من ذلك – الاقتصادوية. كان هذا الخطر كامناً في كراس “حول التحريض”، كما أشار لينين وآخرون بعد فوات الأوان في 1898. وهنا علينا أن نضع في الاعتبار الاستنتاج الذي توصل إليه “حول التحريض”:
“تتمثل مهمة الاشتراكيين الديمقراطيين في التحريض المستمر بين عمال المصانع على أساس المطالب والاحتياجات الصغيرة الموجودة بالفعل. إن النضال المنطلق من التحريض سيمرّس العمال على الدفاع عن مصالحهم، وسيعلي من شجاعتهم، وسيمدهم بالثقة في قدراتهم وبالوعي بضرورة الوحدة، وباختصار سيواجههم بالقضايا الأكثر أهمية التي تتطلب حلولاً. وانطلاقاً من هذا الأساس، الذي سيؤدي إلى نضال أكثر جدية، ستنتقل الطبقة العاملة لمواجهة القضايا الأكثر جوهرية”.
لقد فتحت هذه الصيغة الباب على مصراعيه أمام نظرية المراحل التي ميّزت مستقبل الاقتصادويين، حيث يتسنى على الاشتراكيين التحريض على القضايا الاقتصادية الخالصة، على مستوى المصنع الواحد أولاً، ثم على المطالب بين المصانع المختلفة، وهكذا. ومن ناحية أخرى، من وجهة نظر التحريض الاقتصادي ضيق الأفق، يتعلم العمال، من خلال خبرة النضال نفسه، الحاجة إلى السياسة، دون مساندة من جانب الاشتراكيين للتحريض حول القضايا السياسية والاجتماعية العامة التي تواجه الشعب الروسي ككل. أدى القبض على لينين ومارتوف وآخرين إلى سرعة انتقال مجموعة سان بطرسبورج إلى الاقتصادوية، في حين كان للرفاق الجدد المنضمين للمجموعة ثقل نظري أقل.
كتبت كروبسكايا: “كل شيء سار في اتجاه التحريض. ولم يكن هناك وقت حتى للتفكير في الدعاية.. وقع إضراب عمال النسيج في 1896 تحت تأثير الاشتراكيين الديمقراطيين، وقد حوّل ذلك رؤوس الكثير من الرفاق. وهكذا نشأت القاعدة التي نمت عليها الاقتصادوية” (52).
بعد حوالي 50 عاماً، كتب القيادي المنشفي البارز إف. آي. دان، موضحاً صعود التيار الاقتصادوي في الاشتراكية الديمقراطية الروسية كما يلي:
“في استجابة عاطفية على المذكرات السياسية التي وجدت صداها في التحريض الاقتصادي للمجموعة، اندفع عشرات الآلاف من العمال في الصراع التنظيمي الفعّال لأول مرة، إلا أنهم كانوا يعترفون بالتحرر السياسي فقط باعتباره هدفاً بعيداً و”نهائياً” لحركتهم. بالنسبة لهم، كانت هذه المطالب الاقتصادية تمثل هدفاً عملياً و”آنياً”، يستعدون من أجله للمخاطرة بخوض الإضرابات واحتمالية فقدان أجورهم. وفي هذا الصدد، كان مزاج الشريحة الجديدة من العمال المتقدمين، هذه الشريحة من العمال المثقفين الجدد التي كانت قد بدأت تتبلور في ظل النضال الجماهيري، مختلف جذرياً ليس فقط عن مزاج المثقفين الماركسيين، بل أيضاً عن الجيل الأول من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين الذين أتوا للاشتراكية الديمقراطية ليس بحسب الطريق “العملي” للنضال الاقتصادي، لكن من خلال الطريق “الأيديولوجي” للدعاية في مجموعات صغيرة” (53).
أحد مؤرخي الاشتراكية الديمقراطية الروسية في تلك الفترة وضع الاقتصادويين في المكانة التاريخية التي تناسبهم، حيث كتب:
“تمتد جذور الاقتصادوية بشكل أكبر في الأسلوب التحريضي للعمل الاشتراكي الديمقراطي. والاشتراكيين الذين ابتكروا هذا الأسلوب كشفوا عن اللامبالاة بالعمل بالسياسة، ومن أجل التغلب على ذلك أخذوا يبرهنون على الرابط المزعوم الذي يذوب بين المصالح الاقتصادية والنظام السياسي في البلاد. وبينما يبقى التحريض سياسياً من الناحية النظرية، أصبح من الناحية العملية مقتصراً على الأمور الاقتصادية. وانطلاقاً من التحريض، الذي دفع السياسة إلى الخلف.. لم يحتج الأمر سوى خطوة واحدة نحو الاقتصادوية، التي أخضعت السياسة للاقتصاد كمبدأ لديها. هكذا صعدت الاقتصادوية إلى الوجود في روسيا بين عاميّ 1896 و1897، أثناء نهوض حركة جماهير العمال” (54).
وعلاوة على تأثير الاقتصادوية وما تمثله من تهديد للاشتراكية، كان هناك عاملان لهما أثر بالغ في الحركة العمالية في ذلك الوقت؛ أولهما كان السياسة العمالية للشرطة السرية القيصرية، والعامل الآخر هو صعود التيار التحريفي الذي تزعمه إدوارد برنشتاين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، والذي كان الحزب الاشتراكي الأكثر أهمية في العالم آنذاك.
روّجت الشرطة السرية لفكرة الاقتصادوية كرد فعل على صعود النضال المصنعي في روسيا. كتب الجنرال تريبوف، قائد الشرطة السرية، في 1898:
“إن المطالب والاحتياجات الجزئية للعمال تُستغل من قبل الثوريين من أجل أهدافهم المناهضة للحكومة، اذا يتعين على الحكومة مصادرة هذا السلاح في أقرب وقت ممكن من أيديهم.. على الشرطة أن تلتزم بالاهتمام بنفس الشيء الذي يثير اهتمام الثوريين”.
وبناءاً على هذا المنطق، كما سنرى لاحقاً، نظم قائد الشرطة السرية في موسكو، الكولونيل زوباتوف، نقابات عمالية تحت سيطرة الشرطة، أولاً بين العمال اليهود حيث كان التحريض الاقتصادوي أكثر نجاحاً، ثم في أوساط العمال الروس. وتطور الأمر إلى المنظمة النقابية التي قادها الأب جابون في سان بطرسبورج، و”الأحد الدامي”، وبداية ثورة 1905.
العامل الآخر الذي آذر الاقتصادوية هو التحريفية الألمانية التي أُعلن عنها صراحةً في مؤلف برنشتاين “الشروط المسبقة للاشتراكية ومهام الاشتراكية الديمقراطية”، يناير 1899. الفكرة المركزية تمحورت حول التدريجية، أي مراحل إصلاح الرأسمالية التي تؤدي إلى التحول نحو الاشتراكية. أما تأثير الحزب فسيكون “أكبر كثيراً مما يبدو عليه اليوم إذا تحلت الاشتراكية الديمقراطية بالشجاعة لتحرير نفسها من النصوص العتيقة وناضلت من أجل أن تظهر بما هي عليه الآن في الحقيقة، أي حزب اشتراكي ديمقراطي للإصلاح”. “ما يُشار إليه باعتباره الهدف النهائي للاشتراكية، مهما يكن، لا يعني شيئاً بالنسبة لي. إنها الحركة نفسها هي التي تعني كل شيء”. كان ذلك متوافقاً بشكل كامل مع أفكار الاقتصادويين الروس؛ فالبنسبة لهم أيضاً كانت “الحركة”، حيث تأمين إصلاحات صغيرة متماسكة في الظروف الاقتصادية للعمال، تعني كل شيء. وهكذا سقطت كافة الأهداف السياسية للحركة من اعتبارهم، بما فيها الإطاحة بالقيصرية.
أما حلقة الوصل بين الاقتصادوية والتحريفية البرنشتاينية فقد انعسكت بشكل متماسك في 1899 في وثيقة بعنوان “كريدو – Credo” كتبها دي. كوسكوفا الذي كان حينها عضواً باتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس بالخارج. أعلنت الوثيقة بكل صراحة أن مراجعات برنشتاين تمثل القاعدة النظرية لها، كما أعلنت أن القانون العام لنشاط الطبقة العاملة ينبغي أن يتبع “خط المقاومة الأدنى”. “في روسيا، فإن خط المقاومة الأدنى لن يجنح على الإطلاق إلى النشاط السياسي. وسوف يدفع القمع الهائل نحو الكثير من النقاش حوله، وسوف يركّز الانتباه بشكل كبير على هذه القضية، لكنه لن يدفع إلى النشاط السياسي”. وهكذا فإن “خط المقاومة الأدنى” كان نشاطاً اقتصادياً ضد أرباب العمل ومحاولة لتنظيم النقابات.
“النضال الاقتصادي هو أيضاً شاق، شاق للغاية، لكن من الممكن شنه، وتشنه الجماهير بنفسها في الحقيقة. وبتعلم كيفية التنظيم، والدخول في صراع مستمر مع النظام السياسي في مسار هذا النضال، سيخلق العامل الروسي في النهاية ما يمكن تسميته شكلاً من الحركة العمالية، أي التنظيم أو التنظيمات الملائمة بشكل أفضل للظروف الروسية. في الوقت الراهن، يمكننا القول بكل تأكيد أن حركة الطبقة العاملة الروسية لا تزال في طور الأميبا ولم تكتسب بعد أي شكل محدد. وحركة الإضرابات، التي تسير دون أي شكل تنظيمي، لا يمكن اعتبارها شكلاً متبلوراً للحركة الروسية. أما التنظيمات غير الشرعية فلا تستحق أن نضعها في الاعتبار حتى من الناحية الكمية المجردة (ناهيكم عن مسألة الفائدة منها في ظل الظروف الراهنة).
حسناً، ما الذي يتوجب على الماركسيين الروس أن يفعلوه إذن؟ إن الحديث عن حزب سياسي عمالي مستقل إنما ينتج عن زرع أهداف ومهام غريبة في تربتنا الروسية.
ليس أمام الماركسيين الروس سوى مسار واحد؛ وهو المساندة والمشاركة في النضال الاقتصادي للبروليتاريا، والمشاركة في نشاط المعارضة الليبرالية” (55).
وهكذا، فإن واجب الاشتراكيين يتمثل في دعم العمال في جهودهم لبناء النقابات، والليبرالية البرجوازية في النضال السياسي.
حينما تلقى لينين نسخة من كريدو في منفاه في سيبيريا، سارع بكتابة رد عليه بعنوان “اعتراض من الاشتراكيين الديمقراطيين الروس” (أغسطس 1899). نوقشت المسودة في اجتماع ضم 17 ماركسياً بالمنفى في منطقة مينوسينسك، وقد وافقوا جميعاً عليها. حققت المسودة هدفها بشكل جيد، وجعلت لينين معروفاً في كل الحلقات الاشتراكية الديمقراطية، وكما قال مارتوف بعد ذلك بعدة سنوات، فقد حشدت المسودة المنفيين المبعثرين عبر سيبيريا نحو الماركسية الثورية (56).
شهدت السنوات بين 1883 و1899 التطور المتعرج للماركسيين الروس من الحلقات الدعائية المعزولة عن الطبقة العاملة إلى المنظمة التحريضية التي تحصر نفسها في إطار النضال اليومي للعمال، أي من النظرية الخالصة إلى الممارسة الضيقة. وأوضح الهجوم الحاد للينين على كريدو أن الدمج بين النظرية والممارسة كان ضرورياً للغاية.
“إن البرنشتاينية سيئة السمعة – بالمعنى الذي يفهمه الجمهور العام، ومؤلفي كريدو بوجه خاص – هي محاولة لتضييق أفق النظرية الماركسية، لتحويل حزب العمال الثوري إلى حزب إصلاحي.
وعلى الجانب الآخر، أصبحت الاشتراكية منفصلة عن حركة الطبقة العاملة، ويتلقى العمال الدعم والمساندة لشن النضال الاقتصادي، في حين لا يُفعل أي شيء تقريباً لشرح الأهداف الاشتراكية والمهام السياسية للحركة ككل. على الجانب الآخر، أصبحت الاشتراكية منفصلة عن حركة الطبقة العاملة، في حين يبدأ الاشتراكيون في الحديث أكثر وأكثر عن أن النضال ضد الحكومة يجب أن يُشن بواسطة الإنتلجنسيا إذ أن العمال يحصرون أنفسهم في النضال الاقتصادي” (57).
في مواجهة ذلك، طرح لينين الدمج بين النضالات الاقتصادية والسياسية للطبقة العاملة كما يراه الماركسيون:
“بالنسبة للاشتراكي، يمثل النضال الاقتصادي قاعدة لتنظيم العمال في حزب ثوري، من أجل توطيد وتطوير نضالهم الطبقي ضد النظام الرأسمالي بأكمله. إذا اعتبرنا أن النضال الاقتصادي كاملاً في حد ذاته، لن يكون هناك ثمة شيء اشتراكي فيه.. إنها مهمة السياسي البرجوازي أن “يساند النضال الاقتصادي للبروليتاريا”، بينما مهمة الاشتراكي هي الانخراط في النضال الاقتصادي بغية تعميق الحركة الاشتراكية وانتصار حزب الطبقة العاملة الثوري. مهمة الاشتراكي هي تعميق الدمج الصلب للنضال الاقتصادي والسياسي في النضال الطبقي الواحد لجماهير الطبقة العاملة الاشتراكية.
ينبغي أن يكون النشاط التحريضي بين الجماهير على أوسع نطاق، التحريض الاقتصادي والسياسي، على كافة القضايا الممكنة بناءاً على كافة مظاهر الاضطهاد أياً كان الشكل الذي يتخذه. علينا أن نستخدم هذا التحريض لجذب الأعداد المتزايدة من العمال إلى قواعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الثوري، لتحفيز النضال السياسي.. لتنظيم هذا النضال وتحويله من مظاهره العفوية إلى نضال حزب سياسي واحد. لذا فإن التحريض لابد أن يمثل وسيلة لتوسيع الاحتجاج السياسي والأشكال الأكثر تنظيماً من النضال السياسي. تحريضنا اليوم ضيق للغاية؛ فالقضايا التي يتعرض إليها محدودة للغاية. وبالتالي فإن واجبنا ألا نشرعن هذه الحدود الضيقة، بل أن نسعى لتحرير أنفسنا منها، وأن نوسّع ونعمّق عملنا التحريضي” (58).
أشار لينين إلى أن الجذور التاريخية للإصلاحية إنما تكمن في ضيق أفق كلٍ من الحلقات وردة الفعل عليها. “في بداية نشاطهم، حصر الاشتراكيون الديمقراطيون أنفسهم في العمل داخل حلقات الدعاية، وحينما توجهنا للتحريض لم نكن قادرين على الدوام على كبح أنفسنا من التطرف على النقيض الآخر” (59). كما أشار إلى أن ضيق الأفق التنظيمي، الذي ميز كلاً من مرحلة الحلقات ومرحلة التحريض المصنعي، كان يشجع الاقتصادوية أيضاً:
“بالعمل في ظل عزلة مجموعات العمال المحلية الصغيرة، لم يلتفت الاشتراكيون الديمقراطيون بما فيه الكفاية لضرورة تنظيم حزب ثوري من شأنه أن يدمج بين كافة أنشطة المجموعات المحلية وأن يجعل في الإمكان تنظيم العمل الثوري في مساراته الصحيحة. إن هيمنة العمل المنعزل مرتبط بطبيعة الحال بهيمنة النضال الاقتصادي” (60).
لقد اتخذ الصراع بين الماركسيين الأرثوذكسيين، مثل لينين ومارتوف، والاقتصادويين، شكلاً تنظيمياً كان في انتظار الجدال بين البلاشفة والمناشفة حول التنظيم. لكن على الرغم من ذلك، كان زعيما التيارين المستقبلييَين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لينين ومارتوف، على وفاق في هذه النقطة ضد الاقتصادويين.
بعد انتصار الإضراب في سان بطرسبورج في 1896، طالب العديد من الأعضاء المنضمين للحركة، عمال ومثقفين على السواء، بتحويل التنظيم الذي يشكل الثوريون المحترفون القلب الأساسي له. أوضح الاقتصادويون أن الطابع السياسي والتآمري الطاغي على المجموعة قد نتج عن إعطاء المثقفين الأولوية للنشاط السياسي وافتقارهم إلى فهم الاحتياجات الحقيقية لجماهير العمال. بالتأكيد تقل الحاجة إلى المركزية والتآمر في النشاط الاقتصادي التحريضي. وبالتأكيد أيضاً فإن المنظمة الاقتصادوية لها طابع محلي، فهي تهتم بالمشاكل والقضايا التي تواجه العمال في مصنع واحد، أو على الأكثر في مجموعة من المصانع في منطقة واحدة، ويكفي لها أن تكون منظمة مصنعية أو محلية فضفاضة. كانت المواجهة بين المركزية وضيق الأفق والمحدودية تلك تمثل انعكاساً للانقسام التنظيمي بين السياسيين الثوريين والاقتصادويين. كان من شأن التصور الاقتصادوي أن يُبعد الثوريين المحترفين ويحل محلهم العمال، غير المضطرين لترك مواقع عملهم أو سكنهم التي اعتادوا عليها.
الكثيرون من أعضاء الحلقات، كما رأينا، لم يوجهوا دفتهم نحو التحريض المصنعي، في حين أن القليلين من بين أولئك الذين انجرفوا إليه وقعوا في فخ الاقتصادوية. وأغلب الذين خضعوا لتأثيرات الاقتصادوية كانوا من بين النشطاء الجدد الذين صعدوا من خضم النضال المصنعي نفسه وصولاً لإضراب عمال النسيج في 1896. يعزي القيادي المنشفي دان، في شهادته التي كتبها بعد ذلك الحين بحوالي 50 عاماً، الأمر إلى التطور اللاحق للبلشفية والمنشفية:
“ومن الجدير بالذكر أن أغلبية العناصر الاشتراكية الديمقراطية البارزة في صفوف الطبقة العاملة من “الجيل الأول” الذين عاشوا ليشهدوا ثورتي 1905 و1917 (بابوشكين، وشيلجونوف، وشابوفال، وبوليتاييف، وآخرين) ظهروا من القلب من القواعد البلشفية” (61).
ليّ العصا
كانت سنوات 1896 – 1894 شديدة الأهمية في تطور لينين إلى قيادي عمالي، وعلى حد تعبير كروبسكايا فإن:
“كان عمل لينين خلال فترة بطرسبورج شديد الأهمية، بالرغم من أنه لم يكن ملحوظاً أو ظاهر مادياً، وهو بنفسه يعترف بذلك؛ حيث لم تكن هناك أية نتائج خارجية. لكننا لم نكن مهتمين بالتحركات البطولية، بل بتأسيس صلات لصيقة بالجماهير، بحيث نكون ملتحمين بهم، وأن نتعلم كيف نمثل أفضل التطلعات لديهم، وأن نجعلهم يفهموننا وأن يتبعون قيادتنا. لكن هذه الفترة على وجه التحديد من عمل فلاديمير إيليتش في بطرسبورج هي التي قولبته كقيادي للجماهير العمالية” (62).
على الرغم من التركيز على التحريض المصنعي دون غيره في ذلك الوقت، إلا أن لينين قد أدرك قيمة وأهمية وضرورة هذه المرحلة في تطور الاشتراكية الديمقراطية الروسية، كما أدرك كلاً من الدور التقدمي له والأخطار الكامنة فيه. وهكذا كتب في 9 نوفمبر 1900 خطاباً لبليخانوف ذكر فيه أن:
“التيار الاقتصادوي بطبيعة الحال كان دائماً خطأ، لكنه حديث العهد بينما يبقى هناك تشديداً مفرطاً على التحريض “الاقتصادي” حتى من دون هذا التيار. هذا التيار هو الملازم الشرعي والحتمي لأي خطوة للأمام في ظل ظروف حركتنا التي كانت موجودة في روسيا في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. هذا الوضع شديد الخطورة بحيث ربما لا يمكنك تصوره، وليس في وسعنا توبيخ أولئك الذين تعثروا خلال محاولتهم الخروج من هذا الوضع. وبغرض الخروج من هذا الوضع، كان لابد من بعض الحدود الأساسية والضرورية كي لا يفجر هذا التيار نظرية يربطها بالبرنشتينية، وحينها بالتأكيد يتغير الأمر برمته جذرياً” (63).
هذا الاستعداد لليّ العصا إلى حد بعيد في اتجاه معين، ومن ثم إلى الاتجاه المعاكس، كانت بالتأكيد سمة تَميز بها لينين واحتفظ بها طوال حياته. وكان ذلك واضحاً بالفعل في هذه المرحلة المبكرة من تطوره كقائد ثوري.
في كل مرحلة من مراحل النضال، كان لينين دائم البحث عما اعتبره الحلقة الأساسية في سلسلة التطور، ومن ثم يشدد مراراً وتكراراً على أهمية هذه الحلقة والتي يجب أن تخضع لها كافة الحلقات الأخرى. ثم بعد انتهاء الأمر، يقول: “لقد بالغنا في ذلك، ولوينا العصا أكثر من اللازم”، بينما لم يكن يعني بذلك أنه كان مخطئاً حيال ذلك. ومن أجل الانتصار في المعركة الرئيسية، من الضروري تركيز كافة الطاقات على المهام المتعلقة بها.
إن التطور غير المتكافئ لجوانب مختلفة يجعل من الضروري البحث عن الحلقة الأساسية في كل موقف ملموس. فحينما كان الأمر يتعلق بالحاجة إلى الدراسة، من أجل وضع أسس الحلقات الماركسية الأولى، شدد لينين على الدور المركزي للدراسة. وفي المرحلة التالية، حينما ظهرت الحاجة إلى تجاوز عقلية الحلقات، كان يؤكد كثيراً على أهمية النضال المصنعي. وفي التحول اللاحق للنضال، حينما كان من الضروري تحطيم الاقتصادوية، فعل ذلك بانتقام. كان دائماً يوضح مهام المرحلة بشكل جليّ، ويكرر ذلك مرة بعد أخرى بأبسط وأثقل وأقوى وأذكى العبارات. بعد ذلك يستعيد توازنه، ويقوي العصا ويزيدها صلابة، ثم يلويها مرة أخرى في اتجاه آخر. وإذا كان لهذا الأسلوب مميزات خاصة لتجاوز العقبات التي تواجهها الحركة الجماهيرية، فهو يتضمن أيضاً أخطاراً تنتظر من يستخدم كتابات لينين كمصدر للاقتباس والنسخ في القضايا والمسائل التكتيكية والتنظيمية.. وإذا استُشهد بلينين فيما يتعلق بمسائل تكتيكية أو تنظيمية، فلابد من توضيح القضايا التي تواجه الحركة الجارية بشكل تام.
سمة أخرى للينين، كانت جليّة في مرحلة مبكرة من تطوره، هي موقفه من الأشكال التنظيمية باعتبارها دوماً محددة تاريخياً. لم يتبنَ لينين يوماً مخططات مجردة أو دوجمائية، وكان على الدوام مستعداً لتغيير الهيكل التنظيمي للحزب في كل تطور جديد للصراع الطبقي. فقد كان على قناعة تامة بأنه يتعيّن إخضاع التنظيم للسياسة، ولم يكن هذا يعني بأي حال أن ليس للتنظيم تأثير مستقل على السياسة؛ فثمة علاقة متبادلة بينهما. في أوضاع معينة، لابد أن يُمنح التنظيم الأولوية القصوى.
نحو بناء الحزب
“أعطنا تنظيماً من الثوريين المحترفين، وسوف نقلب روسيا رأساً على عقب” (1).
في مارس 1898، انعقد مؤتمر صغير في منسك حضره فقط تسعة مندوبين اشتراكيين ديمقراطيين من بطرسبورج وموسكو وكييف ومجلة رابوتشايا جازيتا والمنظمة الاشتراكية اليهودية (البوند). فشل المؤتمر في إقرار برنامج أو حتى ورقة صغيرة، ولم ينجز إلا مسودة بيان كتبها بيتر ستروف (أحد قادة “الاقتصادوية” الذي أصبح لاحقاً ليبرالياً، ثم ملكياً)، بالإضافة إلى إقرار فكرة حزب على مستوى قومي، وانتخاب لجنة مركزية من ثلاثة أعضاء. وبعد انتهاء أعمال المؤتمر ببضعة أيام، أُلقي القبض على ثمانية مندوبين من أصل تسعة حضروا المؤتمر، واثنين من أصل ثلاثة أعضاء في اللجنة المركزية (1*).
كان لينين في ذلك الوقت في سيبيريا، وقد اقتنع بعد فشل مؤتمر 1898 بأن بناء حزب على مستوى قومي يقود الاشتراكية الديمقراطية الروسية ويخرجها من أزمتها يتطلب إعداداً وتجهيزاً جاداً ومنظماً. وبعد تفكير دام لعدة شهور في المنفى، توصل لينين إلى فكرة تتلخص في ضرورة إنشاء جريدة قومية وسلسلة من العملاء الخاصين بها والملتفين حولها الذي يعملون على تهريبها عبر الحدود وتوزيعها في المدن والمصانع. توضح تلك الجريدة وتوحد النظرية مع النشاط العملي.
تستدعي كروبسكايا ذكريات تلك الفترة قائلة: “بدأ فلاديمير إيليتش يقضي ليال طويلة ساهراً، حتى بدت عليه النحافة بشكل مفزع. كانت تلك هي الليالي التي فكر فيها في خطته بكل تفاصيلها، وناقشها مع كرجيجانوفسكي، ومعي، وأرسل بها الخطابات إلى مارتوف وبوتريسوف” (3).
الحاجة إلى تعميم النضال
كان الخوف من خطورة صعود “الاقتصادوية” على الحركة، جنباً إلى جنب مع المراجعات الألمانية في النصف الثاني من 1899، هما في الحقيقة العامل الذي دفع لينين مرة أخرى إلى “ليّ العصا” بعيداً عن العفوية والنضال الاقتصادي المتبعثر، باتجاه تنظيم حزب سياسي على المستوى القومي. وفي مقالة بعنوان “مهمتنا الآنية” في نهاية العام 1899، كتب:
“عندما ينخرط العمال في أحد المصانع أو أحد فروع الصناعة في نضال ضد رب العمل أو أرباب العمل، هل يُعتبر هذا نضالاً طبقياً؟ لا، هذا فقط جنين ضعيف له. فنضال العمال يصبح نضالاً طبقياً حين يكون ممثلو الطبقة العاملة المتقدمون واعين بأنفسهم كطبقة عاملة واحدة، ويشنون نضالاً موجهاً ليس فقط ضد أرباب العمل الفرادى، بل ضد كل طبقة الرأسماليين وضد الحكومة التي تدعم تلك الطبقة.. ومهمة الاشتراكيين الديمقراطيين، من خلال تنظيم العمال والاستمرار في الدعاية والتحريض بينهم، هي تحويل نضالهم العفوي ضد مضطهِديهم إلى نضال حزب سياسي محدد من أجل أهداف سياسية واشتراكية محددة. وهذا شيء لا يمكن إنجازه من خلال النشاط المحلي وحده” (4).
لذا ينبغي تجاوز وجهة النظر الاقتصادوية الضيقة في التنظيم:
“إن نقطة الضعف الأساسية، والتي نبذل كل طاقتنا لتجاوزها، إنما تكمن في الطابع “الهاوي” الضيق للعمل المحلي. وبسبب هذا الطابع الهاوي، تبقى مظاهر حركة الطبقة العاملة محصورة في فعاليات محلية تماماً، وتفقد الكثير من تأثيرها وأهميتها كقدوة لمجموع الاشتراكية الديمقراطية الروسية، وكذا أهميتها كمرحلة لكامل الحركة العمالية الروسية” (5).
والاستنتاج من ذلك واضح تماماً:
“تنتشر بذور الاشتراكية الديمقراطية عبر روسيا، والمنشورات – الأشكال البدائية للأدبيات الاشتراكية الديمقراطية – أصبحت معروفة لكافة العمال الروس من بطرسبورج إلى كرانويارسك، ومن القوقاز إلى الأورال. وما ينقص اليوم هو توحيد كل هذا العمل المحلي في عمل حزب واحد.. كفانا هواية! لقد نضجنا بما يكفي من أجل العمل العام، ومن أجل إعداد برنامج حزبي موحد، والنقاش المشترك حول التنظيم وتكتيكات الحزب” (6).
ومن أجل توحيد الاشتراكيين، كانت المهمة المركزية هي إنشاء جريدة لعامة روسيا.
“يتعين علينا ن نعتبر هدفا آنيا خلق جريدة للحزب صادرة بانتظام ووثيقة الارتباط بكل المجموعات المحلية. ونرى نه يجب توجيه نشاط الاشتراكيين-الديمقراطيين بمجمله فى هذا الاتجاه خلال المرحلة القادمة بكاملها. فبدون جريدة من هذا القبيل سيظل عمل المنظمات المحلية “حرفياً” بشكل ضيق. وسيظل بناء الحزب، إن لم تمثله بشكل ملائم جريدة معينة، حبراً على ورق.
لا يمكن لنضال اقتصادى غير موحد بواسطة جريدة مركزية ن يصبح نضالا طبقيا لمجموع البروليتاريا الروسية. ويستحيل خوض النضال السياسى دون قدرة الحزب بكامله على اتخاذ مواقف من كل المسائل السياسية وتوجيه مختلف مظاهر النضال. ولا يمكن تنظيم القوى الثورية وتدريبها وتطوير تقنية العمل الثوري إلا إذا نوقشت تلك المسائل كلها في جريدة مركزية وإذا وضعت بشكل جماعي بعض أشكال وقواعد تنظيم العمل وإذا ضبطت مسئولية كل عضو بالحزب أمام الحزب بواسطة جريدة مركزية” (7). (لينين – مقالة بعنوان “مهمتنا الآنية”، كتبها خلال فترة نفيه الأولى ونُشرت عام 1899 في مجلة رابوتشايا جازيتا)
وفي مقالة أخرى في نفس الفترة تحت عنوان “مسألة ملحة”، جادل لينين بأن توحيد الماركسيين في حزب واحد سيسمح بتطوير تقسيم عمل داخل الحركة مما سيرفع من كفائتها.
“ولابد من تخصص أعضاء الحزب ومجموعاته فى مختلف مجالات نشاطه: استنساخ النصوص، وإدخال المطبوعات من الخارج إلى روسيا، والنقل عبر روسيا، والتوزيع بالمدن، وتنظيم مقرات سرية، وجمع المال، وإيصال المراسلات وكل المعلومات حول الحركة، وتنظيم الصلات، إلخ. ونعلم أن هكذا تخصصا يقتضي قدراً أكبر بكثير من المكابدة والقدرة على التركيز على عمل بسيط، ومجهول، وغامض ومزيداً من البطولة الحقيقية أكثر من العمل الجاري عادة فى الحلقات” (8).
توخت خطة لينين البدء في إصدارين دوريين: مجلة نظرية تصدر كل شهرين (زاريا مستقبلياً)، وجريدة نصف شهرية أكثر توزيعاً (الإيسكرا) التي تتحمل مهمة التماسك التنظيمي والأيديولوجي للحركة.
كيف أوشكت “الشرارة” على الانطفاء؟
خلال مكوثه بمنفاه في سيبيريا، كان لينين يراسل اثنين آخرين من رفاقه المنفيين، مارتوف وبوتريسوف، اللذين وافقا مبدئياً على خطته لإنشاء منظمة وجريدة على مستوى قومي. دارت الكثير من الخطابات بين الثلاثة حول الجريدة المستقبلية: من سيكتب فيها؟ متى يجب الشروع في طبعها؟ كيف سيتم تهريبها إلى المدن؟ كيف سيكون وضعها بالنسبة لكثير من المسائل؟
كان الثلاثة متقاربين بشدة، إذ لم يختلفوا كثيراً عن بعضهم في السن (بوتريسوف أكبر من لينين بعام واحد، ولينين أكبر من مارتوف بثلاثة أعوام)، وانتهت عقوبة نفيهم في وقت مقارب، كما ذهبوا جميعاً للخارج لمتابعة خطة إطلاق الجريدة. كانوا قريبين لبعض بشكل كبير حتى أن لينين أطلق على هذا التعاون اللصيق بينهم إسم “التحالف الثلاثي”.
كان الثلاثة ينظرون إلى بليخانوف كمعلم وأستاذ لهم، على الرغم من أن اجتماع لينين بـ “أبو الماركسية الروسية” في أغسطس 1900 كان بمثابة صدمة كارثية. لم يكن ذلك الاجتماع قليل الشأن، فهو يلقي الضوء على طبيعة لينين العاطفية التي كان عليه أن يكبتها لعقود قادمة. كما كان اللقاء نذيراً بالقطيعة المستقبلية بين لينين والأساتذة القدامى من رواد الماركسية الروسية: بليخانوف وأكسيلورد وزاسوليتش.
هناك محضر طويل للغاية وموثق لذلك الاجتماع (حوالي 18 صفحة في الأعمال الكاملة للينين). حضر الاجتماع كل من كروبسكايا ومارتوف، بالإضافة إلى عدد قليل من الأتباع القريبين، وحمل إسم “كيف أوشكت “الشرارة” على الانطفاء؟” كتورية على إسم الجريدة “إيسكرا” والتي تعني “الشرارة”.
وعند بدء الاجتماع، كان بليخانوف:
“متشككاً، ومتنعنتاً بدرجة كبيرة، وواثقاً إلى أقصى حد أنه على صواب. حاولت أن أتوخى الحذر، وتجنبت كافة النقاط الملتهبة. كنت مضطراً لضبط النفس إلى أقصى حد، ولم يؤثر ذلك على مزاجي بشكل كبير. كان هناك بعض الشد والجذب حول تكتيكات المجلة، وكان بليخانوف في حالة من العصبية الشديدة وعدم القدرة، أو عدم الرغبة، في فهم حجج الآخرين، أو بالأحرى كان ذلك نفاقاً منه” (9).
لم يتصرف بليخانوف بشكل صحيح تجاه ستروف أثناء فترة نهوض “الاقتصادوية”، إذ لم يكن على استعداد بأن يتقبل الأمر. قال لينين:
“لقد أعلنا أن علينا فتح الباب بقدر الإمكان لستروف، ونحن نعلم أننا علينا بعض الذنب حيال تطوره؛ فنحن لم نحتج ولم نعترض عندما كان ذلك ضرورياً (1895 و1897)، بما يشمل بليخانوف نفسه بالطبع. لقد رفض بشكل قاطع الاعتراف بأي ذنب، وفي المقابل أخذ يستدعي بعض الحجج عديمة النفع التي تهرب بها من القضية بدلاً من تناولها بوضوح. هذا الأداء في المحادثات الرفاقية بين المحررين المستقبليين كان غير سار على الإطلاق. لِمَ خداع النفس بالتظاهر أنه – بليخانوف – “لم يأمر بإطلاق النار” على ستروف في 1885، في حين أنه اعتاد على إعطاء هذا الأمر بالذات؟ لِمَ خداع النفس بالإصرار في 1897 (حين كتب ستروف في نوفوي سلوفو أن أطروحاته تعارض أحد الأفكار الأساسية للماركسية) على أنه لم يعارضه، لأنه لم – ولن – يستطع شن السجال بين المساهمين في نفس المجلة؟ هذا الرياء مزعج للغاية بلا شك” (10).
وفي المقابل، كان لينين، في إصراره على أن الورقة المقترحة هي بمثابة بطلاً وفياً للماركسية الثورية، يفضل فتح السجال مع الليبراليين والاقتصادويين والمراجعين. وقد قام بإعداد مسودة إعلان هيئة التحرير التي شرح فيها:
“أهداف برنامج الإصدارات. هذه المسودة مكتوبة بروح “انتهازية” (من وجهة نظر بليخانوف)؛ حيث تم السماح للسجال بين أعضاء الفريق.. والسماح بذلك هو بغرض إنهاء الجدال مع “الاقتصادويين” سلمياً، إلخ. ألقى الإلان بعبء كبير على انتمائنا للحزب ورغبتنا في العمل من أجل توحيده” (11).
لقد فضل لينين دعوة ستروف وتوجان بارانوفسكي للكتابة في الجريدة، لكن بليخانوف، الذي عارض جمع وجهات النظر المتناقضة تلك سوياً، قد أظهر عداءاً تجاه “الحلفاء” الذين “أصبح أداؤهم غير لائق (موجهاً شكوكه بالتجسس نحوهم، ومتهماً إياهم بالنصب والاحتيال، ومؤكداً على أنه لن يتردد في إطلاق النار عليهم باعتبارهم خونة، إلخ)” (12).
وبعد عدة أيام، التقى أكسيلورد وزاسوليتش بلينين وبوتريسوف للتفاوض والتوصل إلى نقطة تلاق بين الجيلين. إلا أن العلاقات المتوترة قد تحولت في التو إلى صراع مفتوح؛ فقد كانت “رغبة بليخانوف في إحكام قبضته على كل السلطات واضحة”، لكنه بدأ النقاش بـ”ديبلوماسية”:
“لقد صرّح بأنه من الأفضل أن يكون مساهماً بالكتابة في المجلة، فقط مساهماً عادياً، وإلا سيستمر الصدع غير القابل للالتئام، حيث أن وجهة نظره في الأمور تختلف عن وجهة نظرنا، وأنه يحترم وجهة نظرنا الحزبية لكنه لا يستطيع المشاركة فيها. وبالتالي فمن الأفضل أن نكون نحن المحررون وهو مساهم عادي. كنا مندهشين عند سماع ذلك، مندهشين بشدة، وبدأنا نجادل ضد هذه الفكرة”.
وحينما أصر لينين ورفاقه على وجود بليخانوف في هيئة التحرير، تساءل الأخير حول كيفية التصويت في هيئة من ستة أعضاء (بليخانوف وأكسيلورد وزاسوليتش من الجيل الأقدم، ولينين ومارتوف وبوتريسوف من الجيل الجديد)، فيما طرحت زاسوليتش أن يكون لبليخانوف صوتين في مقابل صوت واحد لكل عضو آخر بالهيئة.
“ومن ثم أخذ بليخانوف بين يديه زمام الإدارة، وكرئيس تحرير بدأ تقسيم المهام بين الموجودين وتكليف هذا وذاك بالمقالات على نحو لم يلق أية معارضة. كنا أمامه وكأننا قد تم تدجيننا، وافقنا على كل شيء بشكل آلي، ولم يكن بمقدورنا مناقشة ما كان يجري. لقد أدركنا وقتها أننا قد تم استغفالنا” (13).
“اختفت حالة “الإطراء” من جانب بليخانوف كما السحر، وشعرت بالهجوم عليّ والسخط تجاهي بدرجة لا يمكن تصديقها. لم أكن في حياتي أكِنّ لأي رجل مثل هذا الاحترام والتوقير، ولم أكن يوماً بهذا القدر من “الحياء” كما كنت أمامه، ولم أتلق أبداً مثل هذه “الركلة” القاسية من أي شخص كان. هكذا جرى الأمر، كانت في الحقيقة هذه الركلة من نصيبنا جميعاً” (14).
أما لينين، فقد وصف انطباعه، هو وبوتريسوف، عن سلوك بليخانوف التسلطي بمزيد من المرارة:
“لم تكن هناك أي حدود لسخطنا ونقمتنا. لقد تحطم مثلنا الأعلى، فسحقناه تحت أقدامنا والشماتة في قلوبنا، لم تكن هناك أية نهاية لاتهاماتنا له. وسرعان ما قررنا أن الأمور لا يمكن أن تسير على هذا النحو؛ فنحن لا نرغب، ولا نستطيع، ولن نعمل معاً في ظل هذه الظروف. إلى اللقاء أيتها المجلة.. سوف نلقي بكل شيء في المزبلة، ونعود إلى روسيا حيث سنبدأ من جديد ونحصر أنفسنا في عمل الجريدة. نحن نرفض أن نصير بيادق شطرنج في يد هذا الرجل، فهو لا يفهم ولا يحافظ على العلاقات الرفاقية فيما بيننا. ولا نجرؤ في نفس الوقت على تولي إدارة التحرير بأنفسنا، وإلى جانب ذلك سيكون الأمر مثيراً للاشمئزاز كما لو كنا طامعين في إدارة التحرير، كما لو كنا وصوليين تسوقنا دوافع الغرور.. من الصعب وصف مشاعرنا تلك الليلة، تلك المشاعر المختلطة الثقيلة والمرتبكة.
كل ذلك بسبب القدر الكبير من الإعجاب لدينا تجاه بليخانوف. إذا لم نكن ننظر إليه بهذا الإعجاب، وإذا كنا نتعامل معه على نحو متجرد من المشاعر، وإذا كنا نتعاطى معه بقدر أكبر من التروي والموضوعية، لكان سلوكنا تجاهه قد اختلف تماماً، ولما كنا عانينا مثل هذه الكارثة، بالمعنى الحرفي للكلمة.. لقد تلقينا الدرس الأكثر مرارة في حياتنا، درساً مؤلماً وقاسياً بحق. رفاق شبان “يحاكمون” رفيقهم الأكبر متجردين من الحب الكبير الذي حملوه تجاهه، وفجأة يدس هو في هذا الحب أجواءاً من التآمر والدسائس. شابٌ مغرمٌ بأستاذه يتلقى درساً مريراً منه، وهو أنه ينبغي عليه أن يتعامل مع الجميع متجرداً من مشاعره تماماً” (15).
ربما توضح الواقعة احتقار لينين الذي احتفظ به طوال حياته تجاه أي سلوك متعجرف لقادة الحركة، وتجاه الأقنعة التي تغطي أخطاء القادة في الماضي. لقد أظهرت هذه الواقعة لينين وهو يستعرض عضلاته للمرة الأولى في حياته السياسية، كي يصبح بنفسه قائداً للحركة. لقد علمته ألا يمزج بين الأبعاد الشخصية بالسياسية في تحالفات وصراعات المستقبل، علمته أن يضبط الجانب العاطفي في شخصيته.
“اتفقنا فيما بيننا ألا نذكر ما حدث لأي شخص باستثناء أصدقائنا المقربين، وأن نبدو وكأن شيئاً لم يحدث.. ومنذ انقطع الوتر، حلت العلاقات الجافة والحادة محل العلاقات الشخصية الرائعة، وأصبح المبدأ الثابت: إذا أردت السلام، فعليك بالإعداد للحرب” (16).
هذا الموقف، الذي لم يعد لينين للإشارة إليه مرة أخرى في أيٍ من كتاباته، لم ينذر فقط بالصراع المستقبلي بين قادة الحركة – لينين ضد بليخانوف (وأيضاً أصدقائه المقربين – أكسيلورد وزاسوليتش) – لكنه كان أيضاً تعبيراً عن الضعف الحقيقي والجوهري لدى أبي الماركسي الروسية، ذلك الضعف الذي ربما كان السبب الرئيسي في عزلة بليخانوف لسنوات طويلة عن حركة الجماهير المناضلة. هكذا تصف كروبسكايا هذا الأمر:
“لقد كان مصير بليخانوف مأساوياً. لا شك أن خدماته على الصعيد النظري للحركة العمالية كانت هائلة وعظيمة، لكن سنوات المهجر لم تكن معدومة التأثير عليه، فقد عزلته تماماً عن الحياة الحقيقية في روسيا. فلقد تطورت حركة الجماهير العمالية العريضة فقط بعد رحيله إلى الخارج. كثيراً ما كان يقابل ممثلين عن الأحزاب المختلفة، الكثير من الكُتاب، والطلاب، وحتى بعض العمال، لكنه لم يعمل قط مع الجماهير العمالية في روسيا، ولم يكن حتى يشعر بها. حينما كانت تأتي بعض المراسلات من روسيا لتكشف الستار عن أشكال جديدة في الحركة العمالية، كان فلاديمير إيليتش، ومارتوف، وحتى فيرا إيفانوفا، يقرأون المراسلات، بل ويعيدون قراءتها عدة مرات.. بعد ذلك كان فلاديمير إيليتش يجوب مكانه ذهاباً وإياباً ويأخذ يفكر لوقت طويل، ولم يكن يستطع الخلود إلى النوم. وعندما غادرنا إلى جينيف، ذهبت وقدمت لبليخانوف بعضاً من هذه المراسلات، وكنت مذهولة من ردة فعله؛ فقد بدا وكأن الأرض تهتز من تحت قدميه، وغطت وجهه نظرة ارتياب غريبة.. لم يتكلم بعد ذلك عن هذه الخطابات، في حين بدأت أفكر في السبب وراء رد فعله؛ فقد ترك الرجل روسيا منذ وقت طويل، ولم يكن بمقدوره تقدير قيمة كل خطاب بين يديه، أن يقرأ الأمور الهامة بين السطور.
غالباً ما كان يأتي العمال إلى مكتب الإيسكرا، وكانوا بالطبع شغوفين برؤية بليخانوف والتحدث إليه. لكن مقابلة بليخانوف كانت أصعب كثيراً من مقابلتنا أو مقابلة مارتوف، لكن حتى إذا نجح أحد العمال في مقابلته، يتسرب شعور من الضيق إلى نفس بليخانوف. كان العمال منبهرين بذكاء بليخانوف ومعرفته وفطنته، لكن بمجرد انتهاء اللقاء، لا يشعر العامل سوى بالفجوة الكبيرة بين هذا المنظّر الكبير وبينه، في حين لا يذكر أي كلمة عن تلك الأشياء التي رغب في التحدث عنها معه، أو طلب نصيحته إزاءها.
وإذا اختلف العامل مع بليخانوف، وأراد أن يوضح رأيه، يبدأ بليخانوف في الشعور بالضيق ويرد قائلاً: “كان أبوك وأمك أطفالاً عندما كنت كذا..”.
كان لديّ كلاماً مختلفاً عن الرجل في السنوات الأولى من حياتنا في المهجر، لكن مع بداية القرن العشرين فقد بليخانوف كل قدرته على استشعار روسيا.. حتى أنه في 1905 لم يذهب إلى هناك” (17).
لخص تروتسكي حال بليخانوف بوضوح كما يلي:
“دخل بليخانوف بالفعل في حالة من التراجع الشديد، وكان قوته تنحصر وتقوّض بنفس العامل الذي يغذي قوة لينين ويثريها – اقتراب الثورة في روسيا. بذل بليخانوف كل نشاطه خلال أيام الإعداد النظري الأولي. لقد كان دعاوياً ماركسياً ومجادلاً بامتياز، لكن ليس سياسياً ثورياً للبروليتاريا. وكلما اقتربت ظلال الثورة، كلما كان بليخانوف يفقد الأرض من تحت قدميه. لم يكن بمقدوره رؤية ذلك بنفسه، وربما كان ذلك هو السبب وراء حدة طباعه تجاه الشباب” (18).
وعلى العكس من بليخانوف، كان لينين يعرف جيداً كيف يفهم العمال الروس.
إرادة فريدة
كان الصراع الحاد مع بليخانوف بمثابة اختبار مبكر لقوة لينين وإرادته وعزمه. ربما لا نجد ثورياً أكثر إصراراً وعزماً من لينين. ولعل الأمر ذا دلالة هامة أن تكون الكلمات الأكثر استخداماً في كتاباته هي “لا هوادة فيه”، و”لا يقبل المساومة”.
وقبل كل شيء، كان لدى لينين إراة لا تلين. وكما كتب لونارتشارسكي في كتابه “لوحات ثورية”، فقد كانت “السمة الطاغية في شخصيته، تلك السمة التي شكلت نصف تكوينه، هي إرادته؛ إرادة صلبة، قوية جداً، وقادرة على التركز في المهمة المباشرة دون أن تنفلت، مع ذلك، إلى ما وراء المدى الذي كان يتتبعه عقله الجبار، والذي كان يعني لكل معضلة مفردة مكانها كحلقة في سلسلة سياسية عالمية الاتساع” (19). ولنا هنا أن نذكر أن كلمة “حرية” باللغة الروسية تعني أيضاً “إرادة”.
كان أسلوب حياة لينين نموذجاً للنظام، والانضباط، وضبط النفس. يصفه مكسيم جوركي بأنه “شخص قنوع، لا يشرب، لا يدخن، منشغل من الصباح وحتى الليل، ولا يعتني بنفسه كما يجب” (20). وفي خطاباته، لم يتطرق على الإطلاق إلى البيئة التي عاش فيها، سواء كان في السجن أو في سيبيريا أو جينيف أو باريس أو في لندن، كان منهمكاً تماماً في عمله. أما في خطاباته الشخصية، نجد تلخيصاً بسيطاً لنشاطه اليومي. وعندما شكت عائلته من أنه لا يكتب لهم من سيبيريا، ردت كروبسكايا بأنه “ليس بوسعه أن يكتب عن الجانب العادي من الحياة” (21).
وحتى في المذكرات المعادية للينين التي كتبها بوتريسوف في 1927، يقر بوتريسوف: “إلا أنه على الرغم من ذلك، كنا جميعاً منغمسين في العمل.. نقدّر لينين ليس فقط بسبب معرفته الواسعة وعقله وقدرته على العمل، لكن أيضاً بسبب تفانيه الاستثنائي للقضية، واستعداده اللا محدود للعمل وتولي أكثر المهام المزعجة والكريهة، بل وتنفيذها بأقصى قدر من الرضا” (22).
ووفقاً لليون تروتسكي، قالت فيرا زاسوليتش ذات مرة للينين أن “جورج (بليخانوف) أشبه بكلب الصيد، فهو يمسك بالشيء، يهزه قليلاً، ثم يلقي به جانباً.. أما أنت فأشبه بالبولدج، تمسك بالشيء كقبضة الموت”. عندما حكت زاسوليتش تلك المحادثة لاحقاً لتروتسكي، أضافت: “أخذ لينين يكرر بابتهاج: قبضة الموت” (23).
وربما يكون من المفيد الاطلاع على المحادثة التالية، بين أكسيلورد (أحد مؤسسي الماركسية الروسية الذي صار لاحقاً أحد زعماء المناشفة) وأحد الاشتراكيين الأجانب:
“هل تعني بهذا القول أن كل هذه الانشقاقات والنزاعات والفضائح من فعل رجل واحد؟ لكن كيف يمكن لرجل واحد أن يكون بهذا التأثير والخطورة؟
أكسيلورد: لأنه ليس هناك أي شخص آخر منهمك في العمل الثوري 24 ساعة في اليوم، لا يفكر سوى بالثورة، ولا يحلم، حتى في منامه، سوى بالثورة. فقط حاول أن تتعامل مع شخص كهذا” (24).
وهكذا قال لينين لصديقته المقربة؛ الثورية الألمانية كلارا زيتكين:
“تتطلب الثورة التركيز ومضاعفة القوى.. من الجماهير، ومن الأفراد. إنها لا تتسامح مع حالة التهتك الشبيهة بتلك التي تحياها شخصيات دانونزيو المتفسخة. إن عدم الاعتدال في الحياة الجنسية مرتبط بالطبيعة البرجوازية. إنها علامة التدهور، بينما البروليتاريا، لا تحتاج إلى السُكر الذي يخدرها أو يهيجها. ولا تحتاج أن تثمل بالمجون والكحول. ينبغي عليها ألا تنسى قذارة وإسفاف وبربرية الرأسمالية. هذا هو موقف طبقتها، وهذا هو مبدؤها الشيوعي الذي يعطيها أكبر دافع للنضال. إنها تحتاج إلى وعيها دوماً وأبداً. لذا أقول مرة أخرة: لا ضعف ولا تبذير في القوى. إن السيطرة على النفس والنظام لا يعنيان العبودية. هذه المزايا ضرورية في الحب أيضاً” (25).
ما العمل؟
تبلورت أفكار لينين على مدار سنوات عديدة حول المهام التنظيمية التي تواجه الاشتراكية الديمقراطية الروسية في كتابه فائق الأهمية “ما العمل؟” في 1902، وقد ركز الكتاب بشكل أساسي على “مسائل ثلاث: طابع التحريض السياسي ومضمونه الرئيسي، والمهام التنظيمية، ومشروع إنشاء منظمة كفاحية لعامة روسيا، إنشاء يجري في وقت واحد ومن شتى الجوانب” (1).
الفرق بين الوعي النقابي والوعي الاشتراكي
تمحورت وجهة نظر لينين، فيما يخص “طابع التحريض السياسي ومضمونه الرئيسي”، حول كشف الفرق بين والاختلاف بين السياسات النقابية والسياسات الاشتراكية. وقد عبر عن هذه الفكرة بأن “تاريخ جميع البلدان شاهد على أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتسب بقواها الخاصة فقط غير الوعي النقابي، أي الاقتناع بضرورة التنظيم في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك القوانين الضرورية للعمال” (2).
وفي موضع آخر، كتب:
“إن التطور العفوي لحركة العمال يسير على وجه الدقة في اتجاه إخضاعها للأيديولوجيا البرجوازية.. لأن الحركة العمالية العفوية هي النقابية، وما النقابية غير إخضاع العمال فكرياً للبرجوازية” (3).
“وقد يتساءل القارئ: لماذا إذن كانت الحركة العفوية، حركة الاتجاه نحو أهون السبل، تؤدي على وجه الدقة إلى سيطرة الأيديولوجيا البرجوازية؟ ذلك لمجرد كون الأيديولوجيا البرجوازية، من حيث منشؤها، أقدم من الأيديولوجيا الاشتراكية بكثير، ولأنها وُضعت بصورة أكمل من جميع الوجوه، ولأنها تتصرف بوسائل النشر أكثر بما لا يُقاس” (4).
“لذا فإن واجبنا، واجب الاشتراكية الديمقراطية، هو النضال ضد العفوية، النضال من أجل صرف العمال عن نزوع النقابية العفوي إلى كنف البرجوازية وجذبها إلى كنف الاشتراكية الديمقراطية الثورية” (5).
وهكذا استطرد:
“إن الوعي السياسي الطبقي لا يمكن حمله إلى العامل إلا من الخارج، أي من خارج النضال الاقتصادي، من خارج دائرة العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال. فالميدان الوحيد الذي يمكن أن نستمد منه هذه المعرفة هو ميدان علاقات جميع الطبقات والفئات تجاه الحكومة، ميدان علاقات جميع الطبقات بعضها تجاه بعض” (6).
ليس هناك من شك أن الصياغة السابقة تبالغ في التشديد على الاختلاف بين العفوية والوعي، في حين أنه في الحقيقة يُعد الفصل الكامل بين العفوية والوعي أمراً ميكانيكياً بعيد كل البعد عن الديالكتيك. وكما سنرى لاحقاً فقد قبل لينين بذلك. لكن العفوية الكاملة ليس لها وجود؛ “فكل حركة عفوية تتضمن في طياتها عناصر أولية للقيادة الواعية” (7)، حتى أن أصغر الإضرابات يكون لها على الأقل قيادة بدائية.
ولينين نفسه، في مقالة كتبها في العام 1899 تحت عنوان “حول الإضرابات”، قد ناقض ما كتبه في “ما العمل؟” بشكل حاد بشأن العلاقة بين النضال الطبقي العفوي والوعي الاشتراكي. فكتب:
“إن كل إضراب يدفع بأفكار الاشتراكية بقوة شديدة إلى رأس العامل، أفكار نضال الطبقة العاملة بأسرها من أجل تحررها من نير رأس المال” (8).
“إن إضرابا يعلم العمال مم تتألف قوة أصحاب العمل، ومم تتألف قوة العمال، يعلمهم ألا يفكروا فقط بصاحب العمل، الذي يعملون لديه فحسب؛ ولا بزملائهم في العمل فحسب، بل يعلمهم كيف يهتمون بأصحاب الأعمال كلهم وبالطبقة الرأسمالية كلها، وأيضا بالطبقة العاملة كلها” (9).
“والإضراب، زيادة على ذلك، يفتح عيون العمال، لا على حقيقة الرأسماليين وحدهم، بل على حقيقة الحكومة والقوانين التي تحكمهم بها” (10).
أما المنطق الميكانيكي الذي يضع العفوية جنباً إلى جنب مع الوعي، وليس في تفاعل وتشابك معه، فكان يعني الفصل الكامل بين الحزب والعناصر الأساسية لقيادة الطبقة العاملة التي كانت آخذة في الصعود بالفعل من قبل النضال. فذلك المنطق يفترض أن لدى الحزب إجابات شافية على كل القضايا والتساؤلات التي يطرحها ويفرضها النضال العفوي.
وبشكل عام، يُعد الانفصال بين النضال الاقتصادي والسياسي غريباً على الماركسية؛ فالمطلب الاقتصادي – مهما كان فئوياً – يُطلق عليه مطلب اقتصادي بمصطلحات ماركس، لكن إذا توجه هذا المطلب ضد الدولة يغدو مطلباً سياسياً.
“إن محاولات الضغط على رأسماليين فرادى في مصنع معين، أو حتى في صناعة معينة، من أجل يوم عمل أقصر، إلخ، هي حركة اقتصادية تماماً. وعلى الجانب الآخر، فإن الحركة من أجل فرض قانون يحدد يوم العمل بثماني ساعات أو ما شابه، هي حركة سياسية. وبهذه الطريقة تترعرع حركة سياسية في كل مكان من التحركات الاقتصادية المعزولة للعمال، أي حركة طبقة بهدف فرض مصالحها في شكل عام، في شكل قوة اجتماعية قسرية.. وبالتالي فإن أي حركة تظهر فيها الطبقة العاملة كطبقة ضد الطبقات الحاكمة وتحاول إجبارها بالضغط من خارجها، هي حركة سياسية” (11).
إلا أنه في كثير من الحالات، لا تتطور النضالات الاقتصادية (الفئوية أو القطاعية) إلى نضالات سياسية (لكل الطبقة)، لكن ذلك لا يعني أن هناك حاجزاً كسور الصين بينهما، والكثير من النضالات الاقتصادية تفضي إلى نضالات سياسية بالفعل.
إلا أن تشديد لينين الميكانيكي على ضرورة التنظيم كان له فائدة كبيرة من الناحية العملية؛ إذ كان الماركسيون في روسيا، طوال أربع أو خمس سنوات، قد دفعوا الطبقة العاملة للمواجهة على المستوى المصنعي، وأصبح بعد ذلك ضرورياً أن يتم الدفع إلى الفعل السياسي، على الأقل في القطاع الواعي سياسياً من الجماهير.
النضال من أجل الديمقراطية والاشتراكية
كانت الفكرة الجوهرية التي سادت في كافة كتابات لينين حول المهام التنظيمية للحركة هي الحاجة للمناضل الاشتراكي الثوري الذي يدعم كل نضال ضد الاضطهاد، ليس الاقتصادي فقط، بل أيضاً السياسي والثقافي، وليس فقط الاضطهاد الواقع على العمال، بل أيضاً على كافة الكادحين والمسحوقين.
“إن القصاص الجسدي بالفلاحين، وارتشاء الموظفين، ومعاملة الشرطة “للعامة” في المدن، ومكافحة الجياع، وقمع مساعي الشعب إلى النور والمعرفة، والتفنن في جباية الضرائب، وملاحقة الشيع الدينية، وترويض الجنود ومعاملة الطلاب والمثقفين معاملة الجنود.. إن جميع هذه المظاهر والألوف الأخرى من مظاهر الاضطهاد المشابهة غير المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالنضال الاقتصادي ينبغي أن تعتبر بشكل عام وسائل للتحريض السياسي ولجذب الجماهير إلى النضال السياسي” (12).
“ولا يمكن أن يكون وعي الطبقة العاملة وعياً سياسياً حقاً إذا لم يتعود العمال الرد على كل حالة من حالات الطغيان والظلم والعنف والاستغلال على اختلافها، بصرف النظر عن الطبقة التي توجه إليها، على أن يكون الرد من وجهة نظر الاشتراكية الديمقراطية لا من أية وجهة نظر أخرى” (13).
وإذا جرى فضح أشكال الاضطهاد ومظاهر الاستبداد هذه:
“سيدرك حتى أكثر العمال تأخراً وسيحس بأن الطالب وأبناء الشيع الدينية، والفلاح والكاتب، يتلقون الإهانات والطغيان من تلك القوة السوداء التي تضغط عليه وتسحقه في كل خطوة من حياته، وما أن يحس حتى يرغب، حتى يرغب أشد الرغبة في أن يرد بنفسه، ويستطيع عندئذ أن ينظم: اليوم عرضاً صاخباً في وجه المراقبين، وغداً مظاهرة أمام دار حاكم قام بقمع انتفاضة للفلاحين، وبعد غد إلقاء درس على الدرك لابسي مسوح الكهان الذين يقيمون بأعمال محاكم التفتيش المقدسة” (14).
وبهذه الروح من التضامن مع كافة المضطهدين، اقترح لينين في 1903 إصدار دورية خاصة لأبناء الشيع الدينية (الذين تجاوزوا الـ 10 ملايين في روسيا). وهذا هو نص مسودة القرار التي قدمها للمؤتمر الثاني للحزب:
“مسودة قرار إصدار دورية لأبناء الشيع الدينية:
بالوضع في الاعتبار أنه في العديد من الجوانب تمثل حركة الشيع الدينية روافد الحركة الديمقراطية في روسيا، فإن المؤتمر الثاني يستدعي انتباه كافة أعضاء الحزب إلى ضرورة العمل في أوساط الشيع الدينية من أجل وضعهم تحت تأثير الاشتراكية الديمقراطية. وعلى سبيل التجربة، يسمح المؤتمر الثاني للرفيق بونتش بروييفيتش (1*) بإصدار صحيفة شعبية، تحت إشراف هيئة تحرير الجهاز المركزي، تستهدف أبناء الشيع الدينية، كما يوصي المؤتمر الثاني اللجنة المركزية وهيئة تحرير الجهاز المركزي باتخاذ الإجراءات الضرورية لضمان نجاح إصدار هذه الجريدة، وتوفير كل الظروف من أجل تفعيلها جيداً” (15).
وبناءاً عليه، صدرت جريدة “الفجر”، التي استهدفت أبناء الشيع الدينية، لأول مرة في يناير 1904، واستمرت في الصدور لتسعة أعداد حتى سبتمبر من نفس العام. ولقد كان للعمل وسط هؤلاء المضطهدين قيمة اشتراكية عظيمة. وإذا ألقينا النظر على السيرة الذاتية لتروتسكي نستطيع أن نتصور كيف كانت المناطق العمالية، المكتظة بأبناء الشيع الدينية المختلفة، تعارض الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية. وبشكل عام، كانت لهذه المعارضة انعكاسات سياسية مباشرة (16).
وفي إطار التشديد على الحاجة إلى التصدي لكافة أشكال الاضطهاد، وصف لينين الاشتراكي الديمقراطي الثوري مقارناً إياه بالموظف النقابي:
“إن سكرتير أي نقابة، سكرتير نقابة إنجليزية مثلاً، يساعد العمال دائماً على القيام بالنضال الاقتصادي، وينظم التشهير بالحياة في المعامل، ويشرح الظلم الكامن في القوانين والتدابير التي تقيد حرية الإضراب وحرية إقامة مراكز الحراسة (لتنبيه الجميع وكل فرد إلى أن عمال هذا المعمل أو ذاك مضربون) ويبين تحيز الحكم الذي ينتمي إلى طبقات الشعب البرجوازية، إلخ، إلخ.. وباقتضاب، إن كل سكرتير نقابة يقوم ويساعد على القيام بـ”النضال الاقتصادي ضد أصحاب العمل والحكومة”.. إن المثل الأعلى للاشتراكي الديمقراطي لا ينبغي أن يكون سكرتير النقابة، بل الخطيب الشعبي الذي يحسن الرد على كل مظهر من مظاهر الطغيان والظلم بصرف النظر عن مكان حدوثه وعن الفئة أو الطبقة التي يصيبها هذا الطغيان والظلم، إنه يحسن تلخيص جميع هذه المظاهر ويخلق منها لوحة كاملة للطغيان البوليسي وللاستثمار الرأسمالي، يحسن الاستفادة من كل أمر مهما كان صغيراً لكي يعرض أمام الجميع عقائده الاشتراكية ومطالبه الديمقراطية ولكي يشرح للجميع ولكل فرد الأهمية التاريخية العالمية لنضال البروليتاريا التحرري” (17).
الحاجة إلى منظمة شديدة المركزية من الثوريين المحترفين
كانت الأشكال التنظيمية التي احتاجتها الاشتراكية الديمقراطية مشتقة من المهام السياسية نفسها. وهذه المهام التي حملتها الحركة على عاتقها تطلبت في المقام الأول نضال حتى الموت ضد ما أسماه لينين “الأسلوب الحرفي للتنظيم”، واصفاً حلقات الدراسة الماركسية في الفترة بين 1894 و1901:
“حلقة طلاب لا تربطها أي صلة بمناضلي الحركة القدامى، لا تربطها أي صلة بالحلقات القائمة في المناطق الأخرى، وحتى في الأحياء الأخرى من المدينة (أو في المعاهد الأخرى)، دون أي تنظيم لمختلف أجزاء العمل الثوري، دون أي منهاج عمل منتظم لأي فترة، حلقة تقيم صلات مع العمال وتبدأ العمل، وتوسع الحلقة الدعاية والتحريض شيئاً فشيئاً وتكتسب بمجرد عملها تحبيذ وتعاطف فئات واسعة إلى حد ما من العمال، وتحبيذ وتعاطف قسم من المجتمع المثقف يقدم لها النقود ويضع تحت تصرف “اللجنة” جماعة من الشبيبة بعد أخرى. وتزداد جاذبية اللجنة ويتسع ميدان نشاطها، وهي توسع هذا النشاط بصورة عفوية تماماً.
يقيمون الصلات بالعمال ويحافظون عليها ويحضرون المنشورات ويصدروها، يقيمون الصلات مع فرق من الثوريين ويحصلون على المطبوعات ويشرعون بإصدار جريدة محلية ويأخذون بالحديث عن تنظيم مظاهرة وينتقلون في النهاية إلى الأعمال الحربية المباشرة المكشوفة (علماً بأن هذه الأعمال الحربية المكشوفة قد تكوب حسب الظروف أول نشرة من نشرات التحريض أو أول عدد من أعداد الجريدة أو أول مظاهرة). وفي المعتاد تفضي بداية هذه الأعمال بالذات إلى الانهيار التام على الفور، تفضي على الفور إلى الانهيار التام لأن هذه الأعمال الحربية لم تأت على وجه الدقة نتيجة لمنهاج منتظم وُضع سلفاً بعد تبصر وإعمال فكر لنضال مديد وعنيد، بل مجرد تطور عفوي لعمل الحلقات حسب المعتاد” (18).
“ومثل هذه الحرب لا يمكن أن يقارن إلا بحملة زمر من الفلاحين مسلحين بالهراوات ضد جيش حديث. ولا يسع المرء إلا أن يدهش لحيوية هذه الحركة التي كانت تتسع وتنمو وتحرز الانتصارات بالرغم من انعدام التدريب انعداماً تاماً لدى المقاتلين. صحيح أن بدائية العتاد لم تكن في البدء أمراً محتوماً وحسب، بل كانت أيضاً أمراً مشروعاً من وجهة النظر التاريخية باعتبارها شرطاً من شروط جذب المقاتلين على نطاق واسع. ولكن منذ بدأت المعارك الحربية الخطيرة (وقد بدأت في الأساس بإضرابات صيف 1896) أخذت نواقص تنظيمنا الحربي تزداد وضوحاً أكثر فأكثر” (19).
أدى الطابع الهاوي للحركة إلى أن تكون عرضة للهجوم والاختراق الأمني:
“تكيفت الحكومة بسرعة مع ظروف النضال الجديدة واستطاعت أن تحشد في الأماكن المناسبة ما لديها من فصائل المخبرين والجواسيس والدرك المجهزين بجميع العتاد الحديث، وأخذت الضربات تنهال بتواتر وتشمل جمهوراً كبيراً جداً من الأشخاص وتكنس الحلقات المحلية إلى درجة أن كانت جماهير العمال تفقد، بالمعنى الحرفي للكلمة، جميع قادتها، وتغدو الحركة في بلبلة شديدة ولا يعود بإمكانها أن تبقي على أية استمرارية أو أي تناسق في العمل. وقد كانت النتيجة المحتومة لهذه الظروف التي وصفناها أن انقسم المناضلون المحليون انقساماً مذهلاً، وأصبح تركيب الحلقات عرضياً، وانعدم الاستعداد، وضاق أفق النظر في ميادين المسائل النظرية والسياسية والتنظيمية. وقد بلغ الأمر أن أصبح العمال في بعض المناطق، بسبب النقص في رباطة جأشنا وفي سرية عملنا، يفقدون ثقتهم بالمثقفين ويتهربون منهم، ويقولون أن المثقفين يسببون الإخفاقات من جراء طيشهم المفرط” (20).
ذلك كان نقداً لاذعاً بالتأكيد، ولم يستثن لينين أحداً منه، حتى نفسه.
“أرجو ألا يعتب على أحد من المشتغلين في الميدان العملي لهذه الكلمة الخشنة، إذ أني أنسبها لنفسي قبل كل شيء ما دمنا نتحدث عن قلة الاستعداد. لقد عملت في حلقة وضعت نصب عينيها أهدافاً واسعة شاملة، وقد شعرنا جميعاً نحن أعضاء هذه الحلقة بالأمل يحز في قلوبنا إذ أدركنا أننا حرفيون في ظرف تاريخي يمكننا أن نقول فيه مع بعض التغيير عبارة من العبارات الشائعة: “اعطونا منظمة من الثوريين، نقلب روسيا رأساً على عقب”، وبمقدار ما وجب عليّ منذ ذلك الحين أن أتذكر شعور الخجل الممض الذي كان يحز في نفسي آنذالك، كانت تمتلئ نفسي بالمرارة ضد أولئك الاشتراكيين الديمقراطيين المزيفين الذين “يهينون لقب الثوري” بدعايتهم، والذين لا يفهمون أن واجبنا ليس الدفاع عن الهبوط بالثوري إلى مستوى الحرفي، بل رفع الحرفيين إلى مستوى الثوريين” (21).
وهكذا، توصل إلى استنتاج إيجابي يفيد بإنشاء “منظمة من القادة، ثابتة وتحافظ على الاستمرارية”:
“ينبغي لهذه المنظمة أن تتألف بصورة رئيسية من أناس يجعلون من النشاط الثوري مهنة لهم. ففي بلاد يسودها الاستبداد، ينبغي أن يكون هذا هو قوام أعضاء هذه المنظمة بحيث لا يشترك فيها غير الأشخاص الذين جعلوا من النشاط الثوري مهنة لهم والذين تدربوا مهنياً على فن النضال ضد الشرطة السياسية، وهكذا تزداد صعوبة “اصطياد” هذه المنظمة” (22).
أما تجنيد الثوريين المحترفين للحركة لا ينبغي أن يقتصر على حلقات الطلاب والمثقفين.
“إن المحرض العامل لا ينبغي أن يعمل في المصنع إحدى عشرة ساعة، إذا كان موهوباً و”باعثاً للآمال” ولو إلى حد ضئيل. ينبغي لنا أن نبذل جهدنا لكي يعيش على نفقة الحزب، لكي ينتقل إلى السرية في الوقت الملائم، لكي يغير مكان نشاطه، إذ أنه إن لم يفعل ذلك لا يمكنه أن يكتسب خبرة كبيرة وأن يوسع أفقه وأن يصمد عدة سنوات على الأقل في النضال ضد الدرك” (23).
في السنوات اللاحقة، اتهم عدد من أنداد لينين في المعسكر المنشفي لينين بإعلاء دور الإنتلجنسيا على العمال في “ما العمل؟”. لكن الأمر لم يكن كذلك؛ ففي الحقيقة هاجم لينين الإنتلجنسيا بسبب “ما تعودوا عليه من الإهمال والركود”. وعلى العمال الذين اعتادوا على الالتزام من حياة المصانع، ينبغي إجبار الإنتلجنسيا على الالتزام بقبضة الحزب الحديدية. وقبل كل شيء، فإن دور الإنتلجنسيا في الحزب هو دور انتقالي. “دور الإنتلجنسيا هو أن تجعل بعض القادة المتميزين بين الإنتلجنسيا غير ضروري” (24).
“الإيسكرا” كأداة ناظمة
منذ أن بدأت “الإيسكرا” في الصدور، أوضح لينين أن الجريدة هي السلاح الذي يمكن به بناء منظمة مركزية لعامة روسيا. وفي مقالة بعنوان “بم نبدأ؟” (نُشرت في العدد الرابع من الإيسكرا) وصف دور الجريدة بأنه لا ينبغي أن:
“يقتصر على مجرد نشر الأفكار، على مجرد التربية السياسية واجتذاب الحلفاء السياسيين. إن الجريدة ليست فقط داعية جماعيا ومحرضا جماعيا، بل هي في الوقت نفسه منظم جماعي. ومن هذه الناحية الأخيرة يمكن أن تقارن بالصقالات التي تنصب حول بناية يجري تشييدها فتشير إلى معالم البناية وتسهل الاتصال بين البناة وتساعدهم على توزيع العمل بينهم وعلى رؤية مجمل النتائج التي أحرزها العمل المنظم. وبواسطة الجريدة وبالاتصال معها، سيتكون من تلقاء ذاته تنظيم دائم لا يقوم بعمل محلي وحسب، بل يقوم أيضا بعمل عام منتظم، ويعوّد أعضاءه على تتبع الأحداث السياسية باهتمام وعناية، وتقدير أهميتها وتأثيرها في مختلف فئات السكان، وإيجاد أساليب صائبة لتأثير الحزب الثوري في هذه الأحداث. وإن المهمة التقنية وحدها، وهي تزويد الجريدة بالمواد بانتظام وتوزيعها بانتظام، تجبر على إنشاء شبكة من الوكلاء المحليين للحزب الموحد، وكلاء يكونون على صلة حية بعضهم مع بعض، ويعرفون وضع الأمور العام، ويعتادون أن ينفذوا بانتظام وظائف العمل الروسي العام الجزئية، ويمتحنون قواهم في تنظيم هذه أو تلك من الأعمال الثورية.
إن هذه الشبكة من الوكلاء ستكون صقالة هذه المنظمة التي نحتاجها على وجه التحقيق: منظمة تكون على ما يكفي من الكبر بحيث تشمل البلد كله؛ على ما يكفي من رباطة الجأش بحيث تستطيع في جميع الظروف وفي جميع الانعطافات والمفاجآت أن تقوم بعملها باستقامة؛ على ما يكفي من المرونة بحيث تستطيع من جهة أن تتجنب المعركة في ميدان مكشوف ضد عدو ذي قوة ساحقة، وحشد جميع قواه في نقطة واحدة، وبحيث تستطيع من جهة أخرى أن تستغل خراقة هذا العدو وتهاجمه حيث وعندما لا يتوقع الهجوم” (25).
الجريدة كناظم لقادة الانتفاضة المسلحة المستقبلية
لم يتوقف خيال لينين الخلاق عند رؤية الجريدة كناظم لحزب من المحرضين الثوريين، بل أوضح في “ما العمل؟” أن على الشبكة المنسوجة حول الجريدة أن تكون قاعدة منظمة الانتفاضة المسلحة المستقبلية ضد القيصرية.
“المنظمة التي تتألف من تلقاء نفسها حول هذه الجريدة.. ستكون على استعداد لكل شيء ابتداءاً من إنقاذ شرف الحزب وسمعته واستمرارية عمله في فترات أشد الضغوط على الثوريين وانتهاءاً بإعداد الانتفاض الشعبي المسلح وتحديد زمنه وتحقيقه.. تصوروا من ناحية أخرى الانتفاض الشعبي. يتراءى لنا أن الجميع يوافقون اليوم على ضرورة التفكير به والاستعداد له، ولكن كيف نستعد؟.. إن شبكة الوكلاء التي تتألف من تلقاء نفسها في العمل على تنظيم وتوزيع الجريدة العامة، لن تنتظر “مكتوفة الأيدي” شعار الانتفاض، بل ستقوم على وجه التحقيق بعمل منتظم يضمن لها أكبر إمكانيات النجاح في حالة الانتفاض. وهذا العمل يوثق الصلات بأوسع جماهير عمالية وبجميع الفئات الساخطة على الاستبداد، وهو أمر كبير الأهمية بالنسبة للانتفاض. وعلى أساس هذا العمل بالذات تنمو ملكة التقدير الصحيح للوضع السياسي العام، وبالتالي الاختيار الموفق للحظة المناسبة للانتفاض. وهو الذي يعلم جميع المنظمات المحلية على النهوض في وقت واحد للاستجابة إلى المسائل والطوارئ والأحداث السياسية الواحدة التي تثير روسيا من أقصاها إلى أقصاها، والاستجابة إلى هذه “الأحداث” بأكثر ما يمكن من النشاط والتجانس والعقلانية. وما الانتفاض في الجوهر غير “جواب” الشعب كله على الحكومة بأكثر ما يكون من النشاط والتجانس والعقلانية. وهذا العمل بالذات يعلم، أخيراً، جميع المنظمات الثورية في أنحاء روسيا أن تقيم بينها الروابط المنتظمة جداً والسرية جداً في آن واحد، هذه الروابط التي تنشئ وحدة الحزب الفعلية. والحال لا يمكن بدون هذه الروابط أن يُبحث بصورة مشتركة مشروع الانتفاض وأن تُتخذ التدابير التحضيرية الضرورية التي ينبغي أن تبقى في طي الكتمان التام” (26).
“نحن بحاجة إلى منظمة وكلاء عسكرية” (27)، حينها كان عام 1905 وشيكاً.
هيكل الحزب
لقد تطورت الخطة التنظيمية التي دافع عنها لينين في “ما العمل؟” بشكل كبير وأكثر وضوحاً في تلك الوثيقة التي كتبها بعد عدة أشهر، “رسالة إلى رفيق حول مهامنا التنظيمية”، والتي تم توزيعها على نطاق واسع، ومن ثم صدرت مطبوعة في شكل كراس في 1904.
يجب على الحزب أن يتضمن مركزين قياديين؛ جهازاً مركزياً، ولجنة مركزية. الأول من أجل قيادة الحزب أيديولوجياً، والثاني للقيادة المباشرة العملية. ومن أجل أن يبقى الجهاز المركزي بعيداً عن متناول أجهزة القمع الروسية، وللتأكيد على تماسكه واستقراره، كان عليه أن يبقى بالخارج.
وتحت مستوى اللجنة المركزية، هناك هيكل الحزب الذي يتشكل من نوعين من اللجان؛ محلية (تمثل المدن) ومصنعية (تمثل المصانع). اللجنة المحلية “ينبغي أن تضم اشتراكيين ديمقراطيين متماسكين تماماً يكرسون أنفسهم بالكامل للأنشطة الاشتراكية الديمقراطية”، كما يجب ألا تكون كبيرة:
“يجب أن لا تضم اللجان، قدر المستطاع، عدداً واسعاً من الأعضاء في صفوفها (لكي يكون بالإمكان تأليفها من أناس يملكون حظاً جيداً من التعليم، ويتقن كل منهم فنون الفرع الذي يعمل فيه من فنون النشاط الثوري) بيد أنها ينبغي أن تضم في الوقت نفسه عدداً يكفي لتولي أمر العناية بكافة جوانب العمل وضمان التمثيل الكامل والقرارات الملزمة. وإذا صادف أن كان عدد الأعضاء كبيراً للغاية وكان أمر اجتماعهم محفوفاً بالمخاطر في غالب الأحيان فقد يكون من الضروري عندها انتقاء مجموعة تنفيذية خاصة وصغيرة للغاية من بين أعضاء اللجنة (على أن لا يزيد العدد عن خمسة مثلاً، وحتى أقل من ذلك). ولابد أن تضم هذه المجموعة سكرتير اللجنة والأعضاء الذين يتمتعون بأفضل مقدرة على التوجيه العملي لسائر جوانب العمل” (28).
ومن الضروري أن تبقى الهيئات التالية تحت سلطة اللجان المحلية:
“1) اجتماعات المناقشة (مؤتمرات “أفضل” الثوريين)، 2) حلقات المنطقة، 3) حلقة للدعاة ملحقة بكل حلقة من تلك الحلقات. 4) حلقات المصنع، 5) “اجتماعات ممثلي” المندوبين من حلقات المصنع في منطقة معينة. أتفق معك تماماً بأن كافة المؤسسات اللاحقة والتي ينبغي أن يوفر منها عدد كبير للغاية وعلى درجة متناهية من التنوع، إضافة إلى تلك التي أتيت على ذكرها، يجب أن تكون خاضعة إلى اللجنة، وأن من الضروري أن تكون هناك مجموعات منطقة (للمدن الكبيرة جداً) ومجموعات مصنعية (دوماً وفي جميع الأماكن)” (29).
وفي المدن الكبيرة، كان هناك حاجة لمجموعات المناطق التي تقوم بدور الوسيط بين اللجنة المحلية واللجان المصنعية.
“ننتقل الآن إلى حلقات المصنع. تتسم هذه بأهمية خاصة بالنسبة لنا؛ فالمصانع الواسعة (والمعامل) لا تضم القسم الغالب من الطبقة العاملة، عدديا، وحسب بل وأكثر من ذلك، إنها تضم أكبر أقسامها نفوذاً وتطوراً وقدرة على الكفاح. ينبغي أن نجعل من كل مصنع حصنا لنا.
فور تكوين هذه اللجنة عليها الشروع بتنظيم عدد من مجموعات وحلقات المصنع تقوم بمختلف المهمات وتتفاوت من حيث درجة السرية والشكل التنظيمي. مثلا, حلقات لاستلام وتوزيع الأدبيات (وهذه من أهم الوظائف التي ينبغي تنظيمها بهدف أن توفر لنا خدمات بريدية حقة ومن أجل أن تكون بحوزتنا طرقاً مجربة وفعالة لا لتوزيع الأدبيات فقط وإنما لتسليمها إلى البيوت كذلك وتوفير معلومات محددة بعناوين العمال وطرق الوصول إليها) وحلقات لقراءة الأدبيات الممنوعة ومجموعات لتعقب الجواسيس وحلقات لإعطاء توجيه خاص إلى الحركة النقابية والكفاح الاقتصادي, وحلقات المحرضين الدعاة تعرف كيف تثير الأحاديث الطويلة وتواصلها بطريقة مشروعة تماما”.
وكان على لجنة المصنع أن تتضمن داخلها مجموعة صغيرة من الثوريين تحت إشراف اللجنة المحلية. و”عضو لجنة المصنع عليه أن يعتبر نفسه وكيلاً من وكلاء اللجنة، ملزماً بالخضوع إلى جميع أوامرها والتقيد بكافة “القوانين والأعراف” الخاصة بـ “جيش في الميدان” انضوى تحت لوائه، ولم يعد له الحق في التغيب عنه أيام الحرب دون إجازة رسمية” (30).
كان هيكل الحزب لدى لينين يهدف إلى تحقيق أقصى تقسيم للعمل، وخلق قيادة مركزية تدخلية حقيقية، علاوة على أكبر اتساع ممكن للمسئولية والمبادرة لكافة الأعضاء. أما المبدأ المركزي لنشاط الحزب، فهو موضح كالتالي:
“ينقلنا هذا إلى مبدأ هام للغاية لكافة منظمات الحزب ونشاطاته، ففي الوقت الذي تحتم فيه الضرورة توفر أقصى قدر من المركزية فيما يتعلق بالقيادة الإيديولوجية والعملية للحركة والكفاح الثوري للبروليتاريا، هناك بالمقابل ضرورة لتوفر أقصى قدر من اللامركزية فيما يتعلق بجعل مركز الحزب (وبالتالي الحزب كله) على علم بأحوال الحركة وما له علاقة بالمسؤولية إزاء الحزب. يجب أن تودع قيادة الحركة بيد أصغر عدد ممكن من الثوريين المحترفين الذين يأتلفون في جماعات على أقصى قدر من التجانس وأقصى قدر من الخبرة العملية. على المساهمين بالحركة أن يتغلغلوا إلى أكبر عدد ممكن من المجموعات المتنوعة والمتنافرة إلى أقصى الحدود من أقسام البروليتاريا المتنوعة غاية التنوع (وكذلك إلى الطبقات الأخرى من الشعب).. علينا أن نمركز قيادة الحركة. ولهذا فإن علينا كذلك.. وبقدر ما نستطيع أن نضفي طابعا لا مركزيا على المسؤولية من الحزب من جانب جميع أعضائه كأفراد ومن جانب كل من له دور في العمل ومن كل حلقة تعود إلى الحزب أو على اتصال به. هذه اللامركزية شرط مسبق للمركزية الثورية ودواء شاف لها” (31).
القواعد التنظيمية و“الخطوط الحمراء”
كان على لينين أن يوضح رؤيته فيما يخص القواعد التنظيمية كالتالي:
“إننا لا نحتاج إلى نظام داخلي بل إلى تنظيم المعلومات الحزبية، إذا كان التعبير واردا. إن كل منظمة من منظماتنا المحلية تنفق الآن ما لا يقل عن بضع أماس لمناقشة النظام الداخلي. غير أنه بدلا من هذا، لو قام كل عضو بتكريس هذا الوقت لكتابة تقرير مفصل وجيد الإعداد إلى الحزب كله حول الوظيفة التي يقوم بها، لكانت فائدة ذلك إلى عملنا أعظم مائة مرة.
والنظام الداخلي لا نفع فيه لا لأن العمل الثوري لا يتناسب دوما مع شكل تنظيمي محدد. كلا، فالشكل التنظيمي المحدد ضروري وعلينا أن نحاول إعطاء مثل هذا الشكل إلى سائر جوانب عملنا بقدر الإمكان. وهذا أمر مسموح به إلى حد أبعد مما نعتقده، عادة، ولا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إرسال المعلومات الدقيقة إلى مركز الحزب فقط (وعلينا أن نعيد ونكرر) ففي تلك الحالة وحدها سيكون عندنا شكل تنظيمي حقيقي يتصل بمسؤولية حقيقية وبالدعاية الحزبية الداخلية” (32).
“آمل أنه نتيجة ذلك قد صار واضحا إلى القارئ لكي يكون من الممكن البدء من دون حاجة إلى نظام داخلي والاستعاضة عنه بتقارير منتظمة حول كل حلقة وكل جانب من جوانب العمل” (33).
وفي الحقيقة، عندما كتب لينين مسودة للقواعد الحزبية في أواخر يونيو وأوائل يوليو 1903، كانت تلك القواعد قليلة العدد وبسيطة للغاية ومشبعة تماماً بروح “ما العمل؟” و”رسالة إلى رفيق حول مهامنا التنظيمية”.
أشار لينين، بشيء من السخرية، إلى قواعد مارتوف الحزبية، تلك القواعد الغارقة في “فيضان الإسهاب والصيغ البيروقراطية (حيث تبقى هذه الصيغ عديمة النفع للعمل، والمفترض أن تفيد في الاستعراض)” (35). هذه القائمة الطويلة من القواعد – 48 فقرة في مقال 12 للينين – مثلت بالتأكيد “تضخم في الإسهاب، وشكلية بيروقراطية حقيقية غلفت النقاط والفقرات عديمة النفع” (36).
من الناحية العملية، كان الشق اللينيني غير رسمي بشكل كبير بالفعل، فقد كان لينين يسعى لبناء منظمته من خلال موزعي ومراسلي الإيسكرا. وكما سنرى فيما بعد، عندما فقد لينين تأييد اللجنة المركزية التي كان عضواً فيها بعد المؤتمر الثاني، وجد مؤيدين آخرين حول مؤتمر جديد انعقد وانتخب مكتباً روسياً. وفي 1909، عند الانشقاق مع بوجدانوف، قام لينين بطرد بوجدانوف من خلال اجتماع لهيئة التحرير الموسعة لمجلة بروليتاري، على الرغم من أن بوجدانوف كان منتخباً للمركز البلشفي في مؤتمر 1907.
إن الهيكل الحزبي المبالغ في الرسميات يتصادم حتمياً مع السمتين الأساسيتين للحركة الثورية: 1- عدم التكافؤ في الوعي والنضالية للأقسام المختلفة من المنظمة الثورية، 2- وحقيقة أن الأعضاء الذين يلعبون دوراً إيجابياً وطليعياً في مرحلة معينة من النضال يتراجعون للخلف في أخرى.
“البطل” و“الجموع”
كان أحد التفسيرات التي تبناها بعد ذلك كلٌ من أنداد لينين المناشفة ورجال الصف الثاني من الستالينيين لـ “ما العمل؟”، هو أن الكتاب يضع تشديداً على دور “الأبطال” على حساب دور “الجموع”.
إلا أن هذا التفسير يفتقر بشدة إلى أدنى درجة من الإنصاف، كما أن ليس له أي أساس من الصحة. فطوال حياته، لم يكن هناك ما هو أغرب إلى أفكار لينين من وضع خط فاصل بين “البطل” و”الجموع”، وحتى إذا أحب هذ البطل الجموع، فلا يسعه إلا أن ينظر إليهم من أعلى، وتلك هي جهة النظر التي ترى الجماهير خاملة ومعتمدة بالكلية على “البطل”. أما لينين، فلم يكن ينظر في مرآة التاريخ على اللإطلاق باحثاً فيها عن نفسه، وكما كتب لوناتشارسكي مقارناً بين لينين وتروتسكي، فإن: “تروتسكي دون شك ميال في كثير من الأحيان إلى الخطو قليلاً إلى الخلف وتأمل نفسه، إنه يعتز بدوره التاريخي، وقد يكون مستعداً للإقدام على أية تضحية شخصية، بما في ذلك التضحية الأعظم – حياته – من أجل أن يبقى محاطاً في الذاكرة الإنسانية بهالة القائد الثوري الأصيل” (37). وفي المقابل: “لينين أيضاً ليس طموحاً على الإطلاق. ولا أعتقد أبداً أنه يخطو إلى الوراء ويتأمل نفسه، أو حتى يفكر فيما سترويه الأجيال القادمة عنه، إنه بكل بساطة مستمر في عمله”.
ولاحظ أولئك الذين عرفوا لينين وقابلوه عدم إدراكه أهمية ذاته. أنجيليكا بلابانوفا، على سبيل المثال، لم تكن حتى تتذكر متى تحديداً قابلت لينين في المنفى؛ فقد “كان ظاهرياً أكثر القادة الثوريين افتقاراً لأي لون مميز”. أما بروس لوكارت، القنصل البريطاني في موسكو 1917، فقد قال لدى مقابلته لينين بعد انتصار ثورة أكتوبر: “للوهلة الأولى يبدو (لينين) أشبه ببائع خضراوات محلي أكثر من كونه قائداً شعبياً” (38). ونفس القصة تلتها الألمانية كلارا زيتكين عندما استقبلها لينين ضمن وفد من الشيوعيين الألمان في الرايخستاج (البرلمان الألماني) ذوي المعاطف الصوفية وعزة الذات.. توقع الألمان شخصاً مختلفاً، حيث جاء لينين في الموعد المحدد ودخل الغرفة دون أن يلفت انتباهاً وتحدث بتلقائية وبساطة إلى درجة أنهم لم يخطر ببالهم أن من يتحدثون إليه هو لينين (2*).
وسجل أحد البلاشفة القدامى في مذكراته، المنشورة عام 1924، أن “الانطباع الأول الذي تولد لديّ تجاهه، وربما لدى كثيرين غيري، كان غريباً. فلم تترك هيئته المألوفة أي أثر عندي” (39).
أما مكسيم جوركي فقد وصف انطباعه الأول عن لينين على النحو التالي: “لم أكن أتخيل أن لينين يبدو هكذا، وبالنسبة لي كان هناك شيئاً غريباً ناقصاً.. كان عاقداً ذراعيه يدس كفيه تحت إبطيه. كان بشكل ما رجل طبيعي للغاية.. ولم يعط أي انطباع بقائد” (40).
كان لينين شخصاً متواضعاً للغاية. فلننظر الآن إلى ما كتبه في استبيان لعضوية الحزب الشيوعي السوفييتي (البلشفي سابقاً) في 13 فبراير 1922: “اللغة: الروسية. اللغات الأخرى التي يمكنك تحدثها: ليس هناك لغات أخرى” (41). في الحقيقة، كان لينين يقرأ ويتحدث الألمانية والفرنسية والإنجليزية بطلاقة، وكان يقرأ الإيطالية أيضاً، ومشاركته في جلسات ولجان الكومنترن (الأممية الشيوعية الثالثة) بثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشك.
وقبل أي شيء، لم يسع لينين على الإطلاق للتعبير عن أي زهو بمجد استشهاد أخيه الأكبر الذي أعدمه الحكم القيصري في 1887. وفي الـ 55 مجلد للنسخة الخامسة والأخيرة والأكثر اكتمالاً لأعماله الكاملة، لم يذكر حتى إسم أخيه ألكساندر إلا بالصدفة البحتة ثلاث مرات فقط: المرة الأولى حين كان يملئ استبياناً حزبياً، والثانية في خطاب عام 1921، حينما كان يتحدث عن شخص اسمه شيبوتاريف: “منذ عقود كنت أعرف شخصاً يُدعى شيبوتاريف له علاقة بقضية أخي الأكبر، ألكساندر إيليتش أوليانوف، الذي أُعدم في 1887. شيبوتاريف رجل طيب ومخلص للغاية بلا شك”. والمرة الثالثة كان في مقالة ذكر فيها إسم أخيه ضمن آخرين صدر بحقهم حكم الإعدام في نفس القضية.
الحركة الثورية الصاعدة
كانت “الاقتصادوية”، التي انتقدها لينين بحدة في “ما العمل؟”، تتدهور بشدة، ومن الناحية العملية قد انتهت تماماً في الوقت الذي رأى فيه كتيب لينين النور. إلا أن بعد عدة سنوات، كان بوسع لينين أن يعلن أن أتباع رابوتشي ديلو كانوا أكثر قوة بكثير، بين 1898 و1900، من أتباع الإيسكرا سواء في الخارج أو في داخل روسيا (42)، لكن بعد ذلك اضمحلت الاقتصادوية بشكل سريع. انتهت فترة الرخاء الصناعي في روسيا في 1898 – 1900، وصارت حركة الإضرابات العمالية تضعف حيث أصبح عدد العمال المنخرطين في الإضرابات في 1901 يمثلون فقط ثُلث من شاركوا في إضرابات 1899. وقد تغير أيضاً الطابع السائد على حركة الإضرابات التي أصبحت أكثر تبعثراً وتفتتاً، فيما كان هناك الكثير من الاحتجاجات التي تعاملت معها الشرطة والجيش بقسوة وعنف. ازداد التحريض الثوري بشكل كبير، ونُظمت الكثير من مظاهرات الشوارع.
خلال السنوات من 1900 إلى 1903، كان لينين مشغولاً للغاية في بناء الإيسكرا وشبكة الوكلاء الملتفة حولها من الثوريين المحترفين عبر كل روسيا كعمود فقري للحزب المستقبلي، فيما شهدت تلك السنوات أيضاً صعود هائل في الشعور الثوري لدى الجماهير الروسية.
وكما حدث هذه المرة ومن قبل أيضاً، سبقت الحركة الطلابية حركة جماهير الطبقة العاملة. فعندما تكون الأزمة الاجتماعية حادة وعميقة، بينما لا تكن الطبقة العاملة على استعداد بعد لتولي مهمة تجاوزها، غالباً ما يتقدم الطلاب في هذه الحالات لسد الفراغ. وفي 1899، اندلعت تحركات طلابية عاصفة وتشكلت تنظيمات طلابية مختلفة، فيما تكررت الصدامات كثيراً، وأصبح لاحتجاجات الطلاب ضد اضطهاد وقمع الشرطة طابعاً جماهيرياً.
في فبراير 1899، أدت الأساليب القمعية الشرسة لشرطة بطرسبورج ضد الطلاب إلى إضراب عام لطلاب الجامعات عبر كافة أنحاء روسيا شارك فيه نحو 5 آلاف طالب. وبعد أشهر قليلة، نظم طلاب كييف مظاهرة صغيرة احتجاجاً على نفي بعض من زملائهم كانوا قد تحدثوا من قبل في أحد الاجتماعات الطلابية. وكنتيجة لهذه المظاهرة، أُلقي القبض على 183 طالب أرسلوا بعد ذلك إلى الجيش، وفي بطرسبورج جرى الأمر بشكل مشابه حيث عوقت 30 طالب بإرسالهم إلى الخدمة العسكرية.
كان الطلاب مُثارين تماماً مما كان يحدث؛ حيث انعقدت الاجتماعات في كل الجامعات ووزِعت المنشورات الداعية لاحتجاجات موحدة. وفي 4 مارس، عندما فضت الشرطة مسيرة للطلاب في شوارع خاركوف، انضمت أعداد غفيرة من العمال إلى الطلاب واستمرت الاشتباكات مع الشرطة في الشوارع طوال اليوم، ردد خلالها المتظاهرون الأغاني الثورية وعلت أصواتهم بالهتاف ضد الحكومة. وبعد أيام قليلة، عندما أُلقي القبض على مئات الطلاب في موسكو وأُرسلوا لسجن مارستال، تجمعت مجموعات كبيرة من العمال والبرجوازية الصغيرة أمام المبنى معبرين عن تعاطفهم وتضامنهم مع الطلاب (43).
ذلك النشاط الجماهيري الواسع كان يعني أن الأزمة الاجتماعية تزداد عمقاً، لكن الجماهير العمالية لم تكن تتحرك بالسرعة الكافية. لكن على الرغم من مرور العام 1900 بسلام على الطبقة العاملة، إلا أن إضراباً عاماً في خاركوف قد تخلله في 1 مايو تحت تأثير التحريض المكثف للجان الاشتراكية الديمقراطية المحلية. وفي ذلك الإضراب، رفع العمال مطالب سياسية جعلت منه، بدرجة ما، نقطة تحول في تطور حركة الطبقة العاملة الروسية (44).
بعد ذلك انتعشت الحركة واتسعت كثيراً، ومنذ 1901 بدأ العمال في خاركوف وموسكو وتومسك، كما في مدن أخرى، في المشاركة في المظاهرات الطلابية التي أضفوا عليها طابعاً أكثر قوة ونضالية. أصبحت الصدامات الدموية مع الشرطة والجيش أمراً معتاداً، وتحولت محاولة الجيش لسحق إضراب مصنع أوبوخوف للذخائر في مقاطعة فيبورج بمدينة بطرسبورج إلى حصار المصنع عسكرياً والقبض على حوالي 800 عامل، حوكم الكثيرون منهم أمام محكمة عسكرية حكمت عليهم بالأشغال الشاقة.
وفي شتاء 1901 – 1902، حدث إضراب عام شارك فيه أكثر من 300 ألف طالب. وفي الذكرى الأربعين لتحرير العبيد الفلاحين، في 19 فبراير 1901، نظم الطلاب مظاهرة حاشدة شاركت فيها أعداد كبيرة من العمال. والأكثر تأثيراً من ذلك كان المظاهرات التي اندلعت في موسكو في 23 إلى 26 فبراير، حيث اندفعت موجات من عشرات الآلاف من العمال الذين استطاعوا إجبار القوزاق على التراجع إلى الوراء في حين كانوا يهاجمونهم بالسياط، وشهدت موسكو في تلك الفترة متاريس الشوارع للمرة الأولى. وبعد ذلك، في مارس، ثم في مايو، انطلقت مظاهرات حاشدة في بطرسبورج تصاعدت في صورة معارك مباشرة بين عمال أوبوخوف والشرطة، سقط فيها من العمال 6 شهداء و80 جريحاً، كما وقعت اشتباكات مشابهة في تيفليس في أبريل، وفي إيكاترينوسلاف في ديسمبر من نفس العام.
وفي نوفمبر 1902، تحول إضراب عمال السكك الحديدية في روستوفون – دون إلى إضراب عام خاضه عمال كافة المصانع بالمدينة تضامناً مع عمال السكك الحديدية. وخلال تلك الإضرابات، تم تنظيم اجتماعات جماهيرية حضرها عشرات الآلاف من العمال وتصدرها في الحديث النشطاء الاشتراكيين الديمقراطيين. وفي يوليو 1903، اندلعت موجة جديدة من الإضرابات، إلا أن هذه المرة لم تقتصر الإضرابات على مدينة واحدة؛ فقد شملت كافة أرجاء أوكرانيا وأقاليم القوقاز أيضاً، كما امتدت رقعة الإضرابات السياسية إلى باكو وتيفليس وأوديسا ونيكولاييف وكييف وإيليزافيتجراد وإيكاترينوسلاف وكريتش، وكان إجمالي عدد العمال الذين شاركوا في تلك الإضرابات حوالي ربع مليون عامل. وعلاوة على ذلك، توازت تلك الإضرابات مع مظاهرات ثورية ضخمة عمدت قوات الشرطة والجيش إلى قمعها بشراسة.
خلال الأعوام 1901 إلى 1903، صار العمال يمثلون الند السياسي الأكثر حيوية ضد القيصرية، ويتضح ذلك بجلاء من خلال الإحصاءات المتوفرة حول وظائف المشاركين في الحركة والذين سُددت إليهم اتهامات بارتكاب جرائم ضد الدولة. فمن بين كل 100 شخص، كان هناك:
النبلاء
الفلاحون
العمال
المثقفون
46 – 1827
76
؟
؟
؟
90 – 1884
30,6
7,1
15,1
73,2
03 – 1901
10,7
9
46,1
36,7
08 – 1905
9,1
24,2
47,4
28,4
وبرغم أن عمال المدن كانوا يمثلون أقلية من السكان، إلا أنهم شكلوا حوالي نصف المشاركين، فيما كان الطلاب والإنتلجنسيا في المرتبة الثانية مباشرةً (46). وهكذا فإن سياق الأحداث – بالإضافة إلى نشاط الإيسكريين – قد سحب البساط من تحت أقدام الاقتصادوية. وكما قال لينين لاحقاً، فإن “النضال ضد الاقتصادوية قد انحسر وانتهى بالعودة للخلف إلى 1902” (47).
مؤتمر 1903: ميلاد البلشفية
إعداد المؤتمر
كان لينين على أتم الاستعداد والقدرة ليس فقط للتعاطي مع المشاكل العامة في النظرية والسياسة، لكن أيضاً مع تفاصيل العمل التنظيمي. كان تلك واحدة من نقاط قوته، هو وحزبه، وسمة مميزة لهما، تلك السمة التي أظهرت أصالتها خلال فترة الإيسكرا والإعداد للمؤتمر الثاني – السنوات بين 1900 وحتى 1903.
وكان لينين يحرص دائماً على لقاء عمال الحزب السريين النشطين، فقد دعا العديد من العائدين من منفاهم في سيبيريا، والسجناء الهاربين، لقضاء بعض الوقت بالخارج، وناقش معهم القضايا السياسية والتكتيكية والتنظيمية التي واجهتهم. لقد دفع بالكثير من الرفاق الموثوق بهم في القلب من عمل التنظيم، وكان أحياناً ينقلهم من مكان إلى آخر، ويستعين بهم كعملاء للإيسكرا، إلخ. وحافظ لينين على الاتصال المنتظم مع 20 أو 30 منهم، فيما لعبت كروبسكايا دوراً محورياً في الحفاظ على الاتصال بروسيا.
“لدى عودتي، أخبرني فلاديمير إيليتش أنه نجح في ترتيب الأمور لأتولى سكرتارية الإيسكرا، وهذا بالطبع كان يعني أن الاتصال بروسيا كان يجري تحت السيطرة اللصيقة لفلاديمير إيليتش. لم يعترض مارتوف وبوتريسوف على ذلك إطلاقاً، ولم تقدم مجموعة تحرير العمل مرشحاً آخر، فلقد كانوا بالفعل يعرون اهتماماً أقل بالإيسكرا في ذلك الوقت. أخبرني إيليتش أنه كان من الصعب عليه ترتيب الأمر على هذا النحو، إلا أنه اعتبر ذلك ضرورياً من أجل القضية. وعلى الفور، أصبحت مغمورة بالمهام” (1).
كان هناك الكثير من المصاعب المتعلقة بالتواصل والمراسلات مع النشطاء الروس، وعلى رأسها تدخل الشرطة. ولا شك أننا إذا شرعنا في قراءة تلك المراسلات مع روسيا اليوم، ستصيبنا الدهشة من الأساليب الساذجة للعمل التآمري؛ حيث الأسماء المستعارة المشفرة (المناديل تعني جوازات السفر، والفراء الدافئ يعني الأدبيات غير الشرعية)، علاوة على أسماء المدن (أوسيب تعني أوديسا، وتيرينتي تعني تفير، وبيتيا تعني بولتافا، وباشا تعني بسكوف، إلخ)، ناهيكم عن تبديل أسماء الرجال بأسماء نساء، والعكس. كل تلك الأساليب كانت واضحة إلى أقصى حد (2).
كتب تروتسكي:
“كروبسكايا.. كانت في القلب من كل الأعمال التنظيمية؛ كانت تستقبل الرفاق فور وصولهم، وترشدهم لدى مغادرتهم، كانت تؤمّن وسائل التواصل، وتوفر العناوين السرية، وتكتب الخطابات، وتقوم بتشفير المراسلات المبعوثة إلى روسيا وفك شفرات المراسلات القادمة من هناك. كانت حجرتها دائماً تفوح برائحة الورق المحترق من كثرة الأوراق السرية التي اعتادت تسخينها على النار أولاً لقرائتها. كانت غالباً تشكو، بلطفها المعتاد، من أن الرفاق لا يكتبون بما فيه الكفاية، أو أن الشفرات تختلط عليهم، أو أنهم يستخدمون الحبر السري بشكل يجعل السطور تغطي بعضها البعض، وهكذا” (3).
لقد نجحت كروبسكايا بحق في تنسيق العمل التنظيمي الخاص بالإيسكرا لدرجة لم تحقق في أي منظمة ثورية في روسيا، وكل ذلك دون مساعدة أي من رفاقها في هذا المكتب (الحجرة الواحدة) الذي يفوح برائحة الورق المحترق.
كانت للمراسلات مع روسيا تأثيراً سلبياً على الحالة العصبية للينين؛ حيث كان عليه أن ينتظر لأسابيع، وربما لشهور، حتى يتلقى ردود على خطاباته، في حالة من التجاهل تجعله يفتقر إلى المعلومات حول تقدم الأوضاع، واقعاً تحت تأثير شبح التوقعات بأن الأمور التنظيمية برمتها قيد الانهيار. كل ذلك كان يتنافى بالكلية مع سمات لينين الشخصية. كانت رسائله إلى روسيا تعج بالرجاء من الرفاق من أجل الكتابة بدقة: “مرة أخرى، نتوسل إليكم جدياً ونرجوكم بأن تكتبوا بشكل أكثر دورية وبتفاصيل أكثر. افعلوا ذلك للتو ودون الوقوع في الأخطاء، في نفس اليوم الذي تستلمون فيه هذا الخطاب. أبلغونا باستلامه ولو بسطرين فقط”. كان إيليتش يقضي ليال دون نوم بعد تلقي بعض الخطابات التي تنقل له أخباراً مثل: “سونيا صامتة كالقبر”، أو “لم يأت زارين للجنة في الوقت المحدد”، أو “ليس لدينا أي اتصال بالمرأة العجوز”.. “صارت ليالي الأرق تلك محفورة في ذاكرتي” (4).
لعبت الإيسكرا دوراً محورياً في الإعداد للمؤتمر، هذه الجريدة احتلت مكانة فريدة في تاريخ الصحافة؛ فقد كانت بمثابة المركز الناظم لحزب غير شرعي بأكمله في روسيا. كان عملاء هيئة التحرير – تسعة أعضاء فقط في 1901 عملوا كأذرع لها (5) – يسافرون سراً عبر روسيا، ويتصلون بالمجموعات المحلية، أو يشكلون مجموعات أخرى في مناطق جديدة وينسقون عملها. في حين كانت المحاولات السابقة تدفع لقدر لا بأس به من التشاؤم؛ فعندما ذهب لينين ومارتوف وبوتريسوف للخارج لتأسيس جريدة ومن خلالها بناء منظمة روسية، كانوا يجاذفون بمواجهة المعاناة التي لاقها الثوريون الروس من قبلهم. لقد انطلقوا إلى الخارج حاملين نفس الأمل في بناء حركة ثورية روسية من أوروبا الغربية، وفي أفضل الأحيان كان الثوريون من قبلهم يشكلون منظمات من المهاجرين الروس هناك. لكن هذه المرة “بينما فشل الآخرون، نجح هؤلاء وبدا مؤتمرهم بحق كمؤتمر للمنتصرين” (6).
كان من المخطط للمؤتمر، بعد إجهاض مؤتمر 1898، لأن يكون مؤتمراً تأسيسياً للحزب، ولأن يوحد المجموعات الثورية المختلفة.
لم يترك لينين شيئاً لاحتمالات الصدفة. وما يلي هو جزء من خطابه إلى أحد عملاء الإيسكرا، ف. ب. لينجنيك، في 23 مايو 1902:
“إن مهمتك الآن هي أن تحول نفسك إلى لجنة لتجهيز المؤتمر.. أن تدفع رجالك إلى أكبر عدد ممكن من اللجان. وإلى حين إتمام المؤتمر، كن حريصاً على نفسك وعلى رجالك أكثر من حرصك على مقلة عينك. وتذكر أن الأمر له أهمية قصوى. كن أكثر جرأة وإقداماً وابتكاراً في ذلك، وفي كل الأمور الأخرى كن حصيفاً وحريصاً بقدر الإمكان. كن متيقظاً مثل الأفاعي. ومع لجان البوند وسان بطرسبورج، كن أليفاً مثل اليمام” (7).
عميل آخر للإيسكرا، آي. رادتشينكو، أوصاه لينين بالحرص الشديد تجاه منظمة العمال اليهود، البوند:
“تصرف بشكل يثير الإعجاب، وتعامل بحذر. خذ على عاتقك أكبر عدد ممكن من المناطق التي تقوم فيها بالإعداد للمؤتمر.. تأكد أن كل شيء بين يديك واترك البوند محصوراً ضمن حدوده.. وفي الوقت الراهن، ركز جهودك على تشكيل لجنة روسية للإعداد للمؤتمر، وهو الأمر البالغ الأهمية لنا (وقد تجد أنه من الأنسب القول بأن هذه اللجنة قد تشكلت بالفعل، ونسعد باشتراك البوند فيها، أو ما شابه)، وتولى انت سكرتارية اللجنة. هذه هي الخطوات الأولى، ولنرى بعد ذلك. لا تُلزم نفسك بالبوند (ولتقل، مثلاً، أنه قد تم التواصل مع الفولجا والقوقاز والمركز، حيث لدينا رجلاً هناك، والجنوب، حيث أرسلنا رجلين)، وحاول أن تتسيد الموقف. لكن افعل ذلك بعناية فائقة، دون تحفيزهم للاعتراض” (8).
تكشف صفحات الإيسكرا في شتاء 03 – 1902 أن رجال لينين قد نجحوا بشكل كبير في مهامهم. فقد نجحت الإيسكرا في كسب لجنة بعد الأخرى خلال تلك الفترة؛ لجنة نيجني – نوفوجورد في ديسمبر 1902، ولجنة ساراتوف في يناير 1903، واتحاد عمال الشمال في فبراير، وفي مارس لجان دون وأوفا وكازان واتحاد عمال سيبيريا، وفي أبريل لجان تولا وأوديسا وإيركوتسك، وفي مايو لجنة إيكاترينوسلاف واتحاد عمال مناجم جنوب روسيا (9).
ولعل أكثر الأوصاف وضوحاً لنشاط عملاء الإيسكرا هو الذي قدمه أحد جنرالات الدرك الروسي، سبيريدوفيتش:
“كمجموعة تآمرية من الثوريين المحترفين، كانوا يسافرون من مكان إلى آخر حيث تتواجد اللجان الحزبية، يتواصلون مع أعضائها ويسلمونهم الأدبيات غير الشرعية.. ويجمعون كافة المعلومات التي تحتاجها الإيسكرا. لقد كانوا يخترقون اللجان المحلية ويباشرون الدعاية ضد “الاقتصادوية”، ويقصون نظراءهم الأيديولوجيين.. وبهذه الطريقة بسطوا نفوذهم على اللجان” (10).
وبعد شهور من العمل الدؤوب، انتظمت المراسلات بين عملاء الإيسكرا ورفاقهم في داخل روسيا، بل وازدادت في الحجم أيضاً. أعطى ذلك فرصة كبيرة لينين ليلقي نظرة متفحصة على تفكير ووجدان العمال المناضلين في روسيا. وصفت كروبسكايا الأمر كالتالي:
“استمرت الحركة الثورية في روسيا في النمو، وفي نفس الوقت ازدادت المراسلات مع روسيا أيضاً؛ فقد وصلت إلى 300 خطاب في الشهر، وكان ذلك رقماً كبيراً في تلك الأيام. وعلاوة على ذلك، فقد أمدت إيليتش بسيل من المادة.. كان يعرف كيف يقرأ خطابات العمال. أتذكر أحد الخطابات من عمال بمحاجر أوديسا، كانت في الحقيقة مقالة جماعية كتبتها أكثر من يد بشكل بدائي بعض الشيء، خلت المقالة من المسندات والنقاط والفاصلات. لكنها كانت تشع بطاقة غير محدودة واستعداد للنضال حتى الانتصار. كل كلمة في هذا الخطاب، برغم بعض السذاجة والبدائية في الكتابة، كانت تنم عن قناعة لا تهتز. لا أتذكر الآن عما كان هذا الخطاب يتحدث، لكني لازلت أتذكر شكل الخطاب.. الورق والحبر الأحمر. قرأ لينين الخطاب أكثر من مرة آخذاً بالدوران في الحجرة ذهاباً ومجيئاً يفكر فيه. لم يضل الخطاب مقصده عندما أرسله عمال محاجر أوديسا إلى لينين؛ بل لقد كتبوه إلى الشخص الصحيح، إلى الشخص الذي بمقدوره أن يفهمهم بشكل أفضل” (11).
كانت كروبسكايا أيضاً مسئولة مالية الحزب البلشفي والوحيدة المطلعة على كل حساباته. وبالإضافة إلى ذلك، كانت تنظم عملية انتقال الإيسكرا إلى روسيا، وكانت تلك مهمة ثقيلة إلى أقصى حد. وصف أحد الأعضاء المنخرطين في هذه العملية، بياتينسكي، الأساليب المتبعة في ذلك، كما يلي:
“من أجل الإسراع في نقل الأدبيات إلى روسيا بكميات صغيرة، كنا نستخدم حقائب مزدوجة القعر. وحتى قبل وصولي إلى برلين، كان أحد المصانع الصغيرة قد وفر لنا كميات كبيرة من هذه الحقائب. لكن موظفي الجمارك ورجال التفتيش على الحدود سرعان ما تشككوا في الأمر، وفشلت الكثير من المحاولات اللاحقة. من الواضح أنهم قد تعرفوا على الحقائب التي كانت كلها بنفس الشكل. بعد ذلك بدأنا بأنفسنا في صنع قعر إضافي باستخدام الورق المقوّى في الحقائب العادية، مما كان كافياً لحمل 100 أو 150 نسخة إضافية من الإيسكرا. كان يتم ذلك بمهارة بالغة بحيث لا يمكن لشخص أن يقول بأن الحقائب تحتوي أي أدبيات، ولم تكن الحقائب شديدة الثقل أيضاً. كنا نجري هذه العملية في حقائب كافة الطلاب والطالبات المتعاطفين والمؤيدين لمجموعة الإيسكرا لدى عودتهم إلى روسيا، وأيضاً كل رفاقنا الذاهبين إلى روسيا سواء بطريقة شرعية أو غير شرعية. إلا أن كل ذلك لم يكن كافياً؛ فالطلب على الأدبيات الجديدة كان هائلاً، لذا لجأنا لاستخدام “مرايل” يمكن من خلالها تهريب الأدبيات؛ للرجال كنا نستخدم نوعاً خاصاً من المعاطف التي يمكن أن تحمل 300 نسخة من الإيسكرا والكراسات صغيرة الحجم، وللنساء قد صممنا نوعاً من التنورات التي يمكن أن ندس بها ما يقرب من 400 نسخة من الإيسكرا.
كنا نطلق على هذه الطريقة إسم النقل “الاكسبريس”، وكل من كان تقع أيدينا عليه كان يرتدي تلك “المرايل”، الرفاق الموثوق بهم أو المتعاطفين العاديين على السواء” (12).
هذه الطريقة في نقل الإيسكرا إلى روسيا كانت مرهقة وبطيئة للغاية، علاوة على كونها مكلفة أيضاً. تتذكر كروبسكايا تلك المصاعب وتقول أنه “برغم كمية الأموال والوقت والمجهود المكرسين لعملية النقل إلى داخل روسيا، علاوة على المخاطر الهائلة خلال كل ذلك، إلا أن الأدبيات التي كانت تصل بالفعل ربما لم تكن تتعدى عُشر المرسل منها” (13). انتشرت إشاعة قديمة تقول بأن توزيع الجريدة في كييف وحدها وصل إلى 100 ألف نسخة، إلا أن إجمالي نسخ العدد الأول من الإيسكرا كان 8 آلاف فقط (14).
كان لينين فريداً بين القادة الثوريين في ذلك الوقت في تركيزه الشديد في تفاصيل تنظيم الحزب. يمكننا أن نرى ذلك بشكل أوضح عندما نقارن لينين، على سبيل المثال، بروزا لكسمبورج ورفاقها في قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي البولندي، الذي يمكن وصفه كالتالي:
“إلى حد بعيد، كان كل عضو ينتمي للنخبة يتصرف بمبادرته الشخصية ووفق عاداته وميوله. كانت الأوامر نادرة للغاية.. كان دزيرجينسكي مفزوعاً من هذا التهاون الذي رآه مؤشراً على التفكك. “لا سياسة، لا توجيه، لا عمل موحد أو منسق.. وكل شخص عليه أن يتصرف بمعرفته الخاصة”. إن الأمر ليس مجرد ثغرة عرضية في إدارة الحزب؛ فهذه العشوائية مُتعمَدة وهناك حرص بالغ عليها. بعض من القادة يمقتون بشدة التعامل مع مالية الحزب أو الروتين التنظيمي، فهذا يشغلهم عن الكتابة. “ليس لديّ أي رغبة في إقحام نفسي في الشئون المالية.. عليك بالتواصل مع أولزيفيسكي الصراف بخصوص هذه الأمور”. هذا ما كتبه مارتشيلفيسكي إلى سيزارينا ووجناروفسكا في 1902. الأمر نفسه ينطبق بشكل أكبر على روزا لكسمبورج. وفي وقت ما، كان قد تم التوصل إلى قرار حزبي يقضي بأنها لن تشغل نفسها بالأمور التنظيمية على الإطلاق، ولن تشارك في أيٍ من المؤتمرات الرسمية”.
ومثله مثل روزا لكسمبورج، لم يكن ليون تروتسكي منخرطاً في الإدارة التنظيمية للحزب. لكن ذلك كان يرجع بالأساس إلى أنه حقاً لم يكن ينتمي إلى أي حزب حقيقي. وبين 1904، عندما قطع صلته بالمناشفة، و1917 عندما انضم للبلاشفة، كان مرتبطاً بمجموعة صغيرة ومفككة من الكُتاب.
كان التجهيز الفعلي لمؤتمر 1903 قابعاً بالأساس بين يدي لينين. تتذكر كروبسكايا ذلك متسائلة “كيف استمر لينين حتى المؤتمر” (16). ولكن على الرغم من كل الإصرار والعمل الشاق، جاء المؤتمر على نحو لم يكن لينين يتوقعه على الإطلاق؛ فبدلاً من أن يكون مؤتمراً للوحدة، انقسم الماركسيون الروس فيه إلى تيارين ومنظمتين منفصلتين – البلاشفة والمناشفة.
مؤتمر 1903
مع بداية المؤتمر، سارت الأمور على ما يرام مع القيادة الموحدة، والمكونة من بليخانوف ولينين ومارتوف وأكسيلورد وزاسوليتش وبوتريسوف؛ فمن أصل 55 صوتاً، حظى الإيسكريون بـ 33، أي أغلبية واضحة، وقد ساعد الترتيب الدقيق للينين في أن يصبح ذلك حتمي الحدوث. فيما حظت رابوتشايا ديلو، الجريدة الاقتصادوية والمنافِسة الأساسية للإيسكرا، فقط على ثلاثة أصوات، والبوند اليهودي على خمسة، فيما لم ينحاز ستة مندوبين إلى أي جانب. أطلق لينين وبليخانوف على هؤلاء المندوبين الستة لقب “المستنقع”؛ فهم تارة يصوتون للإيسكريين، وتارة أخرى ضدهم. بينما لو كان الإيسكريون قد اتحدوا سوياً، لكان بمقدورهم بالتأكيد تسيير المؤتمر في كل قضية يجري النقاش حولها.
كانت الجلسات الثلاثة الأولى من المؤتمر (من إجمالي 37 جلسة) مخصصة في الحقيقة لمناقشة أمور إجرائية بديهية، وبعد ذلك أتت مناقشة برنامج الحزب، تلك المسألة الأكثر أهمية في أجندة المؤتمر. في البداية قدم بليخانوف عرضاً للمناقشة، وقد لقت المسألة الأساسية في البرنامج المتعلقة بديكتاتورية البروليتاريا تأييداً صلباً من جميع حضور المؤتمر، فيما عدا “الاقتصادوييَن” مارتينوف وأكيموف. وحينما انتهى النقاش، تبنى المؤتمر البرنامج الحزبي بتصويت الجميع لصالحه، فيما عدا أكيموف الذي امتنع عن التصويت.
هاجم أكيموف البرنامج باعتباره مفعماً بروح رعاية الحزب للبروليتاريا:
“إن مفهومي “الحزب” و”البروليتاريا” لهما في تعارض مع بعضهما؛ فالأول كيان نشط وإيجابي وجماعي، بينما الثاني هو وسط سلبي لا حيلة له يعمل فيه الحزب. وهكذا فإن إسم الحزب يُستخدم كموضوع، في الحالة الإسمية، أما إسم البروليتاريا فهو الهدف والمفعول به، في حالة النصب.. إن الظرف الضروري للثورة الاجتماعية هو ديكتاتورية البروليتاريا، أي أن تحوذ البروليتاري هذه السلطة التي تمكنها من كبت كافة محاولات المقاومة من جانب المستغِلين”.
كيف يمكن لهذه الديكتاتورية أن تتسق مع مطلب الجمهورية الديمقراطية؟، هكذا تعجب أحد المندوبين، بوسادوفسكي، متسائلاً عما إذا كان الحزب سيخضع سياساته المستقبلية لهذا المطلب الديمقراطي أو ذاك باعتباره – المطلب الديمقراطي – قيمة مطلقة، أم أن كافة المبادئ الديمقراطية ستخضع حصرياً لمصالح الحزب؟ فقدم بليخانوف إجابة وافية وحاسمة على النحو التالي:
“إن كل مبدأ ديمقراطي لا يمكن أن نعتبره مبدئاً في ذاته، بشكل مجرد، بل في صلته لما يمكن أن يُسمى بالمبدأ الأساسي للديمقراطية. وبلغة الثوريين، فنحن نقول أن نجاح الثورة هو القانون الأسمى، وإذا كان نجاح الثورة يعتمد على توقيف العمل، مؤقتاً، بهذا المبدأ الديمقراطي أو ذاك، فسيكون من الجريمة أن نمتنع عن ذلك. ومن وجهة نظري الشخصية، أقول أنه حتى مبدأ الاقتراع العام ينبغي أن ننظر إليه من وجهة نظر ما أسميته بالمبدأ الأساسي للديمقراطية. إنه من الممكن، افتراضياً، أننا نحن الاشتراكيين الديمقراطيين ربما نتحدث ضد الاقتراع العام. البرجوازية في الجمهوريات الإيطالية كانت ذات مرة قد جردت بعض النبلاء من حقوقهم السياسية. وربما تحد البروليتاريا الثورية من الحقوق السياسية للطبقات العليا، مثلما قامت الطبقات العليا بالحد من الحقوق السياسية للبروليتاريا من قبل.
ولابد لنا أن نتخذ نفس الموقف من قضية مدة البرلمانات؛ إذا اختار الشعب، في فترة من الانفجار الثوري، برلماناً جيداً، سيكون علينا أن نحاول أن نحافظ عليه برلماناً ممتداً. لكن إذا لم تنجح الانتخابات في ذلك، فسيكون علينا أن نفككه، ليس في عامين، لكن في أسبوعين إذا أمكن” (17).
عكست مداخلة بليخانوف السابقة شرحاً بليغاً لسياسات البلاشفة، بالأخص في 1917، بينما عاش هو ليندم ببالغ المرارة على كلماته.
أما مارتوف، الذي صار نداً للينين مع نهاية المؤتمر، لم يختلف مع رؤية بليخانوف لديكتاتورية البروليتاريا، حتى برغم أن تعريفه لها كان أقل تطرفاً. وبعد أسابيع قليلة، في مؤتمر مصغر للاشتراكيين الديمقراطيين الروس بالخارج، حاول مارتوف أن يدافع عن رؤية بليخانوف من خلال تخفيض السقف قليلاً: “هذه الكلمات (كلمات بليخانوف) أثارت امتعاض بعض المندوبين، وكان من الممكن في الحقيقة تجنب ذلك إذا أضاف بليخانوف أنه من المستحيل أن نتخيل هذا الموقف المأساوي الذي يكون فيه على البروليتاريا، من أجل توطيد انتصارها، أن تدوس على بعض الحقوق السياسية مثل حرية الصحافة (بليخانوف يرد: شكراً – Merci)” (18).
وتروتسكي، الذي سيلتزم في مرحلة لاحقة من المؤتمر جانب مارتوف ضد لينين في هذه النقطة، في الدفاع عن مضمون ديكتاتورية البروليتاريا، فقد أهمل الحقيقة القاسية بأنه لابد أن يتم توجيه الديكتاتورية ضد الأفكار المحافظة المنتشرة بين الجماهير بفعل النظام القديم للمجتمع، ذلك النظام الذي سيقاتل من أجل النجاة. لقد همّ بالدفاع عن البرنامج مقتبساً من البيان الشيوعي مع بعض التغيير:
“إن حكم الطبقة العاملة لا يمكن تصوره دون أن يتوحد السواد الأعظم منهم على ذلك. حينها ستكون هي الأغلبية الساحقة. وهنا لن تكون ديكتاتورية عصبة صغيرة من المتآمرين أو حزب أقلية، بل ديكتاتورية الأغلبية الساحقة لمصلحة الأغلبية الساحقة لمنع الثورة المضادة. وباختصار، هذا يمثل انتصاراً للديمقراطية الحقيقية” (19).
لم يقدم ذلك بالطبع إجابة على جدال أكيموف، بالأخص في ظل ظروف روسيا حيث تمثل البروليتاريا حركة ضئيلة.
تدخل لينين بشكل بسيط في النقاش حول البرنامج، باستثناء تدخله في أبعاد المسألة الزراعية في البرنامج (انظر الفصل الحادي عشر). وعلى الرغم من كل شيء، كما أثبتت سياساته في 1917، أنه كان على اتفاق تام مع بليخانوف.
أما البرنامج الذي أقره المؤتمر فقد كان متطابقاً تقريباً مع المسودة التي قُدمت إليه في البداية (20)، واقتصرت الاختلافات فقط على إضافة مطلب انتخاب القضاة، وبعض التغييرات في المطالب المتعلقة بتشريع تحسين ظروف العمل. ومن الملفت للانتباه أنه خلال النقاش حول البرنامج، شن مارتينوف، أحد المندوبين “الاقتصادويين”، هجوماً حاداً على “ما العمل؟” للينين، لكنه لم يحظَ بأي تأييد على الإطلاق.
جدير بالذكر أيضاً، في ضوء الأحداث اللاحقة، أن المؤتمر قد تبنى البرنامج بالإجماع، وامتنع مندوب واحد فقط عن التصويت. بدت وحدة الإيسكريين أقل اكتمالاً في الجلسات السادسة عشر والسابعة عشر من المؤتمر؛ فقد أظهرت العديد من عمليات التصويت أن عدداً منهم قد صوّت مع الاقتصادويين أو مع البوند ضد لينين وبليخانوف، لكنها كانت على أمور بسيطة.
إلا أن قنبلة المؤتمر قد انفجرت في الجلسة الثانية والعشرين المخصصة للنقاش حول القواعد الحزبية، وبالتحديد خلال النقاش في الفقرة الأولى من مسودة الضوابط والقواعد الحزبية حول “العضوية”. طرح لينين أن يقوم البند الأول بتعريف عضو الحزب بأنه “يعترف ببرنامج الحزب ويؤيد وسائله المادية، ويشارك بنفسه في واحدة من منظمات الحزب”. أما مارتوف، فقد قدم طرحاً بديلاً يبدأ بنفس البداية، لكنه ينتهي بالتالي: “ويرتبط بالحزب بشكل منتظم تحت توجيه واحدة من منظمات الحزب”.
لكن لينين قد أوضح مراراً وتكراراً الصيغة التي قدمها بأنه يريد حزباً منظماً بإحكام من الثوريين المحترفين.
“لابد أن يكون الحزب حزباً للطليعة، أن يكون القائد لباقي جماهير الطبقة العاملة، التي تعمل كلها (أو تقريباً كلها) تحت سيطرة وتوجيه منظمات الحزب، لكن كلها لا تنتمي، ولا ينبغي أن تنتمي إلى “حزب”.. حيث سينحصر أغلبية نشاطنا في الاجتماعات السرية المغلقة، وحتى الاجتماعات الخاصة، لكنه من الصعب للغاية، بل أقرب إلى المستحيل، أن نفرّق بين أولئك الذين يتكلمون فحسب، وأولئك الذين يقومون بالعمل. ليس هناك دولة واحدة في هذا العالم لديها هذا الخلط بين هذين القسمين كما هو منتشر وبهذه الدرجة من التشويش والضرر في روسيا. نحن نعاني بشكل مرير.. من الأفضل أن يكون لدينا عشرة أعضاء يعملون فعلياً ولا يسمون أنفسهم أعضاءاً حزبيين (العمال لا يكترثون بالألقاب)، من أن يكون لدينا واحداً لا يفعل سوى الكلام بينما لديه الحق والفرصة لأن يصبح عضواً بالحزب. هذا المبدأ لا يبدو بالنسبة لي قابلاً للرفض، وهو نفسه الذي يدفعني للنضال ضد مارتوف.. ينبغي علينا ألا نتناسى أن كل عضو بالحزب مسئول عن الحزب ككل، وأن الحزب مسئول عن كل عضو به” (21).
وفي المقابل، تحدث مارتوف أكثر من مرة في صالح بناء حزب واسع. أما تروتسكي فقد انتقل إلى جانب مارتوف في هذه المسألة، مما أثار الدهشة؛ إذ كان تروتسكي في جلسة سابقة مركزياً على نحو تفوق فيه على لينين نفسه. وهكذا قال:
“القواعد، كما يقول (أكيموف)، لا تقوم بتعريف السلطة القضائية للجنة المركزية بدقة كافية. أنا لا أوافق معه. على العكس، فهذا التعريف دقيق، ويعني أنه بما أن الحزب هو كلٌ واحد، ينبغي عليه أن يؤمّن السيطرة على اللجان المحلية. أما الرفيق ليبير، فيقول مستعيراً تعبيري في ذلك، أن القواعد كانت تبعث على “الارتياب المنظم”. هذا صحيح، لكني استخدمت هذا التعبير في الإشارة إلى القواعد المطروحة من قبل متحدث البوند، والتي تمثل ارتياباً منظماً من جانب قسم من الحزب تجاه الحزب ككل. في المقابل، فإن قواعدنا تمثل هذا الارتياب المنظم من الحزب تجاه كل أقسامه، وهذا يعني السيطرة على المنظمات المحلية والمناطقية والقومية، وكل المنظمات الأخرى للحزب” (22).
والآن يقول تروتسكي فجأة: “لا أؤمن بأنه من الممكن أن تكشف الانتهازية وتطردها بشكل قانوني. إني لا أعطي الضوابط والقواعد أي تفسيرات من الباطن.. فالأسباب التي تنتج الانتهازية لهي أكثر تعقيداً بكثير من بند أو اثنين في القواعد الحزبية؛ فهي تتولد بالمستوى النسبي لتطور البرجوازية الديمقراطية والبروليتاريا”.
وقف أكسيلورد أيضاً ضد لينين، لكن بليخانوف برغم ذلك كان إلى جانبه: “لدي فكرة واحدة مقتنع بها مسبقاً، لكن كلما أسقطتها على ما يُقال، تزداد قناعتي بأن الحقيقة تبقى مع لينين.. ربما يتردد المثقفون لأسباب فردية في الانضمام إلى حزبنا، لأنهم بشكل عام انتهازيون.. لذا ينبغي على أعداء الانتهازية أن يصوتوا لصالح هذه المسودة”.
انقسم الإيسكريون، وانهزم طرح لينين في التصويت بـ 28 صوتاً مقابل 23. وهذه الأغلبية التي حازها مارتوف تضمنت خمسة من البوند والاثنين الاقتصادوييَن. وهؤلاء السبعة قد أعطوا لمارتوف أغلبية كافية ضد لينين للهيمنة على مجريات المؤتمر لاحقاً.
كيف كان لمارتوف وتروتسكي، الذين أيدوا لينين في “ما العمل؟” قلباً وقالباً في طرح مسألة السلطة التي يجب منحها للجنة المركزية للحزب، أن يرفضوا تعريف لينين لعضوية الحزب؟ إن جمعاً كهذا بين القيادة المركزية القوية وبين العضوية المفككة الواسعة لهو انتخابوية وصلت إلى أقصاها.
إن الضرورة الملحة للمركزية الديمقراطية داخل حزب الطبقة العاملة الثوري هي بالأساس مشتقة من أولويات ديكتاتورية البروليتاريا. وعلاوة على ذلك، على قيادة الحزب الثوري أن تقدم المثال الأسمى في التفاني والمعرفة الكاملة لحياة الحزب اليومية، وهذا بالتأكيد يمنحها السلطة الأدبية كي تطالب قواعد الحزب بالتضحية القصوى في النضال.
وحتى قبل ذلك بسنوات، كان إنجلز، في جداله ضد الفوضويين، يقول بأن الثورة البروليتارية تتطلب التزاماً حديدياً، وسلطة قوية.
“هل يا ترى شهد هؤلاء السادة أي ثورة؟ الثورة هي بالتأكيد أكثر الأمور سلطوية؛ إنها الفعل الذي يفرض من خلاله قسم من الشعب إرادته على القسم الآخر بواسطة البنادق والعصي والمدافع؛ أي بوسائل سلطوية. وإذا أراد الطرف المنتصر ألا يذهب قتاله سدى فعليه أن يحافظ على حكمه بأساليب ترهيبية، بأسلحته، لردع الرجعيين” (23).
وهكذا لا يمكن للحزب الثوري أن يتجنب مطالبة أعضائه بالانضباط والتضحية. ولا شك أن تعريف مارتوف لعضوية الحزب قد ناسب ضعف مفهومه لديكتاتورية البروليتاريا.
بعد ذلك القرار المتعلق بالبند الأول من لائحة القواعد الحزبية، وجد لينين نفسه مراراً وتكراراً في موضع الأقلية. ومنذ الجلسة الثالثة والعشرين حتى الجلسة السادسة والعشرين، كان مارتوف – الذي أصبح من الآن فصاعداً نداً للينين – يدير المؤتمر بنجاح من قضية إلى أخرى. ولكن كما أشرت من قبل، لم تكن لتلك القضايا أهمية كبيرة.
حاذ لينين الأغلبية مرة أخرى في الجلسة السابعة والعشرين، والتي هُزم فيها طرح البوند اليهودي بأن يمثل هو المنظمة الوحيدة للعمال اليهود، وليحافظ على استقلاله الذاتي داخل الحزب، وذلك بـ 41 صوتاً مقابل 5 أصوات، فيما امتنع 5 مندوبين عن التصويت. وبعد ذلك بفترة وجيزة، غادر مندوبو البوند الخمسة المؤتمر، ثم انسحب المندوبان الاقتصادويان أيضاً بعد أن أقر المؤتمر بأن تصبح حلقة الإيسكريين خارج روسيا هي الممثل الوحيد للحزب بالخارج. وهكذا فقد مارتوف سبعة أصوات دفعة واحدة، بينما احتفظ لينين بأصواته الأربعة والعشرين.
هنا وصل المؤتمر لانتخاب الأجهزة القيادية في الحزب. كان المؤتمر بالفعل قد أقر الهيكل المركزي، وقد أسست اللائحة للجنة مركزية مكونة من ثلاثة أعضاء لإدارة الحزب داخل روسيا، كما أقرت الإيسكرا كجهاز مركزي للقيادة الأيديولوجية للحزب. وبناءاً عليهما، ينشأ مجلس حزبي مكون من خمسة أعضاء؛ اثنين تعينهما اللجنة المركزية، واثنين يعينهما الجهاز المركزي، وعضواً واحداً ينتخبه المؤتمر.
ومن خلال الأغلبية التي حاذها، قدم لينين قائمة مرشحيه للجنة المركزية المكونة من ثلاثة أعضاء. أما هيئة تحرير الإيسكرا، التي أصبحت الآن الجهاز المركزي للحزب، فهي التي واجهت بعض الصعوبة في تشكيلها؛ فمن المفترض أن الستة الأصليين فيها سيتم انتخابهم، في حين كان أربعة منهم (مارتوف، وزاسوليتش، وأكسيلورد، وبوتريسوف) أنداداً للينين. ولينين قد أصر على أن تتكون هيئة التحرير من ثلاثة أعضاء فقط (بليخانوف، ولينين، ومارتوف). وهذه هي المسألة التي انقسم الحزب عليها إلى بلاشفة (أغلبية)، ومناشفة (أقلية).
تم انتخاب بليخانوف ولينين ومارتوف في هيئة تحرير الإيسكرا، بينما تم انتخاب نوسكوف وكرجيجانوفسكي ولينجنيك – الثلاثة لينينيون – في اللجنة المركزية للحزب، فيما تم انتخاب بليخانوف رئيساً للمجلس الحزبي. أما النقاش حول عضوية هيئة التحرير، ما إذا كان سيتم إعادة انتخاب الأعضاء الستة الموجودين بالفعل كما رغب مارتوف، أو الثلاثة الذين اقترحهم لينين، فقد استمر لفترة طويلة على مدار تسع جلسات في المؤتمر. كان النقاش في هذه المسألة حاداً ومريراً.
وبعد شجار طويل وشاق حول هذه المسألة، مر يوم كامل من المؤتمر وكأن المندوبين غير عابئين بالأمر أو أن النعاس كان يغلبهم. وهكذا تبقى 24 بنداً في المؤتمر تم ترحيلها جميعاً لليوم الأخير من المؤتمر الذي تعاطى مع أربعة منهم فقط. ومنذ الخامسة مساءاً في اليوم الأخير – بعد شهر من النقاش والجدال – شهد المؤتمر نقاشاً مفككاً للغاية حول قرارات تتعلق بقضايا تكتيكية. تضمنت تلك القضايا إصدار البيانات عن المظاهرات، وحول الحركة النقابية، والعمل في أوساط الطوائف المختلفة، والعمل أيضاً بين الشباب الطلاب، وحول التعامل مع الاستجوابات، وحول مؤتمر الأممية في أمستردام 1904، حول الموقف من الليبراليين (مسودة قرار ستاروفر، ومسودة قرار بليخانوف)، وحول الموقف من الاشتراكيين الثوريين، وحول الأدبيات الحزبية، ومناهضة مجازر الإبادة التي تُرتكب بحق اليهود.
القرار الأكثر سوءاً الذي كُتب له أن يمر في هذه الجلسة كان ذلك الذي أعده بوتريسوف (ستاروفر)، والذي لقى تأييداً من قبل مارتوف وأكسيلورد، حول التأييد الاشتراكي لليبراليين وفق الشروط الآتية: 1- أن يعلن “الليبراليون أو التيارات الليبرالية الديمقراطية” أنهم في نضالهم ضد الحكومة الأوتوقراطية ينحازون بشكل حاسم إلى جانب الاشتراكيين الديمقراطيين الروس. 2- ألا يشمل الليبراليون ضمن مطالبهم أية مطالب مناقضة لمصالح الطبقة العاملة، أو للديمقراطية بشكل عام، أو تضلل وعيهم السياسي. 3- أن يجعلوا من الاقتراع العام السري المباشر المتساوي شعاراً لنضالهم. (هذه الشروط خلقت جدلاً واسعاً حول ثورية الليبراليين). كان المندوبون في قمة الإرهاق إلى درجة أنهم مرروا هذا القرار بسرعة بالغة، وفي نفس الوقت مرروا قراراً آخر متعارضاً تماماً كان قد قدمه بليخانوف وأيده لينين. في قرار بوتريسوف، الذي لقى تأييد مارتوف وزاسوليتش (وياللعجب قد أيده تروتسكي أيضاً)، يمكن أن ترتسم أمامنا صورة مسبقة لما ستكون عليه المنشفية في 1905 وما بعدها (24). والمثير هنا أن لينين لم يبدِ اهتماماً كبيراً بهذا القرار سواء في وقت المؤتمر أو بعده، فيما صبّ جلل همه على الصراع حول مسألة حجم هيئة التحرير.
إلا أن قضية ما إذا كانت هيئة التحرير ستتشكل من ثلاثة أم ستة أعضاء، تلك القضية التي انقسم حولها الحزب، قد بدت وكأنها زوبعة في فنجان، بدت كشجار شخصي ليس بتلك الأهمية التي تتسبب في شق حركة جادة. في حين رأى لينين هذا الصراع بين هؤلاء الذين يقبلون مبدأ “تعيين الزملاء”، وأولئك الذين اعتادوا على أساليب الحلقات الصغيرة والشبكات الضيقة، صراعاً انطوى على عامل شخصي كبير، فيما لم يكن واثقاً على الإطلاق أن ذلك قد يبرر الانشقاق.
استخدم مؤيدو هيئة التحرير القديمة للإيسكرا بعض الجدالات مثل أن “ليس للمؤتمر لا السلطة الأدبية ولا السياسية لإعادة هيكلة هيئة التحرير” (تروتسكي)، و”إنها قضية معقدة” (تروتسكي مرة أخرى)، أو “كيف يشعر المحررون الذين لم يُعاد انتخابهم إزاء حقيقة أن المؤتمر لا يريد رؤيتهم في الهيئة بعد الآن؟” (تساريوف).
فيما علق لينين بأن:
“هذه الحجج تضع المسألة برمتها على صعيد المشاعر والشفقة، وهي قبول مباشر بالإفلاس فيما يتعلق بالحجج السياسية الحقيقية من حيث المبدأ.. وإذا اعتمدنا وجهة النظر هذه، وهي وجهة نظر بائسة ولا تمثل الحزب، فسيكون علينا في كل انتخابات أن نضع في اعتبارنا، مثلاً، ما إذا كان بيتروف سيُهاجم إذا انتُخب إيفانوف وليس هو؟ ألن يُهاجم أحد أعضاء اللجنة المنظِمة إذا انتُخب عضوٌ آخر إلى اللجنة المركزية وليس هو؟ إلام يقودنا هذا أيها الرفاق؟ إذا كنا نتجمّع سوياً بغرض إنشاء حزب، وليس من أجل الانغماس في المجاملات المتبادلة والعواطف البرجوازية الصغيرة، فلا يمكننا أن نوافق أبداً على هذا الرأي. إننا على وشك انتخاب “مسئولين”، ولا مجال هنا لأي حديث عن عدم الثقة في أي عضو لم يُنتخب. ينبغي أن يكون الاعتبار الوحيد لدينا هو مصلحة العمل والحزب وملاءمة العضو للمسئولية التي انتُخب من أجلها”.
جادل لينين ضد “أرباب الفرقة القديمة.. الذين يصرون على الاستمرار في حلقتهم” (25).
“هؤلاء الناس معتادين بشدة على عزلة الحلقات، ويكادوا يفقدون الوعي بمجرد أن يتحدث أحدهم بشكل مفتوح على ساحة حرة وعلى مسئوليته الشخصية.. إن الفردية وعقلية الحلقات تدخل في صراع مع متطلبات التحدث بشكل علني ومفتوح أمام الحزب” (26).
وحينما رفض مارتوف الالتزام بقرار المؤتمر بخصوص هيئة التحرير، أعلن “لسنا عبيداً”. رفض لينين ذلك، واعتبره درباً من دروب “الفوضوية الأرستقراطية”، وقال أنهم “عليهم أن يتعلموا الإصرار على أن واجبات الحزب يجب أن يتم الوفاء بها ليس فقط من قبل الأعضاء القاعديين، ولكن “من هم على القمة” أيضاً” (27). لكن لماذا حاول مارتوف وأصدقائه إنكار عدم كفاءة أعضاء هيئة التحرير القديمة التي أزاحها المؤتمر؟
“إن الهيئة القديمة، المكونة من ستة أعضاء، غير فعالة بالمرة، إلى درجة أنها لم تجتمع بكامل طاقتها ولو لمرة واحدة خلال سنواتها الثلاث. يبدو من الصعب تصديق الأمر، لكنه حقيقة. لم يصدر أي من أعداد الإيسكرا الـ 45 بفضل جهود أعضاء هيئة التحرير مكتملين (لا على المستوى التحرير ولا التقني)، باستثناء لينين ومارتوف. ولم تُطرح أي قضية نظرية هامة من أيٍ من أعضاء هيئة التحرير إلا بليخانوف. أكسيلورد لم يكن يفعل شيئاً على الإطلاق (لم تكن له حرفياً ولو مساهمة واحدة في زاريا، وفقط ثلاث أو أربع مقالات في الأعداد الـ 45 للإيسكرا). أما زاسوليتش وستاروفر، فقد كانا يساهمان بالكتابة وبالاقتراحات، لكن لم يشتركا على الإطلاق في العمل التحريري” (28).
ولتدعيم موقفه، أحصى لينين مقالات أعضاء هيئة التحرير في الأعداد الـ 45 من الإيسكرا كالتالي: كتب مارتوف 39 مقالة، فيما كتب لينين 32، وبليخانوف 24، بينما كتبت زاسوليتش 6 مقالات فقط، وبوتريسوف 8، ولم يكتب أكسيلورد سوى 4 مقالات (29).
كانت الرغبة في إبداء الدعم “للمحاربين القدامى” الأوائل في الحزب بدلاً من إخضاع كل الأمور لاحتياجات الثورة، غريبة تماماً على لينين. لم يكن لينين بارداً تجاه رواد الماركسية الروسية، بل كان مثلاً على صلة قوية بالأخص بفيرا زاسوليتش، وهكذا كانت كروبسكايا أيضاً. “ليلة وصولنا لميونيخ، قال لي لينين: انتظري حتى ترين فيرا إيفانوفا.. شخصية نقية كالكريستال” (30). كان لها تاريخ بطولي طَرق وتراً في العمق من قلب لينين. ففي يناير 1878، حينما كانت في الـ 29 من عمرها، أطلقت النار على الجنرال تريبوف، قائد الدرك في بطرسبورج، وأردته قتيلاً، احتجاجاً على تعذيب أحد السجناء السياسيين. وخلال محاكمتها، تعرضت لانتهاكات رهيبة من الشرطة، وقد أدهشت هيئة المُحلفين بالدفاع الذي قدمته لنفسها وقُضيَ لها بالبراءة. وحينما حاولت الشرطة اعتقالها خارج قاعة المحكمة، تجمع حشدٌ من المتعاطفين وساعدوها على الهرب. وفي الخارج، كانت على صلة وثيقة بكارل ماركس. احتفظ لينين بحبه لزاسوليتش وإعجابه العميق بها، وكان على علم تام بأن إزاحتها من هيئة التحرير ستمثل ضربة قاسية لها. تصف كروبسكايا الأمر كما يلي:
“كانت فيرا إيفانوفا تتوق للعودة إلى روسيا. وعلى ما أتذكر، فقد عادت في 1899 بطريقة غير شرعية، ليس لكي تشارك في العمل، بل على حد قولها “يجب أن ألقي نظرة على الموجيك وأرى كم كبرت أنفه”. وحينما بدأت الإيسكرا في الصدور، شعرت بأنها عمل روسي حقيقي، وأمسكتها بين يديها بأسى شديد. وبالتالي، فمغادرة هيئة تحرير الإيسكرا بالنسبة لها كان يعني العودة مرة أخرى للعزلة عن روسيا، والغرق مرة أخرى في البحر الميت لحياة المهاجرين.
ولهذا السبب، حينما بدأ الجدال حول هيئة تحرير الإيسكرا في المؤتمر الثاني للحزب، ثارت بشدة؛ فبالنسبة لها لم يتعلق الأمر بحب الذات، بل بالحياة أو الموت” (31).
إلا أن لينين كان أميناً ومخلصاً للقضية إلى درجة تغليب متطلبات واحتياجات وضرورات التنظيم على عواطفه الشخصية. وهكذا كان الأمر أيضاً بالنسبة لفيرا زاسوليتش. أما أولئك الذين كانوا يُخضعون احتياجات الحركة لاعتباراتهم الثانوية، فقد ظهروا فيما بعد بمظهر التوافقيين وليس الثوريين. لكن هذه الحقيقة لم تكن بعد بادية أمام لينين.
موقف لينين تجاه الرفاق
يمكن للبعض أن يستنتجوا من الواقعة المذكورة سابقاً أن لينين كان بارداً معدوم الإحساس ولا يعير رفاقه أي اعتبار. لكن ليس هناك أمراً أبعد عن الحقيقة من ذلك؛ فقد كان لينين دافئاً وودوداً تجاه الرفاق، كما كان شديد الاهتمام باحتياجاتهم ومتطلباتهم. وحتى عندما كان يقطع صلته سياسياً ببعض الأشخاص، كان غالباً ما يحتفظ ببعض المودة لهم. ولعل علاقته بمارتوف تقدم لنا مثالاً وافياً على ذلك.
كان الأمر بالغ الصعوبة بالنسبة للينين لأن يقطع صلته مع مارتوف؛ فلقد عملوا سوياً في سان بطرسبورج، وقد جعلتهما فترة عملهما في الإيسكرا القديمة شديدي القرب من بعضهما. خلال تلك الأيام، أظهر مارتوف حرصاً بالغاً على الإمساك بأفكار إيليتش وتطويرها بشكل موهوب وشديد الذكاء. بعد ذلك، أخذ لينين في النضال بشدة ضد المناشفة، لكن في كل مرة يتخذ فيها مارتوف الخط الصحيح، حتى ولو بأبسط درجة، كان لينين يعيد إحياء موقفه القديم تجاهه. هكذا كان الأمر، على سبيل المثال في باريس في 1910، عندما عمل مارتوف وفلاديمير إيليتش سوياً في هيئة تحرير “سوسيال ديمقراط”، لدى عودتهما من المكتب إلى المنزل، كثيراً ما كان لينين يشير بنبرة فكاهة حين كان مارتوف يتخذ المواقف الصحيحة، أو حين كان يعارض دان. ولاحقاً في روسيا، كان لينين في قمة السرور حين كان مع موقف مارتوف خلال أيام يوليو 1917، ليس بسبب أي ميزة للبلاشفة، بل لأن مارتوف كان موقفه ثورياً قويماً (32).
وفي شتاء 1919 – 1920، علم لينين أن مارتوف كان مريضاً للغاية، حينها أرسل له أفضل الأطباء الموجودين في موسكو.
إلا أنه لم يكن هناك أي عنصر شخصي كان له تأثير على لينين في تقديره السياسي للأشخاص. كتبت كروبسكايا أن:
“واحدة من أهم السمات المميزة لإيليتش كانت قدرته على التفريق بين النزاعات على المبادئ والنزاعات الشخصية، علاوة على قدرته على إعلاء مصالح القضية فوق أي شيء آخر. إذا هاجمه أحد أنداده، ينهض إيليتش لرد الهجوم وللتأكيد على وجهة نظره، لكن عندما تصعد مهام جديدة ويكون التعاون مع أولئك الأنداد ممكناً، كان لدى إيليتش القدرة على التقارب مع ند الأمس كرفيق. ولم يكن يجبر نفسه على ذلك، بل كان الأمر طبيعياً، وهنا تكمن قوة لينين الهائلة. كان دائماً متفائلاً كلما كان المهتمين بالأمر كُثر. كان أحياناً يخطئ، لكن ذلك التفاؤل كان مفيداً للغاية للقضية” (33).
كان قادراً في نفس الوقت الذي يهاجم فيه أحد الأشخاص بشدة على موقف سياسي حالي، أن يثني على إسهاماته في مجالات أخرى.
في خطاب يعلق فيه على إفلاس بليخانوف السياسي في 1905، كتب لينين أنه “حزين على الرجل العجوز.. يا له من عقل جميل” (34). وبعد ذلك بعامين، في مقالة يهاجم فيها بضراوة سياسات بليخانوف في ثورة 1905، لم يكف لينين عن مديح إسهاماته النظرية الهامة السابقة.
مرة أخرى في خطاب إلى هيئة تحرير البرافدا، في وقت ما بعد 25 مايو 1913، كان بوسع لينين أن يعود إلى الماضي ويكتب أن “بليخانوف له قيمة كبيرة الآن لأنه يناضل ضد أعداء حركة الطبقة العاملة” (35). وحتى بعد 1917، حينما لم يؤيد بليخانوف الحرب فقط، بل ذهب ليكتب في جريدته “إيدينتسفو” متهماً لينين بالعمالة لألمانيا، استمر لينين في الاحتفاء بإسهامات بليخانوف للنظرية الماركسية.
أظهر لينين قدراً كبيراً من الاستجابة واللطف تجاه الرفاق ليطوّر معرفتهم وقدراتهم. تصف كروبسكايا الأمر على النحو التالي:
“أتذكر أسلوب لينين في التعامل مع الكُتاب قليلي الخبرة. خلال النقاش معهم في أعمالهم، كان يتوجه مباشرةً إلى قلب الموضوع، إلى الأمور الأساسية، ويطرح عليهم الاقتراحات من أجل التطوير. كان يفعل كل ذلك بشكل رصين للغاية بحيث لم يكن هؤلاء الكُتاب يلاحظون أنه يقوم بتصحيحهم. وكان إيليتش جيداً للغاية في مساعدة الناس في أعمالهم. على سبيل المثال، إذا أراد من أحد الأشخاص أن يكتب مقالة، في حين أنه لا يثق كثيراً في قدرته على فعل ذلك بشكل صحيح، فإنه يبدأ بالنقاش معه، ويشرح له أفكاره، ويبرز له الأبعاد التي تجذب اهتمامه. وبعد أن يجعله يلم بالموضوع بما فيه الكفاية، يسأله “هل تحب أن تكتب مقالة عن الموضوع؟”، والكاتب لا يكاد يشعر بأن مناقشته المسبقة مع إيليتش قد ساعدته بالفعل، وأنه في كتابة المقالة نفسها قد استخدم بعض من تعبيرات لينين وعباراته” (36).
وإذا كان لدى لينين نقطة ضعف واحدة، فهي أنه كان يُغرم بالناس بسهولة كبيرة. “دائماً ما كان فلاديمير إيليتش يتحمس للكثير من الناس، ويبدو أنه كان يتبين بعض ملامح القيمة الغالية لدى شخص ما ويتعلق بها” (37). لكن ذلك الحماس لم يكن يستمر طويلاً. وبينما كان مستعداً، لدى المعرفة الأولى، لأن “يُغرم” بمتعاون جديد، فإنه يتبين، بعد معرفة أطول وأعمق، مواضع الضعف فيه.
وموقفه تجاه الشخص كان من الممكن أن يتغير جذرياً، وفق ما إذا كان في هذا الوقت إلى جانبه أم ضده. لا يمكن أن نسمي ذلك بالتقلب؛ فالسبب في أننا ربما نجد في كتابات لينين تناقضات مفزعة في تعليقاته على الناس هو أن القاعدة الأساسية بالنسبة له كانت أولوية احتياجات النضال فوق كل الأمور الأخرى. كانت قدرة لينين الفائقة في التحكم في ذاته، التي جعلته موضوعياً في تقييم إسهامات الآخرين، بما يشمل أنداده أنفسهم، وروحه السمحة ووده الاستتثنائي، كل ذلك أكسبه ثقة وحب كافة معاونيه.
بعد الاستطراد فيما يخص موقف لينين تجاه الرفاق وأسلوب تعامله معهم، دعونا نعود لما خلّفه مؤتمر 1903 من عواقب وأحداث.
جنون الانقسام
حكى ليو تولستوي ذات مرة أنه رأى رجلاً من بعيد يجلس القرفصاء ويومئ برأسه على نحو غريب. ظنه رجلاً مجنوناً، لكن عندما اقترب منه، كان راضياً بأن وجد الرجل منهمكاً في عمل ضروري؛ كان يسن سكيناً مستخدماً حجراً في يده. كان لينين مولعاً بالاستشهاد بهذا المثال؛ فلقد بدا المشاركون في النقاشات المطوّلة والمشاحنات الحامية في مؤتمر 1903، بالنسبة لأي متابع من الخارج، مجانين لا عقل لهم.
ليس هناك من شيء أكثر عبثية وافتقاداً للمعنى من هذا الانقسام بين البلاشفة والمناشفة. وبالاطلاع على الفترة التي انعقد فيها المؤتمر، لن يكون بوسعنا سوى أن نندهش عندما نعلم أن هذه الفترة مثلت نقطة تحول في تاريخ الحركة العمالية الروسية. وحتى المشاركون في المؤتمر لم يقتنعوا على الإطلاق بأن الانشقاق أمر ذو أهمية، أو أنه سيدوم لفترة طويلة من الوقت. لذا فقد كتب لوناتشارسكي معبراً عن هذه الحالة:
“إن التحدي الأكبر في هذا النضال يكمن في هذا بالذات؛ أن المؤتمر الثاني، بالانشقاق الذي حدث بالحزب، لم يبرز بعد الاختلافات الحقيقية بين المارتوفيين من جانب، واللينينيين على الجانب الآخر. هذه الاختلافات لا تزال تبدو محصورة في اللائحة الحزبية وعضوية هيئة التحرير. الكثيرون مندهشون من تفاهة السبب الذي قاد إلى الانشقاق” (38).
أما بياتنيسكي، الذي صار فيما بعد عضواً بارزاً في الكومنترن، وكان عاملاً شاباً أثناء فترة المؤتمر، كتب مستدعياً ذكرياته عن تلك الفترة:
“لم أكن أفهم لماذا تؤدي هذه الاختلافات البسيطة إلى إبعادنا عن العمل سوياً.. وصلتنا معلومات بأن هناك بعض الاختلافات في الرأي داخل مجموعة الإيسكرا نفسها.
لم أكن أصدق تلك الإشاعات، وقد كنا نتوقع أن نسمع عن اختلافات هامة بين القائمين على رابوتشي ديلو ومؤيديها؛ لكنني لم أكن أتوقع أي شق في الوحدة داخل مجموعة الإيسكرا والتي اعتدت على اعتبارها مجموعة متجانسة. كان ناقوس الخطر يدق على مدار أيام عديدة، والحيرة تسيطر على رؤوسنا. في النهاية عاد المندوبون من المؤتمر إلى برلين، وسمعنا تقارير عن المؤتمر من الجانبين، بينما شرع كلٌ منهما في التحريض على اتباع مساره الخاص. كنت ممزقاً تماماً بين الجانبين؛ فمن ناحية، شعرت بالأسف الشديد من أنهم هاجموا بوتريسوف وزاسوليتش وأكسيلورد وطردوهم من هيئة تحرير الإيسكرا. ومن ناحية أخرى، كان جميع الرفاق الذين كنت قريباً منهم بشكل خاص مصطفين داخل المعسكر المنشفي، بينما كنت أؤيد تماماً الهيكل التنظيمي للحزب الذي دافع عنه الرفيق لينين. منطقياً كنت في صف الأغلبية، لكن تعاطفي الشخصي – إذا كان لي أن أعبر عن نفسي هكذا – كان مع الأقلية” (39).
والمهندس كرجيجانوفسكي هو الآخر، والذي كان شديد القرب من لينين في تلك السنوات، ذكر أنه “بالنسبة لي، شخصياً، فإن التفكير في انتهازية الرفيق مارتوف يبدو متعالياً للغاية بالتأكيد”. هناك في الحقيقة دلالة كبيرة الأهمية لهذه الشهادة؛ فرسائل الاحتجاج على الانشقاق الممزوجة بنبرة رثاء الحزب كانت تنهمر من بطرسبورج وموسكو ومن كافة المدن الأخرى، ولم يكن أحد يريد الاعتراف بالانشقاق الذي حدث بين الإيسكريين في المؤتمر (40).
كان عامل بأحد المصانع قد أرسل للينين خطاباً مستنكراً فيه الانشقاق و”الصراع الدخلي عديم المعنى”:
“أنظر يا رفيق، هل من الطبيعي أن تُستهلك كل هذه الطاقات في السفر حول اللجان من أجل هدف واحد وهو التحدث عن الأغلبية والأقلية؟ حقاً، أنا لا أعلم، هل هذا الأمر بهذا القدر من الأهمية بحيث يستوجب تسخير كل الطاقات لأجله، وبسببه على الزملاء أن ينظروا لبعضهم البعض كأعداء؟ على المستوى العملي يصبح الأمر كالتالي: فلنقل أن لجنة من اللجان تتشكل من أتباع معسكر واحد, فلن يصبح أي من أتباع المعسكر الآخر عضواً فيها، بغض النظر عن أنه يناسب عمل اللجنة، وفي الحقيقة لن يصبح عضواً بها حتى إذا كان ضرورياً لهذا العمل، وحتى إذا كان عمل اللجنة سيعاني من دونه. بالطبع لا أقصد أن أقول أنه يجب التخلي عن النضال على هذه القضية، كلا بالتأكيد، لكني فقط أعتقد أن هذا النضال يجب أن يكون من نوع مختلف، يجب ألا يجعلنا ننسى واجبنا الأساسي وهو الترويج للأفكار الاشتراكية الديمقراطية بين الجماهير.. لا أعلم إذا كان هذا صحيحاً أم لا، لكني عندما أرى الزملاء يدوسون مصالح العمل في الوحل وينسونها تماماً، فإني أعتبرهم جميعاً يمارسون الخداع السياسي. إن الأمر ليؤلمك حقاً ويملئك بالقلق حيال العمل عندما ترى المسئولين عنه يقضون وقتهم في شيء آخر. عندما أرى ذلك، أسأل نفسي: هل مصير حزبنا هو الانشقاقات الدائمة على هذه التفاهات؟ هل بمقدورنا أن نشن النضال الداخلي والخارجي في نفس الوقت؟” (41).
فاقمت المهاترات والتشهيرات الشخصية بشكل كبير من الانشقاق داخل الحزب، وبعد عدة سنوات كتب لينين:
“ليس هناك من نضال على المبادئ تشنه مجموعات داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية في أي من أنحاء العالم استطاع أن يتجنب الصراعات الشخصية والتنظيمية. والأساليب البذيئة تشق طريقها عن عمد لتلتصق بتعبيرات “الصراع”. لكن فقط الهواة ضعاف الأعصاب هم من يستهجنون هذه الصراعات، سواء في يأس أو بازدراء، وكأنهم يقولون: الأمر كله لا يعدو كونه مشاجرة” (42).
وحتى في 1903، أُضيف إلى الارتباك قدر كبير من العداء الشخصي بين الطرفين المتنافسيَن. ومن الواضح في كتابات لينين في هذا الوقت أنه هو نفسه لم يكن يستوضح بدقة عمق الانشقاق وتأثيره المستقبلي. ويظهر ذلك بشكل جزئي في القسم الذي يغطي هذه الفترة من أعماله الكاملة، الذي يتضمن عدد كبير من الخطابات غير المرسلة، والبيانات التي لم تُسَلم، والمقالات التي سُوّدَت لكن لم تُنشر. أما تلك المادة التي رأت النور في وقتها فهي تشير إلى أن لينين لم يتوقع أن الانشقاق مع المناشفة سيستمر طويلاً، ولم يظن حتى أنه من المبرر أن ينشطر الحزب على هذه القضايا “التافهة”. وهكذا كتب إلى ن. بوتريسوف في 13 سبتمبر 1903:
“حينما أستدعي في ذهني الأحداث والانطباعات المختلفة خلال المؤتمر، أدرك أنني تصرفت في كثير من الحالات بشيء من الانفعال، وأحياناً بشكل مسعور، وأنا على استعداد للاعتراف بهذا الخطأ الذي بدا مني لأي شخص. هذا الخطأ – إذا جاز التعبير – كان نتيجة طبيعية للمناخ السائد وردود الأفعال والمداخلات المتشاحنة، إلخ. لكن بالتدقيق في الأمر الآن، والنتائج التي تم التوصل إليها، لا أجد أي شيء يضر بالحزب، أو أي شيء يمثل إهانة أو إساءة للأقلية على الإطلاق” (43).
وبعد ستة أشهر من المؤتمر، كان على لينين أن يكتب أن “الاختلافات التي تفرق جناحي الحزب في الوقت الراهن تتعلف في المقام الأول ليس بقضايا البرنامج والتكتيكات، وليس فقط بالقضايا التنظيمية” (44)، و”قضايا التنظيم بالتأكيد أقل جوهرية من مسائل التكتيك، ناهيكم عن البرنامج نفسه” (45)، و”اعتدنا من قبل أن نختلف حول قضايا كبرى كالتي تقتضي في بعض الأحيان وتبرر حدوث انشقاق، أما الآن فنحن متفقون على كافة النقاط الكبرى والهامة، وفقط الأمور الطفيفة هي التي تقسم صفنا، تلك الأمور التي علينا بالطبع أن نجادل حولنا، لكنها أيضاً من السخف والطفولية أن تفرقنا” (46). “إذا كان أعضاء حزبنا جديرين بحق لتمثيل البروليتاريا المناضلة والواعية طبقياً، وجديرين بحق للمشاركة في حركة الطبقة العاملة العالمية، فلابد لهم أن يبذلوا جل طاقتهم كي لا تتدخل الخلافات الشخصية في تفسير وإدراك أساليب ومبادئ برنامج حزبنا، أو أن تُتاج لها فرصة للتدخل في عملنا المشترك والمنسجم تحت توجيه مؤسساتنا المركزية” (47).
انتابت لينين حالة من التردد استمرت لشهور. وعلى عكس الأساطير السائدة في التاريخ، لم يكن لينين يتوقع ولا يرى النتائج التي سيسفر عنها هذا “الشق الطفيف” في الحزب، وعدم اتخاذه لقرار محدد كان له تأثيرا شديد السلبية على أعصابه. هكذا كتبت كروبسكايا أثناء المؤتمر الثاني أن فلاديمير إيليتش “كان مجهداً بشدة إلى درجة أن تطور الأمر إلى إصابته بمرض عصبي يسمى “النار المقدسة”، وهو عبارة عن التهاب في الأطراف العصبية في الصدر والظهر. وفي الطريق إلى جينيف لم ينعم بأي قدر من الراحة، أما لدى الوصول هناك فقد انهار تماما وكان عليه أن يقبع بالفراش لأسبوعين متواصلين” (48). وأثناء فترة المؤتمر، جفا النوم عينيه تماماً ولم يهنأ بأي راحة (49).
في الحقيقة كان لينين بعد كل مؤتمر يذهب مع كروبسكايا في رحلات طويلة يقضونها في المشي أو ركوب الدراجات. كان ضبط لينين لنفسه كبيراً لدرجة أن مؤشرات الموجات العاطفية التي هزته قليلة للغاية، إلا أن كروبسكايا كانت تشير دائماً في مذكراتها إلى أسابيع وشهور من الإرهاق العصبي الذي عانى منه لينين.
والفضل في قدرة لينين على الحفاظ على رباطة جأشه والتزامه وأمانته وتقليصه لتأثيرات الضيق الشخصي والتوتر، يعود إلى شريكة حياته كروبسكايا، التي بشخصيتها الحاضرة والنقية وطاقتها وإخلاصها للقضية وحبها الصادق، ساعدته على الاستمرار بهذه الدرجة من الصلابة والصمود.
بالعودة إلى الأحداث التي تلت مؤتمر 1903، اتخذ الأمر من لينين ستة أشهر كاملة حتى يتوصل لاستنتاج أن الانشقاق كان مبرراً وضرورياً. لقد توقف عن التردد وأصبح على قناعة راسخة بأن الانشقاق كان انعكاساً للخلاف بين الجناح البروليتاري والجناح البرجوازي الصغير للحزب.
وفي كتيبه “خطوة للأمام وخطوتان للخلف” المكون من 230 صفحة، والذي كتبه بين فبراير ومايو 1904للتعليق على أحداث مؤتمر 1903 وما بعده، كتب لينين أن “بالنسبة لفردية المثقفين التي أظهرت نفسها بالفعل في النزاع حول الفقرة الأولى والتي كشفت النقاب عن ميلها للجدال الانتهازي وعبارات الترويج للفوضوية، فإن التنظيم البروليتاري والالتزام هو عبودية” (50).
وفي رده على أحد الخطابات المنشورة بالإيسكرا (أصبحت منذ ذلك الحين جريدة منشفية) يستنكر فيه الكاتب رؤية لينين للحزب كـ”مصنع هائل” تقع اللجنة المركزية على رأسه وتديره، ذكر لينين أن الكاتب (1*):
“لا يداخله أي ريب في أن الكلمة الرهيبة التي أطلقها تفضح فوراً عقلية المثقف البرجوازي الذي لا يعرف لا ممارسة ولا نظرية التنظيم البروليتاري. إن هذه الفبركة، التي تبدو لبعضهم فزاعة، هي الشكل الأعلى للتعاون الرأسمالي، الذي جمع ونظم البروليتاريا، وعلّمها التنظيم، ووضعها في طليعة جميع الفئات الأخرى من السكان الكادحين والمستثمَرين. والماركسية، أيديولوجية البروليتاريا التي علمتها الرأسمالية، هي التي علّمت ولا تزال تعلّم المثقفين المتذبذبين الفرق بين جانب الفبركة الاستثماري (النظام القائم على الخوف من الموت جوعاً) وبين جانبها التنظيمي (النظام القائم على العمل المشترك الذي توحده شروط الإنتاج المتطور تكنيكياً بصورة عالية). إن النظام والتنظيم، اللذين يصعب جداً على المثقف البرجوازي اكتسابهما، إنما يستوعبهما البروليتاري بسهولة كبيرة، بفضل “مدرسة” الفبركة هذه على وجه التحديد” (51). (مذكور في: لينين، “خطوة للأمام وخطوتان للخلف”، دار التقدم، موسكو، ص 211 – المترجم)
وفي هجومه على الإنتلجنسيا وتشديده على الحاجة لحزب ثوري من أجل ضبط حركتهم، اقتبس لينين فقرات طويلة للغاية من توصيف كاوتسكي الرائع لنزعة المثقفين الفردية:
“المثقف ليس رأسمالياً. صحيح أن مستوى حياته هو مستوى حياة البرجوازي، وأنه مضطر إلى الاحتفاظ بهذا المستوى طالما لم يتحول إلى صعلوك، ولكنه مكره في الوقت نفسه إلى بيع نتاج عمله، وحتى قوة عمله أحياناً كثيرة، وهو أحياناً كثيرة يستثمره الرأسمالي، ويعاني بعض الإذلال الاجتماعي. وهكذا فإن المثقف لا يجد نفسه في أي تناحر اقتصادي إزاء البروليتاري. ولكن وضعه في الحياة، وشروط عمله، ليست وضع وشروط عمل البروليتاريا؛ ومن هنا بعض التناحر في المزاج وطريقة التفكير.
إن البروليتاري لا يساوي شيئاً طالما بقى فرداً منعزلاً. فكل قوته، وكل قدرته على التقدم، وكل آماله وأمانيه، إنما يستمدها من التنظيم، من النشاط المشترك والمنهجي مع رفاقه. إنه يشعر بنفسه كبيراً وقوياً حين يكون جزءاً من هيئة كبيرة وقوية. وهذه الهيئة هي كل شيء بالنسبة له. وبالمقارنة معها، ليس الفرد المنعزل سوى شيء قليل جداً. إن البروليتاري يخوض نضاله بأكبر ما يكون من روح التضحية، بوصفه جزءاً من الجمهور الغفل، دون أي أمل بالربح أو المجد الشخصي، ويؤدي واجبه في أي مركز يعهد به إليه، خاضعاً بملء إرادته لنظام الطاعة الذي يفعم كل عواطفه، الذي يفعم كل تفكيره.
أما الحال فآخر تماماً بالنسبة للمثقف. فهو لا يناضل باستخدام القوة بهذا الشكل أو ذاك، بل بالحجج. فسلاحه إنما هو معرفته الشخصية، مؤهلاته الشخصية، معتقداته الشخصية. ولا يمكن له أن يضطلع له بدور إلا بخصاله الشخصية. وهكذا فإن الحرية التامة في إبداء شخصيته تبدو له العمل الأول في العمل الناجح. ولا يخضع لكل واحد، بوصفه عنصراً ثانوياً في هذا الكل إلا بصعوبة، إنما يخضع بفعل الضرورة، لا بفعل اندفاعه الخاص. إن ضرورة الطاعة، إنما لا يعترف بها إلا للجمهور، لا لعقول النخبة، وهو بالطبع يعتبر نفسه في عداد العقول النخبة.
إن فلسفة نيتشه، مع تقديسها للإنسان الخارق الذي ينحصر كل شيء بنظره في تأمين كامل تطور شخصيته، والذي يبدو له كل إخضاع لشخصه لأي هدف اجتماعي كبير كان، أمراً مبتذلاً جديراً بالاحتقال والازدراء. إن هذه الفلسفة بالنسبة للمثقف هي مفهومه الحقيقي عن العالم، وهي تجعله غير أهل إطلاقاً للاشتراك في نضال البروليتاريا الطبقي.
وإلى جانب نيتشه، يمكن اعتبار إيبسن ممثلاً بارزاً لمفهوم المثقفين عن العالم، لهذا المفهوم الذي يستجيب لحالتهم الفكرية. فإن الدكتور شتوكمان – بطل مسرحيته “عدو الشعب” – ليس اشتراكياً كما تصوره الكثيرون، بل نموذج المثقف الذي لابد له بالضرورة أن يدخل في نزاع مع الحركة البروليتارية، ومع كل حركة شعبية بوجه عام، ما أن يحاول العمل في داخلها. ذلك لأن أساس الحركة البروليتارية، شأنها شأن أساس كل حركة ديمقراطية، إنما هو احترام أغلبية الرفاق. إن المثقف على شاكلة شتوكمان يرى في “الأغلبية المتراصة” وحشاً فظيعاً يجب طرحه أرضاً” (52).
استنتج لينين أن الموقف الذي اتخذه مارتوف ومؤيدوه إنما يعكس استسلاماً أمام فردية المثقفين، في حين على لائحة القواعد الحزبية أن تهدف إلى ضبط هؤلاء المثقفين أنفسهم. ومن المثير في الحقيقة أن نقارن أطروحات لينين في “ما العمل؟” بـ”خطوة للأمام وخطوتان للخلف”؛ في الأول وجه لينين النقد إلى النشطاء المحليين الذين لا يتسع أفقهم أبعد من حلقتهم. وهنا أتى مفهوم أن البروليتاريا “مدفوعة عفوياً إلى الوعي النقابي” فقط، وأن الإنتلجنسيا الماركسية لها دور محوري في جلب الوعي السياسي والطبقي إلى العمال من الخارج. أما بعد عامين، في “خطوة للأمام وخطوتان للخلف”، فإن العنصر البروليتاري في الحزب لابد أن يفرض الالتزام على الإنتلجنسيا. فالزمن يتغير، واحتياجات الحركة تتغير هي الأخرى، ولينين “يلوي العصا” من أجل توجيه الأمور في المسار المطلوب.
الترقب
كان انشقاق 1903 بمثابة مقدمة للكثير من التطورات اللاحقة. ومن الناحية الميكانيكية، يمكن اعتبار الخلافات السياسية بين لينين ومارتوف صغيرة للغاية لتبرر انشقاق بين جناحي الحزب، لكن إذا نظرنا إليها من زاوية تطورها، أي من الناحية الجدلية، يتعاظم أمر هذه الخلافات الصغيرة. في الحزب الموحد لم تكن حلقات البرجوازية الصغيرة معزولة تماماً عن حلقات الطبقة العاملة، وأحد جناحي كان يميل للالتفاف حول نفسه ليصبح لسان حال مجموعة اشتراكية غير بروليتارية، في حين كان الجناح الآخر خصماً لهذه العناصر البرجوازية الصغيرة. لكن الخلافات في 1903 انحصرت فقط في الإطار التنظيمي، بينما لم تكن الخلافات السياسية والبرنامجية قد كشفت بعد عن نفسها. ومن هذه الزاوية، لم يكن لينين في البداية يعتبر الانشقاق مبرراً بما فيه الكفاية. إلا أن تواجد منظمتين منفصلتين قد يؤدي إلى خلافات سياسية، حيث تتطور التوجهات السياسية داخل كل منهما على حدا، كما أن العامل الشخصي قد يلعب دوراً في تشكيل هذه التوجهات السياسية داخل كل مجموعة.
وفي الحقيقة، لم يكن أي من جناحي الحزب في 1903 خالصاً تماماً في تشكيله؛ فعلى جانب البلاشفة انحاز بليخانوف الذي صار فيما بعد على أقصى يمين المناشفة، وعلى جانب المناشفة اصطف كلٌ من تروتسكي وروزا لكسمبورج. لكن سمات كل جناح تحددت بشكل أساسي من خلال الزعيمين اللذين اختلفا بشكل أكبر في سماتهما؛ لينين ومارتوف. أما حقيقة أن الجناح البلشفي كان يُطلق عليه منذ البداية الجناح “الصلب”، والمناشفة الجناح “الرخو”، فقد كانت تعكس تشخيصاً نفسياً ناسب في مجمله قيادة جناحي الحركة. وفي حين يتحدث الجميع عن “صلابة” لينين، يتحدثون أيضاً بنفس القدر عن “رخاوة” مارتوف. وبعد سنوات طويلة من مؤتمر 1903، وصف تروتسكي مارتوف بـ”هاملت الاشتراكية الديمقراطية” الذي كان “فكره يفتقر إلى الإرادة” (35).
ويمكننا أيضاً ملاحظة أحد تعبيرات الاختلافات في الخصال النفسية بين لينين ومارتوف في اختيار أسماء “البلاشفة” و”المناشفة”. تمسك لينين بحزم بعنوان “البلشفية”، في حين رفع مارتوف بكل وداعة لافتة “المنشفية” طوال حياته، وحتى عندما كان يحوذ الأغلبية، استمر في تسمية نفسه “منشفياً”.
أحد الكتيبات التي أعدها مارتوف بعد المؤتمر الثاني ضد لينين كانت تسمى “مرة أخرى في الأقلية”. إذا افترضنا أن لينين كان في صف الأقلية في كل قضايا المؤتمر، كما كان الحال في البند الأول، هل كان سيسمي مجموعته “المناشفة”؟ بالطبع لا. ربما كان قد أطلق عليها “الأشداء”، أو الماركسيين الأرثوذكسيين”، أو “الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين”، أو أي من هذا القبيل. إن الأسماء التي اختارها مارتوف ولينين كان لها دلالات أعمق: القدرية والاستسلام في مقابل قوة الإرادة والفعل، حيث تتشابك العوامل الشخصية والتاريخية معاً.
لا يمكن بالطبع أن نصف مارتوف في 1903 سياسياً بالإصلاحي، لكنه أظهر علامات على الوسطية، التي تمثل مصطلحاً عاماً لتيارات مختلفة ومجموعات متنوعة بين الإصلاحية والماركسية. وواحدة من السمات الأساسية للوسطيين هي تعتيمهم على الحاجة الملحة لرسم الحدود بين الطليعة الطبقية والجماهير، بين مبادرة الأقلية وروتين الأغلبية. والمشكلة الرئيسية في الوسطية هي في قدريتها التاريخية، ولأن المجموعات الوسطية غير محددة في طبيعتها، وتفتقر إلى التحديد الواضح والحاد لطابعها، فهي لا تتحرك في نفس الاتجاه دائماً؛ بعضها يتوجه يساراً نحو الماركسية والبعض الآخر يتوجه يميناً للإصلاحية. وعلاوة على ذلك، ونظراً للافتقار إلى التماسك، في بعض الأحيان يسير الوسطيون إلى اليسار ومن ثم يغيرون دفتهم إلى اليمين في وقت لاحق. وخلال هذه العملية، يحدث نوع من الفرز، وبالتالي تحدث الانشقاقات، داخل هذه المجموعات الوسطية؛ بعض القطاعات تحسم موقعها تماماً وتترسخ في صفوف الإصلاحية، بينما ينضم البعض الآخر إلى الجناح الثوري للحركة العمالية.
في روسيا القيصرية، أعيقت عملية الفرز بين الثوريين المتماسكين والوسطيين والإصلاحيين، بواسطة السلطة الشمولية نفسها. ففي الغرب الأوروبي، كانت العناصر الأكثر اعتدالاً في الحركة العمالية تطلق على نفسها بكل صراحة “إصلاحية”، لكن تحت الحكم القيصري، حتى هؤلاء الاشتراكيون الأكثر اعتدالاً لم يكن بمقدورهم أن يؤسسوا لأنفسهم حزباً إصلاحياً. فـ”الطريق البرلماني للاشتراكية” لم يكن مساراً جاذباً في ظل غياب حياة برلمانية حقيقية. لكن على الأقل كان هناك حاجة بالفعل إلى شبه برلمان – مجلس الدوما القيصري الذي تأسس في السنوات اللاحقة – من أجل أن تطل الوسطية البرلمانية برأسها. ولم يرفع أي ممن انخرطوا في الحركة الاشتراكية الروسية لافتة الإصلاحية بشكل معلن في 1903.
كان جناحا الاشتراكية الديمقراطية الروسية، البلشفي والمنشفي، مقبلين بالفعل على شقاق عميق كان له انعكاسات سياسية حقيقية في الميول الكامنة داخل كل جناح، والذي كان له أن يحدد إمكانية أي توافق لاحق. لكن تلك النتائج لم يكن يراها أي من المشاركين في نزاعات تلك الأيام.
وقد تطلب الأمر أن تمر المنشفية بعام الثورة في 1905، وبسنوات الردة الرجعية 10 – 1907، حتى تتشكل تماماً وتصنع طرازها الخاص. ولأن المنشفية في 1903 كانت بشكل كبير تمثل الوسطية، لم يكن موقف البلاشفة، بمن فيهم لينين، تجاه الانشقاق واضحاً أو مستقراً. والنتيجة المترتبة على ذلك كانت أن عملية الانفصال الكامل بين البلشفية والمنشفية استغرقت عدة سنوات. هكذا سار تاريخ علاقة البلاشفة والمناشفة:
الانشقاق الرسمي
يوليو – أغسطس 1903
الانشقاق الحقيقي
ربيع 1905
شبه وحدة
7 – 1906
انشقاق
9 – 1908
شبه وحدة
1910
الانشقاق النهائي
يناير 1912
القادة البلاشفة يرفضون الانشقاق عن المناشفة
بعد انتهاء أعمال المؤتمر بفترة قصيرة، عمد بليخانوف، الذي كان مؤيداً للينين أثناء المؤتمر، إلى تغيير رأيه. فقد أعلن أنه لا يمكن أن يتحمل أن “يطلق النار على رفاقه”، وأنه “بدلاً من الانقسام، من الأهون أن نطلق النار على رأس واحد فقط”. لقد قرر دعوة مارتوف وأكسيلورد وزاسوليتش وبوتريسوف للانضمام إلى هيئة تحرير الإيسكرا، فيما قدم لينين استقالته منها باشمئزاز.
كان رد فعل لينين الفوري أن شرع في تنظيم مؤتمر جديد، وهكذا كتب في 18 ديسمبر 1903 خطاباً لواحد من أقرب أصدقائه، جي. إم. كرجيجانوفسكي:
“إن طوق النجاة الوحيد هو عقد مؤتمر جديد، وفقط من خلال المؤتمر يمكننا أن نمسك بالمارتوفيين، وأن نكسب الجماهير العريضة وننقذ الموقف. وفي رأيي، تكمن الخطة الوحيدة الممكنة في الوقت الراهن في التزام السرية التامة، ألا ننطق ببنت شفة عن المؤتمر. وكل القوى بلا استثناء تذهب إلى اللجان.. من أجل الخضوع للجنة المركزية. يجب أن نبذل كل الجهد من أجل تقوية اللجان برجالنا. يجب أن نبذل كل الجهد للإمساك بالمارتوفيين وأتباع يوجني رابوتشي، أن نسقطهم بالوثائق والقرارات، والقرارات ينبغي أن تصب في الجهاز المركزي. والأكثر من ذلك، ينبغي على رجالنا أن يجدوا طريقهم إلى داخل اللجان المهتزة والمترددة، أن يكسبوهم على شعارنا “ضد التشويش” – لكن هذه ليست المهمة الأكثر أهمية. لابد ألا يتأخر انعقاد المؤتمر عن يناير، لذا يجب العمل بكل حيوية. أكرر: إما الهزيمة الكاملة، أو الإعداد فوراً لمؤتمر. لابد أن ينعقد المؤتمر في سرية تامة خلال شهر واحد بحد أقصى، وخلال ثلاثة أسابيع أن تُجمع مطالب اللجان بعقد المؤتمر. أكرر مرة أخرى: هذا هو طوق النجاة الوحيد” (54).
إلا أن الأمر قد أخذ 18 شهراً، حتى مايو 1905، لعقد المؤتمر، وبالتالي وضع اللمسات الأخيرة على عملية الانشقاق مع المناشفة.
في البداية، واجهت فكرة المؤتمر الجديد مقاومة من جانب اللجنة المركزية، وبالرغم من أن كافة أعضائها كانوا بلاشفة، إلا أنهم كانوا منزعجين بشدة من الانشقاق، باحثين عن مسار لتسوية الأمور مع المناشفة:
“بعد فترة قصيرة من اجتماع يناير، أبدى خمسة من أصل ستة أعضاء في اللجنة المركزية للحزب عدم موافقتهم على مطلب لينين بعقد مؤتمر جديد. كما رفضوا أيضاً اقتراحه بضم عضوين آخرين.. أما الدوافع وراء الطرح الأخير فقد كانت واضحة تماماً. وقد انتهى خطابهم بـ “إننا نلتمس من الرجل العجوز (لينين) أن يكف عن الشجار ويبدأ بالعمل. ننتظر الأوراق والكراسات، وكافة ألوان النصائح التي توصي بها”. لكن ذلك ما لم يتقبله لينين، ورد عليهم قائلاً: “أنا لست آلة.. وليس بإمكاني إنجاز أي عمل في هذا الوضع المشين” (55).
وبعد شهور من المراسلات الحادة بين أعضاء اللجنة المركزية، تم طرد لينين منها بحلول صيف 1904، برغم أنه ظل عضواً بها من الناحية الشكلية. وفي يوليو 1904، سعت اللجنة المركزية للتصالح مع المناشفة؛ ففي تصريح لها نُشر على صفحات الإيسكرا، اعترفت اللجنة بالسلطة الكاملة لهيئة التحرير الجريدة (التي تشكلت آنذاك من خمسة مناشفة يشملون بليخانوف)، كما دعت لينين للالتحاق مجدداً بهيئة التحرير، واستنكرت تحريضه المستمر لعقد مؤتمر حزبي ثالث، وذلك من أجل تسوية الأمور مع المناشفة.
ومن وراء ظهر اللجنة المركزية، شرع لينين في بناء جهاز تابع للجنة المركزية سُمي بالمكتب الجنوبي للجنة المركزية تحت قيادة فوروفسكي الذي لم يكن عضواً باللجنة المركزية. لم يكن للمكتب الجنوبي أي صفة رسمية، لكنه كان وسيلة استخدمها لينين في الدعوة لمؤتمر جديد. قامت اللجنة المركزية في المقابل بحل المكتب الجنوبي، كما جردت لينين من حقه في تمثيلها بالخارج، ومنعت كتاباته من النشر (56)، وبدلاً من لينين قامت بتعيين نوسكوف، الذي كان توفيقياً يسعى للمصالحة مع المناشفة، ممثلاً رسمياً لها بالخارج.
لكن لينين لم يكن ساكناً أثناء حدوث كل ذلك؛ فبمعاونة كروبسكايا ومجموعة من بعض مؤيديه داخل روسيا، قام ببناء مجموعة جديدة تماماً من اللجان الممركزة، في تجاهل تام للبند السادس من اللائحة التنظيمية للحزب والذي يعطي اللجنة المركزية وحدها الحق في تنظيم اللجان والاعتراف بها. وخلال الفترة من سبتمبر إلى ديسمبر 1904، عُقدت 3 مؤتمرات للجان البلشفية المحلية؛ 1- اللجان الجنوبية (أوديسا، وإيكاترينوسلاف، ونيكولاييف)، 2- لجان القوقاز (باكو، وباكوم، وتيفليس، وإيميرتيان مينجريليان)، 3- اللجان الشمالية (سان بطرسبورج، وموسكو، وتفير، وريجا، ونورثر، ونيجني نوفجورود). وبناءاً على اقتراح لينين، انتخبت هذه المؤتمرات مكتباً لأغلبية اللجان لتجهيز وعقد المؤتمر الثالث للحزب. وقد تشكل هذا المكتب، الذي أصبح لينين عضواً به، بحلول ديسمبر 1904 (57).
كانت قد تمت الدعوة لمؤتمر الحزب الثالث في البداية، من خلال 22 بلشفياً، أثناء مؤتمر عُقد في سويسرا في سبتمبر 1904، ومن ضمن هؤلاء البلاشفة كان لينين وزوجته وأخته.
وفي ديسمبر 1904، نجح لينين في إنشاء جريدة فبريود (إلى الأمام)، أصبحت جهازاً أساسياً للبلشفية. إلا أن الأمور لم تسر على ما يُرام، فكتب لينين في 11 فبراير 1905 لاثنين من أقرب مؤيديه، أ. بوجدانوف وإس. جوزيف:
“فقط القيا نظرة على البونديين، فهم لا يثرثون كثيراً عن المركزية، لكن كل واحد فيهم يكتب أسبوعياً إلى المركز، وهكذا يحافظون بالفعل على التواصل. عليكما فقط أن تلتقطا جريدتهم بوليسدينيا إزفستيا لتريا هذا التواصل. أما نحن فنصدر العدد السادس من فبريود، في حين أن أحد محررينا لم يكتب إلى الآن سطراً واحداً لا عن فبريود ولا إليها. إن رجالنا “يتحدثون” عن الاتصالات الأدبية المبالغ فيها في سان بطرسبورج وموسكو، وعن قوى الأغلبية الشابة، في حين أننا نجتاز شهرنا الثاني بعد إصدار نداء التعاون.. ولم نسمع أو نرى أي شيء منهم.. فقط “سمعنا” من الغرباء عن نوع ما من التحالف بين لجنة سان بطرسبورج للأغلبية ومجموعة للمناشفة.. لكن من رجالنا، لم نسمع حتى كلمة واحدة. نحن نرفض الاعتقاد بأن البلاشفة كان بمقدورهم الإقدام على مثل هذه الخطوة الانتحارية المعتوهة. لقد “سمعنا” بالفعل من الغرباء عن مؤتمر للاشتراكيين الديمقراطيين وتشكيل “تكتل” ما.. لكن من رجالنا، لم نسمع حتى كلمة واحدة” (58).
كانت مقاومة الانشقاق واسعة الانتشار أيضاً بين قواعد الحزب، وقد استلزم الأمر شهوراً من الجهد الخرافي كي يتحقق الانقسام فعلياً في عدد من المدن الروسية. انقسم الحزب في سان بطرسبورج في خريف 1904 حين انقطعت الأقلية المنشفية عن اللجنة المحلية: “كثيرٌ من خلايا المناطق في 1904 و1905 كانت ذات تركيبة منشفية – بلشفية، والكثير من الأعضاء القاعديين أيضاً لم يدركوا أبعاد الانشقاق ولا تأثيره” (59). وفي موسكو، لم يحدث الانقسام بشكل فعلي إلا في مايو 1905. وفي سيبريا كما في أماكن أخرى، عمل شقيّ الحزب معاً ضمن إطار الهيكل التنظيمي طوال 1904 و1905، بل واستمرا في ذلك حتى مؤتمر الاندماج في أبريل ومايو 1906.
ورشة الطباعة غير الشرعية الشهيرة مثلاً، التي أدارها أعضاء بالحزب، استمرت في 1904 في طباعة الإيسكرا المنشفية بجانب العديد من الكتيبات البلشفية (2*). يينوكيدزه مثلاً قد كتب أن “اختلافاتنا في الرأي لا تنعكس على الإطلاق في عملنا”. ولم تقع ورشة الطباعة في يد اللجنة المركزية البلشفية إلا بعد المؤتمر الثالث، أي ليس قبل منتصف العام 1905 (60).
كان هناك عدد من العوامل التي حالت دون شق الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. فأولاً، لم تكن الاختلافات بين البلاشفة والمناشفة بهذا القدر من الوضوح أمام أعين الأعضاء بحيث تستوجب الانشقاق. ثانياً، كان هناك وجداناً عاماً في صالح الوحدة. ثالثاً، كان كل الكُتاب والمنظّرين البارزين، فيما عدا لينين، يصطفون في المعسكر المنشفي – بليخانوف، وأكسيلورد، ومارتوف، وزاسوليتش، وتروتسكي، وبوتريسوف. وكما سنرى لاحقاً، خلال سنوات الردة الرجعية من 1906 وحتى 1910، فقدَ لينين أيضاً الصف الجديد من الكُتاب الأكفاء الذين انضموا للبلاشفة حينها – بوجدانوف، ولوناتشارسكي، وبوكروفسكي، وروجكوف، وجوركي. عانى البلاشفة دائماً من ندرة المثقفين والصحفيين المهرة بالمقارنة بنظرائهم المناشفة. الوجه الآخر من العملة هو أن المناشفة قد سقطوا في الوهم بأن تفوقهم في القدرة الأدبية يضمن لهم نفوذاً مستقبلياً في أوساط الحركة العمالية.
وما يزيد الطينة البلة، ويضع المزيد من المصاعب أمام لينين، هو أن كافة القادة البارزين في الحركة الاشتراكية الديمقراطية خارج روسيا كانوا في صف مارتوف والمناشفة، ومن بين هؤلاء كان كارل كاوتسكي، وروزا لكسمبورج، بالإضافة إلى أوجست بيبل الذي تطرق في حديثه عن أن هذه “الفضيحة الصارخة” لنزاعات الحزب الروسي تثبت أن أسلوب البلاشفة يستند إلى “عجز كامل” عن أن يصبحوا قادة حقيقيين للحركة (61).
الإخفاقات داخل روسيا
في 15 أغسطس 1904، كتب لينين إلى قيادة سان بطرسبورج البلشفية:
“إن الأوضاع الراهنة في اللجنة، التي تعاني من نقص الأعضاء، ونقص التثقيف، ونقص المعلومات، شبيهة بالأوضاع في روسيا كلها. في كل مكان هناك نقصاً مريعاً في الأعضاء.. وعزلة تامة، ومزاج عام من الإحباط والمرارة، وركود في العمل. وحتى قبيل المؤتمر الثاني، كان الحزب ممزقاً إرباً، والآن تتدهور الأوضاع كثيراً جداً في هذا الاتجاه” (62).
وفي 22 ديسمبر 1904، كتب أنه “قد أصبح معلوماً للجميع أن حزبنا عليلاً بشدة، وفقد نصف تأثيره خلال العام الماضي” (63). وفي 11 مارس 1905: “أضحى المناشفة أقوى منا في الوقت الراهن، لابد أنه سيكون نضالاً طويلاً وشاقاً” (64).
كان نشاط البلاشفة محدوداً للغاية في سان بطرسبورج خلال العام 1904. خلال ذلك العام قد أصدروا فقط 11 منشوراً، بعد أن كانوا قد أصدروا 55 خلال 1903. وخلال الفترة من مايو إلى نوفمبر 1904، أصدروا منشوراً واحداً فقط في يوليو (65).
في يناير 1905، كان لدى البلاشفة فقط 60 محرضاً أغلبهم شباباً يافعاً حديثي العهد بالنشاط الثوري. وبالرغم من ذلك، اعتبر جوزيف، أمين عام لجنة بطرسبورج، أن البلاشفة يمتلكون منظمة تآمرية كبرى في المدينة. وكان الغالبية الساحقة من القادة البلاشفة المحليين طلاباً بالأساس، وفي المقاطعة الأساسية بالمدينة، كان الـ 15 محرضاً والـ 10 دعاويين البلاشفة كلهم طلاباً (66).
كان ذلك هو الوضع العام للبلاشفة في 1904، ذلك العام الذي اندلعت فيه الحرب الروسية اليابانية التي مهدت الطريق بشكل مباشر للثورة.
وكان الحزب الاشتراكي الديمقراطي ككل، بشقيه البلشفي والمنشفي، قد شهد حالة مشابهة من التدهور الحاد في موسكو:
“كان لدى الاشتراكيين الديمقراطيين في موسكو عدداً محدوداً من الخلايا، وخلال صيف وخريف 1904 بدا واضحاً أن حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي كان قد اندحر تماماً؛ حيث زُج بقادته في السجن، وتوقفت أنشطته بشكل كامل. ولعل قائمة المنشورات التي أصدرتها اللجنة هناك يمكن أن تشير لنا على مدى التدهور الذي كان قائماً؛ فمن ضمن 252 منشوراً، كان 16 منهم فقط قد صدروا في 1904” (67).
وفي 5 يناير 1905، أي قبل أربعة أيام من اندلاع الثورة، كتبت كروبسكايا من جينيف إلى لجنة بطرسبورج البلشفية ما يلي:
“لكن أين إذن تلك الشعارات التي وعدت اللجنة أن تجتاح بها المدينة كالطوفان؟ لم نشهد أي منها، ولم نتحصل على تقرير واحد عن أي شيء. علمنا من الصحف الأجنبية أن عمال بوتليوف قد دخلوا في إضراب. هل لدينا صلات هناك؟ هل من المستحيل أن نحصل على أي معلومات عن الإضراب؟ ابذلوا كل جهدكم كي يكتب العمال التقارير بأنفسهم” (68).
أضاف نيفسكي أن “واحدة من أعظم التحركات البروليتارية كانت تبدأ لتوها، وبالفعل تناضل رأس حربتها – عمال مصنع بوتيلوف – ضد الرأسماليين، لكن المركز بالخارج يعلم عن كل ذلك من الصحف الأجنبية، إذ أن اللجنة البلشفية في سان بطرسبورج كان عليها أن تسخر جم طاقتها للنضال ضد المنظمات المنشفية التوافقية” (69). وفي فترة لاحقة، كف نيفسكي عن إلقاء اللوم على المناشفة، فيما كتب عن “البعد الشديد لمنظمتنا عن الجماهير العريضة، وتجاهلها لحياة ومصالح الجماهير”.
بالفعل كانت هناك حركة ضخمة من الإضرابات العمالية، وموجة هائلة آخذة في التصاعد، لكن في تلك الأثناء كانت اللجنة البلشفية تعيش حياتها المعزولة، وكانت قد نعتت حركة جابون بأنها زوباتوفية، فيما لم تكن قادرة حتى على إدارك أن إضراب بوتليوف لم يكن إضراباً عادياً، بل حركة ذات صلات وثيقة بتنظيمات جابون، وتربطها وشائج وطيدة بحركة إضرابات بروليتاريا بطرسبورج بأسرها (70).
وصف تقرير مُقدم من لجنة بطرسبورج إلى المؤتمر الثالث للحزب (أبريل – مايو 1905) الأوضاع داخل الحزب كالتالي:
“وضعت أحداث يناير لجنة بطرسبورج في وضع مؤسف للغاية؛ فروابط اللجنة وصلاتها بالطبقة العاملة تم بعثرتها حرفياً من قبل المناشفة. وعملنا على الحفاظ عليها بجهد كبير فقط في مقاطعة المدينة (ذلك القطاع الذي كان دوماً لصيقاً بوجهة نظر البلشفية)، وفاسيلييف أوستروف، وفي فيبورج. وفي أواخر ديسمبر تم الكشف عن ورشة الطباعة الخاصة بلجنة بطرسبورج. وفي ذلك الوقت كانت لجنة بطرسبورج تتشكل من: أمين عام (من خلاله يتم التواصل مع لجنة الشئون المالية وغيرها)، وكاتب رئيسي ومحرر، ومنظم رئيسي، ومحرض (هو نفسه منظماً للطلاب)، وخمسة منظمين. لم يكن هناك عاملاً واحداً بين أعضاء اللجنة. وقد أدى بنا إضراب بوتيلوف إلى وضع متبعثر” (71).
لم يكن المناشفة أفضل حالاً؛ فالصراع الداخلي في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي قد أصاب جناحيه على حد سواء بتدمير واسع. وبعد سنوات لاحقة، كتب مارتوف:
“كان من الضروري إعادة إحياء جهود القوى الاشتراكية الديمقراطية من أجل الانخراط في حركة الطبقة العاملة المنتفضة ولإرشادها في المسار الصحيح. إلا أن الصراع الداخلي في الحزب قد منع ذلك، حيث ابتلع كل قوة الحزب، وخلال شتاء 04 – 1903 توقف نشاط التنظيم تماماً” (72).
في إحدى مقاطعات سان بطرسبورج، تقلص عدد الحلقات المنشفية من 15 أو 20 في بداية العام 1904 إلى 4 أو 5 فقط في ديسمبر من نفس العام (73).
الافتقار إلى قيادة مركزية
طوال العام 1904، وأيضاً خلال سنوات الثورة، طالما شكى لينين في خطاباته لمؤيديه القريبين داخل روسيا من الافتقار إلى قيادة مركزية داخل البلد نفسها، وكذلك من ضعف الاتصال بالقيادة بالخارج. وفي خطابه الذي كنت قد أشرت إليه سابقاً في 11 فبراير 1905 إلى أ. بوجدانوف وإس. جوزيف، كتب لينين:
“حسناً إذن.. نحن نتحدث عن التنظيم، عن المركزية، في حين نجد هذه الدرجة من غياب الوحدة، والهواية، حتى بين أقرب الرفاق إلى المركز، إلى درجة تجعل المرء يشعر بأنه على وشك التخلي عن كل ذلك باشمئزاز” (74).
“لدى المناشفة أموالاً أكثر، أدبيات أكثر، وسائل نقل أكثر، عملاء أكثر، و”أسماء” أكثر، وصف أكبر من المساهمين. وسيكون على سبيل الطفولية التي لا تُغتفر ألا نرى ذلك” (75).
وفي خطابه إلى أمانة مكتب لجنة الأغلبية، في 29 يناير 1905، كتب:
“لديّ كل الحق كي أطلب منكم ذلك. أرجوكم وبّخوا راخميتوف.. نعم وبّخوه جيداً. لقد أرسل خطابين فقط طوال 30 يوماً. ماذا تظنون حيال ذلك؟ لم نتلق أي إشارة منه، ولا سطر واحد لفبريود، ولا كلمة واحدة عن العمل أو الخطط أو الاتصال. إنه عار لا يمكن تقبله ولا تصديقه. سيصدر العدد الرابع من فبريود خلال يوم أو اثنين، وبعده مباشرةً بعدة أيام سيصدر العدد الخامس، دون أي مساعدة من راخميتوف” (76).
وفي خطاب آخر للجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في 11 يوليو 1905، كتب لينين: “الإحساس العام داخل الحزب أنه لا وجود للجنة المركزية، أنه لا تأثير لها، ولا أحد يلاحظ وجودها. والحقائق تؤكد ذلك. وليس هناك أي مؤشر على أي توجيه سياسي للحزب من قبل اللجنة المركزية. إلا أن أعضاء اللجنة المركزية يعملون بأنفسهم حتى الموت. ما الأمر إذن؟”. ومن ثم ذهب ليوضح أنه:
“من وجهة نظري، إن واحداً من الأسباب الأساسية لذلك أنه لا وجود للأوراق الدورية من جانب اللجنة المركزية. والقيادة بواسطة الأحاديث الجانبية والاتصالات الشخصية هي محض يوتوبيا مطلقة. القيادة يجب أن تكون عامة وعلنية. وكل أشكال العمل لابد أن تكون كلياً وتحت أي ظرف خاضعة لهذه الطريقة. إن مسئول الدعاية في اللجنة المركزية عليه أن يكون منشغلاً تماماً بالكتابة (أو أن يجمع الإسهامات من الكُتاب، لذا فإن المحرر نفسه يجب أن يكون دوماً جاهزاً للكتابة)، ورقة واحدة مرتين في الأسبوع حول مواضيع حزبية وسياسية (الليبراليون، الاشتراكيون الثوريون، الأقلية، الانشقاق، مندوبي الزيمستفو، النقابات، إلخ)، وأن يعيد نشرها ونسخها على الفور بكل الطرق 50 نسخة (إذا لم تكن هناك ورشة للطباعة)، وأن يتم توزيعها على اللجان من أجل إعادة النشر. ربما يمكن استخدام مقالات “بروليتاري” في بعض الأحيان كأوراق من هذا النوع – بعد قدر معين من المراجعة. لا أفهم لماذا لا تفعلون ذلك؟ هل نسي شميدت وويرنر حديثنا عن هذا الأمر؟ هل من الممكن كتابة وتوزيع على الأقل ورقة واحدة في الأسبوع؟ لم يُطبع تقرير المؤتمر الثالث للحزب بكامله حتى الآن.. ياللعار” (77).
“من الواضح أن القيادة فشلت في فهم مهمات “العمل أمام أعين الناس”، ومن دون ذلك لن يكون هناك مركزاً، ولن يكون هناك حزباً. إنهم يعملون بكل طاقتهم حتى النخاع، لكنهم يعملون تحت الأرض في لقاءات سرية واجتماعات مع العملاء، إلخ، إلخ. إنها مضيعة للجهد.. إن القضية هي العمل، العمل طيلة الوقت بانفتاح، أن نتوقف عن الخرس، وإلا سنصبح نحن أيضاً معزولين تماماً” (78).
“لجنتنا المركزية.. تعاني من نقص الإصرار، من نقص الحساسية، من عجزها عن التميز السياسي في كل قضية في الصراع الحزبي” (79).
وفي خطاب إلى لوناتشارسكي في 2 أغسطس 1905، اتهم لينين اللجنة المركزية البلشفية بأنها أضعف تأثيراً في الصراع الحزبي من المناشفة. والمناشفة كما يقول:
“مشغولون دائماً.. مُفعمون بخبرة طويلة في الديماجوجية، أما بين رجالنا فيسود نوع من “الغباء الضميري” أو “الضمير الغبي”، لا يستطيعون خوض معركة، خجولون، ومحرجون، وغير فعّالين. إنهم زملاء جيدون، لكنهم ليسوا كذلك كسياسيين، يفتقرون للإصرار والروح القتالية والفطنة والسرعة” (80).
واللجنة المركزية، كما اشتكى لينين أيضاً، كانت تتجاهل القيادة بالخارج تماماً؛ فقد كان لديها:
“احتقار بالغ تجاهنا كـ”أجانب”، وتعمل على إبعاد كافة الأعضاء الأكفاء عنا، أو تأخذهم من هنا. ونحن هنا بالخارج نجد أنفسنا معزولين عن كل شيء. الناس غير قادرين على الفعل والنضال بأنفسهم. هناك نقصاً في المتحدثين في اجتماعاتنا.. ليس هناك من يقدر على الإمساك بالقضايا الجوهرية، ليس هناك من يقدر على أن يرفعنا من جينيف إلى نطاق القضايا والمسائل الأكثر أهمية. هناك معاناة حقيقية في العمل. في النضال السياسي أي توقف يعتبر قاتلاً. هناك الآلاف من المطالب، وهم في زيادة مستمرة” (81).
أولوية مسألة التنظيم
هناك فرق ملحوظ بين مفهوم المركزية الذي عبر عنه لينين في “ما العمل؟” و”رسالة إلى رفيق حول مهامنا التنظيمية”، وبين ما كان سائداً في الوسط البلشفي خلال أعوام 1904 و1905. وبالتأكيد هناك انقساماً شديداً بين الهيكل المثالي للحزب الكفء والفعّال الذي تصوره لينين في كتاباته، وبين ومنظمة الحزب المتداعية التي كانت متواجدة بالفعل.
كان على لينين أن يناضل، بكل الطاقات البلشفية تحت قيادته، من أجل بناء منظمة مستقلة تماماً عن المناشفة، بل وفي مواجهتها أيضاً، ومن أجل خلق ماكينة حزبية حقيقية. لقد وهب نفسه بالكامل تقريباً للنضال ضد المناشفة، إلى درجة، لا يمكن تصديقها على ما يبدو، أن كافة كتاباته خلال العام 1904 قد خلت تماماً إلا من ثلاث إشارات فقط إلى الحرب الروسية اليابانية، فيما كانت السمة الرئيسية السائدة في تلك الكتابات هي مسألة الانشقاق عن المناشفة. مجلد كامل من الأعمال الكاملة له، أحد أكثر المجلدات سمكاً، كان ممتلئاً بكتابات حول المؤتمر والانشقاق بأكثر الأساليب عنفاً وحدة وسجالية.
هل كان إذن من الجنون أن يتم التركيز على بناء الماكينة الحزبية في حين كان زلزال الحركة الجماهيرية يهز أركان الدولة؟ منذ العام 1900، أكد لينين مراراً وتكراراً على أن المهمة الرئيسية التي تواجه الحركة هي بناء الحزب الثوري. وفي 21 أبريل 1901، كتب إلى بليخانوف عن “أولوية التنظيم على التحريض في الوقت الراهن” (82)، وفي 1902، أعاد لينين الاقتباس من أرشميدس: “أعطنا منظمة من الثوريين المحترفين، وسوف نقلب روسيا رأساً على عقب” (83).
وعلى عكس ماركس وإنجلز، اللذان عاشا في فترة تمدد الرأسمالية وتوسعها وبالتالي لم يشددا بهذا القدر على أهمية التنظيم الحزبي، كانت راهنية الثورة بالنسبة للينين تعني أن التنظيم الحزبي هي مسألة فائقة الأهمية. وهكذا لم يكن بمقدوره مثلاً أن يكتب ما سطره ماركس إلى إنجلز في 11 فبراير 1851:
“تسرني كثيراً هذه العزلة العامة التي نجد فيها أنفسنا، أنت وأنا. إنها تتوافق تماماً مع مبادئنا وموقفنا. إن نظام التنازلات المتبادلة، وأنصاف الحلول من أجل الحفاظ على المظاهر، والمشاركة العلنية مع كل هؤلاء الحمقى في العبثية العامة للحزب، كل ذلك قد انتهى الآن” (84).
ولم يكن بوسعه أيضاً أن يكتب بما رد به إنجلز على ماركس في 12 فبراير 1851:
“أخيراً، لدينا الآن الفرصة مجدداً.. لإظهار أننا لسنا بحاجة إلى شعبية أو دعم من أي حزب أياً ما كان.. من الآن فصاعداً، نحن مسئولون أمام أنفسنا، وحينما تأتي اللحظة التي يحتاجنا فيها هؤلاء السادة، سنكون في موضع نتمكن فيه من إملاء شروطنا. وحتى هذا الوقت، سنحظى على الأقل بالسلام.. كيف يمكن لأناس مثلنا، يتجنبون المواقف الرسمية كما يتجنب الناس الطاعون، أن يجدوا أنفسهم في “حزب”؟.. الشيء الرئيسي في الوقت الراهن هو إخراج أفكارنا في إصدارات مطبوعة.. ماذا ستعني الثرثرة والفضائح التي ستشنها ضدك حزمة المهاجرين بمجرد الإجابة عليهم باقتصادك السياسي؟” (85).
بالنسبة لشخص يقع على هامش الصراع الطبقي، وحتى بالنسبة للكثيرين المنخرطين فيه، كان عامي 1903 و1904 يمثلان فترة من الصراعات، والنقاشات المطوّلة، والانشقاق بين البلاشفة والمناشفة، والجدالات التي لا تنتهي، والانشقاقات في الشق البلشفي نفسه، في وقت كانت روسيا فيه على شفا الثورة.
كان تروتسكي في ذلك الوقت يعتبر انشقاقية لينين بمثابة جنون مطلق. وفي كراس له في أبريل 1904، ذكر أنه “في الوقت الذي يضع أمامنا فيه التاريخ المهمة الهائلة لمواجهة الرجعية العالمية، لا يبدو أن الاشتراكيين الديمقراطيين الروس يكترثون بشيء باستثناء الصراع الداخلي.. يا لها من مأساة تمزق القلب.. ويا له من مناخ كابوسي ذلك الذي خلقته.. يكاد الجميع يدرك بالفعل الطابع الإجرامي لهذا الانشقاق” (86).
لكن لينين من دون شك كان ينظر من زاوية واحدة، فمهما حدث كان لابد من بناء الحزب الثوري وبشكل عاجل. لذلك عمد لينين في سنوات 1900 إلى 1904، بكل تماسك وإصرار وبلا هوادة، إلى بناء ماكينة حزبية، تلك الماكينة التي كانت، بغض النظر عن حيادها عن النموذج المثالي الذي تصوره، تحت سيطرته حينما اندلعت ثورة 1905. وكان قد أظهر بكامل الوضوح الموهبة والمهارة السياسية والتنظيمية والإدارية اللازمة لبناء مثل هذا الجهاز التنظيمي.
وفي الثورة نفسها، أوضح لينين أنه إذا كان من الضروري، إذا تخطت الجماهير قدرة الماكينة الحزبية واستعدادها للحركة، فإن عليه بشكل إرادي أن يتجاوز هذا التأخر الذي يصيب الماكينة الحزبية من خلال تحفيز طاقات العمال القاعديين.. لكننا لن نستبق القصة.
النضال ضد الليبرالية
مقدمة
“حين يُشتم الليبرالي يهتف: حمداً لله، لم يضربوني. وحين يتعرض للضرب يشكر العناية الإلهية لأنه لم يُقتل. وحين يُقتل يشكر السماء لأنها حررت روحه من جسد زائل” (1).
في 8 و9 فبراير 1904، اندلعت الحرب الروسية اليابانية، واستخدمت الحكومة الروسية هستيريا الحرب كذريع لقمع التحركات الثورية التي كانت لا تزال في مهدها. ولعل ما قاله رئيس الوزراء الروسي بليهف يعطينا مثالاً شفافاً على ذلك: “نحن بحاجة لحرب صغيرة منتصرة كي نصد هجوم الثورة” (2).
الليبراليون، من جهتهم، كانوا الأجدر على الاندماج في لعبة القيصر، إذ كان رد فعلهم الأول هو الانجراف في تيار الوطنية. وفي “أوسفوبوجدنيه”، الجريدة التي أصدرها الليبراليون بالخارج، طرح الليبرالي الصميم، ستروف، شعار “يحيا الجيش”. وعندما أظهر اليابانيون تفوقهم العسكري براً وبحراً، تقلص الميل الوطني لدى الليبراليين وأصبحوا في المقابل معارضين معتدلين. هذا الموقف المعارض صار أكثر حدة بعد أن انتصر اليابانيون في معركة ليويانج في يوليو، حينها صار من الواضح أن الروس لن ينتصروا في تلك الحرب، وأن الحكومة قد دخلت بالفعل نفقاً مظلماً. في ذلك الحين، أظهر قادة الطبقة العليا والوسطى الكثير من الهمة في مواجهة القيصرية، فكتبت أوسفوبوجدنيه: “إن احتلال منشوريا ومنفذ البحر هو شيء أحمق بالنسبة لروسيا من الناحية الاقتصادية” (3). ومن ثم اتبع الليبراليون موقفاً انهزامياً من الحرب؛ إذ رأوا أن هزيمة روسيا في الحرب سوف تضعف القيصر وتجبر الأوتوقراطية الحاكمة على المساومة وتقديم التنازلات: “لن يدخل اليابانيون الكرملين، بل سيفعلها الروس” (4).
ومع كسبهم المزيد من الثقة، شن الليبراليون حملاتهم السياسية مستخدمين الهيئات المحلية للحكومة الذاتية (الزمستفوات) (1*) منبراً لهم، والتي من خلالها عرضوا آرائهم ومواقفهم وأعدوا مؤتمراً قومياً لمندوبي الزمستفو. عُقد المؤتمر في نوفمبر، وتلاه لقاء واسع ضم الإقطاعيين الليبراليين وأصحاب الصناعات الكبرى وأساتذة جامعيين ومحاميين وأطباء واقتصاديين، إلخ. أُلقت الكثير من الخطب المطولة ونوقشت خطط الإصلاح السياسي، لكن السؤال هنا هو هل كان الهدف من كل ذلك هو الإطاحة بالقيصرية أم عقد صفقات معها؟
تحمس المناشفة لتلك اللقاءات؛ فقد كانت سياستهم أن يدعو العمال لدعم الليبراليين وتحفيز شجاعتهم، وفي المقابل أن يتجنبوا أي فعل “متطرف” يرتعد على إثره الليبراليون ويرتدون إلى الوراء.
واتساقاً مع ذلك، أرسل محرر الإيسكرا رسالة إلى كل منظمات الحزب، نقتطف منها هذا الجزء:
“بخصوص ليبراليو الزمستفو والدوما، فإن علينا أن نتعاون مع أعداء عدونا، هؤلاء الذين لا يستطيعون ولا يرغبون في النضال ضد هذا العدو كما تتطلب مصالح البروليتاريا. لكنهم حال يقفون ضد الحكم المطلق ويواجهونه بالمطالب التي تسعى لتدميره، فإنهم فقط من خلال ذلك يظهرون أنفسهم حلفاءاً لنا ضمن إطار النضال ضد الحكم المطلق، في هيئته الراهنة بشكل خاص. إن موقفنا تجاه الليبرالية البرجوازية إنما يكمن في السعي لصبغها بالشجاعة وحضها على تضمين المطالب المقدمة من البروليتاريا تحت قيادة الاشتراكية الديمقراطية (5).
إنه لخطأ قاتل أن نحاول إجبار الزمستفوات والأشكال الأخرى للمعارضة البرجوازية، تحت تهديد البروليتاريا، على الوعد بتقديم مطالبنا إلى الحكومة. إن مثل هذا التكتيك سوف يدمر مصداقية الاشتراكيين الديمقراطيين، إذ سيحول من حملتنا السياسية إلى آداة لنهوض الرجعية.
“وبالنظر إلى الزمستفوات حالياً.. فإن مهمتنا تنحصر في تقديم المطالب السياسية للبروليتاريا الثورية إليها، تلك المطالب التي عليها دعمها إذا كان لديها الحق في التحدث بإسم الشعب..” (6).
فيما بعد هذا البيان، رسم أكسيلرود، أحد القادة المناشفة البارزين، مجموعة من التكتيكات التي تُبذل فيها الجهود لجذب الجماهير:
“للاتصال مباشرةً بجمعية الزمستفو، وأن نركّز المظاهرة أمام مقر الزمستفو حين تبدأ جلسة النواب. بعض المتظاهرين ينجحون في دخول القاعة، وفي لحظة مناسبة يطلب المتحدث الرسمي من الجمعية الإذن بإلقاء بيان نيابةً عن العمال. وإذا لم يتم الأمر على هذا النحو، يحتج المتحدث بصوت عال ضد رفض الجمعية التي من المفترض أن تتحدث بإسم الشعب أن تسمع صوت ممثلي الشعب الحقيقيين.
لابد أن تضمن اللجنة التنفيذية أن ظهور آلاف من العمال خارج مقر الزمستفو، وعدد كبير (بالمئات) داخله، لن يسبب الذعر للزمستفويين، حتى لا يهرعوا للاحتماء بالشرطة والقوزاق ليتحول الأمر برمته من مظاهرة سلمية إلى حالة من القتال والكر والفر مما سيشوّه معنى المظاهرة تماماً” (7).
أما المتحدث الرسمي بإسم المناشفة، مارتينوف، في كتيبه “ديكتاتوريتان”، فقد أوضح التبرير وراء هذا الموقف على النحو التالي:
“الثورة القادمة هي ثورة برجوازية، وهذا يعني أنها بدرجة ما ستؤمن وصول كل الطبقة البرجوازية أو جزء منها إلى الحكم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الثورة القادمة لن تستهدف أية إصلاحات سياسية تخرج عن إرادة البرجوازية، فالبرجوازية هي سيدة الغد. وهكذا فإن انتهاج العمل على مطالب قد تخيف أغلبية عناصر البرجوازية سوف يعني أن النضال الثوري للبروليتاريا لن يكون له سوى مردود واحد، وهو إعادة إحياء الحكم المطلق في أكثر أشكاله شفافية.
وبالتالي، يكمن الهدف الثوري في أن تجبر الطبقات الدنيا من المجتمع الطبقة العليا منه لقيادة الثورة البرجوازية..” (8).
أوضحت جريدة الإيسكرا المنشفية المجتمع الروسي والمهمات العمالية فيه على النحو التالي:
“حينما ننظر إلى ساحة الصراع في روسيا، ماذا نرى؟ هناك قوتين لا ثالث لهما: الأوتوقراطية القيصرية، والبرجوازية الليبرالية. والقوة الثانية تتسم بالتنظيم ووزنها الهائل، أما الجماهير العمالية فهي منشقة ولا تستطيع فعل شيء. وإذا اعتبرنا أنفسنا قوة مستقلة، فنحن غير موجودين، وهكذا فإن مهمتنا تتلخص في دعم هذه القوة الثانية – البرجوازية الليبرالية – علينا أن نحفزها، لا أن ننفّرها بتقديم المطالب المستقلة للبروليتاريا” (9).
ردد بليخانوف أصداء نفس الفكرة، فكتب في 1905:
“إن عاطفة الجماهير أمر في منتهى الأهمية، هذه العاطفة يمكننا كسبها باتجاهنا، أو بالأحرى كان لدينا الكثير من الفرص لفعل ذلك، من دون حتى أن نغير قيد أنملة في برنامجنا. لكن ذلك يتطلب بالتأكيد براعة في تحويل ما هو ممكن إلى واقع، الأمر الذي نفتقده أحياناً. لذا فإن مصالح الليبراليين تدفعهم بالفعل للعمل بشكل مشترك مع الاشتراكيين ضد الحكومة” (10).
لم يسطر بليخانوف مقالة واحدة إلا وهاجم البلاشفة لما رآه من غياب التكتيك لديهم، وقد كتب بالفعل سلسلة من المقالات التي سُميت “رسائل حول التكتيك وانعدام التكتيك” (11). وعلى العكس تماماً من ذلك، ندد لينين دوماً وبلا هوادة بالبرجوازية الليبرالية الروسية باعتبارها قوة معادية للثورة. وهكذا كتب، في نوفمبر 1904، معلقاً على تكتيكات مارتينوف بازدراء شديد:
“في الوقت الذي يتضح فيه أن تحالفاً بين الزمستفويين الوسطيين والحكومة ضد البروليتاريا الثورية لهو أمر محتمل وممكن، فإننا نحد من مهامنا، لا أن نضاعف جهودنا في النضال ضد الحكومة، بل أن نضع شروط الاتفاقات مع الليبراليين من أجل الدعم المتبادل” (12).
“إذا كنا في وضع يسمح بتنظيم مظاهرة ضخمة للعمال إلى قاعات الزمستفو، كنا لنفعل ذلك بالتأكيد (وإذا كان لدينا قوى كافية لتنظيم مظاهرة جماهيرية، لكان من الأفضل أن “نركز” هذه المظاهرة ليس “أمام مقر الزمستفو”، بل أمام مقرات الشرطة والدرك، إلخ). لكن أن نتمايل ونتردد حيال ذلك باعتبارات مثل أن الزمستفويين قد ينتابهم الذعر.. فذلك هو قمة السخافة والعبثية” (13).
“ما نحتاجه هنا ليس “التفاوض”، بل حشد حقيقي للقوى، ليس للضغط على الزمستفويين، بل للضغط على الحكومة وعملائها” (14).
لم يتوان لينين في شرح تحليله الذي يثبت الطبيعة الرجعية للبرجوازية الروسية:
“إن التضاد الذي لدينا اليوم بين البرجوازية والبروليتاريا لهو أعمق كثيراً مما كان في 1789 أو 1848 أو 1871. سوف تخاف البرجوازية الثورة البروليتارية أكثر وترتمي سريعاً بين ذراعي الرجعية” (15).
“إن البرجوازية ككل غير قادرة على شن النضال ضد الحكم المطلق؛ فهي تخاف أن تفقد خلال هذا النضال ملكيتها التي تربطها بالنظام القائم. إنها تخشى من النضال الثوري للعمال الذي لن يتوقف عند حدود الثورة الديمقراطية، بل سيتصاعد إلى الثورة الاشتراكية. إنها تخشى القطيعة التامة مع السلطة الرسمية ومع البيروقراطية التي ترتبط مصالحها بمصالح الطبقات المالكة بآلاف الروابط. لهذا السبب فإن نضال البرجوازية من أجل الحرية يتسم بالجبن والهشاشة والفتور” (16).
“ستغدو الجمعية التأسيسية لجموع الشعب قوية بما فيه الكفاية لإجبار القيصر على وضع الدستور، لكن هذا الدستور لن يكون ولا يجب أن يكون (من وجهة نظر المصالح البرجوازية) أكثر قوة بأي شكل كان. يجب على هذا الدستور فقط أن يربك توازن الملكية لا أن يطيح بها.. يجب أن يحافظ على الأدوات المادية للسلطة (الجيش وما شابه) في أيدي الملكية” (17).
أوضحت خبرة ثورة 1905 بشكل أكثر وضوحاً إفلاس البرجوازية الروسية، بالأخص فيما يتعلق بالقضية الأكثر إلحاحاً لأغلبية الشعب الروسي، ألا وهي المسألة الزراعية. حيث كان الليبراليون ضد مصادرة أراضي كبار الملاك، وصحيح أن حزبهم – الكاديت – قد أيد توزيع أراضي التاج والكنيسة على الفلاحين، لكنه لم يوافق على المصادرة القسرية أراضي كبار الملاك إلا في حالة واحدة، وهي دفع تعويضات مجزية لهم (18).
لم يكن ذلك غريباً على الإطلاق؛ فقد كان حزب الكاديت نفسه الممثل الأكبر لكبار ملاك الأرض في روسيا. واستدل لينين على أن الكاديت هو حزب، ليس فقط الليبرالية البرجوازية ومثقفيها، بل أيضاً ليبراليي الإقطاعيين. ولعل ما أمسك به لينين من أدلة على ذلك، إنما تكمن في البرنامج الزراعي للكاديت (19)، وتركيب مجموعة الكاديت في مجلس الدوما:
“من ضمن الـ 153 نائب من الكاديت في الدوما الأولى، كان هناك زهاء 92 من النبلاء، ثلاثة منهم امتلكوا بين 5 إلى 10 آلاف ديسياتين (2*)، وثمانية امتلكوا بين 2 إلى 5 ديسياتين، وثمانية آخرين بين ألف إلى ألفي ديسياتين، وثلاثين امتلكوا بين 500 إلى ألف ديسياتين. وهكذا كان ثُلث نواب الكاديت في الدوما من كبار ملاك الأرض” (20).
أما عن برنامجهم الزراعي، كتب لينين:
“إنه برنامج لكبار ملاك الأرض الرأسماليين، برنامج تحويل الفلاح إلى خادم، وتشكيل لجان ريفية محلية تضم أعداداً متساوية من الفلاحين والملاك الكبار بجانب مسئولين معينين من قبل الحكومة. كل هذا يوضح لنا، من غير شك، أن سياسة الكاديت في المسألة الزراعية هي الحفاظ على ملكية الأرض بالتخلص من طابعها الإقطاعي، وتدمير الفلاح بالديون والرهونات، وتكبيله من قبل الموظفيين الحكوميين” (21).
اختلف ستوليبين والكاديت حول حجم التنازلات وحول الوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق الإصلاح، لكنهما اتفقا على ضرورة الإصلاح الذي يضمن سيطرة كبار الملاك على الأرض من خلال تقديم بعض التنازلات للفلاحين (22).
بعد ذلك بعامين، في مقالة كتبها لينين في مارس 1908 بعنوان “طبيعة الثورة الروسية”، أوضح لينين كيف كشفت التجربة عن الطبيعة المعادية للثورة في موقف الليبراليين من القضية الزراعية:
“في بداية 1906 قبيل الدوما الأولى، كتب القيادي الكاديتي، السيد ستروف، أن “الفلاح في الدوما سيكون كاديتي”. ومن ثم ادعت الصحيفة الملكية أن “الموجيك سيساعدنا”، ويعني ذلك أن التمثيل الواسع للفلاحين في الدوما إنما هو في صالح الأوتوقراطية.. كانت تلك الآراء منتشرة على نطاق واسع في تلك الأيام، لكن الدوما الأولى قد بددت بالكامل أوهام الملكيين والليبراليين على حد سواء. إن الموجيك قليل الخبرة السياسية، قليل التطور، وغير المنظم، أثبت أنه أكثر إلى اليسار بما لا يُقاس بالكاديت” (23).
وهكذا استنتج أن:
“الأهمية التاريخية للفترة الأولى من الثورة الروسية ربما يمكن تلخيصها في أنها كشفت ما يلي: البرجوازية أظهرت طبيعتها المعادية للثورة، وعجزها عن قيادة الثورة الفلاحية، والفلاحون على الجانب الآخر لم يدركوا بعد أنه يمكن إحراز النصر الحقيقي فقط في مسار الثورة والجمهورية تحت قيادة البروليتاريا الاشتراكية” (24).
الليبرالية تظهر معدنها الحقيقي
خلال ثورة 1905، خاض الكاديت مساراً سياسياً متخبطاً ومليئاً بالتعرجات. وعندما تقدمت الثورة واندفع ملايين العمال والفلاحين في النضال السياسي والاجتماعي، بَرُد حماس الكاديت وأصيبوا باللامبالاة.
ففي بداية الثورة، كتب ستروف أن “كل ليبرالي جاد يطالب بالثورة” (25). وهكذا كان أيضاً حزب الكاديت وأغلبية أصحاب الأعمال متحمسين للثورة، وحتى للإضراب العام الذي استخدمه العمال سلاحاً في مواجهة القيصرية. كتب خروستاليف نوسار، الذي أصبح رئيساً لسوفييت بطروسبورج، ما يلي:
“خلال إضراب أكتوبر، عمد أصحاب العمل، غير المستائين من استمرار الإضراب دون عقبات، إلى صرف 50% من الأجور في أيام الإضراب، وفي بعض المصانع تم صرف الأجور كاملةً. وعلاوة على ذلك لم يُفصل أي من العمال نتيجة المشاركة في الإضراب. ففي مصنع بوتيلوف على سبيل المثال، كما في أماكن أخرى، دفعت الإدارات الأجور كاملةً للمندوبين عن الأيام التي تغيبوا فيها لحضور اجتماعات السوفييت، إلى درجة أن إدارة بوتيلوف قد وضعت سفينتها البخارية تحت تصرف العمال عند ذهابهم للمدينة” (26).
صرّح محرر جريدة “برافو”، لسان حال المجموعة التي شكلت فيما بعد حزب الكاديت: “سيبقى الإضراب الأول للأبد صفحة مجيدة في تاريخ حركة التحرر، سيبقى أثراً براقاً لما أسدته الطبقة العاملة من تضحيات في النضال من أجل التحرر الاجتماعي والسياسي للشعب” (27).
وفي السياق نفسه، أعلن أحد قرارات المؤتمر التأسيسي لحزب الكاديت:
“إن مطالب المضربين، كما صاغوها بأنفسهم، تكمن بالأساس في الحريات الرئيسية: حرية انتخاب ممثلي الشعب في جمعية تأسيسية على أساس الاقتراع السري المباشر والمتساوي، والشفافية السياسية بشكل عام. وليس هناك أدنى شك في أن هذه المطالب مماثلة لما ينادي به الحزب الديمقراطي التأسيسي (الكاديت). وانطلاقاً من هوية أهداف المؤتمر التأسيسي للحزب، فإن من واجبه أن يعبر عن كامل تضامنه مع حركة الإضراب. ومن مواقعهم، وبكل السبل المتاحة، يناضل الحزب من أجل الأهداف نفسها. ومثل كل الفصائل المشاركة في النضال، نرفض بشكل قاطع فكرة بلوغ هذه الأهداف بمفاوضة مع الحكومة” (28).
لكن ذلك التعاطف من جانب الكاديت تجاه العمال الثوريين سرعان ما تبخر في الهواء. ولم يمض وقت طويل حتى صار واضحاً أنه لا يمكن الفصل بين مطالب العمال المناهضة للقيصرية ونضالهم لتحسين ظروف حياتهم في مواجهة أصحاب العمل. اكتسب العمال الذين شاركوا في الإضراب العام ضد القيصر في أكتوبر 1905، ثقة هائلة في قوتهم، تلك الثقة التي أهلت القطاع المتقدم منهم في سان بطرسبورج بعد ذلك بشهر، لخوض إضراب يطالب بتحديد يوم العمل بثماني ساعات يومياً. وبالتأكيد هدد الإضراب أرباح أصحاب الأعمال، الذين قاموا من جانبهم بالرد بإغلاق 72 مصنع في بطرسبورج وبالتالي تشريد 110 ألف عامل، و23 مصنع في موسكو ما كان يعني تسريح 58,634 عامل، وهكذا في العديد من المدن الأخرى (29). ونظراً لضعف تنظيم العمال، فقد انهزموا في صدامهم مع الرأسماليين، الذين كانوا حلفاءاً لهم حسبما رأى المناشفة.
أظهر السياسيون البرجوازيون في ذلك الحين ذعرهم من الإضرابات العمالية، وعدائهم الشديد للعمال. وبعد أن أثنوا عليها صار القيادي البرجوازي للكاديت، ميليوكوف، يطلق عليها: “جريمة.. جريمة في حق الثورة” (30). أما ستروف، الذي كان يحث على الثورة، فقد كتب: “إن الفوضى الخبيثة للثورة تبعثر البلد” (31). وهكذا صارت البرجوازية تخشى العمال الثوريين أكثر من خوفها من القيصرية المعادية للثورة.
ولأن الكاديت عادى النضال الثوري، فقد ذهبت محاولاتهم للتعاطي مع القضية الزراعية هباءاً. كتب ستروف في مارس 1905: “ينبغي على المعارضة الروسية الديمقراطية والتأسيسية المعتدلة أن تنطلق من حقيقة أن الثورة الزراعية قد بدأت بالفعل في البلاد. ولما كان الأمر كذلك، فإن التكتيك الذكي يقتضي توجيه هذه الثورة في مجرى الإصلاح الاجتماعي الشرعي والقانوني” (32).
اشتمل البرنامج الذي أعده المؤتمر التأسيسي لحزب الكاديت على مطلب “الجمعية التأسيسية”، في حين لم يذكر البرنامج أي شيء يتعلق بالملكية، لكن مؤتمر يناير 1906 غيّر هذا المطلب إلى “ملكية برلمانية وتأسيسية”. أثبت الكاديت، كما ارتأى لينين من قبل، أنهم ليسوا من نفس طينة روبسبير واليعاقبة، أو كرومويل والأيرونسايدز.
الاستنتاج
لم تكن كراهية لينين لليبراليين وليدة الصدفة، بل كانت محفورة بداخله منذ التجارب الأولى في شبابه، هكذا وصفت كروبسكايا:
“سبق أن أخبرني فلاديمير إيليتش لينين بموقف الليبراليين بعد أن ألقيّ القبض على أخيه الأكبر. كل المعارف والأصدقاء أصبحوا يتجنبون عائلة أوليانوف، حتى المعلم العجوز الذي كان يحضر إليهم كل ليلة للعب الشطرنج، كف عن السؤال. لم يكن هناك في ذلك الوقت سكك حديدية في سيمبريسك، وكانت والدة فلاديمير إيليتش تضطر لامتطاء فرس إلى سيزران لكي تصل إلى سان بطرسبورج حيث كان أخوه الأكبر محبوساً. كان فلاديمير إيليتش يذهب في صحبة والدته، فلم يكن هناك من يريد السفر مع أم مسجون. أخبرني إيليتش أن ذلك الجبن المتفشي ترك أثراً عميقاً في نفسه، لقد تركت تلك التجربة بصمتها على موقف لينين تجاه الليبراليين، وقد أدرك إيليتش مبكراً حقيقة اللغو الليبرالي” (33) (3*).
لم ينس لينين كيف كان الثوري العظيم تشيرشيفسكي يشعر بالتقزز من الليبراليين، حيث وصف ليبراليي ستينات القرن التاسع عشر بأنهم “ثرثارون ومغرورون وحمقى” إثر خساستهم وخنوعهم للقيصر.
ثورة 1905
صعود النقابات التابعة للأمن
في الفصل الرابع تعرضت للحديث عن الصعود الصاروخي لحركة الطبقة العاملة في السنوات من 1900 وحتى 1903. واجهت القيصرية هذه الموجة العمالية العاتية بالقمع العنيف كما هو معتاد، لكنها أيضاً عمدت إلى انتهاج أسلوب جديد يحرف النضال الثوري عن مجراه.
أكد أحد التقارير الأمنية في 1905 أن:
“لسوء الحظ حقق المحرضون بعض النجاحات في تنظيم العمال للنضال ضد الحكومة. في خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، تحول الشاب الروسي النقي والطاهر إلى ما يمكن أن نطلق عليه شبه مثقف، يحتقر العائلة والدين، ولا يحترم القانون، ويسخر من السلطات. ولحسن الحظ، هؤلاء الشباب ليسوا كُثر في المصانع، لكن هذه القلة التافهة تنشر الذعر بين الأغلبية من العمال لاتباعهم” (1).
على الرغم من تشويه هذا التقرير للحقيقة، لكنه يشير إلى تغير هام جرى في أوساط الطبقة العاملة أن أعداداً كبيرة من العمال كانت قد بدأت بالفعل في الانضمام للمجموعات الثورية.
وبغرض تطويق وإجهاض هذا التطور في الحركة العمالية، بدأ قطاع من الشرطة السرية في تأسيس نقابات تتبع لهم وتقع تحت سيطرتهم، تلك الظاهرة التي أطلق عليها “النقابوية البوليسية” (الزوباتوفية، نسبةً إلى زوباتوف رئيس الدورك في موسكو). وكما كان متعارف عليه، لم يكن من الممكن إنشاء أي تنظيم عمالي دون موافقة من الشرطة، والتي بدورها كانت تقوم بـ”حماية” العمال من تأثير الثوريين، وتأسست بالفعل مثل تلك التنظيمات في الكثير من المدن الروسية: موسكو، وأوديسا، ونيكولاييف، وخاركوف.
جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فلقد استخدم العمال نقابات زوباتوف لتنظيم الإضرابات وللنضال من أجل مطالبهم. وفي الحقيقة، كما علّق المؤرخ البلشفي بوكروفسكي، فإن نتيجة الزوباتوفية أتت مختلفة كلياً عما توقعه وابتغاه زوباتوف نفسه:
“ولأن هؤلاء العمال لم يتطوروا سياسياً، كانت الزوباتوفية بالنسبة لهم خطوة هائلة في اتجاه تطوير وعيهم الطبقي، وفي مساعدتهم على إدراك التضاد الطبقي بين العامل ورب العمل. الأمر كله ليس سوى إنتاج نسخة مزيفة من تحريض الاشتراكيين الديمقراطيين، وتلك هي الفكرة كلها. وفي تقليدهم الأخرق والباهت للمحرضين الثوريين، ذهب عملاء زوباتوف إلى حد بعيد حيث شرعوا يلقون الوعود والتباشير بأن الحكومة سوف تنتزع المصانع من أيدي أرباب العمل ومن ثم تسلمها للعمال. قالوا أن الحكومة مستعدة لفعل أي شيء للعمال إذا توقفوا عن ترك آذانهم للإنتلجنسيا، حتى أنه في بعض الإضرابات ساعدت الشرطة المضربين” (2).
في يوليو 1902، امتد أحد الإضرابات بمدينة أوديسا، والذي كانت دعت له نقابات زوباتوف، بشكل غير متوقع إلى كافة أرجاء المدينة، كما اتخذ طابعاً سياسياً متميزاً. وبعد أشهر، عمت الإضرابات السياسية كل جنوب روسيا تقريباً (كييف، ونيكولاييف، وإيكاتارينوسولاف، ومدن أخرى). ونتيجة ذلك كانت أن انقلبت الحكومة القيصرية على الزوباتوفية التي خرجت في الأصل من رحمها، فتم حل كل التنظيمات العمالية في كافة أنحاء روسيا، باستثناء بطرسبورج، وبحلول نهاية 1903 أُرسل زوباتوف نفسه إلى المنفى. استمرت القيصرية في اتباع نفس التاكتيك في مواجهة الحركة الثورية، وبعد أسابيع قليلة من حل تنظيمات العمال ونفي زوباتوف ظهرت “الاشتراكية البوليسية”.
كان الاتحاد العمالي التابع للشرطة في سان بطرسبورج يدعى “جمعية عمال المصانع والورش الروس”، فيما كان لدى هذه الجمعية فروعاً في كل أحياء العاصمة، وتنوعت أنشطتها بين الأنشطة الثقافية والتعليمية والدينية، إلخ، تحت قيادة قسيس السجن قريب الصلة من زوباتوف: الأب جابون.
“بدأت حركة جابون كحركة “مخلصة”، بريئة حتى من أصغر محاولات الانضمام للصراع بين العمل ورأس المال. كان هدفها المتواضع هو منح العمال الفرصة كي يستغلوا أوقات فراغهم. وفي بدايتها، كما كتب جابون في وقت لاحق، كان كل لقاء في غرفة القراءة “يبدأ بالصلاة وينتهي بالصلاة”. وفي الافتتاح الرسمي للجمعية في 11 أبريل 1904، عُقدت المراسم الدينية، وغنى الحضور “حفظ الله القيصر” ثلاث مرات، وأرسلت الجمعية برقية إلى وزير الداخلية، بـ “قبول وافر الاحترام، وطلب وضع مشاعر العمال المتقدة بحب العرش والوطن عند قدمي جلالة الامبراطور”.
الأحد الدامي
في نهاية ديسمبر 1904، كانت هناك حالة من الاضطراب في مصنع بوتيلوف ذو الإثنى عشر ألف عامل في بطرسبورج. لم يكن السبب وراء ذلك كارثياً بل على العكس تماماً، كل ما حدث أن تم فصل 4 عمال لانتمائهم لجمعية جابون. وفي يوم الاثنين 3 يناير 1905، تطور الأمر إلى إضراب شامل بالمصنع للمطالبة بعودة العمال المفصولين إلى العمل. ذلك كان السبب المتواضع الذي فجر الثورة فيما بعد.
“إن خبرة الثورة الروسية، وخبرة الثورة في أي بلد آخر، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه، طالما أن الظروف الموضوعية للأزمة السياسية العميقة متوافرة، يمكن أن تصبح الصراعات الأكثر ضآلة والتي تبدو في الظاهر عديمة الصلة بميلاد الثورة، شرارة بادئة تضرم نار الثورة نفسها” (3).
لجأ عمال بوتيلوف إلى جمعية عمال المصانع والورش لإعادة زملائهم المفصولين. وبالطبع إن لم تكن قيادة الجمعية لتتوجه بجدية لإعادة أعضائها الأربعة إلى العمل، لكانت ستقع في ورطة كبيرة تفقدها مصداقيتها أمام العمال. لم يكن أمام قيادة الجمعية سوى مجاراة عمال بوتيلوف الذين سعوا لتلقي الدعم والتضامن أيضاً من زملائهم في المصانع الأخرى. وبالتالي عقدت فروع الجمعية عبر بطرسبورج اجتماعات ولقاءات حاشدة لبحث الأمر. فجر ذلك الوضع طاقات ومشاعر العمال، وسرعان ما تحولت اهتمامات العمال الروس من قضية عودة العمال الأربعة بشكل أوسع لتشمل كل القضايا التي تواجه العمال الروس: ظروف العمل السيئة، والغياب التام لحقوقهم.
وتحت ضغط هذه الحالة، اقترح جابون، إلى جانب المطلب الأساسي بعودة العمال المفصولين وإقالة المسئولين عن فصلهم، قائمة من المطالب الأخرى التي نالت قسطاً وفيراً من النقاش في الجمعية، والأهم من ذلك أن العمال لم يجرأوا من قبل على طرح مثل هذه المطالب: يوم عمل من ثمان ساعات، وزيادة الحد الأدنى للأجر من 60 كوبيك إلى روبل واحد يومياً للرجال ومن 40 كوبيك إلى 75 للنساء، وتحسين مرفق الصرف الصحي، وتقديم خدمات صحية مجانية. إلى هذا الحد نجح جابون في حصر مطالب العمال ضمن الإطار الاقتصادي الصرف، وقد وجه تعلمياته للعمال بعدم قراءة، بل وتمزيق، المنشورات التي يوزعها الطلاب، والتي دافعت عن حقوق العمال وتضمنت بالإضافة إلى ذلك تحريضاً مباشراً على النضال ضد القيصرية.
رأت قيادة الجمعية أن الأمور ستسير على ما يُرام إذا توجه العمال للقيصر طالبين دعمه، فيما وافقت الشرطة على أن يسير السيناريو كالآتي: يتصدق البلاط القيصري بخطاب يحنو على العمال البؤساء، بجانب الاستجابة لبعض المطالب الصغيرة لتحسين حياتهم. ظنت الشرطة أن هذا السيناريو سيكون كافياً لاحتواء العمال وسيعيد إحياء خرافة القيصر صديق العمال. وهكذا تبلورت الفكرة: عريضة مطالب يقدمها العمال في موكب ضخم إلى القيصر في قصره، حاملين صوراً له وأيقونات مقدسة ولافتات كنسية، مرددين التراتيل والصلوات، راكعين لتخفيف مآسيهم.
وبينما كانت الشرطة منهمكة في إحباك ما خططت له، بدأ الاشتراكيون الديمقراطيون في التحرك، وبعد محاولات بطيئة استطاعوا أخيراً أن يتدخلوا بشكل فاعل في الحركة ويحققون نجاحاً نسبياً. لقد أرسلوا متحدثين لاجتماعات فروع الجمعية في الأحياء وتمكنوا من إدخال بعض النقاط في النص الأصلي للعريضة. كان المناشفة هم في الحقيقة من اتخذ تلك المبادرة (سنعرض لاحقاً تاكتيكات البلاشفة في ذلك الوقت)، وكانت النتيجة هي عريضة مختلفة كثيراً عن تلك التي وضعها قادة الجمعية في البداية؛ حيث أضيفت حزمة من المطالب السياسية التي نادى بها الاشتراكيون الديمقراطيون: يوم عمل من ثمان ساعات، وحرية التجمع، وتوزيع الأرض على الفلاحين، وحرية التعبير وحرية الصحافة، والفصل بين الدولة والكنيسة، ووضع نهاية للحرب مع اليابان، وعقد جمعية تأسيسية.
وبحلول 7 يناير، تحول إضراب مصنع بوتيلوف، والذي بدأ في 3 يناير، إلى إضراب عام شمل كل مدينة بطرسبورج، وحتى التقارير الرسمية قد قدرت أعداد المضربين بمائة أو مائة وخمسين ألف عامل، “لم تشهد روسيا على الإطلاق مثل هذا الصعود العملاق في النضال الطبقي” (4).
وفي يوم الأحد 9 يناير، تحرك 200 ألف عامل في بطرسبورج في مسيرة سلمية مهيبة قادها الأب جابون إلى قصر الشتاء. رفض القيصر استقبالهم فيما ألقى أوامره للقوات التي تحمي القصر بإطلاق النار على الحشود العمالية، والنتيجة أن استشهد أكثر من ألف عامل وأصاب ألفين آخرين. في نفس الليلة وبرغم فزعه مما حدث، خطب جابون في العمال معلناً أن “لا قيصر بعد الآن”، كما دعا الجنود أن يتحرروا من الانضباط العسكري تجاه “القيصر الخائن المسئول عن إراقة دماء الأبرياء”. أدرك العمال من هذه التجربة المريرة أن قدسية الأيقونات وبريق صور القيصر لا يمكن أن تضاهي سطوة البنادق والأسلحة.
انتشرت الكثير من الروايات المختلفة حول أحداث التاسع من يناير المأساوية، جاءت أبسط تلك الروايات على لسان وزير الحرب، حيث رأى أن الدافع وراء تحركات العمال هو تحريض وتمويل عملاء انجلترا واليابان:
“ذهب وزير الحرب بعيداً إلى حد تصريحه في الصحف أن “المحرضين عملاء الانجليز واليابانيين” هم المسئولين عن إضرابات العمال في الصناعات البحرية، حتى أن السينودس المقدس وافق على هذا التفسير، وفي 14 يناير أصدر السينودس بياناً يعرب فيه عن استيائه الشديد وإدانته “للاضطرابات المدفوعة برشاوي من أعداء روسيا” (5).
أما الليبراليون فهم لا يؤمنون من الأساس بوجود جماهير ثورية، لذا فقد فسروا الأحداث بأنها نابعة فقط من الثقة العمياء لدى الجماهير في شخص الأب جابون. “لا يوجد شيء في روسيا يسمى جماهير ثورية”، هكذا كتب الليبرالي بيترستروف في جريدته “أوسفوبودجنيه” (التحرر) التي صدرت في الخارج، في 7 يناير 1905، أي قبل يومين فقط من قمع مسيرة العمال أمام قصر الشتاء (6).
“لقد أصر الليبراليون لفترة طويلة على أن سر أحداث التاسع من يناير إنما يكمن في شخصية جابون. لقد شبهوه بالاشتراكيين الديمقراطيين وكأنه قائد سياسي يعرف كيف يسيطر على الجماهير. هكذا تناسوا أن التاسع من يناير لم يكن ليحدث لولا أن جابون كان وراءه آلاف عديدة من العمال الواعين سياسياً والذين مروا عبر مدرسة الاشتراكية” (7).
فسر لينين أحداث 9 يناير على نحو مختلف كلياً، وبعد ثلاثة أيام من الأحد الدامي، كتب:
“تلقت الطبقة العاملة درساً هاماً أهمية بالغة في الحرب الأهلية؛ إذ أحرزت خبرة البروليتاريا، في يوم واحد، تقدماً لم تستطع إحرازه في شهور وسنوات من الجمود والرتابة والبؤس” (8).
“الإسقاط الفوري للحكومة – ذاك كان الشعار رد به، حتى عمال بطرسبورج الذين طالما آمنوا بالقيصر، على مذبحة 9 يناير. لقد رفعوا ذلك الشعارمن خلال قائدهم، الأب جورجي جابون، الذي أعلن بعد الأحد الدامي أن: لا قيصر بعد الآن. إن نهراً من الدماء يفصل بين القيصر والشعب. عاش الكفاح من أجل الحرية” (9).
وفي 8 فبراير، كتب لينين مرة أخرى: “أظهرت أحداث 9 يناير بشكل كامل الطاقة الثورية الكامنة لدى البروليتاريا”، لكنه أضاف إلى ذلك بكل أسى: “لكنها أظهرت أيضاً الضعف الحاد للمنظمات الاشتراكية الديمقراطية” (10).
لينين وجابون
في البداية تفاعل الاشتراكيون الديمقراطيون ببطء مع حركة جابون. كتب القيادي المنشفي مارتوف أن:
“كما يبدو غريباً، فإنه من الجدير بالملاحظة أن التنظيمات الثورية في بطرسبورج كانت تتغاضى عن النمو والتحول التدريجي الذي شهدته التنظيمات العمالية التابعة لجابون في خريف 1904 من الدعم المادي إلى أن تصبح نوعاً من الأندية العمالية.
وفي نهاية ديسمبر 1904، عندما دخلت مجموعة جابون في صراع كامل ضد أصحاب الصناعات كنتيجة لنضال عمال بوتيلوف، انجرف الاشتراكيين الديمقراطيين تماماً في مجرى الأحداث.
وأخيراً عندما تحول الاشتراكيون الديمقراطيون إلى العمال تحت تأثير جابون، لم يكن العمال يعبأون بوجودهم. كان المضربون يمزقون منشوراتهم، حتى عندما قدمت لجنة الاشتراكيين الديمقراطيين مبلغ 500 روبل دعماً للعمال، أخذها العمال على مضض شديد” (11).
فيما عبر أحد الأعضاء البلاشفة، ن. ف. دوروشينكو، عن عزلة لجنة بطرسبوج عن تطور الحركة كالآتي:
“حتى الأيام الأخيرة من ديسمبر، لم أحظ، ولا أي من الرفاق المقربين، بأي فرصة لزيارة أي من المواقع التي تنشط فيها جمعية جابون. والأكثر من ذلك هو أني لا أتذكر حتى محادثة واحدة مع العمال المنظمين في فاسيليف أوستروف أو بطرسبورج عن زيارة أي من الرفاق لهذه المواقع” (12).
وفي بداية يناير، بدأ عمال الحزب في بطرسبورج في الالتفات لحركة جابون:
“لم يبد العمال، الذين يتأثر معظمهم بما لا يدع مجالاً للشك بجابون، أي انتباه للاشتراكية الديمقراطية باعتبارها حزباً يمثلهم. والأكثر من ذلك أن العمال اعتبروا المسار الواضح والذي لا لبس فيه للاشتراكية الديمقراطية شيئاً يعيقهم عن إنجاز ما يدعوهم جابون له. وفي واحد من اجتماعات اللجان السرية حضر فيه كل عمال الحزب، أخبرنا الرفيق س. جوزيف بالخطوات التي اتخذتها اللجنة، ونقل لنا توجيهاتها بضرورة اختراق جمعية جابون في المصانع، ومعارضة مطالب جابون بالحد الأدنى من برنامج الحزب، وكشف يأس وسخافة فكرة السير إلى القصر” (13).
حاول دوروشينكو نفسه أن ينفذ مهمة معارضة مطالب جابون وكشف مشروعه في اجتماع لأحد فروع جمعية جابون في المدينة في 7 يناير، لكن سرعان ما تم إيقافه بصياح العمال “كفى، اخرج من هنا، لا تتدخل”، إلخ. “كان من المستحيل عليّ أن أكمل حديثي ولم يكن أمامي سوى مغادرة القاعة” (14). وتلخيصاً لما جرى، قال دوروشينكو في مؤتمر للجنة بطرسبورج البلشفية:
“كان الانطباع العام أن المؤتمر لم يصدق أن المسيرة إلى القصر سوف تتم. الفكرة أن الحكومة ستتخذ إجراءات لوأد مخطط جابون في مهده. وهكذا لم يكن هناك أي تأكيد بأي درجة بأن هناك مذبحة ستحدث” (15).
وعلى الرغم من ذلك، قررت لجنة بطرسبورج في النهاية المشاركة في فعاليات التاسع من يناير:
“لتنفيذ الإجراءات التي قررتها لجنة بطرسبورج، اختارات لجنة المدينة أن تكون نقطة التجمع في التاسع من يناير هي منطقتي سادوفايا وتشيرشيف ألي، حيث سيحضر المنظمون الفرعيون بمجموعاتهم المنظمة”. كان الحضور هزيلاً: “فقط مجموعة صغيرة من 15 عامل ليس أكثر هي التي ظهرت في الوقت المحدد للتجمع” (16).
ومع ذلك، أدرك لينين منذ البداية أن حركة جابون ستتجاوز توقعات القيصرية. وفي مقالة بعنوان “إضراب سان بطرسبورج”، كتب:
“إن إضراب بوتيلوف، الذي بدأ في 3 يناير، يتطور اليوم ليصبح أحد أهم المظاهر المهيبة لحركة الطبقة العاملة.. والآن تتخطى حركة زوباتوف حدودها المرسومة لها؛ فلقد بادرت الشرطة بإنشائها، لمصلحة الشرطة نفسها، بغرض دعم الحكم المطلق وتثبيط الوعي السياسي لدى العمال. أما الآن فهي تتحول ضد الحكم المطلق، وتصبح محوراً لشن نضال الطبقة البروليتارية.
ولقد تنبأ الاشتراكيون الديمقراطيون منذ أمد بعيد أن ذلك سيكون حتماً نتاج الحركة الزوباتوفية في بلدنا. كانوا يقولون أن تشريع الحركة العمالية سوف يفيدنا كثيراً نحن الاشتراكيين الديمقراطيين؛ إذ سوف يدفع قطاعات من العمال إلى الحركة، بالأخص القطاعات المتأخرة منهم.. وبمجرد انخراطهم في الحركة واهتمامهم بمستقبلهم، سوف يذهب العمال إلى أبعد من ذلك. إن شرعية الحركة العمالية ستشكل قاعدة جديدة وأكثر اتساعاً للحركة الاشتراكية الديمقراطية” (17).
وبعد أسبوع، وضع لينين المسألة على نفس المنوال في مقالة “الخطوات الأولى”:
“إن الغريزة الثورية ورح التضامن لدى الطبقة العاملة سوف تحرز الغلبة على كل حيل ومؤامرات الشرطة. وسوف يدفع الزوباتوفيون القطاعات المتأخرة من العمال إلى النضال، والحكومة القيصرية نفسها سوف تقودهم إلى أبعد من ذلك، والاستغلال الرأسمالي نفسه سوف يحوّل هؤلاء العمال من زوباتوف إلى الاشتراكية الديمقراطية الثورية” (18).
لم يكن لينين فقط منفتحاً في موقفه تجاه الحركة الجماهيرية السائرة وراء جابون، لكنه كان أيضاً معجباً بجابون نفسه. وعندما ذهب جابون للخارج كان لينين حريصاً على مقابلته، وقد ترك الحوار بينهما انطباعاً لا شك فيه عند لينين بأن جابون صادقاً ومخلصاً بحق. وبعد عدة سنوات، عندما انكشفت عمالة جابون للأمن وقُتل بسبب هذه الجريمة، أوضحت كروبسكايا إعجاب لينين به على النحو التالي:
“كان جابون جزءاً حياً من الثورة التي تجتاح ربوع روسيا، كان مرتبطاً بقوة بجماهير العمال الذين صدقوه بإخلاص، وإليتش كان مُثاراً بهذا اللقاء.
في وقت قريب سأل أحد الرفاق بدهشة بالغة: ما شأن إليتش بجابون؟
بالتأكيد يمكن للمرء أن يتجاهل جابون ظناً بشكل مسبق أن لا شيء جيد يمكن أن يصدر من كاهن، وهذا ما فعله بليخانوف عندما استقبل جابون ببرود قاس. لكن قوة لينين نبعت من حقيقة أن الثورة هي شيء حي، كان بمقدرته أن يفهم ملامحها ويلم بكل تفاصيلها الدقيقة، مدركاً ما الذي تريده الجماهير، وذلك فقط عن طريق الصلة القريبة من الجماهير. كيف إذن للينين أن يمر دون اهتمام بجابون، وهو الذي كان بهذا القرب من الجماهير وله كل هذا التأثير عليهم؟” (19).
وفي 18 يناير 1905، كتب لينين:
“لا يمكن التغاضي عن أن جابون ربما يكون اشتراكي مسيحي، وأن الأحد الدامي هو ما غيّره إلى الطريق الثوري الحقيقي، نحن نميل لتأييد هذه الفكرة، بالأخص بعد الخطابات التي كتبها جابون بعد مذبحة 9 يناير معلناً أن “لا قيصر بعد الآن” وداعياً للقتال من أجل الحرية، إلخ، تلك الحقائق التي تكشف أمانته وجديته” (20).
في 23 أبريل، قال لينين عن جابون أنه “أبهرني بإقدامه وذكائه، وإخلاصه غير المشكوك فيه للثورة، لكن، مع الأسف، بدون رؤية ثورية متماسكة” (21).
حاول لينين، من دون نجاح، أن يُعلّم جابون الماركسية، وكما أخبر زوجته كروبسكايا لدى عودته من لقاء القس: “قلت له: لا تعتاد على الإطراء أيها الأب الصغير. ادرس وإلا ستجد نفسك هنا – وأشرت تحت المنضدة” (22).
لم يكن لدى القادة البلاشفة الآخرين نفس الانطباع عن جابون. وذات مرة كتب الرفيق جوزيف، الذي عاد من جنيف في نهاية ديسمبر أو بداية يناير ليصبح سكرتيراً للجنة بطرسبورج، كتب إلى لينين في 5 يناير، معبراً عن استيائه من جابون:
“هذا الأب جابون هو بالتأكيد زوباتوفي نقي، خالص النقاء. ومجابهته والنضال ضده سيكونا على أساس التحريض الذي نجهز له على وجه السرعة. علينا أن نحرك كل قواتنا للحركة، حتى إن اضطررنا أن ندفعهم بالجملة في الإضراب، إذ يُلزمنا الأمر بالحفاظ على شرف الاشتراكية الديمقراطية” (23).
لم يغير جوزيف رأيه حتى بعد الأحد الدامي. وفي 30 يناير، كتب مجدداً إلى لينين:
“إن العمال أيضاً مرتبكون (مرة أخرى تحت تأثير المواعظ المنشفية المعادية للثورة) حول الموقف السليم الذي يجب اتخاذه حيال جابون. مقالتك في العدد الرابع بلورت دور الحكومة جيداً، لكنك متساهل للغاية مع جابون. إنه شخص باهت، وقد كتبت لك هذا الكلام مرات عديدة، وكلما فكرة في الأمر، ازداد الرجل ريبة بالنسبة لي. لقد كان زوباتوفي، وعمل مع الزوباتوفيين، مدركاً من هم وماذا يريدون” (24).
النضال ضد عصبوية الموقف البلشفي تجاه النقابات والسوفييت
فيما يخص الموقف الاشتراكي الديمقراطي تجاه الحركة النقابية الصاعدة، كان على لينين أن يدير صراعاً في مواجهة أعوانه ومؤيديه والذين تبنوا وجهات نظر عصبوية وضيقة الأفق في هذه المسألة. في اجتماع للجنة أوديسا البلشفية في سبتمبر 1905، اقترح س. جوزيف، الذي كان قريباً إلى لينين والمركز البلشفي في الخارج، أن يتبع البلاشفة عدداً من القواعد في تعاطيعهم مع مسألة النقابات:
“1- أن نكشف في دعايتنا وتحريضنا كل الأوهام المتعلقة بالنقابات، في توضيح حدودها مقارنةً بأهداف الحركة العمالية.
2- أن نوضح للبروليتاريا أن التطوير الثابت والواسع للحركة النقابية أمر غير معقول في ظل الحكم الأوتوقراطي، وذلك التطور يتطلب في المقام الأول الإطاحة بالأوتوقراطية القيصرية.
3- أن نؤكد بقوة في دعايتنا وتحريضنا على أن المهمة المبدئية والأكثر حيوية لنضال البروليتاريا هي الإعداد الفوري لانتفاضة مسلحة تطيح بالأوتوقراطية القيصرية وتظفر بجمهورية ديمقراطية.
4- أن نخوض نضالاً أيديولوجياً نشيطاً ضد المناشفة الذين ينطلقون، في قضية النقابات، من وجهة النظر الاقتصادوية الضيقة والخاطئة التي تشوّه مهام الاشتراكية الديمقراطية وتعرقل اندفاع حركة البروليتاريا”.
لكن في نفس الوقت:
“5- أن نستغل كل فرصة وكل وسيلة لترسيخ تأثير ونفوذ الاشتراكية الديمقراطية، وقيادتها إن أمكن، في كل النقابات سواء الصاعدة حديثاً أو الموجودة بالفعل، سواء الشرعية أو غير الشرعية”.
لم يتقبل بعض أعضاء اللجنة النقطة الأخيرة في مقترح الرفيق جوزيف، وفي دقائق قليلة عبر أحد الرفاق عن أن:
“الرفيق س. جوزيف لم يدرك حقيقة أن النقطة الخامسة في قراره تتناقض بالكلية مع ما سبقها من نقاط. ماذا تقول هذا النقاط؟ تقول أن علينا أن نكشف، أن ندمر، كل الأوهام، أن ننزع فعالية النقابات، وبكلمات أخرى أن نهدمها. وفجأة في النقطة الخامسة يتحدث عن القيادة. بالنسبة لي فإن للنقابات مضموناً محدداً، وإذا سعيت لقيادتها فأنا بالتالي أتبنى هذا المضمون، وعليه يجب أن أنظم مواردها المالي، إلى آخره.. هذه ليست سوى وجهة نظر منشفية منحرفة” (25).
نجح الرفيق جوزيف في تجاوز تلك الاعتراضات، وفي النهاية تم تمرير القرار وإرساله إلى لينين في جينيف. لم يعجب ذلك القرار لينين على الإطلاق، وفي 30 ديسمبر 1905 كتب إلى لجنة أوديسا واصفاً فداحة خطأ القرار:
“بشكل عام، أظن أن علينا ألا نبالغ في النضال ضد المناشفة في هذه القضية. ربما يكون هذا هو الوقت الذي تبدأ فيه النقابات العمالية في الانتعاش. ينبغي علينا ألا ننعزل، ولا نترك فرصة للتفكير في الانعزال، بل أن نناور من أجل المشاركة ومن أجل التأثير، إلخ.. ينبغي علينا أن نشرع على الفور في إرساء تقليد مشاركة الاشتراكية الديمقراطية، وقيادة الاشتراكية الديمقراطية” (26).
وبعد عدة أشهر، قدم لينين قراراً في مؤتمر ستوكهلم في أبريل – مايو 1906 (مؤتمر الوحدة):
“1- يتعيّن على جميع المنظمات الحزبية تشجيع تشكيل نقابات غير الحزبية، وتحفيز جميع أعضاء الحزب للانضمام إلى النقابات العمالية في المهن والحرف التابعين لها.
2- ينبغي على الحزب بذل كل جهد لتثقيف العمال في نقاباتهم بروح الصراع الطبقي وأهداف البروليتاريا الاشتراكية، وذلك من خلال أنشطتها من أجل احتلال مكانة قيادية في هذه النقابات، وأخيراً لضمان أن ترتبط هذه النقابات، في ظل ظروف معينة، بالحزب – لكن من دون إقصاء العمال غير الحزبيين من قواعدها” (27).
وعلى جبهة موازية، وبالإضافة إلى معركته ضد الموقف العصبوي لبعض القادة البلاشفة تجاه النقابات، خاض لينين معركة أخرى أكثر إلحاحاً في مواجهة كل أعضاء لجنة بطرسبورج بشأن السوفييت المؤسس حديثاً. أفرز الإضراب العام في أكتوبر 1905 سوفيت بطرسبورج لمندوبي العمال، حيث بدأت موجة من الإضرابات الجماهيرية من إضراب صغير لعمال الطباعة في موسكو الذين طالبوا ببضعة كوبيكات إضافية لكل ألف خطاب مطبوع، ومن ثم انتشر الإضراب عفوياً كالنار في الهشيم عبر روسيا. وتعود مبادرة إنشاء السوفييت في الحقيقة إلى المناشفة الذين، على الرغم من ذلك، لم يكن لديهم أي تصور عما يمكن أن يكون لهذا السوفييت من تأثير على المدى الطويل. إلا أن لجنة بطرسبورج البلشفية أظهرت في ذلك الوقت عدائية قصوى تجاه السوفيت.
كان ب. أ. كراسيكوف قد حذر الأعضاء البلاشفة من “هذه المكيدة الجديدة للمناشفة”، واصفاً السوفييت بأنه “لجنة زوباتوفية لا حزبية” (28). أما بوجدانوف، القائد البلشفي الأبرز داخل روسيا آنذاك، فقد جادل بأن هذا السوفيت، والذي يشمل رجالاً من كافة ألوان الطيف السياسي، يمكن بسهولة أن يصبح نواةً لحزب عمالي مستقل ومناهض للاشتراكية (29). كتب ب. ي. جوريف، أحد ممثلي المركز البلشفي في بطرسبورج، بوضوح أنه “عندما تمدد سوفيت بطرسبورج وصار يمثل قوة ثورية موحدة، أخذت لجنة بطرسبورج تشعر بالفزع”، لقد بنى هذا الاستنتاج على ملاحظة أبدتها نينا لفانوفا، البلشفية واسعة النفوذ في لجنة بطرسبورج، على قرارات أحد الاجتماعات:
“أتذكر جيداً كلمات نينا لفانوفا: “لكن ما الذي نحن بصدده الآن؟ علينا إذن أن نحسب لهم حساباً! يصدر السوفييت مراسيمه، ونحن نسير في ذيلها، ولا نستطيع أن نصدر مراسيمنا الخاصة”، إلخ.
انعكست الحالة نفسها في قرارات الاجتماعات القطاعية، بالأخص في بيتربورجسكايا ستورونا، حيث كان القادة هناك هم دوروشينكو ومندليف، والآن أصبح المنشفي الشهير شوارز مونوزون. لقد طالبوا السوفييت إما بالتحول إلى تنظيم نقابي أو القبول ببرنامجنا، ومن ثم الاندماج في منظمة الحزب” (30).
كان موقف لجنة بطرسبورج البلشفية تجاه السوفييت سلبياً للغاية؛ بعض الأعضاء أرادوا مقاطعته بدعوى أن العمل في السوفييت يعد أمراً ليس ضرورياً، بينما دافع آخرون عن الانضمام له وبقدر الإمكان دفع المزيد من البلاشفة داخله بغرض “تفجيره من الداخل”، وبالطبع رأوا السوفييت كياناً لا ضرورة له (31).
في اجتماع للمكتب التنفيذي البلشفي لمقاطعة نيفا في بطرسبورج بتاريخ 29 أكتوبر:
“صوّت 15 عضواً لمعارضة المشاركة في السوفييت بدعوى أن “مبدأ الانتخاب لا يضمن الوعي الطبقي والطابع الاشتراكي الديمقراطي له”. أربعة صوّتوا ضد المشاركة إذا لم يقبل السوفييت برنامج اشتراكي ديمقراطي. تسعة صوّتوا لصالح المشاركة، بينما امتنع اثنان عن التصويت” (32).
أما أحد أسباب هذا الموقف السلبي للبلاشفة تجاه السوفييت في 1905 هو التفاعل الإيجابي للمناشفة معه. “وفي إدانة لعدم التماسك وافتقار المناشفة للمبادئ، استقر البلاشفة على مقاطعة السوفيت” (33).
أرسلت اللجنة المركزية البلشفية، في 27 أكتوبر، خطاباً لكل منظمات الحزب، أشارت فيه بوضوح إلى الخطر الكامن وراء:
“تلك التنيظمات التي تشمل عمالاً غير المنظمين سياسياً وغير ناضجين اشتراكياً والتي تنشأ خلال الحركة الثورية العفوية للبروليتاريا.. كل من تلك التنظيمات تعبر عن مرحلة معينة من التطور السياسي للبروليتاريا. لكن إذا ظلت بعيدة عن الاشتراكية الديمقراطية، ستبقى من الناحية الموضوعية في خطر يحجز البروليتاريا في مستوى بدائي وبالتالي يُخضع البروليتاريا للأحزاب البرجوازية”.
كان سوفييت بطرسبورج لمندوبي العمال هو أحد “تلك التنظيمات”. طلبت اللجنة المركزية من الاشتراكيين الديمقراطيين المشاركين في السوفييت: 1) أن يدعون السوفييت لقبول برنامج حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، ومن ثم يعترف بقيادة الحزب وأن يندمج السوفييت فيه بالكلية، 2) إذا رفض السوفييت برنامج الحزب، أن يغادروا السوفييت، بل وأن يكشفوا طبيعته المناهضة للبروليتاريا، 3) وفي حالة رفض السوفييت برنامج الحزب وإصراره على الاحتفاظ بحق تحديد القرار السياسي، أن يبقى الاشتراكيين الديمقراطيين فيه لكن في نفس الوقت أن يحتفظوا هم أيضاً بحق التحدث عن “سخافة مثل تلك القيادة السياسية” (34).
بعد أيام قليلة، توجه الرفيق أنطون (كراسيكوف) بالفعل بإسم البلاشفة إلى سوفييت بطرسبورج عارضاً عليه برنامج الحزب وداعياً لقبوله واعتراف السوفييت بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. “على ما أتذكر، كان النقاش مختصراً للغاية، اعترض خراستاليف على طرح كراسيكوف الذي تلقى بالكاد تأييداً ضئيلاً. لكن على عكس ما خطط له بوجدانوف، لم يغادر البلاشفة السوفييت” (35).
تطلب الأمر تدخلاً مباشراً من لينين كي يعيد ضبط بوصلة القيادة البلشفية في بطرسبورج بإخراجها من هوة الموقف العصبوي تجاه السوفييت. لقد بقى لينين بالخارج ما يقرب من الشهر بعد تأسيس السوفييت، وفي طريقه إلى بطرسبورج (التي عاد إليها في 8 نوفمبر) قضى لينين أسبوعاً في ستوكهلم حيث كتب مقالته الشهيرة “مهامنا وسوفييت مندوبي العمال”. وفي خطاب لمحرر جريدة “نوفايا جيزن” البلشفية، كتب لينين:
“سوفييت مندوبي العمال أم الحزب؟ أعتقد أنه من الخطأ أن نضع السؤال على هذا النحو، كما أظن أن القرار يجب بالتأكيد أن يكون: سوفييت مندوبي العمال والحزب معاً. إن السؤال الوحيد والأكثر أهمية هو كيف يمكن أن نقسم، وأن ندمج، مهام السوفييت ومهام حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
أعتقد أنه ليس من الحصافة أن نوصي السوفييت بالاندماج كليةً في أيٍ من الأحزاب” (36).
لا شك أن السوفييت كان يخوض نضالاً اقتصادياً متوازياً ومتشابكاً مع النضال السياسي. عن ذلك النضال الاقتصادي، قال لينين:
“هل ينبغي أن يجري هذا النضال فقط بواسطة الاشتراكيين الديمقراطيين، أو فقط تحت الراية الاشتراكية الديمقراطية؟ لا أعتقد ذلك، ولازلت متمسكاً بوجهة النظر التي كنت قد عبرت عنها في “ما العمل؟” (بالطبع في ظل ظروف مختلفة فات آوانها) وهي أنه ليس من الحصافة أن نحصر تركيبة النقابات، وبالتالي أولئك المشاركين في النضال الاقتصادي النقابي، على أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي” (37).
وفي تناوله للنضال السياسي للسوفييت:
“في هذا الصدد، لا أعتقد أنه من المناسب أن نطالب سوفييت مندوبي العمال بقبول البرنامج الاشتراكي الديمقراطي والانضمام إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. يبدو لي أن النضال السياسي الذي يقوده السوفييت والذي يقوده الحزب ضروريين على حد سواء” (38).
جادل لينين بأن السوفييت لا يمثل فقط شكلاً تنظيمياً للبروليتاريا في نضالها، لكن أيضاً شكلاً مستقبلياً لسلطة العمال والفلاحين الثورية.
“ينبغي النظر سياسياً لسوفييت مندوبي العمال باعتباره جنيناً للحكومة الثورية المؤقتة. كما أعتقد أنه ينبغي على السوفييت إعلان نفسه كحكومة ثورية مؤقتة لعامة روسيا في أقرب وقت بقدر الإمكان، أو أن يؤسس بنفسه حكومة ثورية” (39).
ومن أجل ذلك ينبغي توسيع قاعدة السوفييت، كما ينبغي أيضاً:
“أضف إلى ذلك مشاركة مندوبين جدد، ليس فقط من بين العمال، لكن أولاً من البحارة والجنود المتشدقين في كل مكان للحرية، وثانياً من الفلاحين الثوريين، وثالثاً من الإنتجلنسيا البرجوازية الثورية. نحن لسنا خائفين من مثل تلك التركيبة الواسعة والمتعددة للسوفييت، فنحن نريد ذلك بالتأكيد. لكن إذا لم تتوحد البروليتاريا مع الفلاحين، وإذا لم يشكل الاشتراكيون الديمقراطيون والثوريون الديمقراطيون تحالفاً نضالياً، لن تتمكن الثورة الروسية العظيمة من الانتصار بشكل كامل” (40).
هذا الخطاب رفضه محرر “نوفايا جيزن”، وظهر للمرة الأولى بعد ذلك بأربعة وثلاثين عاماً بجريدة البرافدا في 5 نوفمبر 1940.
منذ البداية، كان تقدير لينين للدور المستقبلي الذي يمكن للسوفييت أن يضطلع به، متفوقاً على توقعات وتقديرات جميع رفاقه. بالنسبة له، لم يكن السوفييت مجرد شكل تنظيمي جديد للبروليتاريات في نضالها، بل أيضاً نواة لسلطة عمالية مستقبلية بديلة. لم يطوّر لينين هذه الفكرة من العدم، بل من خلال استخلاص وتعميم خبرة العمال وتطور مستوى وعيهم. القصة التالية، التي ذكرها تروتسكي في كلاسيكيته “تاريخ الثورة الروسية”، توضح الأمر برمته:
“ذهب ذات مرة عجوز قوزاقي، من محافظة بولتافا، يشكو من ظلم الأميرة ريبنين، التي استغلت عمله ككاتب لديها لثمانية وعشرين عاماً، ثم طردته بعد ذلك دون سبب، طلب العجوز من السوفييت أن يفاوض الأميرة نيابةً عنه. كانت عريضته المثيرة معنونة بـ “إلى الحكومة العمالية – بطرسبورج” (41) (1*).
بعد عام كامل من كتابته للمقالة المشار إليها، وبعد التجربة المذهلة لانتفاضة ديسمبر 1905 في موسكو، عمّق لينين مفهومه عن العلاقة بين السوفييت والحكومة الثورية. وبعد عام من جداله بأن السوفييت يمثل نواة للحكومة الثورية المستقبلية، صار لينين يجادل بقوة أن السوفييت لم يكن بإمكانه الاستمرار في الحياة مستقلاً عن الظرف الثوري الذي أحاط به، ولا يمكنه في حد ذاته أن ينظم الانتفاضة المسلحة للاستيلاء على السلطة السياسية.
“مثلت سوفييتات مندوبي العمال أجهزة حقيقية للنضال الجماهيري، فلقد نشأت بالأساس كأشكال قاعدية لتنظيم الإضرابات، وتحت ضغط الظروف تطورت سريعاً لتصبح أجهزة للنضال الثوري العام ضد الحكومة، ولقد أدى تطور الأحداث والانتقال من الإضراب إلى الانتفاضة، إلى تحويلها لأجهزة للانتفاضة. وكان هذا هو الدور الذي لعبه عدد من السوفييتات واللجان في ديسمبر بشكل فعلي لا يقبل الجدل. ولقد أثبتت الأحداث بما لا يدع مجالاً للشك أن قوة وأهمية هذه الأجهزة في وقت القتال العسكري يعتمد بالكامل على قوة ونجاح الانتفاضة.
لم يكن الأمر يتعلق بالنظرية، ولا بتاكتيكات ابتدعها شخص ما، ولا بمبادئ الحزب, بل كان ضغط الظروف هو الذي دفع هذه الأجهزة الجماهيرية اللا حزبية لإدراك الحاجة إلى الانتفاضة، وهو الذي حوّلها إلى أجهزة للانتفاضة نفسها.
لكن إذا كان الأمر كذلك – وهو كذلك بلا شك – فإن الاستنتاج الذي يمكن أن نتوصل إليه هو أن السوفييتات وغيرها من المؤسسات الجماهيرية ليست كافية في حد ذاتها لتنظيم الانتفاضة. هذه الأشكال التنظيمية ضرورية للغاية من أجل التحام الجماهير سوياً، من أجل توحيد الجماهير في النضال، من أجل توفير المساحة لقيادة الشعارات السياسية التي يرفعها الحزب (أو التي يُتفق عليها بين الأحزاب)، لإيقاظ الجماهير وجذبهم. لكنها ليست كافية لتنظيم القتال الفوري، ليست كافية لتنظيم الانتفاضة بالمعنى الضيق للكلمة” (43).
هذا المسار يكشف بجلاء عن الفهم العميق لدى لينين لتشابك العلاقة الاستراتيجية بين السوفيتات والانتفاضة المسلحة، حتى بالرغم من أن لينين قد بنى هذا الفهم على أساس خبرة عدد محدود من العمال. يمكننا القول أن هذه الفقرات تكاد تخبرنا بنبذة مختصرة عما حدث لاحقاً في ثورة 1917.
اشتملت السوفيتات في عضويتها على كل الطبقة العاملة بمختلف أطياف وعيها. وعلى الرغم من ارتباط صعود السوفيتات بفترة المد الثوري، إلا أنه ليس من الضروري أن يعتلي الثوريون أنفسهم قيادتها، بل قد يقودها أعداء الثورة كما حدث بعد ثورة فبراير 1917 الروسية حين أيدت قيادات السوفيتات الحكومة البرجوازية المؤقتة والحرب الإمبريالية التي خاضتها. ثورة ألمانيا 1918 تعطي لما مثالاً آخر؛ فلم تستبعد مجالس العمال في برلين روزا لكسمبورج وكارل ليبكنخت فقط، بل أيضاً أيدت هي الأخرى الحكومة الرأسمالية التي خنقت الثورة واغتالت القادة الأبرز لها – روزا وليبكنخت.
الحزب الثوري إنما يمثل طليعة الطبقة العاملة، ومن أجل حوذ السلطة العمالية لابد من التكامل بين الدور الذي تضطلع به السوفيتات ودور الحزب الثوري، إذ أن “السوفيتات والمؤسسات الجماهيرية المشابهة لا تكفي في حد ذاتها لتنظيم الانتفاضة”. وحتى إذا حظى الحزب الثوري بنفوذ واسع داخلها، لا يمكن للسوفيتات أن تعد العدة للانتفاضة وحدها. فتلك المؤسسات الجماهيرية القاعدية تفتقر إلى الانسجام اللازم لتنظيم التحرك المباشر الذي يباغت الطبقة الحاكمة في الانتفاضة المسلحة. وبالرغم من ضرورتها في إضفاء الطابع الجماهيري والشرعي للانتفاضة، إلا أنها، كما أوضح لينين قبل 1917 بسنوات عديدة، “غير كافية لتنظيم انتفاضة بالمعنى الحرفي للكلمة”.
من المفيد في هذا السياق أن نجري مقارنة سريعة بين تحليل لينين لدروس وخبرات العام 1905 وتحليل كل من روزا لكسمبورج وليون تروتسكي. في كتابها المتميز “الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات”، لم تشر روزا لكسمبورج، والتي شاركت بنفسها في ثورة 1905، أي إشارة للسوفييت على الإطلاق. وفقط في العام 1918، أدركت روزا دور السوفييت كحكومة عمالية.
“لم تحدد روزا لكسمبورج أي دور حكومي يمكن أن تلعبه السوفيتات.. وعلى الرغم من إدراكها بأهميتها، إلا أنها مثلت بالنسبة لها أداة عفوية للنضال ليست مدرجة كهيكل مؤسسي دائم. هيمن ذلك المفهوم على السبارتاكيين في ألمانيا بعد 12 عاماً حين واجه قادة سبارتاكوس مطلب الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالجمعية التأسيسية، حينها حددوا دوراً أكثر إيجابية ودواماً لمجالس العمال والجنود، تلك المجالس التي تأسست متأثرة بإلهام النموذج الروسي” (44).
أما تروتسكي، والذي انتُخب رئيساً لسوفييت بطرسبورج في 1905، والذي تنبأ بالمضمون الاشتراكي للثورة الروسية، فقد كتب من زنزانته بعد انقضاء الثورة، واصفاً دور السوفييت كحكومة عمالية:
“مثّل السوفييت حكومة عمالية حقيقية في طورها الجنيني.. قبل بناء السوفييت كانت هناك أعداداً وافرة من التنظيمات الثورية، لكنها تنظيمات داخل البروليتاريا هدفها الفوري هو التأثير على الجماهير. إلا أن السوفييت كان، منذ البداية، تنظيماً للبروليتاريا يهدف للنضال من أجل السلطة الثورية. ومع السوفييت، شهدنا الظهور الأول للسلطة الديمقراطية في روسيا الحديثة. السوفييت هو السلطة المنظمة للجماهير نفسها، السلطة التي أسست لديمقراطية أصيلة، من دون غرف مغلقة أو خلفية، من دون بيروقراطية رتيبة وخانقة، لكن على أساس حق المصوتين في عزل مندوبيهم في أي لحظة. وبواسطة أعضائه – المندوبين المنتخبين مباشرةً من العمال – يخوض السوفييت ويتمرس في قيادة كافة مظاهر الحياة اليومية للبروليتاريا ككل، وللمجموعات الفردية على حدا، منظماً حركتها، وموفراً إياها الشعار واللواء” (45).
لكن ما يدعو للاستغراب حقاً هو أنه، بعد انقضاء بضعة أشهر جرت فيهم تصفية كاملة للسوفييت، لم يذكر تروتسكي السوفييت ولو من بعيد في كتاباته عن خبرات العام 1905. لم يبذل تروتسكي أي جهد يُذكر لتحديد أي شكل يمكن أن تتخذه حكومة العمال الثورية: “إن الثورة هي قضية حكم أولاً وأخيراً، ولا يهمها شكل الدولة (جمعية تأسيسية، جمهورية، ولايات متحدة) بقدر ما يهمها مضمون الحكم الاجتماعي” (46). لقد أخذ تروتسكي ببراعة في توصيف السوفيتات وقت صعودها، لكن لم يكن لها أية أهمية بالنسبة له سوى كونها عملية تاريخية.
على الجانب الآخر من هؤلاء، نجد المناشفة، الذين بادروا منذ البداية وساهموا بشكل كبير في بناء السوفييت، إلا أن السوفيتات بالرغم من ذلك لم تكن تعني لهم لا منظمة جماهيرية قاعدية للنضال من أجل السلطة، ولا حتى نواة لحكومة عمالية مستقبلية (2*). كانت فقط تمثل بالنسبة لهم “برلماناً بروليتارياً”، “كياناً ثورياً لتحديد المصير”، وهلمجرا.
فتح بوابات الحزب
لينين يستند إلى “رجال اللجان”
ليس هناك تجسيداً لمفهوم لينين عن عضوية الحزب (كما وصفه في “ما العمل؟” أو في جدالاته في المؤتمر الثاني للحزب وما بعده)، أكثر من “رجال اللجان” البلشفيين، أولئك الثوريين المحترفين بامتياز، الذين يقضون حياتهم بين التنظيم والتحريض، في الإضرابات والمظاهرات، وفي الاجتماعات السرية والمؤتمرات، ويتراحون بين المعتقل والمنفى، ثم العودة إلى النشاط، ثم الاعتقال والنفي مرة أخرى.
وكما هو موضح في الجدول رقم 5، لم يكن المناشفة أقل اعتماداً على الثوريين المحترفين من نظرائهم البلاشفة، إلا أنه لم يكن للثوريين المحترفيين لدى المناشفة دوراً خاصاً في الحزب؛ فدورهم كان على قدم المساواة مع كل الاشتراكيين الآخرين في الحزب. أما في الحزب البلشفي، فقد لأولئك المحترفين دوراً جوهرياً في حياة الحزب. وعلى عكس مارتوف، لم يحصر لينين دوره في القيادة السياسية للحزب فقط، بل أيضاً لقيادة هيكل متكامل من الثوريين المحترفين يقع هو على قمته.
كلما كان لينين يلاحظ أوجه من القصور لدى القادة البلاشفة، كان دائماً ما يحاول إقامة صلات مع العديد من أعضاء اللجان الأدنى في الحزب، أعضاء يمتازون بقوة إرادة وتصميم وجرأة، حيث كان يشجعهم ومن ثم يقوم بتصعيدهم إلى مستويات أعلى بالحزب. كان لدى لينين تقدير عالي لرجال اللجان ذوي الكفاءة في الحركة والجرأة في اتخاذ القرار، أمثال بابوشكين، وإينيسا أرماند، وأوردجنيكدزه، وسباندريان، وستالين، وريكوف، وكراسين، جولوششكين، وتاراتوف، وسيريبرياكوف، وآخرين عديدين.
لم يكن لينين يقدس ماكينة الحزب المركزية كهدف في حد ذاتها، بل كوسيلة لزيادة النشاط وإثراء الوعي وإحكام تنظيم القطاعات الطليعية من الطبقة العاملة. وعلى العكس من ذلك، تطورت لدى رجال اللجان سمات سلبية من النخبوية والمحافظة يوماً بعد يوم، مثلما يُظهر الاقتباس التالي مما كتب ستالين أثناء الأحداث العاصفة لثورة 1905: “فنتكاتف ولتلتف أيدينا ببعض حتى نحاوط لجان الحزب. ينبغي ألا ننسى ولو حتى للحظة أن هذه اللجان هي التي ستقودنا بحق، وهي فقط التي ستنير طريقنا إلى “أرض الميعاد” التي نسميها: العالم الاشتراكي” (1).
فلنقارن إذن ما كتبه ستالين بكلمات لينين والتي سطرها في نفس اليوم من منفاه في جينيف: “أطلقوا الغضب والكراهية المتراكمين في قلوبكم على مر قرون من الاستغلال والمعاناة والمآسي”. استعار تروتسكي هذه العبارة في وقت لاحق، وعلّق واصفاً لينين بأنه “قد شهر بالكراهية ومارس التمرد مع الجماهير، كان يشعر بالغليان في نخاعه، لم يكن أبداً ليطلب من الثوار أن يسيروا فقط وفق ما تسمح به لجان الحزب” (2).
من زوايا عدة، لم يكن رجال اللجان يتسمون فقط بالثقة في النفس، بل أيضاً بالتفاني اللا محدود، إلى درجة أن يضعوا كل حياتهم تحت إمرة الحزب، فلم يكن لديهم أي حياة أخرى خارج الحركة. ولأنهم كانوا يقدمون تضحيات نفيسة، كان لهم سلطة أدبية مرموقة في الحزب. ولأنهم ضربوا أمثلة مبهرة في تقديم التضحيات، كانوا دائماً ما يطالبون العمال القاعديين بمزيد من التفاني في النشاط. لقد اكتسب رجال اللجان ثقة هائلة في أنفسهم إثر اتخاذهم دوماً قرارات محورية في القلب من المعارك، وبشكل عام، كان أولئك المحترفون أكفاء مقتدرين، متبصرين وذوي إرادة لا تلين.
وطوال شهور وسنين، لم ينتاب رجال اللجان أي تزعزع ولم يشب نضالهم أي تلكؤ أو تخاذل. ويكفي لنا أن نلقي نظرة سريعة على المؤتمر الخامس للحزب بلندن، على سبيل المثال، لنرى معرضاً من أولئك الثوريين الذين شكلوا سوياً العمود الفقري للبلشفية، والذين حافظوا على تراث الحزب واستمراريته، وحتى خلال سنوات التراجع (06 – 1910) لم يهجر أي منهم الحزب، بل بقوا على ولاء تام له.
خلال النضال، كانت تجري عملية اختيار الكوادر بدقة بالغة، وأولئك المختارين شكلوا في مجملهم “رجال اللجان”. لكن لسوء الحظ، فإن قدر التضحيات والتفاني والقدرات التنظيمية لا يمكن أن تضمن تجنب المحافظة داخل ماكينة الحزب الثوري. وصف عالم الطبيعة الشهير، هربرت سبنسر، كفاءة العضو تتناسب طردياً مع محافظته على أداء دوره في الجسد. ولينين، الذي عرف جيداً كيف يجند ويدرب رجال اللجان، كان عليه أن يواجه محافظتهم خلال ثورة 1905.
وبالرغم من أن رجال اللجان، خلال السنوات قبل ثورة 1905 وأيضاً خلال سنوات التراجع التي تلتها، كانوا أكثر وعياً وتنظيماً ونشاطاً من أكثر قطاعات البروليتاريا تقدماً، إلا أنهم خلال وقت الثورة نفسها كانوا يترنحون إلى الوراء من طليعة البروليتاريا. ليس هناك من شك أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على حياة الحزب خلال السنوات العصيبة من الركود والموات والعمل غير الشرعي، هي الحفاظ على درجة عالية من الانضباط الذي يصبح عائقاً أمام تطور الحزب في وقت الثورة. هكذا وصفت كروبسكايا السمات الأساسية لرجال اللجان بوضوح:
“عادة ما كان يتمتع الكوميتيتشيك (رجل اللجنة) بثقة كبيرة في النفس، مدركاً تماماً أن لهذه اللجان تأثير عظيم على الجماهير، إلا أنه رغماً عن ذلك لم يلتفت له بال للديمقراطية الداخلية للحزب. وقد يقول أحد رجال اللجان “إن الديمقراطية تقودنا فقط للوقوع فريسة سهلة في أيدي السلطات، بينما نحن متصلون جيداً بالحركة”. بينما كانوا يزدرون الرفاق في الخارج الذين، في وجهة نظرهم، لا يزدادون إلا سمنة ولا يجيدون سوى المؤامرات، ولسان حالهم يقول بأن على الرفاق في الخارج أن يعتادوا أولاً على العمل في الظروف الروسية. لم يكن رجال اللجان يطيقون الضغط من الخارج، وفي نفس الوقت لم تكن لديهم روح الابتكار، لم يكونوا راغبين ولا قادرين على تكييف أنفسهم وفقاً للظروف المتغيرة.
لقد تحمل رجال اللجان مسئوليات مهولة خلال الفترة بين 1904 و1905، لكنهم واجهوا صعوبات بالغة في تكييف أنفسهم وفقاً للفرص المتزايدة للعمل الشرعي ولأساليب النضال المفتوح. وبينما لم يكن هناك أي عمال بين مندوبي المؤتمر الثالث للحزب، زخر المؤتمر بالعديد من أعضاء اللجان” (3).
انفتاح الحزب
في ربيع 1905 الثوري، أخذ لينين يتغنى بألحان جديدة مختلفة، حيث حاول أن يخلّص رجال اللجان من عاداتهم القديمة، من جمودهم، ومن محاذيرهم ومخاوفهم، حاثاً إياهم على الجرأة والمبادرة. تلخصت رسالته، التي أخذ يكررها طويلاً وبإلحاح شديد، في “التنظيم وفتح أبواب الحزب”. وفي خطابه إلى بوجدانوف وجوزيف، كتب لينين في 11 فبراير 1905:
“إن فترة ثورية بالنسبة للاشتراكية الديمقراطية ما يكون زمن الحرب بالنسبة للجيش. ينبغي مضاعفة كوادر جيشنا، ووضع وحداته على أهبة الاستعداد للحرب، وتعبئة الجيش الإقليمي والاحتياط.. وخلق وحدات جديدة ومصالح إضافية. ولا ينبغي أن ننسى أنه سيكون علينا حتماً في زمن الحرب إكمال عدد المقاتلين بمجندين جدد أقل تدريباً وفي الغالب إحلال جنود عاديين محل الضباط، وتسريع ترقية ضباط الصف وتبسيطها.
لنتكلم من دون استعارات: إن الأعداد المتوفرة لدى كل المنظمات الحزبية والمتعاطفة مع الحزب ينبغي أن تزداد كثيراً كي نتمكن من أن نلحق قدر الإمكان بالسيل المتضاعف مائة مرة للقوة الثورية للشعب. قوموا بتجنيد دفعات جديدة من ضمن الشبيبة العمالية، وسّعوا الأطر المعتادة لمنظمات الحزب، بدءاً من اللجان ووصولاً إلى مجموعات الفبركة والاتحادات، وحلقات الطلاب.. يجب تنظيم مئات المنظمات الجديدة.. نعم مئات، وليس في ذلك مبالغة” (4).
وفي 25 مارس 1905، كتب لينين إلى لجنة أوديسا متسائلاً: “هل تضمون عمالاً إلى اللجنة؟ هذا ضروري، ضروري للغاية. لماذا لا تضعوننا على اتصال مباشر بالعمال؟ لم يكتب أي من العمال في أوديسا لفبريود. هذه فضيحة. نحتاج عشرات العمال المراسلين بأي ثمن ومهما تكلف الأمر” (5). وبعد وقت قصير، في كراس بعنوان “عهود جديدة وقوى جديدة”، دعا لينين بإصرار شديد إلى فتح أبواب الحزب لاستقبال العمال أعضاءاً فيه، لكن دعوته لاقت مقاومة عنيدة من رجال اللجان المحافظين. وفي المؤتمر الثالث للحزب في ربيع 1905، قدم لينين وبوجدانوف مشروع قرار يقضي بفتح أبواب الحزب برحابة للعمال الذين ينبغي التخلي عن كل تردد في ضمهم للحزب وتطويرها للاضطلاع بأدوار قيادية فيه:
“ابذلوا كل ما تستطيعون من جهد لتوطيد الصلات بين الحزب وجماهير الطبقة العاملة برفع وعي القطاعات العريضة من البروليتاريا وأشباه البروليتاريا إلى الوعي الاشتراكي الديمقراطي، بتطوير نشاطهم الاشتراكي الديمقراطي الثوري، وكلما أمكن بتصعيد العمال القادرين على قيادة الحركة إلى عضوية الحزب، بل وتصعيدهم أيضاً إلى المراكز القيادية المحلية، وإلى المركز القيادي للحزب ككل.. وعلى الأقل الارتباط بمنظمات الطبقة العاملة غير الراغبة في، أو غير القادرة على، الانضمام للحزب” (6).
اتسمت نقاشات المؤتمر الثالث بكثير من الحدة. قال المتحدث التالي، جرادوف (كامينيف): “عليّ أن أعرب عن معارضتي القوية لهذا القرار. وبالنسبة لمسألة العلاقة بين العمال والإنتلجنسيا في منظمات الحزب، فإن هذا التساؤل لا وجود له (لينين مقاطعاً: بل موجود)، لا ليس موجوداً، هو فقط مجرد تساؤل ديماجوجي وهذا كل شيء” (7). أثناء المؤتمر، لم يخل النقاش حول ضم العمال إلى اللجان المحلية للحزب من الشد والجذب، تحدث فيليبوف عن لجنة بطرسبورج التي تضم عاملاً واحداً فقط، حينها صاح لينين: يا للعار (8)، كما تحدث ليسكوف عن أن الأمور تسير على نحو أسوأ في اللجنة الشمالية:
“في وقت ما، كان ثلاثة، من ضمن سبعة أعضاء في اللجنة الشمالية، عمالاً. أما الآن فليس هناك ولا حتى عاملاً واحداً ضمن الأعضاء الثمانية في اللجنة. وقريباً سيصبح الأمر على درجة أعلى من التعقيد؛ حيث تتنامى الحركة العمالية بعيداً عن تأثير الحزب، في حين ينبغي علينا تنظيم هذه الكتل من الجماهير الصاعدة. ووضعنا الحالي يُضعف التأثير الأيديولوجي للاشتراكية الديمقراطية” (9).
أما أوسبيروف، فقد جاء في تقريره:
“منذ وقت قريب، تفقدت أحوال لجان القوقاز.. كان هناك عاملاً واحداً فقط في لجنة باكو، وآخر في لجنة باتيوم، في حين خلت لجنة كيوتايس من أي عمال. فقط لجنة تفليس هي التي كانت تضم العديد من العمال. هل يعني ذلك أن رفاقنا في القوقاز يفضلون الإنتلجنسيا عن العمال؟” (10).
علّق أورلوفسكي بأن “حزب عمالي تغدو فيه القيادة من موروثات الإنتلجنسيا هو حزب مصاب بالأنيميا” (11). أما بيلسكي (كراسيكوف) فقد أعلن أن “هناك نوع من الفوبيا تجاه العمال في لجاننا” (12)، حينها تدخل لينين مقاطعاً الحديث وقد أصبح النقاش أكثر صخباً:
“أعتقد أن علينا تناول المسألة بشكل أوسع. إن إدخال العمال إلى اللجان ليس مهمة تعليمية فقط، وإنما سياسية أيضاً. العمال لديهم غريزة طبقية، وحتى مع بعض خبرة سياسية ضئيلة، فإنهم يصبحون سريعاً جداً اشتراكيين ديمقراطيين يُعتمد عليهم. إنني أرغب أن أرى ثمانية عمال في لجاننا أمام كل مثقفَين” (13).
ألقى ميخائيلوف مداخلته بعد لينين مباشرةً، ساكباً المزيد من الوقود على النار:
“يجب أن نضع في اعتبارنا في هذا السياق أن لجاننا قد اتسعت لتوها لتضم 15 إلى 20 عضواً في مجالسها الانتخابية. ينبغي أن يتشكل الفريق الأساسي لكل لجنة من العمال. البعض يقول أن العمال ليس لهم طاقة للمكوث في اللجان. هذا ليس صحيحاً بالمرة. إن معيار قبول العمال في لجان الحزب يجب أن يختلف عن معيار قبول الإنتلجنسيا. هناك حديث آخر عن الاشتراكيين الديمقراطيين المتقلبين والمزاجيين، لكن.. طلاب الدفعات الأولى والثانية، المتآلفين مع الأفكار الاشتراكية الديمقراطية، هم أيضاً يُعتبرون اشتراكيين ديمقراطيين متقلبين ومزاجيين. وهكذا تصبح الحاجة إلى العمال في الممارسة أكبر بكثير من الحاجة إلى المثقفين (لينين يقاطع مرة أخرى: صحيح تماماً. وأغلبية المندوبين يردون: غير صحيح). إن المعيار الوحيد الذي يجب أن نعتمده في قبول العمال في الحزب هو درجة تأثيرهم في الأوساط الجماهيرية. كل العمال الذين يقودون النضال في مواقعهم، والمتحولقين حول لجان الحزب، يجب أن يصبحوا أعضاءاً فيها. أظن أن هذه هي الطريقة الوحيدة للإجابة على السؤال الذي نوقش طويلاً فيما يخص العلاقة بين العمال والإنتلجنسيا، هذه هي الطريقة الوحيدة لسحب البساط من تحت أقدام المزاعم الديماجوجية” (14).
عاد لينين إلى هذه المسألة مرة أخرى:
“إذا كانت هذه الفقرة تمثل تهديداً على اللجان المشكلة بالأساس من المثقفين، فأنا أؤيدها تماماً. ينبغي الإبقاء على الإنتلجنسيا تحت سيطرة قبضة صارمة، فالإنتلجنسيا دائماً يثيروا كل أنواع المشاحنات والمشاجرات.
لا يمكن الاعتماد على فرع صغير من المثقفين، لكن يمكننا بالطبع أن نستند إلى المئات من العمال المنظمين” (15).
كان أغلب مندوبي المؤتمر من رجال اللجان الذين أخذوا يعارضون أي خطوة من شأنها أن تقلص هيمنتهم على الحزب ولجانه وقواعده، وهكذا كانوا يلجأون دوماً للاقتباس من “ما العمل؟” في دعواهم لاتخاذ “أقصى درجات الحذر والحيطة” فيما يخص قبول العمال في لجان الحزب. في النهاية، انهزم لينين بـ 12 صوتاً يعارض القرار و9,5 صوتاً يؤيده، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يجد لينين نفسه فيها آخذاً في الصياح والغضب والاستهجان في مؤتمر حزبي يكون فيه محاصراً في موضع الأقلية بين القادة البلاشفة (1*).
كان على لينين أن يقنع مؤيديه بضرورة معارضة المسار الذي رسمه بنفسه في “ما العمل؟”، وهكذا أنكر:
“أي نية في المؤتمر الثاني للارتقاء بتلك الصيغ التي قدمها “ما العمل؟” إلى مستوى “برنامجي” يشكل مبادئ من نوع خاص. بل على العكس، فلقد كنت أجادل ضد من أطلقت عليهم “الاقتصادويون”، حيث كان “ما العمل؟”، كما قلت، يعيد تسوية ما حرّفه الاقتصادويون. ومغزى كلامي هذا واضح بما فيه الكفاية، وهو أن “ما العمل؟” كان تصحيحاً للتشويهات الاقتصادوية، ومن الخطأ تناول هذا الكتيب من أي منظور آخر” (17).
أما فيما يخص الفكرة التي تطرح أن الوعي الاشتراكي لا يمكن أن يأتي للطبقة العاملة إلا “من الخارج”، فقط طوّر لينين استنتاجاً جديداً على النقيض مما قد طرحه من قبل في “ما العمل؟”، وفي مقالة بعنوان “إعادة تنظيم الحزب”، في نوفمبر 1905، أكد لينين أن “لدى الطبقة العاملة غريزة اشتراكية ديمقراطية عفوية” (18).
وبعد سنوات قليلة، في مقالة كتبها لإحياء ذكرى ثورة 1905، ذهب لينين للتعبير عن وجهة نظره بأن الرأسمالية نفسها تغرس وعياً اشتراكياً داخل الطبقة العاملة:
“إن ظروف حياتهم، تدفعهم إلى النضال. يجمع رأس المال جماهير عريضة من العمال في مدن كبيرة، يوحدهم، ويعلمهم كيف يتحركون بشكل موحد. وفي كل خطوة يجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع عدوهم: الطبقة الرأسمالية. وفي معركته ضد هذا العدو، يصبح العامل اشتراكياً مدركاً ضرورة المحو الكامل لكل أشكال الفقر والاضطهاد” (19).
لا يعني ذلك أن لينين كان مخطئاً فيما طرحه في “ما العمل؟”؛ فقد كان تشديده خلال سنوات 1900 إلى 1903 على الحاجة إلى تنظيم من الثوريين المحترفين مبرراً تماماً. وهكذا كتب في 1908 أن:
“إن اعتبار الإيسكرا قد بالغت (في 1901 و1902) في فكرة المنظمة المكونة من الثوريين المحترفين يشبه تماماً كأنما نلوم اليابانيين، بعد الحرب الروسية اليابانية، على أنهم قد بالغوا في تقدير قوة الجيش الروسي، على أنهم قبل اندلاع الحرب قد بالغوا في الحاجة لإعداد العدة لقتال هذا الجيش. ففي الحقيقة، كان على اليابانيين كي يحرزوا النصر في هذه الحرب أن يحشدوا كل قواتهم لمواجهة أقصى قوة يمكن أن يصل إليها الجيش الروسي.
لسوء الحظ، الكثيرون ممن ينتقدون الحزب ليسوا أعضاءاً به، وليس لهم دراية بالمسألة، ولا يدركون أن فكرة منظمة الثوريين المحترفين قد أحرزت الآن بالفعل انتصاراً كاملاً. مثل هذا الانتصار كان مستحيلاً إن لم نكن قد دفعنا بهذه الفكرة إلى الصدارة في ذلك الوقت، إن لم نكن قد “بالغنا” فيها” (20).
لم يكن من شيمة لينين أن يترك ميدان المعركة، فبعد شهور قليلة من المؤتمر الثالث، وعلى الرغم من النزعة المحافظة الطاغية لدى رجال اللجان، عاد لينين مرة أخرى لمناقشة قضية فتح أبواب الحزب، وبشكل أكثر قوة هذه المرة: “اجعلوا العمال الاشتراكيين الديمقراطيين يلتفون حولكم، ادمجوعم في قواعد منظمات الحزب بالمئات والآلاف” (21).
تخوّف رجال اللجان كثيراً من أخطار “إذابة” الحزب، أما لينين فقد تصدى لمعارضة كسب وتجنيد العمال على النحو التالي:
“قد يُقال أن الخطر يكمن في تدفق مفاجئ لأعداد كبيرة من غير الاشتراكيين الديمقراطيين إلى الحزب، وذلك سوف يذوّب الحزب بين الجماهير وبالتالي يتوقف الحزب عن كونه الطليعة الواعية بطبقته وسيتراجع دوره إلى الذيل، يعني ذلك فترة يُرثى لها جداً بالفعل. ولا شك أن هذا الخطر يمكن أن يصبح خطيراً إذا أظهرنا أي ميل نحو الديماجوجية، وإذا افتقدنا المبادئ الحزبية بالكامل (البرنامج، والقواعد التاكتيكية، والخبرة التنظيمية)، أو إذا كانت هذه المبادئ ضعيفة ومزعزعة. لكن الواقع هو أنه لا يوجد أي ميل نحو الديماجوجية” (22).
ينبغي أن يفتح الحزب أبوابه للعمال المتدينين أيضاً، طالما أنهم يناضلون ضد أرباب العمل وضد الحكومة.
“أولئك العمال المسيحيون، أولئك العمال الذين لا يزالون يؤمنون بالرب، وأولئك المثقفون المتصوفون، هم غير متماسكين أيضاً، لكن علينا ألا نلفظهم من السوفييت ولا حتى من الحزب؛ فنحن على قناعة تامة بأن النضال الحقيقي والعمل وسط القواعد سوف يقنع العناصر النشيطة بين العمال بأن الماركسية هي الحقيقة، وسوف يهمّش جانباً كل تلك العناصر الخاملة التي تفتقر إلى الحيوية في النضال. كما أننا لا نشك ولو للحظة في قوتنا، في القوة الهائلة للماركسيين في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي” (23).
وغير العمال أيضاً أن يتم تحفيزهم للانضمام إلى الحزب.
“ستشكل البروليتاريا المدنية والصناعية، حتماً، نواة حزبنا الاشتراكي الديمقراطي، لكننا أيضاً يجب أن نجذب إلى جانبها، وننظم، كل أولئك الذين يعملون ويتعرضون للاستغلال، كما هو موضح في برنامجنا: كلهم من دون استثناء: الحرفيون والمعدمون والمستولون والمشردون، إلخ.. على أن يتبنى هؤلاء بشكل إلزامي، لدى انضمامهم للحزب، وجهة نظر البروليتاريا، وليس أن تتبنى البروليتاريا وجهة نظرهم” (24).
كان لينين يكرر، كل مرة بأسلوب مميز، المهام التي رآها تواجه الحركة، وخلال تلك الفترة نادى لينين بالانفتاح على جماهير العمال، فكتب في نوفمبر 1905:
“في المؤتمر الثالث للحزب، اقترحت أن يكون هناك ثمانية عمال أمام اثنين من المثقفين في لجان الحزب (25). كم يبدو هذا الاقتراح عتيقاً اليوم. علينا أن نأمل أن يكون لدى منظمات الحزب الجديدة مثقف اشتراكي ديمقراطي واحد أمام مئات من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين” (26).
وبعد عام، في ديسمبر 1906، كرر لينين أنه:
“من الضروري بالتأكيد توسيع قاعدة الحزب بإدخال العناصر البروليتارية. فمن غير الطبيعي أن يكون لدينا فقط 6 آلاف عضواً حزبياً في سان بطرسبورج (في مقاطعة بطرسبورج وحدها هناك 150 ألف عامل، منهم 81 ألف يعملون في المصانع التي تضم 500 عامل فأكثر)، ومن غير الطبيعي أيضاً أن يكون لدينا في المنطقة الصناعية المركزية فقط 20 ألف عضواً (في المنطقة الصناعية المركزية هناك 562 ألف عامل، منهم 377 ألف يعملون في المصانع التي تضم 500 عامل فأكثر). يجب أن نتعلم كيف نجنّد (2*) للحزب من العمال خمس وعشر أضعاف في هذين المركزين”.
وعلى الرغم من كل ذلك، وجد لينين الأمر عسيراً على التمرير بين أولئك الكوادر القدامى الذين نظمهم ودربهم على مدار سنين طويلة مضت. إلا أن الإخلاص الشديد لدى رجال اللجان تجاه الحزب، والذي حظى بتقدير رفيع من لينين، قد تحول إلى صنمية تنظيمية تعوق تطور البلشفية نفسها.
إلا أن دوام الحال من المحال
على الرغم من المعارضة العنيدة من جانب رجال اللجان، تمدد الحزب سريعاً في صحوة الثورة، كما تغير تركيبه الطبقي راديكالياً:
“بناءاً على التقارير المقدمة إلى المؤتمر الثاني، لم تزد عضوية الحزب الاشتراكي الديمقراطي عن بضعة آلاف – باستثناء البوند. وبحلول المؤتمر الرابع في أبريل 1906، نمت العضوية بشكل كبير لتصل عضوية البلاشفة إلى 13 ألفاً والمناشفة إلى 18 ألفاً. أما في أكتوبر 1906، كان هناك 33 ألف بلشفي و43 ألف منشفي. وفي 1907، تضاعفت العضوية الإجمالية لتصل إلى 150 ألفاً، حيث وصل البلاشفة إلى 46,143، والمناشفة إلى 38,174، البوند 25,468، والحزب البولندي واللاتفي: 25,654 و13 ألف على التوالي” (28).
أصبح الشباب يشكلون الأغلبية الساحقة داخل الحزب البلشفي، مما ساعد لينين على تجاوز المقاومة المحافظة لرجال اللجان في طريق تغيير بنية الحزب. يُظهر الجدول التالي نسب أعضاء شِقيّ الحزب الاشتراكي الديمقراطي، البلاشفة والمناشفة، وفقاً لأعمارهم (29):
السن
البلاشفة
المناشفة
الإجمالي
أكبر من 30
13%
7%
20%
25 – 29
8%
6%
14%
20 – 24
19%
6%
25%
10 – 19
11%
1%
12%
الإجمالي
51%
20%
71%
أما النشطاء، من الدعاويين والمحرضيين والخطباء الجماهيريين، أو أعضاء السرايا المسلحة (الاشتراكية الديمقراطية) في السوفيتات المحلية، فلم يكونوا هم أيضاً أكبر سناً (30).
السن
البلاشفة
المناشفة
الإجمالي
أكبر من 30
10%
10%
20%
25 – 29
14%
16%
30%
20 – 24
25%
9%
34%
10 – 19
10%
0%
10%
الإجمالي
59%
35%
94%
كانت قياديو البلاشفة أيضاً صغاراً في السن مقارنةً بالمناشفة. فمن ضمن القيادات البلشفية في 1907، “كان كراسين ولينين وكراسيكوف هم الأكبر سناً (كل منهم 37 عاماً)، وأصغرهم كان ليتفينوف وزيملياتشكا (كليهما 31 عاماً). وبلغ متوسط عمر التسعة أعضاء في اللجنة البلشفية 34 عاماً، فيما بلغ 44 لدى المناشفة (31).
كان لينين مسروراً وفخوراً بكون حزبه يتكون بالأساس من الشباب:
“نحن حزب المستقبل، والمستقبل للشباب. نحن حزب المجددين والمبدعين، والشباب هم دائماً الحريصون على اتباع المجددين والمبدعين. نحن حزب يشن نضالاً متفانياً ضد عفن العجائز، والشباب هم دائماً الأُول في المبادرة بهذا النضال وفي التضحية بالنفس في سبيله. كلا، لنترك الكاديت يجمعون العجائز الثلاثينيين المنهكين، أولئك الثوريين “المتعقلين” والمرتدين عن الاشتراكية الديمقراطية. سنظل دائماً حزباً لشباب الطبقة الطليعية” (32).
وبعد سنوات قليلة، في خطاب لإينيسا أرماند، كتب لينين: “إن الشباب هم الوحيدون الجديرون ببذل الجهد عليهم” (33).
مثّل التركيب البروليتاري للحزب البلشفي عاملاً إضافياً ساعد لينين في تجاوز المعارضة المحافظة بين قياديي الحزب. وفي إحصاء جرى عام 1922 لتصنيف عضوية الحزب في العام 1905 وفقاً للمهنة، جاء التصنيف كالتالي (34) (3*):
العمال
الفلاحين
عاملون بالمكاتب والمحال التجارية
آخرين
الإجمالي
العدد
5,200
400
2,300
500
8,400
النسبة المئوية
61,9
4,8
27,4
5,9
100
نشأت خلايا الحزب بغزارة شديدة في المصانع، وهكذا ذكر تقرير لجنة بطرسبورج في المؤتمر الثالث للبلاشفة (مايو 1905) قائمة من 17 خلية بمصانع مقاطعة بطرسبورج، و18 خلية بمقاطعة فيبورج، و29 بمقاطعة المدينة، و20 بمقاطعة نيفا، علاوة على 15 حلقة أخرى في أوساط الحرفيين (36). وبالمثل في موسكو، حيث حظى البلاشفة بأربعين خلية مصنعية (37).
كل هذه الحقائق تدحض تماماً كافة المزاعم التي ترى الحزب البلشفي عبارة عن حفنة من المثقفين الثوريين، تلك المزاعم التي لا تزال رائجة بين الأكاديميين المعادين للبلشفية، مثل ما يشيعه ج. ل. كييب عن أن “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الذي كان يعلن عن نفسه كحزب بروليتاري، لم يكن في الحقيقة سوى منظمة للمثقفين الثوريين بدعم شعبي محدود” (38). ومن الناحية الأخرى، كتب لينين في 1907 أن “الكاذبين والمضللين وحدهم هم من يشككون في الطابع البروليتاري الجماهيري للحزب الاشتراكي الديمقراطي في روسيا” (39).
مع مرور الوقت، أصبحت نسبة عمال الصناعة لدى البلاشفة في تزايد مستمر، ليس فقط بين قواعد الحزب، لكن أيضاً بين مندوبي مؤتمراته أيضاً. وفيما يلي نعرض تصنيفاً لمندوبي أربع مؤتمرات بلشفية:
المؤتمر
العمال
الفلاحين
عاملون بالمكاتب وآخرون
غير معروف
الثاني (1903)
3
0
40
8
الثالث (1905)
1
0
28
1
الرابع (1906)
36
1
108
0
الخامس (1907)
116
2
218
0
يجدر بنا الإشارة هنا إلى أن المؤتمر الخامس كان الأقل تعبيراً عن اتساع عضوية الحزب، بالرغم من كثرة عدد مندوبيه مقارنةً بالمؤتمرات التي سبقته؛ فقد مثّل كل مندوب حوالي 500 عضواً بالحزب. ويوضح الجدول التالي تصنيفاً آخر لمندوبي البلاشفة والمناشفة وفقاً للمهنة (40):
البلاشفة
المناشفة
المهنة
العدد
النسبة المئوية
العدد
النسبة المئوية
عمال الصناعة
38
36,2
30
31,9
عاملون بالمكاتب والمحال التجارية
12
11,4
5
5,1
أعمال حرة
13
12,4
13
13,4
ثوريون محترفون
18
17,1
22
22,1
كتّاب
15
14,3
18
18,6
لا يعملون
4
3,8
3
3,1
طلاب
5
4,8
5
5,2
ملاك أراضي
0
0,0
1
1,0
الإجمالي
105
100,0
97
100,0
“إن التصنيف المهني لمندوبي المؤتمرات البلشفية والمنشفية يعكس درجة من التشابه بين شِقيّ الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي.. الاختلافات الوحيدة تكمن فقط في مجموعة عمال الصناعة، حيث يتفوق البلاشفة عن نظرائهم المناشفة، وفي مجموعة الثوريين المحترفين التي تعكس الأعداد فيها زيادة طفيفة لدى المناشفة عن البلاشفة. هذا الإحصاء البسيط يدحض بوضوح الزعم القائل بأن البلاشفة كانوا يمثلون شقاً من الثوريين المحترفين مقارنةً بالمناشفة” (41).
استنتاج
تاريخياً، لم تفتقر تصورات لينين عن الأشكال التنظيمية إلى القوة أو التماسك؛ فلم يستنتج لينين أفكاره وتصوراته بشكل مجرد من مخططات تنظيمية دوجمائية موضوعة مسبقاً، لكنه كان دوماً على استعداد لتغيير هيكلة الحزب التنظيمية كي تعكس وتنسجم مع تطور الصراع الطبقي، في حالات التصاعد كما في حالات التراجع.
التنظيم، كما تعلمنا من لينين، ينبغي أن يخصع للسياسة، لكن هذا لا يعني أن للتنظيم تأثيره المستقل على السياسة ذاتها، إلا أنه، ويجب أن يكون، خاضعاً للأولويات والمستهدفات السياسية. وكما كرر لينين مراراً وتكراراً، فإن الحقائق دائماً قوية، وهكذا ينطبق الأمر نفسه على الأشكال التنيظيمة الضرورية لمباشرة المهام العملية ليس فقط للتفاعل مع مستجدات الصراع الطبقي، لكن أيضاً للتدخل فيها، بل وتوجيهها أيضاً.
أدرك لينين، أفضل من أي ثوري آخر، الحاجة إلى تنظيم حزبي مركزي، إلا أنه لم يضع ذلك يوماً هدفاً في حد ذاته، بل وسيلة لإثراء حركة ووعي جماهير العمال. أما تحويل التنظيم إلى صنم مقدس فلم يكن من تراث لينين الثوري. وعندما وجد الأمر ضرورياً، كما في 7 – 1905 أو في 1917، كان لينين يلجأ للاستناد إلى الكتل الجماهيرية المتقدمة لتجاوز محافظة وجمود ماكينة الحزب.
الانتفاضة المسلحة
“إن القضايا الكبرى في حياة الشعوب لا تحلها إلا القوة” (1).
على عكس المناشفة الذين لم يفهموا دور الإعداد النشط لها، كانت الانتفاضة المسلحة بالنسبة للينين تمثل ذروة الثورة والمرحلة القصوى فيها. أما المتمردون البلانكيون، فلم يعيروا أي اهتمام سوى بالجانب التقني من الانتفاضة المسلحة في تجريد تام لها من صلتها بالحركة الجماهيرية وتطوراتها اليومية، وأيضاً في انعزال عن التنظيم والوعي الطبقي على حد سواء (1*). فيما كان لينين يصف الانتفاضة مراراً وتكراراً بالفن الذي يحتاج دراسة مكثفة وتنفيذ عملي عالي الدقة، الفن المرتبط بحركة الثورة الجماهيرية نفسها.
قال ماركس أن الثورة هي رحم المجتمع الجديد، وعملية الولادة هذه لها قواعد خاصة ينبغي دراستها بعناية ودقة. وعلى ضوء ذلك، كان لينين يتناول قضية الانتفاضة المسلحة، وفقاً للتطورات الملموسة التي تؤهل لها، وهكذا صار يتناول هذه القضية بأشكال مختلفة في فترات زمنية مختلفة من حياته.
ففي 1897 على سبيل المثال، عمد لينين إلى تأجيل الحديث المباشر عن الانتفاضة، وفي كراسه “مهمات الاشتراكيين الديمقراطيين الروس”، كتب:
“أن نقرر في الوقت الراهن أي طريقة يمكن أن تلجأ لها الاشتراكية الديمقراطية لإسقاط الأوتوقراطية مباشرةً، سواء من خلال الانتفاضة المسلحة، أو عن طريق الإضراب السياسي واسع النطاق، أو بأي شكل آخر للهجوم، فسوف نبدو كجنرالات يعقدون مجلساً للحرب قبل حتى أن يحشدوا الجيش” (2).
وفي 1902، في كتابه “ما العمل؟”، تعرض لينين لمسألة حشد الجيش وما تتطلبه بشكل عام من تنظيم ودعاية وتحريض:
“تصوروا من ناحية أخرى الانتفاض الشعبي. يتراءى لنا أن الجميع يوافقون اليوم على ضرورة التفكير به والاستعداد له. ولكن كيف نستعد؟ أترى يجب أن تعين اللجنة المركزية عملاء في جميع النواحي لتحضير الانتفاض؟ ولكن اللجنة المركزية، وإن كانت موجودة عندنا، لا تستطيع أن تبلغ شيئاً في الظروف الروسية الراهنة عن طريق مثل هذا التعيين. وعلى عكس ذلك شبكة العملاء التي تتألف من تلقاء نفسها في العمل على تنظيم وتوزيع الجريدة العامة، فهي لن “تنتظر مكتوفة الأيدي” شعار الانتفاض، بل ستقوم على وجه التحقيق بعمل منتظم يضمن لها أكبر إمكانيات النجاح في حالة الانتفاض. وهذا العمل يوثق الصلات بأوسع جماهير العمال وبجميع الفئات الساخطة على الاستبداد، وهو أمر كبير الأهمية بالنسبة للانتفاض.
وعلى أساس هذا العمل بالذات تنمو ملكة التقدير الصحيح للوضع السياسي العام، وبالتالي الاختيار الموفق للحظة المناسبة للانتفاض، وهو الذي يعلم جميع المنظمات المحلية على النهوض في وقت واحد للجواب على المسائل والطوارئ والأحداث السياسية الواحدة التي تثير روسيا من أقصاها إلى أقصاها، والجواب على هذه “الأحداث” بأكثر ما يمكن من النشاط والتجانس والعقلانية. وهذا العمل بالذات يعلم، أخيراً، جميع المنظمات الثورية في أنحاء روسيا أن تقيم بينها الروابط المنتظمة جداً والسرية جداً في آن واحد، هذه الروابط التي تنشئ وحدة الحزب الفعلية. والحال لا يمكن بدون هذه الروابط أن يُبحث بصورة مشتركة مشروع الانتفاض وأن تُتخذ في عشية التدابير التحضيرية الضرورية التي ينبغي أن تبقى في طي الكتمان التام” (3).
أما في 1905، فقد عاد لينين للمرة الثالثة إلى نفس القضية؛ فبعد مذبحة الأحد الدامي في 9 يناير، وضع لينين أولوية مباشرة لقضية الانتفاضة المسلحة في جريدة “فبريود” البلشفية (2*) كما في المؤتمر الثالث للحزب في مايو من نفس العام، والذي جاء فيه القرار التالي:
“إن المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي يرى أن مهمة تنظيم البروليتاريا للنضال المباشر ضد الأوتوقراطية من خلال الانتفاضة المسلحة هي واحدة من أهم المهمات وأكثر إلحاحاً للحزب في الساعة الثورية الراهنة.
ولهذا يكلف المؤتمر جميع منظمات الحزب ما يلي:
1- أن توضح للبروليتاريا، عن طريق الدعاية والتحريض، لا المغزى السياسي للانتفاضة المسلحة القادمة فحسب، بل أيضاً جانبها التنظيمي العملي.
2- أن توضح في سياق هذه الدعاية وهذا التحريض دور الإضرابات السياسية الجماهيرية، والتي يمكن أن تكتسب أهمية كبرى في بداية الانتفاضة وفي مجراها بالذات.
3- أن تتخذ أشد الإجراءات حزماً لتسليح البروليتاريا ورسم خطة الانتفاضة المسلحة وقيادتها المباشرة، وأن نشكل لهذا الغرض فرقاً خاصة من المناضلين الحزبيين، بقدر ما تدعو الحاجة” (4).
مثلت قضية الانتفاضة المسلحة محوراً مركزياً لكل قرارات المؤتمر الثالث، وهكذا نوقشت كل بنود المؤتمر على ضوء هذه القضية وفي ارتباط وثيق بها. وحتى بعد المؤتمر بشهرين، عاد لينين للتشديد على الضرورة الملحة للإعداد للعصيان، وكتب في “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية”:
“لدينا، بلا شك، الكثير لنفعله لتثقيف وتنظيم الطبقة العاملة، لكن لب المسألة الآن هو: أين يتوجب علينا أن نصب تركيزنا السياسي في التثقيف والتنظيم؟ على النقابات والاتحادات الشرعية القائمة؟ أم على الانتفاضة والعمل من أجل خلق جيش ثوري وحكومة ثورية؟ كلاهما يخدم هدف تثقيف وتنظيم الطبقة العاملة. كلاهما، بالتأكيد، ضروري. لكن في الثورة الراهنة، تبلغ المسألة هذا الحد: أي منهما يجب التشديد عليه في العمل لتثقيف وتنظيم الطبقة العاملة، السابق أم اللاحق؟” (5).
بعد وقت قصير، أطلق لينين عبارته الشهيرة “القضايا الكبرى في حياة الشعوب لا تحلها إلا القوة” (6). وفي عنفوان الانتفاضة المسلحة في موسكو، في ديسمبر 1905، توصل لينين إلى أنه بمجرد أن ترتقي الجماهير إلى الثورة وتصبح جاهزة للحركة والفعل المباشر، ينبغي على الحزب أن يدعو للعصيان وأن يشرح للجماهير الخطوات العملية الضرورية للانتصار.
“إن شعار الانتفاضة إنما هو شعار تقرير المسألة بالقوة المادية.. هذا الشعار ينبغي ألا يُطرح حتى تنضج الشروط المسبقة للثورة، حتى يتضح للجماهير تماماً أنها قد نهضت وأنها قادرة على الفعل، حتى تؤدي الظروف الخارجية إلى أزمة مفتوحة. لكن بمجرد لإقرار الشعار.. بمجرد أن يسبق السيف العذل، بمجرد اتخاذ التدابير اللازمة، ينبغي أن نوضح، مباشرةً وبشكل مفتوح، أمام الجماهير، الشروط الضرورية للثورة الناجحة في الوقت الحالي” (7).
الانتفاضة فن (3*)
مرة بعد أخرى، بالأخص بعد النضال المسلح الذي خاضه العمال في موسكو 1905، كان لينين يعود إلى التوصيف المبهر الذي أطلقه ماركس وإنجلز على الانتفاضة كفن، وأن القاعدة الأساسية لهذا الفن هي شن الهجوم الجريء والحاسم الذي لا رجعة فيه ولا راد له. وخلال ذلك كان لينين يؤكد دوماً على أهمية المعرفة بالشئون العسكرية بشكل عام والتنظيم العسكري بشكل خاص، وكان يقصد بذلك أن العمال الثوريين يجب أن يتعلموا من التقنيات الرأسمالية، وبالتأكيد من خبرتهم في النضال أيضاً.
وفي مقالة بعنوان “دروس انتفاضة موسكو”، في أغسطس 1906، كتب لينين:
“هناك تطورات هائلة في مجال التقنية العسكرية. أنتجت الحرب اليابانية القنابل اليدوية، وصارت مصانع السلاح الصغيرة تنتج البنادق الآلية. وكلٌ من هذين السلاحين استخدما بالفعل في الثورة الروسية، لكن بدرجة غير كافية. يتحتم علينا أن نستخدم التطورات التقنية، وبمقدورنا أن نفعل ذلك، علينا أن نعلّم سرايا العمال المسلحة كيفية استخدام القنابل بكميات كبيرة، أن نساعدهم، وعلى الفرق القتالية الخاصة بنا أن تحظى بإمدادات من المتفجرات ومن البنادق الآلية” (8).
واستطرد لينين:
“تعتمد التاكتيكات العسكرية بشكل كبير على مستوى تطور التقنية العسكرية. هذه الحقيقة الواضحة شرحها إنجلز لكل الماركسيين. إلا أن التقنية العسكرية اليوم ليست كما كانت في منتصف القرن التاسع عشر، ومن الحماقة أن نتصدى لهجوم المدفعية مدافعين عن المتاريس بالمسدسات. وفي ذلك كان كاوتسكي على حق عندما كتب أنه من الضروري اليوم مراجعة الاستنتاجات التي توصل إليها إنجلز، وأن موسكو قد دشنت نوعاً جديداً من تاكتيكات القتال على المتاريس: تاكتيك حرب العصابات. والمنظمة الضرورية لتطبيق ذلك التاكتيك لابد أن تتكون من وحدات سريعة الحركة وصغيرة للغاية، وحدات من عشرة أفراد، أو ربما ثلاثة أو اثنين فقط. لكننا غالباً ما نقابل اليوم اشتراكيين ديمقراطيين يهزأون ويسخرون كل السخرية كلما تحدثنا عن وحدات الخمسة أو الثلاثة أفراد. لكن السخرية هنا لا تعدو سوى أن تكون طريقة رخيصة للتهرب من التساؤلات الجديدة حول التاكتيك والتنظيم، تلك التساؤلات التي طرحتها حرب الشوارع بقوة في ظل ظروف فرضتها التقنية العسكرية الحديثة فرضاً. عليكم أيها السادة أن تدرسوا أولاً، وبعناية، قصة انتفاضة موسكو، عندئذٍ ستفهمون أي صلة تربط بين “وحدات الخمسة” و”تاكتيكات المتاريس الجديدة”.
لقد أفرزت موسكو هذه التاكتيكات، لكنها فشلت في تطويرها بما فيه الكفاية، في تطبيقها على مستوى جماهيري. كانت هنالك فرق قتالية من المتطوعين، لكن قليلة جداً، كما أن شعار “الهجوم الجريء” لم يُطرح على جماهير العمال، ولم ينفذوه. علاوة على أن العصابات المسلحة لم يكن لديها ما يكفي من السلاح والتدريب العسكري، فيما لم تتطور قدرتهم على قيادة الحشود الجماهيرية. علينا أن نضع في حسباننا كل ذلك بدراسة خبرة وتجربة موسكو، وبنشر وتعميم هذه الخبرة بين الجماهير، وبتحفيز مجهوداتهم الخلاقة للتطور أكثر فأكثر” (9).
أدرك لينين بعمق أن الثورة لا يمكن أن تنتصر إن لم ينحاز، على الأقل، قطاع كبير من الجيش إلى جانب الثوار، وقد أصبح ذلك الاستنتاج أكثر وضوحاً في ثورة 1917. لكن من أجل إنجاز ذلك، يجب أن يقتنع الجنود بأن العمال على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيل أن يظفروا بالنصر (4*).
“بالطبع، إذا لم تكتسب الثورة طابعاً جماهيرياً يؤثر على قوات الجيش، لن يكون هناك أي معنى للنضال الجاد من أجل الانتصار. وهكذا ينبغي علينا دون شك أن نعمل بين الجنود. لكن من الوهم أن نظن أنهم يمكن أن ينحازوا لجانبنا هكذا في ضربة واحدة نتيجة لتصديقهم لنا أو لقناعاتهم الخاصة. فلقد أظهرت انتفاضة موسكو نمطية وجمود هذه الرؤية. وفي الحقيقة، فإن تردد وتذبذب قوات الجيش، الأمر الذي يُعتبر حتمياً في كل ثورة شعبية حقيقية، يقودنا إلى النضال من أجل كسب هذه القوات كلما احتد النضال الثوري. وإذا تغافلنا في وقت الانتفاض عن ضرورة النضال المباشر لكسب قوات الجيش إلى جانبنا، سنصير مجرد مجموعة من المتحذلقين التافهين البؤساء.
في أيام ديسمبر، قدامت لنا بروليتاريا موسكو أروع الدروس في كسب الجنود إلى الثورة. على سبيل المثال في 8 ديسمبر بميدان ستراستنايا، عندما حاصرت الحشود القوزاق، عندما امتزجت بهم وتآخت معهم، أقتنعوا على الفور بالتراجع والانسحاب. وفي 10 ديسمبر، في مقاطعة بريسنيا، عندما هرعت عاملتان تحملن الرايات الحمر، على رأس حشد من 10 آلاف متظاهر، لمقابلة القوزاق، تصرخن “اقتلونا، لن نستسلم، رايتنا حية”، ارتبك القوزاق وعدوا بخيولهم بعيداً وسط هتافات الحشد “مرحى أيها القوزاق”. هذين المثالين للشجاعة والبطولة ينبغي أن يعلقا دائماً في أذهان البروليتاريا” (10).
بشكل مميز، لم يكن لينين يقيّد نفسه بوضع الشعارات العامة بقدر دراسة التطورات العملية الملموسة. كان دائماً يتأكد من أن ما يُسمى بـ “الفرق القتالية” ليس حبراً على ورق أو أنها مجموعات بيروقراطية غارقة في الروتين، بل تجسيد ملموس في الواقع الحي. وبعد الأحد الدامي مباشرةً، ترجم لينين إلى الروسية كراس بعنوان “حول حرب الشوارع: نصائح جنرال من الكوميونة”، والذي كتبه الجنرال جوستاف بول كلوسيريت (11). وبالرغم من أن الجنرال كلوسيريت قد شارك في قمع ثورة عمال باريس في يونيو 1848، وخدم أيضاً لدى جاريبالدي في إيطاليا، وشارك كذلك مع قوات الشمال في الحرب الأهلية الأمريكية (حيث أصبح جنرالاً)، إلا أنه في النهاية انضم لثوار باريس وأصبح قائداً عسكرياً للكوميونة في 1871. عمد لينين أيضاً إلى دراسة كل ما استطاع أن يجده في العلوم العسكرية، فيما كان كاتبه المفضل هو كارل فون كلاوزفيتز صاحب كتاب “حول الحرب”. كما أعاد قراءة كل ما كتبه ماركس وإنجلز في الشئون العسكرية والعصيان المسلح. كان لينين باختصار الثوري الوحيد في المهجر الذي تفاعل بهذه الطريقة مع أحداث الأحد الدامي.
نشر لينين استنتاجاته ودراساته بين رفاقه، وبعد استلام تقرير من الهيئة القتالية للجنة بطرسبورج حول تنظيم الانتفاضة، جاء فيه مخططاً تنظيمياً لها، كتب لينين في 16 أكتوبر 1905 محذراً بشدة من تلفيق مخططات على الورق في انعزال عن التطورات الملموسة:
“استناداً إلى ما لديّ من وثائق، يمكنني القول بأن الأمر كله مهدداً بأن يفسد متحولاً إلى روتين مكتبي رتيب. كل مخططات وخطط التنظيم للهيئة القتالية تعطي انطباعاً بـ “الخطوط الحمراء”. اعذروني على صراحتي، وأرجو ألا تفهموا كلامي وكأني أتصيّد الأخطاء. إن كل تلك المخططات والمناقشات والجدالات حول وظائف هيئة القتال وحقوقها، كلها ذات أهمية أدنى في أمر كهذا”.
والضروري قبل أي شيء هو الحركة:
“ما نحتاجه الآن هو طاقة الغضب، والمزيد من الطاقة أيضاً. إنني أشعر بالذعر، ولأكن صريحاً في ذلك، عند سماع أحاديث كثيرة عن صنع القنابل، لمدة تزيد عن ستة أشهر، ولم تُصنّع أي قنابل، ولا واحدة. هذا هو المتعارف عليه دوماً ممن لا يحسنون سوى الكلام”.
أوصى لينين الهيئة بالاستناد إلى الشباب:
“اذهبوا إلى الشباب، أيها السادة، فهذا هو العلاج الوحيد. وإلا، ولأكن صريحاً هنا في كلامي، سوف تتأخرون كثيراً (وكل شيء يخبرني بذلك)، ولن يتبقى لديكم سوى المذكرات والخطط والمخططات والوصفات “الرائعة”، دون منظمة، دون قضية حية. اذهبوا إلى الشباب” (12).
لم تكن من عادة لينين أن يتحدث هكذا دون شرح خطوات عملية ملموسة، وهكذا استطرد:
“شكلوا فرق القتال على الفور، وفي كل مكان، بين الطلاب، وبالأخص بين العمال، إلخ. دعوا كل من تلك الفرق تتشكل من ثلاثة، أو عشرة، أو ثلاثين فرداً، إلخ. دعوهم يتسلحون على الفور بقدر الإمكان.. بالسكاكين، أو بالمسدسات، أو بالأقمشة المشبعة بالكيروسين لإضرام النيران، إلخ. فلتختار تلك السرايا قادتها، وبقدر ما هو ممكن أن تبقى على تواصل مع هيئة القتال للجنة بطرسبورج. لا تطالبوا بأي رسميات، وأستحلفكم بالإله أن تتجاهلوا كل تلك المخططات، وأن ترسلوا كل “الوظائف والحقوق والصلاحيات” إلى الجحيم.. لا ترفضوا الاتصال بأي مجموعة، حتى إن تكونت فقط من ثلاثة أفراد.. دعوا تلك المجموعات تنضم لحزبنا أو أن تربط نفسها به، إذا أرادت ذلك، سيكون ذلك ممتازاً. لكني أعتبر من الخطأ الإصرار على ذلك”.
بالنسبة للينين، كان يجب أن يتمثل دور الهيئة القتالية للجنة بطرسبورج في مساندة وحدات الجيش الثوري كـ “مكتب” للتواصل والتنسيق فيما بينها، وإذا بدأ الأمر أولاً بوضع خطط على الورق والتحدث عن “حقوق” الهيئة القتالية، فسوف يؤدي ذلك إلى إفساد الأمر برمته، وبشكل لا يمكن إصلاحه فيما بعد.
“علينا أن نطلق عملية دعاية واسعة النطاق، أن ندع خمسة أو عشرة أفراد يشكلون حلقات دراسية من مئات العمال والطلاب في غضون أسبوع، أن يقدموا لهم خطة واضحة ومختصرة ومباشرة: نظموا المجموعات القتالية على الفور، سلحوا أنفسكم تسليحاً قوياً قدر الإمكان، ابذلوا كل جهدكم في ذلك. سنساعدكم بكل ما نستطيع، لكن لا تنتظروا مساعدتنا دائماً واشرعوا في العمل بأنفسكم وفوراً.
إن النقطة الأساسية في الأمر كله هي المبادرات التي تضطلع بها المجموعات الصغيرة، والتي بدونها ستغدو هيئتكم القتالية هباءاً. ومن ناحيتي، فإني أقيّم عمل الهيئة بعدد مجموعات القتال الملتفة حولها والتي تبقى على صلة بها. وإذا لم يكن لدى الهيئة، في غضون شهر أو شهرين، 200 أو 300 مجموعة في سان بطرسبورج، فهذه الهيئة هي هيئة ميتة مقدر لها أن ندفنها. إذا لم تنجح في حشد مائة أو اثنان من مجموعات القتال في وقت الغليان الذي نعيشه اليوم، فستصبح بالتأكيد بعيدة كل البعد عن الحقل العملي للصراع.
ينبغي على الدعاويين أن يمدون كل مجموعة بوصفات بسيطة ومختصرة لصنع القنابل، أعطوهم شروحات أولية ودعوهم يعملون. وعلى فرق القتال كذلك أن تتدرب عسكرياً عبر شن الهجمات نفسها. بعض الفرق يمكن أن تقتل جاسوساً، أو أن تنفجر قسماً للشرطة، فرق أخرى يمكنها مداهمة مصرفاً لمصادرة أمواله لتمويل الانتفاضة، وفرق أخرى يمكنها تجهيز خططاً محلية، لكن الأمر الجوهري هنا هو أن نبدأ فوراً في التعلم من الممارسة الفعلية، وألا نهاب المحاولة والتجربة. هناك خطر أمامنا يكمن في الانحراف أو التطرف، لكن أكثر الأخطار شراً وضرراً بالنسبة لنا هو الخمول والجمود، هو الروح المتكلسة، وتخاريف الخوف من المبادرات.. إن خبرة التجربة سوف تصقل مئات المقاتلين اليوم ليصيروا قادة لمئات الآلاف من رفاقهم غداً” (13).
لكن، على الرغم من تماسك الطرح الذي قدمه لينين فيما يتعلق بالانتفاضة المسلحة، إلا أن نصائحه التقنية لم تكن متجانسة مع الضرورات الفعلية التي فرضتها الظروف في ذلك الوقت. لقد افترض لينين وليونيد كراسين (القيادي البلشفي الذي تزعم مجموعات القتال والذي تلخصت مهمته في توفير السلاح والتجهيز الفعلي للانتفاضة) أن قتال الشوارع سوف يتخذ شكل المعارك الضيقة في مساحات محدودة، وهكذا كانا يشددان على استخدام القنابل اليدوية والمسدسات. لكن عندما شنت موسكو انتفاضتها المسلحة في ديسمبر 1905، لم تستطع بالطبع تلك الأسلحة أن تتصدى للبنادق طويلة المدى ومدفعية قوات الجيش القيصري.
وفي انتفاضة أكتوبر 1917، مرة أخرى لم يكن طرح لينين على صواب من الناحية التاكتيكية. فعلى سبيل المثال، رأى لينين أن تبدأ الانتفاضة من موسكو وليس من بتروجراد، ذلك الرأي الذي، ولحسن الحظ، كشف عن عواره تروتسكي الذي قام بدور المنظم الفعلي لانتفاضة أكتوبر (5*). صحيح أن القائد العسكري يستطيع أن يكشف بوضوح، من فوق القمة، خريطة القتال، لكنه يمكن بسهولة أن يخطئ في تقييم ما يجري فعلياً في ميدان المعركة.
توقيت الانتفاضة
في فبراير 1905، جادل لينين بأن على القيادة الثورية أن تكون قادرة على تحديد وقت شن الانتفاضة المسلحة:
“إذا كان حقاً بمقدورنا تجهيز الانتفاضة، وإذا كانت الانتفاضة الشعبية قابلة للتحقيق بتأثير الثورات على العلاقات الاجتماعية القائمة، إذن يصبح من الممكن تحديد وقت الانتفاضة نفسها.. هل يمكن توقيت حركة الطبقة العاملة؟ لا، لا يمكن على الإطلاق، فهي تنشأ من آلاف التحركات المنفصلة التي تفرزها ثورة في العلاقات الاجتماعية. هل يمكن توقيت الإضراب؟ نعم، بالطبع يمكن، على الرغم من أن الإضراب نفسه هو نتاج ثورة في العلاقات الاجتماعية. متى يمكن تحديد وقت الإضراب؟ فقط عندما تكون المنظمة أو المجموعة الداعية له، لديها التأثير الكافي بين جماهير العمال، وبالتالي قادرة على تقييم اللحظة التي يبلغ فيها الحنق والاستياء لدى العمال حداً هائلاً” (14).
وإذا كان الإضراب يحتاج قيادة حازمة ترسم خطواته وتوقيتاتها، فإن الحاجة إلى مثل هذه القيادة تتضاعف مرات عديدة في حالة الانتفاضة المسلحة. الحزب الثوري الجاد والمنضبط هو فقط من يستطيع قيادة انتفاضة حقيقية للجماهير، إذ أن الجماهير تعرف جيداً كيف تميز بين القيادة الحازمة والقيادة المتذبذبة.
إن قضية توقيت الانتفاضة، والتي كانت على درجة فائقة من الأهمية في فبراير 1905، صارت أكثر مركزية بما لا يُقاس في 1917. وخلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1917، توصل لينين مع القادة البلاشفة إلى تحديد اليوم الذي يدعون فيه صراحةً إلى الانتفاضة المسلحة. وكما وصف لينين فإن “انتصار كل من الثورة الروسية والثورة العالمية يتوقف على يومين أو ثلاثة من القتال” (15).
اتساع أفق لينين
استندت استنتاجات لينين فيما يتعلق بطبيعة الانتفاضة المسلحة على الخبرة المحدودة لانتفاضة موسكو في ديسمبر 1905، تلك الانتفاضة التي شاركت بها أعداد قليلة من العمال، والتي انتهت بعد فترة وجيزة للغاية. كتب أحد قادة الانتفاضة في مذكراته: “ربما وصل عدد المقاتلين إلى عدة مئات، فيما تسلح أغلبهم بالمسدسات وحمل بعضهم بنادق الماوزر والوينتشيستر، تلك الأسلحة الفعالة بما فيه الكفاية في قتال الشوارع”. بينما علّق قيادي آخر بالانتفاضة قائلاً:
“إذا سألتني عن عدد المقاتلين الذين كانوا في موسكو، سأخبرك بأنه كان، بحسب تقديري، يتراوح بين 700 إلى 800 تقريباً في تلك الفرق المتسلحة بالمسدسات. في منطقة السكة الحديدية لم يكن هناك أكثر من 100 مقاتل، وفي بريسنيا وخاموفنيكي وبوتيركي، كان العدد 180 أو 200 مقاتل، باستثناء فرقة الشميدت. كان أولئك المقاتلين متسلحين بالمسدسات العادية والمسدسات قصيرة العنق التي انتزعوها من الشرطة، وكذلك بالبنادق المزدوجة التي منحها لهم الأهالي” (16).
فيما قدّر مقاتل آخر في الانتفاضة عدد رفاقه بعدة آلاف:
“إذا وضعنا في الحساب كا من شارك في الحركة، بما يشمل أفراد الكشافة، وخبراء المتفجرات، ورجال الإسعاف (كانت مهمة الإسعاف واحدة من أكثر المهام خطورة في تلك الأيام، حيث كانت قوات دوباسوف تطارد كل من يساعد الجرحى)، سنجد العدد يقترب من الثمانية آلاف، وذلك كما ذكر لينين في خطابه بمناسبة الذكرى الاثنى عشر لثورتنا الأولى” (18).
بنى المقاتلون متاريسهم الأولى في 9 ديسمبر، فيما تحطمت المقاومة العمالية في بريسنيا بعد ذلك بثمانية أيام على يد كتيبة سيميونوفسكي. وانطلاقاً من تلك الهزيمة، رسم لينين سلسلة متجانسة من الاستنتاجات التي اختلفت جذرياً مع ما توصل إليه بليخانوف على أقصى اليمين من المناشفة:
“الإضراب السياسي بدأ في غير أوانه مؤدياً إلى انتفاضة مسلحة في موسكو وروستوف ومناطق أخرى. لم تكن البروليتاريا قد وصلت بعد إلى قوة كافية تمكنها من الانتصار، ولم يكن من الصعب التنبؤ بذلك. وهكذا كان من الخطأ أن يُحمل السلاح. إن المهمة العملية للعناصر الواعية طبقياً في الطبقة العاملة أن تشير للبروليتاريا إلى أخطائها، أن تشرح خطورة هذه اللعبة المسماة بالانتفاضة المسلحة.. علينا أن نقدّر دعم أحزاب المعارضة الغير بروليتارية، علينا ألا نلفظهم بالأفعال المتهورة” (19).
لكن على العكس تماماً من ذلك التهاون وتلك السلبية اللذين عجت بهما كلمات بليخانوف، اتجه لينين إلى التأكيد على ضرورة أن تنقد القيادة ذاتها:
“لامست البروليتاريا، أسرع من قادتها، تغير الظروف المادية في الصراع، والحاجة للانتقال من الإضراب إلى الانتفاضة.. أصبح الإضراب السلمي والمظاهرات لا يرضون العمال؛ فقد صاروا يتسائلون: ما العمل بعد ذلك؟ وقد طالبوا بخطوات أكثر حزماً. وصلت التعليمات ببناء المتاريس في المقاطعات متأخراً، حينها كانت المتاريس قائمة بالفعل في وسط المدينة. كان العمال يتجمعون بأعداد كبيرة، لكن ذلك أيضاً لم يكن ليرضيهم؛ فقد كانوا يريدون أن يعرفوا: ما الذي يتوجب فعله بعد ذلك؟ وقد طالبوا بتدابير أكثر فعالية. في ديسمبر، نحن – قادة البروليتاريا الاشتراكية الديمقراطية – كنا كقادة جيش نشروا قواتهم في كل مكان دون أن يكون لأغلبها دوراً فعلياً في المعركة. استمرت جماهير العمال في المناشدة دون أن تتلقى تعليمات بفعل جماهيري حاسم.
ليس هناك ما هو أضيق أفقاً من وجهة نظر بليخانوف التي تفوق بها على كافة الانتهازيين؛ حيث رأى أن الإضراب لم يكن محدد التوقيت وما كان له أن يبدأ أصلاً، ولم يتوجب على العمال حمل السلاح. على العكس تماماً، كان علينا أن نشرح للجماهير أنه من المستحيل أن يقتصر النضال على الإضراب السلمي، وأن النضال المسلح الذي لا خوف ولا هوادة فيه كان ضرورياً” (20).
الاستنتاج
تمايزت البلشفية جذرياً عن المنشفية بموقفها العملي الحاسم من مسألة الانتفاضة المسلحة. وقد ظهرت العلامات الأولى لهذا التمايز مبكراً للغاية؛ ففي مارس 1904، في سجاله ضد جريدة “فبريود” البلشفية، كتب مارتوف أن الاشتراكية الديمقراطية يمكنها الإعداد للانتفاضة فقط من زاوية تجهيز قواها جيداً للانتفاضة الجماهيرية. والجانب التقني من هذا الإعداد، برغم أهميته، يجب أن يخضع للجانب السياسي منه، وهذا الإعداد السياسي لحزبنا ولكل البروليتاريا الواعية من أجل الانتفاضة الكلية القادمة، يجب أن يكون مُتضمناً في تعميق وتوسيع رقعة التحريض، وفي توطيد وتطوير منظمة كل العناصر الثورية من البروليتاريا (21). أما رد لينين على مارتوف، فقد جاء بأن “فصل الجانب التقني من الانتفاضة عن الجانب السياسي، لهو هراء محض” (22).
وفي 1907، في المؤتمر الخامس للحزب في لندن، شرح مارتوف بشكل أكثر وضوحاً وجهة نظره السلبية فيما يتعلق بدور الحزب في الانتفاضة المسلحة: “ربما يقوم الحزب الاشتراكي الديمقراطي بدور في الانتفاضة المسلحة، ربما يدعو الجماهير للنهوض.. لكن لا يمكنه تجهيز انتفاضة إذا أراد أن يبقى أميناً لبرنامجه بألا يصبح حزباً لمجموعة من المتمردين” (23).
رد لينين بازدراء شديد على ما ألقاه مارتوف. وفي مقالته الأولى بعدما وصلته أنباء الأحد الدامي، كتب لينين: “إن تسليح الجماهير لهو مهمة فورية”. وليس هناك من شك بأن مسألة الانتفاضة المسلحة تعتمد بشكل كبير على دور الثوريين: هل يسعون لحوذ السلطة بين أيديهم كحزب يمثل طليعة الطبقة العاملة، أم لا؟ وكما أوضح لينين الأمر، فإنه “لا يمكننا القتال إن لم نكن نتوقع الوصول للهدف الذي نقاتل من أجله” (24).
إنه لمن المستحيل أن يشن الثوريون الحرب ويتجاهلون في الوقت نفسه فرص الانتصار. لقد آمن المناشفة بأن الثورة الروسية سوف تجلب الليبرالية البرجوازية إلى السلطة، ومن هذا المنطلق أفرزوا موقفهم السلبي والمتخاذل تجاه قضية الانتفاضة. فيما كان البلاشفة، على العكس من اللا مبالاة المنشفية، يهدفون للاستيلاء على السلطة، وهكذا كان تصورهم العملي لفن الانتفاضة صلباً وحاسماً.
مثلت فيما بعد ثورة أكتوبر 1917 المسرح والمحك العملي الحاسم الذي اختبر مفهوم لينين حول العلاقة المتداخلة بين الحركة الجماهيرية والانتفاضة المسلحة المخطط لها من جانب الحزب على رأس الطبقة العاملة. ولضمان التوازن الصحيح بين القيادة السياسية والإعداد التقني للانتفاضة المسلحة، لابد للانتفاضة أن تُعد بحرص محكم وأن تُنفذ بإقدام بالغ؛ فالفترات الثورية قصيرة الأمد، كما أن مزاج الجماهير يتغير بسرعة شديدة خلال الأيام العاصفة للثورة. وهكذا فإن على الحزب الثوري أن يقرر يوماً محدداً ومساراً واضحاً تجري فيه الانتفاضة، إذ تمثل الانتفاضة مسألة حياة أو موت بالنسبة للطبقة العاملة.
إن دقة لينين وبصيرته الثاقبة فيما يتعلق بطبيعة الانتفاضة المسلحة، موضحة في الاقتباس التالي، الذي ربما يلتبس لدى البعض ما إذا كان مكتوباً في 1917 أم في أغسطس 1906:
“دعونا نتذكر أن نضالاً جماهيرياً عظيماً أصبح أمراً وشيكاً. ستندلع انتفاضة مسلحة. يجب أن تكون، بقدر الإمكان، فورية. يجب أن تعلم الجماهير أنها على وشك أن تخوض نضالاً مسلحاً ودموياً ولا هوادة فيه. إن احتقار الموت يجب أن ينتشر بين الجماهير، وذلك الاحتقار سوف يضمن النصر. ينبغي التصدي لمجازر العدو بأعظم ما يكون من الحماسة. “الهجوم وليس الدفاع” ذاك يجب أن يكون شعاراً جماهيرياً. يجب أن تكون منظمة النضال متحركة ومرنة. أما العناصر المتذبذبة في القوات المسلحة، فستجد نفسها مدفوعة إلى المشاركة النشطة. في هذا النضال المستعر، ينبغي على حزب البروليتاريا الواعية أن يؤدي واجبه بكل ما أوتي من مقدرة” (25).
الجدال حول الحكومة الثورية الانتقالية
البلاشفة والمناشفة حول طبيعة حكومة الثورة
رأى المناشفة، الذين طالما تذيلوا البرجوازية الليبرالية، أن الهدف من الثورة هو أن تظفر البرجوازية برئاسة حكومة ثورية تقود المرحلة الجديدة. وفي مؤتمرهم في أبريل – مايو 1905 بجنيف، مرروا قراراً حول حوذ السلطة والاشتراك في الحكومة الانتقالية، والذي أعلن أن الثورة هي ثورة برجوازية ستتولد عنها حكومة انتقالية تلتزم بـ :
“ليس فقط دعم تطور الثورة، لكن أيضاً الكفاح ضد كل العوامل التي تهدد تأسيس النظام الرأسمالي.
ولما كان الأمر كذلك، ينبغي على الاشتراكية الديمقراطية أن تسعى للحفاظ، خلال الثورة، على موقع يمكًنها، بأفضل ما يكون، من دعم الثورة، على ألا يجعلها عاجزة عن مكافحة السياسات الهشة والأنانية للأحزاب البرجوازية، كما يضمن عدم ذوبانها في الديمقراطية البرجوازية. وهكذا يتوجب على الاشتراكية الديمقراطية ألا ترمي لحوذ السلطة أو المشاركة في الحكومة الانتقالية، بل أن تبقى حزباً للمعارضة الثورية القصوى”.
وبناءاً على هذا المنطلق واستنتاجاته، عقد المناشفة مؤتمراً آخر في القوقاز صدّق بأن:
“تشكيل الاشتراكيين الديمقراطيين للحكومة، أو دخولهم فيها، سوف يؤدي، من ناحية أولى، إلى خيبة أمل الجماهير في الاشتراكية الديمقراطية والتخلي عنها، إذ أن الاشتراكيين الديمقراطيين في مثل هذه الحالة، وبالرغم من حوذهم السلطة، لن يتمكنوا من تنفيذ المطالب العاجلة واللحوحة للطبقة العاملة، بما يشمل بناء الاشتراكية.. ومن الناحية الأخرى، سيسبب ذلك نكوص الطبقات البرجوازية عن الثورة وكبح جماحها” (1).
في المقابل، جادل لينين بأنه لا يمكن خوض الثورة دون استهداف الاستيلاء على السلطة، وحتى إنجاز الحد الأدنى من برنامج الاشتراكية الديمقراطية يتطلب في المقام الأول ديكتاتورية ثورية حازمة. وفي كراسه “الاشتراكية الديمقراطية والحكومة الثورية الانتقالية” (مارس – أبريل 1905)، كتب لينين:
“دعونا ننظر إلى كل التحولات الاقتصادية والسياسية التي صيغت في هذا البرنامج: مطلب الجمهورية، وتسليح الشعب، وفصل الكنيسة عن الدولة، والحريات الديمقراطية الكاملة، والإصلاحات الاقتصادية الجذرية. أليس من الواضح أنه لا يمكن تحقيق هذه التحولات في مجتمع برجوازي بدون الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للطبقات الدنيا؟” (2).
طوّر لينين هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك في كتابه “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية” (يونيو – يوليو 1905):
“إن القوة القادرة على إحراز “انتصار حاسم على القيصرية” لا يمكن أن تكون إلا الشعب، أي البروليتاريا والفلاحين.. إن “انتصار الثورة الحاسم على القيصرية” إنما هو ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية”.
ذاك كان هدف الثورة.. استطرد لينين:
“وهذا الانتصار سيكون بكل تدقيق ديكتاتورية، أي أنه ينبغي بالضرورة أن يستند إلى القوة العسكرية، إلى تسليح الجمهور، إلى الانتفاضة، لا إلى هذه أو تلك من المؤسسات المؤلفة “شرعياً” بـ”الطريق السلمي”. ولا يمكن أن يكون هذا الانتصار إلا ديكتاتورية لأن تحقيق التحويلات التي هي ضرورية فوراً وإطلاقاً للبروليتاريا والفلاحين سيثير مقاومة مستميتة من جانب الملاكين العقاريين وكبار البرجوازيين والقيصرية. وبدون ديكتاتورية، لا يمكن تحطيم هذه المقاومة، وصد المحاولات المعادية للثورة” (3).
كما رد على الاستنتاجات التي توصل لها مؤتمر المناشفة في جنيف، قائلاً:
“فكروا إذن: الامتناع عن الدخول في الحكومة المؤقتة لأن هذا الدخول من شأنه أن يجبر البرجوازية على الانصراف عن قضية الثورة ويقلص بالتالي مدى الثورة! ولكن ألسنا أمام كل الفلسفة الإيسكرية الجديدة، بمظهر نقي ومنطقي: بما أن الثورة برجوازية، فيجب علينا أن ننحني أمام الابتذال البرجوازي ونصدّره المقام. وإذا سرنا، ولو جزئياً، ولو لدقيقة، على هدى هذه الفكرة القائلة بأن اشتراكنا قد يحمل البرجوازية على الانصراف، أفلا نتنازل عن الزعامة في الثورة للطبقات البرجوازية؟ إننا بهذا نضع البروليتاريا كلياً تحت وصاية البرجوازية (محتفظين بكامل “حرية النقد”!)، مجبرين البروليتاريا على التزام جانب الاعتدال والوداعة، لكي لا تنصرف البرجوازية” (4).
البلاشفة والمناشفة يتفقان على الطابع البرجوازي للثورة
اختلف البلاشفة والمناشفة حول طبيعة الحكومة التي سوف، ويجب أن، تتمخض عنها الثورة؛ ففيما دعا البلاشفة إلى ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية، وضع المناشفة آمالهم على حكومة برجوازية. لكن النقطة المشتركة بينهما كانت أن اتفقا على أن الثورة القادمة هي ثورة برجوازية تنتج عن الصراع بين قوى الإنتاج الرأسمالي من جهة، والأوتوقراطية وكبار ملاكي الأرض وبقايا الإقطاع من الجهة الأخرى.
وإذا كانت وجهة النظر المنشفية واضحة بما فيه الكفاية، فإن وجهة نظر لينين، والتي ظل متمسكاً بها لعدة سنوات لاحقة، تحتاج المزيد من التوضيح، خاصةً على ضوء انتصار ثورة أكتوبر 1917 الذي تجاوز حدود الثورة البرجوازية. وهكذا كتب لينين حول الثورة الروسية القادمة في “خطتا الاشتراكية الديمقراطية”:
“تستطيع في أفضل الأحوال، توزيع الملكية العقارية توزيعاً جديداً جذرياً في صالح الفلاحين، وتطبيق الديمقراطية التامة والمنسجمة إلى النهاية تطبيقاً يذهب إلى حد إعلان الجمهورية، واقتلاع جميع خصائص الاستبداد الآسيوي حتى أعمق جذورها، لا من الأرياف وحسب، بل من حياة المصانع أيضاً، والبدء بتحسين أوضاع العمال تحسيناً جدياً ورفع مستوى حياتهم، وأخيراً وليس آخراً نقل الحريق الثوري إلى أوروبا. فهذا الانتصار لا يجعل بعد ثورتنا البرجوازية ثورة اشتراكية بأي شكل من الأشكال، فإن الانقلاب الديمقراطي لن يخرج مباشرةً من نطاق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية البرجوازية” (5).
لكن “هذه الثورة الديمقراطية لن تضعف، بل ستوطد سيطرة البرجوازية” (6). وعلى خلفية التأخر الاقتصادي لروسيا وصغر حجم الطبقة العاملة فيها، رفض لينين:
“الفكرة الشبه فوضوية القائلة بتطبيق برنامج الحد الأقصى فوراً، بالاستيلاء على السلطة من أجل الانقلاب الاشتراكي. فإن بدرجة التطور الاقتصادي في روسيا (الشرط الموضوعي) ودرجة الوعي والتنظيم عند الجماهير الغفيرة من البروليتاريا (الشرط الذاتي المرتبط ارتباطاً وثيقاً لا تنفصم عراه بالشرط الموضوعي) تجعلان من المستحيل تحرير الطبقة العاملة فوراً وكلياً. وليس غير أجهل الناس من يستطيعون أن يتجاهلوا الطابع البرجوازي للانقلاب الديمقراطي القائم.. إن من يريد السير إلى الاشتراكي بطريق آخر، خارج الديمقراطية السياسية، يصل حتماً إلى استنتاجات خرقاء ورجعية، سواء بمعناها الاقتصادي أم بمعناها السياسي” (7).
وأضاف: “نحن الماركسيون ينبغي أن ندرك أن ليس هنالك، ولا يمكن أن يكون، طريقاً لحرية البروليتاريا والفلاحين غير طريق الحرية البرجوازي والتقدم البرجوازي” (8).
وفي نفس الكتاب، أوضح لينين أن برنامج الثورة يجب أن يكون محدوداً بالإصلاح داخل إطار الرأسمالية:
“برنامج مطابق للظروف الموضوعية في المرحلة التاريخية التي نمر بها ولمهمات الديمقراطية البروليتارية. وهذا قوام برنامج الحد الأدنى لحزبنا، برنامج التحويلات السياسية والاقتصادية المباشرة، القابلة للتحقيق تماماً وكمالاً في ميدان العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الحالية” (9).
لم يغير لينين رأيه حتى اندلاع ثورة فبراير 1917. على سبيل المثال، في كراس “الحرب والاشتراكية الديمقراطية الروسية” (سبتمبر 1914)، كان لينين مازال يكتب عن ضرورة أن تظل الثورة في حدود “الشروط الثلاثة الأساسية للإصلاح الديمقراطي المتماسك، أي الجمهورية الديمقراطية (مع تحقيق المساواة الكاملة وتقرير المصير لكل الأمم)، ومصادرة الملكية الكبيرة للأرض، وتحديد يوم العمل بثماني ساعات” (10).
ومن الواضح في كافة كتابات لينين حتى العام 1917 توقعه بأن هناك حقبة زمنية كاملة تفصل بين الثورة البرجوازية القادمة والثورة البروليتارية الاشتراكية، وتناوله للمسألة الزراعية، كما سنرى في الفصل الحادي عشر، تشرح هذه النقطة. كما أصر لينين على أن مصادرة الأراضي ليس مطلباً اشتراكياً، بل رأسمالياً، إلا أنه يمهد الطريق للتطور الرأسمالي الذي بدوره سوف يضاعف حجم الطبقة العاملة سريعاً ومن ثم يزيد حدة الصراع الطبقي. يمكننا تشبيه ذلك التصور بالطراز الأمريكي لتطور الرأسمالية الذي جرى متحرراً من قيود الإقطاع، بل على أنقاضه أيضاً. إن محو الملكية الخاصة للأرض هو أقصى ما يمكن فعله في المجتمع البرجوازي لإزالة كافة العقبات أمام الاستثمار الحر لرأس المال وتدفقه بين فروع الإنتاج المختلفة. “مصادر الأرض تمزق كل حواجز الملكية الإقطاعية لأقصى حد، لتمهيد الطريق للنظام الجديد في الاقتصاد الذي يناسب متطلبات الرأسمالية” (11).
وبالطبع، إن كان لينين قد توقع أن الثورة البرجوازية سوف تتطور في روسيا إلى ثورة اشتراكية من دون مرحلة تاريخية فاصلة، لما كان هناك ما يدعوه للتشديد على مثل هذه المجادلات بخصوص مصادرة الأرض وغيرها.
تروتسكي
مثل لينين، كان تروتسكي مقتنعاً بأن البرجوازية الليبرالية لا يمكنها أن تنجز أي من مهام الثورة، وبالإضافة إلى ذلك، أن الثورة الزراعية، والتي هي عنصر أساسي في الثورة البرجوازية، لا يمكن إنجازها هي الأخرى إلا من خلال التحالف بين العمال والفلاحين. “تمثل القضية الزراعية عبئاً ثقيلاً بالنسبة للرأسمالية، إنها نجدة الحزب الثوري وفي نفس الوقت التحدي الأكبر أمامه، هي حجر العثرة أمام الليبرالية، وتذكار موت الثورة المضادة” (12). إلا أن تروتسكي قد تميز بشكل أساسي عن لينين في رؤيته لطبيعة الثورة القادمة في روسيا.
في كل الثورات منذ الثورة الألمانية، أيد الفلاحون هذا القسم أو ذاك من البرجوازية، لكن في روسيا، فإن قوة البروليتاريا من ناحية ومحافظة وجبن البرجوازية من الناحية الأخرى، سوف يجبران الفلاحين على تأييد البروليتاريا الثورية، هكذا ارتأى تروتسكي. إلا أنه، في وقت الثورة ضد القيصرية وكبار ملاك الأرض، يصبح التحالف بين البروليتاريا والفلاحين زائفاً، فالحكومة المنبثقة عن الثورة لن تتشكل عبر تحالف قوتين مستقلتين تمام الاستقلال، بل تحت قيادة قوة واحدة – البروليتاري. وبالتالي، كما أكد تروتسكي بما لا يدع مجالاً للشك، لن تتوقف الثورة – بزعامة البروليتاريا – عند المهمات الديمقراطية البرجوازية، بل ستواصل طريقها على الفور لتنفيذ الإجراءات الاشتراكية البروليتارية.
“إن البروليتاريا تنمو وتتضاعف قوتها بنمو الرأسمالية. بهذا المعنى يكون تطور الرأسمالية هو تطور البروليتاريا في اتجاه تحقيق دكتاتوريتها. على أن توقيت انتقال الحكم إلى أيدي الطبقة العاملة لا يعتمد بشكل مباشر على المستوى الذي بلغته قوى الإنتاج، وإنما على العلاقات في الصراع الطبقي وعلى الوضع العالمي، وأخيراً على عدد من العوامل الذاتية كتقاليد الطبقة العاملة ومبادرتها واستعدادها للنضال.. إن التصور أن قيام ديكتاتورية البروليتاريا يعتمد بطريقة ما على تطور البلد التقني، وعلى موارده، إنما هو زعم من مزاعم المادية “الاقتصادية” التافهة. إن وجهة النظر هذه لا تمت للماركسية بأي صلة.
إن الثورة الروسية سوف تخلق، برأينا، الظروف التي تمهد لانتقال السلطة إلى العمال، وفي حال انتصار الثورة عليها أن تمهد لهذا الانتقال، قبل أن يتسنى للسياسيين البرجوازيين الليبراليين أن يعرضوا كل براعتهم في تسيير الحكم (13).
في حال انتصار الثورة الحاسم، تنتقل السلطة إلى أيدي الطبقات التي لعبت الدور القيادي في النضال، وبكلمات أخرى: إلى أيدي البروليتاريا (14).
إن البروليتاريا في الحكم ستقف أمام الفلاحين بوصفها الطبقة التي حررتهم (15).
ولكن، أليس من المحتمل أن يزيح الفلاحون البروليتاريا ويحتلوا مكانها؟ إن هذا أمر مستحيل. فكل التجربة التاريخية تدحض هذا الافتراض. إن التجربة التاريخية تبيّن أن الفلاحين عاجزين تماما عن القيام بدور سياسي مستقل. إن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ تبعية الريف للمدينة (16).
إن سيطرة البروليتاريا السياسية تسير في خط عكسي مع عبوديتها الاقتصادية. ومهما تكن الشعارات التي جاءت باسمها البروليتاريا إلى الحكم فإنها مجبرة على السير في طريق السياسة الاشتراكية. إنه لمن الطوباوية المفرطة أن نعتقد أنه بإمكان البروليتاريا، التي يدفعها التركيب الداخلي للثورة البرجوازية إلى استلام السلطة السياسية، أن تحصر رسالتها في خلق الظروف الديموقراطية والجمهورية لسيطرة البرجوازية اجتماعياً.. إن الحاجز الذي يفصل بين برنامج “الحد الأدنى” وبرنامج “الحد الأقصى” ينهار حالا عند مجيء البروليتاريا إلى الحكم” (17).
لكن هناك بعداً آخر لا يقل أهمية أرساه تروتسكي في نظريته “الثورة الدائمة”، وهو السمة الأممية للثورة الروسية القادمة. آمن تروتسكي أن الثورة ستبدأ ضمن الإطار القومي لروسيا، لكنها لا يمكن أن تحقق انتصارها النهائي دون أن تمتد إلى البلدان الأكثر تقدماً:
“ولكن إلى أي مدى تستطيع الطبقة العاملة أن تنفذ سياستها الاشتراكية في ظروف روسيا الاقتصادية؟ شي واحد أكيد هو أنها سوف تصطدم بعراقيل سياسية قبل أن تصطدم بالعراقيل التي يضعها في طريقها تخلف البلد التقني. بدون مساعدة حكومية مباشرة تقدمها لها البروليتاريا الأوروبية لن تتمكن الطبقة العاملة في روسيا من البقاء في الحكم وتحويل سيطرتها الآنية إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة. هذا أمر لا شك فيه. ومن جهة أخرى، ليس هنالك أدنى شك في أن الثورة الاشتراكية في الغرب سوف تمكننا من تحويل سيطرة الطبقة العاملة الآنية حالاً إلى دكتاتورية اشتراكية” (18) (1*).
ليس هناك من شك أن العام 1917 قد أثبت صحة وجهة نظر تروتسكي فيما يخص مستقبل الثورة الروسية، ليس فقط مقارنةً بالمناشفة، بل أيضاً مقارنةً بوجهة نظر لينين طوال سنوات 1905 إلى 1916 فيما يخص ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية. وبالرغم من وجهة نظره الثاقبة لتطورات المستقبل، إلا أن تروتسكي قد أساء تقدير جوانب تطور البلشفية عن نظريتها المنشفية. فإذا تناولنا الأمر بشكل مجرد، سنجد أن البلاشفة، الذين آمنوا بالطابع البرجوازي للثورة الروسية، لم يكونوا أقل خطئاً من المناشفة. ومن وجهة نظر تروتسكي، فكلاهما كان يمثل عقبة في تطور المسار الثوري. وهكذا في 1909، في مقالة بعنوان “اختلافاتنا” نُشرت في المجلة الماركسية البولندية التي حررتها روزا لكسمبورج، كتب تروتسكي:
“بينما ينطلق المناشفة من المفهوم المجرد القائل بأن “ثورتنا إنما هي ثورة برجوازية”، فإنهم يستقرون بذلك إلى فكرة أن على البروليتاريا تكييف كل تاكتيكاتها تبعاً لسلوك البرجوازية الليبرالية بغية توكيد انتقال سلطة الدولة إلى البرجوازية. أما البلاشفة فهم أيضاً ينطلقون من مفهوم مجرد – “الديكتاتورية الديمقراطية وليس الديكتاتورية الاشتراكية” – ويستقرون إلى أن على البروليتاريا بحوذها للسلطة أن تلتزم حدود الديمقراطية البرجوازية نفسها. صحيح أن الفارق بينهما في هذا الأمر معتبراً، لكن الجوانب المعادية للثورة لدى المنشفية أضحت واضحة تمام الوضوح، أما هذه الجوانب لدى البلاشفة فسوف تمثل تهديداً خطيراً فقط في لحظة الانتصار” (20).
لكن تروتسكي يسيء هنا تقدير لينين، والذي كان منظوره للثورة في 1905 يتضمن، ليس فقط حصر الثورة القادمة في إطار المهمات البرجوازية الديمقراطية، لكن أيضاً الاستقلال التام لحركة الطبقة العاملة في القلب من دينامية الثورة. وهكذا عندما أتى الاختبار الحاسم في 1917، تجاوزت البلشفية، بعد جولات من النضال داخل الحزب، القشرة الهشة التي ترسم حدود البرجوازية الديمقراطية. وجد لينين أن جيشاً ثورياً ببرنامج ضيق الحدود يمكنه أن يتجاوز هذا البرنامج نفسه، طالما أن نضاله ثوري ومستقل وموحد.
شابت تصورات لينين وتوقعاته لتطورات الثورة الروسية ونتائجها، تناقض بين المهمات البرجوازية الديمقراطية للثورة وقيادتها البروليتارية. وبينما لا يشكل العنصر الأول (المهمات البرجوازية الديمقراطية والطابع البرجوازي للثورة ككل) فارقاً بين البلشفية والمنشفية، إلا أن العنصر الثاني (القيادة البروليتارية للثورة) يشكل فارقاً جوهرياً، بل وحاجزاً قائماً بينهما.
“البلاشفة يرون البروليتاريا كقائدة للثورة الديمقراطية، أما المناشفة فيختزلون دورها في “المعارضة القصوى”. لدى البلاشفة تعريف إيجابي للطابع الطبقي والتأثير الطبقي للثورة، مؤكدين على أن الثورة المنتصرة هي التي ينتج عنها “ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية الثورية”. أما المناشفة فيفسرون الثورة البرجوازية على نحو خاطئ تماماً وكأنها تنتج وضعاً يعتمد فيه دور البروليتاريا ويخضع للبرجوازية” (21).
“يستند الاشتراكيون الديمقراطيون بشكل كامل على نشاط البروليتاريا وتنظيمها ووعيها الطبقي، وتأثيرها بين جماهير الشغيلة والمستغَلين” (22).
“من وجهة نظر البروليتاريا، فإن من يحوز الهيمنة في الحرب هو من يقاتل بأكبر قدر من الحيوية، من لا يهدر أي فرصة لتسديد ضربة قاضية للعدو، من يصدق كلامه بأفعاله، وهو من يكون بالتالي القائد الأيديولوجي للقوى الديمقراطية، الذي يرفض وينتقد السياسات المترددة والمراوحة من كل نوع” (23).
بالنسبة للينين، كانت مسألة هيمنة واستقلال البروليتاريا في الثورة البرجوازية تمثل فقط خطوة واحدة في عملية الثورة، بحيث يمكن للبروليتاريا أن تتجاوز الحدود الديمقراطية البرجوازية للثورة: “انطلاقاً من الثورة الديمقراطية، سنبدأ على الفور، وعلى وجه التحديد استناداً إلى قوتنا، قوة البروليتاريا المنظمة والواعية طبقياً، في العبور إلى الثورة الاشتراكية. نحن بصدد ثورة غير متقطعة.. ولن نتوقف في منتصف الطريق” (24).
باختصار، قدم لينين إجابتين مختلفتين على سؤال: ماذا سيحدث بعد انتصار الثورة؟ الإجابة الأولى في “خطتا الاشتراكية الديمقراطية” وفي كتاباته بين عامي 1905 و1907، وهي أن حقبة زمنية ستفصل بين الثورة البرجوازية والثورة الاشتراكية تجري فيها عملية تطوير الرأسمالية. والثانية: لنأخذ السلطة ولنرى.
أساء تروتسكي تقدير رؤية لينين؛ إذ أنه لم يفهمها بشكل جدلي. فقد كانت هناك العديد من القوى الديناميكية التي استند لينين إلى تحليل تفاعلاتها وتطوراتها المتغيرة والجدلية: نضال البروليتاريا ضد القيصرية والبرجوازية الليبرالية المتحالفة معها، وكذا نضالها كقائدة للفلاحين ورأس حربة الثورة وصولاً إلى خوض الانتفاضة المسلحة، وأيضاً نضال الحزب الماركسي لحوذ السلطة، إلخ. في هذا الجدل الثوري كان الرقم المجهول، والمحاط بالاحتمالات، في معادلة لينين – إلى أي مدى يمكن للثورة أن تجتاز برنامج الحد الأدنى – يتوقف إقراره بشكل كبير على تفاعل ديناميات الصراع نفسه.
لكن عبقرية تروتسكي في استنباط التعميمات المجردة أوقعته في هذا الفخ. لقد فشل تروتسكي في تقييم مزايا البلشفية، ليس فقط على مستوى برامجها المختلفة، لكن أيضاً فيما يخص كوادرها المتمرسين والمتمركزين والمنظمين والمتراصين وراء هذه البرامج. وهكذا لم يذكر تروتسكي، ولو لمرة واحدة، في كتابه حول تاريخ ثورة 1905، أي شيء عن البلاشفة أو عن لينين. لكنه فيما بعد أفصح بأن:
“وبسبب كون المؤلف خارج كلا الجناحين طوال فترة الهجرة، لم يتسنَّ له أن يقدر تمام التقدير أن الخلاف بين البلاشفة والمنشفيك قد أدى إلى تكتيل الثوريين الصلبين في جهة والعناصر التي تزداد انتهازيتها وضوحا ويظهر استعدادها للتكيف في جهة أخرى” (25).
وفي نفس الوقت يجدر بنا أن نتذكر أيضاً، إضافةً إلى سوء الفهم بين لينين وتروتسكي، أن لينين لم يكن قد قرأ “نتائج وتوقعات” حتى العام 1919 (2*)، فقد كانت أول طبعة منه قد صودرت فور صدورها في 1906، وصحيح أن لينين قد أشار إلى الكتاب مرتين، لكنه لم يقتبس منه أي اقتباسات، مع الوضع في الاعتبار أن من عادة لينين في سجالاته السياسية أن يقتبس مرة بعد أخرى فقرات عديدة مما يساجل ضده. هذا كله يجعلنا نصدق بالفعل أن لينين لم يقرأ “نتائج وتوقعات” سوى في طبعتها الثانية في 1919.
تمرد الفلاحين
الفلاحون يقتحمون المشهد
بعد شن النضال في المدن الروسية، انفجرت الانتفاضات الفلاحية عبر الريف الروسي لتتطور نضالات الفلاحين بعد ربيع 1905 إلى مصادرة أراضي كبار الملاك والاستيلاء على ممتلكاتهم ومحاصيلهم وماشيتهم، إلخ. يصف أحد المؤرخين حركة الفلاحين كالتالي:
“في جنوبي موسكو، في أعماق الأرض السوداء، تقع مقاطعة كورسك والتي اندلعت لها الاضطرابات الفلاحية الأكثر قوة وأهمية خلال الفترة الثورية. وفي ليلة 6 فبراير 1905، كان هناك اضطراباً كبيراً في قرية خولزوفكي وآثار تدمير للغابة طول الطريق المؤدي لأرض أحد أبناء بوبوف. وحينما ظهر الجنود، كان الأوان قد فات؛ فكان الفلاحون قد قطعوا كمية كبيرة من الأخشاب ليقاوموا الشرطة.. ومن خولزوفكي انتشرت الاضطرابات إلى كافة القرى المحيطة وكأنما كانت خطة معدة مسبقاً – كما قالت تقارير الشرطة.. وحينما انتشرت مفرزة أخرى من الجنود، كانت الاحتجاجات قد انتشرت في أربعة قرى أخرى” (1).
في صيف 1905، امتدت الاضطرابات الفلاحية عبر 60 مقاطعة في 27 محافظة، وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة من نفس العام انتفض الفلاحون في 300 مقاطعة في 47 محافظة (2).
“وصلت حركة الفلاحين أقصى درجات القوة والعنف في المنطقة المركزية المحرومة، حيث هوجمت قصور ملاك الأرض الكبار وممتلكاتهم. نظم الفلاحون الإضرابات في قرى الجنوب، أما في الشمال فقد كان إتلاف الغابات هو الشكل الاحتجاجي الشائع. وحينما كان الغضب الاقتصادي يمتزج بالمطالب السياسية، كان الفلاحون يمتنعون عن دفع الضرائب للسلطات الإدارية (3).
وقعت أكثر الأحداث عنفاً وعصفاً في ساراتوف في نهاية العام 1905، حيث انخرط كافة الفلاحين في الانتفاضة دون أن يتخلف واحدٌ منهم، وطُرد الملاك الكبار من قصورهم وصودرت ممتلكاتهم وأراضيهم وماشيتهم. تشكلت على الفور فرق فلاحية مسلحة قامت بتوزيع الأملاك المُصادرة على الفلاحين، وهرب رجال الشرطة، وفي بعض المناطق ألقى الفلاحون المسلحون القبض عليهم” (4).
استمرت انتفاضات الفلاحين عبر روسيا من خريف 1905 وحتى خريف 1906، فيما كان الهدف هو التخلص من ميراث العلاقات الإقطاعية في الملكية والإنتاج. كانت القضية الزراعية تسيطر على روسيا لعدة عقود ثار فيها الفلاحون مراراً وتكراراً للقضاء على الملكية الإقطاعية؛ فلقد كانت الحركة الفلاحية الثورية قائمة لفترة طويلة ولها تراثها وتأثيرها الواسع على جماهير روسيا بشكل عام.
لم يكن الفلاحون يشكلون طبقة متجانسة، بل فئة اجتماعية تتمايز إلى طبقات مختلفة؛ فهناك الفلاحون الأغنياء (الكولاك)، والفلاحون المتوسطون، وأخيراً الفلاحون الفقراء والعمال الزراعيين. قسّم لينين سكان الريف في روسيا عام 1905 بحسب الملكية كما هو موضح في الجدول التالي:
الفئة
عدد الحيازات (بالمليون)
المساحة الإجمالي للأرض (بالمليون ديسياتين)
متوسط عدد الديسياتينات في الحيازة الواحدة
فلاحون مسحوقون بالاستغلال الإقطاعي
10,5
75,0
7,0
فلاحون متوسطون
1,0
15,0
15,0
برجوازية فلاحية
1,5
70,0
46,7
إقطاعيون
0,03
70,0
2333,0
إجمالي
13,03
230,0
17,6
غير مُصنف
–
50
–
إجمالي
13,03
280,0
21,4
إن تقسيم الأراضي بين حفنة من الملاك الكبار من جانب، وجماهير عريضة من الفلاحين الفقراء من جانب آخر – بمعدل حوالي 330 عائلة فلاحية مقابل كل مالك كبير – يكمن وراء التخلف التقني المروّع في الزراعة، ووضع الفلاحين المظلومين والمضطهَدين، وأشكال الاستغلال بالسخرة الإقطاعية.
وفي ظل نظام السخرة في الزراعة، كانت حيازات الفلاحين تعني وسيلة لتزويد الملاك الكبار بالأيدي العاملة الرخيصة والأدوات اللازمة والثروة الحيوانية. كان الملمح الرئيسي لهذا النظام هو تأجير العمل، حيث يُدفع للفلاحين أجوراً مسبقاً خلال فصل الشتاء مقابل ما سيقومون به من أعمال خلال فصل الصيف. لكن الفلاحين خلال الشتاء يكونون في حاجة ماسة للأموال، لذا يُجبرون على قبول شتى أنواع الابتزاز والاستغلال. كان هناك شكل آخر لتأجير العمل، ما عُرف بـ”تجميع خدمات العمل”، حيث يلتزم الفلاحون، مقابل المال أو استئجار قطعة من الأرض، بحصاد محصور ديسياتين واحد للمالك في الربيع، وآخر في الشتاء، وأحياناً ديسياتين آخر في أراضي المروج، بأدواتهم وأحصنتهم هم.
أما أراضي الوقف، تلك المأساة الكبرى للفلاحين، فكان الاستغلال البشع هو سيد الموقف فيها. هذه الأراضي، التي كان ملاك الأرض قد سرقوها من الفلاحين إثر “تحرير العبيد” في 1861، شكلت ما يقرب من خُمس حيازات الفلاحين الأصلية. بل كانت تلك من أفضل الأراضي وأكثرها خصوبة، وبالتالي حُرم الفلاحون من المروج والمراعي، ومن الوصول إلى الغابات والأنهار. كان الفلاح مضطراً أيضاً، من أجل الحفاظ على حيازته، للعمل في أراضي الملاك الكبار والإقطاعيين، أو لدفع مبالغ باهظة تزيد حتى عن القيمة الإيجارية للأرض (بحوالي 50 – 70%). ويمكن للفلاح أن يتحرر من هذا الالتزام من خلال “دفع الفداء”، والذي كان يفوق ثمن الأرض في السوق. وبحلول 1905، كان الملاك الإقطاعيين قد جمعوا 1,9 مليار روبل من رسوم وفوائد الفداء، هذه المبالغ الطائلة كانت تفوق ثلاثة أضعاف القيمة السوقية للأرض، مع الأخذ بعين الاعتبار انخفاض قيمة الروبل خلال 44 عاماً منذ 1861. وهكذا فإن توق الفلاحين للإفلات من هذه الإلزامات القسرية قد وضعهم تحت نير ابتزاز الإقطاعيين، ناهيكم عن خضوع الفلاحين للعمل في أراضي الوقف.
كانت حيازات الفلاحين تمثل رقعاً ضئية من الأرض، تكونت في الغالب من أشرطة ضيقة متناثرة وذات تربة رديئة؛ فالأراضي الأكثر خصوبة انتزعها الملاك الكبار والإقطاعيين في 1861.
كان مجتمع القرية يعزز سلاسل العبودية التي تكبل الفلاحين الفقراء. هذا الاستخدام القسري الجماعي للأرض تميز بالتناوب الإجباري للدورات الزراعية والمراعي غير المجزأة. لقد استخدم ملاك الأرض الكبار مجتمع القرية لتكثيف الاضطهاد الإقطاعي ولابتزاز الفلاحين لدفع الفداء وغيره من المدفوعات.
الماركسية والفلاحون
منذ البدايات الأولى للحركة الماركسية في روسيا، أدرك الماركسيون الأهمية القصوى للمسألة الزراعية، وبالأخص قضية الفلاحين. وقد طالبت المسودة الأولى لبرنامج الماركسيين الروس، التي أصدرتها مجموعة تحرير العمل في 1885 بالتالي:
“مراجعة جذرية للعلاقات الزراعية، أي للشروط التي يتم وفقها استبدال وحيازة الأرض في المجتمعات الريفية، ويُمنح الحق في رفض الحيازات الخاصة بهم وترك البلدية لأولئك الفلاحين الذين قد يجدون من المفيد القيام بذلك، إلخ”.
كان ذلك كل ما قاله البرنامج حيال المسألة الزراعية. وبعد سنوات لاحقة، علّق لينين عليه قائلاً: “إن خطأ ذلك البرنامج لم يكمن في مبادئه أو مطالبه الجزئية، إنما في طابعه المجرد، وفي غياب أي رؤية متماسكة وملموسة للموضوع، أو بالأحرى إنه ليس برنامجاً، إنما تصريح ماركسي بمفردات عامة للغاية”، لكنه ما لبث أن أضاف أن:
“بالطبع سيكون من السخيف أن نلقي بلوم هذا الخطأ على واضعي البرنامج، الذين قد أرسوا مبادئ معينة قبل تأسيس حزب العمال بفترة طويلة. على العكس، ينبغي التأكيد بشكل خاص على أن حتمية “المراجعة الجذرية” للإصلاح الفلاحي طُرحت قبل الثورة الروسية بعشرين عاماً” (8).
عمد لينين في بداية حياته السياسية إلى الدراسة الدقيقة للحياة الريفية، فأول ما كتب كان “تطورات اقتصادية جديدة في الحياة الفلاحية”، ربيع 1893. وفي 1899، نشر لينين أول عمل نظري كبير له، والذي كان قد كتبه وأنهى الأبحاث المتعلقة به خلال فترة مكوثه في السجن ثم في المنفى في سيبيريا، كان ذلك بعنوان “تطور الرأسمالية في روسيا”. اشتمل ثلثي الكتاب على تحليل رائع وموثق للتطور الرأسمالي في الريف الروسي، وتحلل الاقتصاد الإقطاعي، والتنوع المتشابك والمعقد للأشكال الانتقالية التي ظهرت في الحياة الريفية. ووفرت تلك الدراسة النظرية المتعمقة أرضية مناسبة تطورت عليها من الناحية العملية السياسة الزراعية والاستراتيجية والتكتيك لدى الماركسيين الروس.
ثم في 1901، كتب لينين “حزب العمال والفلاحون”، ذلك العمل الذي بذل فيه جهداً لتطوير مسودة للبرنامج الزراعي للحزب. تبنى المؤتمر الثاني للحزب في 1903 هذه المسودة، فيما كانت المطالب المركزية للثورة الزراعية كالتالي:
“الإلغاء الفوري والكامل لمدفوعات الفداء.. وعودة مئات الملايين التي ابتزتها الحكومة من الشعب عبر سنوات لإرضاء جشع مالكي العبيد.. رد الأرض للفلاحين الذين حُرموا منها، وتحطيم الشروط التي لا تزال تربطهم بالعمل القسري والإنتاج بالسُخرة، تلك الشروط التي تُبقيهم تقريباً في حالة من العبودية” (9).
وخلال تطويره للبرنامج الزراعي لتقديمه للمؤتمر الثاني للحزب، صاغ لينين الخطوط العامة التي تهدف إلى محو العلاقات الإقطاعية في الريف:
“أولاً، إن الثورة الزراعية ستكون بالضرورة جزءاً من الثورة الديمقراطية في روسيا. ومضمون هذه الثورة إنما يكمن في تحرر الريف من قيود العلاقات شبه الإقطاعية. ثانياً، من الزاوية الاجتماعية والاقتصادية فستكون ثورة برجوازية ديمقراطية، ولن تضعف تطور الرأسمالية، بل ستحفزه هو والتناقضات الطبقية للمجتمع الرأسمالي” (10).
وعلاوة على النقاط التي لم تُثر جدلاً، والتي لم يعدلها لينين – إلغاء الضرائب العقارية والاجتماعية من على الفلاحين، والحد من الإيجارات، وحرية استخدام الأرض عند الرغبة في ذلك – تضمن البرنامج الزراعي الذي اعتمده المؤتمر الثاني للحزب عدداً من البنود التي تطالب باسترداد مدفوعات فداء الأراضي، وإعادة أراضي الوقف. والمطلب الأخير هو مطلب مركزي في هذا البرنامج في الحقيقة (البند الرابع في البرنامج)؛ إذ كان الدافع وراءه هو أن يمثل وسيلة للقضاء على ميراث الإقطاع:
“طالما تظل أشكال القنانة والعبودية في الزراعة باقية إلى اليوم، بالإضافة إلى أراضي الوقف التي اقتُطعت من الفلاحين، فللفلاحين الحق في التخلص من ميراث الإقطاع بمصادرة الأرض، ولهم الحق في استرداد أراضي الوقف” (11).
كرر لينين وشدد كثيراً على هذه النقطة: “نحن نسعى لإثبات أن مطلب استرداد أراضي الوقف يمثل الحد الأقصى لما في وسعنا في برنامجنا الزراعي” (12). كما جادل في ذلك الوقت بأن تجاوز استرداد أراضي الوقف إلى ما هو أبعد من ذلك سيصبح بمثابة دعم الزراعة الصغيرة في مواجهة الزراعة الكبيرة.
“حين أتحدث بشكل عام، أقول أنها ليست مهمة الاشتراكيين الديمقراطيين أن يطوروا، أو أن يدعموا، أو أن يرسّخوا الزراعة الصغيرة والملكية الصغيرة” (13).
“حين أتحدث بشكل عام، أقول أنه من الرجعي أن ندعم الملكية الصغيرة لأن مثل هذا الدعم من شأنه أن يتصدى للاقتصاد الرأسمالي واسع النطاق، وبالتالي أن يعرقل التطور الاجتماعي، وأن يحجب النضال الطبقي ويطمسه. إلا أننا، في هذه الحالة، نريد أن ندعم الملكية الصغيرة في مواجهة ملكية العبيد” (14).
ماذا عن تأميم الأرض؟ في ذلك الوقت، في عام 1903، كان موقف لينين واضحاً: “إن مطلب تأميم الأرض، برغم أنه صحيح تماماً من حيث المبدأ، ومناسب للغاية في لحظات معينة، إلا أنه غير صالح سياسياً في الوقت الراهن” (15). فإذا كان هدف الثورة الزراعية هو تحطيم العلاقات الإقطاعية، فلم يكن ينبغي انتزاع كل أراضي الملاك العقاريين، بالأخص أراضي الزراعة الرأسمالية وتوظيف العمل المأجور.
لينين يتعلم من جابون
على الرغم من كل ذلك، أظهر عمق واتساع انتفاضة الفلاحين في ثورة 1905 كم كان برنامج لينين في 1903 محافظاً. وقد يكون من المثير أن نرى كم كان لينين شغوفاً بمعرفة مزاج الفلاحين في ذلك الوقت، وما إذا كانت مطالب استرداد أراضي الوقف تناسب هذا المزاج العام بينهم، حتى من خلال الأب جابون أو أحد الزوار الذي قدم إلى لينين بشكل عارض، البحار ماتينشينكو. تصف كروبسكايا أحد التلامذة جالساً في غرفة لينين:
“بدأ بالأطروحات التي تثبت صحة البرنامج الاشتراكي الديمقراطي، شارحاً إياه نقطة تلو الأخرى بحماسة المبتدئين المعهودة.. استكمل الشاب قراءة البرنامج، وقد أتى جابون وماتينشينكو. وبينما كنت أعد لهم الشاي، وصل الشاب للفقرة التي تتناول استعادة “قطع الأرض” للفلاحين. بعد قراءة هذه النقطة، أخذ الشاب يشرح أن الفلاحين ليس بمقدورهم أن يستكملوا النضال من أجل الأرض إلى ما هو أبعد من ذلك، حينها انتاب جابون وماتينشينكو الغضب، وصاحا: كل الأرض للشعب” (16).
لابد أن ذلك كان له وقع كبير على لينين:
“في مؤتمر ديسمبر في تاميرفورس، تقدم لينين لإسقاط هذه النقطة من البرنامج عن أراضي الفلاحين، وبدلاً منها تم إدارج فقرة عن دعم التدابير الثورية للفلاحين، بما في ذلك مصادرة أراضي الملاك، والأراضي الرسمية، وأراضي الكنيسة والتاج” (17).
لم يتستر لينين على أخطائه الماضية:
“في 1903 عندما اعتمد المؤتمر الثاني البرنامج الزراعي الأول لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، لم يكن لدينا بعد الخبرة التي من شأنها أن تمكننا من تقييم سمات واتساع وعمق الحركة الفلاحية بشكل صحيح. ظلت هبات الفلاحين في ربيع 1902 على شكل تفجرات متقطعة. لذا يمكن للمرء أن يفهم التحفظ الذي أبداه الاشتراكيون الديمقراطيون في صياغة البرنامج الزراعي” (18).
“بدون تجربة وخبرة حركة فلاحية واسعة النطاق، لم يكن ممكناً لبرنامج الاشتراكيين الديمقراطيين أن يغدو متماسكاً” (19).
“حاول برنامج 1903 أن يقدم تعريفاً متماسكاً لطبيعة وعناصر “المراجعة” التي تحدث عنها الاشتراكيون الديمقراطيون بشكل عام في 1885. هذه المحاولة – فيما يتعلق بالعنصر الأساسي للبرنامج الخاص بأراضي الوقف – كانت مبنية على تمييز أولي بين الأراضي التي تسود عليها العبودية والقنانة، وتلك التي يسيطر عليها النمط الرأسمالي. هذا التمييز كان مضللاً إلى حد كبير؛ ففي الحقيقة، على بساط الممارسة العملية، لم تكن حركة الفلاحين موجهة ضد أقسام معينة من الملاكين العقاريين، لكن ضد الملكية العقارية بشكل عام” (20).
بعد 1905، لم يكن هناك أي مبرر للاستمرار في ذلك الاتجاه الضيق والمحافظ.
“في الوقت الراهن، يُعد رفض مطلب مصادرة الملكية العقارية، بوضوح، تقييداً وتضييقاً لأفق حركة اجتماعية بدأت تتخذ شكلاً محدداً” (21).
وفي مؤتمر تاميرفورس البلشفي (17 – 12 ديسمبر 1905)، قدم لينين القرار التالي:
“يقر المؤتمر بأنه من المستحسن تعديل البرنامج الزراعي لحزبنا كما يلي: إلغاء البند الخاص بأراضي الوقف، وبدلاً منه إعلان عن دعم الحزب لتدابير الفلاحين الثورية، بما في ذلك مصادرة أراضي الدولة والكنيسة والتاج والملاك” (22).
تأميم الأراضي
انطلق لينين من هذه النقطة إلى المزيد من التنقيح والمراجعة للبرنامج الزراعي، حيث رفع شعار تأميم كافة الأراضي. وفي كراسه “مراجعة البرنامج الزراعي لحزب العمال”، مارس 1906، كتب:
“إذا جلب الانتصار الحاسم للثورة الراهنة في روسيا السيادة الكاملة للشعب، أي تأسيس الجمهورية ونظام دولة ديمقراطي بالكامل، سيسعى الحزب لإلغاء الملكية الخاصة للأرض ونقل جميع الأراضي إلى الشعب كله باعتبارها ملكية عامة” (23).
والفضل يرجع لقوة الحركة الفلاحية في إدراكه بأنه قد بالغ في 1903 في تقييم درجة توسع التطور الرأسمالي في الريف. لم تكن العلاقات الإقطاعية مضمحلة كما كان يعتقد من قبل، بل كان لها تأثير كبير على الأوضاع في الريف. وفي كتابه “البرنامج الزراعي للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الروسية 07 – 1905″، أشار إلى أن:
“السبب وراء خطأ برنامج أراضي الوقف في 1903.. كان أننا قمنا بتعريف ماهية التطور بشكل جيد لكننا أسأنا ذلك فيما يتعلق بلحظة ذلك التطور. لقد ظننا أن عناصر الزراعة الرأسمالية كانت قد اتخذت شكلها الكامل في روسيا، سواء في أراضي الملاك الكبار (باستثناء أراضي الوقف بظروف العبودية السائدة عليها، وهنا يأتي مطلب إعادة هذه الأراضي للفلاحين)، أو في أراضي الفلاحين، والتي كان يبدو أنها ستمثل مناخاً لصعود برجوازية ريفية قوية، وبالتالي تكون غير قادرة على إحداث “ثورة زراعية فلاحية”. إن خطأ البرنامج كان نتيجة.. مبالغة في تقييم مستوى التطور الرأسمالي في الزراعة الروسية، حيث بدت لنا بقايا الإقطاع كتفصيلة ذات شأن هيّن، وأن الزراعة الرأسمالية في الحيازات الفلاحية وفي أراضي الملاك الكبار قد تأسست ونضجت بالفعل. وقد عالجنا هذا الخطأ باستبدال الهدف الجزئي لإسقاط بقايا النظام الزراعي القديم بهدف إسقاط النظام الزراعي القديم ككل. وبدلاً من بتر اقتصاد الملاكين العقاريين، فقد حددنا الهدف بإلغائه” (24).
التعلم من الموجيك
خلال سنوات الثورة، من 1905 وحتى 1907، اعتبر لينين أنه من الضروري التعلّم من الفلاح الروسي الفقير. وحتى ممثلي الفلاحيين الملكيين في الدوما القيصري، قد تعلّم منهم لينين أن على الرغم من القشرة المحافظة على السطح، هناك ثمة لب ثوري في العمق تحتها. وأشار بحماس بالغ إلى خطبة الفلاح الملكي اليميني، ستوتشارك، أمام مجلس الدوما:
“بدأ خطبته بترديد كلمات القيصر نيقولا الثاني حول “الملكية الخاصة المقدسة”، وعدم قبول “التعدي” عليها، إلخ. ثم استطرد قائلاً: “فليمنحه الرب الصحة، إنه يتحدث جيداً للشعب بأسره”. وأنهى حديثه كالتالي: “إذا كان جلالته قد تحدث عن النظام وعن العدل، فالطبع إذا كنت امتلك ثلاثة ديسياتينات من الأرض، وبجواري 30 ألف ديسياتين، فهذا ليس نظاماً ولا عدلاً” (25).
يعلّق لينين:
“فلاح جاهل.. بريء كالطفل.. جاهل سياسياً. إن الرابط بين الملكية و”النظام”.. ذلك الرابط الذي يحمي مالكي الـ 30 ألف ديسياتين، ليس واضحاً بالنسبة له” (26).
“ستوتشارك، والنواب الذ يشاركونه وجهة نظره – الكاهن تيتوف، وأندرييتشوك، وبوبوف الرابع، ونيكتيوك – يعبرون عن المزاج الثوري للجماهير من دون وعي وبشكل عفوي، ويخافون ليس فقط من التحدث عن ذلك، لكن حتى من التفكير فيما تنطوي عليه كلماتهم ومقترحاتهم” (27).
أخذ لينين يستشهد بمقولات نواب الفلاحين في الدوما:
“توميلوف: “إن المخرج الوحيد في رأينا هو: لابد من إعادة توزيع الأرض على الفور في كافة المناطق الريفية في روسيا على أساس إحصاء شبيه بما جرى من قبل.. لابد من إحصاء الذكور من السكان كما في 3 نوفمبر 1905.
يحلم الفلاحون بالحصول على الأرض والحرية، لكننا نسمع أنه طالما ظلت الحكومة الحالية في السلطة، تظل ملكية الأرض مصونة لا مساس بها. (صوت في وسط القاعة: “ملكية خاصة”). نعم، خاصة، ملكية النبلاء.. وبقدر ما نحن قلقون حيال الأمر، مستعدون للتخلي عن حيازاتنا.. أقول أن الفلاحين في أي قرية سيتخلون إرادياً عن حيازاتهم، وحدة مقابل وحدة، من أجل أن نصير أسوياء.. لكن طالما أن السلطة ليست في أيدي الفلاحين، والشعب بشكل عام، لن يرى الفلاحون الأرض أو الحرية السياسية” (28).
بيتروف الثالث: “تذكروا، أيها المحترمون، فترة حكم أليكسي ميخائيلوفيتش، واحتجاجات الفلاحين التي عبّرت عن نفسها في الحركة بزعامة رازين (1*). لقد عبّر الشعب عن مطالبه بأكبر قوة في 1905. ثم دفعه الفقر أيضاً للخروج إلى الشوارع ولأن يقول كلمته.. لابد من توزيع الأرض بحيازات متساوية بين الناس. أنا بالطبع ضد الملكية الخاصة للأرض.. وأقول أن الناس لن تهنأ إلا حين تنتقل الأرض إلى أيديهم.. إنني على قناعة بأنكم ستشهدون مجدداً اضطرابات عميقة في قاع البحر الهادئ.. ومن يرفع السيف سيهلك به (ضحكات على اليمين). إن الترودوفيك لم يقلع عن مبادئه ولم يتخل عن طموحاته وتطلعاته.. نحن نقول: كل الأرض لمن يعمل بها، وكل السلطة للشعب العامل”.
ميرزلياكوف: “لابد أن تكون الأرض لمن يفلحها.. يجب أن تكون الأرض لمن يزرعها بقوة عمله” (29).
أما الفلاح نيتشيتايلو: “من شربوا دماء الفلاحين وسحقوا عقولهم، يصفونهم اليوم بالجهل. (جولوفين مقاطعاً: بإمكان الإقطاعي أن يسب الفلاح، هل يستطيع الفلاح أن يهين الإقطاعي؟). هذه الأراضي تؤول للشعب، ويقولون لنا: هيا اشتروها. هل نحن أجانب؟ هل منا مَن أتى من إنجلترا أو فرنسا مثلاً؟ هذه بلدنا.. لماذا علينا شراء أرضنا؟ لقد دفعنا ثمنها عشرة أضعاف بالفعل بالدم والعرق والمال”.
وهنا يقول الفلاح كيرنوسوف (مقاطعة ساراتوف): “هذه الأيام ليس لنا حديث سوى عن الأرض، لكن مرة أخرى يخبروننا أنها مقدسة ولا يحق المساس بها. في رأيي، لا يمكن أن تكون الأرض مُحرّمة؛ فإذا أرادها الشعب لا يمكن أن تكون مُحرّمة (تصفيق من ناحية اليسار). أيها السادة النبلاء، هل تعتقدون أننا لا نعلم أنكم تراهنون علينا بأوراق اللعب؟ أو أنكم تقايضون علينا بالكلاب؟ نعم، نحن نعلم ذلك. إنها ملكيتكم المصونة والمُحرّمة علينا.. لقد سرقتموها منا.. الفلاحون الذين أرسلوني إلى هنا قالوا لي: الأرض أرضنا. لن نأتي لشرائها، بل لانتزاعها”.
وها هو الفلاح فاسيوتين (مقاطعة خاركوف) يقول: “نحن نرى شخص رئيس مجلس الوزراء ليس رئيس حكومة البلد بأكملها، بل رئيس حكومة الـ 130 ألف إقطاعي. أما الـ 90 مليون فلاح، فلا يعنون شيئاً بالنسبة له. أنتم (موجهاً كلامه ناحية اليمين) مستغِلون، تؤجرون أراضيكم بأسعار باهظة وتسلخون الفلاحين أحياءاً.. كونوا على علم بأن الحكومة إذا لم تسعَ لتلبية احتياجات الشعب، لن يسألكم الشعب الموافقة على مطالبه، بل سينتزع الأرض انتزاعاً.. رسمياً، تُباع الأرض بمبلغ يتراوح بين 25 إلى 50 روبل للديسياتين الواحد، فيما يصل الإيجار لـ 15 إلى 30 روبل للديسياتين، وإيجار أرض القش لـ 35 إلى 50 روبل. أنا أُسمي هذا ابتزازاً (صوت من جهة اليمين: “ماذا؟ ابتزاز؟”. ثم ضحكات). نعم، لا تضحكوا (تصفيق من جهة اليسار)، أنا أُسمي هذا سلخاً للفلاحين وهم أحياء” (30).
يعلّق لينين على خُطب مندوبي الفلاحين بأنها:
“تعبر عن روح نضال جماهير الفلاحين بصراحة شديدة.. إن خُطب الفلاحين الترودوفيك، الذين يصرّحون بوجهات نظرهم بشكل مباشر وصريح، تجسّد أمامنا أمزجة وتطلعات الجماهير بقدر مذهل من الدقة والحيوية، وتخلط بين البرامج (البعض يتحدث عن التعاطف مع وثيقة الـ 42 فلاح، والبعض الآخر يتحدث عن التعاطف مع الكاديت)، لكن كافة الخُطب القوية إنما تعبر عما يكمن في العمق أكثر من أية برامج” (31).
يذهب لينين إلى ما هو أبعد من ذلك ليرى في خُطب الفلاحين حماسة ثورية أكبر مما يبدو لدى مندوبي العمال الاشتراكيين الديمقراطيين:
“بمقارنة خُطب الفلاحين الثوريين في الدوما الثانية بخُطب العمال الثوريين، يكاد المرء أن يُصاب بالصدمة من الاختلاف التالي: الأولى مشبعة بروح ثورية أكثر عفوية، ورغبة عاطفية في تدمير نظام الملاك العقاريين على الفور، وعلى الفور أيضاً إنشاء نظام جديد، فيكاد الفلاح أن يقذف نفسه على العدو ليخنقه” (32).
تميز لينين بتحرره من الدوجمائية، وشعوره بالنبض الحقيقي للحركة الجماهيرية، حتى إن كان داخل صدر فلاح ملكي.
البلاشفة والمناشفة.. والفلاحون
أثناء انتخابات الدوما الثانية، دار أحد أكثر السجالات ضراوة بين جناحي الاشتراكية الديمقراطية، البلاشفة والمناشفة، حول قضية التحالف مع الكاديت أم التحالف مع الترودوفيك ضد الكاديت.
جادل بليخانوف، منذ وقت مبكر في 1892، بأن الفلاحين الروس يمثلون بالأساس قوة محافظة تماماً كما في الغرب:
“بعيداً عن البرجوازية والبروليتاريا، ليس هناك أي قوة اجتماعية في البلد يمكن للمعارضة أو المجموعات الثورية أن تتلقى الدعم والتأييد منها” (33).
وفي كراس بعنوان “واجب الاشتراكيين في المجاعة”، كتب بليخانوف أيضاً:
“من الناحية السياسية، يقع كلٌ من البروليتاريا والفلاحون على طرفي نقيض. والدور التاريخي للبروليتاريا إنما هو ثوري بنفس القدر الذي يبقى فيه دور الموجيك محافظاً. ولقد استندت السلطات القمعية والاستبدادية في الشرق إلى سلبية الفلاحين في الحفاظ على نفسها دون أي تغييرات طوال آلاف السنين. وفي وقت قصير نسبياً كانت البروليتاريا تهز أعمدة وأركان المجتمعات الأوروبية الغربية، وفي روسيا تتطور البروليتاريا سياسياً على نحو أسرع مما كان يجري في الغرب بما لا يُقاس” (34).
هذا الخط الذي رسمه بليخانوف كان له تأثيره العميق في تحديد بوصلة المناشفة وموقفهم من الحزب الليبرالي (الكاديت) من جانب، وحزب الفلاحين (الترودوفيك) من الجانب الآخر. وقد جادل المنشفي كولستوف، كما سنرى، بأن التحالف مع الكاديت والتحالف مع الترودوفيك لا يستقيمان سوياً، بل أن هذين التحالفين على طرفي نقيض: إما الكاديت أو الترودوفيك:
“مع من يحتفظ الاشتراكيين الديمقراطيين بنقاط تلاقي وتماس أكثر، مع الديمقراطية المدنية، أم مع الديمقراطية الريفية؟ ممن يمكن للاشتراكية الديمقراطية أن تتوقع دعماً في نضالها ضد كافة الموروثات الثقافية والدينية والقومية، إلخ؟ من سيسارع إلى دعم إجراءات تحرير قوى الإنتاج؟ من الضروري أن نطرح مثل هذه التساؤلات التي لا غنى عن الإجابة بوضوح عليها في سياسة الاشتراكية الديمقراطية. إن كل ما ذكره “البيان الشيوعي” فيما يتعلق بالدور الثوري للبرجوازية يظل صحيحاً في القرن العشرين تماماً كما كان في القرن التاسع عشر، ويظل صحيحاً في روسيا كما كان بالنسبة لإنجلترا” (35).
عارض لينين هذه الرؤية، فكتب:
“يرى الجناح البلشفي للحزب الليبراليين كممثلين للصناعة الكبيرة، يكافحون من أجل وضع نهاية للثورة في أسرع وقت ممكن من شدة خوفهم من البروليتاريا، ويعقدون المساومات مع الرجعيين. ويعتبر الجناح البلشفي الترودوفيك برجوازية صغيرة ديمقراطية ثورية، ويتبنون الرأي القائل بأنهم يميلون لاتخاذ موقف جذري حيال مسألة الأرض، هذه القضية الهامة بالنسبة للفلاحين، قضية مصادرة الملكيات العقارية. وهذا يفسر تكتيكات البلاشفة؛ إنهم يرفضون دعم البرجوازية الليبرالية الغادرة، أي الكاديت، ويفعلون أقصى ما بوسعهم لإبعاد البرجوازية الصغيرة الديمقراطية عن تأثير الليبراليين، يسعون لجذب الفلاحين والبرجوازية الصغيرة الحضرية بعيداً عن الليبراليين ولحشدهم وراء البروليتاريا، وراء الطليعة، من أجل النضال الثوري” (36).
“صرّح أحد أعضاء الكاديت أن الفلاح اليميني هو أكثر يسارية من الكاديت نفسه. نعم، في المسألة الزراعية كان موقف الفلاحين “اليمينيين” في مجالس الدوما الثلاثة أكثر يسارية من مواقف الكاديت، وهذا يثبت أن ملكية الموجيك إنما هي سذاجة آخذة في الاضمحلال، بعكس ملكية رجال الأعمال الليبراليين، الذين هم ملكيون في كل الحسابات الطبقية” (37).
في الثورة الديمقراطية ضد الإقطاع، فضّل لينين تحالف الحزب البروليتاري أحزاب البرجوازية الصغيرة الفلاحية الديمقراطية:
“إن أحزاب ومنظمات الديمقراطية الثورية (الحزب الاشتراكي الثوري، واتحاد الفلاحين، وبعض أشباه النقابات والمنظمات السياسية، إلخ)، تعبر عن قرب عن مصالح ووجهة نظر الجماهير العريضة من الفلاحين والبرجوازية الصغيرة، وتعارض الملكية العقارية والدولة شبه الإقطاعية بقوة، وتناضل بإصرار من أجل الديمقراطية، واضعةً أهدافها البرجوازية الديمقراطية عملياً في ثوب أيديولوجي اشتراكي ضبابي بدرجة ما. ويعتبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي أنه من الممكن عقد اتفاقات نضالية مع هذه الأحزاب، بينما في نفس الوقت عليه بشكل منظم أن يكشف الطابع الاشتراكي الزائف لهم، وأن يكافح محاولاتهم لحجب التناقض بين البروليتاري والمالك الصغير” (38).
دعوني هنا أن أتعجل قليلاً لأوضح أنه بالنسبة للينين لم يكن شعار تأميم الأراضي يعني تجاوزاً للثورة الديمقراطية البرجوازية. فقد شرح لينين أن هناك مسارين للتطور الرأسمالي في الريف الروسي؛ الأول تشوهه بقايا الإقطاع وتعرقله، وهو ما وصفه لينين بالمسار البروسي، والثاني متحرر من كافة مخلفات القنانة، وأطلق عليه المسار الأمريكي للتطور:
“في الحالة الأولى، يتطور اقتصاد الإقطاع والملكية العقارية ببطء إلى البرجوازية، اقتصاد الملكية اليونكرية، الذي يحجز الفلاحين في عقود من العبودية الأكثر ترويعاً، بينما في نفس الوقت تصعد طبقة من الفلاحين الكبار.. من أجل تيسير عملية تطوير قوى الإنتاج (هذا المعيار الأكبر في التقدم الاجتماعي)، يجب علينا ألا ندعم النوع الإقطاعي من التطور البرجوازي، لكن المسار الفلاحي من التطور البرجوازي. فالنوع الأول يحتفظ إلى أقصى حد بالعبودية والقنانة (في قوالب برجوازية)، علاوة على بطء تطور قوى الإنتاج، والعراقيل أمام تطور الرأسمالية، لذا فهو يعني بؤس ومعاناة غير محدودين، واستغلال وقهر لقطاعات عريضة من الفلاحين، وبالتالي للبروليتاريا أيضاً. أما النوع الثاني فيتضمن تطوراً بأقصى سرعة لقوى الإنتاج، وأفضل الظروف الممكنة لجماهير الفلاحين (في ظل الإنتاج السلعي). إن تكتيكات الاشتراكيين الديمقراطيين في الثورة البرجوازية الروسية تتحدد ليس من خلال دعم البرجوازيين الليبراليين، كما يعتقد الانتهازيون، لكن من خلال مهمة دعم نضال الفلاحين” (39).
كان على الثوريين أن يسعوا لاقتياد روسيا في المسار الأمريكي. وبالتالي، كان لابد من دعم مطلب تأميم الأراضي الذي كان بمثابة الطريق الأكثر تماسكاً وثورية للقضاء على كافة ملامح الإقطاع الباقية. “في الثورة الروسية، ليس النضال من أجل الأرض سوى نضالاً من أجل تعبيد الطريق للتطور الرأسمالي. والشعار المتماسك لذلك هو: تأميم الأراضي” (40).
ولدعم الطرح الذي يقدمه، استشهد لينين بماركس، الذي كان لديه “قبولاً بإمكانية تأميم الأراضي، بل كان أحياناً يدافع عن ذلك، ليس فقط في أوج الثورة البرجوازية في ألمانيا 1848، بل أيضاً في 1846 بالنسبة لأمريكا، التي، كما أشار لها بدقة بالغة في ذلك الوقت، كانت فقط تبدأ تطورها الصناعي” (41).
بعد ذلك بعامين، في 1908، أعاد لينين طرح وجهة نظره:
“ليس هناك ما هو أكثر خطئاً من الرأي القائل بأن تأميم الأراضي يتوافق في أي شيء مع الاشتراكية، أو حتى بالحيازة المتساوية للأرض. الاشتراكية، كما نعلمها، تعني القضاء على الاقتصاد السلعي. في المقابل فإن تأميم الأراضي يعني تحويلها إلى ملكية الدولة، وهذا لا يؤثر ولو بقدر قليل على الزراعة الخاصة للأرض” (42).
تأميم الأراضي: الخطوة الأولى في طريق الاشتراكية؟
شرع لينين يشرح بالتفصيل لماذا يُعد تأميم الأراضي جزءاً من الثورة البرجوازية، وفي كتابه “البرنامج الزراعي للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الروسية الأولى” في نوفمبر – ديسمبر 1907، ذكر لينين أن:
“بعد فترة من التأميم الثوري، قد يُثار مطلب التقسيم انطلاقاً من الرغبة في ترسيخ أقصى درجة ممكنة من العلاقات الزراعية الجديدة التي تلبي متطلبات الرأسمالية، قد يُثار انطلاقاً من رغبة المالكين في زيادة دخولهم على حساب بقية المجتمع. وأخيراً قد يُثار المطلب انطلاقاً من الرغبة في “تسكين” (أو بالأحرى “إخماد”) الطبقات البروليتارية وشبه البروليتارية، التي “سيثير التأميم شهيتهم” لتأميم الإنتاج الاجتماعي ككل” (43).
“ما من شيءٍ بإمكانه كسح كافة آثار القرون الوسطى في روسيا هكذا بشكل كامل، ما من شيءٍ بإمكانه إحداث تطوير شامل للمناطق الريفية في دولة آسيوية شبه مضمحلة، ما من شيءٍ بإمكانه إنجاز التقدم الزراعي على نحو سريع سوى التأميم. وأي حل آخر للمسألة الزراعية في الثورة سيخلق نقاط انطلاق أقل مواتاة لمزيد من التنمية الاقتصادية.
المغزى الأخلاقي للتأميم في الحقبة الثورية هو أن البروليتاريا ستسهم في توجيه ضربة لـ”أحد أشكال الملكية الخاصة”، مما سيكون له تداعيات حتمية في جميع أنحاء العالم” (44).
لكن على الرغم من أن تأميم الأراضي يعد جزءاً لا يتجزأ من الثورة البرجوازية، إلا أنه، وفقاً لتوازن القوى الطبقية، قد يمثل دافعاً هاماً للنضال من أجل الاشتراكية في الريف. في سبتمبر 1917، في مقدمة للطبعة الثانية من كتاب “البرنامج الزراعي للاشتراكية الديمقراطية” (صادرت الشرطة الطبعة الأولى فور صدورها في 1908)، كتب لينين: “لا يمثل تأميم الأراضي “الكلمة الأخيرة” للثورة البرجوازية فقط، لكن أيضاً تجاه الاشتراكية” (45).
وفي توقعاته حول مستقبل الثورة الروسية، لم يشب لينين أي قدر من الدوجمائية، بل لقد أظهر درجة قصوى من الاستعداد لدفع الثورة أبعد من حدودها البرجوازية إلى النضال الفوري والمباشر والأكثر رحابة من أجل الاشتراكية.
البروليتاريا والفلاحون
خلال تطور البرنامج الزراعي للحزب البلشفي، تبلورت لدى لينين فكرتان مركزيتان: أولاً ضرورة قيادة الطبقة العاملة للفلاحين، ثانياً ضرورة حفاظ الحزب العمالي على استقلاليته وتمايزه عن الفلاحين.
“خلال تأييدها للفلاحين الثوريين، ينبغي على البروليتاري ألا تنسى ولو للحظة استقلالها الطبقي وأهدافها الطبقية الخاصة. فحركة الفلاحين هي حركة طبقة أخرى تخوض نضالاً غير بروليتاري، بل نضالاً مدفوعاً بالملكية الصغيرة. إنه ليس نضالاً ضد الرأسمالية، بل نضالاً من أجل إزالة كافة بقايا العبودية” (46).
“إننا ندعم حركة الفلاحين إلى النهاية، غير أنه ينبغي لنا أن نتذكر أنها حركة طبقة أخرى، تختلف عن الطبقة التي تستطيع أن تقوم بالانقلاب الاشتراكي والتي ستقوم به” (47).
“من دون مبادرة وإرشاد البروليتاري، يصبح الفلاحون لا شيء” (48).
ناقش لينين إمكانية تبلور حزب فلاحي بتحالف الترودوفيك مع الاشتراكيين الثوريين، لكنه تشكك في قدرتهما على تحقيق قدراً من الاستقرار والتجانس.
“ليس هناك من يستطيع في هذه المرحلة أن يحدد على وجه الدقة الأشكال التي يمكن أن تتخذها الديمقراطية البرجوازية في روسيا في المستقبل. وقد يؤدي إفلاس الكاديت إلى تأسيس حزب فلاحي ديمقراطي، حزب جماهيري حقيقي وليس منظمة إرهابية كالاشتراكيين الثوريين الذين كانوا ولازالوا كذلك. ومن الممكن أن تمنع المصاعب الموضوعية في إنجاز الوحدة السياسية بين البرجوازية الصغيرة تأسيس مثل هذا الحزب، وهكذا تُبقي الديمقراطية الفلاحية، لفترة طويلة قادمة، على حالتها الراهنة من التفكك وغياب الشكل وميوعة كتلة الترودوفيك (49).
“إن الترودوفيك ليسوا ديمقراطيين متماسكين تماماً، فالترودوفيك (ومن ضمنهم الاشتراكيين الثوريين) يترنحون بين الليبراليين والبروليتاريا الثورية. وهذا الترنح والتردد والمراوحة ليس من قبيل الصدفة؛ فهذه السمات إنما هي نتيجة حتمية لطبيعة الظروف الاقتصادية المتحكمة في المنتج الصغير. فهو، من جانب، مضطهد ويتعرض للاستغلال، وهو بذلك يصبح مدفوعاً عن غير وعي للنضال ضد هذا الوضع والنضال من أجل الديمقراطية ومحو الاستغلال. لكنه، من الجانب الآخر، مالك صغير، وغريزة الملكية تكمن داخل الفلاح – وإن لم يكن اليوم فسيكون غداً. وغريزة الملكية هذه هي التي تفرق الفلاح عن العامل، وتولّد لديه طموحاً كي يصبح شيئاً ما في هذا العالم، أن يصبح برجوازياً” (50).
“إن العناصر الديمقراطية في الريف ليس لديها القدرة على تشكيل منظمة صلبة” (51).
خطأ لينين وصوابه
أثبت انتصار ثورة 1917 أن لينين كان مخطئاً في محورين هامين: أولاً فيما يخص تصوره السابق حول أن الثورة في روسيا هي ثورة برجوازية، ثانياً أن تأميم ومصادرة الأراضي سوف تقود إلى تطور الاقتصاد الروسي على نحو أسرع وأوسع. كيف إذن كان باستطاعة لينين أن يلعب مثل هذا الدور الحاسم الذي قام به في نفس الثورة؟ تتلخص الإجابة بالأساس في القلب المركزي والصلب للاستراتيجية والتاكتيك الذي تمسك به لينين، حتى بالرغم من بعض الأخطاء التي وقع فيها، والذي قاد إلى هذا الانتصار الحاسم الذي أحرزته الثورة البروليتارية.
“حتى إذا كانت ثورتنا برجوازية في مضمونها الاقتصادي (ولا شك في ذلك)، لا يمكن أن نستنتج من ذلك أن الدور القيادي في الثورة ستقوم به البرجوازية.. أن البرجوازية هي القوة المحركة لها. هذا الاستنتاج، الذي اعتاد عليه بليخانوف والمناشفة، هو ابتذال للماركسية وكاريكاتور لها. إن قيادة الثورة البرجوازية، سواء كانت ملاك الأراضي الليبراليين مع أصحاب المصانع والتجار والمحامين، إلخ، أو كانت البروليتاريا مع الفلاحين، في كلتا الحالتين تحتفظ الثورة بطابعها البرجوازي. لكن درجة إفادتها للبروليتاريا، درجة إفادتها للاشتراكية.. تختلف بشكل كامل في كل حالة عن الأخرى.
من كل ذلك يستنتج البلاشفة التاكتيكات الأساسية للبروليتاريا الاشتراكية في الثورة البرجوازية، لجذب البرجوازية الصغيرة الديمقراطية وانتشالها من الليبراليين، ولشل البرجوازية الليبرالية المهتزة، ولتطوير نضال الجماهير للقضاء الكامل على بقايا العبودية بما يشمل الملكية الإقطاعية للأرض” (52).
جادل لينين بأنه، على الرغم من الطابع البرجوازي الديمقراطي للثورة، ينبغي على الفلاحين إبداء أقصى درجات المبادرة والديمقراطية الثورية من خلال بناء منظمات محلية مستقلة للنضال دون انتظار ذلك من أعلى، حتى من المؤسسات التي تولد من رحم الثورة، كالجمعية التأسيسية لاحقاً في 1917.
“هناك طريق وحيد لإنجاز الإصلاح الزراعي، والذي لا يمكن تجنبه أو التغاضي عنه في روسيا اليوم: يجب أن يتم بالمبادرة الثورية للفلاحين أنفسهم، رغماً عن كبار الملاك والبيروقراطية، رغماً عن الدولة، أي أن يتم بالوسائل الثورية.. وهذا هو الطريق الذي نشير إليه عندما نرفع مطلبنا الأساسي ببناء لجان فلاحية ثورية” (53).
رأى ماركس، على خلفية خبرة كوميونة باريس 1871، أن “الطبقة العاملة لا يمكنها أن تستولي على جهاز الدولة القائم بالفعل كي تديره لمصالحها”، بل أن “تحطمه، وهذا هو الشرط المسبق لكل ثورة شعبية حقيقية”. أما لينين، فقد كرر أصداء نفس الفكرة فيما يخص القضية الزراعية: “لا يمكن للفلاحين إنجاز الثورة الزراعية من دون إزاحة النظام القديم والجيش النظامي والبيروقراطية بالكامل؛ فتلكم هي الدعائم الأساسية للإقطاعية والمرتبطة بها بآلاف الروابط” (54).
وإضافةً إلى ذلك، حتى برغم أن الثورة كانت فقط برجوازية ديمقراطية، إلا أنها احتفظ ببعدها الأممي:
“إن الثورة الروسية تستطيع إحراز النصر بقواها الخاصة، ولكنها لا تستطيع وحدها، في أية حال من الأحوال، أن تصون انتصاراتها وتوطدها. إنها لا تستطيع بلوغ هذا الهدف، دون قيام الثورة الاشتراكية في الغرب؛ وإلا غدت العودة محتومة، سواء كان الأمر يتعلق بإشاعة الملكية البلدية، أم بالتأميم، أم بالتوزيع؛ لأن المالك الصغير سيكون دعامة العودة مهما كانت أشكال الملكية ووضع اليد. فبعد انتصار الثورة الديمقراطية الكامل، سينقلب المالك الصغير حتماً ضد البروليتاريا، وبسرعة تزداد بقدر ما يتم بسرعة إسقاط الأعداء المشتركين للبروليتاريا ولصغار الملاكين، أي الرأسماليين، والملاكين العقاريين، والبرجوازية المالية، إلخ. وليس لدى جمهوريتنا الديمقراطية من احتياطي غير البروليتاريا الاشتراكية في الغرب” (55).
النضال الذي لا هوادة فيه ضد البرجوازية الليبرالية، عدم الثقة في حزب الفلاحين المتردد والمذبذب والاستقلال عنه، دفع الفلاحين للتحرك المباشر بأنفسهم، الكفاح من أجل تحطيم جهاز الدولة البوليسي البيروقراطي القديم، التشديد على البعد الأممي للثورة، كل تلك الأفكار التي بلورتها ثورة 1905 شكلت اللب الحي للسياسات التي انتصرت بها الثورة الروسية 1917. أما هذا الغطاء البرجوازية الديمقراطي للثورة فقد أزاحته على الفور عواصف المعارك الثورية المستقبلية. لكن لسوء الحظ، شكل التناقض بين الجوهر المتماسك لسياسات لينين في 1905 وما بعدها، والغلاف البرجوازي الديمقراطي لتصوراته لطابع الثورة، عاملاً هاماً في أزمات الحزب البلشفي وحالة الشلل التي أصابت قيادته في الأيام والأسابيع التي تلت ثورة فبراير 1917 قبل عودة لينين إلى روسيا ليعيد صياغة تلك السياسات البلشفية القديمة التي كان قد رسمها ورسخها بنفسه من قبل.
البروفة الكبرى
على الرغم من الهزيمة التي تلقتها ثورة 1905 في نهاية المطاف، إلا أن كانت لها أهمية فائقة في كشف أهداف ومصالح الطبقات الاجتماعية المختلفة، ونقاط قوتها وضعفها، ووزن وأهمية كل منها في المجتمع الروسي، وكذلك العلاقات المتغيرة بينها. خلقت الثورة أيضاً حالة من الفرز الشامل لكافة الأحزاب السياسية المتواجدة على الساحة. وفي وجهة نظر لينين، وفرت سنوات الثورة والتراجع، 1905 – 1907، فرصة هائلة للجماهير لجني الخبرة ولتعلم درساً يسري في دمائها وقلوبها وعقولها.
خلال تلك السنوات انكشفت بجلاء الطبيعة الحقيقية للطبقات والأحزاب، واجتازت كافة الأحزاب “المرحلة الجنينية في تطورها”:
“للمرة الأولى شهدت الطبقات انقساماً واضحاً واتخذت أشكالاً محددة في صراع سياسية مفتوح خلال تلك الفترة؛ بحيث أصبحت الأحزاب السياسية تعبر بدقة لم يسبق لها مثيل عن مصالح ووجهات نظر الطبقات التي تمثلها، والتي نضجت خلال هذه السنوات الثلاث مئات الأضعاف أكثر من النصف قرن المنصرم” (1).
الليبراليون على سبيل المثال:
“كان معروفاً قبل الثورة بالمجتمع الليبرالي أو الليبرالي النارودني، أو أولئك المتحدثين بإسم القسم “المتنوّر” من “الأمة” ككل، ما كان معروفاً بالمعارضة النخبوية، معارضة النبلاء، والتي كانت تبدو متكاملة، منسجمة في تخللها للزميستفوات والجامعات والصحافة “المعتدلة اللائقة”، إلخ، كل تلك الأشكال أظهرت نفسها في الثورة في صورة مؤيد البرجوازية، واتخذت ما نقول عليه اليوم موقع الثورة المضادة من وجهة النضال الجماهيري للبروليتاريا الاشتراكية والفلاحين الديمقراطيين. هذه البرجوازية الليبرالية المعادية للثورة قدمت إلى الوجود وتنمو بالفعل” (2).
وبالتأكيد أبرزت التطورات العاصفة الدور القيادي للبروليتاريا في الثورة:
“إن الدور القيادي للجماهير البروليتارية خلال الثورة بأكملها وفي كافة ميادين النضال، من المظاهرات حتى الانتفاضة، وصولاً (بحسب الترتيب الزمني) إلى النشاط البرلماني، قد صار واضحاً للجميع بجلاء خلال هذه الفترة إذا نظرنا إليها في كليتها” (3).
كانت الثورة مدرسة حقيقية للجماهير:
“جنت الملايين خبرة عملية هائلة ومتعدد الأشكال، من النضال الجماهيري الحقيقي، من النضال الثوري المباشر، الذي تضمن الإضراب العام، وطرد الملاكين العقاريين وحرق قصورهم، وصولاً إلى الانتفاضة المسلحة” (4).
إن التدريب الأفضل للجماهير يتم خلال النضال نفسه. قال لينين في محاضرة قدمها لمجموعة من العمال الشباب في زيوريخ في 9 يناير 1917، حول ثورة 1905:
“عندما تتحدث الطبقة العليا البرجوازية، وأولئك الذين يدافعون عنها ويرددون أصداء ما تقول، وكذلك الإصلاحيين الاجتماعيين، عن “توعية” الجماهير، فهم عادةً ما يقصدون شيئاً متحذلقاً، شيئاً يُضعف معنويات الجماهير ويثبط عزيمتهم، شيئاً يغرس فيهم الانحيازات البرجوازية.
إن توعية الجماهير لا يمكن أن تنفصل عن نضالهم السياسي المستقل، لا سيما نضالهم الثوري. فقط هذا النضال هو ما يوعي ويدرب الطبقة المستغَلة، فقط هذا النضال هو الذي يكشف قوة الجماهير لنفسها، هو الذي يوسّع أفقها، ويثري قدراتها، ويصلب عودها وإرادتها” (5).
“في هذه الصحوة الجماهيرية الهائلة للوعي السياسي والنضال الثوري تنكشف الأهمية والتأثير التاريخي ليناير 1905” (6).
وبالرغم من أن العمال لم ينجحوا في كسب الثورة، إلا أن الثورة نجحت في كسب العمال:
“وخلال النضال المستعر في سنوات 1905 – 1907، اكتسبت البروليتاريا الروسية واكتسب الشعب الروسي ما قد يتطلب عقوداً كي تكتسبه شعوب أخرى. لقد كسبت جماهير الشغيلة الروسية تحررها من تأثير الليبرالية العاجزة والغادرة. لقد حاذت بنفسها موقع الهيمنة في النضال من أجل الحرية والديمقراطية كشرط مسبق للنضال من أجل الاشتراكية. لقد انتزعت لنفسها، ولكافة الطبقات المستغَلة والمضطهَدة في روسيا، القدرة على شن النضال الجماهيري الثوري، والذي من غيره لن يُنجز شيء ذا أهمية في تقدم الجنس البشري في أي مكان بالعالم” (7).
وظلت ثورة 1905 محفورة في أذهان جماهير العمال:
“ليس ما عليكم سوى الانتظار وستأتي ثورة 1905 مرة أخرى. هكذا يفكر العمال وينظرون إلى المستقبل؛ فبالنسبة لهم قدم لهم ذلك العام نموذجاً واضحاً لما يمكن فعله. أما بالنسبة للمثقفين والبرجوازية الصغيرة الخائنة، فكان ذلك هو “عام الجنون” الذي يقدم نموذجاً لما لا ينبغي فعله. بالنسبة للبروليتاريا، ينبغي أن يتضمن الاستيعاب النقدي لخبرة الثورة على تعلُّم ومعرفة كيفية تطبيق أساليب النضال بشكل أكثر كفاءة، من أجل شن إضراب أكتوبر الجماهيري وانتفاضة ديسمبر المسلحة على نحو أكثر جماهيرية واتساعاً، وأكثر تكثيفاً ووعياً” (8).
“يُقال أن الجيوش المنهزمة تتعلم الدرس جيداً.. هناك درساً واحداً غني عن التعريف ولا يعتريه أي شك تعلمته الجماهير من سنوات النضال الثوري الجماهيري وسنوات التراجع بعد ذلك، وهو الضربة القاضية التي أنهت كل ليونة وكل ترهل في النضال. لقد انقسمت بالفعل الطبقات والأحزاب وارتسمت بينهم التخوم الفاصلة التي لا غبار عليها” (9).
لقد أضفت الثورة على الأحزاب السياسية الأساسية أشكالاً ثابتة لا تتغير مع تقلبات الصراع:
“في فترات النضال الثوري المباشر، توضع الأساسات العميقة لكل طبقة بمعزل عن الأخرى، وتنقسم تلك الطبقات إلى أحزاب سياسية كبيرة، ويظل هذا الوضع مستمراً حتى أثناء فترات الركود والتراجع. قد تختفي بعض الأحزاب أو تتراجع عن المسرح السياسي، لكن مع التصاعد الجديد، تظهر القوى السياسية الأساسية حتماً مرة أخرى.. ربما بشكل مختلف، لكن بنفس الطابع والتوجه، طالما أن أهداف ومهام الثورة – التي تلقت الهزائم بهذا القدر أو ذاك – لم تتحقق بعد” (10).
إصرار لينين على مبادرة الجماهير
بالنسبة للينين، كانت ثورة 1905 تعني تأكيداً عملياً لإيمانه بالقدرات الخلاقة الهائلة لدى الطبقة العاملة، وهكذا كتب في “انتصار الكاديت ومهام الحزب العمالي” في مارس 1906:
“إنها فقط الفترات الثوري التي تتميز بدقة ومنهجية أوسع وأكثر ثراءاً، وأكثر انتظاماً وشجاعة ووضوحاً في صنع التاريخ، من فترات التطور الإصلاحي محدود الأفق. لكن الليبراليين يقلبون الحقيقة رأساً على عقب.. إنهم يعتبرون ركود الجماهير المضطهدة والمظلومة انتصاراً “للنظام” في إطار العمل البيروقراطي والبرجوازي. إنهم يملئون العالم ضجيجاً حول اختفاء الفكر والعقل حينما تبدأ “عامة الناس” في الانخراط في النشاط السياسي المباشر بدلاً من البيروقراطيين والصحفيين الليبراليين المرتزقة، إنهم يمئلون العالم ضجيجاً حينما يناضل “عامة الناس” من أجل تحطيم أدوات القمع، ومن أجل حوذ السلطة، ولاستعادة ما سُرق من الشعب – باختصار، حينما يستيقظ فكر وعقل الجماهير، ليس فقط لقراءة الكتب، بل للفعل المباشر، الفعل البشري الحيوي المباشر، لصنع التاريخ” (11).
ومرة أخرى:
“إن القدرات التنظيمية لدى الجماهير، وبالأخص البروليتاريا، والفلاحين أيضاً، تبرُز بشكل أقوى، وبشكل كامل، في فترات الزوابع الثورية، مليون مرة أكثر من فترات التطور الهادئ للتاريخ” (12).
وبعد عدة سنوات، عاد لينين إلى نفس النقطة مرة أخرى:
“الديمقراطي الحق – بغض النظر عما لديه من الأوهام في بعض الأوقات حول مصالح وتطلعات الجماهير – لديه إيمان بالجماهير، بحركة الجماهير، بشرعية مشاعرهم وأساليبهم في النضال” (13).
وفي محاضرة زيوريخ التي أشرت إليها للتو، قال لينين عن 1905 أنها:
“فجرت الطاقة الهائلة الكامنة لدى البروليتاريا. لقد أظهرت أن بإمكان البروليتاريا في الأزمنة الثورية – وأقول ذلك دون أي مبالغة، وبناءاً على معرفة دقيقة بتاريخ روسيا – أن تولد طاقة نضالية أعظم مائة مرة من الأزمنة العادية السلمية” (14).
التعلم من الجماهير
لقد رأينا كيف بدا الحزب البلشفي متأخراً عن الجماهير في الفترة بين 9 يناير 1905 وحتى تأسيس سوفييت بطرسبورج. كان لينين يشدد دائماً على ضرورة استناد الحزب إلى الجماهير:
“لم تأت شعارات الحزب كرد فعل فقط، بل أتت متأخرة عن سير الأحداث. فقد كانت أحداث 9 يناير، والإضرابات الجماهيرية التي تلتها، وتمرد بوتميكين، تسبق الثوريين أنفسهم” (15).
كان الدور المركزي للحزب هو أن “يسلط الضوء على النشاط الثوري الخلاق للجماهير التي، برغم نشاطها المحدود في أوقات الهدوء الاجتماعي، تتصدر الفترات الثورية بجدارة” (16)، وأن يدرك تمام الإدراك أن “القوة الحقيقية إنما تكمن في الوعي السياسي لدى الجماهير” (17)، وأن يقدّر “قبل كل شيء تطور الوعي الطبقي والسياسي لديها” (18).
ينبغي على الحزب أن يبقى مع الجماهير في النضال، سواء في الانتصار أو الهزيمة، سواء عندما تتخذ الخطوات الصحيحة أو عندما تقع في الأخطاء الفادحة. أوضح لينين هذه الفكرة جيداً، وكتب بعد انتصار ثورة أكتوبر البلشفية في 1917، أن:
“بناء صلات لا تنكسر مع جماهير العمال، والقدرة على التحريض دون توقف، والاشتباك مع كل إضراب، والاستجابة لكافة متطلبات الجماهير: هذا هو الدور الرئيسي للحزب الشيوعي” (19).
“إن الأخطاء حتمية الحدوث عندما تناضل الجماهير، لكن الشيوعيين يبقون مع الجماهير وفي القلب منهم، يلاحظون هذه الأخطاء، ويشرحونها للجماهير، ويحاولون تصحيحها دائماً، ويناضلون بكل دأب ومثابرة لتغليب الوعي الطبقي على العفوية” (20).
حينما تحدث لينين عن الجماهير المناضلة، لم يكن يعني بالضرورة أغلبية الطبقة العاملة. وصحيح أن على الحزب الثوري أن يكون منغرساً داخل الطبقة العاملة، لكن أيضاً ليس بالضرورة أن ينغرس في الطبقة ككل، ولفترة تاريخية طويلة قد يبني الحزب قواعده بين صفوف الأقلية الطليعية من الطبقة العاملة، كما كتب لينين في 22 أغسطس 1907:
“إن عدم تأييد حركة الأقلية الثورية إنما يعني بالتالي رفض كافة الأساليب الثورية للنضال. إنه لأمر لا يقبل الجدل أن أولئك الذين شاركوا في الحركة الثورية خلال العام 1905 كانوا يمثلون أقلية ثورية لأنهم لم يحققوا نجاحاً كاملاً في نضالهم، ومع ذلك فهم جماهير رغم كونهم أقلية. لكن كل النجاحات التي حققتها حركة التحرر في روسيا، وكل المكاسب التي انتزعتها، كانت كلها وبدون استثناء، نتاجاً لنضال الجماهير المناضلة وحدها، والتي كانت في الحقيقة أقلية” (21).
في يناير 1905، اعتقد أغلب العمال أنه يمكن مخاطبة القيصر وتقديم مطالبهم له، لكن الأحد الدامي قد فتح عيون وعقول الملايين منهم، وفي أكتوبر ظنوا أن الاحتجاج ضد القيصر كفيلاً بإجباره على تقديم تنازلات هامة. لكن الإضراب العام في أكتوبر أثبت أن الأمور لا تسير على ذلك النحو، وجاءت الخطوة التالية بحمل السلاح ضد أوتوقراطية القيصر. لكن ذلك مرة أخرى لم يكن مقبولاً من أغلبية الطبقة العاملة، فيما تحركت فقط أقلية من عمال موسكو في انتفاضة ديسمبر المسلحة.
إن الحزب الثوري المتجذر في القطاع المتقدم من الطبقة العاملة يتعلم من العمال ويعلمهم خلال النضال.. وبكلمات أخرى: يقوم بدور الأستاذ والتلميذ في نفس الوقت.
1905: مدرسة البلاشفة
كانت ثورة 1905 مدرسة حقيقية للحزب العمالي الثوري؛ فالثورة هي الاختبار الأمثل للنظريات والبرامج، ولقد حطمت الثورة كل أنماط الغموض والخيال في النظرية الثورية إذ تطلبت تماسكاً نظرياً لا يلين. وكما أن الثورة تكسر حالة الروتين والخمول في وعي العمال المتقدمين، فهي أيضاً تتطلب من الحزب مهارات تكتيكية متميزة يستجيب بها للتغيرات الحادة في مجرى الصراع، ودرجة عالية من القدرة على التكيف مع التغيرات السريعة في احتياجات الحركة.
لقد أوضحت الثورة ليس فقط العلاقة بين الحزب الطليعي والطبقة العاملة، لكن أيضاً بين قادة الحزب وقواعده. في 1905، كان لينين قائداً حزبياً بارزاً لا يرقى إليه الشك، لكن التطورات الثورية تطلبت منه جهداً مستمراً في التفكير والتنظيم، وكان عليه أيضاً في بعض الأحيان أن يناضل داخلياً ضد توجهات حزبه. يمكننا أن نكتب الكثير من الفصول التي تتناول خبرة 1917 على ضوء تجربة الثورة في 1905 وما حدث للقيادة اللينينية من دون لينين. لكن إذا كانت 1905 قد أصقلت البلاشفة بالخبرة والتمرس، فإن أكثر من أصقلت كان لينين نفسه الذي تعرضت أفكاره وتكتيكاته وبرنامجه للاختبار الأشرس خلال تلك الفترة.
كان لينين متفوقاً في وضوحه التام في القضايا الجوهرية والأكثر إلحاحاً في الثورة، حيث الدور القيادي للطبقة العاملة واستقلالها عن الليبراليين، ودور السوفييت كشكل تنظيمي للنضال الثوري وكنواة للحكومة الثورية المستقبلية، وحول فن الانتفاضة. وبالرغم من صحة استراتيجية وتكتيك لينين، انهزمت ثورة 1905 في نهاية المطاف لأن البروليتاريا وحزبها لم يتطورا بما فيه الكفاية نحو الانتصار. وبالنسبة للينين مثلت ثورة 1905 مدرسة هائلة أعدته هو وحزبه للاختبار الأكثر حسماً في 1917.
وكما كان ماركس وإنجلز يعودان مرة بعد أخرى خلال أيام الركود والتراجع في الصراع إلى 1848 كنقطة انطلاق في تحديد شكل ومسار الحركة العمالية الثورية في المستقبل، كان لينين أيضاً يستند دائماً إلى خبرات 1905 خلال السنوات اللاحقة. إن النضال الجماهيري الثوري خلال تلك الفترة هو بالذات ما انطلق منه لينين في صياغته، وإعادة صياغته، لاستراتيجية البلشفية وتكتيكها.
انتصار الردة الرجعية
الثورة لازالت تتقدم
على الرغم من تراجع الثورة لعدة أشهر، كان لينين لا يزال يعتقد أنها تشهد تصاعداً قوياً. وهكذا كتب بعد فترة وجيزة من هزيمة انتفاضة موسكو المسلحة في ديسمبر 1905:
“ما هي حالة الثورة الديمقراطية في روسيا اليوم؟ هل هُزمت، أم أننا نمر فقط عبر حالة من الهدوء المؤقت؟ هل مثلت انتفاضة ديسمبر ذروة الثورة، ونحن بذلك متوجهين، بعد هزيمتها، إلى حكم “تأسيسي قيصري”؟ أم أن الحركة الثورية بشكل عام تتصاعد في الإعداد لموجة جديدة، مستخدمة حالة الركود النسبي لحشد قوى جديدة، متوعدة بعد هزيمة الانتفاضة الأولى بانتفاضة ثانية ذات فرص أوفر كثيراً في الانتصار؟” (1).
وأجاب على هذه الأسئلة كالتالي:
“قد لا تندلع الموجة الجديدة في الربيع، لكنها قادمة، وفي كل الأحوال ليست بعيدة. علينا أن نستعد لها متسلحين ومنظمين عسكرياً، وجاهزين للعمليات الهجومية”.
ووفقاً لذلك، قرر مؤتمر البلاشفة، المعقود في فنلندا بين 12 إلى 17 ديسمبر 1905:
“حشد كافة منظمات الحزب لاستخدام الجمعيات الانتخابية على أوسع نطاق، ليس استسلاماً لقيود الشرطة في انتخابات الدوما، لكن لتوسيع رقعة التنظيم الثوري للبروليتاريا، وللتحريض بين كافة طبقات الشعب من أجل الانتفاضة المسلحة. ينبغي التجهيز للانتفاضة على الفور، ومن دون تأجيل، وفي كل مكان، حيث أن انتصار الانتفاضة وحده هو الذي سيوفر إمكانية التمثيل الشعبي الحقيقي، والذي يتمثل في جمعية تأسيسية منتخبة بشفافية على أساس الاقتراع السري المباشر والمتساوي” (2).
وبعد ذلك بثلاثة أشهر، في مشروع قرار قدمه لمؤتمر وحدة حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، كان لينين مازال مصراً على أن الانتفاضة احتمال قائم بالفعل: “في الوقت الراهن لا تعد الانتفاضة المسلحة وسيلة ضرورية للقتال من أجل الحرية فقط، بل مرحلة وصلت إليها الحركة بالفعل” (3).
وفي بداية يونيو 1906، كتب: “لعله من الواضح أننا نمر اليوم عبر واحدة من أكثر فترات هذه الثورة أهمية. إننا نشهد، ومنذ فترة طويلة، إشارات واضحة لصحوة الحركة الجماهيرية العريضة ضد النظام القديم، والآن تصل هذه الصحوة ذروتها” (4). وفي يوليو، ظل لينين يرى الثورة في تصاعد: “تتزايد إمكانيات شن حركة فورية عبر روسيا كلها. وتتزايد احتمالية دمج الانتفاضات الجزئية في انتفاضة شاملة واحدة. أما حتمية إضراب سياسي وانتفاضة تقاتل من أجل السلطة، فلها جذور تستشعرها قطاعات عريضة من الشعب” (5).
وعلى الرغم من ذلك، عمد لينين في بداية ديسمبر، أي بعد ستة أشهر، إلى مراجعة موقفه. وبدون أي اعتذارات، أوضح لماذا كان مختلفاً في تقديره عن الآخرين – وبالأخص المناشفة – الذين قد اعترفوا منذ شهور عدة بهزيمة الثورة:
“إن الماركسي هو أول من يرى اقتراب المد الثوري أثناء سعيه لإيقاظ الشعب إلى ناقوس الخطر بينما أولئك السياسيون ضيقو الأفق لا يزالون يمكثون في سُباتهم الوضيع. الماركسي هو أول من يأخذ طريق النضال الثوري المباشر.. وآخر من يعطي ظهره لهذا الطريق، ويفعل ذلك فقط حينما تنفذ كافة الإمكانيات المحتملة، حينما ينعدم الأمل في النهوض الثوري خلال فترة قصيرة، حينما تختفي إمكانيات الدعوة للإضراب العام أو للإعداد للانتفاضة، إلخ. لذا فإن الماركسي يتعامل بازدراء واحتقار شديدين مع أولئك المرتدين الذين يصيحون: إننا أكثر تقدمية منكم.. نحن أول من دعا للثورة.. نحن أول من طرح الملكية الدستورية” (6).
لا يمكن أن يقبل الثوري الهزيمة دون أن يلمس حقائق مادية غير قابلة للشك تدل على تلك الهزيمة.. وهكذا فإن الثوريون هم آخر من يرحل عن ميدان المعركة.
وجهة نظر خاطئة
في العام 1907، بدأ الاقتصاد العالمي ينزلق نحو أزمة عميقة، تلك الأزمة التي توقع لينين أن تجلب نضالاً ثورياً عميقاً وواسعاً وتدفع الملايين للانخراط في الحركة الثورية مرة أخرى. وهكذا كتب في مسودة قرار للمؤتمر الخامس لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي: “هناك عدداً من الحقائق التي تثبت لأقصى درجة تكثيف النضالات العمالية في المستقبل القريب.. هذه التحركات الاقتصادية يجب النظر إليها باعتبارها مصدراً لكل الحالة الثورية التي تتطور في روسيا” (7).
وفي القلب من الماركسيين الروس الذين هيمنت عليهم فكرة أن الأزمة الاقتصادية من الضروري أن تولد نضالاً ثورياً، كان الاستثناء الوحيد في فهم العلاقة بين الأزمة الاقتصادية والنضال الثوري، هو ليون تروتسكي، والذي أثبت صحة وجهة نظره ببراعة فريدة:
“بعد فترة من المعارك والهزائم الكبرى، قد تؤدي الأزمات الاقتصادية، لا إلى استنهاض طاقة الطبقة العاملة في النضال، بل إلى سواد حالة من الإحباط بين صفوفها، بحيث تدمر ثقة العمال في قوتهم الجماعية وتقتلهم سياسياً. وفقط نهضة صناعية تستطيع أن تضخ دماءاً جديدة في شرايين الطبقة العاملة، وتعيد لها ثقتها بنفسها، وتجعلها قادرة على النضال مجدداً” (8).
كان تروتسكي محقاً تماماً في استنتاجه، وها هو يوضحه بشكل أفضل مسقطاً إياه على خبرة العام 1907، حيث كتب أن:
“الأزمة الصناعية العالمية، والتي اندلعت في 1907، قد أطالت أمد الركود الاقتصادي في روسيا ثلاث سنوات أخرى، ولم تدفع العمال على الإطلاق لشن نضالاً جديداً، بل بعثرتهم وأضعفتهم أكثر من أي وقت مضى. وتحت الضربات المتتالية بإغلاق المصانع وتفشي البطالة والفقر، عاشت الجماهير المنهكة حالة إضافية من اليأس الذريع. ومثلت تلك الحالة هي القاعدة المادية لـ “إنجازات” رجعية ستوليبين. كانت البروليتاريا بحاجة لطفرة صناعية جديدة تنعشها وتعيد إحساسها بقوتها، تملء قواعدها، وتمنح لها مرة أخرى شعورها بأن لا غنى عنها في عملية الإنتاج، وتغمسها في النضال مجدداً” (9).
الرجعية تنتصر
سادت الرجعية البغيضة طيلة السنوات من 1907 إلى 1910، ويمكننا أن نقيس حالة التراجع في الحركة العمالية إذا ألقينا نظرة سريعة على الانخفاض المأساوي في عدد المشاركين في الإضرابات العمالية بعدما وصلت قمتها في 1905 (10):
العام
عدد العمال المضربين (بالألف)
النسبة إلى إجمالي العمال
1895 – 1904
431
1.46 – 5.10
1905
2,863
163.8
1906
1,108
65.8
1907
740
41.9
1908
176
9.7
1909
64
3.5
1910
47
2.4
“في 1908، وحتى في 1909، انخفضت أعداد المضربين حتى عما كانت عليه في السنوات العشرة التي سبقت الثورة” (11). بل وكان الانخفاض في الإضرابات السياسية ملحوظاً، كما هو موضح في الجدول التالي الذي يرصد إجمالي أيام الإضراب السياسي في السنوات من 1895 إلى 1908 (12):
العام
إجمالي أيام الإضرابات
إجمالي أيام الإضرابات السياسية
1895 – 1904
2,079,408
1905
23,609,387
7,569,708
1906
5,512,749
763,605
1907
2,433,123
521,647
1908
864,666
89,021
أدى تراجع الثورة إلى أن أصبحت يد الحكومة القيصرية مطلقة في القمع وفي إرهاب الطبقة العاملة:
“خلال فترة ديكتاتورية ستوليبين، صدر 5 آلاف حكماً بالإعدام، فيما تم إعدام 3500 شخص بالفعل، ويُقدّر ذلك على الأقل بثلاثة أضعاف من أُعدموا خلال فترة الحركة الجماهيرية (باستثناء الذين قُتلوا رمياً بالرصاص دون محاكمة بعد قمع الانتفاضة المسلحة)” (13).
تفكك الحركة العمالية
بمجرد أن بدأت الحركة الثورية في التراجع، بدأت أيضاً الحكومة القيصرية في استعادة الثقة والبطش بالحركة العمالية التي صارت تتفكك بسرعة كبيرة، وانعكست الهزيمة في وسط الطبقة العاملة في حالة من الانحطاط الحاد في معنوياتها. لم يكن بمقدر العمال الاستمرار في المقاومة لفترة أطول وتحللت الحركة العمالية بشكل كامل.
وفي 1 مارس 1908، كتب لينين:
“مرت أكثر من ستة أشهر على انقلاب الثالث من يونيو الرجعي، وبدون شك هذا النصف الأول من السنة يكشف عن تراجع وضعف كافة التنظيمات الثورية، بما يشمل تنظيمات الاشتراكيين الديمقراطيين. التذبذب، التعثر، والتفكك، تلك هي السمات العامة لنصف السنة المنصرمة” (14).
لكنه لم يستسلم بسهولة؛ فلقد تمسك بكل قشة يمكن أن تشير إلى صعود الحركة مجدداً، كزيادة توزيع الإصدارات السرية أو استمرار بعض المجموعات المحلية أو المصنعية في البقاء، إلخ. وفي يناير 1909، كان لدى لينين بعض الأمل حينما أعلن أن “المؤتمر الحالي لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي إنما يشير إلى نقطة تحول في مسار تطور حركة الطبقة العاملة بعدما انتصرت الثورة المضادة” (15).
لكنه لم يبن تفاؤله على أي قاعدة تُذكر، وهكذا تبخرت كافة مؤشرات الصعود في الحركة الجماهيرية. وفي الحقيقة، شهد المؤتمر الذي أشرت إليه – والذي عُقد في ديسمبر 1908 – حضور أربعة مندوبين فقط من روسيا (16)، حينها وصف جوزيف ستالين الوضع المزري للحزب في مقالة بعنوان “أزمة الحزب ومهماتنا”، كالتالي:
“لعله ليس خافياً على أحد أن حزبنا يمر اليوم بأزمة حادة وعسيرة. كل تلك المظاهر، من فقدان الحزب عضويته، وانكماش وضعف منظماته، وعزلة هذه المنظمات عن بعضها البعض، وغياب العمل الحزبي المنسق والمنظم، إنما تشير إلى أن الحزب قد أصبح معتلاً وأنه يعيش حالة خطيرة.
وأول تلك العوامل التي تتسبب في إحباط الحزب هو عزلة منظماته عن الجماهير العريضة، ففي وقت من الأوقات كانت قواعد الحزب بالآلاف الذين يقودون مئات الآلاف، حينها كان للحزب جذوراً صلبة في أوساط الجماهير. لكن الوضع تغير الآن كثيراً، وبدلاً من الآلاف، هناك فقط عشرات، وفي أحسن تقدير مئات من الأعضاء الذين لازالوا باقين في منظمات الحزب. ولا يسعنا الكلام هنا لنتحدث عن قيادة الحزب سابقاً لمئات الآلاف، فيكفي الإشارة إلى أن كان لدينا في 1907 حوالي ثمانية آلاف عضو في بطرسبورج وحدها، لكننا اليوم نستطيع بالكاد أن نحشد 300 أو 400 منهم، وهذا وحده كفيل بتوضيح أي أزمة خطيرة نمر بها. ولن نتحدث أيضاً هنا عن الوضع في موسكو والأورال وبولندا والدونتس باسين، إلخ، حيث لا تقل الأزمة خطورة وعمقاً في الواقع. لكن هذا للأسف ليس كل شيء؛ فالحزب لا يعاني فقط من عزلته عن الجماهير، بل أيضاً من عزلة منظماته عن بعضها البعض. فسان بطرسبورج، مثلاً، لا تدري شيئاً عما يجري في الأورال، إلخ. وكل جزء من الحزب يعيش حياته المعزولة المنفصلة تماماً عن بقية الحزب.. باختصار، ليس لدينا اليوم حزباً يعيش حياة واحدة كما كنا في الفترة من 1905 إلى 1907” (17).
كانت حركة الحزب في واقع الأمر يسودها حالة من الفوضى التامة. فعلى سبيل المثال، كان لدى الحزب البلشفي في موسكو، في صيف 1905، 1,435 عضواً (18)، وفي صيف 1906 تضاعف العدد ليصل إلى 5,320 (19)، لكنه انخفض كثيراً في منتصف 1908 إلى 250 عضواً، وبعد ستة أشهر صار فقط 150. وفي 1910، اختفت منظمة الحزب تقريباً في موسكو، وذلك حينما كان منصب الأمين العام للمنظمة من نصيب كوكوشكين، والذي كان في الحقيقة عميلاً للأوخرانا (20).
كان المثقفون هم أول من هموا بمغادرة السفينة البلشفية فورما بدأت بالغرق. علّق لينين على رحيل المثقفين من الحزب بالجملة مستعيناً بالكثير من الخطابات والمراسلات التي تلقاها من رفاقه:
“مؤخراً، أصبحت منظمة المنطقة ميتة نتيجة افتقارنا للعمال المثقفين” – هكذا كتب أحد المراسلين من مصانع كوليباكي. “إن قوانا الأيديولوجية صارب تذوب مثل الثلج” – وهكذا كتب الرفاق من الأورال. “كل العناصر التي تتجنب المنظمات الغير شرعية بشكل كامل، والتي انضمت للحزب فقط في فترة الحراك الصاعد والحرية التي توافرت في الكثير من المناطق، كلهم تركوا منظمات حزبنا” (21).
وبعد عام, في نهاية يناير 1909، وصف لينين الحالة البائسة للحركة بالكلمات الآتية:
“عاماً من التحلل، عاماً من التفكك السياسي والأيديولوجي، عاماً من انجراف الحزب خلف ظهورنا. انخفضت عضوية كافة منظمات حزبنا، وبعضها – بالأخص تلك التي شملت عضوية أقل بروليتارية – انهار تماماً.
إن السبب الرئيسي لأزمة حزبنا هو المثقفون المترددون والعناصر البرجوازية الصغيرة، والتي كان على حزب العمال أن يتخلص منهم، تلك العناصر التي التحقت بحركة الطبقة العاملة أملاً بشكل رئيسي في انتصار مبكر للثورة البرجوازية الديمقراطية، فيما لم تقوى على الاستمرار في فترة الردة الرجعية. إن عدم استقرار تلك العناصر إنما برز في كل من النظرية (الارتداد عن الماركسية الثورية) والتاكتيك (تفريغ الشعارات من مضمونها) كما في التنظيم الحزبي” (22).
وفي خطاب لمكسيم جوركي، في فبراير أو أول مارس 1910، مرة أخرى ذكر لينين “الانهيار الحاد لمنظمات الحزب في كل مكان، وتوقفها التام في العديد من المناطق، ورحيل الإنتلجنسيا من الحزب بالجملة.. كل ما يتبقى لدينا الآن هو الحلقات العمالية والأعضاء الفرادى المعزولين. أما العمال الشباب غير المتمرسين فهم يشقون بطريقهم بصعوبة بالغة” (23).
وفي أكتوبر من نفس العام، كتب:
“إن الأزمة العميقة للحركة العمالية وحزب الاشتراكية الديمقراطية في روسيا لا تزال مستمرة. وتظل هناك الكثير من السمات السلبية في الوضع الحالي.. تفكك منظمات الحزب، والهجرة الجماعية للمثقفين من الحزب، والارتباك والتردد لدى الاشتراكيين الديمقراطيين الذي لا يزالون مخلصين، والإحباط واللا مبالاة السائدين بين قطاعات واسعة من البروليتاريا المتقدمة، وافتقار الدقة في تحديد طريق الخروج من هذا الوضع البائس” (24).
وفي ديسمبر، شكى لينين من أن “اللجنة المركزية داخل روسيا لم تعقد اجتماعاً واحداً خلال العام” (25). وفي مايو 1911، كتب: “في الوقت الحالي، يتلخص الوضع الحالي للحزب في أن، في أغلب المناطق، هناك مجموعات وأنوية عمالية غير تنظيمية وضئيلة للغاية تتقابل دورياً. هذه المجموعات ليس لها اتصال ببعضها، ونادراً ما يتلقون أي تثقيف” (26).
ساهم عملاء الشرطة السريون بشكل كبير في تفكيك حركة الحزب؛ ففي 1910 حتى بداية 1911، تم اعتقال كافة أعضاء اللجنة المركزية البلشفية المتواجدين في روسيا (27). تسللت الأوخرانا إلى كافة منظمات الحزب التي سادها بالتالي مناخ من الشك وغياب الثقة بين الرفاق، تلك الحالة التي أحبطت مبادرات العضوية وحماسهم النسبي. وفي بداية 1910، بعد عدد من الاعتقالات المحسوبة بعناية، أصبح كوكوشكين، عميل الأوخرانا، أميناً عاماً لمنظمة موسكو. ولم يكن الوضع أفضل حالاً في بطرسبورج؛ فقد فسدت القيادات وانهارت منظمات الحزب في المدينة، ولم يُعقد أي مؤتمر للحزب بالخارج بحضور ممثلين له من روسيا إلا وحضره عميل واحد للأوخرانا على الأقل.
وفي 1912، حينما بدأت الجريدة العلنية البلشفية اليومية، البرافدا، في الصدور، شارك اثنين من عملاء الأوخرانا (ميرون تشيرنومازوف ورومان مالينوفسكي) في هيئة تحريرها. وفي حين كان تشيرنومازوف محرراً ورئيساً لهيئة التحرير، كان مالينوفسكي محرراً مساعداً ومسئولاً للمالية في الهيئة. واستطاعت الشرطة، من خلال “مجهودات” مالينوفسكي، أن تحصل أيضاً على قوائم كاملة بكل من ساهم بتبرعات للجريدة وكافة المشتركين الذين يتلقونها يومياً. لم يكن مالينوفسكي مجرد عضو بارز في هيئة تحرير الجريدة، بل أيضاً مسئولاً عن مجموعة البلاشفة في الدوما، بل وعضواً في اللجنة المركزية للحزب. لينين نفسه كان منخدعاً فيه بدرجة تدعو للاندهاش؛ فلقد قال عنه: “لأول مرة يصبح لدينا، بين رفاقنا في الدوما، مثل هذا القائد العمالي الرائع” (28)، واعتاد لينين على دعوته بالخارج لحضور أكثر الاجتماعات أهمية وكان يطلعه دوماً على أكثر المعلومات سرية في حياة الحزب.
عبّر زينوفيف، الذي كان من أقرب الرفاق إلى لينين، عن الحالة التي وصل إليها الحزب كالتالي: “في هذه الفترة البائسة، أوشك الحزب بالفعل على الاختفاء من الوجود” (29).
الحياة في المنفى لا تُطاق
خلال فترة الردة الرجعية، عاش الثوريون في المنفى حياة لا تُحتمل. كان لينين يردد متذمراً: “أشعر أني جئت هنا كي أُدفن”، فيما علقت كروبسكايا: “كانت فترة الهجرة الثانية أكثر قسوة من الأولى بمراحل” (30). استمرت فترة الهجرة الأولى خمسة سنوات، حينها كانت الحركة تبدأ في تصاعد ملحوظ، لكن فترة الهجرة الثانية امتدت طيلة عشر سنوات وقد بدأت بهزيمة الثورة وانتصار الردة الرجعية وتفكك الحزب بشكل كامل.
عاش المهاجرون في المنفى فترة طويلة بائسة من العجز والعزلة، حيث تسربت إليهم روح الخصومة والتشكك، ونشبت فيما بينهم نزاعات ومشاجرات غاضبة، اتهموا فيها بعضهم بالخيانة والعمالة وأصبح كلٌ منهم يلوم رفاقه على الوضع الذي وصلوا إليه حيث الهزيمة والانكسار والإذلال والعذاب اليومي:
“الحياة في المنفى مؤلمة إلى أقصى حد.. نعيش في فقر وعوز دائمين، ونسبة الانتحار كبيرة بيننا، ونسبة مزعزعي الأعصاب لا تُصدق، كثيرة بشكل مخيف. كيف تجري الأمور على نحو مختلف مع الأناس المعذبين؟” (31).
وفي خطابه إلى أخته ماريا، في 14 يناير 1908، كتب: “نحن نُشنق من الأسى كل يوم في هذه الجينيف اللعينة.. إنه كابوس مفذع، لكن ليس بمقدورنا شيئاً لنفعله سوى أن نعتاد على ذلك” (32).
وبعد عشرة أشهر في جينيف، قرر لينين ورفاقه الانتقال إلى باريس، حينها كتب لوالدته: “نأمل أن توفر لنا مدينة كبيرة بعض الحياة، لقد سئمنا من البقاء في هذه المقاطعة المعزولة” (33).
إلا أنه كتب بعد ذلك بعام، في فبراير 1910: “باريس مستنقع فاسد من زوايا عدة.. لازلت غير قادر على التأقلم بشكل كامل، حتى بعدما قضيت عاماً كاملاً هنا” (34). وفي خريف 1911، حينما قدمت أنا لزيارته لم يكن باستطاعته أن يخفي عنها مرارة الهجرة الثانية، حينها تساءل في نبرة إحباط ثقيلة: “هل سنبقى أحياءاً لنشهد ثورة أخرى؟” (35). وفي رسالة أخرى لمكسيم جوركي، في 11 أبريل 1910، كتب: “العيش في المنفى هذه المرة أقسى مئات المرات من المرة الأولى قبل الثورة. المنفى والشجار المتواصل لا ينفصلان” (36).
وضعت كروبسكايا التوصيف التالي لبؤس المنفى:
“كنا نعيش فقراً مدقعاً. كان بمقدور العمال أن يقتصدوا ويدبروا قوت يومهم بهذا الكيف أو ذاك، لكن أوضاع المثقفين كانت سيئة للغاية؛ فليس من الممكن دائماً أن تصبح عاملاً بسهولة.. أتذكر في هذا الصدد الكثير من القصص الموجعة. حاول أحد الرفاق أن يعمل ماسحاً للأحذية، لكن لم يكن من السهل عليه أن يتعلم الحرفة، وكان عليه أن يغيّر عمله باستمرار، لقد عاش في حي عمالي بعيد عن بقية رفاقه المنفيين.. صار رفيقنا ضعيفاً للغاية من قلة الطعام إلى درجة أنه لم يكن يقدر على مغادرة الفراش، وكتب إلينا طالباً بعض المال، إلا أنه طلب ألا يُسلم المال مباشرةً إليه، بل أن يُترك مع البواب.
نيقولاي فاسيليفيتش سابوجكوف (كوزنيتسوف) وزوجته مثلاً، وجدا عملاً في طلاء الفخار، لكنهما كسبا القليل جداً من المال. كوزنيتسوف.. كانت قامته تذوي ووجهه ينكمش من التجاعيد من الجوع المستمر، لكنه لم يشكو قط.. كان هناك الكثيرون في مثل حالته.
أما الحالة الأكثر بؤساً فكان هو الرفيق بريجارا الذي شارك في انتفاضة موسكو المسلحة. عاش في أحد أحياء الطبقة العاملة في باريس، ولم يكن الرفاق يعرفون عنه الكثير. وفي أحد الأيام أتى بريجارا لزيارتنا وبدأ يتحدث متوتراً عن العربات المحملة بحزم الذرة وعن الفتيات الجميلات حولها، إلخ. كان من الواضح أن الرجل قد جن جنونه، ومن الوهلة الأولى ظننا أن ذلك ربما يكون بسبب الجوع الشديد والمستمر. بقى إيليتش معه شاحب الوجه مشفقاً عليه، بينما هرعت لطلب صديق لنا عمل أخصائياً نفسياً، وعندما أتى إلينا تحدث مع بريجارا، وبعدها قال أنه يعاني حالة من الجنون نتيجة الجوع، ورغم أن الحالة ليست حرجة، إلا أنها يمكن أن تتطور إلى جنون الاضطهاد الذي قد يدفعه للانتحار، وأن من الضروري أن يبقى بريجارا تحت الملاحظة.. لم نكن نعرف عنوانه، وبحثنا عنه كثيراً.. وبعد فترة طويلة من الاختفاء، عُثر على جثته في نهر السين مقيداً عنقه وساقيه بالأحجار.. بريجارا انتحر” (37).
ضعف الاتصال مع روسيا
أضافت العزلة عن التحركات الضئيلة، التي استمرت في روسيا بعد هزيمة الثورة، المزيد من التوتر على لينين ورفاقه في المنفى. وعملياً، لم يكن هناك أي تواصل بين لينين والرفاق في روسيا طيلة فترة الردة الرجعية.
كانت كافة صداقات وصلات لينين محصورة فقط في دوائر التجمعات الحزبية، وفي فترة المنفى كانت صلة لينين برفاقه ضعيفة للغاية. شهد مؤتمر ديسمبر 1908، كما أشرنا من قبل، حضور 4 مندوبين فقط من روسيا، وبعد المؤتمر بستة أشهر وفر اجتماع هيئة التحرير الموسعة لجريدة بروليتاري الفرصة للينين كي يقابل خمسة مندوبين من روسيا، لكن ثلاثة منهم كانوا قد حضروا بالفعل مؤتمر ديسمبر 1908، فيما كان اثنين قد هربوا لتوهم من سيبيريا، وفقد لينين أي صلة بهم بعد ذلك.
“بالرغم من أن مكسيم جوركي كان معارضاً للينين، إلا أن الكثير من المراسلات جمعت بينهما (1*). كان جوركي موفقاً كثيراً في المدرسة التي عقدها في كابري في أغسطس 1909، حتى برغم حضور فقط 13 من رجال اللجان الروس. سمح ذلك للينين أن يوسّع دائر معارفه بدرجة ما، حيث خرج خمسة طلاب وواحد من المحرضين من تلك المدرسة وهم لينينيين وأتوا بعد ذلك إلى باريس لمقابلة لينين، أما الثمانية طلاب الآخرين فقد حذوا حذو زملائهم بعد انتهاء المدرسة في ديسمبر.
وهكذا شاء القدر أن يقابل لينين فقط 22 من رجال اللجان الروس طوال الفترة من ديسمبر 1908 إلى ديسمبر 1909. لكنه لم يصادف أن قابل أي منهم طوال الخمسة عشر شهراً التالية حتى عقد مدرسته في ربيع 1911 في لونج جامو” (38).
لم تكن مراسلات لينين إلى روسيا هي الأخرى منتظمة، فقبل مؤتمر 1903 كتب لينين في المتوسط حوالي 300 رسالة شهرياً لرفاقه في روسيا، لكن خلال فترة الهجرة الثانية أوشكت المراسلات أن تختفي تقريباً. ولعل أكثر ما يدل على ذلك هو الطبعة الخامسة الروسية من الأعمال الكاملة للينين التي تتضمن مراسلاته إلى الرفاق في روسيا خلال تلك الفترة: 9 رسائل طيلة العام 1909، و5 في 1910، و7 في 1911، و8 رسائل في النصف الأول من 1912، ومن ثم زاد عدد رسائله إلى 31 في النصف الثاني من 1912، و43 في 1913، و35 في الأشهر السبعة الأولى من 1914″ (39).
لكن الرسائل التي كان يبعثها إليه الرفاق من روسيا كانت تزيد الطينة بلة؛ فالغموض كان سائداً في تلك الرسائل، ربما من أجل مراوغة الرقابة، وقد يكون الأمر بسبب أن ليس لديهم شيئاً ليكتبوا عنه، أو لأنهم كانوا يرغبون في نقل صورة غامضة له. وهكذا كان لينين يشكو بغضب: “بعث إليّ نيقولاي برسالة تعج بالصراخ، لكن عديمة النفع” و”الرسائل التي ترسلونها ليست إلا عبارات تليغرافية مختصرة وشديدة الغموض” و”تلقيت رسالتيكما وانتابتني الدهشة بحق.. هل هناك أبسط من أن تكتبوا رسائل بسيطة وواضحة” (40). وغالباً ما كان الرفاق منقطعين تماماً عن مراسلة لينين، وطيلة الفترة من 1909 إلى 1916، ذكر لينين الكثير من الملاحظات في رسائله المختلفة، مثل: “يا للتعاسة، لم نتلق أي أنباء منكم منذ فترة طويلة، نحن معزولون تماماً هنا، حاولنا أن نتواصل معك ومع فياتش لكننا لم نفلح في ذلك” (41)، أو “أيها الرفاق الأعزاء، لم نتلق أي أخبار منكم منذ وقت طويل (يقصد المكتب الروسي للجنة المركزية للحزب)” (42). كل هذه الملاحظات تتلخص ببساطة في هذا الرجاء: “أرجوكم بحق الرب، تواصلوا معنا أكثر من ذلك. التواصُل، التواصُل، التواصُل.. هذا ما لا نحظى به أبداً” (43).
تضاعفت تلك المصاعب في التواصل بالأخص بعد انهيار نظام توزيع الصحف البلشفية التي كانت تصدر أغلبها بالخارج، ولم يقم قائمة لهذا النظام أبداً بعد هزيمة ثورة 1905. وبالكاد كان يتم تهريب بعض النسخ من الخارج إلى روسيا. وبالإضافة إلى ذلك، غالباً ما كان يشكو رجال اللجان الروس من انفصال مضمون تلك الصحف عن الظروف التي تعيش في ظلها روسيا، أي أنها كانت عملياً عديمة النفع. وفي 1909، كتب ستالين:
“الصحف التي تصدر بالخارج، بالإضافة إلى أنها تصل روسيا بكميات زهيدة للغاية، إلا أنها أيضاً تنفصل بشكل كامل عن حياة الحزب داخل روسيا، لذا فهي غير قادرة على التعليق أو حتى أن تأخذ في الاعتبار القضايا التي تثير العمال وتشغل بالهم، وهكذا فلا يمكنها بالتالي أن تخلق روابط متينة بين المنظمات المحلية للحزب.
هذا التوجه في التفكير يعد نموذجياً للناشط “العملي” الذي يضع في اعتباره، في المقام الأول، العمل التنظيمي الذي يمارسه ويحافظ عليه في ظل ظروف قاسية، لكنه يبدو حانقاً على مجموعات النقاش التي يعقدها رفاقه المهاجرين. ترددت أصداء ما كتبه ستالين في مؤتمر براج في 1912، حين أعلن بياتنيسكي: “لقد هاجمت هيئة التحرير بعنف لأنها أحياناً تتغافل عن أن الجريدة المركزية – سوسيال ديمقراط – لا تخاطب فقط الرفاق بالخارج الذين هم على دراية بكافة صراعات الحزب، لكن بشكل أساسي تتعامل مع الرفاق داخل روسيا” (45).
كتب الدكتور ن. أ. سيماتشكو، الذي كان نفسه منفياً بالخارج: “عادةً ما تبدو نزاعات المهاجرين وكأنها صدامات حول ما جرى في الماضي، صدامات حول قضايا معزولة تماماً عما يجري في الواقع، وهذا صحيح إلى حد كبير” (46). أما الرفيق سورين سباندريان، فقد قال، في مؤتمر يناير 1912 الذي اُنتخب خلاله عضواً من سبعة أعضاء في اللجنة المركزية، معبراً عن شكه في حاجة الحزب لمجموعات المهاجرين من الأصل: “دعوا أولئك الذين يرغبون في العمل أن يأتون إلى روسيا بصحبتي” (47).
لينين يعلّم الحزب كيف ينسحب
إن قيادة الجيش أثناء الانسحاب لهي مهمة أكثر صعوبة بمراحل من قيادته أثناء الهجوم. ولا شك أن أكثر صفحات تاريخ البلشفية صعوبة وتعقيداً كانت هي سنوات التراجع، سنوات الهزيمة والانكسار، السنوات التي بقى فيها لينين معزولاً أكثر من أي وقت قبلها أو بعدها. بعد سنوات عدة، نظر لينين للخلف ولاحظ أن على القادة الثوريين أن يتعلموا كيف يتراجعون وكيف ينسحبون:
“يجب على الأحزاب الثورية أن تكمل تحصيلها. فلقد تعلمت الهجوم، أما الآن فيتعين عليها أن تفهم أن من الضروري أن تتمم هذا العلم بعلم كيفية التراجع الصحيح، يتوجب عليها أن تفهم – والطبقة الثورية تتعلم فهم ذلك بتجربتها المريرة – أنه يستحيل الانتصار بدون التضلع بالهجوم والتراجع الصحيح”.
واستطرد لينين بزهو بالغ:
“ومن بين جميع الأحزاب المعارضة والثورية المنهزمة، تراجع البلاشفة بأكبر نظام، وبأقل خسارة في “جيشهم” مختفظين بنواته بدرجة أكبر وبأقل انشقاق في صفوفهم (من حيث العمق واستحالة العلاج) وبأقل درجة من وهن الهزيمة وبأكبر قدرة على استئناف العمل على أوسع نطاق وبأقصى الصواب والنشاط. ولم يفلح البلاشفة في ذلك إلا بسبب أنهم فضحوا دون رحمة وطردوا الثوريين المتشدقين الذين لم يريدوا أن يفهموا أنه لابد من التراجع، وأنه لابد من المهارة في التراجع”.
وبشكل ملموس، كان ذلك يعني الانسحاب عن ميدان النضال الثوري المفتوح والمباشر، وبدلاً من ذلك: “تعلم العمل العلني في أكثر البرلمانات رجعية وفيما هو الأكثر رجعية بين النقابات والمنظمات التعاونية ومنظمات التأمين وما شاكلها” (48).
الموقف من انتخابات الدوما
احتلت قضية الموقف تجاه مجلس الدوما القيصري أهمية مركزية طيلة سنوات عدة، والجدالات التي دارت حول هذه القضية قادت لينين إلى الاختلاف مع أغلبية البلاشفة، وبالتأكيد مع المناشفة لعدة أسباب.
احتلت القضية صدارتها لأول مرة في مايو 1905، قبل مؤتمري البلاشفة والمناشفة في ذلك العام، حينما أعطى القيصر أوامره لوزير الداخلية آنذاك، بوليجين، للعمل على مسودة قرار بإنشاء جمعية استشارية تمثيلية. فضّل المناشفة المشاركة في انتخابات الدوما حتى عندما تم الإعلان عن الشروط المجحفة لها، في 6 أغسطس، والتي كشفت عن عدم ديمقراطية إجراءات الانتخابات نفسها، حيث تُجرى عبر عدة مراحل ينقسم فيها الناخبين وفقاً لحالتهم الاجتماعية، مع تمثيل ضئيل للعمال. أما البلاشفة، فقد اتخذوا موقف المقاطعة “الإيجابية والنشيطة” لهذه الانتخابات.
وفي بداية سبتمبر 1905، انعقد مؤتمر لكافة الاشتراكيين الديمقراطيين عبر البلاد، حيث ضم البلاشفة والمناشفة، والحزب الاشتراكي الديمقراطي اللاتفي والبولندي، والبوند اليهودي، والحزب الثوري الأوكراني، وقرر المؤتمر – باستثناء مندوبي المناشفة – تأييد موقف المقاطعة. وفي مقالة بعنوان “مقاطعة دوما بوليجين والانتفاضة”، في أغسطس 1905، شرح لينين مضمون موقف المقاطعة الذي تبناه كالتالي:
“في تمايز عن الامتناع السلبي عن المشاركة في الانتخابات، تقتضي المقاطعة الإيجابية النشيطة مضاعفة التحريض عشرة أضعاف، تنظيم الاجتماعات في كل مكان، والاستفادة من اجتماعات الانتخابات، وتنظيم المظاهرات والإضرابات السياسية، إلى آخره” (49).
وفي 11 ديسمبر، صدر تشريع يتضمن قانوناً انتخابياً جديداً، وبرغم تأكيد القانون على تقسيم الناخبين وفقاً لأوضاعهم الاجتماعية وإجراء الانتخابات عبر عدة مراحل، إلا أنه قد قدم تنازلات ذات شأن فيما يتعلق بتمثيل العمال والفلاحين في الدوما، حيث أقر القانون بزيادة عدد مرشحيهم. لكن أبقى القانون على تمثيل كبار ملاك الأرض والإقطاعيين أكبر بكثير من تمثيل الفلاحين، كما كان يتوجب على العمال والفلاحين أن يصوّتوا بمعزل عن الطبقات الأخرى من المجتمع.
“جعل القانون صوت الإقطاعي يكافئ ثلاثة أصوات للبرجوازي المدني، و15 صوت للفلاح، و45 للعامل. وعلاوة على ذلك، شكل الناخبون في المناطق العمالية 4% فقط من إجمالي المصوتين لمرشحي دوما الدولة” (50).
حينما جادل لينين في صالح مقاطعة انتخابات الدوما آنذاك، كان واضحاً في أن هذا التاكتيك مبني على فرضية أن الثورة في طريقها لاستجماع زخمها بشكل أكبر، وهكذا كتب: “إن المقاطعة النشطة أمر غير معقول بدون شعار واضح وفوري، والانتفاضة المسلحة فقط هي ما يمكن أن تكون هذا الشعار” (51). وبعد هزيمة انتفاضة موسكو المسلحة في ديسمبر 1905، ظل لينين يجادل في صالح موقف المقاطعة مستنداً إلى طرحه بأن كل ما حدث هو أن الثورة متوقفة بشكل مؤقت، والانتفاضة القادمة ليست بعيدة.
في النهاية، التزم كل من البلاشفة والمناشفة بمقاطعة انتخابات الدوما، بعد أن غيّر المناشفة موقفهم، إلا العديد من الاشتراكيين الديمقراطيين قد شاركوا بشكل فردي في الانتخابات في تحدي صارخ لتعليمات الحزب. حقق الكثيرون منهم نجاحات معقولة، فيما دفع المناشفة بشكل متسرع إلى قبول فكرة أنهم كانوا خاطئين في موقفهم بمقاطعة انتخابات الدوما. وحينما عُقدت الدوما في 28 أبريل 1906، كانت الجلسة الأولى تضم 14 من النواب الاشتراكيين الديمقراطيين الذين نظموا أنفسهم في مجموعات منفصلة. وفي انتخابات لاحقة، نجح خمسة مرشحين آخرين من المناشفة الجورجيين.
وفي مايو، علّق لينين على هذا النصر الانتخابي في مقالة بعنوان “النصر الانتخابي للاشتراكيين الديمقراطيين في تيفليس”:
“نحن نرحب بانتصار رفاقنا في القوقاز.. يعلم قراؤنا جيداً أننا كنّا في صالح المقاطعة.. لكن، بدون شك، إذا كان الاشتراكيين الديمقراطيين المنتخبين في الدوما يسيرون على الخطى الرئيسية للحزب، فنحن، كأعضاء حزب موحّد، سوف نبذل كل ما نستطيع من جهد لمساندتهم في واجباتهم الشاقة” (52).
وعندما انعقد مؤتمر حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي في ستوكهولم (أبريل – مايو 1906)، طرح مندوبي المناشفة من القوقاز أنه ينبغي على الحزب أن يتخلى عن موقف المقاطعة وأن يقدم مرشحين للانتخابات السارية. وفي حين كان رد فعل البلاشفة أن اتهموا نظراءهم المناشفة بالخيانة، شعروا بالصدمة حينما وجدوا لينين يصوّت مع المناشفة في صالح المشاركة في الانتخابات، مخترقاً بذلك التزام البلاشفة بالتصويت معاً.
وفي نهاية يونيو 1906، كتب لينين مبرراً موقفه:
“هل مقاطعتنا تعني بالضرورة ألا ينبغي علينا تشكيل مجموعتنا الحزبية في الدوما؟ بالطبع لا.. لقد كنّا ملتزمين ببذل كل ما نستطيع لمنع انعقاد هذا الكيان المزيف.. لكن طالما أنه انعقد برغم كل مجهوداتنا، فلا يمكن أن نتهرب من مهمة استخدامه” (53).
وفي 12 أغسطس، وضع لينين حداً لا لبس فيه للمقاطعة:
“على الجناح اليساري في الاشتراكية الديمقراطية أن يعيد النظر في مسألة دوما الدولة. لقد تناولنا تلك القضية دوما بشكل ملموس باتصال وثيق مع موقف سياسي محدد” (54).
“حان الوقت الذي يتوقف فيه الاشتراكيون الديمقراطيون عن المقاطعة، ولا ينبغي علينا أن نرفض المشاركة في الدوما الثانية إذا انعقدت. لن نرفض استغلال هذه المساحة، لكننا أيضا لن نبالغ في أهميتها، بل على العكس، سنعمل، مسترشدين بالخبرة التي يقدمها لنا التاريخ، على إخضاع النضال الذي نشنه داخل الدوما إلى نضال من نوع آخر خارج الدوما: الإضرابات والانتفاضات، إلخ” (55).
وبعدما أجرى هذا التحول في خطه السياسي، وجد لينين نفسه معزولاً بين رفاقه البلاشفة، وفي المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في فنلندا (21 – 23 يوليو 1907)، قدم لينين مشروع قرار ضد المقاطعة، في حين قدم المتحدث الرسمي بإسم البلاشفة، بوجدانوف، قراراً في صالح المقاطعة، ولم يحظى قرار لينين بتأييد أي من مندوبي المؤتمر، وفي المقابل اتهموه بخيانة البلشفية.
ذكر مشروع القرار الذي أعده لينين أن:
“1) المقاطعة النشيطة، كما أظهرت لنا خبرة الثورة الروسية، تعد تاكتيكاً سليماً يتبعه الاشتراكيون الديمقراطيون فقط في حالة موجة ثورية سريعة وكاسحة تتطور إلى انتفاضة مسلحة، وفقط في اتساق مع الأهداف الأيديولوجية للنضال ضد الأوهام البرلمانية النابعة من انعقاد الجمعية التمثيلية الأولى للنظام القديم.
2) وفي غياب تلك الظروف، فإن التاكتيك السليم للاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين هو الدعوة للمشاركة في الانتخابات كما كان الحال مع الدوما الثانية” (56).
لم يكن لينين يهتم بحقيقة أنه قد توصل لاستنتاج ضرورة التوقف عن مقاطعة الانتخابات متأخراً بعد المناشفة الذي سبقوه في ذلك، بل على العكس، فخطأ من هذا النوع ليس خطئاً على الإطلاق؛ فـ “الاشتراكي الديمقراطي الثوري ينبغي أن يكون الأول في اتباع المسار الأكثر حسماً والأكثر مباشرة في النضال.. وعليه أن يكون الأخير التكيف مع الأساليب الملتوية الغير مباشرة في النضال” (57) (2*).
كما أدرك لينين بعمق أن البلاشفة الذين يصرون على الاستمرار في المقاطعة يضمون العناصر الأكثر قتالية وتفانياً وإخلاصاً في النضال:
“لاشك أن التعاطف مع المقاطعة نابع على وجه الدقة، لدى الكثير من الناس، من رغبة محمودة لدى الثوريين في الحفاظ على تقاليد أفضل ماضي ثوري وتنشيط مستنقع الرتابة اليومية الكئيب بلهيب نضال شجاع مفتوح وحازم. لكن تمسكنا بالتقاليد الثورية العزيزة علينا هو، بالضبط، ما يلزمنا بالاحتجاج الشديد ضد اعتقاد أن تطبيق شعار حقبة تاريخية معينة يمكنه أن يستثير أهم شروط تلك الحقبة. إن الحفاظ على تقاليد الثورة، وإتقان الاستفادة منها لأجل دعاوة وتحريض متواصلين ولأجل تمكين الجماهير من معرفة شروط النضال المباشر والهجومي ضد المجتمع القديم، هو أمر يختلف تماماً من ترديد شعار منزوع من الشروط التي ولدته، وضمنت نجاحه، قصد تطبيقه على شروط مغايرة جوهرياً” (58).
طالب لينين البلاشفة بدرجة أعلى من الاستعداد لمواجهة التطورات العملية على أرض الواقع: “وبما أن الثورة المضادة اللعينة نجحت في اقتيادنا إلى حظيرة الخنازير اللعينة تلك، فسنعمل هناك أيضاً من أجل خدمة الثورة، من دون أنين، لكن أيضاً من دون تفاخر” (59).
وبعد سنوات عديدة، عاد لينين إلى نفس القضية، فكتب:
“كثيراً ما تفرض الظروف المساومات على الحزب المناضل بصورة لا مفر منها.. إن مهمة الحزب الثوري حقاً لا تفرض الامتناع عن كل المساومات التي لا مفر منها، بل تفرض معرفة الحزب كيف يبقى، عبر جميع المساومات التي لا مناص منها، مخلصاً لمبادئه ولطبقته ولمهمته الثورية، ولواجبه في الإعداد للثورة وتمهيد الطريق لجماهير الشعب من أجل إحراز النصر في الثورة.
إن قبول الاشتراك في الدوما الثالث والرابع كان مساومة، إذ كان عدولاً مؤقتاً عن المطالب الثورية، ولكنها كانت مساومة اضطرارية، لأن توازن القوى حينذاك حرمنا من إمكانية النضال الثوري الجماهيري، في حين كان ينبغي – من أجل الإعداد لهذا النضال خلال فترة طويلة – العمل أيضاً من خلال “حظيرة” كهذه. ولقد أثبت التاريخ صحة هذا النحو الذي سلكه حزب البلاشفة” (60).
الاستراتيجية والتكتيك (لينين يتعلم من كلاوزفيتز)
شهد العقدين بين 1894 – 1914 نضوجاً هائلاً في نضال وحركة الطبقة العاملة الروسية، وكان ذلك التطور بمثابة المدرسة الحية للاستراتيجية والتكتيك التي نشأ فيها لينين ليتأثر بها ويؤثر فيها. أرست تلك الفترة تمهيداً طويلاً للينين وللطبقة العاملة بشكل عام للاختبارات القصوى للاستراتيجية والتكتيك: المذابح المروّعة للحرب، وإنهاءها بقوة الثورة. والدروس المكثفة لكل تلك الفترة التمهيدية فقد كانت مستمدة بالأساس من ثورة 1905 وما بعدها.
الماركسية علم وفن
عندما اندلعت ثورة 1905، عمد لينين إلى دراسة الكتابات العسكرية لكارل فون كلاوزفيتز (1*)، ذلك الجنرال وفيلسوف الحرب الذي كان له تأثير كبير على لينين في تشكيل استراتيجيته وصياغة تكتيكاته السياسية.
عرّف كلاوزفيتز التكتيكات بأنها “نظرية استخدام القوى العسكرية في المعركة”، والاستراتيجية بأنها “نظرية استخدام المعركة لأهداف الحرب”. وقد استخدم لينين مفردات سياسية شديدة الشبه بتلك التي استخدمها كلاوزفيتز لتحديد العلاقة بين التكتيكات والاستراتيجية الثورية. ينطبق مفهوم التكتيكات على مجموعة التدابير اللازمة لتنفيذ مهمة محددة أو للاشتباك مع واحدة من معارك النضال الطبقي. وهكذا تحدث لينين عن التكتيكات اللازمة خلال أيام يناير 1905، وتكتيكات العمل في النقابات والبرلمان، إلخ. تشمل الاستراتيجية الثورية تركيبة من التكتيكات التي، بتكاملها واتساقها ونموها، تقود إلى استيلاء الطبقة العاملة على السلطة.
كانت الأممية الثانية، والتي صعدت خلال فترة النمو البطيء والعضوي والمنظم للرأسمالية والحركة العمالية، تحصر نفسها في الإطار الضيق للتكتيكات، أي المهام اليومية للنضال من أجل الإصلاحات في النقابات العمالية والبرلمان والأجهزة الحكومية المحلية والتعاونيات، إلخ. أما الحركة الثورية الروسية، والتي تطورت خلال فترات عصيبة ومليئة بالتغيرات السريعة والتحولات العاصفة، فقد كان عليها أن تواجه التساؤلات الأكبر للاستراتيجية وعلاقتها بالتكتيكات. ولم يكن هناك من هو أكثر قدرة من لينين في التعاطي مع هذه التساؤلات، حيث أدرك جيداً كيف يرتقي بالماركسية من مستوى العلم إلى مستوى الفن.
دائماً ما يُشار إلى الماركسية ليس فقط باعتبارها علم، بل مرشداً للعمل والحركة، لكن ينبغي علينا أيضاً بالإضافة إلى ذلك أن نعتبرها فناً. فالعلم يتعامل مع ما هو موجود، بينما يعلمنا الفن كيف نعمل ونتحرك، وقد كان الإسهام الأساسي للينين هو تطوير الماركسية باعتبارها فناً. فإذا كان ماركس قد مات دون المشاركة في تأسيس الأممية الأولى، فكان سيظل ماركس أيضاً كما هو. لكن لينين إذا كان قد مات قبل تأسيس الحزب البلشفي وقبل أن يلعب دوره القيادي في ثورة 1905 وفيما بعد في ثورة 1917، وقبل تأسيس الأممية الشيوعية الثالثة، لما كان سيظل هو لينين.
ومن أجل الارتقاء من النظرية إلى الممارسة، من العلم إلى الفن، كان على لينين توضيح العلاقة الجدلية بينهما؛ القواسم المشتركة والفوارق التي تميز كل منهما:
“ليست نظريتنا بدوجما، لكن مرشداً للحركة. وطالما كان ماركس وإنجلز يسخران من تكرار الصيغ المحفوظة عن ظهر قلب، والتي في أفضل الأحوال لن تكون قادرة سوى على رسم إطاراً للمهمات العامة، تلك المهمات التي تتغير بالضرورة بتغير الظروف الاقتصادية والسياسية لكل فترة في العملية التاريخية” (1).
هناك فرق كبير بين القوانين العامة الحاكمة لحركة المجتمع والظروف التاريخية الحقيقية والملموسة لها، ولا شك أن الحياة العملية أكثر تعقيداً من النظريات المجردة، حيث أن تداخل العوامل المختلفة وتفاعلها فيما بينها يجعل من غير الممكن أن يكون الإطلاع على بعض الكتب أساساً للتعرف على الحقيقة. كان لينين يكرر دائماً أن “النظرية يا صديقي رمادية، لكن شجرة الحياة الأبدية خضراء”. إن الحقيقة الحية أكثر ثراءاً، في تطوراتها واحتمالاتها وتعقيداتها، من التجريد أو التخمين النظري، وقد كان لينين دائم السخرية من أولئك الذين يحولون الماركسية إلى أيقونة: “الأيقونة هي شيء تقدسه، شيء تربط نفسك به، شيء تركع له، لكن ليس لها أي تأثير على الحياة العملية والسياسات العملية” (2). وفي خطاب إلى إينيسا أرماند، كتب لينين بمرارة بالغة أن “الجماهير في الأغلب (99% من البرجوازية، 98% من التصفويين، وبين 60 – 70% من البلاشفة) لا يعرفون كيف يفكرون، هم فقط يحفظون بعض الكلام عن ظهر قلب” (3).
إن العقبة الأساسية أمام الفهم اللا دوجمائي للماركسية، لاستخدامها كمرشد للحركة والفعل، إنما تكمن في الميل لإحلال ما هو حقيقي وملموس بما هو مجرد. يعد ذلك واحداً من الأخطاء الأكثر خطورة، بالأخص في الفترات الثورية والما قبل ثورية، حين تصبح التطورات التاريخية غير منتظمة، مليئة بالقفزات والتراجعات والانعطافات الحادة.
“ليس هناك ثمة شيء يُدعى الحقيقة المجردة؛ فالحقيقة دائماً ملموسة” (4).
“أي حقيقة مجردة تصبح، في حال تطبيقها على أرض الواقع الملموس، مجرد عبارة فارغة. ليس هناك من شك أن كل إضراب يحوي في داخله عناصر الثورة الاجتماعية، لكنه ليس معقولاً أن نفكر في أن بإمكاننا السير مباشرةً وفي خط مستقيم من الإضراب إلى الثورة” (5).
“أي قاعدة تاريخية عامة تُطبق على حالة معينة من دون تحليل خاص لظروف هذه الحالة المعينة لن تغدو سوى أن تصبح عبارة فارغة” (6).
وفي نفس الوقت، يعد الفهم العلمي للمعالم العامة للتطور النضال الطبقي تاريخياً في غاية الأهمية بالنسبة للقائد الثوري؛ فلن يكون القائد الثوري قادراً على الحفاظ على ثباته ومواقفه، خلال تحولات وانعطافات الصراع، إذا لم يكن لديه إدراك عام بالسياسة والاقتصاد. هكذا كان لينين يتحدث مراراً وتكراراً عن أن الاستراتيجية والتكتيك يجب أن يقوما على “تقييم دقيق للأوضاع القائمة” (7)، وفي نفس الوقت يتم “تشكيلهما بعد تحليل العلاقات الطبقية في مجملها” (8). وبكلمات أخرى، يجب أن يقوما على تحليل نظري واضح وواثق، وبشكل علمي.
إن التجريد النظري لا يمكن أن يتماشى مع الفعل الثوري؛ فالأمر المهم هنا هو “أن تكون واثقاً من أن الطريق الذي اخترته هو الطريق الصحيح. هذه الثقة، التي تضاعف الطاقة الثورية والحماس الثوري، يمكنها أن تصنع المعجزات” (9). وبدون فهم قوانين التطور التاريخي، لا يمكن الحفاظ على النضال صامداً وصلباً.
خلال سنوات الشقاء والإحباط ومعاناة العزلة، لا يمكن أن يستمر الثوريون بدون قناعة تامة بأن حركتهم لابد أن تتوائم مع التطور التاريخي. ومن أجل تجنب الارتباك والتخبط أثناء تحولات وانعطافات الطريق الطويل، لابد من التماسك الأيديولوجي الصارم، أما التشكك النظري فلا يمكن أن يتوافق مع الصرامة والحزم الثوريين. إن قوة لينين تنبع بالأساس من أنه دائماً ما كان يربط بين النظرية وعمليات تطور الصراع؛ فلقد كان يحاكم كل قضية أو مفهوم نظري على أساس علاقته بالاحتياجات والضرورات العملية، وبالمثل كان يحاكم كل خطوة عملية على أساس موائمتها مع النظرية الماركسية. لقد دمج بامتياز بين النظرية والممارسة. وبالتالي لم يكن على سبيل المبالغة أن يكتب المؤرخ البلشفي م. ن. بوكروفسكي أنك “لن تجد في لينين عملاً واحداً نظرياً خالصاً، كل عمل نظري له كان يحمل بعداً عملياً” (10).
لقد آمن لينين بالارتجال، لكن لكي لا يفسد هذا الارتجال ويتحول إلى مجرد انطباعات يومية متقلبة، يجب أن يكون مبنياً على فهم متماسك للنظرية، وقبل كل شيء فإن الممارسة بدون النظرية تقود حتماً إلى حالة من الضبابية والوقوع في الأخطاء. وعلى الجانب الآخر، فإن دراسة النظرية بمعزل عن النضال لا تعني إلا فصلها عن مجراها الحيوي – الحركة والممارسة – ولا ينتج عنها سوى مثقفين عديمي النفع. وهكذا فإن الممارسة يتم توصيفها بالنظرية، والنظرية يتم تفعيلها بالممارسة, والتراث الماركسي لا يتوغل في عقول ودماء الماركسيين إلا بالمشاركة في النضال.
إن النظرية هي تعميم لممارسات الماضي، وكما شرح الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي بوضوح، فإن “الأفكار لا تتولد من أفكار أخرى، أو الفلسفات من فلسفات أخرى، إنهم تعبيرات تتجدد باستمرار عن التطور التاريخي الحقيقي” (11). ولكي يكيّف المناضل الثوري نفسه على أي وضع جديد دون أن يفقد مبادئه، فهو بحاجة إلى الوحدة بين النظرية والممارسة.
أدرك لينين أن لا منظمة ثورية يمكن أن تحيا بدون معمل أيديولوجي دائم وحي وخلاق. كان دائم البحث عن طرق عملية يستخدم بها أبحاثه النظرية، لكن في نفس الوقت لم ينتابه أي تردد للإقلاع عن العمل السياسي اليومي في مقابل التفرغ لشهور من أجل الدراسة في المتحف البريطاني أو في المكتبة الوطنية الفرنسية (2*).
ينطلق برنامج الحزب الثوري، في مبادئه العامة، من الإمكانات التاريخية لدى الطبقة العاملة؛ أي يُستمد من الظروف الموضوعية المسيطرة على المجتمع بشكل عام ومن أوضاع الطبقة العاملة بشكل خاص. أما الاستراتيجية والتكتيكات فهما لا ينطلقا من الظرف المادي المهيمن، لكن من مستوى وعي العمال أنفسهم. إذا استطاع الوعي – الذي سماه ماركس بالبنية الفوقية الأيديولوجية – أن يعكس بشكل مباشر القاعدة المادية التي يقوم عليها المجتمع، إذن فينبغي أن تُستمد الاستراتيجية والتكتيكات مباشرةً من برنامج الحزب. إلا أن اشتقاق استراتيجية الحزب وتكتيكاته أمر معقد يتأثر بتراث وخبرة العمال، بما يشمل نشاط الحزب نفسه. الحزب الثوري، على سبيل المثال، يعارض نظام العمل المأجور القائم في المجتمع الرأسمالي، لكنه من الناحية التكتيكية عليه أن يكون منغرساً في نضال العمال من أجل أجور أعلى.
تحتاج القيادة الثورية ليس فقط فهماً عميقاً لمسارات الصراع، لكن أيضاً قدرة على طرح الشعارات المناسبة عند كل نقطة تحول في هذا الصراع. ولا يمكن لهذه الشعارات أن تُشتق بشكل مجرد من برنامج الحزب ومبادئه العامة، لكن أن تكون على توافق مع الظروف القائمة، وقبل كل شيء أن تكون منسجمة مع المزاج العام للجماهير، حتى تنجح هذه الشعارات في قيادة نضالات العمال. هذه الشعارات يجب أن تكون متوافقة ليس فقط مع المسار العام للحركة الثورية، لكن أيضاً مع مستوى وعي الجماهير. وفقط من خلال التطبيق العملي للخط السياسي العام للحزب، تظهر القيمة الحقيقية لهذه الشعارات بشكل جلي وواضح. لقد كانت الوحدة العضوية، بين النظرية من ناحية والتكتيكات العملية من ناحية أخرى، تمثل قلب نضال لينين ونشاطه الثوري.
“من دون برنامج، لا يمكن أن يبقى الحزب كياناً سياسياً متكاملاً قادراً على السير وفق المسار الذي حدده أياً كانت التحولات التي يمر بها. وبدون خط تكتيكي مرن، مبني على تقييم الوضع السياسي الجاري، مقدماً إجابات محددة لمواجهة “المشاكل المعقدة” التي نعيشها، قد نصبح في نهاية الأمر حلقة من المنظرين، لكن ليس كياناً سياسياً فاعلاً” (13).
والطريقة الوحيدة للتحقق من صحة الخطط الاستراتيجية أو التكتيكات هي اختبار الممارسة العملية، أي من خلال تطبيق هذه الخطط على خلفية خبرة التطور الفعلي للنضال الطبقي.
“ينبغي، بشكل دائم قدر الإمكان، التحقق من القرارات التكتيكية على ضوء الأحداث السياسية المتجددة. هذا التحقق وإعادة النظر بشكل دائم ضروريين من الزاوية النظرية والعملية معاً؛ من الزاوية النظرية من أجل التأكد من صحة القرارات التي اُتخذت وأي تعديلات تفرضها التطورات السياسية المتلاحقة بحيث تجعل من الضروري إدخالها، ومن الزاوية العملية من أجل التعلم كيفية استخدام هذه القرارات بشكل صحيح كمرشد للحركة، وكموّجه للتطبيق العملي” (14).
عبر تروتسكي عن هذه الفكرة بوضوح عندما كتب أن “نقطة الانطلاق البلشفية الأساسية هي الاعتقاد بأن الإنسان، كي يتعلم امتطاء الخيل، لابد أن يقوم بالمحاولة الأولى دون تهيئة مسبقة” (15). وفقط في مسار النضال نفسه، يمكن للثوري أن يتعلم الاستراتيجية والتكتيك. ومرة بعد أخرى، كان لينين يكرر كثيراً مقولة نابليون الشهيرة “فلنشتبك أولاً، ثم نرى – On s’engage et puis.. On voit”.
في الحرب، وبالأخص الحرب الطبقية أثناء الفترات الثورية، تتعدد الأمور المجهولة، ليس فقط في معسكر العدو الطبقي، لكن أيضاً في معسكر الثورة نفسه، الأمر الذي يستلزم تحليلاً هادئاً ورصيناً مصحوباً بجرأة في الارتجال والمبادرة مبنية على الحدس وعلى الخيال الخلاق.
“تتميز الماركسية عن باقي النظريات الثورية، بكونها تقرن، على نحو فريد، الوضوح العلمي التام في تحليل الوضع الموضوعي والتحليل الموضوعي، بالاعتراف الجازم بدور الطاقة والإبداع والمبادرة الثورية للجماهير، وأيضاً، وبالطبع، للأفراد أو التجمعات أو المنظمات أو الأحزاب التي تحسن اكتشاف وتحقيق الارتباط بهذه الطبقات أو تلك” (16).
لقد شدد لينين كثيراً على أنه من الضروري إدراك أفكار ومشاعر الجماهير بشكل ملموس في كل مرحلة، وقد تفوق لينين كثيراً في ذلك. وكما كتب تروتسكي: “يشتمل تسعة أعشار فن القيادة الثورية، في أحرج اللحظات، على معرفة استجلاء صوت الجماهير وإرادتها مع أن من الضروري أن تكون الرؤية أوسع مدى ومجالاً، وكان الذي يصنع أكبر قوة في وجود لينين هو قدرته التي لا يمكن أن تجارى في الخوض إلى أعماق الجماهير” (17).
وفقط في مسار النضال نفسه، يستطيع الحزب أن يتلمس ما يشغل بال الجماهير وما تستطيع الجماهير إنجازه في كل مرحلة. إن الماركسية لا تقبل ولا يمكن أن تنسجم مع الحتمية الميكانيكية والقدرية، أو مع الإرادوية، بل أن قاعدة الماركسية هي المادية الجدلية ومبدأ أن الجماهير تكتشف قدراتها وإمكانياتها فقط خلال حركتها. وبالتأكيد ليس هناك ما هو مشترك بين واقعية لينين والسياسة الواقعية السلبية والمبتذلة، فكما كتب لينين: “الديالكتيك الثوري للواقعية الماركسية يشدد على المهمات الملحة للطبقة المتقدمة، ويكتشف في الوضعية الراهنة للأشياء تلك العناصر التي ستؤدي إلى الإطاحة بها” (18). أدرك لينين جيداً ضرورة التقدير الرصين للقوى الحقيقية في الصراع، وأن الحزب الثوري نفسه يمثل عاملاً مركزياً في توازن هذه القوى. إن جرأة وقوة الحزب الثوري تعطي ثقة هائلة للعمال في نضالهم، وعلى العكس، ربما تقود هشاشة وتردد الحزب إلى انتشار السلبية والشعور بالإحباط بين صفوف الجماهير. والسبيل الوحيد لتحديد التوازن بين القوى وتقدير إرداة الجماهير في النضال، هو النضال نفسه الذي يسعى الحزب الثوري لقيادته.
وطالما أن النضال الثوري يتطور ويتغير، فإن على الثوريين أن يحذروا خطر التشبث بتكتيكات ربما تكون قد نفذت صلاحيتها. إن الخطر الأكبر والأكثر تدميراً الذي يمكن أن يرتكبه القيادي الثوري هو أن يكون أسيراً لتلك الصيغ التي كانت صالحة بالأمس، لكنها لم تعد مناسبة لتوازنات القوى الطبقية المختلفة اليوم. وفي أغلب الحالات، عندما يتخذ التاريخ انعطافات حادة، تصبح الأحزاب – حتى التقدمية منها – غير قادرة على تكييف نفسها على الأوضاع الجديدة ومواكبتها لبعض الوقت، وتعمد إلى تكرار الشعارات التي كانت صحيحة تماماً في الماضي لكنها فقدت معناها اليوم، وهي في الحقيقة تفقد معناها بشكل مفاجئ تماماً مثلما يفاجئنا التاريخ بتحولاته الحادة.
في الفترات الثورية تصبح مسألة التوقيت مسألة ملحة؛ فعلى القيادة الثورية أن تحدد بشكل دقيق كلما أمكن السرعة والوتيرة التي تتطور الثورة وفقها، وبدون ذلك لن يصبح من الممكن طرح تكتيكات واقعية وعملية ناجحة. وفي الحقيقة، فإن منظور القيادة الثورية لإيقاع تطور الأحداث لا يمكن أن يكون دقيقاً بشكل كامل، لذا فإن عليها بأسرع ما يمكن أن تجري التصحيح اللازم لما يتعلق بمسألة التوقيت.
ولكي يتناسب التكتيك والاستراتيجية مع المبادئ العامة للحزب، لابد من أن يتمتعا بقدر كبير من الصراحة والوضوح. ومن أجل أن تعي الجماهير سياسات الحزب جيداً، لابد من تجنب إغراقهم في التفاصيل وتشتيت انتباههم عن جوهر سياسات الحزب. لابد أن يعبر الحزب عن سياساته في عدد محدود من الشعارات البسيطة والواضحة. “السياسة المستقيمة هي السياسة الأفضل.. والسياسة المبنية على المبادئ هي السياسة الأكثر عملية” (19).
“في التحليل النهائي، تعد السياسة المبدئية هي السياسة الوحيدة العملية.. ومن يتعامل مع المشاكل الجزئية من دون تسوية المشاكل العامة، سوف “يصطدم” حتماً بتلك المشاكل العامة حتى من دون أن يدرك ذلك. وعندما يتكرر هذا “الاصطدام” في كل مرة، فإن هذا لا يعني سوى الوقوع في أسوأ فخاخ التردد واللا مبدئية” (20).
“يمكن للخط السياسي، بل ويجب، أن يستند إلى النظرية، وإلى التراث التاريخي، وإلى تحليل الوضع السياسي بأكمله، إلخ. لكن خلال تلك النقاشات، ينبغي على الحزب المنخرط في النضال ألا يتغافل عن الحاجة إلى الإجابات العملية الحاسمة والواضحة والتي لا تقبل أي تأويلات لكافة التساؤلات حول خطنا السياسي: “نعم” أم “لا”؟ هل ينبغي فعل هذا الآن، أو هل ينبغي تجنب ذاك؟” (21).
من الضروري حساب توازنات القوى الطبقية بدقة بالغة، وفور اتخاذ القرارات يجب السعي لتنفيذها على الأرض بكل دأب وحسم. كتب نابليون ذات مرة إلى الجنرال برتييه: “ليس هناك أي رجل أكثر جبناً مني عندما أضع خطة حربية؛ إذ أضخّم لنفسي تقدير كل الأخطاء وكل المآسي الممكنة.. وعندما أتخذ أي قرار أنسى كل شيء فيما عدا ما يصنع النجاح”.
أما تروتسكي، فقد كتب فيما بعد معلقاً على هذا الخطاب:
“إذا تجاوزنا عن بعض التصنع في كلمة ضعيفة التلاؤم وهي “جبن”، فمن الممكن تطبيق جوهر الفكرة على لينين. فعندما يحل لينين مسألة استراتيجية، كان يزود العدو مسبقاً بقراره الخاص وذكائه. وكانت أخطاء لينين التكتيكية في غالب الأحيان تمثل المحصلات الثانوية لقوته الاستراتيجية” (22).
التشبث بالجوهر
لقد علمنا لينين أنه في خضم سلسلة من التفاعلات السياسية، لابد من تحديد الرابط الأساسي بين تلك التفاعلات والإمساك به من أجل توجيه السلسلة برمتها.
“كل سؤال “يجري في حلقة مفرغة” لأن الحياة السياسية بمجملها إنما هي سلسلة لا نهائية من حلقات لا تحصى. ويكمن فن السياسة بأكمله في إيجاد الحلقة الأكثر أهمية في لحظة معينة، والإمساك بها بقبضة صلبة وراسخة، تلك الحلقة التي تضمن لنا أكثر من أي حلقة أخرى التحكم في السلسلة ككل” (23).
عاد لينين لاستخدام هذه الاستعارة، وفي الممارسة العملية طالما التزم بالقاعدة التي يشرحها؛ حيث تمكن دائماً خلال الفترات العصيبة من أن يجنّب كافة العوامل الثانوية وأن يمسك بالعوامل الأساسية والجوهرية. كان يعمد إلى تجنيب كل أمر قد يحرفه، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن القضية الأساسية. وكما شرح تروتسكي:
“عندما تتنحى العوائق الحرجة جانباً، يعلن لينين في كل مرة، وبعلو الصوت: “لكننا نسينا أن نفعل هذا أو ذاك” أو “لقد فوتنا فرصة ما لأننا كنا منشغلين بالأمر الأساسي”، ويرد أحدهم قائلاً: “لكن هذه المسألة انطرحت، وهذا الاقتراح تم تقديمه بالفعل، كل ما كان هناك هو أنك لم ترد سماع أي شيء”.
يجيب لينين: “هل حقاً؟ مستحيل، لا أتذكر أي من ذلك”. حينها يصرخ ضاحكاً ضحكة ماكرة معبراً بها عن اعترافه بالخطأ، وربما يرفع ذراعه عالياً في إيماء مميز، ثم ينزله بهوادة، قائلاً: “حسناً، لا يسع المرء أن يفعل كل شيء”.
إن موطن الضعف ذاك لدى لينين إنما كان الوجه الآخر من ذكائه وقدرته على تعبئة كل قواه الداخلية، إلى أقصى حد. هذا الذكاء وهذه المقدرة اللذين جعلا منه الثوري الأعظم في التاريخ” (24).
ومرة أخرى كتب تروتسكي أن:
“غالباً ما كان فلاديمير إيليتش يُنتقد من جانب الكثير من الرفاق، وأنا منهم، إذ كان على ما يبدو لا يكترث بالأمور الثانوية والقضايا الهامشية. أعتقد أن ذلك ربما يمثل قصوراً لدى القائد السياسي في أوقات التطور “الطبيعي” البطيء، لكن في ذلك بالذات يبرز تجلي الرفيق لينين كقائد هذا العصر، الذي تغدو فيه التفاصيل الثانوية والحوادث العارضة طاغية في الخلفية، وما يتبقى فقط التضادات الطبقية الأساسية التي يستحيل التوفيق بينها في أوج الحرب الأهلية. تلك كانت موهبة لينين المميزة، والتي تفرد بها إلى أقصى حد، وبتحديقه الثوري الثاقب كان بإمكانه أن يرى ويكشف ويشير للآخرين إلى ما هو مهم وما هو ضروري، وما هو أكثر أهمية وضرورة. أولئك الرفاق، مثلي، توفرت لهم الفرصة لمراقبة نشاط لينين وعمله عن قرب. لم يكن بمقدورنا مساعدته، لكن أُعجبنا بحماسة شديدة – نعم، أكرر، بحماسة شديدة نال إعجابنا – نفاذ بصره وحدة ذهنه لافظاً بهم كل الأمور الجانبية والعرضية ليصل إلى قلب المسألة ولب القضية” (25).
لقد وقع لينين في بعض الأحيان في فخ الأخطاء التكتيكية، وكان ذلك في الأغلب بسبب اهتمامه المكثف بالجوهر الأساسي للقضايا التي تناولها، وربما أيضاً بسبب غيابه الطويل عن مشهد الأحداث في روسيا أثناء مكوثه في المنفى طيلة سنوات عديدة. ولكن من جانب آخر، تميز لينين بتركيزه الاستراتيجي المذهل. لقد كانت استراتيجية الحزب توضع وتحدد بدقة بالغة من بعيد (حيث المنفى)، حتى مع بعض الأخطاء التكتيكية.
ومن الناحية الأخرى، كان لينين محقاً عندما أصر على “ليّ العصا” أحياناً في اتجاه، وفي اتجاه آخر أحياناً أخرى. فإذا كانت حركة الطبقة العاملة تتطور بشكل متكافئ على كافة الأصعدة، وإذا كانت القاعدة الحاكمة لهذا التطور متوازنة وسويّة، لكان لـ “ليّ العصا” تأثيراً ضاراً بشدة على حركة الطبقة العاملة. لكن الواقع يخبرنا بعكس ذلك؛ فالقاعدة المسيطرة على تطور نضال الطبقة العاملة هي التطور على نحو لا متكافئ. ربما تكون العقبة الأساسية أمام هذا التطور هي قلة كوادر الحزب الثوري، أو على العكس ربما يتسبب ميل محافظ لدى كوادر الحزب في أن يقبع الحزب إلى الوراء من القطاع المتقدم من الطبقة العاملة. إلا أن الوضع في الاعتبار كافة عوامل الصراع جنباً إلى جنب قد يوضح الحاجة إلى “ليّ العصا”، لكن أيضاً قد يفرغ الحزب الثوري أو القيادة الثورية – في حال خطأ التقدير – من كل نفع وجدوى.
الحدس والشجاعة
إن التقييم الصائب للوضع لا يكفي وحده لتطوير استراتيجية وتكتيكات ثورية. قبل كل شيء، لابد من أن يتمتع القائد الثوري بالحدس الخلاق والإقدام الذي لا يشوبه أي تردد.
في المواقف الثورية، حين ينفتح الباب أمام احتمالات وتعقيدات غير محدودة، فإن الإرادة الثورية وحدها هي الأخرى لا تكفي. الأمر الضروري هو القدرة على الإلمام بالوضع كله بسرعة، وبالتالي القدرة على التمييز بين ما هو جوهري وأساسي وبين ما هو هامشي وثانوي، وذلك من أجل ملء المساحات الفارغة في الصورة. كل ثورة تمثل معادلة بها الكثير من الأرقام المجهولة، لذا ينبغي على القائد الثوري أن يكون موهوباً بحس واقعي عالي.
باستثناء العام 1905، قضى لينين 15 عاماً خارج روسيا (قبل عودته في أبريل 1917 بعد إسقاط القيصر نيقولا الثاني)، إلا أن إدراكه للواقع وملموسيته للمزاج السائد بين العمال لم يتقلصا مع الوقت، بل ازدادا ثراءاً. إن تصوراته الواقعية كان لها جذوراً عميقة في استيعابه للنظرية وذاكرته القوية وتفكيره الخلاق. هذه التصورات الواقعية كانت تتزود باجتماعاته بين الفينة والأخرى مع رفاق يقدمون لزيارته في المنفى.
لم يكن حدس لينين مكبلاً بأية قيود. والمثال التالي سيرينا بوضوح كيف استطاع لينين أن يرسم وضعاً سياسياً واجتماعياً كاملاً من جملة واحدة قالها أحد العمال، والتي غالباً ما مرت دون أن يلتفت لها أحد غيره.
“بعد أيام يوليو اضطررت، بفضل العناية الفائقة التي شرفتني بها حكومة كيرنسكي، للانتقال إلى الحياة السرية. وطبيعي أن العمال كانوا يؤون أمثالي. ها نحن إلى الغداء في مسكن عمالي وضيع في حي ناء من بتروجراد. وها ربة البيت تجلب الخبز. ورب البيت يقول: “انظر، أي خبز ممتاز. انت ترى، “أنهم” لا يجرؤون الآن على إعطائنا خبزاً رديئاً. بل أننا لم نكن لنفكر بأن من الممكن إعطاء خبز طيب في بتروجراد”.
لقد أذهلني هذا التقدير الطبقي لأيام يوليو. فقد كان فكري يدور ويلف حول أهمية الحدث السياسية، ويقدر شأنه في مسير الأحداث العام، ويتفحص الوضع الذي أدى إلى هذا التعرج في مجرى التاريخ، ويتكهن بالوضع الذي سينجم عنه، ويسعى إلى معرفة الطريقة التي يترتب علينا اتباعها لتعديل شعاراتنا وجهاز حزبنا قصد تكييفه وفقاً للوضع الجديد. ولكني لم أكن لأفكر بالخبز، أنا الذي لم أعرف العوز. فالخبز كان بنظري من البديهيات، وأشبه بالنتاج الثانوي لعمل الكاتب. فالفكر يصل إلى النضال الطبقي من أجل الخبز، أس كل الأشياء، عبر التحليل السياسي الذي يسلك طريقاً غاية في التعرج والمشقة.
أما ممثل الطبقة المظلومة، وإن كان من عداد العمال ذوي الثقافة الكاملة والأجور العالية، فإنه يأخذ الثور من قرنيه بلا تردد، وبهذه البساطة وهذه الاستقامة المدهشة، وبهذا العزم الراسخ، وهذه النظرة الواضحة الآسرة، التي نبعد عنها نحن المثقفون بعد الثرى عن الثريا. فالعالم بأسره ينقسم، بنظره، إلى معسكرين: “نحن”، الشغيلة و”هم”، المستثمِرون. وليس ثمة أي ظل لحيرة حول ما جرى: معركة من معارك النضال الطويل الذي يخوضه العمال ضد الرأسمال. فحين نقطع الخشب، تتطاير الشظايا.
“أي شيء مؤلم هذا “الوضع المعقد للغاية”، وضع الثورة” – هذا هو تفكير المثقف البرجوازي وشعوره.
“لقد كسرنا شوكتـ”هم”؛ ولن يجرؤوا بعد الآن على التصرف على هواهم كما في السابق. دفعة واحدة أيضاً ويقعون أرضاً” – هذا هو تفكير العامل وشعوره” (26).
كانت كروبسكايا على صواب تام حين وصفت لينين بأنه “دائماً لديه نوعاً من الغريزة الخاصة.. فهماً عميقاً للخبرة التي تختمر لدى الطبقة العاملة في كل مرحلة” (27). لقد امتاز لينين بذلك الحدس والذي يُعد أمراً حيوياً وهاماً للغاية لإدراك شعور الجماهير حتى في أكثر ومضات التاريخ تراجيديا: “القدرة على التفكير والشعور من أجل وفي القلب من الجماهير ومعها، تلك كانت سمة مميزة للينين لأقصى درجة، بالأخص أثناء التحولات السياسية الهائلة” (28).
على القائد الثوري، فور إقرار تكتيكات معينة، ألا يضمر أي تردد، بل على العكس أن يتحلى بشجاعة قصوى في تنفيذها، ولم يكن لينين يفتقر إلى تلك المقدرة. وهكذا وصف م. ن. بوكروفسكي تلك السمة المميزة لدى لينين:
“عندما ألقي نظرة على الماضي، يبدو لي أن واحدة من أهم السمات الأساسية لدى لينين هي إقدامه السياسي الهائل، ولا أعني هنا الشجاعة وتحدي المخاطر، فعلى أية حال لم نكن نفتقر للثوريين الشجعان الذين لا يهابون الاعتقال أو المشانق أو حتى سيبيريا. لكن هؤلاء الناس كانوا خائفين من أن يحمّلوا أنفسهم عبء اتخاذ القرارات السياسية الهامة. ولعله من الواضح أن لينين لن يخف ولم يتخاذل يوماً من تحمل مسئولية القرارات السياسية مهما كان ثقلها. لم يهب لينين من أي خطر وأخذ مسئولية قرارات لا تتعلق فقط بشخصه وبمصير الحزب، لكن أيضاً بمصير كل البلد، وبدرجة ما بمصير الثورة العالمية. إنه لأمر غريب أن يشرع لينين في التحرك على الدوام بمجموعة صغيرة من الرفاق، لكن عدداً قليلاً بالفعل هم من يمتازون بالجرأة الكافية لاتباعه منذ البداية” (29).
كثيراً ما يتهرب “الماركسي” من التزامه بالتوصل إلى قرارات، معطياً بذلك الماركسية طابعاً قدرياً باهتاً. وتلك كانت عادة المناشفة الذين طالما سيطرة عليهم الخوف والتشكك والتردد في كل منعطف هام في الصراع الطبقي. لا شك أن الثورة هي الطريق الأقوى والأكثر ضرواة لحل الأزمات الاجتماعية، وأسوأ حالة يمكن أن تسيطر على الثوريين في وقت الثورة هي التردد وعدم الحسم. على الجهة المقابلة، كان لينين هو الأكثر تماسكاً وصلابة بين الثوريين، حيث وصل إلى أقصى درجة من الجرأة في اتخاذ المواقف الأعظم شأناً والقرارات الأكثر خطورة والاستعداد لتحمل مسئوليتها.
الحلم والحقيقة
من أجل طرح الاستراتيجية والتكتيك، على القيادي الثوري ليس فقط أن يكون واقعياً، لكن حالماً أيضاً. لقد وصف الكثير من الكتّاب والمؤرخون لينين بأنه واقعياً وليس رومانسياً، وهذا بالتأكيد وصف ليس منصفاً؛ فالثوري لا يكون ثورياً من دون إلهام حلم عظيم.
“كتب بيساريف بصدد مسألة الخلاف بين الحلم والحقيقة: “ليست جميع الخلافات واحدة، إذ لا يمكن أن يسبق حلمي مجرى الأحداث الطبيعي، أو يمكن أن يسير في اتجاه لا يمكن أن يفضي إليه سير الأحداث الطبيعي بحال من الأحوال. في الحالة الأولى لا يسبب الحلم أي ضرر، بل قد يشجع ويشد من عزيمة الإنسان الكادح.. ليس في مثل هذه الأحلام ما يمكن أن يفسد أو أن يشل القوة العاملة، بل بالعكس تماما. فلئن كان الإنسان محروماً تماماً من ملكية الحلم على هذا الشكل، ولا يستطيع أن يسبق مجرى الأحداث أحياناً وأن يتصور العمل الذي بدأ لتوه جاهزاً في صورته الكاملة النهائية، عندئذ لا أستطيع أن أتصور بوجه من الوجوه الدافع الذي يدفع الإنسان إلى الشروع بعمل جسيم متعب في ميادين الفن والعلم والحياة العملية وإلى الدأب حتى إنجازه.. إن الخلاف بين الحلم والحقيقة لا يسبب أي ضرر، على أن يكون الشخص الحالم صادق الإيمان بحلمه وعلى أن يتأمل الحياة بانتباه ويقارن بين ملاحظاته والقصور التي يبنيها في الهواء وعلى أن يعمل بوجه عام وبصورة وجدانية على تحقيق حلمه. فعند وجود تماس بين الحلم والحياة تسير الأمور على ما يرام”.
هذا النوع بالضبط من الأحلام قليل جداً لسوء الحظ في حركتنا. ويقع القسط الأكبر من تبعة ذلك على ممثلي الانتقادية العلنية والذيلية الذين يتبجحون باعتدالهم وبحسهم للملموس” (30).
لقد أخضع لينين نزعاته الرومانسية لاحتياجات وضرورات الفعل المباشر في الواقع. وكان كثيراً ما يزدري الإنتلجنسيا الروسية في إشارته باحتقار شديد في أكثر من موضع إلى الرجل عديم النفع “أبلوموف” (بطل رواية جونشاروف الشهيرة والتي حملت نفس الإسم) الذي طالما راودته أحلام يقظة عن طموحات ينتوي تحقيقها، لكنه أكثر كسلاً وضعفاً من نقلها إلى الواقع.
كتب الاشتراكي الألماني فرديناند راسل، واصفاً الضرورات الأساسية للسياسات الثورية: “كل حركة كبيرة تبدأ ببيان يوضح ماهيتها”، أما لينين فقد عمد أيضاً إلى تكرار أن “الحقائق هي أشياء صلبة وعنيدة”. والماركسية بحسب لينين “تستند إلى الحقائق وليس إلى الاحتمالات. والماركسي يجب أن يضع نصب عينيه الحقائق المحددة وغير القابلة للشك” (31). كان لينين دائم البحث عن الجسر الممتد بين الواقع والممكن، لم يكن خائفاً من النظر خلال الهوة الفاصلة بين ضخامة المهام التي تواجه الحركة، وبين افتقار الحركة نفسها للمقومات والإمكانيات التي تؤهلها لحمل هذه المهام. كانت قدم لينين على الأرض فيما كانت رأسه في السماء.
الحزب كمدرسة للاستراتيجية والتكتيك
كانت التساؤلات حول الاستراتيجية والتكتيك ذات معنى بالنسبة للينين فقط إذا كانت إمكانية تحقيقها في الواقع، بواسطة الحزب الثوري، إمكانية حقيقية. لقد كان الحزب في نظره مدرسةً للاستراتيجية والتكتيك، منظمة قتالية هدفها أن تظفر الطبقة العاملة بالسلطة.
كيف إذن تتعلم القيادة الثورية من الجماهير ونضالاتها، إذا لم تكن جزءاً متكاملاً مع هذه الجماهير تصغي لها في مواقع العمل، وفي الشوارع؟ لكي تُعلِم القيادة الثورية الجماهير، عليها أن تتعلم منها، وهذا ما آمن به لينين وظل يمارسه طيلة حياته.
لا ينبغي على الحزب الثوري أن يترنح متأخراً خلف القطاعات المتقدمة من الطبقة العاملة، كما لا ينبغي أن يتقدم عنها بمسافة يصعب وصولها إليه. يجب أن يقف الحزب في مقدمة الطبقة ومتجذراً في صفوفها:
“كي يحرز العمل الثوري الجاد نجاحاً، فإنه يتطلب أن تكون فكرة أن الثوريين قادرين على القيام فقط بدور الطليعة المتقدمة والمقدامة بحق، فكرة مفهومة ومُترجمة إلى الحركة والممارسة العملية. والطليعة تمارس مهماتها كطليعة فقط عندما تتجنب الانعزال عن كتل الجماهير التي تقودها، عندما تغدو قادرة على قيادة الجماهير ككل إلى الأمام” (32).
إن الحاجة إلى الحزب الثوري، كما أشرنا من قبل، هي انعكاس لتفاوت الوعي داخل الطبقة العاملة. وفي نفس الوقت يعمل الحزب، من أجل تقليص هذا التفاوت، على رفع الوعي داخل الطبقة العاملة إلى أعلى مستوى ممكن. أما التكيف مع متوسط الوعي أو المستويات الدنيا منه، فذلك بالتأكيد من طبائع الانتهازية. وعلى الجانب الآخر، يعد انفصال الحزب وعزلته عن القطاعات الأكثر تقدماً من الطبقة أول طريق العصبوية. بينما النضال في القلب من الطبقة من أجل رفع القطاعات المتقدمة منها إلى أعلى مستوى ممكن في ظل الظروف المسيطرة، فذلك هو الدور الحقيقي الذي يضطلع به الحزب الثوري.
ومن أجل التعلم من الجماهير، على الحزب أن يتعلم هو الآخر من أخطائه، وأن يتمتع بدرجة عالية من النقد الذاتي.
“إن موقف الحزب السياسي تجاه أخطائه يمثل واحداً من المقاييس الأكثر دقة في تقييم جدية وإخلاص هذا الحزب، وكذا أمانته في التزاماته تجاه طبقته. التعرف بصراحة على الخطأ، التأكد من الأسباب التي أدت إليه، تأمين طرق تصحيحه – تلك هي السمات المميزة للحزب الجاد، والتي هي كيف يمارس دوره ويؤدي واجباته، وكيف يجب عليه تثقيف وتدريب طبقته، ومن ثم الجماهير” (33).
“على حزب الطبقة المتقدمة المناضل ألا يخاف من الوقوع في الأخطاء. ما يجب أن يخافه بحق هو الإصرار على الخطأ، ورفض الاعتراف به وتصحيحه هرباً من شعور مزيف بالعار” (34).
في 21 يناير 1905، كتب لينين مؤكداً على ضرورة أن تكون الجماهير طرفاً في تصحيح الحزب لأخطائه:
“نحن الاشتراكيون الديمقراطيون نلجأ إلى السرية من القيصر وكلابه في حين نسعى من أجل أن تعرف الجماهير كل شيء عن حزبنا، وعن أطياف الرأي بداخله، وعن تطور برنامجه وسياسته، وحتى أن يعرفوا ماذا قال هذا المندوب أو ذاك أثناء المؤتمر الحزبي في القضايا المختلفة” (35).
والنقاش المفتوح يعتبر ذا أهمية وضرورة أكبر في فترات النضال الثوري المباشر، وكما كتب لينين في 25 أبريل 1906، فإن:
“في الفترات الثورية مثل هذه التي نعيشها اليوم، يتم الزج بكافة الأخطاء النظرية والانحرافات التكتيكية على الفور في اختبار الممارسة نفسها، هذه الممارسة التي تتعلم الطبقة العاملة وتستنير بها بسرعة غير مسبوقة. في مثل هذا الوقت، يصبح على كل اشتراكي ديمقراطي أن يكافح من أجل أن يضمن أن النضال الأيديولوجي داخل الحزب حول القضايا النظرية والتكتيكية يجري بشكل حر ومفتوح وواسع بقدر الإمكان، لكن في الوقت نفسه لا يعوق وحدة الفعل الثوري للبروليتاريا الاشتراكية الديمقراطية” (36).
ألح لينين مراراً وتكراراً على أن هذا النقاش لا ينبغي أن يكون محدوداً أو أسيراً داخل الدوائر الحزبية، لكن أن يجري بشكل مفتوح كي يتمكن من هم ليسوا أعضاءاً بالحزب من متابعته والمشاركة فيه.
“لن يكون هناك حزباً جماهيرياً، لن يكون هناك حزباً للطبقة، من دون وضوح كافي لكافة الأطياف الأساسية، من دون نضال مفتوح بين التيارات المتنوعة، من دون أن يصبح واضحاً أمام الجماهير أي من القادة، وأي من منظمات الحزب تسير في هذا الاتجاه أو ذاك. من دون ذلك، لن يُبنى حزب يستحق هذا الإسم” (37).
ومرة أخرى:
“يجب أن يكون النقد، ضمن إطار مبادئ برنامج الحزب، حراً وطليقاً (ونحن نذكّر القارئ هنا بما قاله بليخانوف حول هذا الموضوع في المؤتمر الثاني للحزب) ليس فقط في اجتماعات الحزب، لكن في الاجتماعات العامة أيضاً. مثل هذا النقد لا يمكن ولا ينبغي إيقافه” (38).
هناك علاقة جدلية بين ديمقراطية الحزب وجذور هذا الحزب داخل الطبقة العاملة؛ فمن دون سياسة طبقية صحيحة وحزب مكون بالأساس من البروليتاريا، لن تكون هناك فرصة حقيقية لديمقراطية حزبية صحية وقويمة. ومن دون قاعدة عمالية متماسكة، لن يعدو كل الكلام حول الديمقراطية والانضباط في الحزب سوى لغطاً لا معنى له. والعكس صحيح أيضاً؛ أي أنه من دون ديمقراطية حزبية ونقد ذاتي مستمر، يصبح من المستحيل تطوير السياسة الطبقية للحزب.
“لدينا أكثر مما أعلناه من وجهات نظرية بخصوص أهمية الالتزام، وكيف يمكن الإلمام بهذا المفهوم في حزب الطبقة العاملة. لقد عرّفناه بأنه وحدة الفعل وحرية النقاش والنقد، هذا النوع من الالتزام هو فقط ما ينبغي أن يسير وفقه حزب طليعة الطبقة الديمقراطي” (39).
“لا تعترف البروليتاريا بوحدة الفعل دون حرية النقاش والنقد” (40).
وإذا كانت الديمقراطية ضرورية من أجل استخلاص واستيعاب الخبرات المختلفة للنضال، فإن المركزية والانضباط هم أيضاً ضروريين لقيادة النضال. إن التماسك التنظيمي المحكم يجعل الفرصة سانحة للحزب للتحرك الموحد – وأيضاً لاتخاذ المبادرات – لتوجيه حركة الجماهير. والحزب الذي لا يتمتع بثقة عالية في نفسه لا يمكن أن يحوز ثقة الجماهير. وبدون قيادة حزبية تتخذ خطواتها بحزم وتنكفئ على قيادة وتوجيه حركة العضوية ونشاطها، لا حزب ثوري يمكن أن يولد. الحزب الثوري هو منظمة مركزية تقود النضال من أجل السلطة، وهكذا فإن هناك حاجة ماسة إلى الانضباط في الفعل والحركة.
كلاوزفيتز وفن الحرب
في بداية هذا الفصل كنت أشير إلى أن كتابات كلاوزفيتز كان لها تأثير كبير على مفهوم لينين عن الاستراتيجية والتكتيك. سأعمد هنا إلى تسليط الضوء فقط على نقاط التشابه المذهلة بين كلاوزفيتز ولينين في الأسلوب وصياغة الأفكار.
يبدأ كلاوزفيتز كتابه “حول الحرب” بالتوكيد على أن هناك اختلافاً جذرياً بين المفهوم المجرد للحرب والحروب الحقيقية في الواقع، حيث أن الظروف الفعلية للحرب لا يمكن أن تكون مثالية موضوعة بشكل مسبق؛ فأجواء الحرب ليست محكومة بأسباب بسيطة بل بتداخل سلاسل من الأسباب والتأثيرات المختلفة، كما تلعب العوامل النفسية دوراً قد يؤثر بشكل كبير في تحديد القرارات التي تُتخذ، إلخ. يصنف كلاوزفيتز كل هذه الظروف تحت عنوان “الاحتكاك”، في إشارة للتشابه بين هذا المفهوم الفيزيائي وما يقصده من تناقض بين المفهوم الحقيقي والمفهوم المثالي والميكانيكي للحرب. وفقط من خلال وضع هذا المفهوم في الحسبان يمكن فهم العلاقة بين الحرب الحقيقية والحرب المجردة، بين التجربة والنظرية. ذلك هو مصدر “الاختلاف بين مفهوم الحرب وبين تأثير العوامل الخاصة على اختلافها” (41).
ومن أجل وضع هذا المفهوم النظري في اتساق مع العالم الحقيقي، فنحن بحاجة إلى “العودة دائماً إلى الحصيلة الناتجة عن الخبرة؛ إذ بنفس الطريقة تؤتي الكثير من النباتات ثمارها إن لم تنبت عالياً، هكذا أيضاً في الفنون العملية، يجب ألا تنبت الأوراق والأزهار النظرية عالياً، لكن أن تبقى بالقرب من الخبرة والتجربة، التي هي تربتها الخصبة” (42).
يقوم فن الحرب على عدد من العلوم مثل الفيزياء والجغرافيا وعلم النفس، إلخ، لكن على الرغم من ذلك يبقى فناً. والقائد العسكري الناجح هو الذي يعمد إلى استخدام هذه العلوم لتحقيق هدفه في سحق العدو. ولأن الحرب هي أمر مليء بالتعقيدات المتشابكة، فينبغي أن يتحلى القائد العسكري بقوة الإرادة من ناحية، ومن الناحية الأخرى بالحدس وبالأفق الواسع في وضع التصورات.
“إن كل حرب بالتأكيد ثرية للغاية بالكثير من الأحداث، لكنها في الوقت نفسه تبدو كالبحر الذي لم يستكشفه بشر بعد، بحراً مليئاً بالصخور التي لا يراها القبطان وعليه أن يحذر من الاصطدام بها، بل عليه أن يبحر بسفينته حولها في ظلام الليل. وإذا هبت رياح معاكسة، أي إذا ناوءه أي حدث عارضي، فعليه بالضرورة أن يطلق كل مهارته وحيويته وحضوره الذهني” (43).
وببراعة فائقة صاغ كلاوزفيتز العلاقة بين الاستراتيجية والتكتيك كالتالي:
“الاستراتيجية هي توظيف المعركة للانتصار في الحرب، لذا عليها أن تحدد هدفاً للفعل العسكري ككل، والذي يُحدد هو الآخر وفقاً للغاية من الحرب نفسها. وبكلمات أخرى، ترسم الاستراتيجية خطة الحرب، ومن أجل ذلك عليها أن تربط سوياً حلقات طويلة من التحركات في سلسلة واحدة تقود للهدف، ومن هنا نقول أن الاستراتيجية تضع الخطط الخاصة بالمعارك المنفصلة وتنظم القتال في كل منها على حدا. وبما أن أغلب تلك الأشياء يتم تحديدها فقط عن طريق التخمين، لذا فمن المحتمل أن يجانب الصواب بعضها، إلا أنه يجدر القول أيضاً أن الكثير من الترتيبات المتعلقة بالتفاصيل لا يمكن إقرارها سلفاً؛ فالأمر برمته يعتمد بالطبع على سير الاستراتيجية مع الجيش إلى ميدان القتال من أجل الإلمام بالتفاصيل وتنظيمها في القلب من المعركة، ومن أجل إجراء التغييرات في الخطة العامة، تلك التغييرات التي تغدو ضرورية باستمرار أثناء الحرب ككل.. وهكذا لا يمكن أن تسحب الاستراتيجية يدها من ميدان الفعل المباشر ولو للحظة واحدة” (44).
على التكتيكات أن تخضع للاستراتيجية، لكن في الوقت نفسه ربما تستلزم سلسلة من الخطوات التكتيكية إجراء تغيير في الاستراتيجية نفسها.
“إن الأمور الأقل أهمية، أو الهامشية والثانوية، تعتمد على القضايا الرئيسية الأكثر أهمية وتتحدد على أساسها.. هذه القاعدة يجب أن تكون مرشداً لتفكيرنا” (45).
لقد استطاع كلاوزفيتز بتفكيره الجدلي وعدم اعترافه بالقوالب الجامدة، أن يدرك بعمق وبوضوح العلاقة بين النماذج المثالية والواقع الذي تسعى لتشكيله، لقد أدرك جيداً العلاقة العضوية بين النظرية الممارسة في تطور كليهما، حيث أمسك بالخط الواصل بين العلوم الضرورية للقيادة الناجحة في الحرب وبين فن الحرب. وقبل كل شيء، كان لديه فهماً متميزاً للأهمية البالغة للحدس المدعوم بالمفاهيم النظرية العلمية.
كان لأفكار كلاوزفيتز أثراً بالغاً في كتابات فريدريك إنجلز العسكرية، وكليهما – كلاوزفيتز وإنجلز – أثّرا بعمق في لينين. كانت عبقرية لينين الأساسية تكمن في أن الاستراتيجية والتكتيك، في تشابكهما مع الخبرة العملية، مثلتا بالنسبة للينين جزءاً من تفكيره وحياةً تجري في دمه. وبسرعة، وحتى في أوقات عصيبة، كان لينين يطوّر الاستراتيجية والتكتيك الأكثر كفاءة، وخلال ذلك كانت إرادته تتكامل مع عبقريته.
أنعشت ثورة 1905 قدرات لينين الاستراتيجية والتكتيكية بغزارة، وهذه القدرات قد ظهرت بكامل عظمتها بعد ذلك بإثنى عشر عاماً في انتصار ثورة الطبقة العاملة في أكتوبر 1917.
التقارب مع المناشفة
خلال الشهور العاصفة لثورة 1905، شهد الحزب المنشفي حالة من التدفق والسيولة التي أودت به إلى الارتباك وعدم التنظيم. تشكل الحزب آنذاك من عناصر وسطية انجرفت، تحت تأثير الأحداث، إلى اليسار لترفض التحالف مع الليبراليين، وتتبنى بذلك نفس وجهة النظر البلشفية:
“الكثير من المناشفة بدأوا يفقدون إيمانهم بالثورة البرجوازية، إنهم اليوم يحتقرون البرجوازية إما بوصفها خائنة للثورة متمترسة في خندق الثورة المضادة، أو أنها عملياً غير موجودة في النضال أصلاً. ومثل البلاشفة، فهم يجهزون للاستيلاء على السلطة وتأسيس حكومة انتقالية ثورية. وكما كتب دان لكاوتسكي فـ “كأنما نعيش اليوم في هذيان تام.. المناخ الثوري له تأثير الخمر” (1).
وفي الفترة التي كان تروتسكي وبارفوس هما محررا الجريدة المنشفية، ناشالو، كانت العلاقة بينهما وبين الجريدة البلشفية، نوفايا جيزن، كما وصف تروتسكي:
“ودودة للغاية. لم تنخرط أي منهما في أي سجال ضد الأخرى. وكما ذكرت نوفايا جيزن: “صدر للتو العدد الأول من ناشالو، إننا نرحب بجريدة رفاق في النضال. وعن الملحوظ في هذا العدد ذلك الوصف المبهر لإضراب أكتوبر الذي كتبه الرفيق تروتسكي”. بالتأكيد لا يكتب الناس هكذا حين يتصارعون ضد بعض، لكن لم يكن هناك أي صراع يُذكر، بل على العكس؛ دافعت كلٌ منهما عن الأخرى ضد هجوم الصحافة البرجوازية. وحتى بعد عودة لينين، أخذت نوفايا جيزن تدافع عن مقالاتي عن الثورة الدائمة، بل أيضاً اتبعت كلٌ من الجريدتين سياسة استعادة وحدة الحزب مرة أخرى. كما مررت اللجنة المركزية البلشفية، التي كان لينين عضواً فيها، قراراً بالإجماع يعترف بأن الانشقاق نتج فقط عن ظروف المنفى خارج البلاد، وأن تطورات الثورة قد فرّغت الصراع بين شقي الحزب من أي مضمون. وكنت قد دافعت عن هذه السياسة في ناشالو حتى بالرغم من المقاومة السلبية التي أظهرها مارتوف” (2).
وبعد عدة سنوات، كان بمقدور لينين أن يكتب: “تذكروا ناشالو.. تذكروا المقالات التي حملت روح “ويت عميل البروس، وستروف عميل ويت”. كانت مقالات ممتازة في عهود ممتازة، لم نكن نختلف مع المناشفة آنذاك في تقييمنا للكاديت” (3). حتى المنشفي اليميني تشيرفانين كان يتذكر بأسى سنوات 1905 و1906: “وقع المناشفة تحت تأثير الثمالة الثورية للبلاشفة، بالمشاركة في إضراب نوفمبر في سان بطرسبورج، وبرفع مطلب تحديد يوم العمل بثماني ساعات، وبمقاطعة الدوما الأولى” (4).
وضع مؤقت ومستقبل ممكن
في موسكو، كان المناشفة يتصدرون مقدمة النضال العمالي بشكل كبير. وفي اجتماع للسوفييت في 6 ديسمبر، أيدوا بحماسة شديدة قراراً بالإضراب العام والانتفاضة المسلحة (5)، وبعد أيام قليلة أصدروا عدداً من المنشورات المؤيدة للانتفاضة المسلحة (6). وهكذا لخص القيادي المنشفي مارتينوف أداء المناشفة في 1905 حينما كتب: “كنا نقول لأنفسنا آنذاك: بما أن الخمر قد صُبّت، فعلينا أن نشربها. في الأوقات الحاسمة على المرء أن يتصرف بصرامة، فليس هناك وقت للتحليل”. إلا أن المناشفة كانوا يتصرفون تحت وقع الأحداث التي اقتادتهم أكثر مما كانوا يحاولون توجيه هذه الأحداث، استطرد مارتينوف: “لكن الفارق ظل موجوداً فارضاً نفسه؛ ففي حين كان موقفنا مدفوعاً بتطورات الأحداث، كان البلاشفة يناضلون من أجل توجيه الدفة ويعتبرون ما كان يحدث طبيعياً” (7). وبعد عدة أشهر، صار مارتينوف يستنكر “جنون” 1905، أما مارتوف فقد كان أداؤه أكثر تميزاً، وفي خطاب إلى رفيقه أكسيلرود، شكى مارتوف.. “منذ شهرين وحتى الآن، لم أستطع أن انتهي من أي من الكتابات التي بدأت فيها. قد يكون ذلك نتيجة إنهاك عصبي أو إرهاق ذهني، لكني لا أستطيع أن أستجمع أفكاري على الإطلاق”. علّق تروتسكي على هذا الخطاب فيما بعد في العام 1917، حينما نُشر الخطاب في العلن، قائلاً: “لم يستطع مارتوف أن يشخّص حالته في 1906، لكن تلك الحالة لها إسماً محدداً: المنشفية”، وأضاف: “في الفترات الثورية، تتلخص الانتهازية، في المقام الأول، في التردد وعدم القدرة على تحديد الأفكار وتجميعها” (8).
أمل لينين في أن يستمر ضغط الأحداث الثورية على المناشفة ويزحزحهم إلى اليسار أكثر فأكثر، وبدايةً من فبراير 1905 دعا لينين للوحدة بين البلاشفة والمناشفة. وفي نوفمبر كتب:
“ليس سراً بالنسبة لأحد أن الغالبية الساحقة بين العمال الاشتراكيين الديمقراطيين مستاءة جداً من انقسام الحزب وتطالب بالتوحيد. ليس سراً بالنسبة لأحد أن حالة الانقسام تسبب استياءاً بالغاً وواسعاً بين العمال الاشتراكيين الديمقراطيين تجاه حزبهم.
يفقد اليوم العمال كل أمل في إمكانية أن يتوحد قادة الحزب مع أنفسهم. وقد ظهرت بالفعل الحاجة إلى الوحدة في كل من المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي وفي مؤتمر المناشفة المنعقد في مايو الماضي على حد سواء. ولكن بعد ستة أشهر كاملة، لم تحرز قضية الوحدة أي تقدم. ولعله ليس غريباً أن يُظهر العمال علامات الملل ونفاذ الصبر حيال ذلك” (9).
وفي الحقيقة، كانت الفروع البلشفية والمنشفية تتحرك بالمبادرات العفوية، في استقلال تام عن السياسة المركزية، للاندماج سوياً عبر كل أنحاء روسيا. وفي صيف 1905، صار هناك فيضاً من عمليات الاندماج بين اللجان البلشفية والمنشفية. سأقتبس هنا من الرفيق بياتينسكي الذي يتذكر كيف حدث الاندماج بين شقيّ الحزب في أوديسا حتى قبل إعلان الاندماج رسمياً بين الحزبين بستة أشهر:
“في ذلك الوقت، أتى الرفيق البلشفي ليفا (فلاديميروف) من بطرسبورج ليتقدم بطلب التوحيد مع المناشفة مهما كلّف الأمر، حتى دون انتظار توحد مركزيّ شقيّ الحزب معاً. تلقى ليفا قدراً كبيراً من الدعم من قبل الرفيق بارون (إدوارد إيسين) الذي كان قد وصل إلى أوديسا قبل البوجروم، كما حظت مطالبتهما بالتوحيد باستجابة حارة بين أعضاء الحزب، البلاشفة والمناشفة معاً. لم يكن ذلك عصيّاً على الفهم؛ فضعف وتفتت قوى الحزب – الضئيلة أصلاً – كان واضحاً لكل عضو في الحزب خلال البوجروم. وفي الاجتماع العام لأعضاء منظمة أوديسا، حين ألقى الرفيق جوزيف تقريراً عن الشكل الذي ينبغي أن تتخذه المنظمة بعد بيان 17 أكتوبر، تحدث الرفيقان ليفا وبارون عن ضرورة التوحد الفوري مع المناشفة. لم تعارض منظمة أوديسا الوحدة مع حيث المبدأ، لكنها بالتحديد عارضت طريقة التوحيد من أسفل.
كانت منظمة أوديسا جزءاً من الحزب البلشفي الذي تقع على رأسه لجنة مركزية منتخبة من المؤتمر الثالث للحزب، فكيف في تلك الحالة أن تسعى منظمة أوديسا للوحدة مع المناشفة دون معرفة وموافقة اللجنة المركزية لحزبنا؟ لكن ليف وبارون اختارا أن يؤيدا الوحدة بدون موافقة اللجنة المركزية، وذلك من أجل خلق ضغطاً عليها من أسفل. وبات واضحاً للجنة المركزية أن قرار الوحدة يحظى بتأييد الأغلبية الساحقة في الاجتماعات الحزبية، سواء البلشفية أو المنشفية، فكلما تحدث المدافعون عن الوحدة الفورية يلقى حديثهم تأييداً إجماعياً من قبل الأعضاء. وهكذا كان على اللجنة المركزية البلشفية الخوض في عملية التوحيد مع المناشفة حتى برغم معارضتهم لذلك” (10).
وفي النهاية انعقد مؤتمر التوحيد في ستوكهولم في الفترة بين 23 أبريل إلى 8 مايو 1906، ولم يشمل الحزب الموحد البلاشفة والمناشفة فقط (70 ألف عضو معاً)، بل تضمن أيضاً البوند اليهودي (33 ألف عضو)، والاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين تحت قيادة روزا لكسمبورج (28 ألف عضو)، وكذلك الاشتراكيين الديمقراطيين الليتوان (13 ألف عضو).
في أبريل 1906، جادل لينين بأن الاختلافات بين البلاشفة والمناشفة كانت تتضائل على أرضية الممارسة العملية، وأن الوحدة أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى.
“بالطبع إذا ما تفحصنا القضية في ضوء الانحرافات التي انجرفت فيها الحركة الاشتراكية الديمقراطية عن مسارها الطبيعي والمعتاد، فإننا سنرى أنه – حتى من هذا المنظور – كان هناك تضامناً وتكاملاً أيديولوجياً أكبر بين الاشتراكيين الديمقراطيين في فترة “العصف الثوري” من أي وقت مضى. ولم تبعد التكتيكات المتبعة في فترة “العصف” جناحي الاشتراكية الديمقراطية عن بعضهما، بل أدت إلى تقريب المسافات بينهما؛ فالخلافات السابقة قد تنحت جانباً وتركت المجال للوحدة في الرأي حول قضية الانتفاضة المسلحة. فقد كان الاشتراكيون الديمقراطيون من كلا الجناحين متفاعلين بقوة في سوفييت مندوبي العمال، هذا السوفييت الذي يمثل أداة خاصة جنينية للسلطة الثورية، جذب الاشتراكيون الديمقراطيون الفلاحون والجنود إلى هذه السوفييتات، وأصدروا البيانات والمراسيم الثورية سوياً مع الأحزاب البرجوازية الصغيرة الثورية. أما الخلافات التي سادت بينهما في فترة ما قبل الثورة، فقد ذابت في مسار القضايا العملية. لقد نحّت الهبة الثورية كل تلك الخلافات جانباً، مجبرةً الاشتراكيين الديمقراطيين على تبني تكتيكات عسكرية، لقد دفعت قضية المشاركة في الدوما إلى الوراء بينما صدرت قضية العصيان كقضية الساعة، كما جذبت الاشتراكيين الديمقراطيين والديمقراطيين البرجوازيين الثوريين بالقرب من بعضهم لإنجاز المهام المطروحة.
في سيفيرني جولوس، دعا المناشفة بالاشتراك مع البلاشفة للإضراب العام والعصيان، كما دعوا العمال لاستكمال هذا النضال حتى الاستحواذ على السلطة. طرح الموقف الثوري نفسه شعارات ثورية عملية، فيما كانت هناك بعض الجدالات فقط حول أمور تفصيلية تتعلق بسير الأحداث، فعلى سبيل المثال اعتبرت ناشالو (جريدة المناشفة) أن سوفييتات مندوبي العمال كأجهزة ثورية للحكومات الذاتية المحلية، بينما اعتبرتها نوفايا جيزن (جريدة البلاشفة) كأجهزة جنينية لسلطة الدولة، وبينما كانت ناشالو أكثر ميلاً لديكتاتورية البروليتاريا، دافعت نوفايا جيزن عن ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية. لكن ألم تكن هناك اختلافات مثل هذه موجودة بالفعل في كل مرحلة من تطور كل حزب اشتراكي في أوروبا؟” (11).
لكن لينين لم يعتقد أنه بالإمكان الاعتماد على المناشفة بشكل كامل، كما لم يرغب في تذويب الشق البلشفي في “الحزب الموحد”. وفي خضم مؤتمر التوحيد، أوضح للوناتشارسكي: “إذا حظينا بأغلبية داخل اللجنة المركزية سنطالب المناشفة بالالتزام الأكثر صرامة وشدة، سنصر على إخضاعهم لوحدة الحزب. وإذا منعتهم طبيعتهم البرجوازية الصغيرة من السير معنا، فدعهم يتحملون مسئولية انقسام الحزب”. حينها سأله لوناتشارسكي: “لكن ماذا إذا بقينا أقلية؟ هل سنُجبر على الخضوع لهم؟”، فابتسم لينين مجيباً: “لن نسمح لفكرة التوحيد بأن تخنق رقابنا، وتحت أي ظرف لن نسمح للمناشفة باقتيادنا بالحبال” (12).
آمن لينين بأن ضغط الأحداث الثوري سيكون وحده كفيلاً بدفع المناشفة أكثر فأكثر إلى اليسار، وظل مصراً على ذلك حتى بعد أن دخل المناشفة، بحلول نهاية 1906، في تحالف انتخابي مع الكاديت الليبرالي، تلك الخطوة التي استنكرها لينين بشدة. حينها كتب في نوفمبر 1906:
“هل التحالف مع الكاديت يتطلب قطع الصلات التنظيمية بشكل كامل، أي الانقسام؟ نحن لا نعتقد ذلك، وكل البلاشفة متفقون على ذلك. لكن أولاً يخطو المناشفة خطوتهم الأولى في طريق الانتهازية.. ثانياً – وهذا هو الأمر الأكثر أهمية – تتطلب الظروف الموضوعية للنضال البروليتاري في روسيا اليوم اتخاذ خطوات محددة وحاسمة. وسواء في حالة صعود الموجة الثورية بشكل كبير (وهذا ما توقعناه) أو في حالة انحسارها تماماً (كما يعتقد بعض الاشتراكيين الديمقراطيين ويخافون قول ذلك) فإن تكتيكات التحالف مع الكاديت سوف تذهب حتماً أدراج الرياح، ولن يكون ذلك في المستقبل البعيد. لذا فإن واجبنا في الوقت الراهن هو تجنب هستيريا المثقفين والحفاظ على وحدة الحزب، أن نثق في قوتنا وصلابتنا، وأن نعكس الغريزة الطبقية للبروليتاريا الثورية” (13).
توقع لينين أن “الرفاق المناشفة بعد أن يتوغلوا في التكتل مع انتهازيي البرجوازية، سوف يرجعون إلى الاشتراكية الديمقراطية الثورية” (14). إلا أنه في ذلك الحين، أصدر مؤتمر تامرفورس (3 – 7 نوفمبر 1906)، تحت تأثير المناشفة، قراراً بالدخول في تكتل انتخابي مع الكاديت. وجاء رد فعل بالإصرار على أن للجان الحزبية المحلية الحق في معارضة القرار في المناطق التي تعمل بها. “في الحملة الانتخابية الجارية، لا يعد القرار الذي اتخذه المناشفة واللجنة المركزية في صالح التكتلات، من الناحية العملية، ملزماً للمنظمات المحلية، كما لا يُلزم الحزب ككل بهذه التاكتيكات المشينة بالتكتل مع الكاديت” (15).
“وافق كل المندوبين بالمؤتمر أن قراراته ليست ملزمة لأحد بأي طريقة، إذ أن هذا المؤتمر إنما هو هيئة استشارية وليست هيئة مخول بها اتخاذ القرارات. كما أن مندوبي المؤتمر لم يتم انتخابهم بديمقراطية، بل تم اختيارهم من المنظمات المحلية من قبل اللجنة المركزية، وبالعدد الذي حددته” (16).
وحول القرارات، تساءل لينين: “ضمن أي حدود تعد تلك القرارات ملزمة؟ إنها بوضوح ضمن حدود قرارات المؤتمر نفسه، وضمن حدود استقلالية منظمات الحوب المحلية التي يعترف بها المؤتمر” (17).
جادل لينين لسنوات عديدة بضرورة إخضاع الهيئات الأدنى بالحزب لهيئاته الأعلى، كان دائم الرفض للتصورات الفيدرالية للحزب وهيكله ونظامه الداخلي. وفي “خطوة للأمام وخطوتان للخلف”، الذي كتبه في فبراير – مايو 1904، أوضح لينين بجلاء أن “الميل الصريح للدفاع عن الاستقلالية الذاتية في مواجهة المركزية إنما هو سمة أساسية للانتهازية في التنظيم” (18).
لكن بالنسبة للينين، فإن من الضروري أن يخضع التنظيم بالكامل للضرورات السياسية، وكان هو نفسه على وشك تقديم قواعد تنظيمية جديدة لمؤتمر الحزب الموحد في 1906 مختلفة تماماً عن تلك التي قدمها من قبل. وبشكل صريح، أوضح لينين بعد ذلك باختصار:
“إن قواعد حزبنا تؤسس المنظمة الديمقراطية للحزب بشكل محدد، بحيث تُبنى المنظمة من أسفل لأعلى على أساس الانتخاب، وتقر القواعد الحزبية بأن المنظمات المحلية مستقلة ذاتياً في أنشطتها المحلية. ووفقاً لهذه القواعد فإن اللجنة المركزية تقوم بتنسيق وتوجيه كل عمل وحركة للحزب، لكن ليس لديها الحق في التدخل في تحديد تركيب المنظمات المحلية. وبما أن كل منظمة مبنية من أسفل لأعلى، فالتدخل في تركيبها من أعلى يعد خرقاً فادحاً للديمقراطية ولقواعد الحزب” (19).
ومن ثم أضاف لينين زاوية أخرى لمفهوم الانضباط الحزبي:
“بعدما تتخذ الهيئات المختصة قراراتها، ينبغي علينا جميعاً، كأعضاء في الحزب، أن نتحرك كرجل واحد. فالبلشفي في أوديسا عليه أن يلقي في صندوق الانتخاب ورقة تحمل إسم مرشح الكاديت حتى إذا كان يصيبه بالاشمئزاز. والمنشفي في موسكو عليه أن يلقي في صندوق الانتخاب ورقة تحمل أسماء مرشحي الاشتراكيين الديمقراطيين حتى إذا كانت روحه تتوق للكاديت” (20).
وبعد ذلك بشهرين، في يناير 1907، جادل لينين بأنه من الضروري استفتاء كل الأعضاء في بعض القضايا التي تواجه الحزب – وهذا الاقتراح يسير بالتأكيد مخالفاً لمبدأ المركزية الديمقراطية.
“من أجل ضمان ديمقراطية حقيقية في تسوية القضايا، ربما لن يكون كافياً أن يتم استدعاء الممثلين المنتخبين في المنظمات المختلفة، بل يصبح من الضروري أن يقوم كافة أعضاء المنظمات، أثناء انتخابهم لممثليهم، أن يعبروا أيضاً عن رأيهم، كلٌ على حدا، في هذه القضايا” (21).
لكن على الرغم من ذلك، أكد لينين على أنه من المستحيل أن تُتخذ كافة القرارات السياسية بالاستفتاء: “فقط القضايا الأكثر أهمية، وبالأخص تلك المرتبطة مباشرةً بتحركات جماهيرية محددة، ينبغي، من أجل الديمقراطية، أن يتم تسويتها ليس فقط بإرسال المندوبين الممثلين لمنظماتهم، بل أيضاً بفرز آراء كل أعضاء الحزب” (22).
باختصار، كان المناشفة غائبين عن التأثير في موجة الأحداث الثورية خلال 1905، وفي ذلك الوقت نضجت الكثير من الفوارق بين التيارات المختلفة داخل المناشفة لتصبح أكثر تمايزاً عن بعضها. فعلى اليمين كان هناك قادة مثل بليخانوف وأكسيلرود ومارتوف، أولئك الذين جرفهم التيار نحو الكاديت وسيطرت على أذهانهم أفكار الثورة البرجوازية تحت قيادة البرجوازية. أما على اليسار فقد كان هناك أناس مثل تروتسكي وبارفوس. وضع لينين أمله على أن تؤدي تلك الاختلافات إلى زحزحة العناصر الوسطية إلى اليسار أكثر وأكثر، تلك العملية التي مهدت، بعد ذلك بعدة سنوات، الطريق لتأسيس الأممية الشيوعية. لقد رسم لينين خطاً فاصلاً بين وسطية العمال المناشفة ووسطية قادتهم المحترفين التي لا يمكن علاجها. لكنه وقف بحزم ضد اليمين المنشفي وضد القادة الوسطيين، وكان مؤمناً آنذاك بأن الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها البلاشفة التأثير بشكل أكبر لجذب العناصر المنشفية الوسطية، هي أن يعمل البلاشفة كشق داخل الحزب الموحد، وليس كحزب مستقل تماماً عن المناشفة.
لينين يطرد اليساريين المتطرفين
خلال سنوات الردة الرجعية، واجه لينين الكثير من الصعوبات ليس فقط داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، لكن أيضاً داخل الشق البلشفي نفسه. لم تذهب قضية قضية المقاطعة أدراج الرياح بعد انتخابات الدوما الثانية التي شارك بها الحزب ككل، وحتى بعد أن أحرز الحزب نجاحاً ليس قليلاً في تلك الانتخابات، حيث فاز 65 مرشح اشتراكي ديمقراطي، منهم 15 مؤيدين مباشرين للبلاشفة (1).
إلا أنه في 3 يونيو 1907، قام رئيس الوزراء القيصري ستوليبين بحل مجلس الدوما الثانية كما أصدر مرسوماً انتخابياً جديداً يهدف إلى تمكين الحكومة من التخلص من الأغلبية المعارضة في الدوما. اشتملت القواعد الانتخابية الجديدة، وفقاً لمرسوم ستوليبين، على أن يكون هناك ممثلاً واحداً لكل 230 فرد من كبار ملاك الأرض، في حين كان واحداً لكل ألف في الدوما الأولى، ولكل 15 ألف في الدوما الثانية. أما الفلاحين فكان من حقهم أن ينتخبوا واحداً فقط عن كل 60 ألف فلاح، والعمال أن ينتخبوا واحداً لكل 125 ألف عامل. وهكذا من الناحية العملية كان من حق كبار الملاك والبرجوازيين أن يشكلوا سوياً 65% من نواب الدوما، فيما كان هناك 22% فلاحين (42% سابقاً)، وفقط 2% من العمال (4% سابقاً). وعلاوة على ذلك، حرم القانون مواطني روسيا الآسيوية وأتراك مقاطعتي أستراخان وستافروبول من حقهم في الانتخاب، كما خفض عدد ممثلي سكان بولندا والقوقاز إلى النصف. كل من لا يتحدث الروسية تم حرمانه من حقه في الانتخاب بالرغم من تبعية كل هذه البلدان والمقاطعات لإمبراطورية القيصر الروسي. وبالتالي كانت النتيجة أن زادت نسبة أعضاء الدوما الذين يمثلون كبار ملاك الأرض والبرجوازية الصناعية والتجارية، وفي المقابل انخفضت بشكل حاد نسبة نواب العمال والفلاحين التي هي نسبة قليلة في الأصل.
وهكذا في هذا السياق طفت قضية المقاطعة إلى السطح مجدداً بعدما كان قد تم اتخاذ قرار بشأنها منذ وقت قريب. صوّتت المنظمات البلشفية المحلية بالأغلبية الساحقة في صالح الاستمرار في مقاطعة الدوما. وفي مؤتمر الحزب في فنلندا، يوليو 1907، صوّت ثمانية، على رأسهم القيادي البلشفي بوجدانوف، من المندوبين البلاشفة التسعة بالمؤتمر لصالح العودة إلى سياسة المقاطعة، فيما صوّت لينين مع المناشفة والاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين والبوند من أجل التخلي عن موقف المقاطعة.
وعندما أجريت الانتخابات وفقاً للقانون الجديد في خريف 1907، احتل الاشتراكيون الديمقراطيون 19 مقعداً. وعلى إثر ذلك نظمت مجموعة من البلاشفة نفسها في شكل تكتل وأطلقوا على أنفسهم إسم “الاستدعائيين” وطالبوا باستدعاء وانسحاب النواب البلاشفة من مجلس الدوما. وفي 1908 بدأ الاستدعائيون يتلقون المزيد من التأييد والنفوذ التنظيمي بين الصفوف البلشفية مما شكل خطورة على وضع لينين في التنظيم البلشفي. وبدأت المشاحنات تشتعل بين اللينينيين والاستدعائيين في التنافس على ولاء المنظمات المحلية. كان لينين بالكاد يحظى بتأييد منظمة موسكو التي حصل فيها الاستدعائيون على 14 صوتاً فيما جنى مؤيدي لينين 18 في مؤتمر منظمة المدينة في مايو 1908 (2)، لكن في نفس الوقت ظل المكتب المحلي للمنطقة الصناعية المركزية مؤيد للاستدعائيين بشكل راسخ (3).
لم يكن الاستدعائيون وحدهم من عارض المشاركة في انتخابات الدوما، بل ظهرت مجموعة جديدة أقل تطرفاً، أطلق أعضاؤها على أنفسهم إسم “الإنذاريين”، وطالبوا بإنذار النواب البلاشفة بالدوما على أن يديروا نشاطهم على نحو راديكالي لا يقبل المساومة. وتحكم الإنذاريون بشكل كامل في منظمة بطرسبورج البلشفية حتى سبتمبر 1909 (4).
وعلى الرغم من أن النقطة الأساسية التي فصلت لينين عن المقاطعين كانت حول المشاركة في انتخابات الدوما واعتلاء عدد من مقاعدها، إلا أن المقاطعين ضغطوا أيضاً في اتجاه مقاطعة النقابات الشرعية أيضاً. فبما أن النقابات تعمل تحت رقابة الشرطة، فلقد رأى المقاطعون أن النشاط بداخلها غير ذي نفع لقضية الثورة (5).
اشتملت كتلة الاستدعائيين على عدد من القيادات البلشفية البارزة، أمثال بوجدانوف (ماكسيموف) الرجل الثاني في قيادة التنظيم البلشفي لعدة سنوات، والمنظم البلشفي البارز كراسين، علاوة على الدعاويين والأدباء المعروفين: لوناتشارسكي وجوركي وبازاروف، والمؤرخ الشهير بوكروفسكي، وقيادي المجموعة البلشفي في الدوما ألكسينسكي. هاجم هؤلاء لينين بقسوم واتهموه بالنزوع إلى “وجهة النظر المنشفية البرلمانية” (6). وفي المؤتمر العام للحزب في ديسمبر 1908، أعلن القيادي المنشفي دان “لمن لا يعرف، البلاشفة الآن يتهمون لينين بخيانة البلشفية” (7).
أدى انهيار الحركة الثورية بشكل مباشر إلى تهيئة الظروف من أجل انتعاش الميول اليسارية المتطرفة لدى الكثير من الثوريين. هناك تشابهاً كبيراً في الحالة النفسية للثوريين بعد هزيمة ثورة 1905 الروسية و1848 الألمانية. وما كان بوجدانوف سوى نسخة روسية لويليتش وشابر الألمانيين اللذين وصفهما ماركس كالتالي:
“يترك القمع العنيف للثورة بصمة قوية في عقول كل المشاركين فيها، بالأخص أولئك الذين أُبعدوا عن منازلهم أو أُرسلوا إلى المنفى. ولذلك حتى أولئك الناس ذوي الشخصيات الثابتة يفقدون عقولهم لفترات قصيرة أو طويلة؛ فلا يستطيعون مواكبة سير الأحداث ولا يتقبلون حقيقة أن التاريخ قد غيّر مجراه، وبالتالي يتوجهون لأن يحيكوا المؤامرات التي تنال من القضية التي لا تخدم إلا أنفسهم، وهذا هو حال ويليتش وشابر” (8).
فبعدما تُسحق ثورة، ماذا يكون أكثر إرضاءاً للنفس من طرح انتفاضة مسلحة جديدة كمهمة فورية وملحة كما فعل بوجدانوف؟
دفعت الفترة الرهيبة التي تلت هزيمة الثورة الكثير من الثوريين إلى العمل الدعائي المجرد، بالأخص أولئك الذين أرسلوا للمنفى حيث توفرت لديهم فرص محدودة للغاية في النشاط العملي على الأرض، وهكذا تطورت لديهم نزعة متطرفة قولاً لكن في الحقيقة كانت تلك النزعة انعكاس لقدر كبير من السلبية لديهم. وعندما تجردوا من مسئولياتهم العملية والتنظيمية، اقتصرت شعاراتهم الثورية البراقة على تمجيد الذات، وتحول عنادهم وتعنتهم إلى واجهة زائفة تخفي ورائها سعيهم لتحقيق رضا سلبي عن النفس.
عندما يفقد الثوريون تأييد الطبقة العاملة وينعزلون عنها تحت تأثير الهزائم المتلاحقة، تتوفر بذلك تربة خصبة يترعرع فيها التطرف اليساري. وكلما ازدادوا انعزالاً، كلما قلت الفرص الحقيقية لتصحيح تكتيكاتهم من قبل العمال أثناء النضال، وازدادت الشعارات المتطرفة جاذبيةً وبريقاً. فحينما يغيب الجمهور عن تلقي ما يقوله الثوريون، ما الذي يمكن أن يمنع الثوريين من تبني شعارات ثورية متطرف؟ بالتأكيد لن يكون هناك سوى فرص ضئيلة كي يؤقلم الثوريون أنفسهم على أوضاع جديدة إذا وجدوا أنفسهم في الفراغ.
إن استعجال بوجدانوف ورفاقه لجني ثمار سريعة، بغض النظر عن المعوقات الموضوعية، كان من الممكن أن يتم تقويمه بواسطة الحزب – هذا هو العنصر الديمقراطي في المركزية الديمقراطية – لكن لسوء الحظ كان الحزب بالكاد متواجداً يصارع من أجل البقاء، لذا لم يكن هناك فرص فعلية كي يصحح الحزب أخطاء قادته. انتقد لينين هؤلاء القادة على رفضهم “الأعمال الصغيرة”، بالأخص استخدام المنبر البرلماني. وعملياً، توقفت تكتيكاتهم عند حدود انتظار “الأيام العظيمة” التي يشتد فيها الصراع. كانوا “يعرقلون الأمر الأكثر أهمية وإلحاحاً، وهو توحيد العمال في التنظيمات الكبيرة والتي تعمل بشكل صحيح، والقادرة على الاستمرار تحت أي ظرف، المفعمة بروح النضال الطبقي، والتي تدرك أهدافها بوضوح وتدربت على ضوء الرؤية الماركسية للعالم” (9).
إن العهود الجديدة تتطلب بالتأكيد تكتيكات جديدة، كتب لينين:
“خلال فترة الثورة تعلمنا كيف نتحدث الفرنسية؛ أي أن نقدم للحركة أكبر عدد من الشعارات الصاعدة، وأن نرفع طاقة النضال المباشر للجماهير وأن نوسّع أفق هذا النضال. والآن في فترة الركود والردة والتفكك، علينا أن نتعلم كيف نتحدث الألمانية؛ أي أن نعمل ببطء (وليس هناك شيء آخر نفعله) بانتظام وثبات، أن نتقدم خطوة بخطوة، وأن نكسب بوصة تلو الأخرى. ومن يجد هذا العمل مملاً، ومن لا يفهم الحاجة إلى الحفاظ على المبادئ الثورية للتكتيكات الاشتراكية الديمقراطية وتطويرها في هذه المرحلة أيضاً، خلال الانعطاف الراهن في الطريق، فإنه قد أخذ لقب الماركسي عبثاً” (10).
وبالتالي فإن على الثوريين:
“أن يقوموا بواجبهم مهما كان شاقاً وبطيئاً ورتيباً.. ومن أجل أن نفي بالالتزام تجاه البروليتاريا، كان علينا أن نعاون بكل صبر وأن نعيد تعليم أولئك الذين انجذبوا للاشتراكية الديمقراطية أيام الحرية، أولئك الذين انجذبوا لقوة ووضوح شعاراتنا وروحها الثورية، بل أيضاً هؤلاء الذين يفتقرون إلى القدرة على احتمال النضال اليومي في ظل حكم الثورة المضادة. بعض من تلك العناصر انخرطت بالفعل في الأنشطة البروليتارية واستوعبت الرؤية الماركسية، لكن الآخرين يتذكرون فقط قليلاً من الشعارات دون أي فهم حقيقي لمعناها، كل ما يستطيعون فعله هو ترديد بعض العبارات القديمة فيما لم يستطيعوا تكييف التكتيكيات الاشتراكية الديمقراطية الثورية وفقاً للأوضاع المتغيرة” (11).
ليس هناك من شك أنه في فترة التراجع الطويلة ومن ثم الصعود التدريجي البطيء في الصراع، كانت البلشفية ستفنى في حالة تبنيها سياسات بوجدانوف اليسارية المتطرفة. في المقابل، كان بمقدر لينين أن يكتب بعد ذلك بفترة طويلة كتيبه الشهير “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية” عام 1920، والذي جاء فيه:
“لقد نمت البلشفية وتمرست في نضال مديد ضد الثورية البرجوازية الصغيرة التي تشبه الفوضوية أو تقتبس بعضاً منها، والتي تتخلى، في كل ما هو جوهري، عن شروط ومقتضيات النضال الطبقي البروليتاري الدءوب.. إن البرجوازي الصغير “المنزعج” من جراء فظائع الرأسمالية، هو كالفوضوية، ظاهرة اجتماعية ملازمة لجميع البلدان الرأسمالية. وإن عدم ثبات هذه الثورية وضحالتها، وقابليتها للتحول سريعاً إلى إذعان وخمول، وحتى إلى شغف محموم بهذا التيار البرجوازي أو ذاك الذي غدا “موضة”، كل تلك السمات أصبحت معروفة للجميع” (12).
كان لينين على إدراك تام بأن على الحزب الثوري، من أجل الإعداد للمعارك الثورية الكبيرة في المستقبل، ينبغي عليه أن يتعلم كيف يخوض مرحلة التراجع مع الجماهير، وفي القلب من قواعدها المتقدمة، دون أن يذوب بينهم، لكن أيضاً دون أن ينفصل عنهم. هذه هي أيضاً الفترة التي تتمرس فيها الكوادر الراسخة ويصبحون أكثر صلابة. هذا التمرس والرسوخ، وهذه الصلابة، لا يمكن اكتسابهم من الفراغ بمعزل عن النضال، حتى برغم ضيق حدود النضال في هذه الفترات.
طرد بوجدانوف
في الفترة من 8 إلى 17 يونيو 1909 عقد لينين مؤتمراً لهيئة التحرير الموسعة للجريدة البلشفية “بروليتاري” بمسكنه في باريس. وأثناء إلحاحه الشديد على عقد المؤتمر، تعمد لينين أن يتجاهل المركز البلشفي القديم المنتخب في مؤتمر لندن في 1907، فيما استأثر مؤتمر “بروليتاري” بسلطة التعيين والطرد والتشريع، واتخذ قراراً أعلن فيه أن “البلشفية، كتيار محدد داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، ليس لديه أي شيء مشترك مع الاستدعائية أو الإنذارية”، وطرد بوجدانوف من الصفوف البلشفية باعتباره الأب الروحي للاستدعائيين. حاول بوجدانوف أن يتحدى صلاحية مؤتمر هيئة التحرير الجديدة في فصل أعضاء اختيروا بواسطة المؤتمر الحزبي الأخير، لكن من دون أي نجاح، حيث لم يلتفت أحد لدعواته المتكررة لعقد مؤتمر جديد.
علّق لينين على طرد بوجدانوف من البلاشفة كالتالي: “من وجهة النظر الرسمية، تعد إزاحة بوجدانوف من الحزب إجراءاً غير شرعي كما يقول الأعضاء المفصولين، لكننا لا نعترف بهذا الفصل؛ إذ أن بوجدانوف كان قد انتُخب أصلاً بواسطة القطاع البلشفي في مؤتمر لندن الحزبي” (13). وخوفاً من أن يحظى بوجدانوف بأغلبية في مؤتمر حزبي قادم، تصدى لينين بكل شراسة لكل دعوات عقد مؤتمر بلشفي جديد. وفي النهاية نجح في تمرير قرار من خلال هيئة تحرير بروليتاري، جاء كالتالي:
“إن الدعوة لمؤتمر بلشفي خاص من شأنه حتمياً أن يشق الحزب من القمة للقاعدة وسوف يسبب ضرراً كبيراً لا يمكن إصلاحه في القطاع الذي يبادر بإحداث مثل هذا الانقسام الكامل في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. وانطلاقاً من هذه النقطة، تقر هيئة تحرير بروليتاري بما يلي:
إن الهيئة تحذر كافة مؤيديها من التحريض والدعوة إلى مؤتمر بلشفي خاص، إذ أن هذا التحريض لن يؤدي إلا إلى انشقاق حزبي، كما أنه قد يفسد بشكل كامل الوضع الذي تحظى به الاشتراكية الديمقراطية الثورية في الحزب” (14).
أثبت نضال لينين ضد بوجدانوف داخل الشق البلشفي من الحزب صحته خلال مخاض عسير للغاية. وعلى الرغم من أن اليساريين المتطرفين كانوا شكليين جداً وضيقي الأفق ومعزولين تماماً عن الواقع، إلا أنه من الصعب إثبات ذلك فعلياً دون الاستناد إلى حركة جماهيرية عريضة. ولم يكن بمقدور لينين أن يلجأ إلى العمال النشطين والواعين طبقياً، لم يكن بمقدوره أن يلجأ للحركة الحية، من أجل تلقي الدعم في موقفه ضد بوجدانوف، وبالتالي كان مجبراً على استخدام أي وسيلة بديلة تتوافر بين يديه – في هذه الحالة كانت الوسيلة هي الاجتماع غير التمثيلي الذي دعا إليه هيئة التحرير الموسعة.
ومن بين مؤيدي لينين، لم يرضَ الكثيرون عن تلك الإجراءات التي بدت استبدادية بصدد بوجدانوف. وحتى جوزيف ستالين، أقرب المتعاونين الراسخين مع لينين، ذهب إلى توبيخه بشدة على مثل هذا القرار الفوقي والمتسلط، كما لامه بعنف على مسعاه لشق الصف البلشفي. وبينما كان ستالي يعلن تأييده السياسي لموقف لينين من انتخابات الدوما، كتب في افتتاحية العدد الصادر في 27 أغسطس 1909 من جريدة باكينسكي بروليتاري:
“على الرغم من الاختلافات المشار إليها سابقاً، إلا أن قسمي هيئة التحرير يتفقان على القضايا الأكثر أهمية (تقدير الظرف الراهن، ودور البروليتاريا والطبقات الأخرى في الثورة، إلخ)، ومن هذا المنطلق ترى لجنة باكو أن وحدة المجموعة، بل والتعاون بين قسمي هيئة التحرير أمراً ممكناً وضرورياً.
وبناءاً على ذلك، ترفض لجنة باكو السياسة التنظيمية التي تتبعها الأغلبية في هيئة التحرير، كما تندد بحالات “الطرد من قواعدنا” لمؤيدي الأقلية في هيئة التحرير. كما تحتج لجنة باكو أيضاً ضد إدارة الرفيق ماكسيموف الذي كان قد أعلن أنه لن يمتثل لقرارات هيئة التحرير، وهكذا يوفر تربة خصبة لمزيد من الخلافات والانقسامات” (15).
لينين يستخدم سلاح الفلسفة ضد بوجدانوف
كان أحد الأسلحة التي استخدمها لينين في نضاله ضد فريق بوجدانوف هو الفلسفة. لم تكن علاقة لينين ببوجدانوف حديثة العهد، فالأخير كان طبيباً وكاتب ذائع الصيت في الاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم الطبيعية والفلسفة. كان أول عهد لينين به في 1898 عندما وصلته نسخة من كتابه “جولة قصيرة في علم الاقتصاد” في منفاه في سيبيريا، وقد أعجب كثيراً بالكتاب لدرجة أنه رفض دعوة الناشر للكتابة في الاقتصاد السياسي، إذ أنه “من الصعب منافسة بوجدانوف” (16).
وحينما انضم بوجدانوف للبلاشفة في 1904، أرسل المجلد الأول من عمله الفلسفي “التجريبية” (صدر المجلد الثاني في 1905، والثالث في 1906). كان ذلك العمل متأثراً بقوة بكتابات الكانطيين الجدد، إرنست ماخ وريتشارد آفيناريوس، تلك الكتابات التي صوّب إليها لينين أسهم نقده في 1909.
أما بليخانوف، المتحدث الرئيسي بإسم الفلسفة الماركسية الأرثوذكسية والذي صار من أبرز قيادات المناشفة، فقد سخر من لينين على تعاونه مع بوجدانوف. ورد لينين على ذلك في المؤتمر الثالث للحزب في 1905 قائلاً:
“إن بليخانوف ينساق وراء ماخ وأفيناريوس. وإنه لأمر غامض تماماً بالنسبة لي؛ فما شأن هذين الرجلين، اللذين لم أتعاطف معهما على الإطلاق، بالثورة الاجتماعية؟ إنهما يكتبان حول التنظيم الفردي والاجتماعي للخبرة والتجربة، وما شابه من هذه الأمور، لكنهما بالتأكيد لا يعلمان شيئاً عن الديكتاتورية الديمقراطية” (17).
إلا أن لينين لم يكن مقتنعاً برؤى بوجدانوف الفلسفية، وفي خطاب لجوركي، ذكر لينين أنه قد قرأ المجلد الأول من كتاب بوجدانوف على الفور بعد استلامه ولم يتفق مع ما جاء فيه، وأرسل خطاباً نقدياً طويلاً للمؤلف. وحينما صدر المجلد الثالث من الكتاب في 1906، أرسل بوجدانوف نسخة منه إلى لينين، فيما كتب الأخير رسالة نقد أخرى للمؤلف. لكن كل لم يمنع لينين من الاستمرار في التعاون السياسي مع بوجدانوف، كما لم يدفعه إلى التخلي عن الأرضية الفلسفية المشتركة بينهما، بل أن لينين لم يعتقد أبداً أن لتلك الخلافات علاقة شرطية مباشرة بالتكتيكات السياسية.
وفي فبراير 1908، كتب:
“إن هيئة تحرير بروليتاري، باعتبارها المتحدث الأيديولوجي بإسم التيار البلشفي، ترى أنه من الضروري أن نذكر التالي. في الحقيقة هذا الجدل الفلسفي ليس جدلاً حزبياً، ومن وجهة نظر هيئة التحرير لا يجب أن يكون كذلك، وأي محاولة لتصوير هذه الاختلافات على أنها اختلافات حزبية هي محاولات خاطئة تماماً. فلكتا الكتلتان تتضمنان أتباعاً للتيارين الفلسفيين” (18).
وفي خطاب لجوركي في 25 فبراير 1908، كتب أيضاً:
“في صيف وخريف 1904، وصلت أنا وبوجدانوف لاتفاق كامل، وشكلنا كتلة بلشفية واحدة استبعدت ضمنياً الفلسفة واعتبرتها مجالاً محايداً، هذا المجال الممتد طوال الثورة والذي مكننا في الثورة من تطبيق التكتيكات الاشتراكية الديمقراطية (البلشفية) معاً. وأنا مقتنع تماماً أنها كانت التكتيكات الوحيدة الصحيحة” (19).
“لابد أن تبقى بروليتاري محايدة تجاه الاختلافات في الفلسفة، على ألا تعطي للقارئ أي إشارة تربط بين البلشفية، كتيار، كخط تكتيكي للجناح الثوري للاشتراكية الديمقراطية الروسية، وبين التجريبية أو المذهب النقدي التجريبي” (20).
وفي 16 أبريل، كتب مجدداً لجوركي يقول: “ينبغي أن تنفصل الفلسفة عن الشئون الحزبية، وقرار المركز البلشفي يجعل ذلك إلزامياً” (21).
لكن على الرغم من ذلك، بدى واضحاً في العام 1908 أنه لن يكون هناك صعوداً ثورياً وشيك الحدوث، وحينها بدلاً من أن تتراجع الخلافات حول التكتيكات بين لينين وبوجدانوف حول قضايا مثل مقاطعة الدوما، طفت تلك الخلافات إلى السطح وتضاعفت أهميتها. وخلال فترة الردة الأيديولوجية العامة، صارت للخلافات الفلسفية أهمية أكبر وتأثير أقوى. فضّل كلٌ من بوجدانوف وبازاروف ولوناتشارسكي في ذلك الوقت الالتحاق بالمنشفيين يوسكيفيتش وفالنتين وكتّاب آخرين لنشر سلسلة من المقالات تحت عنوان “خطوط عريضة في الفلسفة الماركسية”.
إلا أنه من الخطأ أن نعتبر اهتمام لينين البالغ بالفلسفة كان فقط نتيجة ميله لاستخدامها كسلاح في العراك ضد بوجدانوف، على الرغم من أن ذلك مثّل عاملاً مهماً في الأمر. ففي ذلك الوقت، تصدرت الفلسفة كافة الجدالات بين الماركسيين الروس. قبل ثورة 1905، كانت مبادئ كارل ماركس الاقتصادية تمثل عنصراً جوهرياً وأساسياً في النقاشات بين الاشتراكيين. أما خلال الثورة، فقد حلت السياسات الماركسية محلها في النقاش. وخلال فترة انتصار الرجعية بعد الثورة، فرضت الفلسفة الماركسية نفسها على كل النقاشات. وكما كتب لينين:
“التشاؤم، انعدام المقاومة وضعف العزيمة، ومناشدة “الروح”، كل تلك العناصر تشكل معاً أيديولوجيا حتمية في عصر ينقلب فيه النظام القديم برمته رأساً على عقب. وحينما تكون الجماهير، التي نشأت في ظل هذا النظام القديم الذي غرس فيها مبادئه وعاداته وتقاليده ومعتقداته، لا ترى، ولا تستطيع أن ترى، ماهية النظام الجديد الذي “يتشكل”، وماهية القوى الاجتماعية التي “تشكله” وكيف، ماهية القوى الاجتماعية القادرة على إحراز النصر والتحرر من مظاهر المعاناة الحادة، تلك سمة عصر الاضطرابات الثورية” (22).
كان من الطبيعي في تلك الفترة، حينما انصبت السياسة فقط على كيفية تفادي فظائع القمع الذي مارسته السلطة القيصرية، أن يصبح الهرب إلى بستان التخمينات والظنون والتأملات الفلسفية موضة شائعة لدى الماركسيين. وفي ظل الغياب التام لأي صلة مع حركة جماهيرية حقيقية، كان من المفترض إثبات كل شيء انطلاقاً من نقطة الصفر، ولم تستثني الشكوك والتساؤلات أيٍ من المبادئ ولا حتى خبرات وتراث الحركة.
وافق العام 1904 الذكرة المئوية الأولى لوفاة الفيلسوف إيميونيل كانط. وفي السنوات القليلة اللاحقة، ناقش الكثير من الماركسيين أفكار كانط والنظرية الكانطية الجديدة في المعرفة عن كثب. وفي تلك النقاشات، حاول بوجدانوف ولوناتشارسكي وبازاروف دمج الماركسية بالنظرية الكانطية الجديدة في المعرفة كما طرحها إرنست ماخ وريتشارد آفيناريوس. حتى أن لوناتشارسكي ذهب إلى الدفاع علناً عن “الفلسفة الإيمانية” (1*)، وأصبح يستخدم الاستعارات الدينية متحدثاً عن “رغبة الرب” و”البناء الإلهي”. أما جوركي، فقد تأثر كثيراً ببوجدانوف ولوناتشارسكي، ووصلت روايته الشهيرة “الاعتراف” إلى الذروة في هذا الاتجاه على النحو التالي:
“دعوت البشرية إلى الدين الجديد.. الناس هم الخالقون.. والله يسكن في نفوسهم.. رأيت هنا الأرض (أمي) في الفضاء بين النجوم.. ورأيت سيدها القدير والأناس الخالدون.. ثم بدأت صلاتي: أيها الشعب خالق كل الآلهة التي تشكلت من جمال روحك في العناء والعذاب في سعيك. ليس هناك في العالم آلهة أخرى إلا أنت، لأنك أنت الله وحده الذي يفعل المعجزات” (24).
كان رد فعل لينين حاداً وعنيفاً، فكتب إلى جوركي يقول أن “الراهب الكاثوليكي الذي يفسد الفتيات الصغار لهو أقل خطراً بكثير على “الديمقراطية” من راهب تخلى عن عباءته الرسمية، راهب من دون دين خام، راهب ديمقراطي ومُسلح أيديولوجياً يعظ الخلق باختراع إله” (25).
استخدم لينين سلاح الفلسفة ضد بوجدانوف ورفاقه ليس فقط لتسوية الاختلافات داخل الحزب حول المشاركة في انتخابات الدوما والعمل في النقابات وما إلى ذلك، لكن أيضاً لأنه رأى في المثالية الفلسفية الكانطية الجديدة خطراً يهدد بقاء الماركسية خلال فترة الردة الرجعية. لقد كان التصوف الاجتماعي – الديني يسير يداً بيد مع التشاؤم السياسي – الاجتماعي مهدداً بقايا الحركة الثورية.
وبرغم ذلك، إلا أن كتاب لينين “المادية والمذهب النقدي التجريبي” افتقر تماماً إلى أي صلة بالواقع الحي (ويكفي هنا مقارنة هذا الكتاب بـ “المذكرات الفلسفية” الرائعة التي نجدها في المجلد 38 من الأعمال الكاملة له باللغة الإنجليزية). ومن اللافت للنظر أنه لم يشر إلى هذا الكتاب في أي من أعماله اللاحقة، ولا حتى في مراسلاته الغزيرة خلال العام 1909، على عكس ما اعتاد عليه في كل كتاباته الأخرى.
البوجدانوفيون يستمرون في النضال
بعد الانشقاق الذي فرضه لينين في يونيو 1909، شكل بوجدانوف ومؤيدوه تياراً مستقلاً داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وأطلقوا على أنفسهم إسم “البلاشفة الحقيقيين”. وفي ديسمبر أصدروا جريدة حملت نفس إسم تلك الجريدة التي كان يصدرها لينين سوياً مع بوجدانوف في نهاية 1904: فبريود – وتعني إلى الأمام. وفي الأعوام التالية أصبحت مجموعة بوجدانوف تطلق على نفسها “البلاشفة الفبريوديين”.
لفترة من الزمن، لم يكن الفبريوديون على صلة باللينينيين، وكتب لينين عن ذلك في ديسمبر 1910: “الفبريوديون.. يجمعون أنفسهم بتماسك في كتلة لها مؤسستها ووسائل اتصالها الخاصة، وقد ازدادوا عدداً بشكل كبير منذ يناير الماضي” (26).
ومن أجل نشر أفكارهم، عمد بوجدانوف جنباً إلى جنب مع لوناتشارسكي وأليكسينسكي، بمساعدة مكسيم جوركي، إلى تنظيم مدرسة حزبية في كابري بإيطاليا في 1909 استمرت لمدة 4 أشهر. ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل نظموا أيضاً مدرسة ثانية في بولوجنا في نهاية 1909 وبداية 1910.
“دعا طلاب مدرسة كابري إيليتش لإلقاء محاضرة هناك، لكنه رفض بشكل قاطع، وأوضح لهم السمة التكتلية لهذه المدرسة وطلب منهم الحضور إلى باريس. وفي المدرسة اندلع صراع سياسي في بداية نوفمبر، كان على إثره أن أعلن خمسة طلاب (من إجمالي 12 طالب) منهم فيلونوف منظم المدرسة، رسمياً أنهم لينينيون راسخون، ومن ثم تم طردهم من المدرسة. وتثبت هذه الواقعة أفضل من أي شيء آخر صحة وجهة نظر لينين حينما أشار إلى السمة التكتلية للمدرسة.
وصل الخمسة طلاب إلى باريس مع ميشيل.. وألقى إيليتش عليهم سلسلة من المحاضرات، كما اعتنى كثيراً بدراساتهم. ومن ثم غادر الطلاب إلى روسيا، فيما عدا ميشيل الذي كان يعاني من السل.. وبحلول نهاية ديسمبر، انتهت مدرسة كابري، فيما التحق بقية الطلاب بلينين في باريس، وقد ألقى عليهم سلسلة من المحاضرات أيضاً، حيث تحدث عن المواضيع الراهنة بما يشمل الحركة الفلاحية ومهام الاشتراكيين الديمقراطيين، وسياسة ستوليبين الزراعية، إلخ” (27).
في تلك الأيام كان هناك قدر ضئيل جداً من المهام، إلى درجة أن تنظيم مدرسة تثقيفية للكوادر كان إنجازاً في حد ذاته؛ فالحزب كان بالكاد يحافظ على وجوده، كما بدا للجميع أن الانشقاق بين البلاشفة بزعامة لينين والفبريوديين بزعامة بوجدانوف وكأنه القشة الأخيرة في حياة البلشفية.
بدا وقتها للاشتراكيين الديمقراطيين الروس أن حزب لينين قد انتهى تماماً، قد انهارت عضوية الحزب إلى مستوى متدني للغاية، من أكثر من 40 ألف عضو في 1907 إلى مئات قليلة في 1910. كما انقسمت تلك المئات إلى مجموعات صغيرة قام البوليس السياسي بتصفيتها بعنف شديد. لم يكن لتلك المجموعات أي اتصال ببعضها أو بالقيادة في الخارج، وعلاوة على ذلك فقد لينين أبرز وأفضل الكتّاب الملتفين حوله (بوجدانوف، ولوناتشارسكي، وبوكروفسكي، وروجكوف، وجوركي). كان القادة المناشفة يشمتون في افتقار نظرائهم البلاشفة إلى المثقفين، وبعد طرد بوجدانوف والآخرين من الحزب البلشفي ببضعة سنين، كتب مارتوف مستهزءاً بالقيادة البلشفية:
“حفنة من الناس الذين هم بكل معنى الكلمة بدون أسماء، أو أن لهم أسماء محاطة بهالات من التفاهة.. مجموعة هي أكثر انتماءاً إلى مثقفي البروليتاريا الرثة من الإنتلجنسيا. وبمجرد أن وجدوا أنفسهم في القيادة، تحولوا إلى رقباء متسلطين يحملون الراية الأيديولوجية لمثقف واحد فقط لديهم – لينين” (28).
لكن ذلك لم يعدو سوى أن يكون وهماً منشفياً؛ إذ أن فطنة كوادر الحزب للقيادة في النضال الجماهيري لم يكن من الممكن قياسها بهذه المعايير. لقد احتفظ لينين بمئات الكوادر خلال فترة الردة الرجعية وإرهاب الشرطة، كما قام بتجنيد وتدريب مئات أخرى في هذه الفترة.. كان دائم الإعداد من أجل معارك المستقبل.
الانشقاق النهائي مع المنشفية
المناشفة ينحرفون يميناً
بينما كان المناشفة يحتلون مكاناً هاماً في معسكر اليسار أثناء الثورة الروسية الأولى 1905، سرعان ما بدأوا بعد انقضاء الثورة في الانحراف نحو اليمين بقوة. حتى أنه في مؤتمر التوحيد الذي عُقد في ستوكهولم (10 – 25 أبريل 1906)، كان تأثير الجناح اليساري للمناشفة بزعامة تروتسكي وبارفوس، محدوداً للغاية. وهكذا يصف لينين المشهد:
“الشيء المدهش هو الغياب التام بين المناشفة لذلك التيار الذي كان واضحاً بجلاء في ناشالو، والذي اعتاد الحزب أن يربط بينه وبين أسماء الرفاق تروتسكي وبارفوس. وصحيح أنه لا يزال هناك بعض “البارفوسيين” و”التروتسكيين” بين صفوف المناشفة – علمت أنه يوجد ثمانية منهم” (1).
فيما يصف لوناتشارسكي الوجه الحقيقي للمنشفية كالتالي:
“إن المناشفة انطباعيون للغاية؛ فهم يخضعون تماماً لأهواء وانفعالات اللحظة ليس أكثر. حينما صعدت الموجة الثورية في أكتوبر ونوفمبر 1905، قفزت ناشالو بسرعة فائقة وأصبحت أكثر بلشفية من البلاشفة، حيث تخطت طرح الديكتاتورية الديمقراطية لتتبنى الدكتاتورية الاشتراكية مباشرةً. لكن حينما هدأت العاصفة الثورية، وعندما برد الحماس وصعد الكاديت إلى القمة، هيأ المناشفة أنفسهم للمزاج الجديد، وهرولوا خلف الكاديت، كما نحوا جانباً بكل تعالي وتكبر كل أشكال النضال التي تبنوها في أكتوبر ونوفمبر” (2).
وحتى خلال العام 1905، كان أناس مثل بليخانوف ومارتوف، هم وحدهم الذين دافعوا عن ضرورة أن يعمل الاشتراكيين الديمقراطيين مع الليبراليين. لكن خلال سنوات الردة الرجعية، بعد هزيمة الثورة، أصبح التكتيك الأساسي لدى المناشفة هو التحالف مع الكاديت. وجادل أحد المتحدثين بإسم المنشفية، راخميتوف، حول ضرورة مثل هذا التحالف كما يلي:
“إنه لمن السهل على الكاديت أن يديروا ظهورهم حين يجدون أنفسهم محاصرين بجدران من العداء والكراهية، بدلاً من أن يُعرض عليهم تحالفاً سياسياً.. يمكن إنجاز الكثير من خلال ضغط الرأي العام على الكاديت (بإرسال العرائض والقرارات والمطالب للدوما، ومن خلال تنظيم الاحتجاجات والتفاوض بين مجموعات العمال والكاديت) بدلاً من الضوضاء عديمة النفع” (3).
وفي مقالة بعنوان “التحالفات مع الكاديت” في نوفمبر 1906، رد لينين كالتالي: “إن بناء التحالفات مع الكاديت لهو بمثابة اللمسة النهائية التي تميز المناشفة باعتبارهم الجناح اليميني لحزب العمال” (4).
أما التيار الأكثر انتهازية في المنشفية، فقد تجسد في “التصفوية” التي كان لها تأثيراً على المناشفة أقرب لتأثير “الاستدعائية” و”الإنذارية” على البلاشفة. فحينما قدّس بوجدانوف العمل غير الشرعي ومقت بشدة كل جهود العمل الشرعي في الدوما والنقابات، حاول التصفويون المناشفة قصر الحركة على العمل الشرعي والأنشطة العلنية (انتخابات الدوما والأنشطة البرلمانية، والعمل الشرعي في النقابات، وإصدار الصحف العلنية، إلخ)، كما أيدوا اختزال أو تصفية المنظمة السياسية غير الشرعية. وهكذا تحدث بوتريسوف، محرر جريدة ناشا زاريا والمتحدث الرسمي للتصفويين، في فبراير 1910: “إن الحزب كهيكل متكامل من المؤسسات المنظمة غير موجود”. وتعليقاً على هذه الرؤية، ذكرت مجلة تصفوية أخرى، فوزروجدينييه، في عددها الصادر بتاريخ 30 مارس 1910:
“لا يوجد شيء يمكن تصفيته من الأصل، ونحن (محررو فوزروجدينييه) نضيف أن وهم إعادة تأسيس هذا الهيكل في شكله غير الشرعي القديم لهو ببساطة يوتوبيا رجعية مضرة، وتشير هذه اليوتوبيا إلى افتقار إلى الحدس لدى مندوبي الحزب الذين كانوا هم الأكثر واقعية من قبل” (5).
وعلى نحو مشابه، كتب المنشفي ب. بوجدانوف: “إن النضال من أجل كسر العمل السري والشروع في النشاط السياسي المفتوح والعلني لهو سمة جديدة مميزة للتطورات الأخيرة في حركتنا العمالية” (6).
أما القيادي المنشفي مارتوف، فقد كان أكثر ميلاً تجاه التصفوية بدعوته للمساواة بين المنظمات الحزبية الشرعية وغير الشرعية. وبحسب كتاباته، فإنه ينبغي على المنظمة غير الشرعية بشكل أساسي أن تدعم الحزب العلني الشرعي.
“إلى درجة ما، تُعد المنظمة المركزية التآمرية أمراً مقبولاً (ومقبولاً جداً) فقط طالما أنها تشارك في بناء حزب اشتراكي ديمقراطي” (7).
وعلّق لينين على تلك الفكرة بأنها:
“تقود في الحقيقة إلى إخضاع الحزب للتصفويين، إخضاع الحزب للمناضل الشرعي الذي يقف ضد الحزب غير الشرعي معتبراً نفسه على قدم المساواة معه، والذي لا يعدو سوى أن يكون تصفوياً. إن هذه “المساواة” بين الاشتراكي الديمقراطي غير الشرعي الذي تلاحقه الشرطة باستمرار، والاشتراكي الديمقراطي الشرعي المحمي بشرعيته وبانفصاله عن الحزب، هي تماماً كـ”المساواة” بين العامل والرأسمالي” (8).
“إنها المنظمات غير الشرعية هي التي ينبغي عليها أن تحكم ما إذا كان الشرعيون في الواقع هم مؤيدون ومنتمون للحزب حقاً.. أي أننا نرفض تماماً نظرية المساواة” (9).
بالنسبة لمارتوف، لم تكن المنظمات غير الشرعية تمثل أكثر من هيكل احتياطي للحزب يمكن اللجوء إليه في حالات الارتداد إلى العمل السري التام. أما بالنسبة للينين فقد كان الأمر بالعكس، أي أن الأنشطة الشرعية هي التي من شأنها توسيع محيط أنشطة المنظمات غير الشرعية للحزب. أما التبعات السياسية للاستناد إلى المنظمات غير الشرعية فقط كهيكل احتياطي، فهي بعيدة المدى. فقد كان من المستحيل بالطبع التحدث عن الإطاحة بالقيصرية في الصحافة الشرعية التي تمر أولاً عبر الرقابة، لذا فإن حصر الحزب في المساحات الشرعية للحركة يعني عملياً التخلي عن بعض المبادئ. وقد كانت تلك هي الخطوة الأولى في طريق الدفاع عن التحول التدريجي للحكم القيصري إلى ملكية دستورية، وتلك كانت الرغبة التي طالما تاق لها الكاديت.
وخلال نضاله ضد اليساريين المتطرفين، كان لينين حريصاً على التحذير من خطورة الوقوع في فخ التصفوية، حيث تقييد برنامج الحزب لاحتياجات العمل الشرعي.
“إن الدمج بين العمل الشرعي وغير الشرعي يتطلب منا مكافحة أي “تقليل من دور وأهمية” الحزب غير الشرعي. أما الحاجة للدفاع عن وضع الحزب في الإطار الشرعي في أوقات معينة، فهي التي تتطلب منا أن نحافظ على الأهداف والشعارات دون أن نختزل منها شيئاً، ودون أن يتسبب تغير شكل النضال في تدمير مضمونها، أن جعلها قابلة للمساومة، ودون تشويه المنظور التاريخي والهدف التاريخي للبروليتاريا” (10).
وفي تقرير قدمه إلى هيئة التحرير الموسعة لـ”بروليتاري”، دعا لينين لشن النضال على جبهتين؛ ضد اليساريين المتطرفين من ناحية، وضد اليمينيين التصفويين من ناحية أخرى. وهكذا دافع عن:
“مكافحة أصناف التصفوية على اختلافها: التصفوية على اليمين، والتصفوية على اليسار. التصفويون على اليمين يقولون أن لا حاجة لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي غير الشرعي، وأن الأنشطة الاشتراكية الديمقراطية يجب مركزتها على وجه التحديد في الفرص الشرعية. والتصفويون على اليسار يذهبون إلى أقصى الطرف الآخر، وبالنسبة لهم فإن السبل الشرعية للحزب غير موجودة على الإطلاق، والعمل السري وغير الشرعي بأي ثمن هو كل شيء ويمثل هدفاً بحد ذاته. كلاهما، بدرجة مساوية تقريباً، تصفويو حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي؛ إذ أنه من دون منهجية حكيمة في الدمج بين العمل الشرعي والعمل غير الشرعي في الوضع الحالي الذي وضعنا التاريخ بصدده، يصبح الحفاظ على الحزب وتماسكه أمراً لا يمكن تصوره” (11).
وبينما كان لينين على استعداد لطرد الاستدعائيين من الشق البلشفي للحزب، لم يقدر مارتوف (الذي التزم موقف التوافقي) على شن نضال جاد وحاسم ضد التصفويين برغم معارضته لهم.
المؤتمر العمالي
كانت إحدى الطرق التي تهدف لتصفية الحزب هي استبداله بحزب عمالي واسع ومؤتمر عمالي. دافع المنشفي لارين عن تلك الفكرة باستماتة شديدة في 1906 في كراس بعنوان “حزب عمالي واسع ومؤتمر عمالي”، حيث تصور أن هذا الحزب العمالي ينبغي أن يضم 900 ألف عضو من البروليتاريا الروسية التسعة ملايين. وهنا يُرفع الستار ليكشف المضمون الأساسي لأطروحة لارين: على الحزب أن يكف عن أن يكون اشتراكي ديمقراطي، بل عليه أيضاً أن يندمج مع الحزب الاشتراكي الثوري في إطار حزب واسع.
وفي نفس السياق، كتب المنشفي المحنك أكسيلرود:
“سوف يستكمل المؤتمر العمالي عملية التصفية التي جرت خلال السنوات القليلة الماضية، تصفية نظام الحزب القديم الذي نشأ على القاعدة التاريخية البالية للنظام الإقطاعي وهرمية النظام الاجتماعي والسياسي، وفي نفس الوقت سوف يبدأ عصر جديد تماماً في تاريخ الاشتراكيين الديمقراطيين الروس، عصر التطور على خطى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الغرب” (13).
كما اقترح منشفي آخر، وهو ن. روجكوف، تأسيس منظمة عمالية سلمية ومفتوحة، وعلى حد تعبيره: “اتحاد سياسي لحماية مصالح الطبقة العاملة” (14).
“ليس هناك أي دفاع عن العنف في ذلك، وليس هناك أي تفكير فيما يتعلق بضرورة الثورة العنيفة، لأنه في الحقيقة لا وجود لهذه الضرورة من الأصل. وإذا أصر أحدهم، معمياً بذلك الخبل الرجعي، على اتهام أعضاء مثل ذلك “الاتحاد” بالنضال من أجل الثورة العنيفة، فعليه أن يتحمل مسئولية هذا الاتهام السخيف والواهي والذي لا وجود ولا صحة له” (15).
جادل لينين كثيراً، وبحدة بالغة، ضد فكرة المؤتمر العمالي، حيث أوضح أنه ليس هناك أي مضمون واقعي لذلك الطرح الذي يقدمه التصفويون. ومن ثم كتب في بداية ديسمبر 1911:
“من الواضح أنه لن يُسمح بإنشاء مثل ذلك الاتحاد.. من الواضح أنهم لن يدعوه يصير واقعاً حياً. وفقط الليبراليون العميان هم من يرون عكس ذلك. من المفيد بالطبع إنشاء نقابات شرعية فاعلة، طالما أننا ندرك جيداً أنها في ظل الظروف الراهنة من غير الممكن أن تصبح واسعة ولا “سياسية” ولا مستقرة. لكن من الضار أن ننساق وراء المواعظ الليبرالية التي ترفض فكرة استخدام القوة” (16).
وفي مارس 1912، كرر مرة أخرى:
“من الواضح في ظل الظروف السياسية السائدة في روسيا، والتي يظل فيها حتى حزب الليبراليين – الكاديت – حزباً غير شرعياً، أن إنشاء حزب الطبقة العاملة الاشتراكي الديمقراطي المفتوح هو مجرد فكرة طموحة ليس إلا. إن التصفويين لم يتبرأوا فقط من الحزب غير الشرعي، لكنهم أيضاً لم يفوا بالتزامهم بإيجاد الحزب الشرعي” (17).
وفي وقت لاحق، تساءل لينين: أين المؤتمر إذن؟
“لأكثر من عام كنا نقول للتصفويين: كفاكم كلاماً وابدأوا على الفور في تأسيس “منظماتكم السياسية الشرعية”، مثل “اتحاد الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة”، إلخ. كفوا عن ترديد العبارات المحفوظة وانزلوا إلى العمل. لكنهم لم يفعلوا ذلك، إذ أنه من المستحيل إدراك تلك اليوتوبيا الليبرالية في روسيا اليوم” (18).
وفي مواجهة فكرة المؤتمر العمالي الشرعي، طرح لينين سيادة الحزب غير الشرعي:
“1- إن الشكل الصحيح الوحيد للهيكل التنظيمي في الفترة الراهنة هو الحزب غير الشرعي والذي هو حصيلة الأنوية الحزبية الملتفة حولها شبكة من الاتحادات العمالية الشرعية وشبه الشرعية.
2- ينبغي إلزاماً تكييف الشكل التنظيمي للبناء غير الشرعي وفقاً للظروف المحلية. أما تنوع أشكال الغطاء على الأنوية غير الشرعية والمرونة العالية في تكييف أشكال العمل وفقاً للظروف المحلية والعامة إنما يضمنان حيوية التنظيمات غير الشرعية.
3- إن المهمة الرئيسية الراهنة في مجال العمل التنظيمي إنما هي بناء لجان غير شرعية في كل المصانع تتكون من العناصر الأكثر نشاطاً بين العمال. والموجة الهادرة لحركة الطبقة العاملة حالياً توفر المناخ الذي يمكن في ظله بناء المزيد من اللجان الحزبية بالمصانع، وتقوية اللجان الموجودة بالفعل في الغالبية العظمى من المناطق المحلية.
4- أصبح من الضروري حالياً إنشاء قيادة تنظيمية واحدة في كل مركز” (19).
ليس هناك من شك أن على الاشتراكيين الثوريين أن يناضلوا من أجل الحق في التنظيم وحرية تأسيس اتحادات الطبقة العاملة ومنظماتها، لكن ذلك يجب أن يكون جزءاً من النضال من أجل الإطاحة بالقيصرية. وتجاهل العلاقة المباشرة بين الإصلاحات الجزئية والإطاحة الثورية بالقيصرية ليس سوى خداعاً للعمال وسقوطاً في فخ الليبرالية.
“من المهم للغاية الإشارة إلى أن حرية الصحافة والتنظيم والتجمع والإضراب عن العمل هي أدوات لا غنى عنها للعمال، لكن من أجل تحقيق ذلك يتوجب علينا أن ندرك العلاقة غير المنفصلة بين حوذ الحريات السياسية وإنجاز تغيير جذري في النظام السياسي بأكمله. ليس اليوتوبيا الليبرالية لحرية التنظيم في ظل حكم الثالث من يونيو، لكن النضال في سبيل الحرية بشكل عام، وفي سبيل حرية التنظيم بشكل خاص، ضد هذا الحكم على طول الخط، ضد أسس هذا الحكم بالذات” (20).
“يطالب العمال بحرية التنظيم بجدية وإخلاص، لذا يناضلون من أجل الحرية لكل الشعب، من أجل الإطاحة بالملكية، من أجل الجمهورية” (21).
لقد أضفت الظروف التي سادت خلال فترة الردة الرجعية على فكرة التركيز الكامل على العمل الشرعي جاذبية شديدة، وقام المئات من المثقفين بتحويل نشاطهم إلى العديد من المنظمات الشرعية، كالتعاونيات والنقابات واللجان الاستشارية لمجموعة الدوما، إلخ.
“كان التصفويون في المقدمة خلال تلك السنوات الكريهة والمقيتة. وكما كتب أولمينسكي: “فقد عانوا قدراً أقل بكثير من ملاحقة الشرطة.. كان لديهم الكثير من الكتّاب والمحاضرين، وتشكلوا بالأساس من المثقفين”. أما محاولات الشق البلشفي، الذي كانت قواعده تتقلص كل ساعة، للحفاظ على الماكينة غير الشرعية للحزب، فقد كانت تصطدم في كل منعطف بالكثير من الظروف المعادية. وبدا أن البلشفية محكوم عليها بالفشل، فكتب مارتوف: “كل التطورات الحالية تجعل من تشكيل شق حزبي مستقل وصلب مجرد يوتوبيا رجعية مثيرة للشفقة” (22).
عرّف لينين التصفويين بأنهم مثقفين هاربين من الجهاز السري للحزب.
“إن فرار بعض الناس من المنظمات غير الشرعية يمكن أن يكون نتيجة الإرهاق أو الافتقار إلى العزيمة. مثل هؤلاء يستحقون الشفقة وينبغي مساعدتهم، إذ أنهم سيتجاوزون الافتقار إلى العزيمة وسيتخلون عن تلك البلاهة، سيبتعدون عن الليبراليين وعن السياسات العمالية الليبرالية، ومن ثم سيعودون إلى المنظمات غير الشرعية للطبقة العاملة. لكن حينما يستخدم أولئك المتعبين فاقدي العزيمة الصحافة كمنبر يعلنون من خلاله أن فرارهم من التنظيم السري ليس مظهراً للإرهاق أو الضعف أو حتى الزهد الفكري، بل أن يلقوا باللوم على التنظيم السري “غير الكفء” و”غير الفعال” و”المحتضر”، إلخ، فإن أولئك الفارين إذن يصيرون مرتدين مثيرين للاشمئزاز. أولئك الفارون يصيرون إذن أسوأ من يقدم النصيحة لحركة الطبقة العاملة، وبالتالي أخطر أعدائها” (23).
إلا أن ذلك لا يعني أن المناشفة كانوا تصفويين في مجملهم، لكن على الأقل أنهم تحملوهم وقبلوهم في صفوفهم. وبينما لم يؤيداهم الزعيمان المنشفيان مارتوف ودان، إلا أنهما دافعا عنهم ضد الهجوم البلشفي في جريدة جولوس سوسيال ديمقراطا التي صدرت في باريس. وفي نفس الوقت، كانا يساهمان بنشاط كبير في صحافة التصفويين العلنية.
قضية المصادرات
مع تراجع المد الثوري، صارت قضية تمويل الحزب أكثر ضيقاً وإلحاحاً. وحتى أثناء العام 1905 كان الجهاز الداخلي للحزب متواضعاً للغاية، وأعازت كروبسكايا ذلك إلى ضغط النشاط اليومي، وقد كانت أمانة الحزب تتكون فقط من ثلاثة أعضاء هم: كروبسكايا، وميخائيل سرجييفيتش، وفيرا رودولفوفنا مينجنسكايا.
“كان ميخائيل سرجييفيتش منخرطاً بشكل أكبر في التنظيم العسكري، وكان دائماً منشغلاً بتنفيذ تعليمات نيكيتين (ل. ب. كراسين)، بينما كنت أنا مسئولة عن تعيين الأعضاء وعن الاتصال باللجان والأفراد. وقد يكون من الصعب الآن أن أصف أسلوب عمل الأمانة العامة باللجنة المركزية، لكني أتذكر جيداً أننا لم تتسن لنا أي فرصة لحضور أي من اجتماعات اللجنة المركزية، لم يكن لدينا أي وقت، ولو حتى دقيقة واحدة، فيما كنا نحتفظ بالعناوين المشفرة داخل علب الثقاب أو بين حزم الكتب، أو ما شابه.
ينبغي علينا اليوم أن نثق بذكرياتنا. كان هناك أعداداً هائلة محيطين بنا دائماً، وكان علينا أن نعطي لهم كل وقتنا.. نمدهم بكل ما يريدون من تثقيف وأدبيات، أو جوازات سفر، أو تعليمات ونصائح عملية، إلخ. إنه لمن الصعب الآن أن نتذكر كيف كنا نلاحق على كل ذلك، وكيف حافظنا على كل تلك المهام، في حين كنا نتصرف بكامل إرادتنا المطلقة دون رقيب ولا حسيب” (24).
هذه الأمانة، المكونة فقط من ثلاثة أعضاء، كانت تشرف على حزب يضم 46,143 عضو في 1907.
أما الأعضاء المتفرغين، فقد كانوا يتقاضون مبالغ زهيدة من الحزب.. “هؤلاء الأعضاء الذين قضوا كل وقتهم في عمل الحزب، كانوا يتقاضون مبالغ ضئيلة للغاية، في بعض الأحيان 3 أو 5 أو 10 روبلات، ولم تتجاوز تلك المبالغ 30 روبل في الشهر على الإطلاق” (25)، وذلك مقارنةً بتوسط أجر العامل في الفترة بين 1903 إلى 1905 والذي كان يُقدر بـ 28 روبل.
وبرغم تواضع الجهاز الداخلي، وبرغم ضآلة المبالغ التي كان يتقاضاها محترفو الحزب، إلا أن قضية المالية كانت تمثل مشكلة مزمنة يعاني منها الحزب. خلال الثورة، لم تكن المالية تمثل عبئاً ثقيلاً؛ فقد كان يتلقى الكثير من التبرعات من المتعاطفين ميسوري الحال. في منظمة البلاشفة في موسكو، على سبيل المثال، كان هناك ألف عضو في 1905:
“وأظهرت حسابات اللجنة في يونيو أن الدخل قد تزايد إلى 9,891 روبل، منهم 4 آلاف روبل من “صديق”، و3 آلاف “من أجل السلاح”. كان معروفاً أن هناك العديد أن هناك العديد الأثرياء المتعاطفين مع القضية البلشفية، مثل مكسيم جوركي وابن أحد ملاك المصانع.. أما إجمالي اشتراكات الأعضاء فقد وصلت إلى 1,378 روبل، وهناك 1,013 آخرين” (26).
وفي أكتوبر، زادت المساهمات المالية من أثرياء المتعاطفين: “اثنان دفعا 4 آلاف روبل، و8400 آخرين من “الأصدقاء” (27)، فيما كان الوضع مشابهاً كثيراً لدى المناشفة خلال الفترة الثورية، كما وصف مارتوف:
“ازدادت ميزانيات منظمات الحزب كثيراً.. برغم أن اشتراكات الأعضاء لعبت دوراً محدوداً في ذلك. أوضح تقرير مسئول المالية بمنظمة باكو، في فبراير 1905، أن اشتراكات العمال بلغت 38,9 روبل من أصل 382,8، أي 3% فقط. وجاء في تقرير فرع ريجا، في أغسطس، أن الاشتراكات وصلت إلى 143,4 روبل من أصل 558,7 هي ميزانية الفرع، أي 22% فقط. أما في لجنة سيباستوبول، فقد بلغت 14% من الميزانية، وفي فرع ماريوبول: 33%، إلخ. ولعله واضحاً من التقارير أن النسبة الأعلى لاشتراكات الأعضاء كانت في الفرع الاشتراكي الديمقراطي الروسي في إيفانوفو – فوزينسينيك، حيث وصلت إلى 53% من إجمالي دخل الفرع” (28).
كانت واحدة من أهم المتعاطفين الذين تبرعوا بمبالغ كبيرة هي م. كاليمكوفا (كانوا يدعونها “العمة”)، حيث وفرت من أموالها التمويل الأساسي الذي صدرت به جريدة الإيسكرا. كانت كالميكوفا صاحبة دار نشر وتوزيع تصدر عنها كتب تقدمية وأدبيات شعبية رخيصة السعر، وكانت صديقة قريبة لكروبسكايا زوجة لينين. أما موروزوف، المستثمر الثري بالغزل والنسيج، فقد كان يتبرع للحزب شهرياً بألفي روبل عن طريق المهندس كراسين (1*)، وكذلك ابن أخيه ن. ب. شميدت، الذي سنشير إليه لاحقاً، من أكثر المساهمين في مالية الحزب البلشفي.
ومع سيطرة الرجعية وتدهور الثورة، انقطع كافة المتعاطفين الأثرياء عن التبرع للبلاشفة، وفشل لينين كثيراً في جمع أي أموال آنذاك، وكذلك كروبسكايا، التي لم تكن فقط عضواً في الأمانة العامة للجنة المركزيةبل أيضاً مسئولاً لمالية الحزب ككل، أخذت تشكو مراراً وتكراراً من نقض الأموال. لكن لنقرأ أولاً القصة التالية:
“كان الشاب نيقولاي بافلوفيتش شميدت يملك مصنعاً للأثاث بمقاطعة بيرنسيا بموسكو، وكان عمه هو موروزوف، ذلك الثري الذي كان يهب مبالغ كبيرة للبلاشفة. انحاز الشاب نيقولاي إلى صف العمال في 1905 وانضم للبلاشفة أيضاً، ووفر الأموال اللازمة لطباعة وتوزيع جريدة نوفايا جيزن، كما وفر الكثير من الأموال لشراء وتحصيل السلاح. أصبح نيقولاي ودوداً مع العمال وأفضل صديق لهم، وأطلقت الشرطة على مصنعه “وكر الشيطان” حيث لعب المصنع دوراً مهماً في انتفاضة موسكو المسلحة. اعتُقل نيقولاي بافلوفيتش وتعرض لأبشع ألوان التعذيب، واصطحبته الشرطة لتريه ما حلّ بالمصنع وبعماله الذين لقوا حتفهم داخله، وفي النهاية اغتالوه في السجن. وقبل أن يموت، نجح في تمرير وصيته لأصدقائه بالخارج بأن يهب كل ممتلكاته للبلاشفة.
ورثت إيليزافيتا، الأخت الصغرى لنقولاي، جزءاً من ممتلكاته، وقررت هي الأخرى أن تمنح ثروتها للبلاشفة. لكن الفتاة كانت قاصرة، أي لم تكن قد تخطت السن الذي يسمح لها بذلك، وهكذا من أجل أن تتصرف بالمال كما أرادت، قررت أن تعلن زواجاً زائفاً بالرفيق إيجناتييف، الذي قد قرر هو الآخر أن يحتفظ بعمله الشرعي بعد أن شارك في الفرق المسلحة في موسكو. وبما أنها أصبحت متزوجة، صار بمقدورها أن تفعل ما تريده بميراثها لدى موافقة زوجها الرفيق، لكن الزواج لم يكن حقيقياً” (29).
وحتى مع ذلك، استمرت الضائقة المالية حادة ومزمنة لدى البلاشفة، وهكذا قرر لينين القيام بالعمليات التي عُرفت بـ “المصادرة”، والتي كانت في الحقيقة عمليات سطو مسلح على المصارف وغيرها من المؤسسات من أجل سد احتياجات الحزب المالية الملحة. وبعد عدد من العمليات، اتجه المناشفة للتنديد بها، واتجه تروتسكي ينتقد لينين بحدة بالغة في الصحافة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، حتى أن الكثير من البلاشفة أظهروا استياءاً بالغاً من تلك العمليات. وفي مؤتمر ستوكهولم (1906)، أدلى 64 مندوباً بأصواتهم تأييداً لقرار المناشفة بمنع هذه العمليات، فيما صوّت 4 لصالح استكمالها، وامتنع 20 عن التصويت. وهذا يعني أن المندوبين البلاشفة أنفسهم قد صوّتوا مع المناشفة.
وفي تقرير مطوّل أملاه لينين في مؤتمر ستوكهولم، تجنب القيادي البلشفي أي ذكر للقرار المتعلق بالعمليات المسلحة، وذلك على خلفية أنه لم يكن حاضراً أثناء مناقشة القرار. إلا أن من الصعب تصديق أن غياب لينين عن تلك المناقشة كان على سبيل الصدفة، بل أن لم يكن يحب أن يحضرها مكتوف الأيدي أثناء الهجوم عليه.
وفي مؤتمر لندن، في مايو 1907، خاض لينين في مناقشة كل القضايا الأخرى فيما عدا قضية “المصادرة” تحديداً، فيما انهالت أصواب المندوبين مرة أخرى في صالح منع عمليات السطو المسلح. ومرة أخرى أيضاً صوّت المندوبين البلاشفة لصالح قرار المناشفة، وعندما طلب المندوبين سماع رأي لينين – الذي تحاشى الإدلاء بصوته – أصدر ضحكة مكتومة مع تعبير تهكمي على وجهه دون كلمة واحدة (30).
وفي تقرير كتبه ستالين عن المؤتمر، الذي كان مندوباً به، حاول أن يشرح القرار وما جرى حوله من نقاشات بهذه الطريقة العرجاء:
“من بين كافة مشاريع القرارات التي قدمها المناشفة في المؤتمر، كان القرار حول التحركات العصابية فقط هو ما تم إقراره بالفعل، وكان ذلك أيضاً بمحض الصدفة.. فقد كان ذلك فقط بسبب أن البلاشفة لم يرغبوا في العراك، بل في أن يتركوا لرفاقهم المناشفة على الأقل فرصة واحدة وألا يفسدوا عليهم فرحة تمرير قرارهم”.
في الحقيقة، لم يكن البلاشفة “يرغبون في العراك” بسبب أنهم واجهوا في هذه المسألة ليس فقط المناشفة، بل أيضاً البولنديين والبوند، بل وكذلك الكثير من الأعضاء البلاشفة أنفسهم.
وفي 23 يونيو، أي بعد ستة أسابيع من مؤتمر لندن، ورغماً عن القرار، نفذ رجال لينين عملية سطو مسلح هي الأخطر والأكثر تهوراً وجرأة ومغامرة، حيث داهموا مصرف تيفليس، وصادروا 341 ألف روبل دفعة واحدة أُرسلوا للتو لمالية البلاشفة بالخارج. لكن لم يكن من السهل استبدال الأموال المنهوبة في البنوك الخارجية التي كانت شديدة الحذر حيال ذلك، بالأخص لأن المبلغ لم يكن يشمل سوى فئات كبيرة من العملة الروسية. والعديد من البلاشفة كان يتم القبض عليهم أثناء محاولاتهم لاستبدال الأموال، مثل الرفيق ليتفينوف الذي قُبض عليه في أوروبا الشرقية، والذي صار بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية في 1917 مفوضاً للشعب للشئون الخارجية.
ندد كلٌ من تروتسكي ومارتوف بتلك العمليات بعنف في مؤتمر لندن، وبعد فترة وجيزة انتقل هذا التنديد في صورة مقالات وأعمدة نُشرت في الصحف الاشتراكية في أوروبا الشرقية.
لعب ستالين دوراً محورياً في تنظيم عمليات السطو. وربما يكون هذا الدور، وما يتسم به من مزج الحرص بالجرأة والمغامرة، هو الذي استرعى انتباه لينين إلى ستالين. كانت مجموعة من ضمن أفضل الكوادر البلشفية قد اشتركت في تنفيذ تلك العمليات. لنأخذ الرفيق كامو (سيميون أرشاكوفيتش تيربتروسيان) مثالاً. شارك كامو في مداهمة تيفليس وعدد من المصارف الأخرى، وسمح لنفسه هو ورفيق آخر في مجموعته أن يحظيا فقط بـ 50 كوبيك في اليوم الواحد للمعيشة. كان ذلك الرفيق جريئاً ومغامراً إلى درجة أنه هرب من سجن تيفليس وشارك في تهريب السلاح إلى روسيا، وادعى الجنون في أحد السجون الألمانية، وبرغم التعذيب الوحشي نجح في إقناع سجانيه بأنه مجنوناً بالفعل، ومن ثم أُرسل مرة أخرى إلى تيفليس، ليهرب ثم يُقبض عليه ثانيةً فيُحكم عليه بالإعدام، لكن العقوبة خُففت إلى السجن مدى الحياة.
الانقسام، الانقسام، الانقسام
بعد الانتهاء من مؤتمر التوحيد في ستوكهولم، تصدرت قضية انتخابات الدوما الصراع داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي في بطرسبورج. وعندما حان الوقت لتحديد مرشحي الحزب في المدينة، حدد البلاشفة المرشحين الذين سيدفعون بهم في الانتخابات، فيما انصرف 31 من المرشحين المناشفة من المؤتمر، وفقاً لتعليمات اللجنة المركزية للحزب والتي يسيطر عليها المناشفة، ليعقدوا مؤتمراً خاصاً بهم ويقررون فيه التحالف مع الكاديت في انتخابات الدوما.
وما لبث لينين أن أصدر على الفور كراس صغير يتهم فيه المنسحبين من المؤتمر بالتواطؤ مع الكاديت “من أجل بيع أصوات العمال” و”عقد صفقة لإقحام رجالهم في الدوما بمساندة الكاديت رغماً عن إرادة العمال”. لم يكن لينين يوجه تلك الاتهامات فقط للمنسحبين من المؤتمر، بل أيضاً للجنة المركزية للحزب، لكن ذلك كان يُعد خرقاً واضحاً للانضباط الحزبي من جانب لينين. وهكذا وجد نفسه أمام لجنة حزبية تحقق معه في “السلوك غير المسموح به الذي صدر عنه تجاه أعضاء بالحزب”. كان من حق لينين أن يحدد ثلاثة محققين في هذه اللجنة، فيما عيّنت اللجنة المركزية ثلاثة آخرين، وحددت المنظمات اللاتفية والبولندية والبوند عضواً واحداً لكل منهم في لجنة التحقيق.
لم يكن لذلك التحقيق أهمية؛ فلقد انعقد مؤتمر حزبي قبل انتهائه ولم يحظ المناشفة فيه بالأغلبية، فيما وضع لينين في موقع السيطرة. لكن سلوك لينين أثناء مثوله أمام لجنة التحقيق كان مثيراً للغاية، إذ حوّل دفة الصراع ضد الجناح اليميني بالحزب.
مع بدء التحقيق، اعترف لينين بأنه استخدم “لهجة غير مسموح بها في العلاقة مع الرفاق في نفس الحزب” (31)، لكنه لم يعتذر قط عن ذلك. وبالتأكيد، لم يكن لينين يتردد، في نضاله ضد التصفويين وحلفائهم، في استخدام أكثر الأسلحة عنفاً وحِدة؛ فالوسطية ليست من شيم البلشفية.
لينين يتقرّب إلى بليخانوف
على الرغم من النضال الذي خاضه لينين بلا هوادة ضد خصومه داخل الحزب، إلا أنه لم يحمل أي ضغائن تجاههم، بل كان يسعى للالتقاء بهم إذا لاحظ أي خطوة من جانبهم تجاه التقارب، تماماً مثلما حدث مع بليخانوف في عامي 1908 و1909.
رأى لينين أن هناك فرصة لإعادة بناء الحزب من خلال التضحية باليساريين المتطرفين واجتذاب العناصر المعادية للتصفية بين المناشفة، أي أولئك الذين لم يعارضوا فكرة بناء المنظمات السرية. وقد كان بليخانوف يتزعم هؤلاء في الشق المنشفي من حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي.
في ديسمبر 1908، استقال بليخانوف هيئة تحرير جريدة التصفويين، جولوس سوسيال ديمقراطا، وغادر أيضاً من مجموعة تحرير الكتاب ذي الخمسة مجلدات – “الحركة الاجتماعية في روسيا” – والتي كانت تضم مارتوف وماسلوف وبوتريسوف. كتب بليخانوف بكل غضب رداً على مقالة مؤيدة للتصفويين بقلم بوتريسوف.. كتب بوتريسوف:
“إني أسأل القارئ.. هل كان في العام 1909 شيئاً حقيقياً موجوداً في الواقع، ليس نسجاً من خيال مريض، يسمى النزعة التصفوية.. نزعة لتصفية شيئاً لا يحتاج لتصفية.. وليس موجوداً من الأساس ككيان منظم”.
ورد بليخانوف:
“ليس هناك من شك أن رجلاً لا يعتبر الحزب موجوداً، أن الحزب لا يعتبر هذا الرجل موجوداً في المقابل. الآن سيكون على أعضاء الحزب أن يقولوا أن السيد بوتريسوف ليس رفيقاً لهم، وربما يذهب البعض لاتهامي بموجب أني توقفت منذ زمن عن اعتباره كذلك” (32).
“لقد أخفق بوتريسوف في النظر إلى الحياة الاجتماعية في روسيا بأعين ثورية”، أما التصفوية، بحسب كلمات بليخانوف، فهي تقود إلى “مستنقع الخزي الانتهازي”؛ فهي “تؤدي إلى اختراق التيارات البرجوازية الصغيرة للبيئة البروليتارية”. “لقد حاولت (بليخانوف) مراراً وتكراراً أن أثبت للرفاق المناشفة النافذين أنهم يرتكبون خطئاً فادحاً بإبداء استعدادهم للتعاون والمضي جنباً إلى جنب مع أولئك السادة الذين يفوحون بالانتهازية”. “لا تقود التصفوية إلا إلى الانزلاق في فخ الانتهازية والتطلعات البرجوازية الصغيرة المعادية للاشتراكية الديمقراطية” (33).
وعلى إثر هذا الإعلان من جانب بليخانوف، تقدم لينين إلى تسوية الخلاف معه، وفي نوفمبر 1909، دعا إلى:
“التقارب بين أعضاء الحزب المؤيدين لكافة فصائل الحزب وقطاعاته، وقبل كل شيء التقارب بين البلاشفة والأعضاء المؤيدين للمناشفة والمناشفة على شاكلة رفاق فيبورج في سان بطرسبورج والبليخانوفيين.. نحن نطلق هذه الدعوة لكافة المناشفة القادرين على شن المعركة ضد التصفوية، لكافة المناشفة المؤيدين لبليخانوف، وبالطبع لكافة العمال المناشفة” (34).
من الناحية العملية، لم يكن لينين يبذل الكثير من الجهد للتعاون مع بليخانوف؛ فالفوارق الأساسية بين سياستيهما كانت جذرية بما يكفي لمنع ذلك التعاون بينهما. وفي الحقيقة، كان بليخانوف على أقصى يمين المناشفة في ثورة 1905؛ فلقد عارض انتفاضة ديسمبر لأنها ستخيف الليبراليين، وقد دعا أيضاً للتقارب مع الكاديت والتعاون معهم باعتبارهم قادة للثورة.
لينين يناضل ضد التوفيقيين
شن لينين نضالاً ضارياً ضد اليسارية المتطرفة في الحزب البلشفي، كما كافح بدأب ضد التصفويين المناشفة، لكنه ما لبث أن طرد الفبريوديين البلاشفة حتى واجه معارضة من نوع آخر تصعد ضده داخل الشق البلشفي من حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي: التوفيقيين، أو كما أطلقوا على أنفسهم “بلاشفة الحزب”. كان الحزب منهك القوى وفي حالة يُرثى لها إلى درجة دفعت أعضاءه للدعوة إلى الوحدة، إلى التقارب بين البلاشفة والمناشفة ووضع حد نهائي للانقسامات والانشقاقات الداخلية.
حينئذ كان لينين قد بدأ يفقد الكثير من التأييد بين البلاشفة، حيث تبنى الكثير من القادة البلاشفة الدعوة إلى الوحدة ضمن حزب واحد دون انشقاقات داخلية. كان التوفيقيون يضمون بعضاً من أبرز القيادات البلشفية المنتخبين للجنة المركزية في المؤتمر الخامس أمثال: ريكوف ونوجين ودوبروفينسكي ولوزوفسكي وسوكولنيكوف (35).
في ظل هذه الظروف، دعا القادة المناشفة إلى جلسة جديدة للجنة المركزية للحزب في باريس في بداية 1910، فيما عارض لينين هذه الدعوة بقوة. كان لينين آنذاك في موضع الأقلية، ليس فقط في صفوف الحزب ككل، بل أيضاً بين رفاقه البلاشفة أنفسهم، ومن بين كافة القادة البلاشفة البارزين، كان الوحيد الذي أبدى تأييده لأطروحات لينين ضد التوافق مع المناشفة هو زينوفيف، الذي غدا منذ ذلك الحين أقرب معاوني لينين الموثوق بهم، حتى أتى الاختبار الحاسم له بعد ذلك في الأحداث العاصفة لثورة 1917 (2*).
ولثلاث أسابيع، وقع لينين محل هجوم حاد من كل الأطراف حوله، وفي النهاية أُجبر على تسليم أموال شميدت، وتصفية الجريدة البلشفية (بروليتاري)، والموافقة على إصدار جريدة مشتركة مع المناشفة (سوسيال ديمقراط) التي اشترك في هيئة تحريرها هو وزينوفيف من البلاشفة مع المنشفيين مارتوف ودان، وفارسكي ممثلاً عن الحزب البولندي. وفي ذلك الحي، أُعلنت جريدة تروتسكي في فيينا، برافدا، كجريدة رسمية للحزب، وأُرسل كامينيف (3*) لمساعدته في تحريرها، كما ساهمت اللجنة المركزية في دعمها مالياً. ولزيادة الطين بلة، لم تندد جلسة اللجنة المركزية في باريس بالتصفويين إلا بالقول فقط؛ بل أنها قد دعتهم في نفس الوقت للمشاركة في أعمال الحزب الداخلية ولتحديد ثلاثة أعضاء يختارونهم للانضمام إلى اللجنة المركزية السرية.
رحب تروتسكي كثيراً بنتائج جلسة اللجنة المركزية بباريس كـ “أعظم ما حدث في تاريخ الاشتراكية الديمقراطية” (36). أما موقف لينين، فقد كان واضحاً في رسالة بعثها لجوركي في 11 أبريل 1910:
“في الجلسة الممتدة للجنة المركزية (استمرت لثلاثة أسابيع مشحونة بالصراع العنيف وتوتر الأعصاب) ساد مزاج عام من “التوافق” (دون أي فكرة واضحة مع من، ولماذا، وكيف)، وكراهية المركز البلشفي نظراً نضاله الأيديولوجي العنيد، والشجار مع المناشفة الذين يسعون لإشعال المعركة، والنتيجة.. طفل مغطى جسمة بالبثور. وهكذا كُتب علينا أن نعاني.. إما في أفضل الأحوال أن نفتح البثور ونخرج الصديد ونعالج الطفل، أو في أسوأ الأحوال أن يموت الطفل. وهكذا يكون علينا أن نتخلى عن الطفل لبعض الوقت (أي أن نعيد بناء الشق البلشفي) وأن نلد طفلاً جديداً أكثر صحة” (37).
إلا أن الوحدة لم تتحقق عملياً على الإطلاق، ليس بسبب تذمت البلاشفة، لكن لأن المناشفة لم يكونوا مستعدين بما فيه الكفاية لذلك؛ فقد ألزمت قرارات جلسة اللجنة المركزية في يناير 1910 البلاشفة بقطع العلاقة بدعاة المقاطعة، والمناشفة بإنهاء الصلة مع التصفويين. كان من السهل على لينين أن يلتزم بالقرار الخاص بالبلاشفة، فقد ساهم بالفعل بشكل أساسي في طرد بوجدانوف ولوناتشارسكي وكل دعاة المقاطعة من المعسكر البلشفي من قبل، أما المناشفة فقد كان عسيراً عليهم أن يلتزموا بالقرار خاصتهم. إذ كان التصفويون متوغلين بين قواعدهم بشكل كبير، وإذا عمدوا إلى طردهم فكان ذلك سيعني تدمير المعسكر المنشفي بالكامل، وبالتالي أن ينتصر البلاشفة ويصبح لهم اليد العليا والمطلقة في الحركة الاشتراكية الديمقراطية. أوضح مارتوف فيما بعد أنه لم يكن لديه أي نية لتنفيذ القرار، وقد وافق على قرارات الوحدة في جلسة اللجنة المركزية فقط لأن المناشفة كانوا أضعف كثيراً من أن يخاطروا بالانقسام (38).
كان ذلك هو أول الأسباب التي عرقلت الوحدة، أما ثانياً فهو رفض التصفويين الثلاثة الذين انضموا للجنة المركزية أن يتولوا أي مهام في المنظمات السرية، وهذا طبيعي ومفهوم؛ فلا يمكن أن يتولى تصفوي مهام منظمة يريد أن يصفيها. وعندما دعا التوفيقيون البلاشفة لبناء منظمات مشتركة مع التصفويين، تجاهل لينين الدعوة تماماً. وعندما حاول دان ومارتوف طرح رؤاهم في سوسيال ديمقراط، التي اشتركا في هيئة تحريرها مع لينين وزينوفيف، منعهم لينين من ذلك (صوّت فارسكي، ممثل الحزب البولندي في هيئة تحرير سوسيال ديمقراط، إلى جانب لينين وزينوفيف).
أما برافدا، التي حررها تروتسكي في جينيف بمعاونة كامينيف، فقد فشلت هي الأخرى في أن تصبح جريدة الحزب الموحد. فعندما فشلت محاولاته في التوفيق بين البلاشفة والمناشفة، بسبب رفض المناشفة طرد التصفويين، علّق تروتسكي صدور الجريدة (39)، فيما فشل كامينيف في إقناعه باتخاذ موقف أكثر تماسكاً وحزماً.
تدخلت الشرطة القيصرية في مسألة الوحدة وساهمت بشكل كبير في إفشال مساعيها. كان دوبروفينسكي في البداية هو المتحدث الرئيسي بلسان التوفيقيين في الحزب البلشفي، لكن الشرطة القيصرية قد ألقت القبض عليه وأرسلته إلى المنفى في سيبيريا حيث انتحر بعد ذلك بفترة قصيرة (40). أصبح أليكسي ريكوف خليفاً لدوبروفينسكي كالقيادي التوفيقي الأبرز في اللجنة المركزية، لكن ألقت الشرطة القبض عليه هو الآخر من الشارع بمجرد عودته إلى روسيا حتى قبل أن يقابل أي من رفاقه. كانت الأوخرانا على علم تام بالمواقف السياسية لكافة القيادات البلشفية، وكانت تعرف جيداً كيف تحدد أماكن تواجدهم كي تلقي القبض عليهم، وذلك بفضل العميل الرئيسي داخل الحزب البلشفي – رومان مالينوفسكي. “كان لدى الشرطة الروسية في ذلك الوقت اهتمام خاص بدعم البلاشفة الذين عارضوا التوحيد. ومن أجل منع قيام حزب اشتراكي ديمقراطي موحد, وبالتالي أكثر خطورة على السلطة، كانت الأوخرانا تركّز على القبض على التوفيقيين الداعين للوحدة بشكل خاص” (41).
كان المناشفة مقتنعين تماماً في ذلك الوقت أن سياسات لينين الانقسامية متطابقة مع سياسات الأوخرانا. وكان لدى الأوخرانا أمل كبير في أن يؤدي انقسام الاشتراكية الديمقراطية إلى إضعاف الحركة العمالية، أما لينين فقد ظن أن ذلك سوف يصقل القيادة العمالية الثورية بمزيد من الصلابة. إلا أن التاريخ قال كلمته في النهاية ولم تلتقط الأوخرانا الثمرة التي أرادتها.
لينين ينتصر على التوفيقيين
دعا لينين لعقد مؤتمر حزبي في براج في يناير 1912 واستثنى التصفويين تماماً من هذه الدعوة. رفض كلٌ من الحزب البولندي واللاتفي ومجموعة فبريود وتروتسكي وبليخانوف المشاركة في المؤتمر، فيما حضر المؤتمر 14 مندوباً فقط (اثنين منهم عملاء للشرطة) ممثلين عن 10 لجان حزبية في روسيا. انتخب المؤتمر سبعة أعضاء في اللجنة المركزية الجديدة: لينين، وزنوفيف، وأردجنيكيدزه، وسباندريان، وشوارتزمان، ورومان مالينوفسكي (عميل الشرطة). وبعد فترة قصيرة، عيّنت اللجنة المركزية عضوين آخرين: جوجاشفيلي (ستالين)، وبيلوستوفسكي، فيما أُرسل خمسة أعضاء لتنظيم اللجان داخل روسيا كان بينهم ثلاثة أعضاء قوقازيين: سباندريان، وأوردجنيكيدزه، وستالين.
لم يكن تروتسكي في ذلك الوقت قد تخلى بعد عن مساعيه في التوحيد بين المجموعات الاشتراكية الديمقراطية المختلفة، ورداً على مؤتمر لينين في براج، أقنع تروتسكي المناشفة بعقد مؤتمر لكافة الاشتراكيين الديمقراطيين في فيينا في أغسطس 1912. كان لا يزال لدى تروتسكي أمل كبير في أن يقارب المزاج الثوري في روسيا بين التيارات المختلفة للاشتراكية الديمقراطية كما كان الحال في 1905، فكتب: “إنه لمن السخف والتفاهة أن نؤكد على أن هناك تناقضاً لا يمكن إصلاحه بين سياسة لوتش وبرافدا”. وفي موضع آخر: “إن الشقاق التاريخي بين البلشفية والمنشفية لهو بين المثقفين في الأصل”.
إلا أن تروتسكي كان مخطئاً على نحو كارثي؛ فالانقسام بين البلشفية والمنشفية كان عميقاً بما يكفي بحيث لا يمكن تجاوزه، والصحوة السياسية الجديدة في روسيا لم تؤد إلا إلى تعميقه أكثر. أما لينين فقد كان حينها يجمع ثمار جهوده الطويلة والشاقة؛ فبينما كان أتباعه يقودون المنظمات القاعدية الفاعلة، اتسمت المجموعات المنشفية بالضآلة والتفكك الشديد. وبينما رفض البلاشفة المشاركة في مؤتمر فيينا، التقى كلٌ من المناشفة، ومجموعة اليساريين المتطرفين البلشفية سابقاً (الفبريوديين)، والبوند اليهودية، ومجموعة تروتسكي (6*)، وشكلوا سوياً جبهة عُرفت بإسم “كتلة أغسطس” أصبح تروتسكي متحدثها الرسمي وأخذ في الهجوم على “تاكتيكات لينين الانشقاقية”. لكن هذه الجبهة سرعان ما بدأت في التفكك فور تشكيلها.
قرر مؤتمر براج في فبراير 1912 إصدار جريدة يومية شرعية حملت إسم جريدة تروتسكي القديمة التي صدرت في جينيف – برافدا (7*). ظهر العدد الأول من البرافدا البلشفية في 22 أبريل 1912 واستمرت في الصدور يومياً حتى اندلاع الحرب لتلعب دوراً مركزياً في بناء الحزب البلشفي. ساهم بليخانوف وبوجدانوف وعدد آخر من من مجموعة فبريود في الكتابة للجريدة. لكن، باستثناء أليكسينسكي، لم تستمر هذه المساهمات طويلاً، فيما كان لينين سعيداً للغاية بكتابات بليخانوف وأليكسينكسي.
لكن لينين كان مصراً على استكمال المعركة ضد “التوافق” مع المناشفة والتصفويين. ولثلاثة أشهر، شطبت البرافدا مصطلح “التصفويين” من مفرداتها.. “ولهذا السبب كان لينين يشعر بالضيق الشديد حينما كانت البرافدا تزيل من مقالاته كل ما يتعلق بالجدال ضد التصفوية، فكتب لينين رسائل غاضبة لهيئة تحرير البرافدا يعرب فيها عن احتجاجه على ذلك” (43). “وفي بعض الأحيان كانت مقالات إيليتش تضيع أو يتأخر نشرها كثيراً، وهذا ما كان يغضب إيليتش بشدة، فبعث برسائل احتجاجية لهيئة تحرير البرافدا.. لكن ذلك لم يصلح الأمور” (44).
وفي رسالة إلى مولوتوف، سكرتير هيئة تحرير البرافدا، في 1 أغسطس 1912، كتب لينين:
“باعتبارك سكرتيراً لهيئة التحرير كتبت لي: “إن هيئة التحرير تعتبر مقالاتك مقبولة من حيث المبدأ بما يشمل الموقف تجاه التصفويين”. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذن تقتطعون في كل مرة وبشكل منتظم كل ذكر للتصفويين سواء في مقالاتي أو مقالات بقية الزملاء” (45).
وفي 25 يناير 1913، كتب للنواب البلشفة في الدوما:
“لقد تلقينا خطاباً غبياً ووقحاً من المحررين، ولن نرد عليه. يجب أن يُطردوا على الفور.. إن غياب الأنباء عن خطة إعادة تنظيم هيئة التحرير يسبب لنا قلقاً بالغاً.. إعادة التنظيم والتنحية التامة لكافة المحررين القدامى لهو الأمر الضروري الآن, إنهم لا يستطيعون السير على الخط الصحيح تجاه لوتش.. وتعاطيهم مع المقالات أصبح مشيناً” (46).
وفي 9 فبراير، كتب إلى سفيردلوف (8*):
“إن استخدام البرافدا من أجل التواصل مع العمال الواعين طبقياً وتلقي مراسلاتهم (لجنة بطرسبورج على وجه التحديد) هو عمل قابل للنقد بكل تأكيد. يجب أن تضعوا حداً لما يسمى الاستقلال الذاتي لهيئة التحرير التي ترتكب الكثير من الأخطاء. عليكم أن تتدبروا ذلك الأمر قبل أي شيء.. ضعوا هيئة التحرير بين أيديكم.. وإذا تم تنظيمها بشكل جيد، سيكون ذلك بمثابة إعادة إحياء للجنة بطرسبورج التي هي الآن خاملة بشكل سخيف، وغير قادرة على النطق ببنت شفة، وتهدر الفرص التي يجدر بها إصدار البيانات والتصريحات بصددها.. على اللجنة أن تصدر تلك البيانات مرة يومياً بشكل علني، ومرة أو مرتين شهرياً بشكل سري. مرة أخرى، مفتاح الحل في الأمر برمته يكمن في البرافدا. إذا تم تنظيمها بشكل جيد، يمكن تنظيم العمل المحلي أيضاً، وإلا سوف ينهار كل شيء” (47).
أرسلت اللجنة المركزية الرفيق سفيردلوف إلى بطرسبورج لإعادة تنظيم هيئة التحرير (48)، فكتب لينين له في 9 فبراير 1913: “أصبحنا على علم اليوم ببدء الإصلاحات في البرافدا. ألف تحية وتقدير وتهنئة وتمني بالنجاح.. لا يمكنك أن تتخيل كيف كان العمل متعباً للغاية مع فريق التحرير المعادي بمعنى الكلمة هذا”.
سارت الأمور على نحو ما كما أراد لينين، وبعد فترة وجيزة انعقد اجتماع مشترك بين المكتب الروسي للجنة المركزية وهيئة تحرير البرافدا وتوصل إلى حل وسط، ألا وهو أن يبقى ثلاثة من هيئة التحرير كما هم، وأن يكن لسفيردلوف – بالرغم من كونه خارج الهيئة – الحق في التصويت على قراراتها، وفرض الرقابة على كافة المقالات في الجريدة. لم يدم هذا الاتفاق طويلاً؛ فسرعان ما ألقي القبض على سفيردلوف بعد ذلك بثلاثة أسابيع فقط.
بات واضحاً أن هيئة التحرير الجديدة متعافية تماماً من الميل تجاه التصفويين. في البداية عملت الهيئة بسلام تام مع لينين، لكن بحلول نهاية مايو تفجرت قضية أخرى، وهذه المرة بسبب تقارب البرافدا مع الاستدعائيين. ففي 26 مايو، نشرت البرافدا مقالة لبوجدانوف يشرح فيها موقف مجموعته من الدوما. وعندما تلقى لينين نسخته من الجريدة، غضب كثيراً وبعث برسالة إلى هيئة التحرير جاء فيها:
“إن تصرف المحررين فيما يخص تشويه السيد بوجدانوف لتاريخ الحزب لهو فضيحة مشينة إلى درجة أنني، ولأكن صريحاً في ذلك، لا أعرف ما إذا كنت سأظل مساهماً في الجريدة بعد ذلك.
إني أطالب بكل حزم بنشر المقالة المرفقة كاملةً. لقد كنت أسمح للمحررين برفاقية بأن يقوموا ببعض التغييرات في مقالاتي، لكن بعد خطاب السيد بوجدانوف فإني لا أعطي لأحد أي حق في تغيير أو فعل أي شيء من هذا القبيل في هذه المقالة”.
أرسلت الهيئة المقالة للينين مرة أخرى، فوافق على تعديل واحد فقط، وهو إزالة كلمة “السيد” من أمام إسم بوجدانوف. لكن هيئة التحرير رفضت نشر المقالة التي لم تظهر للعلن إلا في العام 1939 (49).
كتب لينين إلى كامينيف مطالباً إياه بممارسة المزيد من الضغط على البرافدا، وفي يناير 1914 أرسله إلى روسيا لتولي تحرير الجريدة. وبالرغم من عودة الصلة الجيدة بين لينين والبرافدا مجدداً، إلا أن قضية بوجدانوف لم تكن قد انتهت بعد، فقد كان لينين يتلقى دوماً رسائل من الرفاق في روسيا يعبرون فيها عن عدم رضاهم عن موقفه إزاء بوجدانوف (50).
في ظل تولي كامينيف تحرير البرافدا، ظل لينين على صلة قوية وجيدة بها حتى منعت الشرطة القيصرية إصدارها بشكل نهائي في يوليو 1914 مباشرةً بعد إعلان القيصرية الروسية المشاركة في الحرب العالمية الأولى. لكن إغلاق البرافدا تفادى الوقوع في أزمات جديدة، حيث انقسم لينين وكامينيف بحدة حول الموقف من الحرب.
لم تكن المجموعة البلشفية بمجلس الدوما بعيدة عن كل ذلك؛ فلقد كانت لـ “مسألة التوافق” تأثيراً كبيراً عليها. تكونت هذه المجموعة من ستة بلاشفة استمروا أعضاءاً بالدوما ما يقارب عاماً كاملاً، من ديسمبر 1912 إلى سبتمبر 1913. وكان أول ما فعله النواب البلاشفة الستة لدى انتخابهم هو الاتفاق مع النواب المناشفة على المساهمة بمقالات في كلٍ من البرافدا البلشفية ولوتش التصفوية. وفي قرار خاص نُشر في البرافدا، أعلنت المجموعة عن تأييدها للاندماج بين البرافدا ولوتش، وكخطوة في هذا الاتجاه أوصت المجموعة أعضاءها بالكتابة في كلتا الجريدتين. وفي 18 ديسمبر، نشرت لوتش أسماء 4 نواب بلاشفة بين كتابها (انسحب اثنين من تلك المبادرة بالكتابة في لوتش)، في حين ظهرت أسماء النواب المناشفة السبعة على الفور في عناوين البرافدا الرئيسية (51).
وفي أحد الاجتماعات في كاراكاو في نهاية ديسمبر، أصر لينين على أن يتراجع النواب البلاشفة عن اتفاقهم مع المناشفة بالكتابة في لوتش. كما أصر اجتماع كاراكاو أيضاً على ضرورة مطالبة المجموعة البلشفية بالدوما بالمساواة مع نظيرتها المنشفية، وذلك على الرغم من زيادة المناشفة عن البلاشفة في الدوما بواحد؛ سبعة مناشفة مقابل ستة بلاشفة. كانت النواب البلاشفة قلقين حيال إعادة تنظيم هيئة تحرير البرافدا، الأمر الذي كان يهدف إلى إنهاء مساعيهم التوفيقية مع المناشفة. وبعد ذلك بستة أشهر، في يونيو 1913، كتب لينين إليهم في إلحاح شديد للإسراع في المطالبة بالمساواة مع المناشفة، على أن ينشقوا عنهم في حالة الرفض (52). لكن النواب البلاشفة لم يتخذوا ولو خطوة واحدة في هذا الاتجاه، وفي مؤتمر بورونين في سبتمبر، اتُخذ نفس القرار بنفس الحيثيات من جديد (53). كان ذلك المؤتمر مشتركاً بين اللجنة المركزية ومحترفي الحزب مع نواب الدوما الستة. وبعد ذلك، نفذ النواب البلاشفة قرار المؤتمر وطالبوا نظرائهم المناشفة بالمساواة في التصويت، وحينما رفض المناشفة، انقسمت الكتلة الاشتراكية الديمقراطية في الدوما وكان ذلك بمثابة الضربة القاضية للعلاقة الودودة بين البلاشفة والمناشفة في مجلس الدوما.
وفي الحقيقة، لعب مالينوفسكي دوراً خطيراً – وفي الحقيقة كان دوراً مزدوجاً – في الانقسام النهائي للحزب إلى بلاشفة ومناشفة. كتب جنرال الشرطة سبيريدوفيتش: “لقد نجح مالينوفسكي، من خلال تنفيذه لتوجيهات لينين وإدارة الشرطة معاً، في إشعال المعركة الأخيرة بين “السبعة” و”الستة” في أكتوبر 1913″ (54).
لكن لينين كان يبذل مجهوداً جباراً على مدار عام كامل من أجل إقناع النواب البلاشفة بضرورة قطع الصلة بشكل كامل مع المناشفة، هذه الحقيقة ترسم لنا صورة مختلفة تماماً عن وجهة النظر السائدة عن البلشفية كتنظيم غير ديمقراطي يُدار تحت قيادة شمولية وديكتاتورية. كان على لينين أن يناضل بدأب بالغ وأن يجادل مراراً وتكراراً لإقناع أعضاء حزبه أولاً وأخيراً.
الموجة الثورية الصاعدة
رخاء اقتصادي
في العام 1909 تخلص الاقتصاد الروسي من أزمته وشهد حالة من الانتعاش النسبي، حيث تعافت أغلب الصناعات من أزمة 8 – 1907، ونمى الإنتاج بشكل متواصل خلال السنوات القليلة التالية كما هو موضح في الجدول أدناه والذي يرصد معدل إنتاج الفروع الأساسية في الاقتصاد الروسي (بالمليون بود) (1) (1*).
الصناعة
1910
1913
الحديد الخام
186
283
الحديد والصلب
184
246
حديد التسقيف
22,9
25,3
القضبان الحديدية
29,5
35,9
النحاس
1,4
2
الفحم
1,522
2,214
النفط
588
561
فحم الكوك
168
271
القطن
22,1
35,9
بُعثت الحركة الثورية أيضاً إلى الحياة مرة أخرى، وفي القلب من الجماهير الشعبية، كان الطلاب هم أول من انطلقوا في النضال.
الطلاب يتحركون
في خريف 1910، اندلعت المظاهرات الطلابية بعد وفاة الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي، والرئيس الليبرالي لمجلس الدوما الأولى مورومتسيف. جاءت المظاهرات أيضاً كرد فعل على المعاملة القاسية والوحشية التي كان يتعرض لها المعتقلين السياسيين بسجن زيرينتوي. عُقدت اجتماعات طلابية عديدة وحاشدة في الجامعات، كما اُتخذت قرارات بالاحتجاج وتنظيم المظاهرات في الشارع، وفي بداية 1911 شن الطلاب إضراباً عاماً انتشر عبر روسيا احتجاجاً على الإجراءات القمعية التي اتخذتها الحكومة ضدهم. رحّب لينين بحركة الطلاب بحماسة شديدة، وفي المقابل انتقد خطاب أرسلته مجموعة من الطلاب الاشتراكيين الديمقراطيين يقللون فيه من شأن موجة النضال الطلابي من زاوية أنها ليست مرتبطة بحركة العمال. كتب الطلاب في خطابهم: “نحن نقدّر الحركة الطلابية فقط في حال ارتباطها بالحركة السياسية بشكل عام، وفي حال كونها جزء منها، وهناك افتقار شديد للعناصر القادرة على توحيد الطلاب. وعلى ضوء ذلك، نحن ضد الحركة الأكاديمية” (2).
علّق لينين على هذا الخطاب بحدة، قائلاً:
“هذه المجادلة خاطئة بشكل جذري حيث أن توجيه الشعار الثوري فقط تجاه الحركة السياسية المنسقة بين الطلاب والبروليتاريا، إلخ، ينزع من هذا الشعار حيويته في الكثير من جوانب التحريض النضالي على أسس متوسعة، وهكذا يتحول الشعار إلى دوجما عديمة الجدوى من خلال تطبيقه ميكانيكياً على مراحل مختلفة من أشكال مختلفة من الحركة. ليس كافياً على الإطلاق أن نعلن تحركاً سياسياً منسقاً، مكررين نفس “الكلمات الأخيرة” في دروس الثورة. ينبغي علينا أن نحرض على التحرك السياسي مستخدمين في ذلك كل الإمكانيات، وكل الظروف، وقبل كل شيء كل الصراعات بين العناصر المتقدمة أياً من كانت، وبين الحكم المطلق.
تعد هذه المجادلة صحيحة فقط في حالة أن تخفض الحركة الأكاديمية مستوى الحركة السياسية، أو تفتتها، أو تنحرف عنها – وفي هذه الحالة ينبغي على مجموعات الطلاب الاشتراكية الديمقراطية أن تركز تحريضها ضد مثل هذه الحركة. لكن بوسع أي منا أن يرى بوضوح أن الظرف السياسي في الوقت الراهن مختلف؛ فالحركة الأكاديمية تعبر عن بداية حركة “جيل” من الطلاب الذين يضيقون ذرعاً بالحكم المطلق بهذه الدرجة أو تلك، وهذه الحركة تبدأ الآن بينما نفتقر إلى الأشكال الأخرى في النضال الجماهيري في الوقت الراهن” (3).
كان انخراط الطلاب أسهل كثيراً خلال تلك الفترة من العمال الذين عانوا أشد المعاناة خلال سنوات الردة الرجعية. لكن التصاعد الطلابي كان له دلالات أعمق على نهوض جماهيري أكثر اتساعاً.
العمال ينهضون
شهد العام 1911 صعوداً تدريجياً للحركة العمالية؛ ففي 1908 كان عدد العمال المضربين ضئيلاً: 60 ألف عامل، فيما ازداد ضآلة في 1910 ليبلغ 46,623 عامل، ومن ثم تصاعد إلى 105,110 في 1911. وهكذا ذكر مؤتمر الحزب البلشفي في يناير 1912 أن:
“حالة الصحوة السياسية يمكن ملاحظتها بين الحلقات الديمقراطية الواسعة، وبشكل رئيسي في أوساط البروليتاريا. إضرابات العمال 11 – 1910، بداية المظاهرات، الاجتماعات البروليتارية، وبداية تحرك البرجوازية الديمقراطية المدنية، إضرابات الطلاب، إلخ، كل هذه الأحداث تشير إلى تصاعد المزاج الثوري لدى الجماهير ضد حكم الثالث من يونيو” (4).
اكتسبت الحركة العمالية زخماً هائلاً بعد المذبحة البشعة التي تعرض لها عمال مناجم الذهب في لينا 4 أبريل 1912، حيث أضرب عن العمل نحو 6 آلاف من عمال مناجم لينا في الغابة الصنوبرية التي تبعد حوالي ألفي كيلومتر عن سكك حديد سيبيريا، حينها ألقى أحد ضباط الدرك أوامره بإطلاق النار على حشود العمال العُزّل من السلاح ليسقط 500 منهم بين شهيد ومصاب. نددت مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين بالدوما بتلك الجريمة، لكنها لم تتلق سوى رد وقح ومتغطرس من وزير داخلية القيصر أ. ماكاروف: “هكذا كان الأمر، وهكذا سيكون دوماً”.
ومن الجدير بالملاحظة أن المظاهرات التي انطلقت احتجاجاً على مذبحة لينا رفعت منذ البداية شعار الجمهورية الديمقراطية، مما كان يعكس مستوى أعلى كثيراً في الوعي الجماهيري مما كان عليه في ثورة 1905 التي بدأت بتقديم عريضة ساذجة إلى القيصر. لقد بدأ العمال الروس في أبريل 1912 من حيث انتهوا عند أعلى نقطة للثورة منذ 7 سنوات مضت.
ألهبت أنباء مأساة لينا الدموية غضب الطبقة العاملة، وأصبحت المظاهرات والاجتماعات والاحتجاجات جزء من الحياة اليومية عبر روسيا. شارك 300 ألف عامل في الإضرابات الاحتجاجية على المذبحة، حتى أنه في الأول من مايو أضرب نحو 400 ألف عامل (5)، وتلى ذلك العديد من الإضرابات السياسية الأخرى. وعندما أعلنت الحكومة القيصرية بطلان انتخاب 21 مرشح عمالي في بطرسبورج في انتخابات الدوما الرابعة، ديسمبر 1912، دعا عمال عدد من مصانع بطرسبورج إلى إضراب سياسي شارك فيه زهاء 100 ألف عامل.
وفي 11 نوفمبر، نظم عمال “ريجا” مظاهرة احتجاجية على حكم المحكمة العسكرية في “سيباستوبول” بالإعدام على مجموعة من بحارة البارجة “أيوان زلاتوست”، وأيضاً احتجاجاً على تعذيب المعتقلين السياسيين سجون “ألجاشينسكي” و”كوتامارسكي”. تظاهر أكثر من 150 ألف عامل في مسيرة مهيبة جابت شوارع ريجا يرددون الأغاني الثورية، وفي اليوم التالي دخل عمال عدد من المصانع الكبيرة بالمدينة في إضراب سياسي. وفي موسكو أيضاً أضرب عمال عدد من المصانع في 8 نوفمبر احتجاجاً على إعدامات سيباستوبول.
وعندما تم القبض على ستة من عمال مصنع “أوبوخوف”، نوفمبر 1913، بتهمة مخالفة قانون حظر الإضراب في “الأعمال الضرورية اجتماعياً”، عقد العمال اجتماعاتهم في كل مصانع بطرسبورج لبحث التضامن والتصعيد، وخاض 100 ألف عامل إضراباً تضامنياً مع زملائهم المقبوض عليهم مطالبين بالحق في الإضراب، كما وقعت اشتباكات عنيفة أمام المحكمة. وتحت الضغط، أصدرت المحكمة أحكاماً مخففة على العمال المتهمين، وعندما جرى استئناف الحكم في 20 مايو 1914، نظم العمال إضراباً ضخماً شارك فيه ما يزيد عن 100 ألف من عمال العاصمة (6). ومرة أخرى، في 15 نوفمبر، عندما افتتحت الدوما أولى جلساتها، أضرب عن العمل نحو 180 ألف عامل.
وفي مقالة بعنوان “تطور الإضرابات الثورية ومظاهرات الشوارع” في 12 يناير 1913، كتب لينين:
“نحن نشهد إضرابات جماهيرية تمثل بداية لهبة ثورية جديدة. ولا يكون ذلك ممكناً في أي من البلدان، إن لم يكن هناك وضعاً اجتماعياً ثورياً يدفع مئات الآلاف من العمال إلى الحركة السياسية لأسباب متنوعة أكثر من مرة في السنة.. إن بداية الموجة الثورية اليوم أعلى بما لا يُقاس بما كان عليه الأمر قبل الثورة. وبالتالي فإن الثورة الثانية سوف تظهر قدراً أكبر وأعظم من الطاقة الثورية لدى البروليتاريا.. إن الإضراب الثوري للعمال الروس في 1912 كان نطاقه قومياً بالمعنى الحرفي للكلمة” (7).
تصاعدت الإضرابات السياسية الثورية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، ويمكننا هنا أن نسرد عدد من تلك الإضرابات التي شارك بها مئات الآلاف من العمال: ففي الذكرى الثامنة للأحد الدامي، 9 يناير 1913، أضرب عن العمل 80 ألف عامل. وفي الذكرى الأولى لمذبحة لينا، في 4 أبريل 1913، شارك 85 ألف عامل في إضراب لمدة يوم واحد. وبعد أسابيع قليلة، في الأول من مايو، زاد عدد المضربين إلى ربع مليون عامل. وفي 1 إلى 3 يوليو، خاض 62 ألف عامل إضراباً عن العمل احتجاجاً على مصادرة الحكومة للصحف العمالية. ووصل إجمالي عدد العمال المضربين في النصف الأول من عام 1914 مليون و425 ألف عامل، منهم مليون و59 ألف خاضوا إضرابات سياسية، وتلك الإحصاءات تقترب كثيراً من تلك التي كانت في العام 1905 حينما وصل عدد العمال المشاركين في الإضرابات السياسية إلى مليون و843 ألف عامل. كانت الحركة بشكل عام تندفع نحو الثورة، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى قد قطع عليها الطريق.
البلاشفة يستفيدون من موقعهم في البرلمان
خلال السنوات 1912 إلى 1914، نجح البلاشفة في تحقيق أقصى استفادة ممكنة في الدوما القيصري. أوضح لينين أن النشاط البلشفي في الدوما يجب أن يكون متسقاً مع النشاط الثوري خارج المؤسسة القيصرية، بل وخاضعاً له أيضاً، وهكذا ينبغي على النواب البلاشفة في الدوما أن:
“قوموا بإنشاء فريق عمل في هذا المجال.. حتى يشعر كل نائب اشتراكي ديمقراطي بأن الحزب يقف من ورائه، وأن الحزب يركز على أخطائه ويحاول تصحيح مساره ومده على استقامته، وذلك حتى يشارك كل عامل بالحزب في النشاط العام للحزب في الدوما، وأن يتعلم خلال ذلك النقد الماركسي لخطوات ذلك النشاط، وأن يشعر أن من واجبه مساندته، وأن يكافح من أجل تهيئة وموائمة نشاط مجموعة الدوما مع النشاط الحزبي الدعائي والتحريضي بشكل عام” (8).
ويكرر لينين قائلاً:
“ينبغي علينا أن – وسوف – نعمل بجهد وبإصرار على الجمع بين الحزب ومجموعة الدوما معاً، لتحسين المجموعة نفسها ودفعها للأمام.
وتصويب نضال الحزب لأخطاء المجموعة لن يمثل سوى نقطة بداية. ليس لدينا إلى الآن مؤتمراً حزبياً يوجه مجموعة الدوما ويخبرها بأن عليها تصحيح تكتيكاتها في هذه المسألة أو تلك، كما ليس لدينا إلى الآن جهازاً مركزياً يعمل بانتظام ويتابع كل خطوة للمجموعة نيابةً عن الحزب ككل ويوجّه عملها. أما منظماتنا المحلية فهي لا تزال تبذل القليل، والقليل جداً، من العمل في هذا المجال – التحريض بين الجماهير في كل مسألة تثيرها خطب الاشتراكيين الديمقراطيين في الدوما، وتوضيح الأخطاء في هذه الخطبة أو تلك” (9).
ومن أجل النضال ضد “القماءة البرلمانية”، ولتوضيح أن الدوما ليست سوى مجرد منبر للدعاية إلى ما خارجها، وضع لينين مجموعة من القواعد لنشاط النواب البلاشفة في الدوما:
“من أجل أن تؤدي الأوراق التي يتقدم بها الاشتراكيون الديمقراطيون الغرض منها، يجب أن تتوافر بها الشروط الآتية:
1- ينبغي أن تُكتب هذه الأوراق بأقصى درجة من الوضوح والتحديد لمطالب الاشتراكيين الديمقراطيين المتضمنة في برنامج الحد الأدنى لحزبنا، أو التي تتبع هذا البرنامج بالضرورة.
2- لا ينبغي أبداً أن تُثقل هذه الأوراق بفيض من الحواشي الشرعية، بل يجب أن توضح خلفيات مشاريع القوانين التي يتقدم بها الاشتراكيون الديمقراطيون، لكن ليس نصوصاً معقدة بكل التفاصيل.
3- لا ينبغي أن تفصل هذه الأوراق بين المجالات المتنوعة للإصلاح الاجتماعي والتغيير الديمقراطي كما هو ضروري من زاوية العمل الإداري الشرعي أو “البرلمانية الخالصة”. بل على العكس؛ فانطلاقاً من أهداف الدعاية والتحريض الاشتراكيَين الديمقراطيَين، يتعيّن على هذه الأوراق أن تقدم للطبقة العاملة الفكرة بالشكل الأكثر وضوحاً وتحديداً عن الارتباط الضروري بين الإصلاحات في ظروف العمل (والإصلاح الاجتماعي بشكل عام) والتغيير السياسي الديمقراطي، ذلك الارتباط الذي من دونه ستتعرض كل “الإصلاحات” في حكم ستوليبين المطلق للتشويه الزوباتوفي” (10).
رفض لينين الفكرة الإصلاحية التي تطرح ضرورة اتخاذ المجموعة البرلمانية موقعاً مسيطراً داخل الحزب، بل على العكس، كان مصراً على ضرورة أن تخضع هذه المجموعة للحزب ككل، وأن تقوم بدور الداعم للجماهير المناضلة في المصانع والشوارع.
“إن المجموعة البرلمانية ليست فرقة جنرالات (إذا جاز لي استخدام التشبيهات العسكرية)، لكن فرقة موسيقى عسكرية في بعض الحالات، وفرقة استطلاع في حالات أخرى، وفي أحيان أخرى منظمة مسلحة احتياطية” (11).
“يرى البلاشفة نضال الجماهير المباشر.. باعتباره الشكل الأقصى للحركة، والنشاط البرلماني بدون هذا النضال المباشر باعتباره الشكل الأدنى لها” (12).
“من الضروري أن نقول بوضوح وعلى الملأ أنه ينبغي على الاشتراكيين الديمقراطيين في البرلمانات أن يستخدموا مواقعهم، ليس فقط لإلقاء الخطب، لكن أيضاً لتقديم الدعم خارج البرلمان للتنظيم غير الشرعي وللنضال الثوري للعمال، وأن على الجماهير نفسها، من خلال تنظيمها غير الشرعي، أن تراقب نشاط قادتها” (13).
كانت سيطرة الحزب على نوابه في الدوما صارمة للغاية، حتى عندما وقعت قيادة مجموعة النواب البلاشفة في أيدي عميل الشرطة القيصرية: رومان مالينوفسكي. فبينما كان لينين يكتب الخطابات التي يلقيها النواب البلاشفة، كان مالينوفسكي يقوم دوماً بتسليم خطابه إلى قائد الشرطة، وقائد الشرطة يحاول بدوره في كل مرة إدخال بعض التغييرات على نص خطاب مالينوفسكي، لكن تحكم الحزب في نوابه كان صارماً لدرجة أن مالينوفسكي لم يستطع فعل ذلك. وحتى عندما كان مالينوفسكي يتجاهل إحدى فقرات الخطاب، على سبيل المثال، مدعياً أنه لم يقصد ذلك وأن الأمر نتج عن ارتباك الجلسة، كان يتم نشر الخطاب كاملاً في الجريدة البلشفية اليومية، البرافدا، وهكذا استفاد الحزب من مالينوفسكي كمحرض مفيد برغم كونه عميلاً للأمن في الأساس.
أثبت باداييف، النائب البلشفي في الدوما والذي عمل مهندساً في الأصل، أن نشاط المجموعة البلشفية في الدوما كان لصيق الصلة بعمل هيئة تحرير البرافدا، وأيضاً بنشاط البلاشفة في المصانع.
“لقد استخدمنا الدوما كمنبر لمخاطبة الجماهير من فوق رؤوس البرلمانيين من كافة الأطياف. لكن ذلك لم يكن ممكناً من دون جريدتنا العمالية، وإذا لم يكن هناك جريدة عمالية بلشفية، لكان من غير الممكن انتشار خطبنا خارج جدران قصر توريد. ولم يكن ذلك هو العون الوحيد الذي قدمته البرافدا، ففي مكاتب التحرير كنا نلتقي بوفود من مصانع بطرسبورج لمناقشة العديد من القضايا وللحصول على المزيد من المعلومات منهم. باختصار، كانت البرافدا بمثابة البؤرة التي تجمع حولها العمال الثوريين، والتي قدمت الكثير من العون لمجموعة النواب البلاشفة في الدوما” (14).
انخرط النواب البلاشفة بكثافة في دعم النضالات العمالية، وفي الفترة بين نهاية أكتوبر 1913 وبداية يونيو 1914، ساهموا بشكل كبير في زيادة التبرعات للحزب إلى 12,819 روبل (12,063 منهم جمعتهم 1,295 مجموعة عمالية) من أجل مساندة الرفاق في المعتقل أو في المنفى، ومن أجل دعم المضربين في العديد من المصانع، ولدعم حركة الطبقة العاملة بالكثير من الطرق الأخرى (15).
وفي انتخابات الدوما الرابعة في 1912، أبلى البلاشفة بلاءاً حسناً وأصبح لهم 6 نواب في المجلس (وكان للمناشفة 7 نواب)، وأولئك النواب تم انتخابهم بالأساس في المقاطعات العمالية، فيما فاز أغلب نواب المناشفة في المقاطعات التي يقطنها أبناء الطبقة الوسطى. ففي المقاطعات التي فاز فيها المناشفة كان هناك حوالي 136 ألف عامل صناعي، أما المقاطعات التي جنى فيها النواب البلاشفة أصواتهم فقد كان بها مليوناً و144 ألف عامل. وبكلمات أخرى، حاز المناشفة تأييد 11,8% من العمال، بينما حظى البلاشفة بـ 88,2% منهم (16).
جدير بالذكر أن كل النواب البلاشفة في الدوما أتوا مباشرةً من القاعدة العمالي؛ فأربعة منهم (مالينوفسكي، باداييف، بيتروفسكي، ومورانوف) كانوا عمال تعدين، والاثنين الآخرين (شاجوف، وسامويلوف) عمال نسيج. كما انتُخب هؤلاء النواب من أضخم المدن الصناعية في روسيا: باداييف من سان بطرسبورج، ومالينوفسكي من موسكو، وبيتروفسكي من إيكاترنيسولاف، ومورانوف من خاركوف، وشاجوف من مقاطعة كوستروما، وسامويلوف من مقاطعة فلاديمير.
رفع الشعار البلشفي
أتاحت الإجراءات التي فرضتها السلطات القيصرية في انتخابات الدوما فترة أطول للنشاط الجماهيري. فمن أجل عزل العمال عن الفلاحين، فرض قانون الانتخابات تأسيس دوائر عمالية منعزلة عن بعضها خلال العملية الانتخابية من أجل انتخاب نواب العمال بمعزل عن الفلاحين، ومن أجل عزل نواب العمال عن بعضهم البعض أيضاً. أما عملية الانتخاب نفسها، فقد كانت تجري – وفقاً للقانون – على مراحل متعددة: أولاً يتم انتخاب الممثلين عن المصانع ومواقع العمل، ومن ثم انتخاب المجمع الانتخابي الذي بدوره ينتخب النواب في البرلمان.
لم يكن المرشحين، ولا المندوبين المخول بهم انتخابهم، يخفون البرنامج الثوري الذي يتبنونه ويستندون إليه. وهكذا على سبيل المثال، أعلن المجمع الانتخابي في بطرسبورج في بيان له في أكتوبر 1912 أن:
“مطالب الشعب الروسي التي أبرزتها حركة 1905 لم تتحقق على الإطلاق. وطالما أنه ليس للعمال الحق في الإضراب، فليس هناك ما يضمن ألا تُلفق لهم التهم حينما يضربوا عن العمل. وطالما أنه ليس لهم الحق في تنظيم النقابات والاجتماعات، فليس هناك ما يضمن أيضاً ألا يُقبض عليهم عندما يفعلون ذلك. ليس للعمال الحق في انتخاب الدوما بشكل مباشر، وإلا سوف يُحرمون من حقوقهم ويُجردون من أهليتهم أو يتم إرسالهم إلى المنفى كما حدث لعدد من عمال بوتيلوف وعمال بناء السفن في نيفسكي منذ أيام قليلة.
ناهيك عن عشرات الملايين من الفلاحين الجوعى الذين يعيشون تحت رحمة كبار الملاك ورجال الشرطة. كل ذلك يشير إلى ضرورة تحقيق مطالب 1905.
إن الحالة الاقتصادية في روسيا إنما تنذر بأزمة قادمة في الصناعة وإفقار متنامي للفلاحين في الريف. وكل ذلك يفرض ضرورة تحقيق أهداف 1905 بشكل أكثر إلحاحاً.
نحن نرى أن الحركة الجماهيرية في روسيا اليوم تصل إلى ذروتها، ربما بشكل أكبر مما كانت عليه في 1905. ولعل الإضرابات العمالية التي تلت أحداث لينا هي خير إثبات لذلك.
وكما كان الحال في 1905، ستلعب البروليتاريا الروسية دور الطليعة المتقدمة التي تقود حركة الجماهير. والحليف الوحيد الذي يمكن أن تستند إليه البروليتاريا إنما هو الفلاحين الفقراء الذين طالما عانوا الظلم والاستبداد، والذين يتشدقون للتحرر من نير الإقطاع.
والنضال على الجبهتين – ضد النظام الإقطاعي والبرجوازية الليبرالية التي ترمي للتحالف مع القوى القديمة – لابد أن يكون أساس الخطوات القادمة في نضال الجماهير. أما الدوما، في ظل الظروف القائمة، فيمكن أن تُستخدم كواحدة من أهم الوسائل لتنوير وتنظيم الجماهير العريضة من البروليتاريا.
ومن أجل هذا الهدف، نرسل نائبنا إلى الدوما، ونحمله هو وكل المجموعة الاشتراكية الديمقراطية في الدوما الرابعة مسئولية الدعاية حول مطالبنا من هذا المنبر، وليس للعب على شرعية دوما الدولة.
نريد أن نسمع أصوات الاشتراكيين الديمقراطيين ترن عالياً في الدوما مناديةً بأهداف البروليتاريا وبكافة مطالب 1905، وتؤكد على قيادة الطبقة العاملة للحركة الجماهيرية، وتدين خيانة البرجوازية لحرية الشعب.
على مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين في الدوما الرابعة، خلال عملها وفقاً للشعارات السابقة، أن تؤدي دورها في توحد تام مع القواعد العمالية.
فلتتضاعف قوة الاشتراكيين في الدوما باتصالهم اللصيق مع الجماهير العريضة.. فليسيروا كتفاً بكتف مع المنظمة السياسية للطبقة العاملة الروسية” (17).
مشاركة جماهيرية في الانتخابات
لم تمر الحملات الانتخابية مرور الكرام، بل على العكس فقد لعبت الإضرابات العمالية والمظاهرات الجماهيرية دوراً مركزياً فيها. هكذا يصف الرفيق باداييف الحملة الانتخابية:
“ساعد المناخ العام الذي جرت فيه الانتخابات، بالإضافة إلى حملة الهجوم على حقوق مندوبي العمال فيما يقرب من نصف مصانع العاصمة، على تصعيد حالة الحنق والسخط لدى عمال بطرسبورج. لقد تخطت الحكومة كل الحدود ورد العمال بحركة احتجاج قوية.
بدأ مصنع بوتيلوف في التحرك أولاً؛ ففي يوم الانتخابات 5 أكتوبر، بدلاً من أن يعود العمال إلى ماكيناتهم مرة أخرى بعد الغداء، تجمعوا في ورش المصنع وأعلنوا الإضراب، وبحلول الساعة الثالثة مساءاً تحركوا جميعاً، حوالي 14 ألفاً، في مسيرة نحو بوابة نارفسكي مرددين الهتافات والأغاني الثورية، لكن الشرطة نجحت في تفريقهم. وسرعان ما امتدت الحركة إلى حوض بناء السفن في نيفسكي، حيث نظم حوالي 6,500 عامل مظاهرة سياسية، ومن انضم إليهم عمال مصنع بال وماكسويل، وليسنر، وهييسلر، ودوفلون، وفينيكس، وتششير، وليبيديف، وغيرها من المصانع.
انتشرت الإضرابات سريعاً عبر كافة ربوع بطرسبورج، ولم يكن محصوراً في المصانع التي أُلغيت فيها انتخابات المندوبين، بل في الكثير من المصانع الأخرى أيضاً. وفي الكثير من المصانع تركزت الإضرابات احتجاجاً على ملاحقة النقابات جنباً إلى جنب مع عمال المصانع الأخرى المحتجين على إلغاء الانتخابات. كان الإضراب سياسياً تماماً، فيما لم تُطرح أي مطالب اقتصادية، وفي خلال عشرة أيام فقط شارك في الإضراب نحو 70 ألف عامل.
استمر الإضراب إلى أن أدركت الحكومة بالفعل أنها لم تفلح في سلب العمال حقهم في التصويت وأُجبرت على الإعلان عن انتخابات تمهيدية جديدة في المصانع التي أُلغيت فيها الانتخابات، والكثير من المصانع التي لم يسبق لها أن شاركت في الانتخابات تم إلحاقها في القائمة الجديدة.. كان ذلك بلا شك انتصاراً للطبقة العاملة، وبالأخص لبروليتاريا سان بطرسبورج الذين أبرزوا مثل ذلك الوعي الطبقي.
تم تحديد يوم الأحد 14 أكتوبر لتجري فيه انتخابات تكميلية لمندوبي أكثر من 20 موقع عمالي، ومارس الحزب وجريدته دعاية قوية، تماماً كما فعلنا في الانتخابات الأولى. استمرت الاحتجاجات ضد حرمان العمال من حقهم في الانتخاب حتى خلال سير العملية الانتخابية، وأيقظت الاجتماعات العمالية بالمصانع شعوراً ثورياً واهتماماً فائقاً بالحملة الانتخابية”.
تزامنت خطب النواب البلاشفة مرة بعد أخرى مع الحركة الجماهيرية، وبالتأكيد كان ذلك بالذات هو الهدف من تلك الخطب والاستجوابات التي قدموها.
“كان الهدف من الاستجوابات التي قدمناها هو إبراز الطبيعة الحقيقية للنظام الحاكم.
أما المظاهرة التي نظمها النواب الاشتراكيون الديمقراطيون داخل دوما المائة السود، فقد حظت بدعم وتأييد عمال بطرسبورج الذين أعلنوا إضراب لمدة يوم واحد في نفس اليوم. وعندما كنّا نتحدث في قاعة الدوما عن النموذج الأخير للقمع القيصري، ترك العمال مصانعهم، وفي اجتماعات سريعة اتخذوا قراراتهم الفورية بالاحتجاج.
لم ينته الإضراب في 14 ديسمبر، وفي صباح اليوم التالي انضم عمال المزيد من المصانع فيما لم يعد المضربون منذ اليوم الأول إلى العمل. من الصعب تقدير عدد العمال الذين شاركوا في الإضراب بدقة، لكن المؤكد أن العدد لا يمكن أن يقل عن 60 ألفاً، أي عمال المصانع الأضخم في بطرسبورج، ناهيك عن عمال الورش الذين انضموا لاحقاً للإضراب. وهذا الإضراب الهائل لبروليتاريا بطرسبورج إنما يبرز تضامنهم الكامل مع نوابهم، فقد كانت مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين في القلب من معارك الجماهير العمالية. كنّا على اتصال وثيق بالعمال المضربين، نساعدهم في صياغة مطالبهم، ونسلمهم التبرعات التي يتم تجميعها، ونتفاوض أحياناً نيابةً عنهم مع السلطات الحكومية المختلفة، إلخ” (18).
كانت نضالات العمال من أجل تحسين ظروف وشروط عملهم تمثل قضايا مركزية في القلب من العمل الدعائي والتنظيمي للنواب البلاشفة في الدوما.
“في مارس 1914، انفجرت الحركة العمالية في عدد من الأحداث في سان بطرسبورج، حيث اندلعت الإضرابات السياسية منذ الأيام الأولى من ذلك الشهر. نظم العمال إضرابات ليوم واحد احتجاجاً على مصادرة الصحف العمالية، ومنع النواب البلاشفة من تقديم استجواباتهم، وقمع النقابات، إلخ. انتشرت الإضرابات عبر المدينة وشملت العديد من مواقع العمل، واحتج العمال أيضاً ضد اللقاء السري الذي عقده رودزيانكو، رئيس الدوما، من أجل زيادة التسليح.. وعندما نددنا بتبذير الحكومة في أموال الشعب على التسليح، ساندنا في ذلك إضراب 30 ألف عامل في بطرسبورج.
استمرت الحركة في النمو والتصاعد طيلة شهر مارس، واندفعت بقوة أكبر مع مرور الذكرى الثانية لقتل العمال في مناجم لينا.. وفي يوم الذكرى، قررنا تقديم استجواب جديد. اشتركت كافة منظمات الحزب في الدعوة لمظاهرات كبرى في ذكرى مذبحة لينا، وأصدرت لجنة بطرسبورج بياناً تدعو فيه العمال للتظاهر في الشوارع تأييداً للاستجواب، وقرر عمال عدد من المصانع التظاهر في مسيرة إلى مقر مجلس الدوما.
تقرر التظاهر يوم 13 مارس وبدأ الإضراب بالفعل في مقاطعة فيبورج. وفي مصنع نوفي آيفاز بدأ عمال الوردية المسائية الإضراب في الثالثة فجراً، وفي الصباح انضم إليهم زملاؤهم الآخرون، وسرعان ما انتشر الإضراب عبر المدينة ليشمل 60 ألف عامل، 40 ألف منهم من عمال التعدين” (19).
عملت المجموعة البلشفية في الدوما أيضاً كبؤرة تنسيقية لكل أنشطة الحزب، بما يشمل عمله غير الشرعي.
“في الكثير من الأحيان كان عليّ أن أوفر جوازات السفر أو أماكن لتخبئة العمال المُلاحقين أمنياً، وأن أساعد العمال المفصولين إثر مشاركتهم في الإضرابات في إيجاد فرص عمل أخرى، وأن أتوجه بالعرائض للوزراء نيابةً عن العمال المقبوض عليهم، وأن أنظم الدعم للمنفيين، إلخ. وعندما كانت تبدو إشارات إضراب قادم، كان من الواجب اتخاذ خطوات لدعم المضربين وتثبيتهم، وتوفير دعماً مالياً لهم أو طباعة منشوراتهم، إلخ” (20).
“لم يكن هناك مصنعاً واحداً أو ورشة واحدة لم أكن على اتصال بها بطريقة أو بأخرى” (21).
البلاشفة يبنون مرتكزاتهم في النقابات
عانت الحركة النقابية في روسيا القيصرية من ضعف بالغ على مدار سنوات طويلة. في البداية ظهر جنين النقابات لأول مرة في تسعينات القرن التاسع عشر في شكل لجان لتنظيم الإضرابات، بالإضافة إلى الأشكال الأخرى من مجموعات الدعم العمالي التي تشكلت خلال النضال. كانت لجان الإضراب (التي سُميت أحياناً “صناديق الإضراب”) بمثابة الشكل الأساسي الذي اتخذته التنظيمات العمالية خلال موجة الإضرابات بين أعوام 1895 إلى 1897، ولم تكن تلك اللجان معنية فقط بتنظيم الإضرابات كلما حدثت، أو بتنظيم وسائل دعم المضربين، لكنها هدفت أيضاً إلى بناء منظمات عمالية دائمة داخل المصانع. وفي هذا السياق بُذِل الكثير من الجهد لخلق كيان مركزي يوحد كافة المنظمات العمالية عبر المناطق الجغرافية أو القطاعات الصناعية، لكن ذلك الهدف لم تنجح الحركة العمالية الروسية في بلوغه إلا خلال نضالات 1905 الثورية (2*).
وحتى في 1905، لم تمثل نسبة العمال المنظمين في النقابات سوى أقلية محدودة في صفوف الطبقة العاملة، حيث شملت النقابات العمالية في عضويتها 7% من إجمالي عدد العمال في روسيا، وبالتحديد 245 ألف و555 عامل (23). وحتى تلك النقابات نفسها كانت كلٌ منها تضم أعداداً محدودة من العمال؛ فمن إجمالي 600 نقابة، كانت 349 منها تضم أقل من 100 عامل في النقابة الواحدة، ومن 100 إلى 300 عامل في 108 نقابة، فيما كان عدد النقابات التي تضم أكثر من ألفي عامل هو 22 نقابة فقط (24). وخلال فترة التراجع الحاد، من 1908 إلى 1909، كادت تلك النقابات أن تختفي تماماً من الوجود. وخلال السنوات اللاحقة، نهضت النقابات على نحو محدود، فيما لم تكن هناك حركة نقابية موحدة على مستوى قومي على الإطلاق، في حين كان إجمالي عدد العمال المنظمين في النقابات يتراوح بين 20 إلى 30 ألف عامل فقط (25).
وبالرغم من محدودية فرص النشاط داخل النقابات، إلا أن البلاشفة قد بذلوا كل ما بوسعهم من جهد لاستغلال تلك الفرص، وبشكل عام (لكن بالأخص في بطرسبورج) تفوق البلاشفة على منافسيهم من المناشفة والاشتراكيين الثوريين في التأثير وبناء النفوذ داخل النقابات. وعندما جرت انتخابات اللجنة التنفيذية لنقابة عمال التعدين في سان بطرسبورج، في 21 أبريل 1913، أصبح هناك عشرة عمال، من أصل 14 عامل منتخبين في اللجنة، من قراء البرافدا؛ أي من مؤيدي الحزب البلشفي. وعندما جرت إعادة انتخاب اللجنة التنفيذية لنفس النقابة، في 22 أغسطس 1913، حضر المؤتمر الانتخابي حوالي 3 آلاف عامل من أعضاء النقابة، وحظت القائمة البلشفية على أغلبية ساحقة، وفي المقابل أعطى 150 عامل فقط أصواتهم لقائمة المناشفة.
وفي يونيو 1914، كان بوسع لينين أن يؤكد أن البلاشفة يسيطرون بالفعل على 14 نقابة من إجمالي 18 في سان بطرسبورج وحدها، فيما وقعت 3 نقابات فقط تحت تأثير المناشفة، ونقابة واحدة حظى فيها كل من الحزبين على أعداد متساوية تقريباً من المؤيدين. أما في موسكو، كانت 10 من أصل 13 نقابة من الداعمين المباشرين لجريدة البرافدا، أي تحت التأثير المباشر للبلاشفة، أما الثلاثة الآخرين فلم يكونوا خارج أوساط المتعاطفين مع الحزب البلشفي والملتفين حوله (26).
التأمين الاجتماعي
كانت المنظمة الشرعية التي لعبت دوراً فريداً في الحركة العمالية في ذلك الوقت هي منظمة التأمين الصحي، والتي في الحقيقة ساهمت بشكل أكبر حتى من النقابات في بناء شبكة من العمال المؤيدين للبلشفية.
أما الزعم القائل بأن انتزاع التأمين الاجتماعي من شأنه أن يخدم السلطات القيصرية بتسكين الحركة الثورية، فقد كان مختلفاً تماماً عما جرى في الواقع. اعترفت الحكومة بشرعية التنظيمات العمالية في مجال التأمين الاجتماعي وذلك فقط من أجل منع الثوريين من بناء المزيد من النفوذ بين جماهير العمال. ولعل ما يدل على ذلك هو ما ردده نائب رئيس الشرطة، س. ب. بيليتسكي: “كلما حظى العمال بتأمين مالي أفضل، كلما قل خطر الدعاية الثورية بينهم” (27). وهكذا أيضاً جادل وزير الداخلية، أ. ماكلاكوف:
“إن الطبقات العاملة تقع تحت تأثير الأحزاب الثوري التي تستغلها لمصالحها الخاصة، لكن الطبقات العاملة أصبحت الآن مدركة، من خلال خبراتها السابقة، أن الأعباء الأساسية للإضرابات إنما تقع على كواهلهم، وهكذا كفوا عن تصديق الشعارات الثورية. إن اللحظة الراهنة لهي مليئة بالفرص لمنع الجماهير العمالية من النشاط الثوري، عن طريق تقديم تشريعات تضمن لهم التأمين الاجتماعي.. لكن على الجانب الآخر سنضطر لضخ كميات كبيرة من المال في أيدي المؤمّن عليهم، وبالتالي فمن المهم أن ننظم الخطوات الأولى في هذه العملية لتحجيم نفوذ الثوريين وشلهم تماماً” (28).
مررت الدوما في 23 يونيو 1912 قانونين للتأمين الصحي يقضيان بدفع تعويضات للعمال في حالات الحوادث أو المرض، لكن بالرغم من أن القانونين اُعتُبِرا بمثابة خطوة للأمام مقارنةً بقوانين 1903، إلا أنهما لم يكونا كافيين على الإطلاق، بل وكمن قصورهما في تجاهل شرائح عريضة من الطبقة العاملة مثل عمال الاستثمارات الصغيرة (20 عامل أو أقل)، وكافة عمال الزراعة والإنشاءات، عمال سيبريا وتركستان، ناهيك عن العاجزين والعاطلين وكبار السن. كل هؤلاء لم يكن لهم الحق في التأمين، وهكذا جرى القانون فقط على 20% من عمال المصانع. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن للعمال الحق في إدارة شئون صناديق التأمين، وفي المقابل كان يُسمح لهم فقط بتقديم مرشحين يشاركون في ذلك.
وضع البلاشفة لأنفسهم مهمة توضيح التشريعات الجديدة الخاصة بالتأمين الصحي وكشف قصورها أمام الطبقة العاملة، كما عملوا على توسيع النضال من أجل زيادة تمثيل العمال في الإشراف على صناديق التأمين. في 1912، بدأت صناديق الرعاية الصحية المؤسسة حديثاً في مصانع بطرسبورج في توزيع الدعم على المرضى، لكن هذه الصناديق تأسست في عدد محدود من المصانع التي يعمل بها 200 عامل فأكثر، أما المصانع الأصغر فقد كانت كل مجموعة منها تتقاسم صندوقاً واحداً، ومن الناحية العملية كان كل صندوق ينتفع به من 700 إلى ألف شخص. كان يتم تمويل تلك الصناديق من اشتراكات العمال (1 إلى 3% من الأجر الشهري) ومن المنح التي كان يضعها أصحاب الأعمال والتي كانت تُقدر بثلثي إجمالي اشتراكات العمال في المصنع الواحد. أما عن إدارة الصناديق، فكانت مجالس الإدارات هي التي تتولى مسئوليتها حيث تشكل كل مجلس إدارة جزئياً من العمال المنتخبين، والجزء الأكبر يتم تعيينه من قبل صاحب العمل، بحيث يكون من كل خمسة أعضاء بمجلس إدارة الصندوق كان يعين صاحب العمل أربعة منهم، فيما ينتخب العمال أحد زملائهم فيه، لذا كان للعمال درجة من الاستقلال، لكن كان باستطاعة أصحاب العمل التأثير على الأعضاء المنتخبين من خلال التهديد بالفصل وغيرها من الإجراءات التعسفية.
ركزت البرافدا البلشفية بشدة على فضح القيود المفروضة على إدارة الصناديق، كما دعت بشكل صريح لإدارة العمال لها بشكل كامل، ووضع حد لإرغام العمال على تمويل الصناديق باشتراكاتهم، وفي المقابل أن يتحمل أصحاب العمل هذا العبء.
شن النواب الاشتراكيون الديمقراطيون هجوماً حاداً على إدارات الصناديق التي يسيطر عليها أصحاب العمل في ديسمبر 1912. ومن أجل توسيع رقعة الحملة، أصدرت لجنة بطرسبورج البلشفية منشوراً يدعو للإضراب لمدة يوم واحد دعماً لاستجوابات النواب. وبالمناسبة كان هذا هو الإضراب الذي أشرنا إليه سابقاً والذي استمر أسبوعاً كاملاً بمشاركة 60 ألف عامل.
استغل البلاشفة المشاركة الجماهيرية في الصناديق كساحة للتحريض وأيضاً للدعاية التي تجتاز حدود قضية التأمين الصحي. وكما أعلنت البرافدا في 3 نوفمبر 1912، فإن “صناديق التأمين في المصانع سوف تتطور إلى خلايا عمالية واسعة الانتشار، ستضم في عضويتها الآلاف من العمال، وستمتد عبر كل روسيا” (29).
وبعد نشر سلسلة من المقالات حول صناديق التأمين، خصخصت البرافدا قسماً ثابتاً فيها تحت عنوان “تأمينات العمال: أسئلة وأجوبة”. كما دعا البلاشفة العمال لعقد الاجتماعات لمناقشة كل ما يتعلق بقضية التأمينات، ولكي يبقى نواب البلاشفة في الدوما على اطلاع دائم على كل تطورات القضية في المصانع. وعندما اتسع الاهتمام الشعبي بحملة التأمين، صارت مطالب البلاشفة أكثر وضوحاً وتحديداً: إنشاء صندوق تأمين مركزي للمدينة، والإدارة العمالية الكاملة للصناديق، وضم المساعدات الطبية إليها.
قدم لينين في مؤتمر الحزب البلشفي، يناير 1912، قراراً حول قانون الحكومة، حيث أوضح أي قانون تأمنيات يريده الحزب بالتحديد:
“أ) يجب أن يدعم القانون كل الحالات الطارئة والحرجة (الحوادث والمرض والعَجَز، والإعاقة الدائمة، وإجازات الوضع والرضاعة، والأرامل والأيتام)، وأيضاً حالات فقدان مصدر الرزق نتيجة البطالة. ب) يجب أن يشمل التأمين كل العاملين وأسرهم. ج) يجب أن يتلقى كافة الأشخاص المؤمّن عليهم تعويضات مساوية لدخولهم، وأن تتكفل الدولة وأصحاب العمل بهذه التعويضات. د) يجب أن تُدار كافة أشكال التأمين بواسطة تنظيمات مقسمة جغرافياً على أساس المقاطعات وأن تستند إلى مبدأ إدارة المؤمّنين عليهم بأنفسهم” (30).
تمسك لينين بشدة بضرورة النضال من أجل انتزاع قانون تأمينات على النحو السابق دون التغافل ولو للحظة عن الهدف النهائي في الانتصار الكامل للثورة:
“يحذر المؤتمر العمال جدياً من محاولات بتر أو تشويه التحريض الاشتراكي الديمقراطي بقصره على ما هو مسموح به شرعياً في الفترة الراهنة من هيمنة الثورة المضادة. وعلى الجانب الآخر، يشدد المؤتمر على أن النقطة الأساسية في هذا التحريض يجب أن تكون أن نشرح للجماهير البروليتارية أن لا تحسين في ظروف عملهم وحياتهم يمكن أن يصبح ممكناً من دون ثورة جديدة منتصرة” (31).
على البلاشفة أن يستغلوا كل فرصة ممكنة للتحرك بشكل مفتوح على قضية التأمين الاجتماعي.
“إذا تحول مرسوم الدوما إلى قانون معمول به رغماً عن احتجاجات البروليتاريا الواعية طبقياً، فإن المؤتمر يهيب بالرفاق لشن دعاية أكثر نشاطاً للأفكار الاشتراكية الديمقراطية داخل الأشكال التنظيمية الجديدة، ومن أجل تحويل القانون الجديد، الذي صيغ كوسيلة لتكبيل البروليتاريا بقيود جديدة ولوضع نيراً جديداً على كواهلها، إلى وسيلة لتطوير وعيها الطبقي، ولإحكام تنظيمها، ولتكثيف نضالها من أجل الحرية السياسية الكاملة ومن أجل الاشتراكية” (32).
وبغرض تدعيم حملة التأمين، أصدر البلاشفة، في أكتوبر 1913، نشرة أسبوعية سُميت “فبروسي ستراخوفانيا” (قضايا التأمين)، وصل متوسط توزيعها إلى 15 ألف نسخة أسبوعياً. غالباً ما كان لينين يكتب في هذه النشرة، وعلى عكس وزير الداخلية، ماكلاكوف، الذي رأى في التأمين الاجتماعي وسيلة للحفاظ على استقرار النظام القيصري من خلال استيعاب مطالب العمال، نجح لينين بمهارة في تحويل التأمين الاجتماعي إلى وسيلة لتنظيم مئات الآلاف من العمال ضد النظام نفسه. واندلعت المظاهرات والإضرابات العمالية للمطالبة بالحق في التأمين الكامل، كما تبلورت شبكة واسعة من مؤيدي البلشفية حول صناديق التأمين في المصانع ومواقع العمل.
“في مارس 1914، عُقدت في سان بطرسبورج انتخابات هيئة التأمين لعامة روسيا، وهيئة التأمين في العاصمة. في الأولى انتخب العمال خمسة أعضاء وعشرة نواب، وفي الثانية انتخبوا عضوين وأربعة نواب. وفي كلتا الحالتين، كانت قائمة المرشحين التي تقدم بها البلاشفة قد تم انتخابها بالكامل. وكانت نتيجة الانتخابات في هيئة التأمين في العاصمة كالتالي: 37 بلاشفياً، و7 مناشفة، و4 نارودنيين، و5 مستقلين” (33).
برزت عبقرية لينين في إدراك القضايا الصغيرة التي من الممكن أن تشعل كتلاً من العمال وتوحدهم كطبقة مستقلة، في عمل البلاشفة حول صناديق التأمين. أصبح ذلك أكثر وضوحاً بعد إعلان الحرب العالمية الأولى ومشاركة روسيا بها، حينما تعرض الثوريون لقمع شديد الوطأة، حيث نُفي النواب البلاشفة إلى سيبريا وصودرت البرافدا وأُغلقت مطابعها، في ذلك الحين أصبحت مؤسسات التأمين هي الشكل الوحيد الشرعي والعلني للبلاشفة في عملهم الجماهيري.
وفي عددها الأول، كشفت فبروسي ستراخوفانيا بكل وضوح عن جوهر سياساتها كالتالي: “إن تقديم صناديق تأمين للمرضى يفتح مساراً شرعياً، بل وملزماً للنضال والتحرك” (34). وبعد اندلاع الحرب، نشرت فبروسي ستراخوفانيا بياناً تندد فيه بدخول روسيا الحرب، جنباً إلى جنب مع قضايا العمال ومطالبهم: “كلنا نعرف جيداً أن تكاليف الحياة في ازدياد، لكننا لم نسمع قط عن زيادة الأجور، أو عن تحسين في ظروف حياة الطبقة العاملة تخفف أعباء الغلاء” (35).
وفي مايو 1916، نشرت على صفحاتها مقالة كتبها لينين بعنوان “الشوفينية الألمانية والشوفينية غير الألمانية”، هاجم فيها بكل حدة النزعات القومية التي تغذي الحرب، خاتماً المقال بأنه ليس هناك ثمة فارق جوهري بين الشوفينية الروسية والشوفينية البروسية (36).
كانت تلك النشرة أيضاً بمثابة سلاح فعال في حملة البلاشفة قبيل انتخابات لجان المصانع الحربية، في منتصف 1915، والتي دعوا إلى مقاطعتها تماماً. فقد كان الغرض من تلك اللجان هو دمج المزيد من العمال في المصانع الحربية من أجل مضاعفة إنتاج السلاح. وبينما شارك المناشفة بفعالية في تلك الانتخابات، كان من الطبيعي أن يقاطع البلاشفة، المناهضين الشرسين للحرب، اللجنة وانتخاباتها ويدعون العمال لذلك أيضاً، فنشروا في فبروسي ستراخوفانيا تنديداً شديد اللهجة بهذه اللجنة:
“فقط في مناخ من الحرية السياسية والمدنية، حينما يختفي الحكم المتسلط والقمعي من الوجود، عندما تتوفر إمكانية تحرر كل البروليتاريا الروسية، عندها فقط يمكن للطبقة العاملة أن تدلي برأيها فيما يتعلق بقضية الدفاع عن البلاد” (37).
خلال فترة الحرب، اجتذبت الصناديق حركة جماهيرية هائلة تجاوزت أكثر أحلام لينين طموحاً وتفاؤلاً. وبحلول فبراير 1916، كان هناك حوالي 2 مليون عامل في عضوية لجان الصناديق (38). كان تأثير البلاشفة بين هؤلاء العمال واسع النطاق، وعندما جرت انتخابات مجلس التأمين في يناير 1916، كان هناك 39 من أصل 70 مندوباً من قائمة فبروسي ستراخوفانيا؛ أي من مؤيدي البلاشفة (39).
لم تكن الأوخرانا غافلة عن تلك التطورات التي تعاظم فيها دور الحزب البلشفي وتأثيره بين العمال. وفي تقرير لأحد عملاء الأمن في سبتمبر 1916، توصلت الأوخرانا إلى أن: “أعضاء الحزب القدامى بدأوا يشكلون عضوية مجلس إدارة صناديق التأمين الصحي الذي انتخبه العمال بأنفسهم، وهكذا صارت لصناديق التأمين لوناً سياسياً محدداً” (40). ولعل من الواضح هنا أن لينين، وليس ماكلاكوف، هو من كان على صواب فيما يتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الكيانات بين أوساط الجماهير.
إن التجربة البلشفية في معركة التأمين الاجتماعي تضرب مثالاً بالغ الأهمية لكافة الثوريين الذين ينبغي أن تتوازى تطلعاتهم من أجل التحرر الشامل للطبقة العاملة مع محاولاتهم المستمرة والمستمية للمشاركة بفعالية في النضالات الجزئية والصغيرة، حيث أن:
“كل تحرك للبروليتاريا، مهما بدا صغيراً، مهما كان معتدلاً في البداية، ومهما بدا وقعه بسيطاً، فهو يحمل حتماً في داخله تهديداً بتجاوز أهدافه الآنية وبتطوره إلى قوة صلبة تتحدى النظام القديم برمته وتدمره بالكامل” (41).
البرافدا
الجريدة الشرعية
استغل البلاشفة كل الفرص الشرعية الممكنة لنشر دعايتهم وأدبياتهم المختلفة. وكما ذكرنا من قبل، أقر مؤتمر يناير 1912 بإصدار جريدة شرعية يومية – البرافدا. كان ذلك لاستبدال الجريدة الأسبوعية غير الشرعية – زفيزدا – التي أصدرها البلاشفة منذ 16 ديسمبر 1910، والتي بدأت في الظهور مرتين أسبوعياً منذ يناير 1911، ثم ثلاثة مرات أسبوعياً في مارس من نفس العام. وقفت السلطات الأمنية بالمرصاد لزفيزدا، ومن 63 عدد صادرت 30 ووقعت غرامات على 8 أعداد. إلا أن الزفيزدا، من خلال تنظيم مجموعات عمالية تجمع المال لها، قد مهدت الأرض لإصدار البرافدا اليومية التي ظهر العدد الأول منها في 22 أبريل 1912.
عانت البرافدا هي الأخرى من ملاحقة السلطات، وهكذا اضطرت لتغيير اسمها ثمانية مرات: رابوتشايا برافدا (حقيقة العمال)، سيفيرنايا برافدا (حقيقة الشمال)، برافدا ترودا (حقيقة العمل)، زا برافدا (نحو الحقيقة)، بروليتاريسكايا برافدا (الحقيقة البروليتارية)، بوت برافدا (طريق الحقيقة)، رابوتشاي (العامل)، ترودوفايا برافدا (الحقيقة العمالية).
ومرة بعد أخرى، كان يتم مصادرة أعداد البرافدا أو توقيع الغرامات عليها، ناهيك عن اعتقال محرريها وملاحقة الموزعين، إلخ. إلا أن الجريدة استمرت في الصدور، وفي الفترة من 22 أبريل 1912 وحتى 8 يوليو 1914، صدر 645 عدد منها. كان ذلك ممكناً من خلال براعة فريق تحرير البرافدا في الإفلات من الاعتقال أحياناً، ومن خلال الدعم المالي والتبرعات المستمرة من قراء الجريدة، والثغرات في قانون الصحافة، علاوة على عدم كفاءة الشرطة في كثير من الأحيان في مصادرة الأعداد (1).
إن لغة البرافدا أيضاً، بما تمتعت به من مراوغة، سمحت لها بمناقشة القضايا المطروحة بدون التعرض لخطر المصادرة اليومية. ومنذ الوقت الذي مُنعت فيه من الصدور باسم حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، كانت الجريدة تتحدث عن برنامج البلاشفة للجمهورية الديمقراطية، ومصادرة ملكية الأراضي وتوزيعها على الفلاحين، ومطلب تحديد يوم العمل بـ 8 ساعات يومياً، ذلك المطلب المستمد من ثورة 1905. كان عضو الحزب البلشفي ديمقراطي صلب وماركسي متماسك، وقد كان العمال المتقدمين في صفوف الطبقة العاملة يعرفون كيف يقرأون ويستوعبون الجريدة البلشفية.
من ضمن التضييقات الأمنية التي تعرضت لها جريدة البلاشفة، والصحافة بشكل عام في روسيا، في ذلك الوقت، قانون يقضي بإرسال أول ثلاثة نسخ من عدد الجريدة إلى الرقيب الصحفي. بينما كان محررو البرافدا يصرون دائماً على تمرير الجريدة من أجل التوزيع سواء بموافقة ذلك الرقيب الصحفي أو بالتحايل والمراوغة في حال عدم موافقته. لذا كانوا يحاولون كسب أكبر قدر من الوقت كلما أمكن بين إرسال النسخ الثلاثة للرقيب وبين توافد رجال الشرطة للمطبعة من أجل إيقاف الطبع أو مصادرة النسخ المطبوعة. لقد استطاعوا التعامل مع تلك المشكلة بإبداع مثير للدهشة، حيث أن القانون قد اشترط إرسال أول ثلاثة نسخ يتم طبعهم للرقيب لكنه لم يحدد متى بالضبط يجب أن يصلوه. ولذلك فإن المهمة اليومية لإرسال تلك النسخ للرقيب كانت موكلة لعامل عجوز في الـ 70 من عمره، وكانت خطواته البطيئة تضمن أن النسخ تصل للرقيب خلال ساعتين على الأقل. وبعد أن يصل العجوز لمكتب الرقيب، كان يمكث بعض الوقت متظاهراً أنه يستريح قليلاً من طول المسافة، لكن في الحقيقة لكي يراقب الرقيب الصحفي نفسه أثناء فحصه أعداد من جرائد أخرى بجانب البرافدا. إذا التفت الرجل لمطالعة جرائد أخرى بعد مطالعة البرافدا، يعود العجوز إلى المطبعة مرة أخرى ويُطمئن الجميع. لكن إذا استخدم الهاتف وتحدث إلى رجال الشرطة في “المقاطعة الثالثة” التي تضم مطابع البرافدا، يخرج العجوز سريعاً من المكتب ويستقل عربة مواصلات ليعود إلى المطبعة، وعندما يراه الجميع آتياً إليهم بأقصى ما لديه من سرعة، يدركون ما حدث ويعملون بأسرع ما يمكن لتخبأة أعداد الجريدة ويوقفون عملية الطبع مؤقتاً ويغلقون منفذ خروج الجريدة، إلخ. وعندما تصل الشرطة تكون أغلب النسخ المطبوعة من عدد الجريدة قد خرجت بالفعل من المطبعة بسلام (2).
كان هناك العديد من المحررين الشكليين الذين يذهبون إلى السجن، لكن المحررين الحقيقيين كانوا أحراراً. كانوا حوالي 40 محرر، والعديد منهم لم يكن مثقفاً، وفي أول عام من إصدار البرافدا، بلغت الفترة التي قضاها هؤلاء المحررون في السجون حوالي 47 شهراً ونصف. ومن ضمن 645 عدد منشور من البرافدا، حاول البوليس مصادرة 155 منها بينما نجح في مصادرة 36 عدد فقط.
كان نصف النسخ يتم بيعها في الشوارع بواسطة بائعي الجرائد، والنصف الآخر يُباع في المصانع. وبالنسبة للمصانع الكبيرة في سان بطرسبورج، كان هناك مسئول عن بيع الجريدة في كل قسم من كل مصنع، بحيث يقوم بتحصيل الأموال وجمع التبرعات على الأعداد. بينما كان التوزيع يتم بصعوبة بالغة خارج سان بطرسبورج. صحيح أن البرافدا كان لديها 600 اشتراك بريدي، لكن التوزيع لم يكن سهلاً كما يبدو. لقد كانوا يخبئون النسخ في ملابسهم الثقيلة ويمررونها عبر 5 أو 6 مكاتب بريدية مختلفة يبدلونها كل يوم لمراوغة الشرطة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت حزم الجرائد تنتقل عبر المحافظات والأقاليم بطرق معقدة، حيث كان أعضاء الحزب والمتعاطفون الذين يعملون في خطوط السكك الحديدية يلقون بحزم الجرائد على طول السكك الحديدية في مناطق معينة حيث ينتظر بعض من رفاقهم لاستلامها. وفي إحدى المدن، كانت نسخ البرافدا تُرسل إلى مكتب البريد حيث يستلمها أحد الرفاق البلاشفة الذي يعمل هناك بنفسه.
كانت دورة جريدة البلاشفة مبهرة بحق، خاصةً عندما نأخذ في الاعتبار الوضع غير الشرعي للحزب الذي يصدرها. كان توزيع البرافدا يصل إلى 40 ألف نسخة في أيام الأسبوع العادية و60 ألف في أيام السبت. مثّل ذلك خطوة هائلة للأمام مقارنة بالنشرات الأولى التي كتبها لينين بخط يده، أو حتى بأول جريدة شارك لينين في تحريرها عام 1897 (نشرة عمال سان بطرسبورج) والتي أصدرتها “عصبة النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة”، تلك الجريدة التي صدر منها طبعتين، الأولى في روسيا في يناير 1897 (300 إلى 400 نسخة فقط) والأخرى في جينيف في سبتمبر من نفس العام. قد يكون معدل توزيع الجريدة من 40 إلى 60 ألفاً معدلاً معتاداً في أوروبا، لكن في ظل ظروف القمع القيصري، كان ذلك إنجازاً عظيماً (1*).
وعلى الرغم من ذلك لم يكن لينين راضياً عن نسب التوزيع. ولهذا كتب في أبريل 1914 مقالة هامة تحت عنوان “مهماتنا”، جاء فيها ما يلي:
“ينبغي زيادة توزيع بوت برافدي ثلاث، أربع وخمس مرات على ما هي عليه الآن. ومن الضروري إصدار ملحق نقابي ولابد من وجود ممثلين لجميع النقابات والتجمعات في هيئة التحرير. ومن المهم أن تكون لصحيفتنا ملاحق منطقية (موسكو، الأورال، القوقاز، البلطيق، أوكرانيا).. لابد من أن نوسع مرات عدة كلاً من القسم الدولي في بوت برافدي وأرشيف الحياة التنظيمية والأيديولوجية والسياسية للعمال الواعين طبقياً.
إن الشكل الحالي لبوت برافدي ضروري للعمال الواعين طبقياً ولابد أن يتوسع أكثر من ذلك، إلا أنه غال وصعب جداً وكبير جداً على العامل العادي وعلى القاعديين وعلى أيِ من ملايين الناس الذين يجر سحبهم حتى الآن إلى الحركة.
هناك حاجة للبدء في إصدار فيتشيرنايا برافدا (2*) بسعر كوبيك واحد وبتوزيع يتراوح ما بين 200,000 إلى 300,000 نسخة في قلب التحشدات الجماهيرية البروليتارية وشبه البروليتارية..
علينا أن نؤمّن درجة أعظم من التنظيم من جانب قراء بوت برافدا أكثر مما عليه الآن في مختلف المعامل والمقاطعات، إلخ.. ومساهمة أكثر نشاطاً في في مراسلة وإدارة وتوزيع الصحيفة، وعلينا أن ندفع العمال للقيام بدور منتظم في العمل التحريري” (4).
إلا أن طموحات لينين نحو توزيع جماهيري للجريدة لم تتحقق إلا عند قيام الثورة.
جريدة عمالية حقيقية
لم تكن البرافدا جريدة “للعمال”، بل جريدة “عمالية” حقيقية. لقد اختلفت البرافدا اللينينية كثيراً عن جريدة تروتسكي التي حملت نفس الإسم والتي صدرت نصف شهرياً في فيينا بين عامي 1908 و1912؛ حيث كانت كافة مقالات الجريدة تكتبها مجموعة ضئيلة من الصحفيين الثوريين اللامعين (ليون تروتسكي، أدلوف يوفي، ديفيد ريازانوف، وآخرين)، وكما كتب لينين فإن “جريدة تروتسكي هي جريدة للعمال؛ فليس هناك ثمة أثر سواء لمبادرات العمال أو لأي اتصال بمنظمات الطبقة العاملة” (5). في المقابل، تسلمت البرافدا اللينينية 11 ألف خطاب ومراسلة عمالية خلال عام واحد من إصدارها، أي بمعدل 35 في اليوم الواحد.
وبعد شهور قليلة من بداية صدور البرافدا، أوضح لينين منظوره عن جريدة العمال كالآتي:
“إن العرض التاريخي لحياة العمال يبدأ لتوه بالتطور إلى سمة دائمة للبرافدا، ولا ريب أن الصحيفة بالإضافة إلى الرسائل عن الإساءات في المعامل وعن استيقاظ قطاع جديد من البروليتاريا والتبرعات لهذا المجال أو ذاك من القضية العمالية، سوف تستلم تقارير عن آراء ومشاعر العمال، والحملات الانتخابية، وانتخاب مندوبي العمال، وما يقرأه العمال، والقضايا ذات الأهمية الخاصة عندهم، وما شاكل ذلك.
إن الصحيفة العمالية هي منبر العمال، إن على العمال، أمام أنظار روسيا كلها، أن يثيروا هنا الواحد بعد الآخر مختلف القضايا المتعلقة بحياة العمال بوجه عام، وديمقراطية الطبقة العاملة بوجه خاص” (6).
آمن لينين أن العمال أنفسهم يجب أن يرسموا صورة حية لنضالاتهم التي يخوضونها بشكل عام. لقد جادل بأن:
“العمال، بالرغم من كل الصعوبات، يجب أن يرسموا صورة حية لنضالاتهم. يستطيع عاملان أو ثلاثة من العمال الواعين أن يضعوا وصفاً دقيقاً للإضراب الذي شاركوا فيه، متى بدأ ومتى انتهى، عدد المشاركين (وتوضيح النسب بين النساء والرجال، ومتوسط الأعمار، وهكذا)، أسباب الإضراب، ونتائجه. مثل هذا الوصف يجب أن يصل أولاً إلى النقابة العمالية المختصة، وإلى الجريدة العمالية المركزية، وأخيراً إلى النائب العمالي في مجلس الدوما من أجل تزويده بالمعلومات. فقط من خلال وصف العمال أنفسهم لنضالهم، يمكننا أن نفهم ونستوعب حركتهم بشكل أفضل، وبالتالي نساعد في ضمان نجاح أقوى لها” (7).
عَرف لينين كيف يكتب مقالات قصيرة وبسيطة للبرافدا. كانت مقالاته واقعية بحيث احتوت كل مقالة على فكرة أساسية يجادل حولها. كان يكرر أحد ملامح الفكرة مراراً وتكراراً، لكن كل مرة من زاوية مختلفة وأمثلة مختلفة وقصص مختلفة. وعلى سبيل الاطلاع على أسلوب لينين في كتابة المقالات، سنقتبس المقالتين التاليتين من أعماله:
الروس والزنوج
قد يظن القارئ أنها مقارنة غريبة؛ فكيف يمكن مقارنة أمة بعرق؟
نعم يمكن أن نجري هذه المقارنة؛ فالزنوج هم آخر من تحرروا من العبودية، ولايزالوا يحملون عبء الآثار القاسية لها – حتى في البلدان المتقدمة – إذ أن الرأسمالية لا تتيح مجالاً لشيء سوى التحرر الشرعي، وحتى ذلك التحرر تختزله وتجعله قاصراً بكل الطرق الممكنة.
وبالنسبة للروس، فقد تحرر “أغلبهم” من قيود العبودية في 1861. وفي نفس الوقت تقريباً، بعد الحرب الأهلية ضد مالكي العبيد الأمريكيين، تحرر زنوج شمال أمريكا من العبودية.
لقد تحرر العبيد الأمريكيون بشكل أقل “إصلاحية” مما حدث مع العبيد الروس. لذا فاليوم، حتى بعد مرور نصف قرن، لايزال الروس يُظهرون الكثير من آثار العبودية أكثر من الزنوج. وعلى نحو أكثر دقة، يمكننا أن نتحدث عن المؤسسات وليس مجرد الآثار نفسها. ستقتصر هذه المقالة على تقديم توضيح قليل بشأن ما ذُكر، أي قضية محو الأمية. من المعروف أن الأمية تمثل واحدة من تبعات العبودية؛ ففي بلد يضطهده الباشوات ومن على شاكلتهم، لا يمكن لأغلبية السكان أن تمحي أميتها.
في روسيا، هناك 73% من السكان أميون، بالأخص الأطفال تحت تسع سنوات. بينما الزنوج الأمريكيون، يشكّل الأميون نسبة 44,5% في عام 1900. هذا الارتفاع الفاضح لنسبة الأميين هو بلا شك وصمة عار لدولة متقدمة ومتحضرة مثل جمهورية أمريكا الشمالية. وعلاوة على ذلك، يعرف الجميع أن حال الزنوج في أمريكا بشكل عام مذري ولا يليق بهذا البلد المتحضر؛ فالرأسمالية لا يمكن أن تحقق التحرر الكامل أو حتى المساواة الكاملة.
ومن الجدير بالذكر أن نسبة الأميين من الأمريكيين البيض لا تتعدى 6%. لكن إذا كان لنا أن نقسّم أمريكا إلى ما كانت عليه، حيث المناطق التي بقت فيها العبودية قائمة، والمناطق التي زالت فيها، سنجد أن نسبة الأميين بين البيض في الأولى هو 11 – 12%، وفي الثانية 4 – 6%.
وهكذا فإن نسبة البيض الأميين في مناطق العبودية السابقة هي ضعف نسبتها في المناطق الأخرى. ليس فقط الزنوج هم فقط من تظهر عليهم آثار العبودية.
إنه لعار على أمريكا هذه المعاناة التي يعيشها الزنوج (8).
الملكية العقارية الكبيرة والملكية الفلاحية الصغيرة للأرض في روسيا
لمناسبة الذكرى السنوية للتاسع عشر من فبراير 1861 (3*) التي انقضت للتو، لن يكون من نافل الكلام التذكير بتوزع الأرض حالياً في روسيا الأوروبية.
إن الإحصاء الأخير الرسمي عن توزيع الأرض في روسيا الأوروبية قد أصدرته وزارة الداخلية، وهو يتناول عام 1905. يُستفاد من معطيات هذا الإحصاء أن كبار الملاك العقاريين الذين يملك الواحد منهم أكثر من 500 ديسياتين من الأرض، بلغ عددهم (برقم مبسط) حوالي 30,000، وبلغت مساحة الأرض التي يملكنونها زهاء 70,000,000 ديسياتين.
وهناك زهاء 10,000,000 عائلة فلاحية فقيرة تملك القدر نفسه من الأرض.
وهذا يعني أنه يوجد في المتوسط زهاء 330 عائلة فلاحية فقيرة مقابل ملاك عقاري كبير واحد، ناهيك بأن كل عائلة فلاحية تملك من الأرض زهاء 7 ديسياتنيات بينما يملك كل ملاك عقاري كبير زهاء 2300 ديسياتين.
ولإيضاح هذا بجلاء، وضع المخطط الوارد أدناه.
إن المستطيل الأبيض الكبير في الوسط يرمز إلى أملاك كبار الملاكين العقاريين. والمربعات الصغيرة حوله ترمز إلى القطع الفلاحية الصغيرة من الأرض.
عدد المربعات الإجمالي 324، بينما مساحة المستطيل الأبيض توازي 320 مربعاً (9).
استطاع لينين بهذا الأسلوب الشيّق، والبعيد كل البعد عن الابتذال، أن يبسط بشكل مبهر تعقيدات التحليل الماركسي. إنه لمن الصعب أن نكتب للجماهير من أن نكتب للكوادر لكوادر الحزب؛ ففي الحالة الأخيرة تتطور الجدالات كتحليلات ماركسية نظرية، بينما في الحالة الأولى ترتكز الجدالات على خبرة العمال أنفسهم بدون الدخول في نقاط تحتاج معرفة مسبقة بالماركسية. ولقد تميز لينين في الكتابة لكل من الجماهير والكوادر الماركسية في الحزب، على حد سواء. فبالإضافة إلى المقالات الموجهة للجماهير التي كتبها لينين، كالمثالين السابقين، كتب لينين العديد من المقالات الموجهة خصيصاً للكوادر البلشفية، وكانت تلك المقالات طويلة وصل بعضها من ألفين إلى ثلاثة آلاف كلمة، بالإضافة إلى كم هائل من الكتب. تميز أسلوب لينين بالوضوح والمباشرة، وأحياناً بالتكرار، خلت كتاباته من أي زخرفة أو تشوش، خلت من أي مراوغة أو تحفظ، وهذا الأسلوب بالذات ما أوضح جديّة أفكار لينين وعمقها.
كان لينين معجباً كثيراً بكتابات ج. ن. تشيرنيشفسكي، والذي يعد واحداً من أعظم الثوريين الروس، ومن السهل أن نكتشف أن هناك درجة عالية من التشابه في أسلوب كل منهما. قدم تشيرنيشفسكي أحد أعماله كالتالي: “ليس لديّ أي موهبة فنية في الكتابة، حتى أنني أحياناً أستخدم اللغة بضعف بالغ، لكن ذلك ليس بالأمر الهام. أكملوا القراءة أيها السادة الكرام، فسوف تجدون ما فيه الفائدة؛ فالحقيقة عظيمة تعوّض افتقار الكاتب الذي يعبر عنها”. كان ذلك أيضاً هو أسلوب لينين، فلقد احتقر أولئك المتأنقين والمتكلفين الذين يزخرفون عباراتهم ويصنعون بتلك الزخارف حاجزاً بين ما يكتبون وبين الحقيقة.
لم تكن، على سبيل المثال، مسودة البرنامج التي صاغها لينين في 1919 تتسم بأي درجة من الأناقة أو الإبداع. يقول لينين مبرراً ذلك:
“أي برنامج يتضمن أجزاءاً متباينة لن يكون له حظاً من الأناقة أو الإحكام (لكن هذا ليس مهماً بالطبع)، وأي برنامج آخر لن يكون صحيحاً. وبرغم تعاسة الأمر.. إلا أننا لن نستطيع الإفلات من هذا التباين في وقت قريب، هذه الضرورة التي تقتضي البناء بمواد مختلفة” (10).
لم يكن لينين يقبل الكتابات الوردية التي تأتي على حساب تناول الحقيقة بصدق. لقد عكف على شرح أمور معقدة للغاية بطرق بسيطة. ولم يكن يتحدث إلى الجمهور بتعالٍ، بل على العكس كان يبدي لهم احتراماً بالغاً.
“إن الكاتب الشعبي يقود قارئه نحو أفكار عميقة، نحو دراسة عميقة، انطلاقاً من حقائق بسيطة ومعروفة وبمعونة محاججات بسيطة أو أمثلة متميزة. يطرح الاستنتاجات الرئيسية التي ينبغي استخلاصها من تلك الحقائق ويثير في ذهن القارئ المفكر مسائل جديدة دوماً. إن الكاتب الشعبي لا يفترض سلفاً أن قارئه لا يفكر أو أنه لا يستطيع أو يرغب في التفكير، على العكس من ذلك إنه يفترض في القارئ نية جادة لاستخدام رأسه، وعليه أن يساعده في هذا العمل الجدي الصعب، ويقوده ويعينه في خطواته الأولى، ويعلمه المضي إلى الأمام بصورة مستقلة. أما الكاتب المبتذل فيفترض أن قارئه لا يفكر وعاجز عن التفكير. إنه لا يقود قارئه في الخطوات الأولى باتجاه المعرفة الجادة، بل يقدم له كل الاستنتاجات “الجاهزة” لنظرية معروفة ولكن بصيغة تبسيطية مشوهة ممزوجة بالنكات والهزل، بحيث أن القارئ لا يضطر للمضغ بل مجرد ابتلاع ما يُعطى له” (11).
كان لينين معلماً قديراً وملهماً بحق، لم يكن يخاطب الجماهير من برج عاجي، بل يصعد دوماً معهم وبهم إلى مستويات جديدة، كان يقود العمال ويقودوه. كان يكافح دائماً مع الجماهير من أجل تجاوز العقبات التي تقف أمام نضالهم. وفي نهاية كل خطبة، لم يستخدم قط أي فصاحة أو بلاغة معقدة، بل جملاً بسيطة ومباشرة: “إذا فهمنا ذلك، إذا ناضلنا به، سننتصر بالتأكيد” أو “ينبغي أن نناضل من أجل ذلك، ليس بالكلام إنما بالأفعال” أو حتى أكثر بساطة من ذلك: “كان هذا كل شيء أردت أن أقوله لكم”.
الكثيرون ممن قابلوا لينين لأول مرة شعروا لوهلة بخيبة أمل؛ إذ توقعوا رجلاً عملاقاً بطول تسعة أقدام، وبدلاً من ذلك وجدوه قصيراً لا يوحي بأي عظمة أو موهبة. لكن بعد استماعهم له، ترتفع معنوياتهم ويتولد لديهم انطباعاً مختلفاً على الفور.
إن أسلوب لينين البسيط والتلقائي، البعيد كل البعد عن الابتذال أو التصنع، والذي نضحت به مقالاته في البرافدا، كان يعطي القراء الثقة في قدرتهم على فهم القضايا والإلمام بأوضاع المجتمع من أجل تغييره. وفي نفس الوقت، لم تضف مقالاته أي ضبابية على الخط الفاصل بين البلشفية والمجموعات الأخرى، لا سيما المناشفة، بل على العكس، قدمت مقالاته توجيهاً سياسياً بلشفياً شديد الوضوح والتمايز عن كافة الاتجاهات الأخرى. وفي هذه النقطة على وجه الخصوص اختلفت البرافدا اللينينية عن البرافدا التي أصدرها تروتسكي من قبل؛ فقد كان تروتسكي “يسعى لخدمة القراء لا لقيادتهم” (12).
وكما علّق إسحق دويتشر، كانت لغة تروتسكي في البرافدا:
“بسيطة، ودعواتها لوحدة الحزب أمنت لها نوعاً من الشعبية، لكن لم تضمن لها نفوذاً سياسياً دائماً. فمن يدافعون عن تكتل أو مجموعة ينساقون عموماً لمحاجّة معقدة إلى هذا الحد أو ذاك، مخصصة للكوادر الوسطى والعليا في الحركة أكثر مما لمناضلي القاعدة. أما أولئك الذين يقولون أن على الحزب تخطي انقساماته الداخلية وإعادة رص صفوفه، فإنما يدافعون – كما كان الحال مع تروتسكي – عن قضية شرحها أسهل وتأثيرها أضمن، إلا أن نجاحهم هو في معظم الوقت سطحي. بينما لكون معارضيهم عرفوا كيف يكسبون كوادر الحزب بمحاجّاتهم الأكثر تعقيداً، لديهم حظ كبير بأن يتوصلوا لكسب جمهور المناضلين أيضاً، ذلك أن الكوادر يكيّفون المحاجّة ويبسطونها فيتمكنوا هكذا من نشرها في صفوف القاعدة. إن نداءات تروتسكي لوحدة كل الاشتراكيين صفق لها الكثيرون.. لكن هؤلاء بالذات الذين كانوا يصفقون لها اليوم، كان يمكن أن يتخلوا عنها فيما بعد ليتبعوا هذا الجناح أو ذاك، بحيث يبدو بطل الوحدة متوحداً. ومهما يكن، فقد كان في موقف تروتسكي، وفي اهتمامه بـ “اللغة البسيطة”، وفي تعهده بأن “يخدم لا أن يقود”، أكثر من شبهة ديماجوجية؛ ذلك أن قائداً سياسياً، لا بل قائداً ثورياً، يخدم من يصغون إليه أفضل حين يقودهم” (13).
لم تكن مقالات لينين موجهة لجمهور الحزب ومتعاطفيه فقط، بل أيضاً إلى كوادره:
“لا يمكن، تحت أي ظرف من الظروف، إهمال تعليم أبجديات وأساسيات المعرفة والتفكير المستقل. لكن إذا سعى المرء لاستدعاء الحاجة لتعلم الأساسيات كذريعة لرفض الأسئلة المطروحة على مستوى أعلى من ذلك، إذا حاول المرء إحلال الأبجديات والأساسيات محل هذه الأسئلة والنتائج المترتبة عليها (التي تخاطب دائرة أصغر كثيراً من دائرة تعلم الأبجديات).. فهو بذلك يرى الأمور بضيق أفق بالغ، وقد يحرف الغرض من “المدرسة الأكبر” بأكمله، وبتجاهل المستوى الأعلى في التعلم يجعل من السهل على الدجالين الرجعيين تضليل أولئك الذين لم يتعلموا إلا الأبجديات” (14).
من الناحية العملية، كان لينين يدير البرفدا، بحيث رسم بنفسه السياسة التحريرية التي سارت البرافدا وفقها. وبشكل يومي كان يرسل مقالات أو انتقادات لمقالات أخرى أو اقتراحات أو تصحيحات، إلخ. ومن أجل التواصل بشكل أسرع لتوجيه عمل البرافدا من مكانه في المنفى، انتقل لينين في يونيو 1912 من باريس إلى كاراكاو في النمسا (جاليسيا البولندية) والتي تبعد عن بطرسبورج فقط 24 ساعة بالقطار السريع.
وإلى جانب البرافدا، استخدم لينين إصدارات أخرى لتوجيه وإثراء كوادر الحزب، من ضمنها مجلة “التنوير”، وهي مجلة سياسية/ اجتماعية/ أدبية صدرت في بطرسبورج من ديسمبر 1911 حتى يونيو 1914، بتوزيع يُقدر بحوالي خمسة آلاف نسخة. كان لينين مساهماً رئيسياً في تلك المجلة، فيما حرر مكسيم جوركي القسم الأدبي فيها.
كان لدى الحزب البلشفي أيضاً مجلة نظرية أخرى موجهة للكوادر: “سوسيال ديمقراط”، وهي مجلة غير شرعية تناولت الكثير من القضايا بشكل أكثر انفتاحاً من الجرائد الشرعية للحزب. صدر من تلك المجلة 58 عدداً بين فبراير 1908 ويناير 1917، وكتب فيها لينين ما يتجاوز 80 مقالة. لكنها ظهرت بوتيرة غير منتظمة خلال عامي 12 و1913 حيث صدر منها 6 أعداد فقط. وفي الحقيقة وجد لينين صعوبة بالغة في نقل المجلة من الخارج إلى روسيا، وفي أحد رسائله عام 1913، كتب: “يكاد يكون من المستحيل إنشاء وسائل نقل مناسبة إلى روسيا، وقد أظهرت خبرة عاميّ 1910 و1911 أن الأدبيات تتراكم بالكثير من البودات (4*)، فلا توجد عناوين، ولا اجتماعات للتوزيع” (15) و(4*). لكن الأمر ليس غريباً، فحتى عام 1912 كان الشخص المسئول عن توزيع أدبيات الحزب من الخارج هو بريدينسكي عميل الأوخرانا.
إلا أن الأوخرانا قد أخطأت في تقديرها لخطورة الصحافة البلشفية الصادرة خارج روسيا. وفي أحد التقارير الأمنية عام 1914، جاء ما يلي:
“بالرغم من المجهودات والتكاليف المستنزفة في نقلها، إلا أنها لا تحظى بأية نتائج إيجابية مطلقاً. فتلك الأدبيات متخمة بالنظريات وتصل روسيا بعد تأخر طويل، إنها تفقد كل شغف موضوعي، وليست مثار اهتمام للمتعلمين وأشباه المتعلمين من الطبقات الدنيا، وليس لها أي تأثير في المزاج الاجتماعي العام” (16).
على العكس من ذلك، لعبت “سوسيال ديمقراط”، مثل مجلة “بروليتاري” من قبل، دوراً محورياً في توجيه الكوادر القيادية في الحزب البلشفي، بحيث وفرت القنوات الضرورية التي وصلت من خلالها أفكار لينين، وحفنة القادة المهاجرين حوله، إلى معاونيهم داخل روسيا.
كان لدى البلاشفة أيضاً دار نشر أصدرت العديد من الكتب والكراسات. إحدى أكثر هذه الإصدارات شعبية وانتشاراً كان كتيب جيب لتقويم العام 1914 وحمل إسم “دليل العمال”. تضمن الكتيب المعلومات الأساسية عن التشريعات العمالية في روسيا، وحركة الطبقة العاملة الروسية والعالمية، والأحزاب السياسية والاتحادات والنقابات والصحافة، إلخ. كانت الشرطة قد قررت مصادرة الكتيب، لكن النسخ قد بِيعت بالكامل قبل أن تصل يديها إليه. وحينما وصلت نسخة إلى لينين، كتب إلى إينيسا أرماند بأن 5 آلاف نسخة قد وُزعت بالفعل (17). وفي فبراير 1914، صدرت طبعة أخرى من الكتيب مع بعض الحذف والتعديل لتجنب الرقابة، وقد بِيع منها 20 ألف نسخة.
أصر لينين على ضرورة أن يخضع النشر السياسي بالكامل لمؤسسات الحزب:
“على نقيض الأخلاق البرجوازية، وعلى نقيض الصحافة البرجوازية التجارية المفعمة بروح الإثراء، على نقيض الوصولية والفردية الأدبية البرجوازية، على نقيض الركض وراء ابتزاز المكاسب، ينبغي للبروليتاريا الاشتراكية أن تتقدم بمبدأ الأدب الحزبي وأن تطور هذا المبدأ وتطبقه بأفضل وأكمل طريقة ممكنة.
فما هو مبدأ الأدب الحزبي هذا؟ إنه لا يمكن أن يكون، بالنسبة للبروليتاريا الاشتراكية، وسيلة لإثراء الأفراد والجماعات، بل لا يمكن أن يكون على العموم مشروعاً فردياً مستقلاً عن القضية المشتركة للبروليتاريا. فليسقط الأدباء اللاحزبيون، فليسقط الأدباء “السوبرمان”. ينبغي أن يصبح الأدب جزءاً من القضية المشتركة للبروليتاريا في آلية واحدة موحدة هي الآلية الاشتراكية الديمقراطية العظيمة التي تحركها كل الطليعة الواعية سياسياً للطبقة العاملة. ينبغي أن يكون الأدب جزءاً مكوناً من العمل الحزبي الاشتراكي الديمقراطي الموحد والمنهاجي والمنظم.
ينبغي أن تصبح مراكز النشر والتوزيع ومخازن الكتب وقاعات المطالعة والمكتبات وغيرها من المؤسسات، ينبغي أن يوضع كل هذا تحت رقابة الحزب، وينبغي أن تراقب البروليتاريا الاشتراكية المنظمة كل هذا العمل، وأن تشرف عليه كله من البداية إلى النهاية دون استثناء، وأن تصب فيه المجرى الحي للقضية البروليتارية” (18).
وبعد حوالي عام، أضاف لينين الملاحظات التالية فيما يخص موقف الاشتراكيين الديمقراطيين من الصحافة البرجوازية:
“هل يمكن السماح لأي اشتراكي ديمقراطي بالمساهمة في الصحف البرجوازية؟
كلا بالتأكيد.
هل يحق لنا أن نتخلى عن هذه القواعد في روسيا؟ قد يرد البعض: هناك استثناء لكل قاعدة. هذا صحيح تماماً. فمن الخطأ عقاب شخص بالطرد بسبب الكتابة لأي صحيفة، وإنه من الصعب أيضاً إدانة الاشتراكي الديمقراطي الذي يعمل في قسم صغير في إحدى الصحف البرجوازية من أجل أن يكسب لقمة العيش. ويمكن للمرء أن يمرر نشر تكذيب عاجل وعملي، إلخ” (19).
البرافدا.. الناظم
لم تلعب البرافدا دورها كناظم جماعي لأن آلاف العمال كانوا يقرأونها ويكتبون لها ويبيعونها فحسب، لكن أيضاً لأنها حفزت تشكيل مجموعات عمالية لجمع المال من أجلها. كانت كلاً من البرافدا (جريدة البلاشفة) ولوتش (جريدة المناشفة) تنشران تقارير يومية على صفحاتهما عن التبرعات التي تم جمعها من أجلهما. وفي عدد البرافدا الصادر في 12 يوليو 1912، كتب لينين:
“من زاوية مبادرة واندفاع العمال أنفسهم، فإن الحصول على 100 روبل جمعتها، مثلاً 30 مجموعة من العمال أكثر أهمية بما لا يُقاس من 1000 روبل بضعة عشرات من “المؤيدين”. إن جريدة تقوم على أساس قطع من فئة خمسة كوبيكات تجمعها حلقات صغيرة من عمال المصانع لهي مشروع أكثر جدية ورسوخاً واعتماداً (من الناحية المالية، ومن ثم، وهذا أكثر أهمية من كل شيء، من زاوية تطوير الحركة الديمقراطية العمالية) من صحيفة تعتمد على عشرات ومئات الروبلات التي يسهم بها مثقفون متعاطفون” (20).
وبعد يومين، أضاف أن:
“ینبغي أن نجعل الرتعب بكوبیك واحد إلى الصحیفة العمالیة كل یوم دفع تقلید اً ثابت ًا عند كل عامل. أما الاشتراكات في الصحف، فتؤخذ كالعادة. والذین یتبرعون بأكثر من ذلك فلیفعلوا مثلما كانوا یفعلون في السابق. ولكن إلى جانب ذلك، لابد من تثبیت ونشر تقلید “كوبیك واحد لصحیفة العمال”.
إن مغزى مثل هذه المساهمات یتوقف قبل كل شيء على انتظامها كل یوم دفع دون انقطاع وبأعداد متزایدة من العمال المشاركین في هذه المساهمات المنتظمة. ویمكن نشر التقاریر المالیة في صیغة بسیطة: إن “كذا وكذا دفع كذا كوبیك” ینبغي أن تتضمن أن كذا عدد اً من العمال في المصنع المعین قد دفعوا مساهماتهم لصحیفة العمال.و ا ذٕا كانت هناك مساهمات أكبر. فیمكن الإشارة إلیها كالآتي: “بالإضافة لذلك دفع كذا عدداً من العمال كذا قدراً من المال” (21).
في 1912، استقبلت “البرافدا” البلشفية أمولاً من 620 مجموعة عمالية، بينما استقبلت “لوتش” المنشفية أموالاً فقط من 89 مجموعة. وعلى مدار العام 1913، استقبلت البرافدا 2181 إسهام مالي من مجموعات عمالية كثيرة، بينما استقبلت لوتش 661 فقط. وحتى 13 مايو 1914 كان هناك 2873 مجموعة عمالية تدعم البرافدا مالياً، لكن على جانب المناشفة، كان هناك فقط 671. وهكذا استطاع محررو البرافدا تنظيم 77% من المجموعات العمالية في روسيا عام 1913 و81% عام 1914 (22). كان تشكيل مجموعات عمالية لجمع المال للبرافدا يعوّض عدم شرعية الحزب. وهكذا استنتج لينين بوضوح أن “أربعة أخماس العمال كانوا يقبلون قرارات محرري البرافدا بأنفسهم، وبهذا فهم يثبتون جدارة البرافدا ويلتفون حولها” (23).
كان إجمالي عدد المجموعات العمالية التي ساهمت بتبرعات من أجل البرافدا من أبريل 1912 وحتى 13 مايو 1914: 5674 (بالتأكيد كان هناك تفاوت بين تبرعات المجموعات العمالية المختلفة لكن ليس هناك معلومات مفصلة حول ذلك). كان متوسط حجم التبرعات القادمة من المجموعة العمالية الواحدة في الفترة بين 1 يناير إلى 13 مايو 1914: 6,59 روبل، أو ما يساوي متوسط أجر اسبوع عمل للعامل في سان بطرسبورج.
كانت البرافدا تعتمد بالأساس على الدعم المالي القادم من العمال ؛ فمثلاً كانت التبرعات المالية من1 يناير إلى 13 مايو 1914، 78% منها قادم من العمال و13% من غير العمال. بعكس جريدة المناشفة التي استقبلت 44% فقط من الدعم المالي من العمال و56% من غير العمال (24).
كتب لينين في ترودوفايا برافدا بتاريخ 14 يونيو 1914:
“إن 5,674 مجموعة من العمال المتحدين مع البرافديين في أقل من عامين ونصف لهو عدد كبير نسبياً، مع الوضع في الحسبان الأوضاع القاسية في روسيا. لكن ليس هذا سوى بداية. نحتاج، ليس آلافاً، بل عشرات الآلاف من مجموعات العمال. ينبغي أن نكثّف مجهودنا عشرة أضعاف” (25).
لكن للأسف، اندلعت الحرب بعد ذلك بأسابيع قليلة ولم تنجح البرافدا في إنجاز المستهدفات التي رسمها لينين.
الحزب البلشفي يصبح حزباً جماهيرياً
كان الاشتراكيون الديمقراطيون في روسيا من جيل بليخانوف يعدون على أصابع اليد، ثم أصبحوا بالعشرات فقط. أما الجيل الثاني، الذي ينتمي إليه لينين (يصغر لينين عن بليخانوف بـ 14 عام)، فقد مارس النشاط السياسي في بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر، وفي ذلك الوقت كانوا بالمئات. وأما الجيل الثالث، والذي تألف من اشتراكيين ديمقراطيين يصغرون عن لينين بحوالي 10 أعوام (أمثال تروتسكي، زينوفيف، كامينيف، ستالين، إلخ)، فقد انضموا للاشتراكية الديمقراطية في بداية القرن العشرين، وكانوا بالآلاف آنذاك.
في ديسمبر 1903، كان هناك 360 عضواً فقط في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في سان بطرسبورج (البلاشفة والمناشفة معاً). وفي شتاء 1904 انخفضت العضوية بشكل ملحوظ (1)، ومع بداية العام 1905 لم تتعد عضوية الحزب 300 عضواً فقط، لكن اندلاع ثورة 1905 قد أعطى حافزاً قوياً لنمو الحزب. ففي تقرير إلى المؤتمر الثالث للحزب في 1905، أشارت لجنة الحزب في بطرسبورج إلى أن العضوية البلشفية تبلغ 737 عضواً (2)، في حين ذكرت جريدة الإيسكرا المنشفية في أبريل 1905 أن الأعضاء المناشفة يبلغون ما بين 1200 إلى 1300 عضواً في بطرسبورج وحدها (3)، وهكذا وصلت عضوية الحزب الاشتراكي – بشقيه البلشفي والمنشفي – في منتصف عام 1905 إلى ألفي عضو.
وبحلول يناير 1907، وصل البلاشفة إلى 2105 عضواً، والمناشفة 2156، ليصل الإجمالي إلى 4261 عضواً (4). أما في موسكو، فقد قفزت عضوية الحزب الاشتراكي الديمقراطي من 300 عضو في نوفمبر 1904 إلى 8 آلاف في سبتمبر 1905، وبذلك تكون العضوية قد تضاعفت 25 ضعفاً في أقل من عام واحد (5).
حدث نمو مشابه في كل أرجاء روسيا؛ ففي التقارير المقدمة إلى المؤتمر الثاني له في 1903، لم يكن الحزب – باستثناء البوند – تتجاوز بضعة آلاف من الأعضاء (6). لكن بحلول المؤتمر الرابع للحزب في أبريل 1906، قُدرت عضوية البلاشفة وحدهم بـ 13 ألف عضو، فيما بلغ المناشفة 18 ألفاً (7). وفي 1907، وصل إجمالي عضوية الحزب الاشتراكي إلى 150 ألف عضو: 46143 عضواً بلشفياً، و38174 منشفياً، و25468 في البوند، و25654 في الحزب البولندي، بينما وصل الحزب اللاتفي إلى 13 ألف عضو.
صار الحزب بالأساس حزباً للطبقة العاملة، بالطبع مع وجود عدد قليل من المثقفين في صفوفه. وبحسب ما ذكر لينين في مايو 1914: “أصبح العمال الروس الشباب يشكلون تسعة أعشار الماركسيين المنظمين في روسيا” (9). أما عن المثقفين، فقد كتب لينين في 1912:
“إن تسعة أعشار أو 99% مما يُسمى مجتمع “المتعلمين” و”المثقفين”.. يسعون لأن يصبحوا مليونيرات. لكن أحياناً يبدأون كطلاب راديكاليين وينتهون بالعمل في “وظائف هيّنة” في أحد المكاتب أو ما إلى ذلك، بطريقة احتيال أو أخرى” (10).
وفي نهاية مارس 1913، كتب لينين إلى ل. ب. كامينيف: “كل الإنتلجنسيا إلى جانب التصفويين، وكتل العمال معنا، لكن العمال ينتجون إنتلجنسيتهم بصعوبة بالغة، ببطء وصعوبة” (11). وفي خطاب إلى ف. س. فويتنسكي في 20 ديسمبر 1913، كتب لينين: “إن الإنتلجنسيا ضلت طريقها (ومصيرها كالعاهرات) والعمال وجدوا طريقهم ضد التصفويين” (12).
أشار باداييف مراراً وتكراراً، في وصفه لعمل لجنة الحزب في سان بطرسبورج، إلى ندرة المثقفين المهرة في الحزب: “للمنشورات أهمية فائقة واللجنة تبذل قصارى جهدها لإتقان الطباعة والتوزيع. تتكون اللجنة بالكامل من عمال، نحن نكتب المنشورات بأنفسنا ولدينا صعوبة في إيجاد مثقفين يساعدوننا في تصحيحها” (13). كان س. ف. ماليشيف، يشدد دائماً، حتى تم القبض عليه، على أن هناك صعوبة بالغة في معرفة “كيف يتم تنظيم جريدة عمالية. لم يكن أبداً بمقدورنا الذهاب إلى المدارس. نحن جميعاً بلاشفة نصف متعلمون، لقد أوقفنا دراساتنا تماماً منذ أن تم اعتقالنا والزج بنا في السجون حيث نمكث هناك تقريباً على نحو دائم. وفي السجن، كنا نكتب تصريفات الأسماء والأفعال وأسماء الفاعل والمفعول به، وغيرها من قواعد اللغة. وفور إطلاق سراحنا، وجدنا أنفسنا على مكاتب التحرير بأوامر حزبية” (14).
إن التركيب الطبقي للحزب البلشفي كان متوافقاً تماماً مع برنامجه الطبقي. خارج الحزب، كانت الانشقاقات والتكتلات والمزيد من الانشقاقات تمثل النظام الطبيعي اليومي، فيما لم يعاني البلاشفة، ذوي الجذور العميقة بين الجماهير، أية انشقاقات أو حتى حالات طرد فردية خلال سنوات 14 – 1912. والفضل بالتأكيد يرجع للقوة الحاسمة للجماهير التي لحمت صفوف الحزب البلشفي معاً.
أما تلك المجموعات التي لم تكن ذات جذور جماهيرية، فقد كانت كثيرة التردد في الممارسة العملية، وكما أشار لينين فإن:
“بدلاً من خط واضح وصارم يجذب العمال ويقع تحت اختبار التجربة الحية، نجد هذه “الديبلوماسية” سائدة في هذه المجموعات. غياب الصلة المباشرة مع الجماهير، وغياب الجذور التاريخية للاشتراكية الديمقراطية في التيارات الجماهيرية الروسية.. كذلك غياب خط سياسي واضح ومتكامل ومتماسك ومحدد بدقة يخضع ويستند إلى خبرة سنوات عديدة، أي الافتقار إلى الإجابات عن تساؤلات التكتيك والتنظيم والبرنامج الحزبي.. كل هذه العوامل إنما توفر تربة خصبة تنتعش فيها “ديبلوماسية الحلقات الضيقة”.. وهذه هي أعراضها” (15).
“في السياسة بشكل عام، وفي حركة الطبقة العاملة على وجه الخصوص، فقط تلك التيارات التي تتمتع بتأثير جماهيري هي التي ينبغي التعامل معها بجدية” (16).
“السياسة بدون جماهير ليست سوى سياسة مغامرة” (17).
وفي حين أنعشت ثورة 1905 نمو الحزب البلشفي بشكل كبير، شهد الحزب حالة من التفكك خلال فترة الردة الرجعية. ليست هناك أية إحصاءات دقيقة للإشارة إلى حالة الحزب في تلك الفترة، لكن في 1910 لم يكن إجمالي عضوية الحزب البلشفي أكبر مما كان عليه قبل ثورة 1905. وعلى الرغم من ذلك لم تكن الفترة طويلة بين الثورة الأولى وصعود النضال الثوري مرة أخرى – 4 أو 5 أعوام فقط – حتى انضم إلى الحزب مجدداً الكثير من العمال الذين قد تركوه في فترة التراجع.
استطاع البلاشفة أن يجنوا ثمار جهودهم الوافرة في العمل “تحت الأرض”، ونجحت القلة المتبقية في الحزب في تجنيد الآلاف. وفي الحقيقة، يثبت التاريخ أنه من الأسهل الانتقال من ألف إلى عشرة آلاف عضو، من الانتقال من العشرات – كما كان الوضع في التسعينيات من القرن التاسع عشر – إلى ألف عضو. كان لدى لينين ومعاونيه القدرة على استغلال الفرص الشرعية الممكنة لشق الطرق إلى الجماهير، بدون التضحية ولو للحظة بعنادهم السياسي أو بمبادئهم الثورية غير القابلة للمساومة.
استقرار وعدم استقرار البلشفية
يشير تاريخ البلشفية إلى درجة كبيرة من عدم الاستقرار وعدم الاستمرارية، تلك السمات التي كان لا مفر منها نتيجة الظروف الغير شرعية التي عمل في ظلها الحزب البلشفي.
قدر أحد البلاشفة المخضرمين أنه، بسبب الاختراقات الأمنية، لا يتجاوز عُمر المجموعة الاشتراكية الديمقراطية الواحدة في بداية القرن الثلاثة أشهر (18). وأشار أحد التقارير من مدينة تفير (وهي مدينة صغيرة في الطريق بين موسكو وبطرسبورج وأحد معاقل الاشتراكية الديمقراطية الروسية) أنه كانت تجري تحولات سريعة للعضوية في الحلقات العمالية: “عدد كبير يأتي بانتظام، وآخرون يتركون الحلقة بعد حضور اجتماع أو اثنين” (19). وبشكل مشابه، كتب لينين في نوفمبر 1908 أن “متوسط العمر المتوقع للحلقات الثورية في الفترة الأولى من ثورتنا ربما لا يتجاوز أشهر معدودة” (20).
لم تكن الأجهزة العليا للحزب مستقرة هي الأخرى؛ فلقد كان أعضاء اللجنة المركزية للحزب وكل من هم على صلة مباشرة بها، في الحقيقة، أكثر تعرضاً لملاحقة الشرطة، وعدد قليل جداً منهم بقى حراً داخل روسيا بعد عودته من الخارج. كان البلاشفة من الدرجات العليا في الحزب، أمثال دوبروفينسكي وجولدنبرج وتومسكي وبيرسلاف وشوارتزمان وسريبرياكوف وزولوتسكي وستالين وسفيردلوف، كلهم تم القبض عليهم بعد ثلاثة أشهر فقط منذ عودتهم إلى روسيا. أما أوردجونيكيدزه وإينيسا أرماند وجلوكوشكين وكامينيف وبياتنسكي وسبانداريان، فقد تم القبض عليهم بعد عام منذ عودتهم. فيما استطاع كل من بيلوستوسكي وزيفين، بالإضافة إلى مالينوفسكي وإسكاراياستوف (اللذين كانا في الحقيقة عملاء للشرطة) الهرب من الاعتقال. تبقى فقط 15 ثورياً دون اعتقال لمدة عام أو أكثر: ريكوف وكوستروف وبيلوستوتسكي وزيفين وجلوكوشكين وسباندريان (1*) وليبوفا وشوارتزمان وروزميروفيتش، علاوة على النواب البلشفيين الستة في مجلس الدوما. وكما أشرنا من قبل، لم يكن ذلك الوضع مفاجئاً؛ فلم يكن هناك مؤتمراً للبلاشفة إلا وحضره على الأقل واحد من عملاء الشرطة (21).
أما لجان الحزب، فقد عانت هي الأخرى من ذلك الوضع غير المستقر، وقد اتخذ الأمر عدة سنوات لإنشاء مكتب روسي للجنة المركزية – تم إنجاز ذلك مؤخراً في 1912 (22). لم يتم تأسيس لجنة بطرسبورج إلا في نوفمبر 1912 (23)، أما لجنة موسكو فقد تأسست في صيف 1912، إلا أنها انهارت في ربيع 1913 (24). وفي ربيع 1914، كانت كروبسكايا تشكو من انهيار منظمة الحزب (25)، وفي يوليو 1914 كان هناك ثلاثة من أعضاء لجنة الحزب في سان بطرسبورج عملاء للشرطة (26). وفيما بين يناير ويوليو 1914، انحدرت عضوية لجنة الحزب بعد ما لا يقل عن خمس حملات اعتقال. وكما رأينا، لم تكن لجان الحزب متجانسة، وفي الكثير من الأحيان كانت في صراع مع لينين نفسه.
لقد حدثت أيضاً تغيرات كبرى في قيادة الحزب، ففي الفترة بين 1896 و1900 كان مارتوف وبوتريسوف حلفاءاً للينين. وفي الفترة من 1900 إلى 1903، أصبح بليخانوف وأكسيلورد وزاسوليتش في القيادة. أما خلال الانقسام بين البلاشفة والمناشفة في 4 – 1903، فقد بقى لينين وحيداً، في حين انضم له بوجدانوف ولوناتشارسكي وكراسين في القيادة في 1904، وهؤلاء الثلاثة قد انفصلوا عنه وتركوا الحزب في النهاية (كراسين في 1907 والآخرين في 1909). تشكلت القيادة فيما بعد من لينين وكامينيف وزينوفيف، وخلال التطورات الثورية في 1917 عارض زينوفيف وكامينيف انتفاضة أكتوبر المسلحة وانفصلوا عن لينين.
لماذا كان هناك هذا التغير السريع بين قيادات الحزب؟ إن عملية اختيار الأعضاء لقيادة الحزب لها مخاطرها الكامنة فيها. فالأعضاء الذين يصعدون لقمة الحزب يميلون بشكل طبيعي لتشكيل أساليب عملهم وتفكيرهم وسلوكهم لموائمة الاحتياجات الخاصة والراهنة للظروف القائمة. لقد أجرت الحركة الثورية الروسية العديد من التغييرات في مسارها كنتيجة واستجابة للتغيرات في الصراع الطبقي، وهكذا فإن القيادي الذي يكيف نفسه وفقاً للمتطلبات الفورية في مرحلة ما، ربما يجد نفسه خارجاً عن السياق في أحد المنعطفات اللاحقة. على سبيل المثال، استطاع بوجدانوف ولوناتشارسكي وكراسين أن يتوائما مع فترة نهوض العاصفة الثورية في 1905، لكنهم لم يكيفوا أنفسهم مع فترة التراجع التي أتت بعد ذلك. أما كامينيف وزينوفيف فقد تعلما أنه من الخطأ المبالغة في تقدير الإمكانيات الثورية الفورية وأن عليهما مباشرة العمل البطيء والمنهجي في التنظيم والتحريض خلال فترة التراجع والأنشطة المحدودة في الفترة التي تلتها، مثل النشاط من خلال مجلس الدوما وإطلاق حملات التأمين، إلخ. وهكذا حينما أتت الأحداث العاصفة للعام 1917، كانت مواقفهما تتسم بالكثير من الارتباك.
لم يكن لـ “رجال اللجان” أن يتخذوا القرارات السياسية الأساسية، حيث كان يتم اتخاذها بواسطة القيادة العليا للحزب. ومن هنا فإنه كلما كانت مكانة القيادي بالحزب أعلى، كلما كان أكثر قابلية لأقلمة نفسه على الظروف القائمة، وكلما كان أكثر قابلية وميلاً للمحافظة. سأعيد هنا ملاحظة هربرت سبينسر البيولوجية: “كل كائن تزداد ميوله للمحافظة بقدر كفائته”. والأمر ينطبق بشكل كامل على التنظيمات السياسية، وهكذا ينقلب ما هو مفيد وجيد إلى أن يصبح سيئاً ومضراً. لقد كان لينين فريداً بين قادة الحزب البلشفي في قدرته على التكيف مع الظروف المتغيرة فيما يستمر طيلة الوقت وبلا هوادة في التأكيد على الهدف نفسه: سلطة العمال.
في الحقيقة، وبرغم كل العوامل المحفزة لعدم الاستقرار في الحزب البلشفي، إلا أنه حيا بكل ذلك القدر من الحيوية بسبب جذوره العميقة في أوساط الطبقة العاملة، بسبب أنه كان حزباً عمالياً جماهيرياً عن حق. وفي كشف إحصائي لعضوية الحزب البلشفي غطى 22 إقليماً ومقاطعة في عام 1922، تم الكشف عن 1085 عضو قد انضموا للحزب قبل عام 1905 (27)، وفي تقدير آخر فإن العدد يصل إلى الضعف في بعض المناطق التي لم يتضمنها ذلك الإحصاء. ومع الوضع في الحسبان أن الكثير من الأعضاء قد فقدوا حياتهم خلال الثورة والحرب الأهلية، إلا أننا يمكننا بسهولة أن نلاحظ استمرارية طويلة للعضوية بين السنوات 1905 و1922. أولئك هم الكوادر الذين حافظوا على هذا القدر من الاستقرار الذي تمتع به الحزب البلشفي. والحقيقة أن حزباً يعمل في إطار غير شرعي، في بلد تبلغ البروليتاريا الصناعية فيها 2,5 مليون فقط، يستمر في الحياة لكثير من السنوات، لهو إنجاز عظيم.
سان بطرسبورج: الطليعة
لعبت مدينة سان بطرسبورج دوراً مركزياً في تطور الحزب البلشفي والبروليتاريا بشكل عام خلال سنوات 14 – 1912، وكان ذلك بمثابة دلالة منذرة باندلاع ثورة 1917.
لكن على الرغم من ذلك، لم تكن بطرسبورج بهذه الأهمية في 1905. خلال تلك الثورة، كان المناشفة أقوى من البلاشفة في بطرسبورج، فيما كان الوضع معكوساً في موسكو، وحتى خلال السنوات التي تلت الثورة لم يكن البلاشفة على ما يرام في بطرسبورج، بالأخص في مقاطعة فيبورج، التي تقع شمالي غرب المدينة والتي تعد مركزاً للصناعات الهندسية الأكثر حداثة. في 1907، وصف لينين مقاطعة فيبورج بأنها “معقل المناشفة” (28). وفي انتخابات لجنة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي في بطرسبورج في 25 مارس 1907، حصل المناشفة على 267 صوت في مقاطعة فيبورج، بينما حظى البلاشفة بـ 155 صوتاً فقط. أما في مقاطعة نيفا، حيث يقع مصنع بوتيلوف (2*)، فقد حصل المناشفة على 231 صوت، والبلاشفة على 202. وفي مقابل ذلك، حصل البلاشفة في أوكروجوف على 300 صوتاً بينما حصل المناشفة على 50 فقط (29).
وما زاد من الصعوبات التي واجهت البلاشفة في بطرسبورج خلال سنوات 5 – 1907 هو أن النفوذ البلشفي بين عمال الصناعة كان موضع تحدي ومنافسة من جانب الاشتراكيين الثوريين – ورثة النارودنيين. في انتخابات الدوما الثانية في 1907، فاز في الانتخابات 17 اشتراكي ديمقراطي (بالإضافة إلى مرشح متعاطف مع الاشتراكية الديمقراطية) في سان بطرسبورج، بينما فاز 14 مرشح من الاشتراكيين الثوريين. كان الاشتراكيون الثوريون يحظون بتأييد واسع في المصانع الكبيرة؛ فكان هناك تسعة من مرشحيهم جاءوا من مصنعين كبيرين (سيميانيكوفكي زافود وأولوخوفسكي زافود). وإذا نظرنا إلى المصانع الأربعة الأكبر، نجد للاشتراكيين الثوريين 11 مرشح مقابل 3 فقط للاشتراكيين الديمقراطيين. أما في المصانع الصغيرة، فنجد هناك 3 مرشحين اشتراكيين ثوريين مقابل 15 مرشح اشتراكي ديمقراطي. كان الاشتراكيون الديمقراطيون في الحقيقة يستمدون الكثير من الدعم والتأييد من العمال في المصانع متوسطة الكثافة (50 إلى 100 عامل).
والسبب وراء الانتعاش الأوسع نفوذ الاشتراكيين الثوريين في المصانع الكبيرة في ذلك الوقت هو عدم نضج الطبقة العاملة بشكل عام، وبشكل خاص عمال المصانع الكبيرة، والذين كان أغلبهم عمالاً غير مهرة قدموا لتوهم من القرى إلى المدينة للعمل في تلك المصانع العملاقة.
وخلال سنوات التراجع في الصراع، وقع أعضاء حزب الاشتراكيين الثوريين، أكثر من المناشفة، فريسة لأمراض الإنتلجنسيا – عدم الاستقرار والتشاؤم والانقسام والتصفوية – وكاد الحزب أن يكف عن الوجود في سان بطرسبورج، بينما واجه المناشفة مصيراً مشابهاً.
في تلك الأثناء صقل النضال وعي عمال سان بطرسبورج؛ فقد طوّرت سنوات الثورة والردة الرجعية وعي القطاع المتقدم من الطبقة العاملة الروسية ورأس حربتها في بطرسبورج. وبينما كان عدد العمال الصناعيين في بطرسبورج بالكاد يعادل نصف عددهم في موسكو، إلا أن عمال بطرسبورج قد تجاوزوا زملائهم في موسكو في عدد الإضرابات، حيث بلغ، على سبيل المثال، عدد المضربين في بطرسبورج عام 1905 مليوناً و33 ألف عامل، بينما وصل فقط في موسكو إلى 540 ألفاً (30). كل ذلك بالرغم من أن أجور عمال بطرسبورج كانت تبلغ ضعف ما يتقاضاه عمال موسكو.
كان البلاشفة ينشطون بدأب وبلا هوادة تحت الأرض خلال سنوات التراجع، وبشكل تدريجي استطاعوا أن يحظوا بالهيمنة داخل الطبقة العاملة، وبحلول العام 1912 فصاعداً أصبح البلاشفة هم من يقودون عمال بطرسبورج في كل نضال. وفي الجريدة البلشفية، ترودوفايا برافدا، كتب لينين في 2 يوليو 1914 أن:
“خلال السنوات القليلة الماضية، كانت سان بطرسبورج على رأس حركة الطبقة العاملة، بينما لم تنهض البروليتاريا في بعض المناطق في بعض المقاطعات (والتي أصبحت قليلة اليوم) من سُبات السنوات 1907 إلى 1911، وفي بعض المناطق الأخرى لا تزال البروليتاريا تخطو خطواتها الأولى في مسار بروليتاريا بطرسبورج؛ فبروليتاريا بطرسبورج تتفاعل مع كافة الأحداث المتعلقة بحركة الطبقة العاملة. إن بروليتاريا بطرسبورج تحتل مكانتها في صدر النضال” (31).
لقد كان لانتعاش النضال الطبقي انعكاساً قوياً في صعود البلشفية في بطرسبورج، ذلك الصعود الذي ساعد ذلك الانتعاش نفسه على الاستمرار.
لقد تركت ثورة 1905 أثراً عميقاً في قلوب وعقول الملايين من الروس، وانطبق ذلك تماماً على أعضاء الحزب البلشفي، حتى أولئك الذين قد تركوا الحزب في فترة التراجع الذين أخذوا الكثير من الوقت للنهوض مجدداً من سباتهم. احتفظ الآلاف من أعضاء الحزب السابقين، ليس فقط بذكرياتهم الثورية، لكن أيضاً بالكثير من أدبيات وكراسات وجرائد الحزب في الأيام المجيدة للثورة. وفي السنوات 14 – 1912، ومع موجة النضال الثوري الجديدة، التحق هؤلاء بالآلاف مجدداً بالحزب. وبينما تفوق المناشفة على البلاشفة في النفوذ بين العمال في سنوات 1905 و1906، أصبح للبلاشفة اليد العليا في 1907 بين العمال المنظمين، بالأخص في سان بطرسبورج.
وتشير الإحصاءات، التي ذكرناها في الفصل السابق حول عدد المجموعات العمالية التي كانت تجمع التبرعات لجريدة البرافدا البلشفية بالإضافة إلى عدد الخطابات والتقارير المرسلة لها في 14 – 1912، بوضوح إلى أن الحزب البلشفي قد صار خلال تلك الفترة حزباً ثورياً جماهيرياً (قياساً إلى حجم الطبقة العاملة الصناعية في تلك الفترة). في أغسطس 1913، قدر لينين عدد أعضاء الحزب البلشفي بين 30 إلى 50 ألف عضو (32)، إلا أن ذلك التقدير يشوبه بعض المبالغة.
“إن الحزب الثوري الحقيقي هو الذي يضم أغلبية العمال الماركسيين الواعين طبقياً الذين يلعبون دوراً نشيطاً في الحياة السياسية” (33).
“لأول مرة توضع قاعدة بروليتارية لحزب ماركسي حقيقي” (34).
“إن المصدر الأساسي لقوة الطبقة العاملة، ذلك المصدر المنيع، هو الوعي الطبقي لدى العمال والأفق الواسع لنضالهم” (35).
كانت الشرطة السرية هي الأخرى على دراية بقوة البلاشفة التي قام لينين بتقييم شامل لها:
“إن أكثر العناصر فاعلية، وحماساً، وقدرة على النضال بلا تعب، واستعداداً للمقاومة والتنظيم المستمر، خلال العشر سنوات السابقة، موجودة في المجموعات والأفراد المتحلّقين حول لينين. إن القلب والروح الدائمين على كل تعهدات الحزب، مهما بلغت أهميتها، هما لينين. أولئك اللينينيين هم دائماً الأفضل تنظيماً من الآخرين، هم الأقوى في صلابة أهدافهم، والمتجددين دوماً في الدعاية لأفكارهم بين العمال. وعندما نمت الحركة العمالية بشكل أقوى، كان لينين وأتباعه هم الأقرب للعمال من الآخرين، وهم الأُوّل في إطلاق الشعارات الثورية. إن الحلقات والأنوية والمنظمات البلشفية الآن مشتتة عبر المدن المختلفة، لكن الاتصالات والمراسلات فيما بينهم دائمة تقريباً عبر كافة المراكز الصناعية. أما اللجنة المركزية فهي تعمل غالباً بانتظام، وهي بالكامل في قبضة لينين” (36).
وبينما كان لينين يعبر عن ثقته وتفاؤله بالجذور الجماهيرية للبلشفية، كان مارتوف يشكو من الضعف التنظيمي للمناشفة. وهكذا بعد أن تلقى مارتوف خبر انتصار البلاشفة في انتخابات نقابة عمال المعادن في ديسمبر 1913، كتب القائد المنشفي إلى رفيقه بوتريسوف:
“أشعر بالغم من خبر نقابة عمال المعادن الذي أبرز ضعفنا بشكل لا نعتاد عليه. يبدو أن أوضاعنا في بطرسبورج سوف تتقلص أكثر خلال هذا الموسم. لكن ذلك ليس بالأمر المؤسف، الأسوأ من ذلك هو الجانب التنظيمي؛ فالمنشفية تظل حلقة صغيرة وضعيفة” (37).
كان أكثر من نصف النسخ المطبوعة من جريدة البرافدا يتم بيعها في سان بطرسبورج فقط. وفيما يخص جمع التبرعات، في الفترة بين 1 يناير إلى 13 مايو 1914، جمعت 2024 مجموعة عمالية (من أصل 2873) مبالغ تقدر بـ 13 ألف و943,24 روبل للبرافدا وحدها (من أصل إجمالي 18 ألف 934,10 روبل). لقد كان هناك في سان بطرسبورج وحدها نحو 70% من المجموعات العمالية في كل روسيا، وقد جمعت 74% من المال (38). كانت 86% من المجموعات العمالية في بطرسبورج تجمع التبرعات من أجل البرافدا البلشفية، بينما كانت 14% فقط من تلك المجموعات تجمع التبرعات لصالح جريدة المناشفة. وفي المحافظات الأخرى، كانت الجريدة المنشفية تتلقى التبرعات فقط من 32% من المجموعات العمالية (39).
كانت منظمة الحزب البلشفي قوية بشكل مذهل في سان بطرسبورج. في ديسمبر 1911، ذكر أحد الخطابات في جريدة رابوتشايا جازيتا (جريدة شعبية صدرت في باريس وحررها لينين)، أنه تم بالفعل إنشاء كافة الروابط وطرق الاتصال بين خلايا الحزب المختلفة كما تأسست لجنة الحزب في بطرسبورج، وأصبح لدى اللجنة اتصالاً بالمقاطعات المختلفة في المدينة: نارفسكي، فيبورسكي، بطرسبورجسكي، جورودسكوي، فاسيليوستروفسكي. ومن ضمن تلك المنظمات، كانت منظمة فاسيليوستروفسكي هي الأفضل، حيث كانت تتضمن لجاناً ولجاناً فرعية في البلدات (40).
وفي نهاية يناير 1913، عقد المكتب التنفيذي بلجنة بطرسبورج اجتماعاً أقر فيه خطة محددة بشأن هيكل المنظمة بالمدينة، بحيث تكون لجنة منظمة الحزب في بطرسبورج لجنة واسعة وديمقراطية يتم تشكيلها بالانتخاب كلما كان ذلك ممكناً، فيما لا يزيد عدد الأعضاء المعينين في اللجنة عن ثلثها، ومكتب تنفيذي مكون من ثلاثة أعضاء يتم اختيارهم حفاظاً على الأمان وضماناً لاستمرار النشاط، على أن تصدّق لجنة بطرسبورج على تعيين الأعضاء بنفسها. لقد اكتسبت لجنة الحزب في بطرسبورج المزيد من النفوذ وأصبح لها تأثير كبير بين العمال، إلى الحد الذي اعتبرت فيه منظمة الحزب في بطرسبورج، في وجهة نظر التنظيمات العمالية من مختلفة الأنواع، بمثابة المنظمة الرسمية والموثوقة الوحيدة لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في كل روسيا (41).
وبحلول العام 1913، أصبحت منظمة بطرسبورج مبنية بالفعل على قواعد أكثر رسوخاً وصلابة. في كل حي كانت هناك مجموعة تنتمي للمنظمة، وصار هناك المزيد من المندوبين من المزيد والمزيد من الأحياء. أصبحت أيضاً اجتماعات بطرسبورج تجري على نحو أكثر انتظاماً: كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، كما كان مكتبها التنفيذي نشيطاً للغاية. كان ذلك المكتب التنفيذي مكون من خمسة أعضاء: ثلاثة عمال واثنين من المثقفين، وكان يجتمع مرتين أسبوعياً لمناقشة التطورات المتلاحقة ولتحديد المهام العملية وكيفية الاستجابة والتفاعل مع تلك التطورات. حافظت اللجنة أيضاً على الاتصال الدوري مع اللجنة المركزية في الخارج لإخبارها بكافة أنشطة الحزب بالمدينة.
وفي سبتمبر 1913، حين عقد الحزب البلشفي مؤتمر بورنينو (وهي قرية بمدينة كاراكاو ببولندا – المترجم)، قدم باداييف تقريراً مفصلاً واضحاً ومذهلاً عن طبيعة عمل منظمة الحزب البلشفي في بطرسبورج على النحو التالي:
“كل الأنشطة الي تجري في مدينة بطرسبورج تتم تحت إدارة اللجنة التي بدأت في العمل منذ خريف العام الماضي. لدى اللجنة صلات حقيقية بكل المصانع والمعامل ويتم إخطارها بكل التطورات هناك. وهيكل منظمة الحزب بالمدينة هو كالتالي: في كل مصنع يؤسس أعضاء الحزب خلايا في مختلف الورش والعنابر، ومندوبي هذه الخلايا يشكلون سوياً لجنة المصنع (في المصانع الصغيرة يشكل الأعضاء أنفسهم لجان المصانع). وكل لجنة مصنع، أو خلية بإحدى الورش أو العنابر، تقوم بتكليف عضواً لجمع الاشتراكات الحزبية واشتراكات الكتب والجرائد، إلخ، في يوم تقاضي المرتبات من كل شهر، ويتم تكليف عضو آخر للتأكد من وصول الأموال إلى المسئولين. بهذا النظام نتجنب التجاوزات المحتملة في التعامل مع الأموال التي نجمعها.
كل لجنة تنتخب، بالاقتراع السري المباشر، أعضاء المكتب التنفيذي من ثلاثة أعضاء. ويجب هنا مراعاة ألا يعرف أعضاء اللجنة بشكل عام ممن يتشكل المكتب التنفيذي.
ترسل المكاتب التنفيذية المختلفة مندوبيها للجنة منظمة بطرسبورج، ومرة أخرى مع مراعاة ألا تكون أسماء المندوبين معروفة لكل أعضاء اللجنة. لجنة بطروسبورج هي الأخرى تنتخب مكتب تنفيذي من ثلاثة أعضاء، وأحياناً – لأسباب تتعلق بالسرية – فإنه من غير المفضل انتخاب ممثلين من اللجان المحلية أو المصنعية، بل أن يتم تعيينهم بواسطة لجنة بطرسبورج نفسها.
بفضل هذا النظام، من الصعب على الشرطة أن تتعرف على أعضاء لجنة بطرسبورج، والتي يكون بمقدورها الاستمرار في مهامها وإرشاد أنشطة المنظمة، وإعلان الإضرابات السياسية، إلخ” (42).
كان هيكل منظمة بطرسبورج، والحزب البلشفي في كل روسيا بشكل عام، متمحوراً حول مجموعة النواب البلاشفة في مجلس الدوما. وفي الحقيقة، كان مالينوفسكي على رأس هذه المجموعة، وكان عميلاً سرياً للشرطة، ولهذا السبب تم القبض على كل أعضاء مجموعة الدوما بعد فترة وجيزة من إعلان الأحكام العرفية في روسيا إثر اشتراكها في الحرب العالمية الأولى عام 1914، مما أدى إلى تبعثر الهيكل برمته. لكن القصة لم تنته عند هذا الحد.
كانت منظمة الحزب البلشفي خارج بطرسبورج بائسة حقاً، حتى خلال العام 1914. هكذا وصفت كروبسكايا تلك الحالة التي سيطرت على الحزب في خطابها إلى إيلينا ستاسوفا، بتاريخ 21 فبراير 1914:
“إن التنظيم الغير شرعي ممزق إرباً، وليس هناك أي مرتكزات محلية صلبة. إن المنظمات المحلية مقطوعة الصلة ببعضها، وفي أغلب الحالات في كل مكان تتضمن عمالاً فقط، أما الثوريين المحترفين فقد اختفوا منذ فترة طويلة، ولم يعد هناك أسماءاً حركية في أي مكان” (43).
وبالمفردات التنظيمية، كان البلاشفة في بطرسبورج متقدمين كثيراً عن رفاقهم في أي مدينة أخرى عبر روسيا. وعلى عكس بطرسبورج، لم يكن البلاشفة في الكثير من المناطق منفصلين تنظيمياً عن المناشفة، حتى بعد ثورة فبراير 1917.
“لم ينفصل البلاشفة في المراكز العمالية كايكاتير ينبورغ، وبرم، وطولا، ونيجني نوفوغورود، وسورموفو، وكولومنا، وايوزوفكا، عن المناشفة إلا في نهاية مايو، ولم يكن البلاشفة في منتصف يونيو (حزيران) يملكون تنظيمات مستقلة في أوديسا ونيقولاييف، وايليزا فتغراد، وبولتافا وفي أنحاء أخرى من أوكرانيا. ولم ينفصل البلاشفة نهائياً عن المناشفة في باكو، وزلاتوست، وبيجتبيسك، وكوستروما إلا في نهاية يونيو” (44).
في الحقيقة، ظلت هناك 351 منظمة حزبية مشتركة بين البلاشفة والمناشفة، وبعض تلك المنظمات استمرت دون انفصال بين الطرفين لفترة طويلة حتى سبتمبر 1917 (45). وكما سنرى، كانت المنظمات البلشفية كثيراً ما تتوجه باللوم الشديد للجنة المركزية البلشفية لاهتمامها فقط ببطرسبورج.
صعود المد الثوري قبيل اندلاع الحرب
لقد أشرنا من قبل أن عدد الإضرابات السياسية في النصف الأول من عام 1914 كان يضاهي العام 1905. شهد عيد العمال عام 1914 في روسيا مظاهرة عمالية حاشدة أضخم بكثير من الأعوام السابقة، كما أضرب عن العمل في بطرسبورج نحو 250 ألف عامل وفي موسكو حوالي 50 ألفاً، بالإضافة إلى الإضرابات التي شنها العمال في مدن المحافظات الأخرى.
عبر نائب الدوما، بوريسكيفيتش، ذلك الرجعي اللدود، عن انطباعه عن تلك الإضرابات الهائلة في 2 مايو قائلاً: “نحن اليوم أمام مشاهد فارقة، حيث نمر بفترة شديدة الشبه بالعام 1904، وإذا لم نكن عمياناً فينبغي أن نرى أنه بالرغم من الاختلافات إلا أن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين ما يحدث اليوم وما حدث في 1904. وعلينا أن نستخلص الاستنتاجات الضرورية” (46).
في 7 يوليو، دعا بلاشفة سان بطرسبورج إلى الإضراب والتظاهر احتجاجاً على إطلاق النار على المتظاهرين قبل ذلك بأيام قليلة.
“في صباح 7 يوليو، كانت المدينة تبدو تماماً كما بدت خلال العام 1905. وباستثناءات قليلة، أُغلقت المصانع والمعامل ودخل حوالي 130 ألف في الإضراب. انهمر العمال في الشوارع، فيما صارت دوريات الشرطة عاجزة تماماً عن مواجهتهم، واستطاعت أن تمنع المظاهرات فقط في حي نيفسكي. ومن أجل تجنب “الفضيحة” أثناء زيارة الرئيس الفرنسي، تركزت كتل ضخمة من قوات الشرطة هناك للحيلولة دون وصول العمال إلى وسط المدينة. لكن الحركة لم تقتصر فقط على المظاهرات، فالمرور كان مشلولاً، وأوقفت عربات الترام وأُجبر الركاب على الترجل. ولاحقاً في نفس اليوم، التحق عمال الترام أنفسهم بالمضربين.. تخلص العمال من رهبة الشرطة وكسروا حاجز الخوف منها وشنوا نضالاً مستعراً ضد عنف رجالها، ووقعت الكثير من الاشتباكات.
وبعد جلسة مداولة سريعة، في نفس الليلة، اتخذ محافظ المدينة ووزير الداخلية عدداً من التدابير الصارمة أملاً في ردع العمال. وفي صباح اليوم التالي، أصدر المحافظ بياناً يحذر فيه سكان المدينة من عواقب تلك الاضطرابات، في إعادة إنتاج الأمر الشهير لتريبوف في 1905: “لا تبخلوا بالخرطوش”.
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن هناك أي إشارة للتراخي أو التراجع، بل على العكس، أخذت الحركة في التوسع خلال الأيام التالية حتى 12 يوليو، حيث ازداد عدد العمال المضربين إلى 150 ألف، وفي 9 يوليو أقام العمال المتاريس في شوارع بطرسبورج، مستخدمين عربات الترام والبراميل والأعمدة، إلخ، وبالأخص في حي فيبورج. كان المرور في حالة شلل تام، فيما سيطر العمال في العديد من المناطق على الشوارع بشكل تام” (47).
للأسف، قطع إعلان روسيا للحرب في 1 أغسطس الطريق على الحراك العمالي المتصاعد في يوليو 1914. تراجعت الحركة بشكل كبير، لكنها تصاعدت مجدداً فيما بعد، حيث عمقت الحرب ووطدت وأسرعت الحركة الثورية.