
مواجهة المخاطر الناجمة عن الصراع العالمي وحدة كفاح الجماهير وحماية الادارة الذاتية
مواجهة المخاطر الناجمة عن الصراع العالمي وحدة كفاح الجماهير وحماية الادارة الذاتية
يشهد العالم تحولات واصطفافات ملموسة وأكثر وضوحا في سياسات الدول الإقليمية والدولية منذ بداية الحرب الأوكرانية في الشهر الثاني من هذا العام. هذه الحرب التي تتسم طبيعتها الأولى أنها حرب بالوكالة بين الضواري الإمبريالية، دون أن يعني ذلك غياب وجه من وجوه حرب تحرر وطني للشعب الأوكراني . ولكن السمة الغالبة عليها أنها حرب بين الإمبرياليات الشرقية والغربية على الأرض الأوكرانية. وهذا ليس حدثا جديدا في التاريخ الحديث.
بيد أن انعكاسات هذه الحرب بين الإمبرياليات تتجاوز الساحة الاوكرانية، وتتسع على الصعيد العالمي ما أدى إلى إعادة تموضع للدول الإقليمية، كما أن لهذه الحرب انعكاساتها الجيوسياسية والاقتصادية عالمياً: أزمتي الطاقة والحبوب، وفاقمت إلى حد كبير الأزمة الاقتصادية العالمية المزمنة، مع صعود جنوني للتضخم.
ويهمنا، بالنسبة لنا في سوريا، معرفة مدى تأثيرها على الوضع الراهن ومستقبله
اقليميا، استفادت إيران من هذه الحرب لتحسين شروط مفاوضاتها في ملفها النووي، وتعزيز حاجة روسيا لها، على الصعيدين العسكري والاقتصادي، مثل شراء روسيا المسيرات الإيرانية وغيرها، وأيضا لتخفيف تأثير العقوبات عليها. وهذا التحسن في وضع إيران يتجلى في تحسن تموضعها في سوريا نفسها، هذا من جهة.
اما من جهة تركيا، فإنها أيضا استفادت من حاجة كلاً من روسيا وامريكا وحلف الناتو لها، لتحاول تحسين وضعها الاقتصادي المتدهور، يرافقه سعيها على إعادة رسم تموضعها الإقليمي الذي انهكه، لسنوات طويلة، جموحها العسكري الاقليمي، والذي لم يعد اقتصادها قادر على تحمّل تبعاته، والذي كان له أثر كبير في زيادة عزلتها وعدائية الدول الإقليمية الأخرى لها. وهو ما بات مكلفاً كثيرا لها. إضافة إلى تأثيره في تفاقم أزمتها السياسية والانتخابية الداخلية.
في حين أن دولة الكيان الصهيوني العنصرية التي استطاعت، في الوهلة الأخيرة، برعاية أمريكية وبفضل حسن علاقاتها مع روسيا، أن تقوم باختراق هام في تطبيع علاقاتها مع عدد من الأنظمة العربية، تجد نفسها اليوم في موضع جديد تعيد فيه ،مثلها مثل بقية الدول، تحديد تموضعها الجديد وفق المعطيات المتحركة للصراع العالمي، ولا سيما أن موقفها الصريح بمعاداة الحرب الروسية في أوكرانيا، أضعف التعاون الروسي السابق معها في سوريا والمنطقة. في الوقت الذي أصبحت فيه روسيا هي الدولة العظمى الأكثر حضوراً عسكرياً في سوريا وشرق المتوسط.
أما السعودية ودول الخليج، فإنها استفادت من هذا الصراع، لتخفيف الضغط السياسي الغربي عليها في عدد من الملفات، فأخذت موقفاً هو “بين بين” لأن ديمومة الصراع في اوكرانيا يسمح لها بزيادة عائداتها من النفط والغاز نتيجة ارتفاع أسعارها عالمياً، وهي بحاجة ماسة لها، لردم العجز في ميزانيتها. كما أنّ ديمومة هذ الصراع العالمي تتيح لها هامشاً من الاستقلالية لم يكن متوفراً لها من قبل.
وإن لم تكن ملامح النظام العالمي الجديد الذي قد يبزغ من هذا الصراع لم توضح بعد، وباعتقادنا انها ستكون مرحلة انتقالية طويلة المدى، لكننا لا يمكننا أن ننكر تأثيراته العنيفة والمخلخلة لما كان قائم في عالمنا، منذ الآن.
أما في ما يخصنا في سوريا، فاننا نلاحظ أن التهديد التركي بعملية عسكرية واسعة لم تحصل ، حتى الآن، وأهم أسباب ذلك أن كل من روسيا وامريكا وإيران أعلنت رفضها لها. لكن إجتماع قمة طهران الأخير لما يسمى بالدول الضامنة: روسيا، تركيا وايران، وبعدها قمة سوتشي الروسية -التركية. تشير مخرجاتهما إلى حصول مقايضات جديدة، أو محدثة، فيما بين هذه الدول.
اول تجلياتها هي التصريحات التركية التي تنحو للدعوة الى خطوات تطبيعية مع نظام الطغمة الحاكم في دمشق.
وثانيها، هو أن العملية العسكرية التركية باجتياح بري واسع قد تم استبدالها بحرب القصف والمسيرات المتواصلة، التي لا تقل خرابا وايلاما من حرب اجتياح، هذه “الحرب بين الحروب” التركية تحظى بموافقة روسية وايرانية وايضا امريكية.
هذا التحول يشكل منعطفا هاما في توافقات الدول المتدخلة في سوريا، حيث انه كشف هزالة وتبعية قوى سياسية مثل الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، التي فقدت لسانها وعقلها لتبرير الانعطافة التركية تجاه النظام، كما جرى مع الائتلاف، أو تم تعطيل أعمالها كما جرى مع اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض.
كما أن هذا التحول جعل منطقة الادارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، بين فكي كماش، اي تحت خطرين داهمين: اولهما، “الحرب بين الحروب” التي تشنها باستمرار تركيا، والتي تصبو منها هذه الدول إضعاف الادارة الذاتية، إن لم تستطع هزيمتها، ما قد يدفعها، كما يعتقدون، الى “احضان” النظام المستبد والعصي على الاصلاح.
وبالتالي فإن الخطر الثاني على الإدارة الذاتية هو نظام الطغمة نفسه، الذي يرى بعين الرضى الضربات التركية على الإدارة الذاتية ويعمل على الاستفادة منها للتغلغل في مناطقها، بانتظار الوقت المناسب للانقضاض عليها.
ويبدو أن هنالك ما يشبه من تقاسم للأدوار، تم التوافق عليه في هاتين القمتين، بين النظامين التركي والسوري، في عدائهما للادارة الذاتية. يمكن تلخيص هذه السياسة الجديدة تجاه الادارة الذاتية في سعي هذه الأطراف على دفع الادارة الذاتية ، كما يقول المثل الشعبي، ” للهروب من الدب لتقع في الجب”.
والحال، تتعرض اليوم الادارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، إلى حصار وحرب ومخاطر اشد مما كانت تتعرض لها سابقا. ما يتطلب تحليلا صحيحا للوقائع يسمح بوضع سياسات وممارسات مطابقة للواقع، لمواجهة هذه التحديات الجسيمة.
يرى بعض المعارضين الديمقراطيين، غير أولئك المرتزقة، أن الأمر لا يعنيه، والبعض الآخر يرى بكل انتهازية، أن يقلب معطفه، ويعيد اصطفافه اما مع تركيا أو/ النظام. في حين اننا نرى نحن في تيار اليسار الثوري ضرورة حشد كل الطاقات والعمل للدفاع عن سوريا الديمقراطية، اي عن الادارة الذاتية.
فالادارة الذاتية في شمال شرق سوريا بوجودها وحده، تجعل من إمكانية إعادة توحيد البلاد على أسس جديدة بنظام ديمقراطي ولا مركزي أمرا ممكنا، كما أن وجود الادارة الذاتية كمشروع، حقق للمرة الأولى في تاريخ بلادنا مشروعية حقوق القوميات والشعوب المتعددة، ولا سيما الشعب الكردي، التي تشكل ثراءا حضاريا لبلدنا، كما أن الإدارة الذاتية تميزت نوعيا عما كان قائم ، وما يزال، في مناطق اخرى، من انقسامات طائفية ودينية وعشائرية وقبلية ومناطقية، حيث تزدهر في مناطق الادارة الذاتية التعددية الحزبية والسياسية والإعلامية والثقافية، وهي تحمل في طياتها دينامية تحررية لعموم سوريا، بلا أدنى شك.
وأخيراً، إنها المرة الأولى في تاريخ بلادنا يكون للمرأة فيها حريتها ومكانتها في كل مواقع المسؤولية. لذلك فإننا نرى أن إجهاض هذا المشروع إنما يعني إجهاض لحقوق الشعب الكردي وبقية القوميات، وإجهاض للمشروع الديمقراطي، وإجهاض للمشروع الوطني التحرري لعموم السوريين .
انها لحظة حاسمة في تاريخ كفاح الشعب السوري من أجل الديمقراطية والتحرر، لا مكان فيها، بالنسبة لنا ولقوى الديمقراطية واليسار الجذري للتردد أو التراجع. فالأمر يتعلق بمصيرنا جميعا ولعقود طويلة من الزمن.
من هذا، يطرح الواجب علينا مهمات عاجلة وملحة؛ أولها إنهاض حملة مناهضة الحرب في بلادنا وتوسيعها وتفعيلها، وبالأخص مناهضة الحرب التركية المعلنة على شمال وشرق سوريا، وكذلك تفعيل العمل الدعائي الواسع، والمتعدد الاشكال، في كل المناطق، مع كل التجمعات السياسية والشعبية : من أجل حريتكم وحريتنا لندافع عن سوريا الديمقراطية، ونواتها في شمال شرق سوريا.
وايضا العمل على الصعيدين الإقليمي والأممي، لمواجهة خطر الحرب المستمرة على شعبنا عموما وفي شمال وشرق سوريا خصوصاً ، وتضامناً مع سوريا الديمقراطية ونواتها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، علاوة على عامل أساسي مهم هو العمل الحثيث على تطوير الإدارة الذاتية وجعلها أكثر التحاماً مع مصالح الجماهير الشعبية، وتوسيع المشاركة السياسية والشعبية فيها، بوصفها مشروعا وطنيا عاما لكل السوريين وأنموذجا لسوريا المستقبل.
وبكل الاحوال، ومهما كانت الظروف صعبة وقاسية، ومع ضرورة ممارسة كل المناورات التكتيكية اللازمة لحماية المشروع والمكاسب الديمقراطية والشعبية، فانه واجب علينا، مواجهة هذه المخاطر والتحديات بالمقاومة الشعبية الثورية، والقيام بكل ما يلزم، لمنع انتصار الضواري أعداء الشعوب، بل وهزيمتهم.
عاشت وحدة كفاح الجماهير السورية من أجل تحررها
عاشت سوريا الديمقراطية ونواتها الادارة الذاتية في شمال وشرق سوريا
تيار اليسار الثوري
إفتتاحية العدد 62 أيلول /2022 الذي سيصدر بعد أيام