يعتبر كارل ماركس أن النشاط الإنساني يُبنى على الداخل والخارج، من أجل تشكيل منسجم مع تكونية الفرد الطبيعية والروحية ، وهذا ما يمنح ويعطي الطبيعة الإنسانية تمييزها الخلاق، وبالتالي ربط ماركس مفهوم الحرية بقدرة الإنسان على تحقيق ذاته، وإدراك نفسه في الوجود عبر نوع النشاط الذي يقوم به الفرد على المستوى الداخلي والخارجي ، هذا الكلام يقودنا أن ماركس اعتبر أن علاقة الفرد بالآخرين هو ما يميز الإنسان من غيره من الأشياء ، وانسجاماً مع هذا القول يكون ماركس قد توصل إلى الاستنتاجات التي توصلنا إليها اليوم أي أن الفرد لا يستطيع تحقيق حريته فردياً بهذا المعنى، إنما تتحقق الحرية داخل المجتمع، أي مع الآخرين ، تعاون الأفراد مع بعضهم البعض ، بالتالي الحرية تتحقق من خلال شبكة علاقات وتفاعلات تؤدي إلى الحرية بين أفراد حقيقيين ، وليس أفراد أصابهم الاغتراب، وبالتالي نستنتج أن الحرية لم تتحقق بعد في المجتمعات الرأسمالية، كون المجتمع يعاني من انقسام طبقي ،ولذلك تكون الحرية وهم من الأوهام التي يُسوقها النظام الرأسمالي، من أجل بيعها في سوق منتجاته.
لذلك فالاغتراب الذي تحدث عنه ماركس ضمن اقتصاده السياسي، وتحليله للاغتراب، بإن العامل يصبح بعيد عن إنتاجه في ظل الاقتصاد الرأسمالي القائم على العمل المأجور، والقيمة التبادلية. وقد حدد ماركس أبعاد الاغتراب هو اغتراب العامل عن منتجه، إذ لا يملك ما ينتجه، بالتالي عمل العامل لا يشبع حاجاته، والعمل يصبح سلعة تُشترى بالمال، وبالمال يشبع العامل احتياجاته من السلع الأخرى، وهنا يصبح العامل غريباً عن عمله، ويُغترب العامل عن غيره من العمال ويتباعد تدريجياً عن كل ما يتعلق بحياته الروحية، ويكون الاغتراب معبراً صريحاً عن غياب الحرية.
إذا أخضعنا هكذا الكلام لمنهج التحليل النفسي والعلاج النفسي نرى أن عملية العلاج النفسي لمرض الاغتراب من خلال العلاج السلوكي محكوم عليها بالفشل، لأن علم النفس السلوكي والعلاج السلوكي ينظر إلى السلوك الإنساني باعتباره الجانب الوحيد القابل للقياس والملاحظة بشكل مباشر، أو على الأقل الجانب النفسي الأكثر قابلية للقياس وملاحظة تأثّره بالعوامل المختلفة، فالمدرسة السلوكية لا تُعنى بتحليل شخصية الإنسان من خلال معرفة سلوكياته والخبرات المتراكمة من الطفولة ولا تُعنى بسياق عملية التنشئة الأولية والصراعات النفسية التي تعرض لها الفرد. فالعلاج السلوكي يقتصر على ملاحظة السلوك الخارجي. وبالتالي نجد أن عملية العلاج النفسي لمرض الاغتراب النفسي في المجتمع الرأسمالي محكوم عليه بالفشل.
لأنه يقدم مهدئات وتثبيط للأعراض وليس علاج. هذا الأمر يقودنا إلى صوابية كارل ماركس ورؤيته المستقبلية حين قال:” يجب وضع حد للاغتراب لما له من آثار تدميرية على الإنسان.” وإذا ربطنا هذا القول لماركس مع علم النفس والتحليل النفسي، نجد أن الاغتراب كظاهرة ناتجة عن المجتمع، أي هي ظاهرة اجتماعية، وبالتالي يتوافق ويتطابق مع تحليل ماركس عن الاغتراب. فالاغتراب النفسي هو اغتراب الفرد عن ذاته، واغترابه عن الآخرين وابتعاده عن الآخرين، وعندما يغترب الفرد عن نفسه يدخل الفرد في نفق الأمراض النفسية، والتي تبدأ بالتوتر، القلق، الاكتئاب، إلى أن تصل إلى حد الانتحار.
هذه هي الحقيقة التي يتعامى عنها النظام الرأسمالي ويتعامى عنها أنصار الليبرالية في مجتمعاتنا العربية. لأن الحقيقة تعني الوجع والألم، لذلك يستغل النظام الرسمالي الأفراد من خلال نقل وعيهم من التفكير بأسباب مشكلاتهم، إلى ما يسمى الحرية الفردية المشبعة بالوهم، حيث يبقى الفرد منومناً مغناطيسياً، ومخدراً بتأثير الوهم الذي يبعده عن التفكير بأسباب مرضه. فالإعلام الذي أصبح يشكل جزء من ثقافته الفرعية وبالتالي يردد باللاشعور أن النظام الرأسمالي نظام الحرية والديمقراطية وأنه يعيش بسعادة. وإذا سألنا أنفسنا السؤال التالي، إذا كانت هذه المجتمعات هي مجتمعات الرفاهية والسعادة، لماذا ينتحر الناس هناك ولماذا الدول الرأسمالية تشكل أعلى نسبة انتحار في العالم هل بسبب السعادة؟؟ والسؤال الثاني لماذا يهرب الفرد في المجتمع الرأسمالي إلى عالم المخدرات، والكحول، والاغتصاب، والقتل.
إذا كانت هذه المجتمعات سعيدة، وتشبع حاجاتها المادية والروحية، ولماذا فرنسا والسويد تسجل أعلى نسبة بالتحرش والاغتصاب، وفي كوريا الجنوبية 4 بالمائة من نسبة المجتمع ينتحرون، وفنلندا والنروج التي تعتبر مجتمعات أكثر سعادة، هل بسبب غياب الشمس كما يدعي هؤلاء المغفلون، فسكان سيبيريا والأسكيمو الشمس عندهم تشرق بالمناسبات ولديهم أقل نسبة انتحار، أم أن الاغتراب وعدم القدرة والعجز عن مواجهة هذا النظام الذي يسلبهم حياتهم ويدمرهم نفسيا.
إن عجز الفرد في المجتمع الرأسمالي وانعدام آمنه هو نتيجة تخليه عن قيم التعاون مع الآخرين والغرق بالفردية، الذي حوله المجتمع الرأسمالي إلى كائن يعيش وحيداً منعزلاً، يملكه الخوف. هذا الخوف يفكك منظومته ووحدته النفسية ويصاب بالعجز والشلك والعجز والشك يشل قدرة الفرد على الحياة، بالتالي يندفع بلا وعي نحو الاستهلاك ليخفف من وطأة التوتر والقلق، هذا الاندفاع نحو الاستهلاك بسبب استلاب منظومته المعرفية والنفسية، لذلك يهرب نحو الاستهلاك. هذا الهروب كما وصفه أريك فروم لا يعيد إليه آمنه المفقود، ولكنه يساعده فقط على نسيان ذاته بوصفه كائناً منفصلاً ويعثر على أمنه الهش على حساب التضحية بسلامة ذاته الفردية.
إذاً فالاغتراب هو مرض نفسي يحدث بسبب انفصال الفرد عن ذاته، وابتعاده عن ذاته وعن الاخرين، هذا المرض نتيجة الجانب الاجتماعي بالأصل، بالتالي المجتمعات الليبرالية تقوم بالتضليل عن ذكر حقيقة هذا المرض المنتشر بين الأفراد، والذي يدفع الفرد نحو الانتحار والادمان، فالإنسان في ظل هذه المجتمعات يعيش وحيداً خائفاً لأنه يدرك بانه غير حر، بل يخاف من ممارسة الحرية ، فالفيلسوف الفرنسي اميل دوركهايم الذي رأى أيضا إن انعدام المعايير في المجتمع الرأسمالي تجعل الفرد يقع بين التمزق والاستسلام.
السؤال الثاني: ما قيمة الإنسان إذا مات على المستوى النفسي وبقي حي على المستوي الفيزيولوجي؟؟
حقيقة هذا ما يسعى إليه النظام الرأسمالي تدمير الفرد نفسياً، وبقائه حياً على المستوى الفيزيولوجي كي يبقى يبيع قوة عمله، وأن يتحول أيضاً إلى سلعة ومن بعدها يصبح فائض، سلعة فائضة تنتهي بالموت والانتحار أو الإدمان، إن النظام الرأسمالي بدأ يفرض نمطه الجديد بعد انتهاء الصراع مع المعسكر الشرقي (الاشتراكية الستالينية) هذا النمط يقوم على ما يسمى الإداراتية حسب ما عبر عنه خلدون النقيب .
حيث بدأت الرسمالية تتخلى عن مفاهيمها القديمة وتطلق نظام الإداراتية الذي يقوم على السيطرة على أحوال المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .أي أن المجتمع الرأسمالي الحديث مشغول بالسيطرة على عقول الناس والمراقبة، وبالتالي عن أي حرية يتحدثون ، هذا القمع والاستلاب الذي جعل الفرد مغترباً يلجأ إلى عالم المخدرات التي تدمر صحته العقلية، لأنه انفصل عن العالم من حوله ودخل في عزلة، وفقد الأمل والأمان والثقة بالنفس ،هذا الاغتراب هو نتيجة طبيعية للفردية التي فرضها النظام الرأسمالي ، وبالتالي تسيطر على الفرد الأوهام بأنه يعيش بسعادة وأنه حر، بل العكس تماماً. فالاغتراب النفسي يدفع الفرد إلى الإجرام، لكي يشبع الفرد حاجاته الأولية التي افتقدها، وعاشها من خلال الوهم والدعاية، بالتالي يرتكب جرائم السرقة والنهب للحصول على المال ليشبع حاجاته.
الأمر الذي يعرضه للسجن، ويخضع للمراقبة من قبل السلطات الأمنية. ففي الولايات المتحدة 2 مليون سجين وهناك ما بين 5 الى 6 مليون شخص مراقب، وتراقب مكالماتهم الهاتفية، وفي عام 1996 أصبح 30 مليون مراقب. وفي عام 1997 تم تشريع قانون يجبر المتقدم للعمل على الفحص الطبي وترك عينات من البول للتأكد من عدم تعاطيه المخدرات. والمدراس التي تجبر الأطفال على تناول عقار ريتالين الذي يجعل الطفل خاملاً عاجزاً
(تقرير الحريات المدنية نقلا عن فيدل 1998).
وإذا سألنا أنفسنا نحن كمختصين بعلم النفس لماذا يُجبر الأطفال على تناول عقار ريتالين، بدلا من معرفة الأسباب الحقيقية للسلوك التي تجعل الطفل في المدرسة يمارس سلوكاً عدوانياً، ولماذا يتضاعف اضطراب فرض النشاط الحركة في هذه الدول، الجواب لان العلاج السلوكي هو ابن المدرسة الرأسمالية والذي يهدف إلى ملاحظ السلوك وعدم النظر إلى اللاشعور، والأسباب المتعلقة بالصراع الداخلي، لذلك يفرض على الأطفال تناول هذا الدواء ليخفف من نشاطهم، ويجعلهم الدواء أكثر خمولاً وتسهل السيطرة عليهم. هذا ما يريده النظام الرأسمالي وبالتالي مصانعه تنتج هذا الدواء وتجني الأرباح على حساب الفرد، بلد أوربي يسكنه عشرة ملاين نسمة 500 ألف طفل يتناولون هذا الدواء. لأن النظام الرأسمالي غير معني بالأسباب التي جعلت الطفل عدوانياً، بل هي معنية بتثبطه الدوائي وتحويله الى مستهلك للدواء.
هذه الحرية التي تنادي بها المجتمعات الرأسمالية التي جعلت الفرد مغترباً، يعاني الأمراض النفسية وأخطرها مرض الاغتراب النفسي، الذي تكون نهايته الانتحار أو الإغراق بالإدمان. أن جوهر فلسفة كارل ماركس، الذي وضع فلسفة إنسانية هدفها الكشف عن كافة إمكانيات الإنسان، ليس بالطبع الإنسان الذي نستدل عليه من أفكاره أو وعيه فحسب، بل من خلال وجوده المادي والنفسي، الإنسان الحقيقي الذي لا يعيش في فراغ مجرد. هذا التنبؤ الذي تنبأ به ماركس نشاهده اليوم ونحن نعمل في حقل علم النفس أن المجتمع الرأسمالي يحاول الحفاظ على الفرد بصيغته الفيزيولوجية كقوة عمل، ويقوم من جانب أخر بتدميره على المستوى النفسي. إن عملية العلاج تتعرض للصعوبات كثيرة وأحياناً تنعدم عملية العلاج الحقيقية، وتستبدل بعملية العلاج الدوائي المثبط للأعراض وليس علاج جذر المشكلة. لأن العلاج النفسي الديناميكي يقوم على مبدأ ترسيخ الثقة بالنفس، وخوض التجربة الفعلية.
وهذه الخطوة يترتب عليها القول والفعل، وحساب السلبيات والإيجابيات وما يؤمن به الفرد، والخطوة الثانية في العلاج ، هو العلاج المنطقي وهذا النوع من العلاج يصطدم بأن الأقوال لا تنسجم مع الأفعال ، وبالتالي يقفد العلاج شرطه لأن هذا النوع من العلاج يعتمد على الحكم الذاتي للاتساق المنطقي والعقلي بين نية القول وممارسة الفعل ، ولان الفرد في المجتمع الرأسمالي مستلب على المستوى النفسي والمعرفي بمفاهيم تتعلق بالأوهام ، لذلك لا يستطيع الفرد المريض ممارسة عملية الاتساق أثناء العلاج ، ولأنه لم يعالج أسباب القلق ،هذا القلق الذي يدفعه للاستهلاك لتخفيف التوتر، بالتالي يتعارض العلاج مع خطوة الاتساق المنطقي، ولأن جوهر مرض الاغتراب النفسي يكمن في أن الإنسان أصبح بلا قيمة إنسانية ، وتحول إلى آلة مادية هذا التشيؤ مرتبط بمراحل الاغتراب، والعلاقة طردية كلما زاد الاغتراب زادت حالة التشيؤ . لذلك أن العلاج النفسي التحليلي يقوم على تفسير الشروط الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا السبب لا يوجد علاج حقيقي لمرض الاغتراب النفسي في المجتمع الرأسمالي.
والعلاج يقتصر على بعض الأدوية التي تهدأ من استفحال الأعراض، ولكن لا تعالج الفرد المصاب بالاغتراب النفسي. لذلك اثناء استفحال الأعراض يهرب الفرد إلى عالم المخدرات أو الإدمان على الكحول للهرب من شدة وطأة الاعراض المصاحبة للمرض، أو يدخل في نفق الانفصال التام عن الواقع ويُقدم على الانتحار للتخلص من ذاته المتشظية.
