
تسليع مصر والهرولة نحو الهاوية
لم أكن أود أن أستهل العام الجديد بمقالٍ يتنبأ باشتداد الضيق وتصاعد الأزمات، أو الانهيار الوشيك، فلست أحب أن أتقمص دور أحد أنبياء العهد القديم، الذين يَعِدون وبالًا وثبورًا، ومع أني لم أر في نفسي زرقاء اليمامة طيلة السنوات الماضية، فإن الواقع يفرض نفسه عليّ كما على غيري.
للحقيقة والدقة فإن الحديث أو التعليق عن الشأن العام خرج الآن من خانة التنبؤ والتوقعات إلى حيز الوصف، فالشاهد أن هبوط سعر الجنيه أمام الدولار (والعملات الأجنبية) مشفوعًا بنقصه في السوق والتضخم المرعب وارتفاع الأسعار الجنوني، كل ذلك مجتمعًا، فرض نفسه ولم يزل على الواقع المصري، منذ ما قبل بداية العام، فدخل هذا الأخير بين الألم والشكوى من الحال والخوف (المبرر تمامًا والمنطقي) من المقبل.
إن دهم الخوف وبرح الشعور بالأمان (الزائف البليد في الحقيقة) مكانه، أو ما تبقى منه في القلوب والساحات، فإن الدهشة لم تتحرك من مكانها، ولم تفقد أيًا من مساحاتها، بل توسعت وفرَّخت فتكاثرت، وموطنها هنا يذكرنا بما قاله من قبل الفيزيائي الأشهر ربما، أينشتاين، عن جنون ارتكاب الأخطاء نفسها وتوقع نتائج مختلفة، وفي حالتنا هذه أن يتوقع المرء صوابًا أو نجاحًا أو نتيجة إيجابية في نهاية المطاف.
زمام الشأن الاقتصادي قد أفلت من أيدي النظام المصري، فهو الآن في قلب الدوامة، يقترض ليسد ثم يبيع أصولًا ليسد القرض ويضيِّق على الناس ويحلب كل ما يستطيعه منهم.
بعيدًا كل البعد عن ادعاء الحكمة بأثرٍ رجعي، فإن كل المؤشرات كانت ترجح بشدة ما وصلنا إليه، فإذا أردنا أن نصل إلى مبرر ما وصلنا إليها فعلينا أن نحلل بعمق طبيعة المرحلة، وطبيعة أو عقلية الرجل، أي السيسي ومشروعه. إن السر أو المفتاح للفهم يكمن في كلمةٍ واحدة تؤدي لكل ما بعدها: الثورة المضادة؛ ثورةٌ مضادة في بلدٍ مرهقٍ مجرّف ذي جهازٍ أمنيٍ متضخم وبورجوازية ضئيلة عددًا ورديئة نوعًا وفي غياب أي تنظيمٍ ثوري حقيقي من شأنه التصدي لقيادة ثورة. لكن الثورة اندلعت تحت تأثير شتى الضغوطات، وفي خضم حالة الضعف العام التي أسلفنا، تمكن الفصيل الأكثر تنظيمًا (الدولة ممثلةً بالجهاز العسكري-الاستخباراتي) من السيطرة على المشهد في نهاية المطاف.
في المحصلة، فإن شيئًا لم يحدث في ليل الثورة المضادة لتغيير هيكل الاقتصاد الريعي في المجمل، بل حدث نقيض ذلك، فرغم القمع الرهيب لمنع ثورةٍ أخرى، والتهديد وزرع اليأس بصورة ممنهجة من احتمال قيامها، فقد سارعت الطبقات المنتفعة من محاولة مراكمة المزيد من الثروات وتأمينها بتهريبها إلى الخارج، وما زاد الطين بلة أن السيسي شرّاء للولاءات، وفي محاولةٍ يائسة لإشباع نهم حاشيته وضباطه، وهو على رأسهم، عمد كما بات معروفًا للجميع إلى تعظيم حصة القوات المسلحة في الحياة الاقتصادية، وسط ظروفٍ غير متكافئة تمامًا على حساب القطاع الخاص، حتى صار كثيرون لا سبيل لهم إلى الكسب والاستمرار سوى من طريق العمل من داخل عباءة المؤسسات الاقتصادية والشركات المملوكة للقوات المسلحة، كمقاولين من الباطن مقابل نسبةٍ باهظة لمجرد السماح والتسهيلات، أي صار الجيش لا بلطجيًا وقاطع طريق بالمعنى المجازي بل الحرفي، يعيش على الإتاوات من الشركات والمواطنين على حد سواء، وقد وصل الوضع إلى حدٍ كارثي للجميع، بما فيها الطبقة الحاكمة، إذ في إعادةٍ واستعادةٍ تمثل نسخةً رديئة من الفاشية.
قبلت البورجوازية المصرية الكسيحة (أو على الأقل كانت مستعدةً) للتضحية ببعض المكاسب، ولن أتحدث عن الحرية السياسية، أو التعبير فهذه ضامرة من الأساس، ولم تعنها كثيرًا من قبل، مقابل هزيمة الثورة، ووأد احتمالاتها المستقبلية، ولكن النتيجة كانت وبالًا عليها أيضًا، فالجيش -ذلك الطفيلي على جسد الدولة، حسب الأدبيات الاشتراكية الكلاسيكية- صار طفيليًا على جسد البورجوازية ذاتها، يمتص عافيتها، كلعنة أو عفريت شرير أطلقوه فها هو يتلبسهم ويهلكهم. لقد آمنت دائمًا بدورٍ للفرد في التاريخ، يعدو مجرد تمثيله لطبقةٍ أو جماعة، ومن هذا المنطلق أعتقد أنه إلى جانب المصلحة المباشرة للطبقة الحاكمة في مصر، التي وجدت تعبيرها في تحالف الرابع من يوليو الحقيقي، أي صيغة ما بعد الانقلاب وعصر الثورة المضادة، فإن للسيسي، بما يسكن ذهنه مما لا يعلمه تمامًا إلا الله وحده، وإن كنا نرى شواهده وتجلياته، دورًا أصيلًا في ما وصلنا إليه، خاصةً في نظامٍ للرئيس العسكري فيه كل تلك السلطة والصلاحيات. وفقًا لتصورات السيسي، فقد شرع يبني طرقًا وكباري، تلك التي صارت موضع التندر والسخرية، ليري الجمهور أن شيئًا (أو أشياء) تحدث، وأنه يوجد «شغل»، ومن ناحيةٍ أخرى فهي تضمن دخلًا سريعًا وسهلًا لشركات الجيش، وقد صاحب ذلك وواكبه اقتراض بسفه وإنفاق (واختلاس) ببذخٍ أيضًا، دون دراسة، كما يتباهى السيسي دائمًا، أي أنفق في مشاريع غير منتجة، ولسداد القروض، لم تعد الضرائب والإتاوات تكفي، فاستدار لبيع الأصول المملوكة للبلد. الأهم من ذلك، أن تلك الذهنية ترى الأساس الأهم، أو تعرف الدولة، وتحصرها في السيادة والسيطرة الأمنية والسياسية، فالبلد مقسمٌ في ذهن السيسي إلى ناس، جمهور عريض أو دهماء، و«الدولة» بألف ولام التعريف، أي الأجهزة السيادية، وعلى رأسها الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات، فلا شيء يهم طالما بقيت الدولة وفق هذا التعريف واقفةً مسيطرة، وكل ما عدا ذلك يخضع لقانون السوق، يذهب ويأتي، يُباع ويُشترى، وفقًا للسعر الأعلى أو مجاملة لشارٍ بعينه مقابل خدمةٍ ما، ولهذا قيمته أيضًا. من هذا المنطلق أيضًا فإن كل شركة أو مؤسسة، ما لم تنتمِ إلى «الدولة» كما عرفنا، هي سلعةٌ أو خدمة، تُباع وتُشترى، وفي سبيل إنقاذ الدولة والاحتفاظ بسيطرتها يصبح كل شيءٍ عداها قابلًا للتسليع ومن ثم البيع، فهذا قانون السوق. لذا، ووفقًا لمنطق السوق والسلع ذاك، فلا محل للعجب من بيع حديقة حيوانات أو قناة السويس، تتساوى في ذلك مع تغيير ملكية معرض سيارات أو قطعة أرض أو دكان خردوات، والمشتري -نظريًا- قد يوفر الخدمة بصورةٍ أفضل، ومن نافل القول إن تلك المدرسة في التفكير ليست ببدعة وإنما لها أنصارها ومنظروها، وإن كانت صادمةً للمصريين. وعلى ذكر العجب، يحضرني ما قرأته منذ قرابة ربع القرن مما كتبه ماركس بما معناه أنه ليس من عجبٍ في أن العامل (أو طاقته) يُباع ويُشترى حين يُعرض سلعةً في السوق، ولكن موطن العجب يكمن في كون الإنسان – العامل في هذه الحالة- صار سلعةً من الأساس.
لقد تخطى السيسي في أزمته الاقتصادية تلك الموانع «الوطنية»… من المفاهيم التقليدية الراسخة في الذهنية والنفسية المصرية، فهو يظن، بثقته التي لا تعرف حدودًا في نفسه وفهلوته، وأن تلك المعاني ليست سوى ألعابٍ كلامية يضحك بها على الجمهور، وإذ قبل وتشرب منطق السوق ذاك، فسوف يبيع كل ما يمكن أن يباع، وستصير مصر، مفككةً إلى مكوناتها الاقتصادية، مجموعةً من السلع، حتى «تُسلع» تمامًا كما شُردت ملايين من قوة العمل فيها في بلدان الجوار العربي بوجه أخص، بوصفهم سلعةً أيضًا بيعت بخسًا طيلة عقود.
بطبيعة الحال سيلقي النظام وأبواقه الإعلامية اللائمة على الحرب الأوكرانية والمؤامرات الكونية، وسيعد بانطلاقةٍ مبهرة حين ميسرة، إلى غيرها من الألعاب مما قد نستفيض فيه في مقالٍ آخر، ولكن الأكيد أن زمام الشأن الاقتصادي قد أفلت من أيدي النظام، فهو الآن في قلب الدوامة، يقترض ليسدد ثم يبيع أصولًا ليسدد القرض ويضيق على الناس ويحلب كل ما يستطيعه منهم، بينما يستمر في سفهه، وما لم تحدث وقفة وتغيير في السياسات، أو شيءٌ خارق وغير منظور كهبوط ثروةٍ نفطية كالتي للمملكة السعودية مثلًا (وذلك يستغرق وقتًا بالمناسبة ليخلف ثروةً)، فستستمر هذه الدوامة للأسف في شد البلد نحو الأعمق، ولن أقول القاع لأنني لا أعرف، ومن ثم لا أستطيع أن أجزم بتعريفٍ أو وصفٍ للقاع، إذ توجد سيناريوهات عدة تتفاوت في القبح ودرجة العنف والبشاعة والفزع. لست مستبعدًا إطلاقًا من السيسي اللجوء إلى العنف ما فشلت الوعود وأساليب المحايلة، وربما يتدخل المانحون الإقليميون من عينة الإمارات والسعودية مبكرًا بتغييرٍ في القصر بإزاحته والإدارة شبه المباشرة للملف الاقتصادي لمنع إفلات زمام الأمور.
يصعب التكهن تحديدًا بما سيحمله العام الجديد، ولكن حالة الهدوء النسبي والرتابة غالبًا ستنكسر، وسيكون حافلًا بالأحداث والتطورات.
يحيى مصطفى كامل – كاتب اشتراكي ثوري
نشر المقال أول مرة في جريدة القدس العربي بتاريخ 6 – يناير – 2023