
مع تزايد الأزمات التي تعصف بالنظام الرأسمالي، يزداد عدد من يعرّفون أنفسهم بأنهم اشتراكيون. جود ماككني يستعرض الاستراتيجيات اللازمة لتحقيق التحرر الحقيقي.
في مواجهة الإبادة الجماعية المستمرة، والفوضى المناخية، وتفاقم عدم المساواة، يتزايد عدد من يعرّفون أنفسهم بأنهم اشتراكيون، لأنهم يبحثون عن بديل للرأسمالية. لكن هناك العديد من الرؤى حول معنى الاشتراكية وكيف يمكننا تحقيقها.
على امتداد تاريخ الحركات الاشتراكية وأفكارها، كان الانقسام الأساسي دائمًا بين الاشتراكية من الأعلى والاشتراكية من الأسفل.
تشمل الاشتراكية من الأعلى مجموعة متنوعة من الأحزاب والحركات والدول. وقد تعني الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والإصلاحية اليسارية، أو الأنظمة في الجنوب العالمي التي تتحدى الإمبريالية، وكذلك الدول التي تُعرف رسميًا بـ«الشيوعية» مثل الصين.
ما يوحّدهم هو فكرة أن التغيير يأتي من أقلية مستنيرة تتصرف نيابة عن العمال ومن خلال تدخل الدولة.
وعلى العكس، جوهر الاشتراكية من الأسفل يكمن في أن الاشتراكية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تحرر الطبقة العاملة ذاتها. الفكرة تكمن في بناء مجتمع يُدار من القاعدة صعودًا عبر ديمقراطية العمال.
تُعد هذه الفكرة واحدة من أعظم مساهمات الاشتراكي الثوري، كارل ماركس، وهي ما يميز الماركسية عن غيرها من أشكال الأفكار الاشتراكية.
عبّر ماركس عن هذا بوضوح، قائلاً: «تحرير الطبقة العاملة يجب أن يكون فعل الطبقة العاملة نفسها».
تثبت الاضطرابات الثورية في التاريخ صحة ماركس، فهي تظهر قدرة العمال على تقويض العنف المتأصل في الرأسمالية، ومواجهة الأفكار والسلوكيات القمعية.
في عام 1917، أثبتت الثورة الروسية أن تحويل المجتمع لا يكون ممكنًا إلا عندما يتولى العمال أنفسهم السيطرة على مصائرهم.
في فبراير 1917، أطاح النساء والرجال بالقيصر. وبحلول أكتوبر، فتحت مجالس العمال، المعروفة بالسوفييتات، الباب أمام مجتمع اشتراكي قائم على تحرير الإنسان من خلال عملية المقاومة والنضال.
وبذلك بدأوا بمحو ما وصفه ماركس بـ«قمامة العصور»، الأفكار المتعصبة مثل التمييز الجنسي والخرافات. ففي حماسة الثورة تآكلت العلاقات الاجتماعية القديمة.
في كتابيه «الدولة والثورة» و«هل يمكن للبلاشفة الاحتفاظ بالسلطة؟»، جادل الثوري الروسي فلاديمير لينين بأن على الطبقة العاملة مهمتين إذا أرادت النجاح في الإطاحة بالرأسمالية.
أولاً، يجب أن «تحطم كل ما هو قمعي وروتيني ولا يُصلح، وكل ما هو برجوازي لا يُطاق في جهاز الدولة القديم».
لكن هذا كان لا بد أن يقترن بخلق الطبقة العاملة «لجهازها الجديد الخاص، سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين».
تخلق الرأسمالية الأدوات التي تمكّن العمال من إدارة مجتمعهم. فالعمال هم من ينتجون الثروة ويحافظون على استمرار الاقتصاد والمجتمع.
العمال أنفسهم هم الأكثر قدرة على إدارة واستغلال البنى التحتية التي تُبقي المجتمع مستمرًا. من خلال الاستيلاء على هذه الموارد، يمكن للعمال تحقيق ما يفوق بكثير ما هو ممكن تحت الرأسمالية، إذ يقودهم الدافع ليس الربح، بل الاحتياجات. وهذا بالضبط ما حدث في أماكن العمل الروسية.
في السنوات التي أعقبت مباشرة الثورة الروسية عام 1917، جرى تأميم جميع الأراضي. تولت لجان العمال إدارة أماكن العمل، ووضعت خطط فورية لبناء مدينة ما بعد الرأسمالية.
يصف المؤرخ ستيفن سميث كيف بدأ العمال أثناء الثورة بإصدار الأوامر للمدراء. فقد تولى العمال إدارة مصانعهم بأنفسهم عبر مجالس المصانع، ومن خلال السوفييتات العمالية الأكبر بدأوا بتوجيه المجتمع بأسره أيضًا.
لكن المضيّ أبعد من ذلك كان يعتمد على انتشار الثورة، وعلى تلقي الدعم من دول رأسمالية أكثر تقدمًا مثل ألمانيا وبريطانيا.
وذلك لأن الاشتراكية في بلد واحد أمر غير ممكن. فبدون انتفاضة دولية، وجدت الطبقة العاملة الروسية نفسها معزولة ومحاصرة، لتتعرض للإضعاف بفعل الثورة المضادة والحرب الأهلية.
وقد أدى ذلك إلى تدمير السوفييتات، وأصبحت السلطة أكثر فأكثر بيد الحزب البلشفي الذي وجد نفسه يدير جهازًا بيروقراطيًا ضخمًا.
تحولت هذه البيروقراطية إلى طبقة حاكمة جديدة في نظام رأسمالي دولتي. لكن خلال بضع سنوات، أثبت العمال أنهم قادرون على تنظيم المجتمع وإدارته على أساس مبادئ المساواة والعدالة للجميع.
تشهد روايات المشاركين في الحركات الثورية الأخرى على قدرة العمال على الاعتماد على بعضهم البعض لتلبية احتياجات السكان.
عندما أطلق الجنرال فرانسيسكو فرانكو انقلابَه العسكري في إسبانيا، لم يكن يتوقع أن يشعل بذلك حركةً ثورية.
في يوليو 1936، تحولت برشلونة إلى متاهة من المتاريس، وقد أتاحت اللجان الثورية في الأحياء للمجتمعات المحلية أن تتولى السيطرة وتمارس سلطة جديدة على تفاصيل الحياة اليومية. وتحوّلت الجدران والأسطح إلى مساحة نابضة بالملصقات والبيانات والرسوم، في عرض ديمقراطي للمعرفة.
استولى العمال على الأحياء الراقية، وممتلكات الكنائس، والمكاتب، والفنادق الفخمة، حيث حوّل بعض هذه الأماكن إلى مطابخ جماعية وملاجئ للمشردين. وقد تم تنظيم دور حضانة في المصانع، وأُغلِقت السجون. وكانت المدينة بأسرها تقريبًا تحت سيطرة العمال بالكامل.
قال عامل السكك الحديدية نارسيسو جوليان: «كان الأمر لا يُصدق، دليل عملي على ما نعرفه من التاريخ. قوة الجماهير وصلابتها عندما تنزل إلى الشوارع».
شرع العمال في تدمير مظاهر المجتمع الكاثوليكي الذي اضطهدهم، وبرزت النساء في المقدمة. وفي غضون أسابيع، تم تقنين الإجهاض، ونُشرت معلومات عن وسائل منع الحمل، وأُعيد تعريف حقوق الزواج بالكامل.
عاشت روزا فيغا في برشلونة عندما استولى العمال على مدينتهم عام 1936، وكتبت: «كان الظلام دامسًا لدرجة أنني كثيرًا ما اصطدمت بالناس في الشوارع».
وأضافت: «ولكن لم أتعرّض مطلقًا لأي تحرش، ولم أشعر أبدًا أنني مجرد امرأة. قبل الحرب، كانت هناك تعليقات من نوع أو آخر—أما الآن، فقد اختفت تمامًا. لم تعد النساء أشياء، بل كنّ بشراً على نفس المستوى مع الرجال».
لم يدم ذلك طويلاً، فقد كان الانتقام قاسياً، حيث دُمّرت هذه الدعوة الاستثنائية لتخيل عالم آخر. مهد خيانة الستالينيين في إسبانيا، الذين لم يرغبوا في ثورة من الأسفل، الطريق أمام انتصار الفاشية.
لكن استغرق فرانكو أربع سنوات أخرى لهزيمة الثورة نهائيًا، وكانت النتيجة أربعة عقود من الفاشية والقمع.
لكننا لا نحتاج للعودة بعيدًا لنرى لمحات من إمكانية ديمقراطية العمال.
تؤكد الانتفاضات في القرن الحادي والعشرين أن هناك دروسًا يمكن أن نتعلمها من روسيا وإسبانيا يمكن تطبيقها اليوم، فهي تضيء الطريق نحو مجتمع ديمقراطي واشتراكي يقوده العمال.
في عام 2018، اندلعت احتجاجات في السودان بعد أن تضاعف سعر الخبز ثلاث مرات، وتحوّلت بسرعة إلى ثورة سياسية. وخوفًا من حجم الاحتجاجات، حاول القادة العسكريون القيام بانقلاب.
لكن هذا قوبل برد فعل غاضب كان يحمل إمكانية دفع انقلاب جذري للنظام بأكمله.
تم إنشاء لجان مقاومة مفتوحة لجميع من عارض الانقلاب العسكري، وقد نظمت هذه اللجان جميع جوانب الحياة، مثل توزيع الأدوية، وأقاموا المتاريس، ونظموا توفير الطعام والماء والأمن، وبدأوا بالمشاريع الثقافية.
في عام 2019، كتبت صحيفة فاينانشال تايمز: «لا يمكن للمرء أن يعرف على وجه اليقين كيف كان شعور روسيا في عام 1917 أثناء الإطاحة بالقيصر، أو فرنسا في عام 1871 في الأيام المفعمة بالحب المثالي للكمونة الباريسية قصيرة العمر، لكن لا بد أن الشعور كان مشابهًا لما حدث في الخرطوم في أبريل 2019».
«كل يوم، يتدفق عشرات الآلاف، وأحيانًا مئات الآلاف، من الناس من جميع أركان المدينة المسطحة كالفطيرة ليقفوا في الغبار والحرارة أمام بوابات المجمع العسكري. هناك، في مشهد من الاحتفال الصاخب المصحوب بهتافات وأغاني وشِعر وخطب ومزاح، أقاموا متاريسهم الخاصة وخيامهم الطبية».
لكن هذه اللجان المقاومة لم تتحول أبدًا إلى مجالس عمالية كان بإمكانها تحدي الدولة ونشر الثورة.
تنازل القادة السياسيون في السودان عام 2019 بتشكيل حكومة انتقالية لتقاسم السلطة، مما أتاح للجنرالات إعادة تنظيم صفوفهم والاستيلاء على السلطة في عام 2021.
بحلول عام 2023، انقلب قادة الحرب على بعضهم البعض، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية دموية ووحشية—لكن عدوهم المشترك كان الثورة.لفترة من الزمن، أظهر السودان كيف يمكن أن تبدو الثورة من الأسفل، وإمكانية الناس العاديين في التنظيم ضد حكامهم.
كان بإمكان هذه اللجان أن تشكل أساس حكومة عمالية جديدة، لكن ما كان ينقصها هو وجود منظمة ثورية قادرة على صياغة الأفكار الاشتراكية والاستراتيجية ضمن الطبقة العاملة الأوسع.
كانت منظمة تحمل ذاكرة الطبقة وأفضل تجارب الاشتراكية من الأسفل، قادرة على الدفاع عن دولة العمال، وكان بإمكانها أن تكون بديلاً حقيقياً للعالم الرأسمالي المليء بالجشع والحروب والقمع الذي نعيش فيه.
ترجمة وإعداد هيئة التحرير
