توني كليف
أيلول /1998
- ترجمة: مركز الدراسات الاشتراكية في مصر
- إعادة نشر وتقديم: تيار اليسار الثوري في سوريا
تقديم تيار اليسار الثوري في سوريا
- كتب الرفيق توني كليف هذا المقال الثوري في 1998بمناسبة اندلاع الثورة في إندونيسيا, فكتبه الرفيق توني كليف محاولاً استخلاص دروساً نظرية عن الشروط المسبقة لانتصار الثورات , وعن الصراع ما بين الثورة والثورة المضادة ودور الحزب الثوري في الصيرورة الثورية.
- ولم تكن قد جاءت بعد انتفاضات الجماهير التي أطلق عليها “الربيع العربي 2011”, ونظراً للهزيمة الجماعية التي تعرضت لها تلك الموجة من الانتفاضة الثورية كان لا بد من تحليل نقدي لتشخيص أسباب الهزيمة المرة, والجواب على ,سؤال كتبته دماء الشعوب الثائرة, ما العامل المفقود في كل انتفاضاتنا وأوصلنا إلى نتيجة واحدة رغم اختلاف تظاهراتها؟
- ولأن الانتفاضات الثورية في صيروتها وقادمةٌ حتماً, فالجواب على ذلك السؤال وخلق العامل المفقود هو مهمة الثوريين التاريخية, بناء الحزب الثوري الجماهيري هو مهمتنا الثورية, ليكون ذلك الحزب الثوري مبضع الجماهير في تشريح التاريخ وإعادة صناعته.
- وفي إطار الصراع التاريخي الذي خاضته وتخوضه الجماهير السورية يكتسب المقال أهمية مضاعفة, فالثورة المضادة في سوريا تضخمت وتطورت مع استمرار وجود النظام, مما يجعل الحاجة لخوض صراع متعدد الجبهات في آن واحد أمراً لا مفر منه, ويجعل من مهمة الثوريين في سوريا والجماهير السورية مهمة تحتاج لدعم نظري من دروس نضالات الطبقة العاملة من مختلف الأوضاع النضالية, لأن الصراع المعقد الذي تخوضه الجماهير السورية ضد الاحتلالات والنظام والثورة المضادة في سوريا, يجري في حلبةٍ واحدة ولا يمكن خوضه دون التسلح بالنظرية الثورية وذاكرة الطبقة وقبضتها الضاربة, وذاك التسلح غير ممكن دون وجود: الحزب الثوري الجماهيري
تيار اليسار الثوري في سوريا
13/4/2024
أولاً: الشروط المسبقة من أجل انتصار الثورة
- نحن نعيش في عصر الحروب والثورات، هكذا ذكر لينين عدة مرات. وقد برهن التاريخ على صحة مقولته. فخلال القرن الحالي اندلعت أكثر من مائة حرب كبيرة وصغيرة. نذكر منها القليل كأمثلة عشوائية: مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، والعدوان الياباني على الصين، وحرب الثمانية أعوام بين إيران والعراق، وهجمات الولايات المتحدة الإمبريالية ضد العراق وفيتنام، والحروب الثلاثة بين العرب والاحتلال الإسرائيلي، وحربين بين الهند وباكستان وحرب فوكلاند. وانطلقت كذلك العديد من الثورات، ونذكر بعضاً منها فقط مثل الثورتين الروسيتين في 1905 و 1917، ألمانيا 18-1923، إسبانيا 1936، المجر 1919 و 1956، الصين 25-1927، الثورة البرتغالية في 1974، والإطاحة بشاه إيران في 1979.
- ولكن ما هي طبيعة الثورة العمالية؟ إن الثورة العمالية هي عندما يكسر جماهير العمال روتين كونهم ضحايا وموضوعات سلبية للاضطهاد والاستغلال ويدخلون مسرح التاريخ في محاولة لتحقيق حريتهم وصياغة مصائرهم. وليست الثورة عمل يوم واحد، فالعمال بمشاعر وأفكار جديدة يحملون معهم أعباء الماضي. وبكلمات ماركس: “إن تقاليد الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على نفس الأحياء.” إن التناقض الأساسي في الثورة هو التناقض ما بين الجديد والقديم، ولا يمكن التغلب على هذا التناقض إلا عبر عملية عنيفة وشديدة الصعوبة.
- لنأخذ بعض الأمثلة على ذلك، أولاً:
الثورة الروسية في 1917.
- ففي 18 فبراير 1917 أعلن عمال أكبر مصانع بتروجراد، مصنع بوتيلوف، الذي يعمل فيه 30 ألف عامل، أعلنوا إضرابهم عن العمل مطالبين بزيادة الأجور بنسبة 50%، واندلعت تمردات الخبز بسبب ندرة الطعام، واقتحم المتظاهرون المخابز ومخازن الطعام، وتكرر هذا المشهد عدة مرات في الأيام التالية.
- ففي التاسعة صباحا من يوم 23 فبراير أعلن عمال مصانع مدينة فايبورج إضرابهم اعتراضا على ندرة الخبز الأسود في المخابز ومحلات البقالة، وانتشر هذا الإضراب إلى بعض المصانع الواقعة في بتروجراد وفي مدن روجدستنيسكي ولييتني، وعلى مدار اليوم توقفت عن العمل 50 مؤسسة صناعية، وضم الإضراب 87534 عاملاً.
- لم تهدأ حركة العمال في اليوم التالي، هكذا جاء في أحد مذكرات البوليس السري – الأوخرانا – التي أعدت في مساء 24 فبراير: “استمر اليوم إضراب العمال الذي حدث بالأمس بسبب ندرة الخبز، وعلى مدار اليوم أغلقت 131 مؤسسة يعمل فيها 158183 عاملاً.”
- في اليوم التالي، يوم 25 فبراير، عبر تقرير الأوخرانا عن قلق أشد موضحا أن قوات الجيش بما فيهم القوزاق لا يبدون أي استعداد لقمع العمال، ولأول مرة في 26 فبراير يظهر في تقرير الأوخرانا وصفا مباشراً لتمرد الجنود.
- وكما ذكر سوخانوف، وهو أحد شهود العيان ومؤرخ بارع وأمين لأحداث الثورة، أن حوالي 25 ألف جندي غادروا ثكناتهم لينضموا إلى صفوف الجماهير، بينما لم تبد بقية الحامية وعددهم 160 ألف جندي، أي استعداد لقمع العمال. وحسب مصدر آخر ذكر أن حوالي 70 ألف جندي انضموا إلى صفوف المضربين الذين بلغ عددهم 385 ألف عامل في 27 فبراير.
- جاء يوم 28 فبراير حاملاً معه الانهيار النهائي للقوى القيصرية: فقد استسلمت آخر القوات “الموالية” للقيصر واستسلم حصن بيتر وباول دون إطلاق رصاصة واحدة، أما وزراء القيصر فقد قبض على بعضهم والبعض الآخر استسلم للسلطة الجديدة.
- كانت الثورة عفوية تماماً ولم يخطط لها، كما ذكر تروتسكي بدقة: “على أساس كافة المعلومات نستطيع أن نؤكد أن أحدا لم يعتقد حينذاك أن يوم 23 فبراير كان بداية انتفاضة حاسمة ضد الحكم المطلق.” ويلاحظ سخانوف: “لم يخطط أي من الأحزاب لهذه الانتفاضة الهائلة.” وبالمثل، يذكر أحد المديرين السابقين في الأوخرانا أن الثورة كانت “ظاهرة عفوية تماماً، ولم تكن على الإطلاق نتاجا للتحريض الحزبي.”
- وقد ظهرت قوة سياسية جديدة في بتروجراد، وهذه القوة هي السوفييتات. في واقع الأمر كان السوفيت إحياء لمؤسسة كانت قد ولدت خلال ثورة 1905، وكان يتشكل من مندوبين عن جميع العمال المضربين في المصانع، ولكنه تجاوز مجرد كونه لجنة موحدة للإضراب، ففي 1906 تحدث لينين عن تجربة السوفييت قائلاً: “إن سوفييتات مندوبي العمال هيئات للنضال الجماهيري المباشر. لقد نشأت كلجان لتنظيم الإضراب. وبقوة الأحداث أصبحت على الفور هيئات للنضال الثوري ضد الحكومة. فتتابع الأحداث والانتقال من الإضراب إلى الانتفاضة حول السوفييت فعليا إلى هيئات لتنظيم الانتفاضة.”
- خلقت ثورة فبراير 1917 وضعاً جديداً مليئاً بالإثارة. فقد تنازل القيصر عن العرش لينتهي الحكم الملكي بعد مئات السنين. وتفكك جهاز الشرطة، وتكونت اللجان العمالية في كل المصانع. وفي كثير من وحدات الجيش تشكلت لجان الجنود. وظهرت سوفييتات العمال والجنود في كل مكان. وخلال ثورة 1905 كتب تروتسكي، الذي كان وقتها رئيسا لسوفييت بتروجراد عن هذه المؤسسات: “إن السوفيت بالفعل حكومة عمالية في طورها الجنيني. فمنذ بدايته كان السوفيت منظمة البروليتاريا، وهدفه النضال من أجل السلطة الثورية، ومع السوفيت ظهرت لأول مرة سلطة ديمقراطية في تاريخ روسيا الحديث، فهو تجسيد للديمقراطية الحقيقية دون مجالس تشريعية طبقية، وبدون بيروقراطيين محترفين، إلى جانب حق الناخبين في استدعاء مندوبيهم في أي لحظة. ومن خلال أعضائه – وهم مندوبين منتخبين مباشرة من العمال – يمارس السوفييت القيادة المباشرة في كل التحركات الاجتماعية للبروليتاريا ككل وينظم تحركات المجموعات المنفردة منها ويمدها بالشعارات والرايات.”
- ولكن بعد ثورة فبراير 1917 استمرت المؤسسات القديمة جنباً إلى جنب مع السوفييتات. وتمسك الملاك والمديرون القدامى في المصانع بمواقعهم. وكان الجنرالات لا يزالون في قيادة الجيش: فقد كان القائد الأعلى للجيش هو الجنرال كورنيلوف الذي عينه القيصر. وبالتوازي مع سلطة السوفيت استمرت الحكومة البرجوازية التي يرأسها ساسة ليبراليون من عهد القيصر. فكان هذا الوضع الذي أطلق عليه تروتسكي “ازدواجية السلطة” وضعا مليئا بالتناقضات.
- فبرغم طبيعة السوفيت التي لخصها تروتسكي أعلاه، كان قادته يتوسلون إلى البرجوازية كي تحتفظ بالسلطة. وكانت غالبية النواب في السوفيت تتكون من اشتراكيين يمينيين، هم المناشفة والاشتراكيون الثوريون. وكان البلاشفة يمثلون 40% فقط من النواب الذين تراوح عددهم ما بين 1500 إلى 1600 نائبًا.
- لم يكن ذلك بمحض الصدفة، بل كان نتيجة حتمية لوضع يتجه فيه الملايين نحو اليسار ولكنهم ما زالوا يرزحون تحت العبء الأيديولوجي للماضي القيصري. فبالنسبة للجماهير التي كانت حتى وقت قريب تؤيد القيصر والحرب، لا يعني تحركهم نحو اليسار الانضمام المباشر لأشد الأحزاب ثورية، أي للبلاشفة. وقد أعلن تسيريتلي، أحد الزعماء المناشفة الراسخين، والذي أصبح وزيراً للداخلية في الحكومة البرجوازية المؤقتة، ضرورة مساومة البرجوازية والاتفاق معها قائلاً: “لا يوجد طريق آخر أمام الثورة. صحيح أننا نمتلك كل السلطة في أيدينا، وإذا رفعنا إصبعاً نستطيع أن نسقط الحكومة، ولكن ذلك يعني كارثة للثورة.”
- في كتيب بعنوان “مهام البروليتاريا في ثورتنا” كتب لينين ما يلي حول “ازدواجية السلطة”: “تتضح هذه الازدواجية في السلطة في وجود حكومتين، حكومة البرجوازية الفعلية وهي “الحكومة المؤقتة” بقيادة لفوف وشركاه، والتي تضع يدها على مؤسسات السلطة، والأخرى هي حكومة بديلة وموازية، حكومة مسيطرة في شكل سوفييت نواب العمال والجنود في بتروجراد، والتي لا تضع يدها على مؤسسات سلطة الدولة ولكنها تعتمد مباشرة على تأييد واضح من الغالبية الساحقة من الجماهير، وعلى العمال المسلحين والجنود.”
- هذا الوضع غير المستقر لا يمكن أن يستمر طويلاً: “إن ازدواجية السلطة تعبر فقط عن مرحلة انتقالية في تطور الثورة، أي عندما تتجاوز الثورة حدود الثورة البرجوازية الديمقراطية العادية، ولكنها لم تصل بعد إلى الديكتاتورية “الخالصة” للبروليتاريا والفلاحين.”
- لم يستطع البلاشفة كسب أغلبية العمال لصفوفهم إلا بعد أيام وشهور تتخللها الأحداث العاصفة. ففي التاسع من سبتمبر أيد سوفييت بتروجراد البلاشفة وانتخب تروتسكي رئيسا له. وفي نفس اليوم حصل البلاشفة على الأغلبية في سوفييت موسكو. وعند ذاك لم يتبق سوى خطوة واحدة من أجل تحقيق سلطة العمال في 7 نوفمبر 1917.
أحداث مايو 1968 في فرنسا
- أما أحداث مايو 1968 في فرنسا فهي تقدم رواية مختلفة تماماً ونتيجة مختلفة أيضاً. كانت فرنسا في مايو/ يونيو 1968 تعاني من أزمة اجتماعية وسياسية عميقة. ففي مساء 10 مايو 1968 اندلعت مواجهات دموية بين الطلاب الثائرين وقوات مكافحة الشغب في الحي اللاتيني في باريس. وانضم الآلاف من شباب العمال إلى جانب الطلاب.
- وفي اليوم التالي دعا السيه جيه تيه، وهو أكبر اتحاد للنقابات العمالية في فرنسا، إلى مظاهرة احتجاجية، انضم إليها حوالي مليون شخص. ثم دعت النقابات إلى إضراب عام لمدة يوم واحد في 13 مايو، تظاهر فيه عشرة ملايين عامل، أي أربعة أضعاف عدد العمال المنظمين في نقابات، وأصابوا البلاد بالشلل التام، كان قيادات السيه جيه تيه والحزب الشيوعي يأملون أن يكون الإضراب والمظاهرة صمام أمان، وتكون هذه هي نهاية الحركة. ولكنهم لم يضعوا في حسبانهم القواعد العمالية التي دخلت مسرح الأحداث برؤيتها الخاصة.
- ففي 14 مايو أعلن عمال مصنع الطيران في نانت إضراباً غير محدد المدة، احتل العمال المصنع واحتجزوا المدير في مكتبه. حاولت جريدة “الإنسانية” التي يصدرها الحزب الشيوعي تجاهل الحدث وكتبته في سطور قليلة فقط في صفحتها التاسعة. وفي اليوم التالي انتشرت حركة احتلال المصانع والإضرابات في جميع مصانع شركة رينو. وفي أثرهم أعلن عمال الصناعات الهندسية والسيارات ومصانع الطائرات الإضراب عن العمل وقاموا باحتلال المصانع. وفي 19 مايو توقف الترام إلى جانب خدمات البريد والتلغراف. وتلا ذلك توقف مترو الأنفاق والأتوبيسات، وانتشرت الإضرابات في المناجم والملاحة والطيران … الخ.
- وفي 20 مايو أصبح الإضراب إضراباً عاماً، يضم حوالي عشرة ملايين عامل. وانضمت إليه قطاعات لم تنظم إضراباً في حياتها مثل الراقصين ولاعبي الكرة والصحفيين والبائعات والتقنيين. ورفرفت الإعلام الحمراء فوق جميع مواقع العمل، ولم تظهر الأعلام ذات الألوان الثلاثة رغم بيان قادة الحزب الشيوعي والسيه جيه تيه بأن “رايتنا هي الأعلام ذات الألوان الثلاثة إلى جانب العلم الأحمر”.
- كل هذه الأحداث كانت جديدة، تمثل المستقبل، ولكن القديم، “تقاليد الأجيال الغابرة” ما زالت تتشبث بها. فصحيح أن مليون شخص تظاهروا في باريس في 15 مايو، وكان ذلك حدثا ًجديداً، لكن بيروقراطية النقابات، المذعورة من احتمال اختلاط الطلاب الثائرين بالعمال، أصرت على الفصل بين المجموعتين بتشكيل كوردون من 20 ألف حارس يحملون السلاح للفصل بينهما. وصحيح أن عشرة ملايين عامل اشتركوا في الإضراب، لكن لجان الإضراب لم تكن منتخبة وإنما عينتها البيروقراطية النقابية. وصحيح أن ملايين العمال احتلوا مصانعهم، ولكن منذ بداية حركة احتلال المصانع أصرت البيروقراطية النقابية على ضرورة أن تمكث أقلية من العمال داخل المصانع المحتلة بينما تغادر الأغلبية منهم إلى منازلهم. لو مكث جميع العمال في المصانع لكان الإضراب أكثر حيوية وقوة. لكن مع مغادرة غالبية العمال كانت النتيجة سلبية.
- وللأسف، لم يكن هناك منظمة ثورية كبيرة تستطيع التغلب على البيروقراطية، ففي روسيا كان الحزب البلشفي يضم 23600 عضواً في مارس 1917 وتزايد هذا الرقم بحلول أغسطس إلى 250 ألف عضو. كانت الطبقة العاملة الصناعية في فرنسا أكبر كثيراً من الطبقة العاملة في روسيا 1917. فلو كانت هناك منظمة ثورية تضم بضعة عشرات من الآلاف، كان من الممكن أن تدعو إلا ينفصل الفصيل العمالي في المظاهرة عن الطلاب. وكان من الممكن أن تدعو إلى انتخاب لجان الإضراب بشكل ديمقراطي، وكان من الممكن أن تقنع ملايين العمال الذين احتلوا المصانع بعدم مغادرتها، فتشكل قوة جماعية أقوى بمراحل مما يكون العمال مجرد تجمع من الأفراد، وللأسف، كان العدد الإجمالي للثوريين في فرنسا يعد بالمئات.
- ولهذا السبب، لم تحتاج الحكومة إلى وقت طويل حتى تدفع النقابات لقبول الاتفاق مع أصحاب العمل على زيادة الأجور. وانتهى احتلال المصانع، وتم إنهاء الإضراب، وتهيأ الوضع لعودة الجنرال ديجول، رئيس الجمهورية، فعندما احتلت المصانع كان ديجول في حالة بائسة دفعته إلى الهرب من البلاد ليلوذ بالقوات الفرنسية في ألمانيا الغربية. لكنه الآن عاد مرة أخرى ليحكم من جديد. وفي 30 مايو اندلعت مظاهرة يمينية تضم نصف مليون شخص في باريس. واستردت الشرطة مرة أخرى محطات الإذاعة والتلفزيون وطردوا العمال الذين كانوا يحتلونها، وهاجموا أي مظاهرة كانت مستمرة لدرجة أنهم قتلوا عاملين وأحد الطلاب، مرة أخرى في 1968 توقفت الإمكانيات الثورية، التي كان من الممكن أن تتطور، توقفت على حافة الانتصار. وكانت هذه حالة بعض الثورات الأخرى.
ألمانيا 1918-1923
- ففي نوفمبر 1918، تخلصت الثورة في ألمانيا من القيصر وعجلت بنهاية الحرب العالمية الأولى. ولكن مع الأسف، استمر كبار رجال الأعمال مثل كروبس وتايسن إلى جانب الجنرالات وضباط الجيش الرجعيين وأسسوا وحدات عسكرية يمينية تدعى فراي كوربس. وكما حدث في روسيا، هيمنت “ازدواجية السلطة” على الوضع في ألمانيا. حيث وجد البرلمان جنبا إلى جنب مع مجالس العمال. وتحت غطاء الحكومة الاشتراكية الديمقراطية، قتل ضباط الفراي كوربس القادة الثوريين مثل روزا لوكسمبرج وكارل ليبكنخت. واستمرت أحداث الثورة في الصعود والهبوط حتى عام 1923، ولكنها انتهت بانتصار الرأسمالية، فقد نشأت الحركة النازية في 1919، وفي عام 1923 نظمت انقلاباً فاشلاً في بافاريا، ولكنها ظلت في حالة انتظار على الهامش، كانت هذه فرصة ضائعة أخرى بالنسبة للعمال دفعوا ثمنها غاليا عندما وصل هتلر إلى السلطة.
فرنسا 1934
- شهدت فرنسا الثلاثينات صعودا هائلا في نضال الطبقة العاملة، والذي بدأ في فبراير 1934 وبلغ ذروته في 1936 بالانتصار الحاسم للجبهة الشعبية، وهي تحالف بين الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والليبراليين (كان الليبراليون يطلقون على أنفسهم خطأ اسم الاشتراكيين الراديكاليين، ولكنهم لم يكونوا اشتراكيين ولا راديكاليين). حدث ملايين العمال أنفسهم: “الآن نحن نملك الحكومة، لنستولي إذن على المصانع.” وفي يونيو 1936 بدأت موجة احتلال المصانع. غير أن قيادات الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي تراجعوا في أعقاب اتفاقهم مع رجال الأعمال. وبعد ذلك طرد الحزب الشيوعي من الجبهة الشعبية. وقام الاشتراكي الراديكالي داليديه بتوقيع اتفاقية ميونيخ مع هتلر في 1938، وكان البرلمان الذي انتخب في أوج انتصار الجبهة الشعبية في 1936 هو نفسه الذي صوت لتأييد مارشال بي تان، رئيس نظام فيتشي الذي تعاون مع النازيين في 1940 وما بعدها.
انتفاضات الشرق الأوسط
- كان الشرق الأوسط هو المنطقة الأخرى التي شهدت انتفاضات كبرى هزت المؤسسة الحاكمة ولكنها فشلت في تحقيق انطلاقة جوهرية. ففي العراق، أطاحت الحركة الجماهيرية بالملك فيصل في 1951، وكان الحزب الشيوعي في العراق حزبا شديد البأس، فقد كان أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم العربي، ولكنه تحالف مع الحزب الوطني البرجوازي – حزب البعث. فقد كان الحزب الشيوعي، في ظل سيطرة ستالين، يؤمن أن الثورة القادمة ستكون ثورة ديمقراطية، تتطلب تحالفاً بين الطبقة العاملة والأحزاب البرجوازية، ولكن هذا التحالف يعني في الواقع إخضاع الطبقة العاملة للأحزاب البرجوازية. وقد دفع العمال وأعضاء الحزب الشيوعي ثمنا باهظا لهذا التحالف. وقام حزب البعث بمعاونة المخابرات المركزية الأمريكية بتنفيذ مذبحة رهيبة ضد الشيوعيين.
إيران
- وفي إيران أدى الإضراب العام إلى الإطاحة بالشاه في عام 1979. وانتشرت مجالس العمال (الشورى) في كل أنحاء البلاد. ولكن الأمر المأساوي أن قيادات هذه المجالس، أي حزب توده الموالي لموسكو والفدائيين، رأوا أن تلك الثورة كانت ثورة برجوازية ديمقراطية وليست ثورة بروليتارية، وبالتالي وجهوا تأييدهم إلى الجمهورية الإسلامية. وهكذا وصل آية الله خوميني إلى السلطة ولكن دون شعور بالعرفان لحزب توده والفدائيين، بل تعرض اليسار ككل للقمع الدموي.
- إن الفرق بين النجاح والفشل بين روسيا في أكتوبر 1917 وكل تلك الأمثلة هو أنه في الحالة الأولى كان يوجد حزب ثوري جماهيري يوفر القيادة الفعلية. وبينما لا يستطيع الثوريين تحديد اللحظة التي تندلع فيها الأزمة الثورية فهم يستطيعون تحديد الحصيلة النهائية لها بقدر ما يبنون حزباً ثورياً قوياً.
ثانياً: الحزب الثوري والطبقة العاملة
- إن جوهر الماركسية هو أن تحرر الطبقة العاملة هو فعل الطبقة العاملة نفسها. فيذكر البيان الشيوعي: “إن الحركات التاريخية السابقة كانت حركات الأقلية، أو حركات في مصلحة الأقلية. أما حركة البروليتاريا في فهي حركة مستقلة وواعية بذاتها للغالبية العظمى في مصلحة الغالبية العظمى.”
- وفى نفس الوقت يؤكد البيان أيضاً: “إن الأفكار الحاكمة في كل عصر هي أفكار الطبقة الحاكمة.” هناك تناقض بين الفكرتين لكن هذا التناقض لا يوجد في رأس ماركس وإنجلز، بل هو موجود في الواقع. ولو أن أحد هاتين الفكرتين صحيحاً، لكان انتصار الطبقة العاملة إما حتمياً أو مستحيلاً، فلو لم يكن العمال مشبعين بأفكار الرأسمالية- كالأنانية وعدم الإكتراث بالعمال الآخرين والعنصرية والتميز ضد المرآة (التمييز الجنسي) ..الخ لكانت الاشتراكية أمراً محتوماً، وسوف تتحقق حتى لو لم يرفع الثوريين إصبع واحدًا، ولو كان العمال يقبلون بالكامل أفكار الطبقة الحاكمة، لكانت الاشتراكية مستحيلة ويظل الآمر كذلك إلى الأبد. إن التوازن بين هذين العاملين – أي التحرك المستقل للطبقة العاملة والخضوع لأفكار الطبقة الحاكمة- ليس توازنا ثابتاً أو استاتيكياً، بل يتغير باستمرار أحياناً تكون هذه التغيرات بطيئة وغير ملحوظة لفترة طويلة، لكنها بعد ذلك تتغير تماماً في وقت جد قصير.
- إن احتدام الصراع الطبقي التي يؤدى إلى تزايد الثقة وسط العمال يدمر قبضة الأفكار البرجوازية. وبالعكس، فان الهبوط في نضالية الطبقة العاملة بعد هزائم كبيرة ومستمرة، أو بطالة كبيرة على فترات طويلة (التي تدمر ثقة العمال بأنفسهم) يجعلهم اكثر استعداداً لتجرع الأفكار الرجعية.
- غير أن التوازن بين هذين العاملين لا يعتمد فقط على ما يحدث في مواقع العمل، أي على الجبهة الاقتصادية. كتب إنجلز أن الصراع الطبقي يدور في ثلاثة ميادين: الميدان الاقتصادي، والميدان السياسي، والميدان الأيديولوجي. وهذه الميادين الثلاثة بالطبع متداخلة، ويشكل فيها الميدان الاقتصادي الأساس، بينما الميدان السياسي والأيديولوجي يشكلان البناء الفوقي. لكن نضالية العمال يمكن أن تزداد، بل وتتفجر، ليس فقط بسبب نجاحهم في الصراع حول الأجور أو ضد التسريح من العمل، ولكن أيضا بسبب أحداث في المجال السياسي.
- لم تكن الثورة الروسية في فبراير 1917 نتاجا لزيادة في الإضرابات، وإنما كانت رد فعل مباشر على الحرب. فقد مات أربعة ملايين جندي روسي في هذه الحرب. وزحف الجوع في أرجاء البلاد. إن التمرد والمظاهرات في بتروجراد في أوائل فبراير أشعلت الثورة، لكن هذه الأحداث لها صلة بسيطة جدا بالصعود في مستوى الصراع الاقتصادي.
- إن التوازن بين العاملين – أي الأفكار الجديدة التي تنشأ عن النشاط المستقل للعمال وعبء الأفكار الحاكمة – لا يتغير فقط مع التغيرات في الأوضاع العامة، ولكنه أيضا يؤثر على العمال المختلفين بطريقة مختلفة. ويمكننا القول بأنه في أي موقف مطروح يقبل قطاع من العمال الأفكار البرجوازية بالكامل، وهؤلاء هم العمال المحافظون، وقطاع أخر يرفض تماماً الأفكار البرجوازية، وهؤلاء هم العمال الثوريون، وهاتان المجموعتان يمثلهما حزبان منفصلان، حزب محافظ وحزب ثوري. وبينهما توجد مجموعة أخرى من العمال يقوم عليها نوع ثالث من الأحزاب العمالية، وهو الحزب الإصلاحي، وأحد أمثلة هذه الأحزاب هو حزب العمال البريطاني. في كلمته أمام المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية عام 1920 وصف لينين حزب العمال أنه “حزب العمال الرأسمالي:”. وقد أطلق عليه “الرأسمالي” لأن آراءه السياسية لا تشكل قطعا مع الرأسمالية. ولكن لماذا أسماه حزبا عماليا؟ ليس ذلك بسبب أن العمال كانوا يمنحونه أصواتهم. ففي ذلك الوقت كان عدد أكبر من العمال كان عدد أكبر من العمال يمنحون أصواتهم لحزب المحافظين، وهذا الحزب كان حزباً رأسمالياً خالصاً. لقد سمى لينين حزب العمال حزباً عمالياً لأنه كان يعكس حرص العمال على الدفاع عن أنفسهم ضد الرأسمالية.
- طبعا هذا التصنيف شديد العمومية، فبين الأحزاب الثورية والأحزاب الإصلاحية يمكن أن يوجد كذلك نوع آخر من الأحزاب، وهو الحزب الوسطي. وصفاته الأساسية هي المراوغة والتردد. فهو حزب لا يساري ولا يميني. وأحيانا يتحول الحزب الوسطي من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين. ومن الممكن أن يغير نفس الحزب الوسطي اتجاهه في فترة زمنية قصيرة. إن الحزب الوسطى يشبه السحلية التي تغير لونها ولكنها لا تظل متماسكة أبداً.
- إن أحد المخاطر الكبيرة التي تواجه الحزب الثوري هو أن يؤقلم نفسه على الوسطيين بينما يتذيل الحزب الوسطي بدوره الإصلاحيين الذين يتذيلون الحزب الرأسمالي. أحد الأمثلة على ذلك أنه أثناء الإضراب العام في بريطانيا 1926 لجأت قيادة الحزب الشيوعي إلى اللين وعدلت من سياساتها الأساسية، آملة بهذه الطريقة في جذب القيادات النقابية الوسطية. ونتيجة لذلك، تذيلت الزعماء اليساريين في المجلس العمومي لمؤتمر النقابات من أمثال كوك وجورج هيكس وألفريد بورسيل. ومن ناحيتهم تذيل هؤلاء القيادة اليمينية لمؤتمر النقابات مثل جيمي توماس وآرثر بوج وبن تيرنر. وهؤلاء كانوا يتبعون قيادة رامسي ماكدونالد، زعيم حزب العمال، وانتهى بهم المطاف فعليا إلى تأييد سياسات رئيس الوزراء المحافظ في ذلك الوقت ستانلي بالدوين. إن تأقلم الحزب الشيوعي مع الوسطيين أدى في النهاية إلى هزيمة بشعة للطبقة العاملة. إن الحزب الثوري الذي يواجه قيادات وسطية مترددة يجب أن يظهر الوضوح والحدة والتماسك، فيجب أن يكون المرء حادا حتى يثبت المتذبذبين.
- إن الطبقة العاملة هي صانعة التاريخ. لذا لابد أن يتجنب الحزب الثوري خطرين:
- الأول هو خطر الاستبدالية، اعتقاداً بأن الحزب يستطيع أن يعمل بدلا من الطبقة، والثاني هو الانتهازية، بأن يؤقلم نفسه حسب الأفكار السائدة في وسط الطبقة. ومثال ذلك، من الممكن أن يقف أحد الثوريين على خط الإضراب، ويجد إلى جانبه عاملاً يردد تعليقات عنصرية، هنا من الممكن أن يتخذ الثوري واحدا من ثلاثة مواقف:
- أولاً، أن يقول: “لن أقف في الصفوف إلى جانب شخص عنصري، أنا عائد إلى منزلي”، وهذا هو الموقف الحلقي، لأنه إذا كان تحرر الطبقة العاملة هو عمل الطبقة العاملة نفسها، يجب على الثوري أن يقف إلى جانب العمال ضد أصحاب العمل، مهما كان العامل الفرد متخلفاً.
- والاحتمال الثاني هو تجنب مواجهة العنصرية. وعندما يردد العامل عبارات عنصرية، من الممكن أن يتظاهر الثوري أنه لم يسمعها ويقول “إن الطقس لطيف اليوم … أليس كذلك؟” وهذا هو الموقف الانتهازي.
- الاحتمال الثالث هو مناقشة هذا العامل ضد العنصرية. وإذا استطعت إقناعه، فهذا رائع، وإن لم تستطع تستمر، وعندما يأتي كاسرو الإضراب تشبك الأيدي. فلأن تحرر الطبقة العاملة هو عمل الطبقة العاملة نفسها لا يستطيع الثوري أن يتحمل الاستبدالية ولا تذيل الطبقة العاملة.
- إن الثورة الناجحة تعتمد أيضاً على أن يقوم الحزب الثوري بدور مدرسة الطبقة العاملة. فوضع الطبقة العاملة بالمقارنة مع البرجوازية مختلف تماماً عن موقف البرجوازيين الأوائل في تمردهم ضد الإقطاعيين. فالرأسماليون حتى عندما كانت طبقتهم طبقة ناشئة كانوا يتمتعون باستقلال ثقافي عن النبلاء. صحيح أن الرأسماليين اضطروا إلى الإطاحة بالنبلاء، كما أن على الطبقة العاملة اليوم أن تطيع بالرأسماليين، غير أنها لا تتمتع بالميزات التي تمتعت بها البرجوازية عندما حاولت القيام بثورتها. فلم يكن النبلاء، أعداء البرجوازية، يمتلكون كل ثروة المجتمع مثلما يمتلك الرأسماليون اليوم كل الثروة. وفي واقع الأمر، لم يكن النبلاء أغنى من الرأسماليين، وكان بمقدور الرأسمالي أن يدير ظهره للنبلاء قائلا: “حسنا أنت تمتلك الأرض، لكنني أمتلك النقود والبنوك، وعندما تتعرض للإفلاس، كيف تحاول إنقاذ نفسك؟ إنك تحاول أن تخلط دماءك الزرقاء بذهبي، فتسعى أن تتزوج من ابنتي.” وفيما يتعلق بالمعركة الثقافية كان بمقدور الرأسمالي أن يدير ظهره قائلاً: “حسنا، أنتم لديكم الكنيسة، ونحن لدينا الجامعات، أنتم لديكم الكهنة، ونحن لدينا الأساتذة، أنتم لديكم الكتاب المقدس، ونحن لدينا الموسوعات. هيا أغرب عن وجهي.”
- لقد أثر الرأسماليون على النبلاء أكثر مما أثر النبلاء على الرأسماليين بكثير. فقد بدأت الثورة الفرنسية بلقاء السلطات العامة (الطبقات الثلاث – وهم النبلاء والكهنة والطبقة الوسطى)، وعند التصويت كثير من النبلاء والكهنة صوتوا لصالح الرأسماليين، وليس العكس. فهل موقف العمال اليوم بالمقارنة مع الرأسماليين شبيها بذلك؟ بالطبع لا. لا يستطيع العمال أن يديروا ظهورهم للرأسماليين قائلين: “حسنا أنتم تملكون فورد وجنرال موتورز وآي سي آي … الخ، ونحن نملك …!!” وبالنسبة للأفكار نادرا ما نجد رأسماليين متأثرين بالصحافة الاشتراكية، بينما نجد ملايين العمال يتأثرون بالدعاية الرأسمالية.
- وعندما نقول أن الحزب الثوري هو مدرسة الطبقة العاملة فهذا يعني ضرورة أن نتعلم من التجارب التاريخية والعالمية للطبقة العاملة، من هزائمها ومن انتصاراتها، فلابد أن يكون الحزب الثوري ذاكرة الطبقة العاملة.
- وبالتالي، في فهمنا للوضع في إندونيسيا اليوم لابد أن نضع في أذهاننا تجربة أول حكومة عمالية في العالم، وهي كوميونة باريس في 1871، حين استولى العمال على السلطة لمدة 74 يوماً. ويجب أن نتعلم كذلك من انتصار ثورة أكتوبر، وفي نفس الوقت يجب أن نتعلم من هزيمة الثورة الألمانية في 1918-1923، ومن هزيمة الإضراب العام في بريطانيا في 1926، ومن قتل ستالين لكل زعماء الحزب البلشفي بعد موت لينين، وتصفيته لمجالس العمال، وتحويله للنظام البروليتاري الذي دافع عن بداية الاشتراكية إلى نظام رأسمالية دولة. ولابد أن نتعلم من كارثة عام 1933 في ألمانيا، حين خضعت أقوى الحركات العمالية وأفضلها تنظيما في العالم للنازيين دون قتال، لأنها كانت تحت قيادة حزبين أحدهما حزب إصلاحي يميني، والآخر حزب ستاليني. ويجب أن نتعلم لماذا تطور المجتمع الصيني على هذا النحو حيث يوجد في القمة عدد كبير من المليونيرات، بينما في قاع المجتمع مئات الملايين الذين يعيشون في بؤس شديد.
- ولبث الثقة في النضال العمالي لابد أن يتمتع الحزب الثوري بالوضوح النظري، وبالعكس، فإن التشكك النظري لا يتناسب مع الفعل الثوري، فكما قال لينين: “إن أهم شيء هو الثقة في أن الطريق الذي اخترته هو الطريق الصحيح، فهذه الثقة تضاعف الطاقة الثورية والحماس الثوري مئات المرات، ويمكنها أن تحقق المعجزات.” ودون فهم قوانين التطور التاريخي، ليس بمقدورك أن تحافظ على النضال الدءوب.
- فخلال سنوات الكد والإحباط والعزلة والمعاناة، لا يستطيع الثوريون البقاء دون الإيمان بأن أفعالهم تتفق مع شروط التقدم التاريخي. وحتى لا يضيعون في منحنيات ومنعطفات الطريق الطويل، لابد أن يتماسكوا أيديولوجيا، فالتذبذب النظري والصلابة الثورية لا يتفقان. تمثلت قوة لينين في انه دائما كان يربط النظرية بعمليات التطور الإنساني. وكان يحكم على أهمية أي فكرة نظرية في علاقتها بالحاجات العملية. وبالمثل كان يمتحن كل خطوة عملية بما يناسبها في النظرية الماركسية. لقد وحد بين النظرية والممارسة لدرجة الكمال.
- كان لينين يؤمن بالارتجال، ولكن حتى لا ينحدر ذلك إلى مجرد انطباعات يومية متغيرة، يجب أن يمتزج بتصور عام قائم على استيعاب النظرية. فالممارسة بدون النظرية تؤدي حتماً إلى التذبذب والأخطاء. ومن ناحية أخرى، فإن دراسة الماركسية دون ارتباط بالنضال يؤدي إلى فصلها عن نبعها الأساسي – وهو الحركة – وخلق ديدان كتب عديمة الفائدة. إن الممارسة تتضح بالنظرية الثورية، والنظرية تتأكد بالممارسة، إن التراث الماركسي يتغلغل في عقول ودماء الرجاء والنساء فقط عن طريق النضال.
ثالثاً: بناء الحزب الثوري
- كان أكثر الماركسيين فهما لدور الحزب الثوري ونشاطه هو لينين. فخبرته في بناء الحزب البلشفي منذ 1903 وما بعدها غنية بالدروس. إن جنين الحزب الثوري هو حلقة النقاش. وهذه مرحلة ضرورية في “التراكم البدائي للكوادر”، ولكنها مجرد مرحلة. فعقلية الحلقات لها جوانب ضعف شديدة الخطورة. لأنها تتميز بطابع الهواة ويمكن أن تصبح عقبة في تطور الحزب الثوري.
- في 1902، وفي كتيب عبقري بعنوان “ما العمل؟” جادل لينين بأن على الثوريين بناء حزب مركزي، منظمة لكل روسيا. ولتحقيق ذلك عليهم أولا النضال ضد ما أسماه بالطريقة الحرفية البدائية في التنظيم. وعليهم تشكيل منظمة قوية تتكون من ثوريين محترفين، وكانت هناك حاجة ضرورية لذلك، خاصة في ظل الظروف القاسية وعدم الشرعية أثناء الحكم القيصري. ولكن لمنع المنظمة من أن تصبح حلقة عليها أن تكون روابط قوية مع العمال ونضالاتهم. والعنصر الرئيسي في ذلك هو جريدة الحزب. فالجريدة يجب أن تكون سلاحا في بناء منظمة مركزية لكل روسيا. وفي مقال بعنوان “بم نبدأ؟” كتب لينين أن “دور الجريدة” يجب ألا يكون:“… مقصوراً على نشر الأفكار فقط، وعلى التعليم السياسي وعلى ضم أنصار جدد، فالجريدة ليست مجرد داعية جماعي أو محرض جماعي، ولكنها كذلك الناظم الجماعي. وفي هذا المعنى الأخير يمكن تشبيه الجريدة بالسقالة المنصوبة حول مبنى تحت الإنشاء. والتي توضح محيط البناء وتيسر الاتصال بين البناة، بما يمكنهم من توزيع العمل ورؤية النتائج المشتركة التي يحققها عملهم المنظم. وبمساعدة الجريدة، ومن خلالها، تتشكل منظمة دائمة، والتي لن تشتبك فقط في أنشطة محلية، وإنما أيضاً في عمل دوري أشمل، وتدرب أعضاءها على متابعة الأحداث السياسية بعناية، وتقدير أهميتها وأثرها على الشرائح المختلفة من السكان، وتخلق وسيلة فعالة للحزب الثوري للتأثير في هذه الأحداث. إن المهام التقنية وحدها، من توفير مادة الجريدة بانتظام وتطوير التوزيع المنتظم يشترط وجود شبكة من المراسلين المحليين للحزب الموحد، والذين يحرصون على الاتصال المستمر فيما بينهم، ويدرسون الأوضاع عموما، ويعتادون على إنجاز المهام التفصيلية بانتظام، ويختبرون قدراتهم على تنظيم الأنشطة الثورية المتنوعة.
- إن شبكة المراسلين هذه تمثل بالضبط هيكل المنظمة التي نحتاجها – منظمة واسعة ومتعددة الجوانب بما يكفي لتقسيم عمل تفصيلي وصارم، وفي حالة معنوية جيدة بما يكفي لتمكنها من القيام بمهامها تحت أي ظروف وبشكل منتظم، في كل “المنعطفات المفاجئة”، وفي مواجهة أي ظروف طارئة، ومرنة بما يكفي لكي تكون قادرة على تجنب معركة مفتوحة ضد عدو أقوى حين يركز كل قواته على بقعة واحدة من ناحية، ومرنة بما يكفي للاستفادة من عجزه والهجوم عليه من حيث لا يتوقع أن يأتيه الهجوم.”
- إن جريدة الحزب هي الناظم لهذا الحزب.
- ولكن مع اندلاع ثورة 1905 غير لينين موقفه. فالحزب لا يجب أن يتكون من محترفين ثوريين وإنما يجب أن يعتمد على التجنيد الواسع، وفي ربيع 1905، في المؤتمر الروسي للحزب، اقترح لينين قراراً بفتح أبواب الحزب للعمال، الذين يجب تعبئتهم ليلعبوا دورًا قيادياً فيه. ويجب على الحزب:“… أن يبذل قصارى جهده لتدعيم الروابط بين الحزب وجماهير الطبقة العاملة عن طريق رفع قطاعات أوسع باستمرار من البروليتاريا وأشباه البروليتاريا إلى مستوى الوعي (الاشتراكي الثوري) الكامل، وعبر تطوير نشاطهم الثوري، والاطمئنان على أن أكبر عدد من العمال الذين لديهم القدرة على قيادة الحركة ومنظمات الحزب يتقدمون من بين جماهير الطبقة العاملة إلى عضوية المنظمات المحلية وكل منظمات الحزب عبر خلق أكبر عدد ممكن من منظمات الطبقة العاملة التي تنتمي لحزبنا، وبالتأكد من أن منظمات الطبقة العاملة التي لا ترغب أو لا تستطيع الانضمام لحزبنا يجب أن تكون مرتبطة به على الأقل.”
- وفي مقال بعنوان “إعادة تنظيم الحزب”، كتبه لينين في نوفمبر 1905، ويقول فيه بوضوح: “إن الطبقة العاملة طبقة اشتراكية ثورية بالغريزة.” ونتيجة لهذا التحول تضاعفت عضوية الحزب. فبينما كانت العضوية تعد بالمئات في 1903، وصل عدد أعضاء الحزب البلشفي في أكتوبر 1906 إلى 33 ألف عضو. وبدون وعي لينين بأن تطور الحزب يحتاج إلى تكتيكات وأشكال مختلفة للتنظيم أعدت حسب حجم المنظمة والتكوين الطبقي لعضويتها والمهام المرجوة منها حسب توازن القوى في المجتمع عموما، لما كان هذا النمو ممكناً.
رابعاً: الحزب الثوري والنقابات
- ينخرط الثوريون في كافة جوانب النضال العمالي. لذا فهم ينغمسون بعمق في نضال النقابات. وينظر الإصلاحيون إلى حركة الطبقة العاملة كحركة تنقسم إلى مجالات مختلفة ومنفصلة عن بعضها البعض: هي النضال الاقتصادي، وهذه مهمة النقابات، والسياسة، بمعنى المشاركة في الانتخابات البرلمانية والحكم المحلي، وهذه مهمة الأحزاب الإصلاحية. وفي مواجهة ذلك ينظر الماركسي إلى الطبقة العاملة ككل واحد، أي طبقة تستخدم سلاحين في النضال، هما السلاح الاقتصادي والسلاح السياسي.
- وعموماً، فإن هذا الفصل الحاد بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي غريب بالنسبة لماركس. فالمطلب الاقتصادي إذا كان جزئيا، يعرفه ماركس كمطلب “اقتصادي”. لكن لو امتد نفس المطلب على مستوى الدولة يصبح “سياسياً”.
- “إن محاولة العمال في مصنع معين أو حتى في صناعة معينة أن يفرضوا يوم عمل أقصر على رأسماليين أفراد عبر الإضرابات، الخ، تعد حركة اقتصادية خالصة. ومن ناحية أخرى، فإن تحرك العمال لكي يفرضوا على مستوى المجتمع مثلا قانون ثماني ساعات عمل تعد حركة سياسية، بمعنى أخر، هي حركة الطبقة بهدف فرض مصالحها بصورة شاملة، بشكل له طابع القوة الجبرية الاجتماعية الشاملة … إن كل حركة تخرج فيها الطبقة العاملة كطبقة ضد الطبقات الحاكمة وتحاول إجبارها على شيء بالضغط عليها من الخارج هي حركة سياسية.”
- في كثير من الحالات لا تؤدي النضالات الاقتصادية (الجزئية) إلى نضالات سياسية (على مستوى الطبقة ككل)، ولكن لا يوجد انفصال مطلق بين الاثنين، وكثير من النضالات الاقتصادية تتسع فعلاً إلى نضالات سياسية. إن تجربة روسيا في 1905، حيث كانت الإضرابات الجماهيرية بمثابة محرك الثورة، قدمت بعدا جديدا لفهم الارتباط الوثيق بين النضالات السياسية والاقتصادية. وقد أوضحت روزا لوكسمبرج أنه في الفترات الثورية تتحول النضالات الاقتصادية إلى نضالات سياسية، والعكس بالعكس: “إن الحركة لا تسير في اتجاه واحد فقط، ولكنها تسير أيضا في الاتجاه المعاكس، فكل تحرك سياسي جماهيري كبير، عندما يصل إلى ذروته، ينتج عنه سلسلة من الإضرابات الاقتصادية الكبيرة. وهذه القاعدة لا تنطبق فقط على الإضرابات الجماهيرية وحدها، ولكنها تنطبق على الثورة ككل. فمع انتشار ووضوح النضال السياسي واحتدامه، لا ينكمش النضال الاقتصادي، بل على العكس ينتشر ويصبح أكثر تنظيما وحدة في نفس الوقت. فهناك تأثير متبادل بين كلا شكلي النضال، وكل هجوم وانتصار جديد للنضال السياسي يفتح المجال واسعا أمام العمال لتحسين أوضاعهم ويعزز رغبتهم في القيام بذلك، يقوي في نفس الوقت روحهم القتالية. وبعد كل موجة صعود في الحركة السياسية، تترسب تربة خصبة تنبت فيها آلاف النضالات الاقتصادية، والعكس صحيح.
- إن الذروة المنطقية والضرورية للإضراب الجماهيري هي “الانتفاضة العلنية التي لا يمكن تحققها إلا كتتويج لسلسلة من الانتفاضات الجزئية التي تمهد لها الطريق، ولذلك تكون (هذه الانتفاضات الجزئية – المترجم) عرضة لأن تنتهي لبعض الوقت على ما يبدو وكأنها “هزائم” جزئية، فكل منها تبدو كما لو كانت “غير ناضجة”، ولكن ما أروع الزيادة في الوعي الطبقي التي تنتج عن الإضرابات الجماهيرية! في حالات الجزر والمد العنيفة للموجة الثورية يعتبر أغلى شيء هو نمو الوعي البروليتاري لأنه الأكثر دواماً، إن تقدم المستوى الثقافي للبروليتاريا في شكل قفزات يعد ضمانة راسخة لتقدمها المقبل في الصراعات السياسية والاقتصادية التالية.”
- من الخطأ الشديد أن نستنتج مما سبق عدم وجود اختلاف نوعي وجوهري بين الحزب وبين النقابات. ويعد هذا ضروريا بالذات في بلاد مثل إندونيسيا حيث النقابات ما زالت في بداية تكونها والحد الفاصل بين الاثنين غالبا ما يكون شديد الغموض. لقد وضع شعار النقابات في بريطانيا في القرن التاسع عشر كما يلي: “أجر يوم عادل مقابل عمل يوم عادل”. أما هدف الثوريين، أي الاشتراكيين، هو إلغاء نظام الأجور، أي التخلص من مجتمع يضطر فيه بعض الناس إلى بيع قوة عملهم لآخرين يشترونها. ومن الواضح أنه طالما بقيت الرأسمالية فنحن نفضل الأجور المرتفعة على الأجور المنخفضة، ولكن اختلاف الهدف يظل قائما.
- إن النقابات تجند أعضاءها على أسس مختلفة تماماً عن الحزب الثوري. فالحزب الثوري يجند أولئك الذين يتفقون أيديولوجيا مع مبادئه، بينما تهدف النقابات إلى تجنيد كل العمال، سواء كانوا ثوريين أو إصلاحيين أو محافظين. فالنقابات تزداد قوتها لو انضم إليها العمال المحافظون تحت الضغط الإيديولوجي لكل العمال الآخرين. وعلى العكس، لا يجب أن يضعف الحزب الثوري عضويته بضم أشخاص لا يتفقون مع آرائه السياسية. إن حركة النقابات تشبه البلطة الثلمة ولكنها كبيرة الحجم. أما الحزب الثوري فيشبه البلطة الحادة حتى ولو كانت صغيرة نسبياً. قارن لينين بين دور الماركسي الثوري ودور المسئول النقابي قائلاً: “لأن مسئول أي نقابة، لنقل الإنجليزية مثلاً، دائماً يساعد العمال في شن النضال الاقتصادي، فهو يساعدهم على فضح المخالفات داخل المصنع، ويشرح ظلم القوانين والإجراءات التي تعطل حرية الإضراب وحمايته (مثلا بإخطار كل الجهات بأن إضرابا يحدث في مصنع معين)، ويشرح انحياز التحكيم والقضاة الذين ينتمون إلى الطبقة البرجوازية، الخ، الخ، وبشكل عام فإن كل مسئول نقابي يدير أو يساعد في إدارة النضال الاقتصادي ضد أصحاب العمل والحكومة … إن المثال الذي يسعى إليه الاشتراكي الديمقراطي يجب ألا يكون ذلك المسئول النقابي، وإنما هو منبر الجماهير، الذي يستطيع الرد على كل مظاهر الاستبداد والاضطهاد، بغض النظر عن المجال الذي تظهر فيه، وبغض النظر عن الشريحة أو الطبقة التي تتأثر بها، والذي يستطيع أن يعمم كل هذه المظاهر ويرسم صورة موحدة لعنف الشرطة والاستغلال الرأسمالي، وهو الذي يستطيع الاستفادة من أي حدث، مهما كان صغيرا، حتى يعلن أمام الجميع مبادئه الاشتراكية ومطالبه الديمقراطية، ومن أجل أن يوضح للجميع الأهمية التاريخية العالمية للنضال من أجل تحرر البروليتاريا.”
خامساً: الحزب الثوري والفصائل الليبرالية في الثورة الديمقراطية
- في عدد كبير من البلاد حيث تكون البرجوازية ناشئة والنظام السياسي إما أوتوقراطيا (استبداديا) أو حديث العهد بالديمقراطية، مثل إندونيسيا، هناك خطر أن تتذيل البروليتاريا الديمقراطيين البرجوازيين. لقد نجحت البرجوازية الفرنسية في إنجاز ثورتها في 1789-1793، ولكن منذ ذلك العهد أصبح الوضع مختلفا. فعلى سبيل المثال، في عام 1848 خانت البرجوازية الألمانية ثورتها وخضعت أمام ملاك الأرض اليونكرز والملكية. فقد كانت البرجوازية الألمانية مذعورة أمام الطبقة العاملة الصاعدة. واليوم توجد الطبقة العاملة في كل أنحاء الأرض وتعمل في مصانع أكبر كثيرا مما كانت في 1789 أو 1848. والخوف من البروليتاريا حتما يشل البرجوازية والمثقفين البرجوازيين (الانتلجنسيا). وفي مارس 1850 نادى ماركس بأن الطبقة العاملة الألمانية يجب ألا تسلم قيادها للبرجوازية الليبرالية ومثقفي البرجوازية الصغيرة: “إن العلاقة بين الحزب العمالي الثوري والديمقراطيين البرجوازيين الصغار تكون كالتالي: أن يتحرك الحزب معهم ضد الشريحة التي يرغبون في الإطاحة بها، وأن يعارضهم في كل أمر يسعون من خلاله لتدعيم موقفهم من أجل مصالحهم الخاصة. فبدلا من الرغبة في تغيير المجتمع ككل لصالح البروليتاريا الثورية تسعى البرجوازية الصغيرة الديمقراطية إلى إحداث تغيير في الأوضاع الاجتماعية تجعل من خلاله المجتمع الحالي محتملا ومريحا بقدر الإمكان بالنسبة لهم. وبينما تتمنى البرجوازية الصغيرة الديمقراطية أن تنتهي الثورة بأسرع ما يمكن … فإن مهمتنا ومصلحتنا أن نجعل هذه الثورة دائمة، حتى نزيح هذا القدر أو ذاك من الطبقات المالكة من مواقع السيطرة، وحتى تستولي البروليتاريا على سلطة الدولة… وبالنسبة لنا ليست القضية هي إحداث تغيير في الملكية الخاصة وإنما فقط إلغاءها، ليست إخفاء العداءات الطبقية وإنما إلغاء الطبقات، وليست تحسين المجتمع القائم وإنما إقامة مجتمع جديد…
- إنه لجلي تماماً أنه في الصراعات الدموية الجارية، كما في كل الصراعات السابقة، سيضطر العمال، بشكل أساسي، إلى تحقيق النصر عبر شجاعتهم وإصرارهم وتضحيتهم بالذات. وكما في الصراعات السابقة، أيضا في هذا الصراع، سيظل جمهور البرجوازية الصغيرة خاملاً، لأطول فترة ممكنة، ومتردداً ومتذبذباً، وبعد ذلك عندما تحسم الأمور، سيغتصبون النصر لأنفسهم، ويدعون العمال إلى الهدوء والعودة إلى أعمالهم، وسيقفون ضد ما يدعون أنه تجاوز ويحرمون البروليتاريا من ثمار النصر…يجب على العمال أنفسهم أن يبذلوا قصارى جهدهم لتحقيق نصرهم النهائي بتوضيح ماهية مصالحهم الطبقية لأنفسهم، وباتخاذ وضعهم كحزب مستقل بأسرع وقت ممكن، وعدم السماح لأنفسهم بأن تقودهم للحظة واحدة تلك العبارات المنافقة للبرجوازية الصغيرة الديمقراطية ليتنازلوا عن التنظيم المستقل لحزب البروليتاريا. فيجب أن يكون شعارهم في المعركة هو: الثورة الدائمة.”
- بعد مرور مائة وخمسين عاماً (على هذا الكلام) تصبح البرجوازية والمثقفين البرجوازيين (الانتلجنسيا) أشد جبناً وأكثر رجعية. ويجب أن يحافظ الحزب الثوري على استقلاله عنهم، حتى إذا طبعوا أنفسهم باللون الأحمر. إن ميجاواتي هي ابنة أحمد سوكارنو – أول رئيس لإندونيسيا. وعندما حصلت إندونيسيا على استقلالها عن الألمان في 1949، كانت البلاد تحت قيادة هذا الوطني البرجوازي. وكانت أيديولوجيته تقوم على البنكاسيلا التي تمثلت أعمدتها الرئيسية في الإيمان بالله والوحدة الوطنية. والمأساة أن الحزب الشيوعي الإندونيسي لم يعارض سوكارنو، وإنما على العكس من ذلك اتفق معه تماماً على الحاجة إلى الوحدة الوطنية. وكانت النتيجة أن تحققت كلمات سان جوست: “أولئك الذين يقومون بنصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم”.
- كان الحزب الشيوعي في إندونيسيا يتمتع بعضوية أكبر كثيراً من الحزب البلشفي في ساعة الثورة: ثلاثة ملايين عضو مقابل مائتي وخمسين ألف عضو. وكانت الطبقة العاملة في إندونيسيا أكبر من الطبقة العاملة في روسيا عشية الثورة. وكان فقراء الفلاحين في إندونيسيا أكثر عددا مما كانوا في روسيا. ولكن في عام 1965 قام أحد الجنرالات الذين عينهم سوكارنو، وهو سوهارتو، بتنظيم انقلاب عسكري بمساعدة الولايات المتحدة، وحكومة حزب العمال البريطانية واستراليا. وفي مكان ما ذبح سوهارتو ما بين نصف مليون إلى مليون شخص. ومع ذلك لم تتقدم ميجاواتي خطوة واحدة أبعد من أبيها.
- أما أكثر زعماء الوطنية البرجوازية بروزاً في إندونيسيا اليوم، بالإضافة إلى ميجاواتي، هو أمين رايس – زعيم الحركة الإسلامية – والذي لا يقف على يسار ميجاواتي، بل أنه تورط لعدة سنوات في أبشع حملة تحريض عنصري ضد الأقلية الصينية في إندونيسيا، والتي أدت إلى مذابح مروعة، كان ضحاياها الرئيسيين هم أشد الناس فقراً. كان أمين رايس عنيفا ضد الصينيين، ولكنه كان على وفاق تام مع الرئيس سوهارتو. ففي 19 مايو، أي قبل يومين فقط من استقالة سوهارتو، تحدث أمين رايس في الإذاعة والتلفزيون داعيا الجماهير لعدم التظاهر ولأن يركنوا إلى الهدوء! إن ميجاواتي وأمين رايس أقزام بالمقارنة بروبسبير أو دانتون، وهما كذلك ليسا أكثر نضالية من البرجوازية الجبانة في ألمانيا في عام 1848 التي انتقدها ماركس بهذه الحدة.
- إن إندونيسيا مثل العديد من بلاد العالم الثالث تواجه مهام برجوازية ديمقراطية كبيرة – مثل تحقيق الديمقراطية السياسية، وحل المسألة الزراعية، والتغلب على تفتت البلاد، والقضاء على اضطهاد الأقليات الدينية والقومية وكذلك اضطهاد المرأة والمثليين جنسياً. ولا يمكن تحقيق هذه المهام بالكامل إلا بعد أن تحقق البروليتاريا ثورتها المنتصرة. وفي نفس الوقت، لابد أن يكون الحزب الثوري في نضاله من أجل سلطة العمال منبر المضطهدين، وأن يعبئ طاقة الفلاحين والأقليات الدينية والقومية والمرأة والمثليين.

