4/11/2012 _ غياث نعيسة

تركيا, العثمانية الجديدة
شهد الاحتفال بالذكرى 89 للجمهورية التي أسسها كمال أتاتورك -في 29 ت1/أكتوبر 1923- مظاهرات دعا إليها حزب الشعب المعارض (أتاتوركي) رغم محاولة الحكومة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان منعها.
لقد وجهت المعارضة انتقادات شديدة للحكومة التركية بأنها تتخلى عن الإرث العلماني الأتاتوركي للدولة التركية لصالح الإيديولوجية الدينية المحافظة لحزب العدالة والتنمية. أيضًا، لم يتوقف رئيس حزب الشعب المعارض كمال أوغلو عن نقد ومعارضة الموقف الحكومي التركي من الثورة السورية، منددًا بمساندة الحكومة التركية لما يصفه ببعض المعارضة السورية والمسلحة منها، كما حذرت من أي تصعيد أو تدخل عسكري ينتج عن المناوشات العسكرية المتبادلة على الحدود السورية-التركية.
لم تمر هذه الذكرى للجمهورية وحيدة، فقد أخذ الإضراب عن الطعام لنحو سبعمائة معتقل كردي منذ عدة أسابيع ضجة إعلامية كبيرة، وشكل حرجًا إضافيًا للحكومة الإسلامية التركية.
بخلاف التصريحات النارية والحربوية المتكررة لأردوغان ووزير خارجيته أوغلو، يبدو أن فسحة التحرك المسموحة للحكومة التركية من قبل حلفائها -وخاصة الحلف الاطلسي- لا تزال حتى الآن محدودة، إضافة إلى تفاعلات الوضع السوري نفسه على الأوضاع الداخلية التركية. ووضع إقليمي ودولي معقد ومترابط لا يسمح لحكومة بلد واحد أن تكسر الوضع الراهن دون أن يكون لذلك عواقب كبيرة على المنطقة كلها.
الاستراتيجيات الثلاث للنخب الحاكمة التركية
إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لحقت بالمجتمع التركي، خلال العقدين الماضيين، والانتعاش الواضح للبرجوازية التركية، يجعل وصف بعض الباحثين لاستراتيجية الحزب الحاكم الاسلامي في السياسة الخارجية أنها استراتيجية “إسلامية” مقارنة بالاستراتيجيات الموالية للغرب للحكومات السابقة كلامًا غير دقيق، فإن كانت حكومة أردوغان محافظة اجتماعيًا على الصعيد الداخلي، وداعمة لتيارات الإخوان المسلمين “المعتدلين” على الصعيد الخارجي في البلدان العربية خاصة، ولكن من الخطأ إهمال أنها تعبر -في نهاية المطاف- عن مصالح أقسام مهمة وخاصة التجارية، من البرجوازية التركية الكبيرة.
يشير الباحث التركي عمر تاشبنار في دراسته “الرؤية الاستراتيجية التركية تجاه سوريا” إلى أن النخب الحاكمة التركية تتشاطر ثلاثة رؤى استراتيجية للسياسات الخارجية هي: العثمانية الجديدة، التي روج لها حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم. والكمالية، وهي الرؤية الاستراتيجية لحكومات العسكر السابقة ولحزب الشعب العلماني المعارض. وما يمكن تسميته بالديغولية التركية أو بالأحرى الوطنية التركية، وهي رؤية تشاطرها بعض النخب التي تجمع عناصر مشتركة من الرؤيتين الأوليتين.
العثمانية الجديدة، هي ما يتبناه حزب العدالة والتنمية، وتقوم على حمل الإرث الإسلامي والعثماني لتركيا في الداخل والخارج، إذ تدعو إلى نوع من الكمالية “العلمانية” المخففة في الداخل، وسياسة خارجية أكثر فعالية ونشاطًا في الخارج، مع محاولة لعب دور الوسيط -طبعًا تغير الحال مع الثورات العربية وخاصة الثورة السورية- في النزاعات، وهذا ما قامت به الحكومة التركية في الملف الإيراني أو المفاوضات السورية-الإسرائيلية، ومحاولة إعادة تعويم وكسر عزلة النظام السوري بعد اغتيال الحريري.
العثمانية الجديدة، تعني أيضًا ممارسة “القوة الناعمة” كما يحبون أن يسموها، من طريق تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والثقافي في البلدان التي كانت سابقًا من مكونات الإمبراطورية العثمانية.
لذلك، فقد دعا أردوغان ومنظره السياسي لهذه العثمانية الجديدة أحمد داوود أوغلو بعد وصول حزبهما إلى السلطة في نهاية عام 2002 إلى ما أسماه الأخير بسياسة “صفر مشاكل مع الجيران”.
من المفيد التنويه إلى أن هذه العثمانية الجديدة، تأتي محاولة من النخب الجديدة الحاكمة لتوسيع الآفاق الجيو-استراتيجية لتركيا التي كانت في العقود السابقة مرتبطة تمامًا بمسارها نحو الغرب، وفي نزاع وعزلة عن بلدان الجوار.
ما قد يعلل ذلك أن صادرات تركيا لهذه البلدان الجارة تضاعفت خلال حكم حزب العدالة والتنمية، وهذا الميل التجاري للسياسة الخارجية التركية يشكل معلمًا مهمًا يجب عدم إهماله في تحليل سياسات الحكومة التركية تجاه البلدان العربية والإسلامية. فإن كانت الصادرات التركية إلى الاتحاد الأوربي ما تزال تشكل القسط الأكبر من مجمل صادراتها، ولكن نسبة الصادرات التركية إلى الاتحاد الاوربي لمجموع الصادرات إليه لم تتغير في العشر سنوات الماضية من حكم حزب العدالة والتنمية.
العثمانية الجديدة تنظر إلى تركيا باعتبارها قوة “إقليمية واثقة من نفسها” ودولة مركزية في المنطقة عليها أن تلعب دورًا ناشطًا فيها وعلى كافة الصعد، وفي ذلك تحاول أن تحقق شيئًا من التوازن بين نزوعها الإقليمي وتوجه تركيا القديم نحو الغرب.
لكن موقف الحكومة التركية الحالية على صعيد القضية الكوردية، القضية القومية الأهم والشائكة في تركيا، لم يتميز عن مواقف الحكومات السابقة سوى بإقرارها نوعًا من التعددية الثقافية، التي تستبعد الميل الدمجي القومي للسياسات الكمالية للحكومات السابقة، وهي عملت على الرد على المطالب الثقافية والسياسية للشعب الكوردي في تركيا، من طريق تأطير هذه المطالب وحصرها في إطار الولاء للجمهورية التركية وفي إطار ما تسميه بالتعددية الثقافية والهوية الإسلامية، فحسب.
قدمت حكومة أردوغان للإدارة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب “الاسلامي” نموذجًا روجت له في مواجهة الإسلام المتشدد، فقد وصفت غوندزيلا رايس حكومة أردوغان عام 2002 بأنها “أنموذج ممتاز لبلد 99 بالمئة من سكانه مسلمون يملك أهمية كبرى لكونه يشكل بديلًا عن الإسلام المتشدد”. بل رأى فيها بوش الابن في حماسه للترويج لحكومات إسلامية “معتدلة” كهذه أنها “تقدم للمسلمين في العالم نموذجًا يدعو إلى التفاؤل لديمقراطية حديثة ومدنية”.
في حين يرى الكماليون أن الغرب يخطأ في تقديره للأجندة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، وأن الأخير إنما يمارس سياسات أسلمة داخلية للمجتمع التركي وسياسات خارجية “مغامرة لا أهداف لها”.
اختبار السياسة التركية على ضوء الثورات العربية
مع اندلاع الثورات في عدد من البلدان وبداية في تونس في ك1/ديسمبر 2010، وبعد فترة أولى من التخبط والاندهاش مما يحصل، انتهزت الحكومة التركية، مع بروز قوى الإخوان المسلمين في تونس ومصر، هذه الفرصة لتقديم نفسها أنموذجًا “لديمقراطية إسلامية” ودور الأخ الأكبر، ولكن هذا التدخل والدور الناشط لها في بلدان المنطقة العربية التي تشهد سيرورات ثورية جعل من مبدأ “صفر مشاكل مع الجيران”، وخصوصًا مع التدخل الناشط والمباشر للحكومة التركية في الشأن السوري، بلا معنى. أو تحول إلى مبدأ “صفر جار بلا مشاكل معه”، فقد ساءت أو توترت إلى حد كبير علاقات الحكومة التركية في العامين الماضيين مع كل من حكومات سوريا والعراق وإيران وروسيا وأرمينيا.
لقد وقفت الحكومة التركية موقف المتفرج والمذهول من الثورة التونسية حين اشتعلت في نهاية عام 2010، ولم يكن لها دور أو موقف يذكر لا على الصعيد الإعلامي أو السياسي. ولكنها، مع انتقال الثورة إلى مصر في يناير 2011، أدركت عمق التحولات الجارية في المنطقة، ولاسيما معرفتها بالوزن السياسي المهم لجماعة الإخوان المسلمين في مصر رغم موقف الأخيرة المتردد من الانخراط في المظاهرات في بداياتها وموقفها الكواليسي في مفاوضة نظام مبارك. فكان أردوغان أول رئيس حكومة في العالم يطالب بتنحي مبارك، واستقبله الإخوان بحفاوة بالغة خلال زيارته لمصر في أيلول/سبتمبر 2011، هذه الزيارة التي رافقه خلالها وفد ضخم من رجال الأعمال الأتراك، أملًا بأن يعزز العلاقات الاقتصادية مع أكبر بلد- سوق-عربي.
بينما لم يكن موقف الحكومة التركية بالوضوح نفسه، حين اندلعت الثورة في ليبيا في شباط/ فبراير 2011، إذ ترددت حكومة حزب العدالة والتنمية طويلًا في اتخاذ موقف لها، بخلاف موقفها السابق في ما يخص مصر، لأنه كان لتركيا عقود مع نظام القذافي تعادل 10 مليار دولار، ويعمل في ليبيا نحو 25000 عامل تركي. فقد رفض أردوغان اتخاذ موقف مشابه لموقفه بخصوص مصر، بل تعمد الدعوة إلى موقف مائع حذر فيه من إعادة سيناريو العراق في ليبيا -في حين أنه، وللمفارقة، يدعو له في سوريا- في حال استمر القتال. وعندما قرر الغرب وحلفائه العرب إنشاء منطقة حظر الطيران في ليبيا، فقد رفض أردوغان العرض بمشاركة تركية، قائلًا بأن تدخل حلف الأطلسي والولايات المتحدة سيؤدي إلى غزو عسكري لليبيا على غرار ما حصل في العراق.
نتيجة هذا الموقف التركي، جرت مظاهرات في مدينة بنغازي تندد بموقف أردوغان وحكومته المذكور. لكن حكومة أردوغان عملت على تدارك موقفها بعد صدور القرار رقم 1973 بإقامة منطقة حظر للطيران من مجلس الامن، الذي اتخذته الولايات المتحدة وشركائها غطاءً لإسقاط نظام القذافي الكريه، إذ أعلنت الحكومة التركية مشاركتها العسكرية الفعلية في الحملة وأرسلت سفنًا حربية تشارك في العمليات العسكرية، مما قد يعني أن يكون لها حصة في إعادة إعمار ليبيا.
مرة أخرى، عندما اندلعت الثورة في البحرين في شباط/فبراير 2011، وجدت حكومة أردوغان نفسها أسيرة تناقض بين خطابها الداعي إلى الديمقراطية وبين مصالحها الاقتصادية والسياسية، إذ للرأسمالية التركية مصالح اقتصادية كبيرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وإنها تشارك أيضًا اهتمام هذه الدول مع الولايات المتحدة وإسرائيل في الرغبة في تحجيم القدرات الإيرانية على التدخل في الخليج والمنطقة، فارتأت حكومة أردوغان حلًا بأن تعرض وساطتها لحل سياسي “للازمة” في البحرين، ودعت السلطات البحرينية إلى ضبط النفس في استخدام القوة لتجنب وقوع “كربلاء جديدة”، وفي الوقت نفسه طلبت من آية الله السيستاني في العراق التدخل للتخفيف من مطالب السكان “الشيعة” في البحرين، وكأن الاحتجاجات اقتصرت فيها على الشيعة أو على مطالب طائفية.
يبدو أن أردوغان أراد في تعامله مع الثورة في البحرين ليس فقط تأكيد تركيا بوصفها دولة إقليمية بل وبوصفها دولة إقليمية في مواجهة ايران، وليس فقط باعتبارها “القوة السنية الأكبر في المنطقة”، وهي الصورة التي تجلت عليها سياساتها في التعامل مع الثورات العربية. لكن السعودية ودول التعاون الخليجي تجاهلت اقتراحات أردوغان، وأرسلت السعودية وقطر وغيرها من دول الخليج قواتها إلى البحرين في محاولة لسحق الثورة الشعبية فيها، لأنه حتى النموذج الأردوغاني لحكومة إسلامية معتدلة، على الرغم من كل علاته، يشكل نموذجًا ما يزال مكروهًا ومنبوذًا لدى الحكومة السعودية الظلامية وممالك ومشايخ الخليج، ولأن قبول السعودية بتدخل تركي في التعامل مع الأحداث في البحرين إنما يعني انحطاطها إلى قوة إقليمية ثانوية خلف الحكومة الإسلامية في تركيا، وهذا ما لا ترغب فيه.
لكن الحكومة الإسلامية لأردوغان، لا تقدم، كغيرها من الحكومات أو الحركات الإسلامية، أنموذجًا مخالفًا للرأسمالية السائدة، على صعيد الاقتصاد، أي سياسات ليبرالية بلا روادع، بل إن جل ما قد يميزها هو عملها على ترويج أو فرض سياسات محافظة جدًا على الصعيد الاجتماعي والثقافي، ونزوع داخلي إلى تقليص هوامش الحريات العامة.
لقد استطاعت حكومة العدالة والتنمية منذ عام 2003 القيام بسلسلة من “الاصلاحات” الهيكلية بسياسات نيو ليبرالية صريحة، ليصل معدل النمو فيها إلى 7 بالمئة في السنوات التسع الماضية، وبالمقارنة، فإن نظام الأسد الدكتاتوري استطاع أيضًا بتطبيقه لسياسات مشابهة إيصال سوريا إلى معدل نمو يقترب من 5 بالمئة، ولكن على حساب استنزاف وإفقار هائلين للطبقات الشعبية.
لكن الوضع الاقتصادي في تركيا ومنذ عامين، مع اندلاع السيرورات الثورية في المنطقة، لم يعد “ورديًا” كما يقول الباحث سبهاش كابيلا في مقاله “تفاقم النزاع السوري- التركي: آفاق استراتيجية”، إذ ينوه إلى أن التقارير الاقتصادية تؤكد بأن “الاقتصاد التركي يعيش اليوم بفضل القروض القصيرة الأمد الممنوحة من العربية السعودية ومشيخيات الخليج… وهي جميعها معادية لإيران، وهذا البلد الأخير هو الهدف الرئيسي من التصعيد الجاري للنزاع”.
السياسة التركية تجاه سوريا
تقلبت السياسات الحكومية التركية خلال نحو عشرة سنوات تجاه النظام السوري من حالة عداء وصلت إلى حد التهديد بالحرب إلى حالة صداقة وطيدة لتعود منذ عامين إلى حالة عداء شديد وتدخل مباشر في محاولة لإسقاط النظام نفسه.
كان العداء بين النظامين، في الثمانينات والتسعينات، كبيرًا. فقد قدم النظام السوري دعمًا هائلًا لحزب العمال الكردستاني، القوة الكوردية الأقوى سياسيًا وعسكريًا بلا منازع، وذلك على خلفية تنازع بين البلدين على حصة كل منهما من مياه دجلة والفرات وقيام الحكومة التركية ببناء عدد كبير من السدود ومولدات الطاقة عليهما في المناطق الجنوبية القريبة من الحدود السورية والعراقية، وتناقض في المصالح الجيو-سياسية بين تركيا الموالية للغرب وسوريا المتحالفة مع روسيا وإيران.
وصل الأمر حينئذ إلى حد أن أعلنت الحكومة التركية تهديدًا علنيًا بغزو سوريا عام 1998 إن لم يتوقف النظام السوري عن دعم الحزب المذكور، بسبب العمليات الجريئة والمتزايدة له ضد الجيش التركي ومؤسسات الدولة التركية. لقد أصاب نظام حافظ الأسد ذعر حقيقي من حرب مع تركيا، فتراجع ورضخ لمطالب الحكومة التركية. هذا الرضوخ للنظام السوري تتوج بتوقيع الحكومتين على ما يعرف باتفاق أضنة في 21 ت1/ أكتوبر عام 1998، التي يقر فيها النظام السوري بوقف دعمه لحزب العمال الكردستاني مع طلبه برحيل عبدالله أوجلان زعيمه المعروف الذي خطفته المخابرات التركية من كينيا في شباط/ فبراير 1999، إضافة إلى اتفاقات تعاون أمنية بين النظامين.
منذ ذلك الوقت، نمت بين النظامين علاقات تعاون على كل الصعد الاقتصادية والسياسية والأمنية، فتم تكوين منطقة حرة بين البلدين وإلغاء تأشيرات الدخول، وشهدنا إغراقًا غير معهود للبضائع التركية للسوق السورية مما أدى إلى إغلاق وخراب سلسلة كبيرة من الصناعات الحرفية والصناعية (وخاصة النسيج والموبيليا والمفروشات الخشبية والأحذية) السورية وغيرها، مع غزو ثقافي تمثل في احتلال المسلسلات التركية حيزًا مهمًا من الفضاء التلفزيوني في سوريا لتصبح تركيا الشريك التجاري الأول لسوريا، إذ احتلت مشاريعها في البلاد عام 2010 المرتبة الأولى. وتشير أرقام رسمية إلى أن حجم التبادل التجاري بينهما بلغ في العام نفسه 2.5 مليار دولار، بينها نحو 1.6 مليار دولار صادرات تركية إلى سوريا. فقد وقع البلدان في عام 2004 اتفاقًا للتجارة الحرة دخل حيز التنفيذ عام 2007، فأدى إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 30 في المائة سنويًا. وقد صرح رئيس اتحاد غرف السياحة في سوريا محمد رامي مارتيني لمجلة الاقتصادي السورية بأن “نحن في سورية منذ البداية أغرقنا بالبضائع التركية والصينية والمجهولة المنشأ تحت مسمى التجارة الحرة، ولم يتم تقديم أي دعم للبضاعة السورية”.
تطورت العلاقات بينهما إلى مستوى عال أدى إلى تشكيل “المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي”، فكانت تنظر تركيا إلى سوريا باعتبارها بوابتها لدخول منطقة الشرق العربي. مثلما كان وراء هذا التعاون مراهنة تركية وربما غربية على إبعاد النظام السوري عن ايران.
مما لا شك فيه أن حكومة أردوغان لعبت دورًا مهمًا في فك عزلة النظام السوري الدولية بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، واضطرار النظام السوري إلى سحب قواته من لبنان، كما لعبت دور الوسيط في المفاوضات السرية التي جرت بين إسرائيل والنظام السوري، وأوشكت على التوصل إلى اتفاق نهائي بينهما في نهاية عام 2008، لولا توقف المفاوضات عقب الاعتداء الإسرائيلي على غزة في ك1/ديسمبر 2008.
سوريا هي فيتنام تركيا؟
لكن مع انطلاقة الثورة الشعبية السورية في منتصف آذار 2011 ضد النظام الدكتاتوري الذي عمم أبشع أشكال الاستبداد والفساد وأفقر غالبية الشعب، كان موقف الحكومة الإسلامية التركية، وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من الثورة، ينحصر في لعب دور الناصح للنظام السوري داعيًا إياه إلى إجراء بعض الإصلاحات وحاولت إقناعه بفتح حوار جدي بينه وبين جماعة الإخوان في سوريا لمساعدة النظام على الخروج من “الأزمة”، ولم يصدر خلالها أي تصريح رسمي تركي يطالب برحيل الأسد أو تغيير النظام السوري.
لكن بداية التحول في الموقف التركي جرى بعد أن شعرت الحكومة التركية أن نفوذها السياسي على النظام السوري ليست كما كانت تتوقعه، وليس على مستوى العلاقات الاقتصادية المتنامية بينهما، فبدأت في انعطاف جذري في موقفها منه، وذلك منذ شهر حزيران/يونيو 2011 عندما وصف أردوغان قمع النظام للمتظاهرين بأنه “همجي”، وأن الأسد لم يلتزم بتعهداته في القيام بإصلاحات، ومنذئذ أقدمت الحكومة التركية على حزمة من الإجراءات الناشطة ضد النظام السوري عبر دعم نشط لبعض أطراف المعارضة ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين والسماح وتمويل وتشجيع العديد من مؤتمرات العديدة لأقسام منها، وصولًا إلى تشكيل المجلس الوطني في إسطنبول بداية ت1/أكتوبر من العام الماضي، وإدراج عدد من العقوبات ضد النظام في سوريا، وصولًا، بعد سلسلة من التصريحات النارية، إلى أن طلب أردوغان صراحة في ت1/نوفمبر 2011 بتنحي الأسد عن السلطة. علاوة على استضافتها للمؤتمر الثاني لاجتماع “أصدقاء سوريا” المكون من عشرات الدول المعادية للنظام السوري في إسطنبول، نيسان عام 2012.
إذن، حصل في ثلاثة أشهر تغير حاد في موقف الحكومة التركية، لتنتقل من موقع الصديق للنظام السوري إلى واحد من ألد أعدائه، وبدا وكأن تركيا قاب قوسين أو أدنى من شن حرب على سوريا. ولكن ها قد مضى أكثر من عام على التحول العدائي للموقف التركي من النظام السوري دون أن تقدم حكومة أردوغان على تنفيذ أغلب تهديداتها (دعوتها للحلف الأطلسي للتدخل، مطالبتها بمناطق حظر للطيران ومناطق آمنة… إلخ)، والأسوأ من ذلك، إن الحكومة التركية نفسها تقر بأن إطالة عدم الاستقرار في سوريا وامتداده زمنيًا ليس في صالحها، فانعكاسات الصراع في سوريا بين قوى الثورة الشعبية والنظام الاستبدادي العنيف بدأت تؤثر سلبًا في الداخل التركي، إذ يغلب على الرأي العام التركي ميل عام ضد أي تدخل عسكري في سوريا، وظهر كسب الحكومة التركية على موافقة البرلمان على نشر قوات خارج الحدود في بداية ت1/أكتوبر 2012 بوصفه مجرد محاولة لحفظ ماء الوجه بعد تصريحات عنترية لرئيس الحكومة أكثر منه ضوءًا أخضر لعمليات عسكرية واسعة داخل سوريا، فالبرجوازية التركية الكبرى لا مصلحة حقيقية لها في خوض بلادها حربًا لا يعرف أحد كيف ستنتهي، والتفريط بمناخ داخلي وإقليمي ما يزال موائمًا لها، وخاصة علاقاتها التجارية الضخمة مع إيران، إذ وصلت الصادرات التركية إلى إيران عام 2011 إلى 342 مليون دولار، والإيرانية إلى تركيا أكثر من 830 مليون دولار في العام عينه، أو مع روسيا، إذ وصلت الصادرات التركية إلى روسيا منذ بداية العام ولغاية شهر أيلول فقط أكثر من 100 مليار دولار وأعلن وزير الاقتصاد التركي لوكالة روسيا اليوم بتاريخ 9 ت1/أكتوبر 2012 أن الصادرات التركية إلى روسيا ستصل إلى 184.5 مع نهاية العام الجاري. من جهة أخرى، تتسع وتيرة وقوة معارضة حزب الشعب (الأتاتوركي وهو الحزب الأكبر الثاني في تركيا) لحكومة أردوغان متهمًا إياها بالرضوخ لسياسات الغرب، وتتفاقم أحداث التوترات الطائفية داخل تركيا نفسها كانعكاس لما يجري في سوريا إذ يبلغ عدد العلويين في تركيا (من الكورد والعرب والأتراك) نحو 25 مليون نسمة وفق تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية في 30 تموز/يوليو 2012، الذين تبدو مواقف الحكومة التركية من سوريا لدى بعضهم نابعة من موقف غير علماني بل ديني وطائفي. يضاف إلى هذه الاعتبارات الهاجس الأكبر الذي يقض مضجع الحكومة التركية وهو تزايد النشاط والعمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني، الذي أصبح له عمق استراتيجي داخل الأراضي السورية في المناطق الكوردية الشمالية التي تخلى عنها النظام السوري لصالح حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني)، ويشكل الكورد ما بين 15-20 مليون نسمة في تركيا لوحدها.
وأخيرًا، تُضاف على الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية للتدخل التركي في سوريا مشكلة اللاجئين السوريين إليها، الذين فروا هربًا من قصف وتدمير النظام السوري للمدن والبلدات، وقد تجاوز عددهم المئة ألف، وقد بدأت ترمي بثقلها على الحكومة التركية.
رغم محاولة الحكومة التركية التقليل من التأثيرات السلبية الداخلية الناتجة عن تدخلها المباشر في الشأن السوري، فإن وزير التنمية التركي جودت يلماز اقر بأن “تأثير الأزمة السورية على اقتصادات بعض المناطق التركية مرحلية، متوقعًا عودة الحركة الاقتصادية أقوى من قبل فور انتهاء الأزمة السورية” في تصريح له في بداية شهر ت2 / نوفمبر الجاري.
لا يبدو لنا بأن الحكومة التركية تملك القدرة أو الرغبة حقًا في القيام بمغامرة عسكرية منفردة في سوريا، ولكننا نعتقد أنها يمكنها أن تفعل ذلك تحت غطاء من حلف الأطلسي، وبات لدينا العديد من الوقائع التي تؤكد هذا المنحى، منها ما حصل في 20حزيران/يونيو 2012 حين أسقطت القوات الحكومية السورية طائرة تركية، والمناوشات الحدودية بين تركيا وسوريا إثر حوادث سقوط العديد من القذائف السورية في المناطق التركية، ولكن رغم كل التوعد الكلامي الذي أبدته الحكومة التركية وطلبها لدعم الحلف الاطلسي، فإن ردود فعلها بقيت حتى الآن ملجومة عسكريًا. في حين بقي موقف حلف الأطلسي -على الرغم من الحماس الأردوغاني المطالب للحلف الأطلسي بالتدخل في سوريا- يدعو إلى القول بأن الحل المطروح في سوريا هو حل “دبلوماسي”، وإن لا نية للحلف الاطلسي في التدخل العسكري في سوريا، وفي آخر تصريح للأمين العام لهذا الحلف في 9ت1/أكتوبر من هذا العام أعاد التأكيد على ان “حلف شمال الأطلسي لا يرى أي دور له في تسوية الوضع في سورية”، وأعرب راسموسن عن موقف الحلف من الأوضاع في سورية، قائلًا: “نأمل بالتوصل إلى حل سياسي للأزمة في هذا البلد”، وحذر كذلك من اتخاذ خطوات متسرعة في سورية منوها بأن “المجتمع السورية معقد جدًا والوضع في هذا البلد ليس سهلًا ويهدد بصعوبات لكل المنطقة”.
بين رغبات الحكومة التركية بتدخل عسكري يسمح لها كما تعتقد بتعزيز مصالحها ونفوذها في سوريا، ومنع قيام منطقة حكم ذاتي كوردي فيها تشكل تهديدًا لها من جهة، وقدراتها الفعلية على ذلك وحدها، والموقف الغربي والأمريكي الحذر من أي تدخل عسكري في سوريا من جهة أخرى، يضعها ذلك التفارق في موقع لم يعد لها فيه داعمين حقيقيين في جنوحها إلى مغامرة كهذه، على الأقل حتى الآن، سوى السعودية وممالك الخليج، في الوقت الذي لن تستطع فيه لا تركيا ولا هذه الممالك القيام بمغامرة لا تحظى بموافقة الولايات المتحدة والغرب عمومًا، ليصبح حقًا توصيف الموقف الأردوغاني الحربوي الكلامي بأنه “نبيحًا أشد من العض” صحيحًا. وقد شعرت الحكومة التركية بهذا التفارق منذ نهاية عام 2011، إذ صرح أردوغان في ت2/نوفمبر 2011 بأن الغربيين لا يريدون التدخل في سوريا كما فعلوا في ليبيا لأن “سوريا ليس فيها نفط”.
مما يشير إلى أن الملف السوري ليس -أو لم يعد- بيد تركيا أو السعودية أو قطر هو التصريح الأخير لهيلاري كلينتون في بداية هذا الشهر في مؤتمر صحافي في زغرب أنه “لم يعد من الممكن النظر إلى المجلس الذي يضم أكبر التيارات المعارضة السورية وأبرزها الإخوان المسلمين على أنه القيادة الأهم للمعارضة”، معتبرة أنه “يمكن أن يكون جزءًا من المعارضة التي يجب أن تضم أشخاصًا من الداخل السوري وغيرهم”. في حين أنه معروف أن تركيا هي من الدول الراعية الأساسية للمجلس الوطني السوري، وهي بالتالي تحاول جاهدة حيازة نفوذ ما في صفوف بعض كتائب المقاومة الشعبية المسلحة (الجيش السوري الحر). لعل ذلك يسمح لها بالبقاء لاعبًا أساسيًا في الملف السوري، لا سيما وأن طموحها أن تكون قوة إقليمية كبرى قد تعرض إلى نكسة، بالتدويل الصارخ للمسألة السورية التي أصبحت في القلب من معركة الضواري الإمبريالية على تقاسم النفوذ في المنطقة وفي صفقات ومناورات الدول الكبرى (الغربية والشرقية) حول سوريا.
لكن الوضع الراهن للحكومة التركية هو أنها لم تفعل سوى الانغماس أكثر فأكثر في المستنقع السوري الذي أصبح وفق توصيف الباحث الأمريكي جوشوا لانديز “سوريا أصبحت فيتنام السياسية بالنسبة لتركيا”، الذي يخشى أن تتحول سوريا إلى “فيتنام” العسكرية والسياسية لتركيا.
يصبح مهمًا التأكيد على أن الحكومة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية ليست حليفًا حقيقيًا للثورة الشعبية السورية. إنها قوة اقليمية لها مصالح محددة تخدم مصالح طبقة رأسمالييها الكبرى الاقتصادية والسياسية ولها مصالحها الجيو-سياسية الخاصة، لذلك فإن الموقف الرسمي التركي لا ينبع، ولا أي موقف حكومي كائنًا ما كان، من اعتبارات أخلاقية أو دينية، بل إن الحكومة التركية تعمل عبر تشكيل شبكة زبائنية لها داخل بلادنا إلى تعزيز مصالحها فحسب.
فمسار الثورة الشعبية السورية، فضح على الملأ طبيعة النظام السوري الدكتاتورية البشعة والقاتلة، مثلما فضح حقيقة مواقف الدول التي تدعي أنها صديقة للشعب السوري، التي -في الواقع- لا يعنيها شيء من معاناة شعبنا بل يهمها فقط مصالحها الخاصة، ليؤكد على درس جوهري، سبق أن اختبرته كل الثورات، وهو أن انتصار الشعب السوري الثائر يكمن في استمرار رهانه على إرادته الذاتية والمستقلة عن أية قوة إقليمية أو دولية من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة في سوريا الجديدة على أنقاض الدكتاتورية.
