
إن الأساس النظري للماركسية يختلف بشكل جذري عن أي نوع من الأيديولوجيات القومية. فمحرك التاريخ بالنسبة للماركسية هو الصراع الطبقي. وبالتالي فإن التناقض أو الصراع الأساسي في العالم المعاصر هو التناقض والصراع بين الطبقة العاملة العالمية والطبقة الرأسمالية العالمية. وتعتبر الانقسامات القومية ظاهرة ثانوية بالنسبة للصراع الطبقي، وكما يعلن البيان الشيوعي، إن العمال ليس لهم وطن.
أما القومية فهي ترى العالم منقسما ليس إلى طبقات وإنما إلى قوميات. وبالتالي فالصراع الطبقي يشكل التهديد الأعظم لجميع أشكال القومية من الفاشية إلى الحركات الوطنية اليسارية التي يتبنى أطروحاتها العديد من نظم العالم الثالث. فالصراع الطبقي يهدد بتقويض الوحدة الوطنية والتضحية بالمصالح الوطنية باسم المصالح الأنانية لقطاع واحد من “الأمة”! وتأخذ الحركات الوطنية أبعادا تبدو راديكالية أو رجعية على حسب مصدر التهديد للمصالح الوطنية، فإذا كان التهديد قادما من العمال “الطماعين” فتبدو رجعية، وإذا كان التهديد قادما من الرأسمالية الاحتكارية أو “الكومبرادورية” أو الطفيلية تبدو الحركات الوطنية راديكالية أو يسارية!
والماركسية لا تختلف فقط مع القومية من حيث الإطار النظري ولكنها تختلف أيضا في استراتيجيتها. فالثورة بالنسبة للماركسيين هي ثورة أممية، وقد أوضح ماركس وإنجلز أن الدور التاريخي لرأس المال كان في خلق اقتصاد عالمي موحد وأن اقتصاديات الدول المختلفة هي مكونات جزئية من الاقتصاد العالمي، واعتبر ماركس وإنجلز أن توحيد القوى الإنتاجية على مستوى العالم هو الشرط الموضوعي لإقامة الشيوعية. وفي جزء شهير من كتاب الأيديولوجية الألمانية رفض ماركس وإنجلز بشكل واضح إمكانية بناء الاشتراكية في بلد واحد:
إن تطور قوى الإنتاج على المستوى العالمي هو الأساس العملي الضروري، لأن بدونه تصبح الحاجة ظاهرة عامة، ومع الحاجة يبدأ من جديد الصراع من أجل ضروريات الحياة، ويعاد بالضرورة تشكيل النظام القديم بكل قذارته.
إذن فلابد للثورة الاشتراكية أن تكون أممية حتى تنجح، وقد كان ذلك واضحا بالنسبة للبلاشفة، فعندما وصلت الطبقة العاملة إلى السلطة في أكتوبر 1917، كانوا يرون أن بقاء الدولة السوفيتية يعتمد بالأساس على نشر الثورة إلى أوروبا الغربية. وعلى هذا الأساس أخذ البلاشفة المبادرة في تكوين الأممية الشيوعية في 1919، وقد أعلن ميثاق الأممية الشيوعية: “إن هذا التنظيم الأممي الجديد للعمال قد أنشئ من أجل تنظيم الممارسة المشتركة لبروليتاريا الدول المختلفة من أجل تحقيق هدف واحد، وهو الإطاحة بالرأسمالية وتكوين الجمهورية السوفيتية الأممية والتي ستلغي كل الطبقات وتحقق الاشتراكية، أولى مراحل المجتمع الشيوعي.”
وتاريخيا تفجر السجال حول المسألة القومية مع بداية الحرب العالمية الأولى. وقد تفتتت الأممية الثانية تحت وطأة الحرب وانقسمت انقساما حادا إلى موقفين متعارضين. الموقف الأول كان الذي تبناه الاشتراكيين الشوفينيين مثل نوسك، وإيبرت وشايدمان في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. وقد تبنى هؤلاء بشكل واضح موقف طبقتهم الحاكمة. أما الموقف الثاني فقد كان موقف اليسار الراديكالي بقيادة روزا لوكسمبورج والتي عارضت بقوة الحرب الإمبريالية ورفضت شعار الاستقلال الوطني كشعار رجعي تاريخيا.
وقد تضمن هذا الجناح أمثال جوزيف شتراسر وأنتوني بانيكوك اللذين أصبحا فيما بعد من أهم قادة الشيوعية اليسارية في ألمانيا بعد 1918. كما ضم أيضا هذا الجناح بلاشفة مثل بوخارين وبياتاكوف. أما لينين فقد تبنى موقفا مستقلا مغايرا. فقد أيد مطلب حق تقرير المصير الوطني ولكن فقط كجزء لا يتجزأ من النضال ضد الإمبريالية. وقد تبنى هذا الموقف أولا لأنه كان مقتنعا بأن كسب عمال الدول الإمبريالية لموقف تأييد حق تقرير المصير للقوميات المضطهدة بما في ذلك حق الانفصال، هو شرط أساسي لتحطيم سيطرة الأفكار الشوفينية على عقولهم، فقد كتب لينين:
“في التثقيف الأممي لعمال الدول المضطهِدة يجب أن يكون التركيز على الدفاع عن حرية الأمم المضطهَدة في الانفصال والنضال من أجل ذلك.”
وكان هذا الطرح أساسا تعميما للأسباب التي أعطاها ماركس لتأييد الأممية الأولى للاستقلال الأيرلندي. فقد كتب ماركس في 1870:
“كل مركز صناعي و تجاري في إنجلترا لديه طبقة عاملة منقسمة إلى معسكرين متعاديين، معسكر البروليتاريا الإنجليزية، ومعسكر البروليتاريا الأيرلندية. إن العامل الإنجليزى العادي يكره العامل الأيرلندي كمنافس يقلل من مستوى معيشته، و تجاه العمال الأيرلنديين يشعر العامل الإنجليزى أنه عضو في الأمة الحاكمة وبالتالي يحول نفسه إلى أداة في أيدي أرستقراطي ورأسمالي بلده ضد أيرلندا، ويقوي بالتالي سيطرتهم عليه هو نفسه، وهو يمتلئ بالأحقاد الدينية والاجتماعية والقومية ضد العامل الأيرلندي. أما الأيرلندي فهو يدفع له من نفس المال وبفائدة، فهو يرى العامل الإنجليزى كمتواطئ وكأداة غبية في يدي الحكم الإنجليزي في أيرلندا. ويتم الإبقاء على هذا التناقض بشكل مفتعل من خلال الصحافة والجرائد الساخرة وكل الأدوات الموجودة لدى الطبقة الحاكمة. إن هذا التناقض هو سر عجز الطبقة العاملة الإنجليزية رغم تنظيمها، وهو سر قدرة الطبقة الرأسمالية على البقاء في السلطة، وهذه الطبقة واعية تماما بذلك.”
وكان على الاشتراكيين البريطانيين إذن تأييد الاستقلال الأيرلندي كجزء من النضال لتوحيد الطبقة العاملة في بريطانيا نفسها. وبعد خمسين عاما في عالم أصبحت فيه الانقسامات التي تحدث عنها ماركس في بريطانيا ظاهرة عالمية على يدي الإمبريالية طور لينين الأطروحة إلى دفاع عام عن حق الأمم المضطهدة في تقرير المصير.
ولكن مساندة حق الأمم في تقرير المصير لم يكن فقط وسيلة لمناهضة الشوفينية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. فقد رأى لينين هذا الموقف كأحد العوامل في استراتيجيته لتعبئة جماهير المستعمرات ضد الإمبريالية. وهنا كان موقف لينين يفصله بشكل راديكالي عن المواقف السابقة. فخلال السجالات حول المسألة القومية في الأممية الثانية كانت المسألة يتم مناقشتها أساسا كمسألة أوروبية. وكانت المستعمرات مسألة منفصلة لن يتم الالتفات إليها إلا بعد الثورة!
غير لينين هذه الرؤية تماما. وكانت الثورة الروسية نفسها تحديا للنظريات التطورية التي أنشأها منظري الأممية الثانية. فقد أوضحت كيف يمكن للطبقة العاملة الوصول إلى السلطة في بلد متخلف نسبيا قبل إزاحة الرأسمالية في ألمانيا أو بريطانيا. وأصبحت جماهير المستعمرات بالنسبة للينين قوة يجب كسبها للنضال ضد الرأسمالية والإمبريالية. كانت المسألة القومية قد تم دمجها بشكل نهائي مع النضال ضد الإمبريالية. وفي مناقشات المؤتمر الثاني للأممية الثالثة كان يشار إلى القضية تحت عنوان “المسألة القومية والاستعمارية”. فقد طرح تروتسكي أن “ما يميز البلشفية حول المسألة القومية هو أنها في موقفها تجاه الأمم المضطهدة، حتى أكثرها تخلفا، ترى أنهم ليسوا فقط موضوع ولكن فاعل في السياسة.”
وطرح لينين ضد هؤلاء الثوريين الذين رأوا أن النضالات القومية هي انحراف عن الصراع الطبقي:
“إن تصور أن الثورة الاجتماعية ممكنة دون تمردات الأمم الصغيرة في المستعمرات وفي أوروبا، وبدون الانفجارات الثورية لقطاع من البرجوازية الصغيرة بكل أحقادها، وبدون تحرك للقطاعات غير الواعية سياسيا من البروليتاريا، والجماهير شبه البروليتارية، ضد اضطهاد ملاك الأراضي والكنيسة والملكية وضد الاضطهاد القومي … الخ، إن تصور ذلك هو في واقع الأمر رفض للثورة الاجتماعية، وكأن هناك جيش يقف في موقع ويقول نحن مع الاشتراكية، وجيش في موقع آخر يقول نحن مع الإمبريالية. وهكذا ستكون الثورة الاجتماعية. إن من يتصور ثورة اجتماعية نقية لن يعيش ليراها.”
إن الاستنتاج من ذلك هو أنه في زمن الإمبريالية ستتطور انفجارات اجتماعية عميقة تأخذ أحيانا أشكالا قومية وتتطور في اتجاه معاد للإمبريالية. ولكن هذا الموقف لم يعن أبدا بالنسبة للينين أي تنازلات أمام الأيديولوجيات القومية. فكان يرى التأييد لحق الأمم في تقرير المصير كأداة لخلق الوحدة الأممية للطبقة العاملة وليس لتدميرها. وكان لينين حذرا في التمييز بين مهام الثوريين في الدول المضطهِدة والدول التي تعاني من الاضطهاد. ففي الدول الإمبريالية المضطهِدة يكون العدو الأساسي هو قومية المضطهِدين، وعلى الاشتراكيين أن يناضلوا لتأييد حق تقرير المصير لمواجهة سيطرة الشوفينية في الحركة العمالية وكاستعراض عملي للأممية.
أما في الدول التي تعاني من الاضطهاد فعلى الثوريين الدمج بين المعارضة الحادة للإمبريالية والنضال الواضح من أجل الوحدة الأممية للطبقة العاملة. وهذا يعني النضال الأيديولوجي والسياسي ضد الوطنيين البرجوازيين الذين يحاولون إخضاع الصراع الطبقي تحت الصراع القومي. وفي بعض الحالات على الثوريين معارضة ممارسة تقرير المصير، ومن خلال وجهة النظر هذه لم يكن موقف لوكسمبورج حول استقلال بولندا خاطئا، بقدر ما كان محدودا. فقد كانت محقة تماما كثورية بولندية في محاربتها لشوفينية الحزب الاشتراكي البولندي. ولكنها كانت مخطئة في مطالبها بأن يعارض الثوريين في الدول المضطهدة شعار الاستقلال البولندي. وكان على الطبقة العاملة البولندية أن تقرر إذا كانت تريد الاستقلال الوطني، وكان واجب العمال الروس والألمان أن يؤيدوا حقهم في ذلك الاختيار.
ولكن من الخطأ الاستنتاج بأن لينين كان يطرح أن على الثوريين في البلاد التي تعاني من الاضطهاد أن يعارضوا بشكل عام الحركات المطالبة بحق تقرير المصير وأن يتركوا مهمة تأييدها للثوريين في الدول المضطهدة. مثل هذا الموقف يعني أن على الاشتراكيين الأيرلنديين أن يتخلوا عن النضال ضد الإمبريالية البريطانية. فعندما يصبح مطلب الاستقلال الوطني هو مركز النضال الجماهيري ضد الاضطهاد، يكون واجب الثوريين هو المشاركة في ذلك النضال، بل العمل من أجل قيادته. وهذا لا يعني، من ناحية أخرى، قبول الأيديولوجية القومية، ولكن أن يقدموا استراتيجية مميزة لتحقيق حق تقرير المصير على أساس قيادة ونهج الطبقة العاملة.
إذن فبالنسبة للينين، لا يعني تأييد حركات التحرر الوطني على الإطلاق التنازل عن أو المساومة حول الاستقلال السياسي والتنظيمي للحركات العمالية في الدول التي تعاني من الاضطهاد. وقد جاء في “أطروحات حول المسألة القومية والاستعمارية” الذي تبناه المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية في 1920:
لابد أن يكون هناك نضال حاسم ضد محاولات إعطاء حركات التحرر الثورية في البلدان المتخلفة، والتي ليست شيوعية بحق، لونا شيوعيا. إن واجب الأممية الشيوعية هو تأييد الحركات الثورية في المستعمرات والبلدان المتخلفة فقط بهدف تعبئة العناصر المكونة للأحزاب البروليتارية المستقبلية، والتي ستكون شيوعية حقا وليس فقط اسما في البلدان المتخلفة، وتثقيفهم وتوعيتهم بمهمتهم الخاصة، وهي النضال ضد الاتجاه البرجوازي الديمقراطي في بلدانهم. لابد على الأممية الشيوعية التعاون الأولي مع الحركات الثورية في المستعمرات والبلدان المتخلفة، وحتى التحالف معها، ولكن ليس الاندماج فيها. ولابد أن تحافظ بشكل غير مشروط على استقلالية الحركة البروليتارية حتى وإن كانت في مرحلتها الجنينية.
كان موقف لينين إذن مناهضا تماما لكل محاولات إخضاع الطبقة العاملة لحركات التحرر الوطني متعددة الطبقات، فهذه المحاولات، من الكومنتانج في الصين في العشرينات إلى المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا في الثمانينات، أدت إلى تدمير كامل للمعارضة اليسارية داخل هذه الحركات.
وقد كان على تروتسكي تطوير الرؤية اللينينية حول المسألة القومية من خلال نظرية الثورة الدائمة. تطرح هذه النظرية والتي وصلت إلى نضجها وشكلها العام كنتيجة للثورة الصينية في 25-1927، أن نضال البلدان المتخلفة من أجل الاستقلال الوطني لا يمكن أن ينجح إلا إذا قامت الطبقة العاملة بقيادته وتحويل هذا النضال من خلال هذه العملية إلى نضال من أجل السلطة العمالية ومحاولة نشر الثورة الاشتراكية الناجحة إلى البلدان الأخرى.
عكس هذا الموقف فهم تروتسكي أن تطور الإمبريالية قد أدى إلى وضع أصبحت فيه الشروط الموضوعية للاشتراكية متوفرة ليس في بلد معين، وإنما على المستوى العالمي، في حين أن إدماج كل البلدان في النظام الرأسمالي العالمي يعني أن الاستقلال الوطني الحقيقي مستحيل مع استمرار هذا النظام العالمي. كان استنتاج تروتسكي، على خلاف لوكسمبورج التي رأت أن كل حركات الاستقلال لم تعد لها أهمية ولها طبيعة رجعية، أن هذه الحركات لا يمكن أن تنجح إلا إذا تطورت إلى نضال أممي من أجل سلطة الطبقة العاملة.
وقد سيطر على الأحزاب اليسارية الستالينية، خاصة في بلدان العالم الثالث، منذ الثلاثينات استراتيجية مغلوطة حول المسألة القومية والتحرر الوطني. وهذه الرؤية هي تماما ما كان يحذر منها لينين، وهي التنازل عن استقلالية الطبقة العاملة، وإعطاء الحركات الوطنية لونا شيوعيا. وكان المنظور الستاليني يطرح أن التحرر الوطني مرحلة سابقة على الثورة الاشتراكية، وبالتالي فعلى الشيوعيين الدخول في جبهات وطنية تضم كل القوى المعادية للاستعمار والإمبريالية حتى يتم الاستقلال التام، ويتم إرجاء مسألة الثورة الاشتراكية إلى ما بعد هذه المرحلة الوطنية.
وهذا تماما ما حدث في ثورة الصين 25-1927 حيث دخل الحزب الشيوعي الصيني جبهة الكومنتانج البرجوازية الوطنية بحجة أن الهدف الأساسي هو التخلص من الاستعمار وأن التناقض الأساسي هو التناقض مع الإمبريالية وليس مع البرجوازية المحلية، وعلى أساس هذه الرؤية لم يؤيد الشيوعيون الصينيون ثورة العمال في شنغهاي، وكانت النتيجة مذبحة للعمال على يد نفس الكومنتانج الذي دخل فيه الشيوعيون، وتلا ذلك تصفية كاملة للشيوعيين أيضا.
وظلت هذه الاستراتيجية تتسبب في كارثة تلو الأخرى في البلدان المختلفة. ففي إندونيسيا، تحالف الشيوعيون في جبهة واسعة مع القوى الوطنية وكانت النتيجة مذبحة للشيوعيين. وفي السودان والعراق حدث نفس الشىء. وفي كل مرة رغم المذابح والهزائم يردد الشيوعيون نفس الكلام ويظلون يبحثون عن جبهة وطنية واسعة، ويخونون الثورة العمالية ويتنازلون عن استقلالية الحركة.
وفي مصر نجد نفس المأساة تتكرر مرة تلو الأخرى، في النصف الثاني من الأربعينيات حيث كان هناك تصاعد حاد في الصراع الطبقي من جانب وتصاعد في الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني، كانت استراتيجية الشيوعيين استراتيجية تحرر وطني قلبا وقالبا. وكانت المرحلة بالنسبة لهم هي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية: نتخلص سويا من الاستعمار والملك وكبار الملاك أولا، وفيما بعد نتحدث عن المرحلة الاشتراكية وسلطة العمال – الجبهة الوطنية أولا ثم العمال، أي إخضاع الصراع الطبقي لأولويات الصراع الوطني.
وذلك على الرغم من أن الطبقة العاملة كانت القوة الجماهيرية الوحيدة المؤهلة لقيادة النضال ضد الاستعمار وضد الرأسمالية في آن واحد، وجذب جميع القطاعات المضطهدة ورائها والمضي قدما إلى خلق سلطة عمالية. ولكن طريقا مثل هذا كان يعتبر كفرا بنظرية المراحل المقدسة، وهلوسة من الهلاوس التروتسكية!! ولكن ماذا كانت نتيجة الاستراتيجية الجبهوية الوطنية؟ انقلاب عسكري قضى على كل المنظمات العمالية وأدخل الحركة الشيوعية الوطنية الديمقراطية إلى السجن! ولكن الشيوعيين المصريين ظلوا ثابتين على دينهم ولم يتراجعوا عن استراتيجيتهم الوطنية، بل أخذوا هذه الاستراتيجية إلى آفاق مأساوية جديدة. فعندما بدأ عبد الناصر في تنفيذ ما اعتبروه إجراءات وطنية، مثل تأميم القناة وتأميم بعض الصناعات وترديد الشعارات المعادية للإمبريالية وإسرائيل، قرروا حل منظماتهم والانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي، أي أنهم دخلوا نفس النظام الذي أمم الحركة العمالية وقضى عليها وأدخلهم هم أنفسهم إلى السجن!! ولما لا، فنظام عبد الناصر نظام وطني، وهم في المرحلة الوطنية الديمقراطية، فأين التناقض؟!
وحتى في السبعينات، حيث ظهر ما يسمى باليسار الراديكالي، ماذا كانت شعاراتهم وأطروحاتهم؟ هل كانت سلطة العمال وقيادة الطبقة العاملة لكل القطاعات المضطهدة ولكل القضايا الوطنية والديمقراطية؟ بالطبع لا، فقد ظلوا يخضعون الصراع الطبقي لأولويات الصراع ضد الإمبريالية وظلت شعاراتهم وتكتيكاتهم واستراتيجياتهم تخضع الطبقي للوطني، والعمالي للجبهوي، والأممي للقومي.
القومية والرأسمالية
لا شك في أن القومية تعد من أكثر الظواهر تأثيرًا على عالمنا المعاصر. افتح أي صحيفة، استمع إلى المناقشات في الجامعة، أو تابع الأخبار، وسترى كيف أن فكرة أن العالم مقسم إلى أمم أو دول هي أمر بديهي. فالمستغلون يعتبرون أنفسهم أعضاء فيما يسمى دولة قومية يفخرون بإنجازاتها، ويعانون حين تحرج أو تهان. وبالنسبة لهم، فالتفسير الأقرب لكل ظواهر السياسة العالمية هو واقع انقسام العالم إلى دول مبنية على قوميات مختلفة.
والحقيقة أن الظاهرة القومية لها أهمية استثنائية في عالم الرأسمالية المعاصر. فهي القالب الذي تتحرك من خلاله دولة البرجوازية فتسن القوانين، وتشن الحروب، وتشارك في الألعاب الأولمبية! والظاهرة القومية لذلك متشعبة للغاية. فهناك قومية الدول الاستعمارية القديمة، وهناك قومية أقلياتها مثل الباسك في أسبانيا، وهناك قومية التحرر الوطني في دول العالم الثالث، وهناك الصراعات القومية / العرقية التي اجتاحت العالم مؤخرًا في كوسوفو ورواندا وبوروندي وغيرها. ولذلك فإن القومية شكلت دائمًا سؤالاً مركزيًا للاشتراكيين الثوريين ولأحزابهم ومنظماتهم، ومثلت تحديًا أساسيًا للماركسية كنظرية تفكر في تغيير العالم على أساس أممي.
إذ يمكننا أن نرى أن الأفكار الأساسية للقوميين تتناقض مع لب الأفكار الماركسية، من حيث أن رؤية القوميين تؤكد على أن مصدر الصراع في عالمنا المعاصر هو التناقض فيما بين الدول القومية المختلفة. يرى القوميون بالتبعية أن الصراع بين الطبقة الحاكمة المستغلة وبين الأغلبية من جماهير المستغلين ينبغي أن يوضع في مرتبة ثانوية، هذا إن لم يتم إلغاء تأثيره تمامًا.
وهكذا نجد أن الحركات القومية تعتبر أن كلاً من الماركسية والماركسيين يمثلان تهديدًا لوحدة الأمة في مواجهة الأخطار الخارجية، وأن الصراع الطبقي يعد تغليبًا لمصلحة فئة على أخرى دون حق. هذا بينما ترى الماركسية على العكس أن الانقسامات القومية هي صورة خاصة من تجليات الصراع الطبقي، وإن صعود ثم رسوخ الدولة القومية يعتبر استجابة لمتطلبات تطور الرأسمالية العالمية، وإن نظام الدولة القومية هو شكل سياسي فريد يتحكم في الشعوب لتسهيل استغلالها بواسطة رأس المال.
ومن الطبيعي أن يقود هذا الخلاف في الأفكار الرئيسية إلى خلاف في استراتيجيات التغيير. فالتيارات القومية ترى أن الثورة الوطنية، أو السعي لإحياء روح الانتماء القومي، هما الطريق لتحرير الشعوب ولرفعتها وتخليصها من أعداءها القوميين. أما الماركسيين الثوريين فيرون على النقيض أن الثورة الاشتراكية المنتصرة لا يمكن إلا أن تكون عالمية. وهذا ما أثبتته تجربة الثورة الروسية (1917) التي كان مصدر الانقضاض عليها هو هزيمة موجة الثورات التي شهدتها القارة الأوروبية في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين.
القومية اختراع حديث:
يعود جانب هام من جوانب جاذبية فكرة القومية إلى الاعتقاد الخاطئ السائد بأنها معطى طبيعي طالما كان موجودًا في تاريخ البشر – إن لم يكن في دمائهم وأرواحهم. غير أن الحقيقة الثابتة هي على خلاف ذلك. فالأكيد أن القومية هي اختراع حديث لم يكن له أثر قبل مئات قليلة من الأعوام. فقبل هذا، لم يكن هناك سوى القبائل والإمبراطوريات وما يطلق عليه الدول – المدن، وهذه كلها أشكال للتنظيم الاجتماعي أو للسلطة تختلف جذريًا عن الدول القومية كما نعرفها في عصرنا الحديث.
الدول ما قبل القومية كانت – مثلها كمثل الدول القومية – تقوم بأدوار القمع الطبقي، وتستخدم الأجهزة المسلحة لضمان استغلال الطبقات الكادحة، وبعضها قام على أساس روابط مثل الدين. ولكن ما يميزها عن الدول القومية الحديثة هو أن الأخيرة استخدمت فكرة القومية لإنشاء دول تقوم على فكرة المواطنة مع الإيهام بوحدة الجذر العرقي والتاريخي للأمة. هدف هذه الدول هو توحيد السوق وتركيز أدوات القمع كإطار لاستكمال سيطرة الرأسمالية الاقتصادية والسياسية.
وقد اقترن ظهور الدولة القومية الحديثة ببزوغ الطبقة البرجوازية كقوة اقتصادية مسيطرة. فقد احتاجت الرأسمالية الصاعدة سوقًا قوميًا موحدًا. ولذا كان عليها تكسير العوائق المحلية مثل الضرائب المحلية وأنظمة النقد والقياس المختلفة. وقد سعت الرأسمالية أيضًا لضمان حرية انتقال العمل من أجل توفيره لعملية الاستغلال، في نفس الوقت الذي احتاجت فيه إلى لغة موحدة لتكون لغة المعاملات التجارية. وفي هذا السياق لعبت الدولة القومية دورًا حاسمًا لتهيئة البنية الأساسية وتعبئة الموارد لكي يعمل ويتنافس الرأسماليون.
لم تتم عملية توحيد السوق وخلق الدولة القومية بين يوم وليلة، وإنما استغرقت مرحلة زمنية طويلة منذ بدايات ظهور الرأسمالية وحتى توسعها وانتشارها إلى الحد الذي استطاعت فيه أن تلعب أدوارًا سياسية مكنتها من التأثير على جهاز الدولة، ثم الاستيلاء عليه في نهاية المطاف. ففي فترة انحطاط الإقطاع وبزوغ الرأسمالية ظهر ما يسمى بـ”المدن الحرة” التي أكدت استقلاليتها أكثر فأكثر مع نمو وتطور عمليتي الإنتاج والتبادل الرأسماليين. ومن ناحية ثانية، فلأن الملوك الإقطاعيون احتاجوا إلى المال لتمويل حملاتهم العسكرية، فقد اضطروا إلى الاعتماد على البرجوازية والبنوك حديثة النشأة.
هنا بدأت عناصر من الدولة القومية الحديثة في الظهور، ولكنها لم تتبلور إلا على مدى عقود. فقد ظل التحول البطيء يسري مع تطور الرأسمالية وزيادة قوتها. وكانت البداية مع ظهور وحدات سياسية قومية في أوروبا تحت قيادة ملكيات مركزية. مع هذه الملكيات جاءت الروح القومية وجاء تشجيع الملوك لصناعات بعينها على رأسها صناعة السلاح. وهو الأمر الذي أدى إلى المساهمة في توحيد السوق، وفي تمهيد الطريق لسيطرة الطبقة البرجوازية على السلطة السياسية.
وعلى الجانب الآخر، شهدت القارة الأوربية خلال القرن التاسع عشر عمليات توحيد قومي لم تسلك الطريق التقليدي البطيء حدث ذلك في دول كألمانيا التي حال ضعف برجوازيتها دون خلق الظروف الملائمة لتوحيد السوق. فقد احتاجت البرجوازية الألمانية إلى بسمارك ومشروعه للتوحيد من أعلى بالحديد والدم، حتى تستطيع أن تخلق دولتها القومية.
ومع دخول الرأسمالية في العصر الإمبريالي بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت ظاهرة نشوء الدول القومية مرتبطة في جانب أساسي منها بالنضال ضد الاستعمار. فقد نشأت جملة من الدول القومية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية من خلال كفاح الطبقات الحديثة (التي ظهرت إلى الوجود بسبب التأثيرات المعقدة لعملية السيطرة الاستعمارية) في سبيل التحرر الوطني.
ولا شك في أن مسار تكوين الدولة القومية في المستعمرات يختلف في بعض مظاهره عن مثيله فيما يمكن أن يطلق عليه الحالات الكلاسيكية الأولى (التي نجد أمثلتها في العديد من التجارب الأوروبية). فبالرغم من أن جوهر القومية الحديثة واحد، إلا أننا نجد أن الكثير من حركات التحرر الوطني نجحت في انتزاع دولاً قومية بدون تبلور برجوازية محلية قومية. وفي حالات عديدة لعبت السلطة “الوطنية” الجديدة، أو حتى السلطة العتيقة الموروثة عن العهد الاستعماري، دورًا كبيرًا في خلق البرجوازية ودفعها إلى الأمام. بل أنه في عدد لا يستهان به من الحالات، كان نشوء الدولة “القومية” نتيجة للتسويات فيما بين الدول الاستعمارية إبان انسحابها من المستعمرات. والأمثلة الأشهر على هذا نجدها في أفريقيا والشرق الأوسط وغيرها من مناطق ما يطلق عليه العالم الثالث.
القومية الرجعية والقومية التقدمية:
نستنتج مما سبق أنه على العكس مما تطرحه الأسطورة القومية، فإن الدولة القومية ليست شيئًا ثابتًا محددًا وإنما كيان تاريخي متغير. فهناك أمم لم تكن موجودة أبدًا ولدت وأصبحت راسخة. ومن الممكن أن تخلق الأمم عن طريق الحروب، الغزوات، أو الثورات. وربما تموت حدود وصلات قديمة لتخلق بدلاً عنها صلات جديدة (كما رأينا في حالتي تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا). وما كانت بالأمس أمة مقهورة أو مستعمرة، قد تصبح اليوم دولة استعمارية. والمثال هنا الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت مستعمرة بريطانية، ثم صارت أكثر القوى الإمبريالية رجعية في عالمنا المعاصر.
هذا الطابع المتغير والمعقد للقومية يخلق معضلات متعددة للاشتراكيين الثوريين. فتاريخية الظاهرة تفرض وضوح الرؤية والمعايير، كما تفرض مواقف جدلية مرنة. ولذلك فإن الثوريين اعتمدوا دائمًا في تحليلهم وفي مواقفهم على التمييز بين القومية التقدمية والقومية الرجعية. فشتان الفارق بين لجوء الطبقات الحاكمة المستغلة للرطانة القومية من أجل صرف النضال بعيدًا عن مساره الصحيح، أو من أجل تعبئة قوى الاستغلال والهيمنة الاستعمارية، وبين الحركات القومية المناضلة ضد الإمبريالية والاستعلاء العنصري. وفي كل الأحوال، فإن ميزان التقدير ينبغي أن يكون التحليل الملموس لصلة الحركة القومية المعنية في مراحلها المختلفة بالنضال الأشمل ضد الرأسمالية والاستغلال.
نأخذ مثالاً على ذلك حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران. في سنواتها الأولى كانت الحرب صراع على النفوذ بين قوتين اقليميتين. نظام صدام يريد تقمص دور نظام النشوء كشرطي في المنطقة، ونظام الخميني تصدير الثورة الإسلامية كوسيلة لمد النفوذ الإيراني. الموقف هنا لا يمكن إلا أن يكون إدانة الحرب الدموية وإدانة طرفيها بشكل متساو، حيث لا انتصار للجموع المستغلة إلا بالتخلص من حكوماتها. لكن الموقف تغير دراميًا بالمساندة الأمريكية للعراق. هنا أصبحت كل ضربة عسكرية عراقية تمثل جزءًا من مخطط الإمبريالية في المنطقة. وهنا بالتالي أصبح الترحيب بهزيمة إيران وقوفًا مع المخططات الأمريكية للسيطرة على منابع النفط.
وبتتبع تاريخ الاشتراكية الثورية نجد أن أنصارها واجهوا منذ اللحظة الأولى معضلات تتبع من تعدد أوجه الظاهرة القومية وتقلب مضمونها من مرحلة إلى أخرى. قليلون هم الذين امتلكوا قدرًا كافيًا من “الشجاعة الغبية” مكنتهم من إهمال القضية اكتفاء بالترديد الأعمى للفكرة (الصحيحة) المجردة القائلة بضرورة الوحدة الأممية للعمال. وقد فشل هؤلاء – حتى بالرغم من إخلاص بعضهم – في بلورة أي موقف مبدئي عملي من المعارك القومية العديدة المشتعلة في عالمنا.
على جانب آخر، نجد أن ماركس ثم لينين يمثلان نموذجين ناجحين للمواجهة الصحيحة للمسألة القومية. صحيح أنهما لم يقدما لنا نظرية نهائية متكاملة بهذا الشأن – لاستحالة وجود نظرية نهائية بهذا الخصوص – لكن تجربتهما السياسية والفكرية تمثل ضوءًا هاديًا لكل الاشتراكيين الثوريين حتى الآن.
الخيط الذي يجمع ماركس ولينين هو أنهما نجحا في صياغة موقف يقوم على التأييد النقدي للحركات القومية، ولكن دون الوقوع في أحابيل موقف قومي. تبلور موقف ماركس في هذا الشأن من خلال تصديه للمسألة الأيرلندية. ففي 1848، كان ماركس يرى أن قضية استقلال أيرلندا (وقد كانت مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت) هي على هامش الصراع الطبقي في إنجلترا، وكان يلوم القوميين الأيرلنديين لأنهم لم يستطيعوا ربط أنفسهم بحركة الشارتية (الحركة العمالية الثورية في إنجلترا).
ولكن مع تراجع الشارتية، ومع ما تلاها من نجاح في تعبئة الطبقة الحاكمة للطبقة العاملة الإنجليزية ضد الأيرلنديين، وجد ماركس أن العقبة الأساسية أمام تحرر العمال الإنجليز أصبحت وقوفهم في نفس الصف مع طبقتهم الحاكمة في مواجهة الاستقلال الأيرلندي. وهكذا أكد مرارًا وتكرارًا أن القضية الأيرلندية يجب أن تكون في مقدمة أولويات الثوريين لأنها هي المدخل لتجاوز عقم وتراجع الطبقة العاملة الإنجليزية. وقد قاد ذلك ماركس لصياغة شعاره الشهير القائل بأن “أي أمة تقمع أمة غيرها تشكل قيودها هي نفسها”.
أما لينين فقد تشكلت رؤيته للقضية القومية من عدة عناصر:
1. في عالم الإمبريالية يقوم التوازن الدولي على هيمنة القوى الاستعمارية الكبرى، ومن ثم فإن الثورة على هذا التوازن سمة أساسية للسياسة المعاصرة؛
2. القضية الأساسية للماركسيين هي أن يجدوا نقطة ارتكازهم كأمميين في عالم تسيطر عليه الصراعات القومية؛
3. المشكلة الإستراتيجية الحاسمة هنا هي محاولة تغيير مشاعر العمال القومية بأخرى أممية؛
4. العقبة الرئيسية أمام ذلك هي قومية العمال في الدول الإمبريالية التي تقودهم لأن يقفوا في نفس الخندق مع طبقاتهم الحاكمة، وهو ما يدعو العمال في الدول المقموعة الساعية للتحرر للاعتقاد بأن عمال الدول الاستعمارية غير متعاطفين مع قضيتهم وتطلعاتهم التحررية مما يقسم حركة العمال العالمية.
ما يستنتجه لينين من هذا التحليل هو ضرورة التأييد النقدي لحركات التحرر الوطني في إطار سياسة الدفاع عن حق الأمم في تقرير مصيرها، وذلك لكسر الحلقة الشريرة للمشاعر القومية في أوساط العمال. ميز لينين هنا بين أدوار الثوريين في الدول الإمبريالية القامعة وبين أدوارهم في الدول المقموعة. ففي الأولى على الثوريين أن يدعوا العمال لتبني مطلب تحرر الشعوب المضطهدة، لكسر سيطرة النزعة القومية الرجعية على حركة الطبقة العاملة وللتغيير بشكل واضح عن أممية هذه الحركة. بينما في الدول المقموعة على الثوريين أن يبلوروا موقفًا ثابتًا يناضل ضد الإمبريالية وفي نفس الوقت ينتقد ويفضح البرجوازية المحلية التي تريد إخضاع الصراع لمتطلباتها ومصالحها. ويقتضي هذا أن لا يقف الثوريون في الأمم المضطهدة متفرجين تاركين القضية في يد عمال وثوريي الدول الإمبريالية، إنما عليهم أن ينغمسوا في المعركة ويسعوا لقيادتها أيديولوجيًا وسياسيًا. وبسبب هذا الموقف المركب فإن تأييد لينين لحركات التحرر الوطني لم يعن أبدًا التضحية بالاستقلال التنظيمي والسياسي للحركة العمالية في الدول الساعية للتحرر.
وهنا يمكننا التأكيد أن الأمر الذي ساعد كل من ماركس ومن بعده لينين أقدر على اتخاذ مواقف صحيحة من قضايا القومية في عصرهما، هو أولاً وقوفهما على أرضية المصالح الإستراتيجية للطبقة العاملة، وثانيًا رؤيتهما الحية الجدلية للمسألة القومية وبالأخص، فإن الرؤية الجدلية قد ساعدتهما على فهم طبيعة الرابطة بين العوامل السياسية والاقتصادية في تكوين الظاهرة القومية. فقد كان إغفال العامل السياسي، واختصار القضية القومية في التطور الاقتصادي للرأسمالية، سببًا في فشل عدد لا بأس به من الاشتراكيين في تبني موقف صحيح من القضايا القومية. ومثل ذلك هم أولئك الماركسيين الذين اعتبروا أن التطور الاقتصادي للرأسمالية، ونزعتها المتوسعة للعولمة، سوف يؤدي بالضرورة إلى تحطيم القومية، وهو ما ثبت أنه غير صحيح بالمرة.
من أين تنبع استمرارية الظاهرة القومية؟
هناك عدة عوامل لعبت دورًا في استمرار الظاهرة القومية إلى وقتنا هذا. وبين هذه العوامل يلعب العامل الخاص بطبيعة واحتياجات الرأسمالية عمومًا، وفي مرحلتها الإمبريالية بالذات، الدور الأساسي والمحوري. فمن ناحية أولى تلعب الدولة القومية دورًا حاسمًا في الدفاع عن مصالح الطبقة الرأسمالية في مواجهة عمالها وفقرائها. فجهاز الدولة، بجيشه وشرطته وسجونه ومحاكمه، ضروري للحفاظ على النظام – والنظام هنا يعني سلطة رأس المال في المصنع، وحرية الملكية الخاصة في المزرعة، وحق الثورة في التوسع والنمو على حساب المستغلين.
من ناحية ثانية، نرى أن الحاجة للدولة، في ظل تطور الرأسمالية إلى إمبريالية، زادت ولم تقل. فوفقًا للينين، فإن الإمبريالية – بتعريفها كتنافس ذو طابع سياسي – عسكري بين الدولة الاستعمارية من أجل توسيع مناطق النفوذ العالمية – هي أعلى وآخر مراحل الرأسمالية. وفي ظل هذه المرحلة، يتحول التنافس بين الرأسماليين من شكله الكلاسيكي كتنافس بين رأسماليين أفراد داخل حدود الدولة القومية الواحدة، إلى تنافس عالمي بين دول تحمي وتمثل تخالفات الشركات الاحتكارية الكبرى في العالم. ويتزايد مع الوقت – ومع توسع النزعات الاحتكارية – الطابع العسكري والسياسي لهذا التنافس. ولذلك، فعلى الرغم من العولمة المستمرة لعملية الإنتاج الرأسمالي، فإن الدولة القومية تبقى ذات أهمية بالغة لخدمة عملية المنافسة والتراكم على الصعيد العالمي، تلك العملية التي تزداد احتدامًا مع اشتداد الأزمات الاقتصادية في العقود الأخيرة.
على أساس من هذا الفهم يمكننا أن نرصد صورًا أخرى عديدة لاستغلال الظاهرة القومية في مصلحة الطبقة الرأسمالية وحلفائها. من هذه الصور استغلال الاختلافات القومية أو العرقية في توجيه غضب المحكومين بعيدًا عن الحكام. إذ تلقى الطبقات الحاكمة اللوم فيما يتعلق بآثار الأزمة الاقتصادية، من بطالة وتراجع في مستويات المعيشة، على فئات أقلية في الجنس أو اللون. وهو أسلوب ناجح للغاية يمكن أن نرى مدى نجاحه في ظهور حركات اليمين المتطرف في أوربا، وفي النموذج اليوغوسلافي على مدى سنوات التسعينات.
وللأسف فإن التيارات الاشتراكية الإصلاحية أو الوطنية أو الستالينية لعبت دورًا لا يستهان به في ترويج الأوهام القومية الرجعية في أوساط العمال والمستضعفين. فالاشتراكيون الإصلاحيون خانوا قضية الثورة العمالية عشرات المرات بادعاء الدفاع عن الأوطان ضد العدو القومي. أما الستالينيون، فقد روجوا لوهم رجعي خلاصته أن الاشتراكية يمكن أن تبنى في بلد واحد، و استنتجوا من ذلك ضرورة الدفاع عن الوطن الاشتراكي حتى ولو كان يخوض حربًا رجعية ضد أمة مضطهدة.
وبغض النظر عن كل ذلك، فإن أجواء الأزمة والاحتقان العالمي، بالذات في ظل الحرب الأيديولوجية ضد الاشتراكية، قد أنعشت العديد من الحركات القومية، بعضها مغرق في رجعيته، وبعضها تقدمي يناضل ضد الاضطهاد الإمبريالي كما نرى في فلسطين والشيشان. ليس هذا فقط، بل إن واقع وجود دول صغيرة صارت تئن تحت ضغوط العولمة، بدأ يدفع حتى برجوازيتها نفسها لتزكية الميول القومية كإطار للمقاومة. إن السياسة الدولية ستشهد على الأغلب تصاعد في حدة القضايا القومية في المستقبل القريب. وفي هذا الإطار ينبغي ألا ينسى الاشتراكيون أبدًا واحد من أهم أسس الاشتراكية الثورية: “الالتزام ببناء عالم إنساني واحد بلا دول أو صراعات قومية”. لكن عليهم ألا ينسوا مقولة لينين: إن من يتوقع ثورة اشتراكية نقية لن يعيش أبدًا ليراها”. وهو ما يعني ضرورة بلورة موقف ثوري جدلي ملموس من كل النضالات والصراعات القومية؛ موقف يناضل إلى جانب كل حركة قومية تسعى للتحرر، ويناضل ضد كل شكل من أشكال القومية الرجعية المعادية لتقدم وحرية الإنسان.. كل ذلك على أساس من فهم عميق للرابطة بين الكفاح ضد الاضطهاد الاستعماري والكفاح ضد سيطرة الأوهام القومية على حركة العمال الساعين لبناء مجتمع الاشتراكية.
لقد حان الوقت لبناء يسار جديد، يتبنى استراتيجية الثورة الدائمة ويطرح مشروع سلطة العمال. لقد حان الوقت لاستعادة التراث الماركسي الثوري الأممي، والخروج من ظلام الستالينية والقومية، لقد حان الوقت للثقة في قدرة الطبقة العاملة على قيادة الثورة.
