شكر وتقدير
يتضمن هذا الكتيب مواد من منشورات سابقة لصحيفة “العامل الاشتراكي”، بما في ذلك سوريا: الثورة، الثورة المضادة والحرب (2016) من تأليف آن ألكسندر وجاد بوحرون، ومقالات نُشرت في “العامل الاشتراكي” بقلم آن ألكسندر ورمسيس كيلاني. قامت آن ألكسندر بتحريره وتحديثه في يناير 2025.
مقدمة
بعد سنوات طويلة أصبحت فيها سوريا رمزًا للحرب والدمار والنزوح، جاءت أحداث ديسمبر 2024 لتدوّي في أرجاء العالم لأسباب مختلفة. فقد أطلقت مجموعات متمردة مسلحة هجومًا عسكريًا خاطفًا أطاح بالدكتاتورية التي دامت خمسين عامًا، والتي ورثها بشار الأسد عن والده، خلال عشرة أيام فقط. امتلأت الشوارع بالحشود المبتهجة بينما ذابت قوات النظام وتلاشَت، فيما قام آخرون بهدم تماثيل الأسد وفتحوا أبواب السجون بالقوة، محررين آلاف المحتجزين في ظروف مروعة. كان من الواضح أنه رغم الدمار الذي خلفته الحرب، فإن روح الشجاعة لدى الناس العاديين ما تزال حيّة.
بالنسبة للكثيرين في سوريا وحول العالم، أعادت هذه الأحداث إلى الأذهان الانتفاضة الشعبية في عام 2011، حين تحدّى المتظاهرون السلميون النظام في الشوارع، مطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ومع ذلك، فإن الظروف التي أدت إلى انهيار النظام كانت أيضًا نتيجة لتحولات في موازين القوى بين الدول الإقليمية والعالمية. استغلت الدولتان الجارتان القويتان، تركيا وإسرائيل، هذه الفرصة لتوسيع نفوذهما. هاجمت القوات التركية والميليشيات المتحالفة معها القوات الكردية في الشمال، في حين استولت إسرائيل على المزيد من الأراضي لتضمها إلى حصتها القديمة من الأراضي السورية في الجولان المحتل، وقصفت مئات المواقع في أنحاء البلاد. علاوة على ذلك، فإن سقوط الأسد كان مرتبطًا بوضوح بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة والحرب ضد لبنان، حيث منعت الهزائم العسكرية لحزب الله هذه الحركة اللبنانية من دعم النظام السوري كما كانت تفعل في السابق.
قدم بعض المعلقين أحداث ديسمبر 2024 باعتبارها هزيمة كارثية للفلسطينيين وحلفائهم. ومع ذلك، فقد رحّبت حركة حماس والعديد من الفلسطينيين في سوريا بنهاية دكتاتورية البعث، بعد أن عانوا لسنوات طويلة من الفقر والمجازر على يد الأسد.
يهدف هذا الكتيب إلى تجاوز العناوين الكبرى ليقدّم منظورًا اشتراكيًا ثوريًا يضع نضالات الناس العاديين في مكانها الطبيعي: في قلب المعارك من أجل بناء سوريا خالية من القمع والظلم. ويؤكد أن قضية التحرر الوطني متشابكة مع النضال ضد الدكتاتورية والإمبريالية، وأن الفقراء وأغلبية الطبقة العاملة في سوريا—لا الحكام—هم أفضل حلفاء للشعبين الفلسطيني والكردي في نضالهما من أجل الحرية.
الفصل الأول – نظام الأسد في الحكم
في عام 1970، استولى وزير الدفاع السوري، حافظ الأسد، على السلطة من زملائه في حزب البعث عبر انقلاب داخلي، وأقام نظامًا سيطر على البلاد لخمسين عامًا تالية. رغم شعاراته حول الاشتراكية، كان نظام الأسد دكتاتورية رأسمالية دولة، حيث بقيت السلطة الاقتصادية والسياسية مركزة في أيدي طبقة ضيقة من مسؤولي الدولة وحلفائهم من رجال الأعمال. لاحقًا، تبنت الطبقة الحاكمة سياسات نيوليبرالية، لكنها واصلت حماية مصالحها المشتركة عبر استخدام جهاز أمني مرعب لسحق أي معارضة. وكانت عائلة الأسد من أبرز المستفيدين من هذا النظام القمعي: فبعد وفاة حافظ، “ورث” ابنه بشار الدولة كأنها شركة عائلية وتولى إدارتها.
بين عامي 1976 و2011، لم يُسمح بالعمل السياسي إلا للأحزاب التي تدعم حكم حزب البعث (ولم يغيّر القبول الشكلي بنظام التعددية الحزبية بعد 2012، في ظل القمع الشديد والحرب الأهلية، من جوهر النظام السلطوي في سوريا). ولم يرفض النظام يومًا التحالفات مع القوى الإمبريالية من منطلق مبدئي. بل على العكس، كان يعتمد بشكل كبير على علاقاته مع الاتحاد السوفييتي لعقود، ثم تحالف مع الولايات المتحدة ضد العراق خلال حرب الخليج عام 1991.
شكّلت “الحركة التصحيحية” التي قادها حافظ الأسد عام 1970 تحالفًا اقتصاديًا وسياسيًا بين أجزاء من البرجوازية المدينية القديمة وكبار الملاكين العقاريين الذين كانوا يهيمنون على الطبقة الحاكمة منتصف القرن العشرين، وبين البيروقراطية الرأسمالية الدولتية الناشئة في نظام البعث. وكان هذا التحالف أساسًا لاستقرار النظام لأكثر من أربعين عامًا. وهناك ثلاث سمات رئيسية له ضرورية لفهم طبيعة النظام البعثي.
أولاً، كان هذا التحالف يتجاوز الانتماء الطائفي، إذ كانت الطبقة الحاكمة القديمة بمعظمها من السنة، بينما ضمت المستويات العليا من حزب البعث والبيروقراطية الحكومية العديد من العلويين وأفرادًا من أقليات أخرى. وهذا لا يعني أن النظام البعثي كان مناهضًا للطائفية. بل على العكس، كان يعزز الطائفية باستمرار لضمان ولاء أجهزته الأمنية، حيث كانت الوحدات النخبوية في الجيش وقوات الأمن تحت قيادة أفراد من عائلة الأسد، ومجندة من المنطقة التي تنتمي إليها الأسرة الحاكمة في اللاذقية. ومع ذلك، لم يكن النظام ببساطة “نظامًا علويًا” يستبعد السنة من السلطة السياسية والاقتصادية فقط بسبب معتقداتهم.
ثانيًا، سلك الأسد والطبقة الحاكمة التي اعتبرته قائدًا لها نفس الطريق الذي سلكه الرئيسان المصريان أنور السادات وحسني مبارك، من الرأسمالية الدولتية نحو النيوليبرالية. كان الأسد من أوائل روّاد سياسة “الانفتاح” (التحرير الاقتصادي) في السبعينيات. وقد أقنعته الأزمة الاقتصادية الحادة في أواخر الثمانينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي بأن الوقت مناسب للانضمام إلى الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة على العراق في 1991. تبع ذلك تنفيذ برنامج “إصلاح اقتصادي” مشابه جدًا في نتائجه لبرامج “التكييف الهيكلي النيوليبرالي” التي طُبّقت في مصر في التسعينيات. ومع تولي ابنه بشار الحكم، تسارعت وتيرة التحول نحو النيوليبرالية. وحققت البرجوازية المتمثلة في النخب الاقتصادية في القطاعين العام والخاص مكاسب ضخمة على حساب الجماهير من السوريين العاديين.
السمة الأخيرة في استراتيجية نظام الأسد للحفاظ على استقرار تحالفه الحاكم كانت قدرته على جذب الدعم الخارجي، واعتماده على المساندة العسكرية الخارجية. وكان أحد أهم مكونات هذا الدعم على المدى الطويل هو الاتحاد السوفييتي، الذي قدّم للأسد الأسلحة والقروض والأسواق المدعومة بشكل كبير للسلع السورية. لكن الأنظمة الملكية السنية المحافظة في الخليج كانت أيضًا مهمة للغاية في الحفاظ على استقرار نظام الأسد. فقد تدفقت المليارات من خزائن الخليج اعترافًا بـ”صمود” سوريا في مواصلة المواجهة العسكرية العربية مع إسرائيل، بعد أن أخرج السادات مصر من المعركة بتوقيعه معاهدة سلام مع الدولة الصهيونية عام 1979. وبعد ثلاثين عامًا، استمرت الأموال الخليجية في التدفق إلى سوريا، ولكن لم تعد لدعم الجبهة العسكرية ضد إسرائيل فقط، بل أصبحت تُضَخّ كاستثمارات في القطاع الخاص المتنامي.
خلال السبعينيات والثمانينيات، اعتمدت الاستراتيجية الاقتصادية للأسد على نمو القطاع الخاص في ظل قطاع عام تقود فيه الدولة عملية إنشاء صناعات جديدة. وبفضل ارتفاع أسعار النفط والدعم القادم من الاتحاد السوفييتي ودول الخليج، استوردت الدولة السورية معدات وخبرات في مجموعة متنوعة من الصناعات، من إنتاج الأسمدة إلى مصانع الورق. وكان الهدف المعلن من استثمارات الدولة هو تقليل اعتماد الاقتصاد على الواردات الأجنبية. لكن في الواقع، كانت العديد من هذه المشاريع الصناعية غير فعالة للغاية، وكان المستفيد الأكبر منها هم فئات البرجوازية المرتبطة بالدولة التي أشرفت على إنشائها.
بحلول أواخر السبعينيات، كان الاستياء من حكم الأسد يتصاعد، لكن القمع كان دائمًا حجر الأساس في آلية النظام لمواجهة الاحتجاجات. وكان رد النظام على أول تحدٍّ كبير يواجهه من القاعدة الشعبية بالغ الوحشية، وتُوّج بمجزرة حماة عام 1982، التي شكّلت مقدمة دامية لما سيرتكبه لاحقًا من فظائع أعظم بعد عام 2011. مع اقتراب نهاية السبعينيات، بدأت شخصيات من نقابات المهنيين مثل الأطباء والمهندسين والمحامين بالمطالبة بالحريات الديمقراطية. وزاد من حدة التوتر تدخل الجيش السوري لدعم القوى اليمينية في الحرب الأهلية اللبنانية. وقد نفّذ عمال النفط والمصانع إضرابات أواخر عام 1979 انتزعوا بها بعض التنازلات من السلطات، لكن حزب البعث شدّد قبضته على الحركة النقابية.
أقسام من الحركة الإسلامية لجأت إلى السلاح لمواجهة النظام. فـ”الطليعة المقاتلة” نفذت اغتيالات لمسؤولين بعثيين وضباط في الجيش. وردّ النظام بحملات اعتقال جماعية، وأرسل فرق الموت لاغتيال المعارضين. وحسب الرواية الرسمية، فإن جماعة الإخوان المسلمين كانت القوة الوحيدة خلف الاحتجاجات وأعمال العنف. ورغم أن الجماعة كانت متجذّرة في الطبقة الوسطى السنية التقليدية في المدن، إلا أن حركة المعارضة كانت أوسع بكثير من شبكاتها. فقد شارك الآلاف في احتجاجات وإضرابات بمناسبة ذكرى أول انقلاب بعثي عام 1963، وذلك في عام 1980. أما محاولة اغتيال الأسد في يونيو من نفس العام، فقد فجّرت حملة قمع وحشية انتهت بحصار وتدمير مدينة حماة إثر انتفاضة قادها الإسلاميون وسيطروا فيها مؤقتًا على المدينة. في فبراير 1982، حاصرت قوات بقيادة رفعت الأسد، شقيق الرئيس، المدينة، وقصفتها ثم نفذت عمليات قتل ممنهجة أودت بحياة عشرات الآلاف من سكانها.
لم تكن مجزرة حماة تستهدف الإخوان المسلمين فقط، بل كانت تهدف إلى القضاء على كل أشكال المعارضة للنظام. فتم اعتقال اليساريين والنقابيين أيضًا ضمن الحملة. وقد ألقت هذه المذبحة بظلالها الثقيلة لعقود. ولم تبدأ المعارضة الجدية للنظام في العودة إلا في أواخر التسعينيات مع اقتراب نهاية حكم حافظ الأسد، وبدأت النخبة الحاكمة حينها بالتحضير لانتقال سلس إلى وريثه المختار.
برز بشار الأسد في السنوات الأخيرة من حكم والده، وسعى لتقديم نفسه كإصلاحي. تولّى السلطة في يوليو 2000 بعد وفاة حافظ، وأعلن فورًا عن حزمة إجراءات لتحرير السياسة والاقتصاد. سمحت هذه الإجراءات لفترة قصيرة ببروز منشورات جديدة ومنظمات مجتمع مدني وبيانات علنية مثّلت مطالب سياسية وقعها مثقفون. لكن هذه المرحلة، المعروفة بـ”ربيع دمشق”، لم تدم سوى بضعة أشهر، قبل أن تعود حملات القمع وتعيد النظام قبضته على المجتمع السوري بحلول نهاية 2001.
أما تحرير الاقتصاد، فقد كان له أثر أعمق وأكثر ديمومة. فقد تسارعت عملية انفتاح الاقتصاد السوري على السوق العالمية، وتم تقليص دولة الرفاه، وبيعت أصول عامة. أدّت حرية التجارة إلى إغراق السوق بالبضائع التركية، مما أفلس كثيرًا من الصناعات الصغيرة، ورفع معدلات البطالة خاصة بين الشباب. وترافق ذلك مع تضخّم مرتفع وتخفيض متتالٍ للدعم الحكومي على السلع الأساسية، مما أدّى إلى تراجع الأجور الحقيقية وارتفاع نسب الفقر.
رغم أن هذه الإصلاحات جذبت استثمارات أجنبية، خاصة من دول الخليج، إلا أنها لم تخلق فرص عمل واسعة. بل غذّت فقاعات عقارية رفعت أسعار المساكن، ومع إلغاء قوانين ضبط الإيجارات، أصبحت السكن الميسور أمرًا نادرًا في المدن الكبرى، خاصة دمشق. واضطر العديد من موظفي الدولة من الطبقة الوسطى للنزوح إلى الضواحي الفقيرة جنوب العاصمة.
أدت الخصخصة الجزئية والشراكات بين رأس المال الإقليمي والدولة إلى نشوء طبقة جديدة من الرأسماليين المرتبطين بالنظام، مثل رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد. وفي قطاعات الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، أدى ذلك إلى قيام نظام مزدوج؛ حيث يتمتع الأثرياء بمستشفيات وجامعات خاصة، فيما تدهورت الخدمات لعامة الشعب. وقد وسّعت هذه السياسات النيوليبرالية الفجوة بين الأغلبية الكادحة وتلك القلة من البرجوازية المتصلة بالدولة. وأصبح جهاز الدولة أداة في خدمة هذه النخبة الجديدة. ونتيجة لذلك، تدهور ترتيب سوريا في مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية الدولية من المرتبة 66 في عام 2003 إلى المرتبة 126 عام 2009.
وفي قطاع الزراعة، كانت السياسات النيوليبرالية كارثية على الفقراء. ففي شمال شرق البلاد وجنوبها، أدت خصخصة أراضي الدولة إلى تحويل الأراضي شبه القاحلة من مراعي إلى حقول قطن وقمح لأغراض تجارية. تم ذلك عن طريق استنزاف المياه الجوفية في ظل غياب خطة جادة للري. وقد فاقمت موجات الجفاف الاستثنائية بين عامي 2006 و2010 آثار هذه السياسات، وأغرقت ملايين السوريين في الفقر.
وكانت النتائج الاجتماعية لهذه الكارثة الزراعية عميقة؛ فبحسب مقرر الأمم المتحدة الخاص بالحق في الغذاء في سبتمبر 2010، خسر حوالي 3 ملايين من صغار الفلاحين والرعاة سبل عيشهم، واضطروا للنزوح إلى المدن مثل دير الزور والرقة في الشمال الشرقي، ودرعا جنوبًا وضواحي دمشق الجنوبية. كانت هذه المناطق الحضرية بالفعل تعاني من آثار الإصلاحات الاقتصادية، وفي عام 2007، بلغ معدل الفقر المدقع في الجنوب ضعف ما كان عليه في 2004.
أدت الخصخصة الجزئية والشراكات بين رأس المال الإقليمي والدولة إلى نشوء طبقة جديدة من الرأسماليين المرتبطين بالنظام، مثل رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد. وفي قطاعات الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، أدى ذلك إلى قيام نظام مزدوج؛ حيث يتمتع الأثرياء بمستشفيات وجامعات خاصة، فيما تدهورت الخدمات لعامة الشعب. وقد وسّعت هذه السياسات النيوليبرالية الفجوة بين الأغلبية الكادحة وتلك القلة من البرجوازية المتصلة بالدولة. وأصبح جهاز الدولة أداة في خدمة هذه النخبة الجديدة. ونتيجة لذلك، تدهور ترتيب سوريا في مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية الدولية من المرتبة 66 في عام 2003 إلى المرتبة 126 عام 2009.
وفي قطاع الزراعة، كانت السياسات النيوليبرالية كارثية على الفقراء. ففي شمال شرق البلاد وجنوبها، أدت خصخصة أراضي الدولة إلى تحويل الأراضي شبه القاحلة من مراعي إلى حقول قطن وقمح لأغراض تجارية. تم ذلك عن طريق استنزاف المياه الجوفية في ظل غياب خطة جادة للري. وقد فاقمت موجات الجفاف الاستثنائية بين عامي 2006 و2010 آثار هذه السياسات، وأغرقت ملايين السوريين في الفقر.
وكانت لهذا المزيج من الكوارث الطبيعية و السياسات الزراعية النيوليبرالية نتائج الاجتماعية عميقة؛ فبحسب مقرر الأمم المتحدة الخاص بالحق في الغذاء في سبتمبر 2010، خسر حوالي 3 ملايين من صغار الفلاحين والرعاة سبل عيشهم، واضطروا للنزوح إلى المدن مثل دير الزور والرقة في الشمال الشرقي جنوبًا، ودرعا جنوبًا، وضواحي دمشق الجنوبية. كانت هذه المناطق الحضرية تعاني مسبقًا من آثار الإصلاحات الاقتصادية السابقة، وفي عام 2007، بلغ معدل الفقر المدقع في الجنوب الحضري للدولة ضعف ما كان عليه في 2004، بما في ذلك وضواحي دمشق الجنوبية ومحافظة درعا.
أدى تسارع تطبيق السياسات النيوليبرالية منذ عام 2000 إلى تعميق التناقضات الطبقية بين النخبة الرأسمالية الفاسدة والجماهير من العمال والفلاحين إلى مستويات قابلة للانفجار، وابتداءً من عام 2006، بدأت بوادر احتجاجات اجتماعية في عدة مناطق. وكان التوتر الاجتماعي مترافقًا مع استمرار مستويات عالية من القمع. تصف الناشطة السورية رزان غزاوي الوضع قبل 2011 بالقول:
في سوريا، كان المجتمع المدني محتكرًا من قبل أسماء الأسد، زوجة بشار، لذلك لم يكن بالإمكان إنشاء جمعية خيرية أو منظمة إلا بإشرافها. وكانت كل الأنشطة السياسية تحت سيطرة حزب البعث والدولة والنظام. وطبعًا لم تكن هناك حرية تعبير ولا وسائل إعلام عدا الصادرة عن النظام. حتى الفنانون لم يكونوا قادرين على إقامة معارض دون أخذ موافقة أجهزة الأمن.
كانت توترات مشابهة موجودة في بلدان أخرى في المنطقة مثل تونس ومصر. إلا أن سوريا لم تشهد موجات احتجاجية وسياسية قبل 2011 كما حصل في تونس التي شهدت ما يُشبه “البروفة” للثورة في 2008 في مناجم قفصة، أو مصر التي شهدت موجات إضرابات عمالية منذ 2006 ونشوء أول نقابات مستقلة منذ أكثر من خمسين عامًا. في مصر، كانت حركة المعارضة الدستورية ومناهضة توريث الحكم تجمع آلاف النشطاء. وكان النظام المصري قد بدأ يفقد سيطرته على الشارع ومواقع العمل حتى قبل 2011، بعد أن اكتسب عشرات الآلاف خبرة في التنظيم والاحتجاج.
فرق هام آخر بين التجربة في مصر وسوريا، كان الضعف الواضح في الحركة الطلابية في سوريا. شهدت مصر تصاعدًا لنشاط الطلاب في التسعينات وبداية الألفية تضامنًا مع الانتفاضة الفلسطينية، مما جمع بين التيارات اليسارية والناصرية والإسلامية والثورية. وكانت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وما تبعها من تعاون واضح بين الدولة المصرية وإسرائيل ضد الفلسطينيين، شكلت صلة بين التضامن مع فلسطين وما يحصل في البلد.
======================================================================
صندوق – الإمبريالية والشرق الأوسط
غالبًا ما تصوّر وسائل الإعلام السائدة الصراعات في الشرق الأوسط على أنها نتيجة “كراهية قديمة” دينية أو إثنية. لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. فالرأسمالية بطبيعتها تنافسية، ولديها ميل دائم للانتقال من الصراع الاقتصادي إلى النزاع العسكري. والشرق الأوسط كما نعرفه اليوم هو نتاج تقسيم استعماري قامت به القوى الأوروبية الكبرى، التي نهبت مجتمعات المنطقة في القرنين التاسع عشر والعشرين. فبعد الحرب العالمية الأولى، قسّمت القوى العظمى في تلك المرحلة -بريطانيا وفرنسا- تركة الإمبراطورية العثمانية رغم تصاعد التمردات المناهضة للاستعمار من القاعدة.
ومع تراجع الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، برزت قوى إمبريالية جديدة. أصبحت الولايات المتحدة مركز التحالف الغربي في ظل انتقال مركز الثقل الاقتصادي نحو الأمريكيتين. ورغم التحدي الذي مثله الاتحاد السوفييتي، إلا أن هذا الصراع لم يكن بين نماذج مجتمعية مختلفة جوهريًا. فـ”الاشتراكية” السوفييتية في عهد ستالين ولاحقيه كانت شكلًا من أشكال الرأسمالية التي تهيمن فيها الدولة على الاستثمار والإنتاج، وسوريا كانت من الدول الكثيرة الخاضعة سابقًا للاستعمار التي نجح فيها الاتحاد السوفييتي في جذب أنظار الساسة، لما وعدت به من نمو سريع واستقرار سياسي تحت حكم بوليسي.
انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 ترك الولايات المتحدة بلا منافس قريب لعدة سنوات – لم يكن هناك أي دولة قادرة على منافسة قوتها الاقتصادية في الاقتصاد العالمي، ولا قدرتها العسكرية. ومع ذلك، شهدت العقود التالية تحولًا متسارعًا في الاقتصاد العالمي نحو طفرة صناعية جديدة تتمركز في الصين. مثل الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين، كان “الاشتراكية” التي يتبناها حكام الصين مجرد تمويه للاستغلال الرأسمالي تحت إشراف بيروقراطية الدولة. تمامًا كما كان الحال في أواخر القرن التاسع عشر، فإن صعود قوى رأسمالية جديدة وكبيرة وتراجع إمبراطورية قديمة يغذيان المنافسة العسكرية والحرب.
في الشرق الأوسط، انعكس ذلك بشكل أساسي من خلال التراجع النسبي للولايات المتحدة من موقعها الذي لا يُنافس في نهاية الحرب الباردة، وصعود القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا ودول الخليج وإسرائيل. كما أن هزيمة الولايات المتحدة في العراق بعد غزوها الكارثي في عام 2003 أوجدت أيضًا فرصًا لبعث النفوذ الروسي في سوريا.
تصاعد المنافسة بين القوى الرأسمالية الكبرى عالميًا انعكس مباشرة في الشرق الأوسط وسوريا تحديدًا. فالصراع بين روسيا والناتو مثال على ذلك، وفشل روسيا في دعم الأسد خلال الهجوم العسكري الذي أطاح به في ديسمبر 2024، يعود جزئيًا إلى الاستنزاف الهائل الذي تتكبده في حرب أوكرانيا.
======================================================================
الفصل الثاني – الثورة، الثورة المضادة والحرب بعد عام 2011
كانت سوريا في أوائل عام 2011 بلدًا ينتظر انفجار العاصفة. وكما قال أحد الفلاحين من منطقة درعا لصحفي: “لا يمكنك الاستمرار في الضغط على الناس بهذه الطريقة. ببساطة لا يمكنك. كل ما يلزم هو شرارة”.
وقد جاءت تلك الشرارة من الثورات العربية. ملايين السوريين شاهدوا، في بداية 2011، سقوط الديكتاتورين بن علي في تونس ومبارك في مصر على أيدي حركات شعبية غير مسبوقة. كانت هناك انتفاضات تندلع في ليبيا واليمن والبحرين، وكذلك احتجاجات جماهيرية في المغرب والأردن ودول أخرى في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الثورات العربية كانت تتطور بشكل غير متساوٍ من بلد إلى آخر، وكانت الشروط مختلفة في كل منها، إلا أن الخيط المشترك كان واضحًا تمامًا: الشعوب العادية، بالملايين، كانت تنهض ضد أنظمة حكمت بالظلم الاقتصادي والقمع السياسي لعقود.
في سوريا، لم تحظُ دعوة إلى “يوم غضب” أطلقها نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي في أوائل فبراير 2011 باهتمام كبير. لكن في 17 فبراير، نظّم مئات الأشخاص احتجاجًا مرتجلًا في سوق الحميدية في دمشق. وبعد أن اعتدى شرطي على أحد أصحاب المحلات، هتف المحتجون: “الشعب السوري ما بينذل”، ولم يتفرقوا إلا بعد أن حضر وزير الداخلية شخصيًا ووعد بفتح تحقيق رسمي في الحادثة. رغم أن عنف الشرطة كان أمرًا معتادًا، إلا أن احتجاجًا غاضبًا وعفويًا بهذا الشكل، وخاصة في منطقة مرئية كسوق الحميدية، لم يكن أمرًا شائعًا. وعلى الرغم من محدوديته، فقد كان ذلك الحدث مؤشرًا على أن المزاج التحرري الذي غذّى الانتفاضات العربية بدأ يتحدّى جدار الخوف الذي خيّم على المجتمع السوري لعقود.
في 6 مارس، قامت قوات الأمن باختطاف مراهقين في مدينة درعا الجنوبية بسبب كتابتهم شعار الثورات العربية “الشعب يريد إسقاط النظام” على جدار مدرستهم. وخلال الأيام التالية، نُظّمت احتجاجات في دمشق وحلب للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين بدأوا إضرابًا عن الطعام. وقد تعرّضت هذه المظاهرات لهجوم من شرطة الشغب، حيث تم ضرب واعتقال العديد من المشاركين. كما خرج آلاف الأكراد السوريين في مظاهرات في الحسكة والقامشلي لإحياء ذكرى انتفاضة عام 2004، التي سقط فيها أكثر من 30 كرديًا برصاص النظام.
وفي درعا، قوبلت سلسلة من الاحتجاجات في 18 مارس بالرصاص الحي من قبل الجيش السوري، مما أدى إلى مقتل وجرح ما يصل إلى عشرة متظاهرين. تحوّلت جنازات الضحايا في اليوم التالي – وفقًا للتقاليد الإسلامية – إلى مظاهرات أكبر، وواجهت قوات الأمن حشدًا من عشرة آلاف متظاهر باستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص، مما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص على الأقل وجرح العشرات. وفي اليوم التالي، أشعل إطلاق سراح الفتية المختطفين – الذين لم يتجاوز عمرهم الخامسة عشر – وغُطّيت أجسادهم بعلامات تعذيب واضحة، موجة غضب أخرى، حيث أضرم المتظاهرون النار في مقر حزب البعث المحلي. وردّ النظام بإرسال الفرقة الرابعة المدرّعة، بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس، لاقتحام مسجد العمري، مركز الحركة الشعبية في درعا، وقتلت القوات ما لا يقل عن 15 متظاهرًا خلال الهجوم.
في 25 مارس، اليوم الذي انسحب فيه الجيش من درعا، شهدت البلاد أوسع تعبئة منذ بدء الانتفاضة. خرج عشرات الآلاف في درعا وحدها، كما اندلعت مظاهرات كبيرة في حمص وحماة وبانياس واللاذقية وحلب ووسط دمشق. أسفر الرد الدموي للدولة عن مقتل 70 متظاهرًا واعتقال المئات.
مع دخول شهر أبريل، اكتسبت الحركة زخماً أكبر، وأصبحت المظاهرات الجماهيرية أمرًا متكررًا في ضواحي دمشق مثل دوما وزملكا والمعضمية، تمامًا كما حدث في درعا وحمص وبانياس واللاذقية. استخدم النظام الجيش وعصابات الشبيحة سيئة الصيت لقمع المظاهرات، ما أدى إلى مقتل العشرات واعتقال الآلاف. الشبيحة هم ميليشيات موالية للنظام كانت تمتهن التهريب بين الساحل السوري ولبنان.
في محاولة ظاهرة لاسترضاء الشعب، ألغى بشار الأسد قانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية في 20 أبريل. ولكن في اليوم التالي مباشرة، قتلت قواته وعصاباته 104 متظاهرين في مختلف أنحاء البلاد، فيما كان أكثر أيام الانتفاضة دموية حتى ذلك الحين. وفي الوقت ذاته، شنّ الجيش هجومًا شاملًا على أهالي درعا الذين لم يركعوا. أُقيمت حواجز على مداخل المدينة لمنع الدخول والخروج، وتم قطع المياه والكهرباء وخطوط الهاتف. وشهد أحد الصحفيين الفرنسيين مزارعين من القرى المجاورة وهم يحاولون إدخال الطحين والماء تجاوبًا مع نداءات أهل درعا المحاصرين. لم يُسمح لهم بالدخول، وفي 29 أبريل، شنّ الجيش هجومًا موسّعًا على المدينة مستخدمًا الدبابات والمدفعية، فقتل العشرات واعتقل المئات. انسحب الجيش بعد بضعة أيام من وسط المدينة.
عندما أدرك النظام أن إطلاق النار على المتظاهرين واستهداف النشطاء لن يوقف الانتفاضة، قرر تفكيك النسيج الاجتماعي الذي أنجب هذه الحركة الجماهيرية. فرضت حصارات على البلدات الثائرة، وتعرّضت الأحياء السكنية للقصف بالمدفعية والضربات الجوية. تحوّل الأسلوب الذي طُبّق في درعا إلى نمط ممنهج للتعامل مع الاحتجاجات في عشرات المناطق. في عام 2011 وحده، تعرّضت مدن مثل بانياس، اللاذقية، حمص، الرستن، وحماة، والعديد من البلدات الأخرى لنفس الأساليب. ومع تطوّر الصراع، أصبح ملايين السوريين يعرفون عن كثب معنى القصف العشوائي، والبراميل المتفجرة، والألغام. الغالبية العظمى من القتلى المدنيين خلال النزاع سقطوا بسبب القصف العشوائي من قبل النظام. كما تسببت هذه الهجمات في تهجير الملايين، وبعضهم بقي محاصرًا في مناطق خاضعة للحصار المزدوج من النظام وحلفائه، يعانون من الجوع والمرض.
جانبٌ حاسم آخر من استجابة النظام، والذي أُطلق في وقت مبكر منذ أبريل 2011، كان خلق أو استغلال التوترات الطائفية. الطابع المناهض للطائفية بشكلٍ صريح في الاحتجاجات والمظاهرات شكّل تهديدًا للنظام، ولذلك أصبحت أولوية النظام هي تقسيم الحركة على أسس طائفية. اتهمت وسائل الإعلام الرسمية جميع المتظاهرين بأنهم إرهابيون يحملون أجندة إسلامية متطرفة، في محاولة لتصوير نظام الأسد كحامٍ للأقليات الدينية وردع أفرادها عن الانضمام إلى الحركة الشعبية المتصاعدة. وفي الوقت نفسه، أفرج النظام عن مئات من المقاتلين الجهاديين من سجن صيدنايا، وهؤلاء كانوا في الغالب سوريين احتجزهم النظام بعد عودتهم من العراق، حيث شاركوا في التمرد والحرب الأهلية الطائفية التي أعقبت الغزو الأمريكي عام 2003.
كما استخدم النظام وسائل أكثر مباشرة لإضفاء طابع طائفي على الأزمة؛ على سبيل المثال، أرسل عناصر من عصابات الشبيحة الإجرامية إلى جانب، أو بدلًا من، الجيش النظامي لقمع الاحتجاجات في مناطق محددة من البلاد. ففي حين أن القمع في درعا، وهي بلدة ذات أغلبية سنية، كان من عمل الجيش حصريًا، فقد قام النظام بتعبئة الشبيحة علنًا لمهاجمة المظاهرات والنشطاء في المدن المختلطة إثنيًا ودينيًا مثل بانياس واللاذقية، وخاصة حمص. هذه العصابات الإجرامية، التي يتألف معظمها من أبناء الطائفة العلوية، كانت في السابق تعمل في التهريب، لكنها أصبحت أداة بيد النظام لتوجيه النضال الشعبي في اتجاه طائفي. ومع أن معظم العلويين في حمص، شأنهم شأن جيرانهم السنة، يعيشون في الفقر ولا يستفيدون من فساد النظام، إلا أن تكتيكات النظام الطائفية كانت تهدف تحديدًا إلى منع هذا النوع من الوحدة الطبقية من خلال تحويل المجتمع العلوي في حمص إلى رهينة لسياسات الطغمة الحاكمة.
وبدأ عدد متزايد من الجنود يرفضون المشاركة في قتل المتظاهرين، فغادروا الجيش، وشكّلوا مع السكان المحليين أولى مجموعات المقاومة المسلحة. في البداية، كانوا يقومون بدور الحماية المسلحة للمظاهرات في حال قامت الأجهزة الأمنية بإطلاق النار. ومع تصاعد القمع، ازدادت أعدادهم بانضمام الجنود المنشقين والسكان الذين حملوا السلاح للدفاع عن أحيائهم أو بلداتهم. وهكذا تطورت هذه المجموعات لتصبح أكثر فاعلية، وبحلول مايو 2011 بدأت بشن هجمات سريعة على حواجز ونقاط الجيش، ولاحقًا دافعت عن أحياء بأكملها ضد اقتحامات الجيش. وفي يونيو 2011، شهدت مدينة جسر الشغور انتفاضة مسلحة قضت على القوى الأمنية في المدينة، فردّ الجيش بهجوم مضاد بمئات العربات المدرعة، ولاحق المتمردين حتى الحدود التركية حيث لجؤوا مع خمسة آلاف من سكان المدينة.
ومنذ يوليو 2011، بدأ الضباط والجنود يعلنون انشقاقهم عن الجيش النظامي وانضمامهم إلى “الجيش السوري الحر”. كانت المجموعات المسلحة التي شكلوها تعكس الطبيعة القاعدية والمجزأة للانتفاضة. فقد تألفت غالبًا من أفراد أو وحدات صغيرة منشقّة، وليس كتائب أو فرق كاملة. لم تكن هناك حالات معروفة لتمردات واسعة النطاق ذات طابع سياسي. كان الجنود غالبًا ما يتجهون إلى أحيائهم أو بلداتهم الأصلية وينضمون إلى سكانها. وكما يظهر في العديد من مقاطع الفيديو التي سجّلها الجنود المنشقون، فإن دافعهم الرئيسي كان الدفاع عن المدنيين بعد أن رأوا فظائع الجيش، وليس نتيجة لخطة عسكرية مسبقة. انشقاقهم إلى أحيائهم في مجموعات صغيرة يدلّ على أن لديهم معرفة بالمجازر وكان هدفهم حماية أقاربهم وأصدقائهم.
هذا المزيج من الجنود والسكان المحليين يعني أن أولى مجموعات المقاومة المسلحة كانت مؤلفة من أناس عاديين: أفراد عائلات، أصدقاء، وجيران. كثير منهم انخرط في الكفاح المسلح دون أن يكون قد استخدم سلاحًا من قبل. ويفتقرون إلى التدريب والمعدات الأساسية – حتى أن البعض كان يقاتل وهم يرتدون الصنادل – كما يظهر في المقاطع المصورة التي نشرها هؤلاء المقاتلون، والتي تشهد أيضًا على شجاعتهم الهائلة وروحهم التضحية. هكذا نشأت المقاومة المسلحة ضد الأسد كحالة “شعب يحمل السلاح”، وليس كجزء من مؤامرة دولية معقدة.
في تلك المرحلة، كان مصطلح “الجيش السوري الحر” أقرب إلى إعلان نوايا منه إلى اسم كيان عسكري فعلي. لم يكن له تسلسل قيادي مركزي، وكانت أسلحة الثوار المتواضعة تتكون في البداية من أسلحتهم الفردية، ولاحقًا من الأسلحة الخفيفة التي حصلوا عليها من غارات، أو من ضباط متعاطفين في الجيش، أو من مهرّبين من العراق ولبنان وتركيا. ومع ذلك، لم يكونوا ندًا لواحد من أقوى الجيوش في المنطقة، جيش لم يتردد في استخدام دباباته وسلاحه الجوي ضد أحياء بأكملها.
لكن مصير مجموعات الجيش الحر لم يتحدد فقط بالعوامل المحلية. فمع مرور الوقت، بدأت القوى الإقليمية والدولية ترى في الجيش الحر أداة محتملة لتحقيق مصالحها. وكما سنرى في الفصل التالي، بدأ الجيش الحر يتلقى التمويل والأسلحة من عدد من الدول في عام 2012، ما زاد التنافس بين المجموعات المسلحة المختلفة وسرّع الانزلاق نحو الحرب الأهلية. ولاحقًا، وجد مقاتلو الجيش الحر أنفسهم مهمّشين أمام الكتائب الإسلامية التي اجتذبت تمويلًا أكبر من الخليج.
في المقابل، وبسبب الخوف من الانشقاقات والتمردات، لم يتمكن النظام من استخدام كامل قوته العسكرية في العمليات الهجومية ضد التمرد، واضطر إلى تركيز جهوده في مدن ومناطق يعتبرها حاسمة لبقائه. فعلى سبيل المثال، في مارس 2012، عندما انسحب الثوار من حمص والرستن باتجاه الريف بعد شهر من الحصار والقصف، لم تطاردهم القوات النظامية التي كانت تعاني من الضغط، واستطاعوا إعادة تجميع أنفسهم والحفاظ على قدراتهم القتالية.
شهدت الحركة الجماهيرية تطورًا كبيرًا خلال مايو ويونيو ويوليو 2011. واستمر قتل وسجن المتظاهرين، حتى إنه بحلول يونيو، كان أكثر من 12,000 ناشط ومحتج قد اعتُقلوا دون محاكمة. ورغم أن الحصار والهجوم الدموي على درعا في أبريل قلّص من حدة الاحتجاجات فيها، فإن الحركة في مدن أخرى كانت تزداد زخمًا. ولم تبدأ المظاهرات الكبرى في حماة إلا في مايو، وفي يوليو، وبفضل توقف مؤقت في العمليات العسكرية الكبيرة للنظام، نظمت المدينة أكبر مظاهرتين في الثورة السورية، شارك فيهما مئات الآلاف في كل مرة. وكما حدث في عام 1982، دفعت حماة ثمنًا باهظًا لتحديها حكم الأسد، حيث حوصرت وقُصفت واقتحمتها الفرق المدرعة في نهاية يوليو، وقُتل مئات المدنيين العزل.
تراجعت الحركة في حماة، واتخذت في العام التالي طابعًا أكثر تشتتًا على مستوى الأحياء، حيث كانت تقام مظاهرات صغيرة لكن حيوية في الليل. وقد تكرّر هذا النمط في أماكن أخرى مثل حمص، حلب، ريف دمشق، إدلب، دير الزور وغيرها، حيث دفعت الوحشية المتزايدة للاعتقالات والقتل إلى تراجع الحركة الجماهيرية الواسعة نحو أشكال أكثر تفرقًا.
وكان للعلاقة بين المدينة والريف دور محوري في الثورة السورية. فمراكز التمرد الأولى مثل درعا، دير الزور، حماة، أحياء حمص الطرفية، وضواحي دمشق، ترتبط بعلاقات اقتصادية وديمغرافية وثيقة بمحيطها الريفي أو شبه الريفي. درعا ودير الزور محاطتان بسهل زراعي واسع، وتعملان كسوق ومركز خدمات للبلدات والقرى المجاورة. أما بلدات ريفية مثل كفرنبل وتلكلخ، فقد أصبحت معروفة بشدة نشاطها الثوري.
لكن هذا لا يعني أن سكان المدن بقوا خارج الحراك: فقد شهدت مراكز مدن مثل حمص، حلب، وحماة مظاهرات كبرى في مراحل مختلفة من الثورة. أما وسط دمشق، فشهد احتجاجات محدودة بسبب الانتشار الكثيف للأمن الذي جعل من المستحيل تجمع أكثر من بضع مئات من الناس. ولكن المظاهرات الكبيرة والمستمرة في ضواحي العاصمة جمعت بين مهاجرين ريفيين وعمال فقراء وموظفين من الطبقة الوسطى الدنيا، الذين طردتهم أسعار الإيجار المرتفعة من وسط المدينة في العقد السابق للثورة. وانتشرت الأجهزة الأمنية لقمع هذه المظاهرات بطريقة تمنع وصولها إلى مركز العاصمة.
كما أن غياب الطبقة العاملة المنظمة كلاعب فاعل كان سمة حاسمة من سمات الثورة السورية. رغم أن العمال شاركوا كأفراد ضمن مجتمعاتهم المحلية، إلا أنهم لم يمارسوا قوتهم الجماعية عبر الإضرابات. كان بإمكان ملايين العمال في قطاعات النقل، والكهرباء، والمياه، والصناعة، والتعليم، والصحة أن يشلوا الدولة والاقتصاد. وكان بإمكان العمل الجماعي الطبقي أن يكون الرادع الأكثر فعالية ضد الانقسامات الطائفية التي سعى النظام لتغذيتها.
في تونس ومصر، ساهمت موجات الإضراب الكبرى في إسقاط بن علي ومبارك. فقد استطاع العمال هناك أن يبنوا على عقد من تزايد الحراك العمالي وتنظيمهم الذاتي. أما في سوريا، فآخر موجة إضرابات تعود إلى عام 1981، وقد قُمعت بشدة. وقد لعب غياب النقابات المستقلة، التي حظرها حافظ الأسد في عام 1974، دورًا في ضعف الطبقة العاملة المنظمة. كما أن غياب الإضرابات جعل النقابات الرسمية التابعة للنظام أقوى من مثيلاتها في مصر، وظلت أداة مهمة لتعبئة عشرات الآلاف في مظاهرات مؤيدة للأسد. ومع تصاعد القمع وتسليح الثورة، أُغلقت آلاف الشركات أو نُقلت إلى الخارج، إلى مصر وتركيا، وارتفعت معدلات البطالة، وتراجعت ثقة العمال بأنفسهم.
وفي قلب الحركة الشعبية، أنشأ النشطاء المحليون لجان تنسيق، وهي منظمات قاعدية صغيرة تولّت تنظيم الاحتجاجات من الناحية اللوجستية، ولعبت دورًا محوريًا في توثيق المظاهرات والانتهاكات. وكانت نشاطاتهم المكثفة على وسائل التواصل الاجتماعي وصلاتهم بوسائل الإعلام الدولية ضرورية لإبقاء العالم على اطلاع بما يحدث في سوريا، خاصة أن النظام منع دخول الصحفيين الأجانب وكانت كل وسائل الإعلام الخاصة مملوكة لرجال أعمال موالين يروجون لدعاية النظام.
أنشأ هؤلاء النشطاء لاحقًا هيئة وطنية تُعرف باسم لجان التنسيق المحلية، لتكون منصة لتبادل المعلومات. ورغم أن هذه اللجان استندت إلى مبادئ سياسية عامة مثل رفض التدخل الأجنبي والكفاح المسلح، فإنها كانت شبكة من النشطاء أكثر من كونها حركة سياسية، ولم تلعب دورًا قياديًا فعّالًا في الانتفاضة أو في علاقتها مع الجيش الحر عند ظهوره لاحقًا.
ومع انسحاب الدولة من أحياء أو مدن معينة، شارك العديد من النشطاء في تأسيس مجالس ثورية لإدارة الخدمات الأساسية والبنية التحتية العامة، غالبًا بدعم من كتائب الجيش الحر المحلي. وفي الوقت نفسه، كان النضال ضد النظام يشهد مزيدًا من العسكرة. فالمجموعات المسلحة من المنشقين والسكان التي أُسست لحماية المظاهرات كانت تنمو، وقد بلغ عدد أفرادها عشرات الآلاف في عام 2012.
وكان من نقاط الضعف الأساسية للتمرد المسلح هو تشتته السياسي والتنظيمي. فلم يصبح الجيش الحر أكثر تماسكًا مع مرور الوقت، بل ازداد انقسامًا. عدم وجود قيادة سياسية موحدة للانتفاضة المسلحة جعله يعمل كائتلاف فضفاض لبعض القوى التي تحارب نظام الأسد، لا كذراع مسلحة لحركة ثورية موحدة. وقد ساهم هذا في نجاح استراتيجية النظام الطائفية، التي بدأت تؤتي ثمارًا مروعة. فرغم أن معظم فصائل الثوار ظلت ترفض الطائفية بشكل واضح، إلا أن مدينة حمص شهدت من منتصف عام 2011 سلسلة من عمليات الخطف والقتل المتبادل على أسس طائفية، طالت بشكل أساسي السنة والعلويين. ومن المرجّح أن أذرع النظام القمعية لعبت دورًا في كثير من هذه الجرائم، لكن بعض الفصائل الثورية غير المنضبطة أو العصابات المسلحة التي استفادت من الفوضى لجني فدى كانت مشاركة أيضًا. وفي كل الأحوال، فإن تشرذم الجيش الحر وغياب قيادة سياسية موحدة زاد من صعوبة مواجهة هذه الاتجاهات الخطيرة.
الفصل الثالث – عواقب الهزيمة وصعود المعارضة المسلحة السنية الإسلامية
أدّى تطوّر الحرب الأهلية في سوريا إلى تدخل القوى الإقليمية لدعم نظام الأسد أو معارضيه، ما ترك مساحة ضئيلة جدًا للقوى الشعبية الثورية المحاصرة. على سبيل المثال، دعمت دول الخليج قوى عسكرية في المعارضة كانت تظن أنها ستحقق مصالحها، مما زاد من قوتها مقارنةً بتلك الفصائل التي رفضت التدخل الخارجي. فحكام السعودية كانوا قد سحقوا للتوّ تمردًا شعبيًا في عقر دارهم، ولم تكن لديهم أي نية لإنقاذ الثوار السوريين من تدمير نظام الأسد. بل دفعهم إلى الانخراط المتزايد في الصراع السوري دوافع أخرى، منها الرغبة في كبح النفوذ المتصاعد لإيران.
وسرّعت ديناميكيات الثورة المضادة والحرب الأهلية في سوريا من انتشار سمّ الطائفية في عموم المنطقة. ففي حين استدعى نظام الأسد حلفاءه مثل حزب الله من لبنان والميليشيات الشيعية من العراق بحجة الدفاع عن الأضرحة الشيعية، كان دعاة سنة من مصر إلى الخليج يحثون جماهيرهم على التبرع بسخاء لـ”الجهاد في سوريا”.
وكانت استراتيجية قادة الثورات المضادة التي انطلقت في كل بلد تهدف إلى تحطيم وعد التضامن بين العمال والفقراء في أرجاء المنطقة، واستبداله بربط المواطنين والتابعين بهم من خلال دعوات إلى “الوحدة الوطنية” ضد أعداء من الداخل والخارج. فبرز محوران متضادان من القوى الإقليمية: الأول تمحور حول دول الخليج بقيادة السعودية، وسعى إلى استقطاب تركيا وتجاوز الخلافات التكتيكية بين السعودية وقطر بشأن دعم الإخوان المسلمين في مصر. أما المحور الآخر فقادته إيران، متحالفةً مع قوى إقليمية في العراق وسوريا وبدعم من تنظيم حزب الله اللبناني. وعمّق الصراع بين هذين المحورين الإحساس بوجود معركة طائفية شاملة في المنطقة، إذ بات يُنظر إلى الصراع على أنه مواجهة بين “قوى سنية” و”قوى شيعية”.
لم تكن الثورة المضادة والحرب الأهلية في سوريا نتيجة فقط للديناميكيات الإقليمية للثورة المضادة والمنافسة العسكرية، بل ساهمت أيضًا في تغذيتها وتعميقها. فمعظم أنظمة الخليج كانت أقل عرضة لتحديات داخلية من قبل حركات معارضة جماهيرية مقارنة بباقي دول المنطقة. ولهذا السبب، بقيادة السعودية، قاموا أولًا بسحق الاحتجاجات القريبة منهم في البحرين، ثم تحالفوا مع الجنرالات المصريين الذين كانوا يخططون لعودة دموية في عام 2013، وسعوا إلى خنق الحركة الشعبية في سوريا من خلال تسليح جماعات إسلامية معادية لأهدافها. من جهته، استدعى نظام الأسد الدعم العسكري واللوجستي من حلفائه الإقليميين في دول مثل العراق ولبنان، اللتين لم تشهدا سوى صدى ضعيف من ثورات الربيع العربي، ومن إيران التي كانت آنذاك في الغالب بمنأى عن موجة الاحتجاجات الإقليمية.
إن تطوّر صراع إقليمي حول مصير سوريا – حتى لو كان لا يزال يُخاض في معظمه بين السوريين – جذب بالضرورة القوى العالمية أيضًا. ففي الواقع، كانت المساحة التي سمحت لصعود تلك القوى الإقليمية المنخرطة في الحرب السورية قد نشأت نتيجة التراجع النسبي في القوة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط عقب الفشل المكلف والمحبط في احتلال العراق وأفغانستان. فقد تركت الولايات المتحدة، وبريطانيا، والقوى الأوروبية المجال لحلفائها المحليين للمبادرة في دفع عملية الثورة المضادة إلى الأمام. وركّزت الولايات المتحدة جهودها العسكرية على قتال الجماعة الإسلامية المتطرفة “داعش” في شمال العراق وسوريا، وشكّلت تحالفًا مع الجماعات الكردية المسلحة (انظر الفصل المتعلق بتركيا والأكراد).
وقد أفسحت الترددات والتناقضات في السياسات الأمريكية تجاه سوريا المجال أمام حكّام روسيا لإرسال قواتهم الجوية والبريّة لقلب موازين المعركة مرة أخرى لصالح نظام الأسد في خريف 2015 وربيع 2016. وبالنظر إلى انخراط روسيا في صراع مرير في أوكرانيا وتزايد التوتر مع الناتو في أوروبا الشرقية، فإن تدخلها في سوريا خدم عددًا من الأهداف. فقد دعم حليفًا مهمًا، وضمن الوصول إلى آخر قاعدة بحرية روسية خارج الاتحاد السوفيتي السابق، وأنشأ قاعدة جوية عسكرية جديدة في حميميم قرب اللاذقية. كما قوّضت الحملة العسكرية النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط من خلال تقديم روسيا كحليف فعّال وبديل محتمل عن القوى الغربية.
أما من وجهة نظر السوريين العاديين، فكان الدعم من روسيا وحلفائها المحليين مثل إيران وحزب الله كارثيًا. فقد مكّن النظام من التشبث بالسلطة بثمن دمار هائل. فبحلول عام 2016، كان أكثر من 50% من سكان سوريا البالغ عددهم 22 مليونًا قد نزحوا، منهم 6.6 ملايين داخل سوريا وقرابة 4.8 ملايين إلى دول الجوار. ووصل عدد أقل بكثير إلى أوروبا، حيث أغلقت الحكومات الأبواب أمام الدخول القانوني، باستثناء نسبة ضئيلة. وبحسب الأمم المتحدة، تقدم نحو مليون سوري بطلب لجوء إلى أوروبا بين أبريل 2011 ومارس 2016، من بينهم 350,000 خلال عام 2015 وحده.
وكان عدد السوريين الذين وافقت الدول الغنية على إعادة توطينهم مباشرة من بين الملايين المهمشين والفقراء الذين يعيشون في تركيا ولبنان والأردن وغيرها من الدول، عددًا بائسًا. فبين عامي 2013 و2016، تم إعادة توطين 67,000 سوري فقط من أصل 4.8 مليون لاجئ من قبل أغنى دول العالم، أي ما يعادل 1.4% فقط من الإجمالي. وبالتالي، فإن “أزمة اللاجئين” في أوروبا هي أزمة من صنع حكوماتها لمرتين: أولًا، عبر تغذية الحرب في الشرق الأوسط من خلال التدخل العسكري، وثانيًا، عبر حرمان اللاجئين من أي خيار سوى المجازفة بالدخول غير المصرح به.
وسياق دمار المجتمع السوري بفعل الحرب هو أيضًا السياق الذي شهد صعود جماعات مثل هيئة تحرير الشام (HTS) التي قادت الهجوم العسكري الناجح بين 27 نوفمبر و8 ديسمبر 2024 ضد نظام الأسد. ومن أجل فهم كيف استطاعت HTS أن تظهر وتلعب هذا الدور، من الضروري إجراء تحليل مادي للأفكار الإسلامية المرتبطة بمثل هذه الجماعات المسلحة. وأول نقطة يجب التأكيد عليها هنا هي أن مصطلح “الإسلامي” يحمل معانٍ مختلفة في سياقات مختلفة، ويشمل مجموعة واسعة من الحركات. ففي نظر السياسيين العنصريين في أوروبا وأمريكا، غالبًا ما يُستخدم مصطلح “إسلامي” كشتيمة، ويُوظف بطريقة إسلاموفوبية كاختزال لأي مسلم يعارض الإمبريالية والعنصرية ويعبر عن تضامنه مع قضايا مثل النضال الفلسطيني من خلال لغة دينية.
أما المنهج الماركسي في فهم الحركات الإسلامية، فيختلف تمامًا. فهو لا يساوي بين الإسلام والإسلامية، بل يحلل الحركات التي يقودها أفراد يستخدمون لغة مستوحاة من التعاليم الإسلامية لمحاولة حل المشكلات السياسية في المجتمع المعاصر بطرق ملموسة. ويتساءل التحليل الماركسي عما يقوله أعضاء وقادة هذه الحركات، وما يفعلونه، وما هي الطبقات أو الشرائح الاجتماعية التي ينتمون إليها، وكيف يتفاعلون مع الحركات الأخرى ومع الدولة. وغالبًا ما تكون الحركات الإسلامية مركّبة من طبقات اجتماعية متعددة، ولديها الكثير من القواسم المشتركة مع الحركات القومية، خاصةً في بلدان الجنوب العالمي. لقد أصبحت الأيديولوجيات الإسلامية شائعة في العديد من الأماكن نتيجة فشل وخيانة الحركات القومية العلمانية والشيوعية الستالينية التي تولت السلطة في موجة الثورات المناهضة للاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية.
بوجه عام، تعد الطبقة الوسطى الحديثة هي الشريحة الاجتماعية الأكثر أهمية في قيادة المنظمات الإسلامية، رغم أن هذه المنظمات تحظى أحيانًا بدعم بعض شرائح الطبقة الحاكمة وشرائح من العمال والفقراء. وهذا ما يفسر تذبذب الحركات الإسلامية بين استراتيجيات إصلاحية وأخرى طليعية للتغيير السياسي. وتعني “الإصلاحية” هنا نهجًا يسعى لتحقيق تغييرات داخل النظام السياسي القائم من خلال تعبئة شرائح من الفقراء والمضطهدين في الانتخابات أو الحملات السياسية خلف مطالب تهدف إلى تحسين حياة الناس العاديين، ولكن بطرق تدريجية ومتواضعة لا تُحدث تغييرًا جذريًا في بنية المجتمع. وقد تم تأطير مبدأ الزكاة – الواجب الديني على المسلمين لتوزيع نسبة من دخلهم على الفقراء – من قبل بعض المنظرين الإسلاميين كتبرير أيديولوجي لتوسيع دولة الرفاهية وفرض ضرائب تصاعدية، بدلًا من اعتباره واجبًا شخصيًا فقط. وبالمثل، تم تأطير مفهوم الشورى السياسي الإسلامي كتبرير لتوسيع الحقوق الديمقراطية في ظل أنظمة استبدادية. جنبًا إلى جنب مع هذه الأفكار الإصلاحية، تُعبئ بعض الحركات الإسلامية أنصارها أيضًا حول أفكار رجعية، مثل إلقاء اللوم على النساء “المتحررات” أو مجتمع الميم أو الأقليات الدينية في مشاكل المجتمع.
التيارات الإسلامية الإصلاحية وُجدت في العديد من الدول، بما في ذلك سوريا، إلى جانب جماعات إسلامية أخرى تعطي الأولوية لتحركات الطليعة المسلحة كوسيلة رئيسية لإحداث تغيير سياسي من خلال السيطرة على الدولة القائمة أو بناء دولة جديدة من الصفر. التاريخ الشخصي لأحمد الشرع، المعروف أيضًا بأبي محمد الجولاني، الذي برز كقائد لسلف هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة، يجسد العديد من التناقضات التي تتسم بها هذه النوعية من التنظيمات الإسلامية.
حدثان أساسيان شكّلا رؤيته للعالم هما الرد الإسرائيلي الوحشي على الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، والغزو الأمريكي للعراق عام 2003. كشاب غاضب من الطريقة التي كانت بها الإمبريالية الأمريكية وحليفتها الإقليمية الرئيسية، إسرائيل، تمزّقان حياة العراقيين والفلسطينيين، سافر إلى العراق وانضم إلى المقاتلين الإسلاميين السنّة الذين شنوا هجمات على القوات الأمريكية المحتلة. كانت مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار أحد مراكز المقاومة ضد الوجود الأمريكي. سقطت الفلوجة في أيدي القوات الأمريكية عام 2003 دون مقاومة تُذكر، لكن خلال أسبوعين تقريبًا، أدّى إطلاق القوات الأمريكية النار على المتظاهرين إلى اندلاع أولى أعمال المقاومة المسلحة. وفي عام 2004، حوصرت المدينة وتم اقتحامها مرتين من قبل القوات الأمريكية. وبحسب تقرير لمجموعة الأزمات الدولية صدر عام 2014:
دمرت الحملة العسكرية عام 2004 نحو 70٪ من البنية التحتية للمدينة، بما في ذلك 36,000 مبنى، و8,400 محل تجاري، وثلاثة خطوط أنابيب لتنقية المياه، ومحطتان كهربائيتان. وعندما عاد المدنيون، قامت القوات الأمريكية بتعقّبهم باستخدام بصمات الأصابع وأجهزة مسح قزحية العين. وكان على كل منهم إظهار بطاقة هوية بيومترية شخصية صادرة عن الولايات المتحدة عند الدخول والخروج من المدينة.
سعت الولايات المتحدة لإدارة العراق من خلال بناء تحالفات سياسية مع جماعات إسلامية شيعية وكردية كانت تعارض نظام صدام حسين السابق. ومع ذلك، فإن العديد من فقراء الشيعة العراقيين كانوا أيضًا يعارضون بشدة الاحتلال الأمريكي، ونشأت حركة تمرد شيعية بقيادة السياسي الإسلامي الشيعي مقتدى الصدر، خصوصًا في مناطق مثل مدينة الصدر في بغداد والنجف. وفي ربيع عام 2004، أظهرت استطلاعات الرأي أن 80٪ من العراقيين يرون أن الولايات المتحدة قوة محتلة، و81٪ يريدون مغادرتها. ورفضت القوات العراقية الشيعية الانضمام إلى الولايات المتحدة في هجومها على الفلوجة. ومع ذلك، تبيّن أن بناء حملة سياسية موحدة ضد الاحتلال الأمريكي كان أمرًا مستحيلًا، وتزايدت الدعوات للانتقام الطائفي والتضامن المجتمعي. ولعبت الولايات المتحدة نفسها دورًا محوريًا في هذا المسار من خلال تعزيز دعمها لحلفائها الإسلاميين الشيعة في محاولة لتقويض بوادر التضامن السني-الشيعي الهشة.
ضمن صفوف المقاتلين الإسلاميين السنّة، كان هناك من يسعى لتحويل التمرد ضد الاحتلال الأمريكي إلى حرب أهلية طائفية ضد الشيعة العراقيين. وكان التنظيم الذي انضم إليه الجولاني في البداية، القاعدة في العراق (AQI)، ومن بعده تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، من بين هذه التنظيمات. وتميزت القاعدة في العراق، بقيادة الإسلامي الأردني أبو مصعب الزرقاوي، بطائفيتها الشديدة واستخدامها للتفجيرات الجماعية التي لم تكن تستهدف القوات الأمريكية بل المواطنين الشيعة العراقيين. وقد تسببت فظائعها في ردود فعل وحشية من قبل الميليشيات الشيعية المرتبطة بأحزاب سياسية حليفة للولايات المتحدة ومرتبطة بالنظام الإيراني، مما ساهم في إشعال حلقة مفرغة من “التطهير” العرقي والطائفي. وبالرغم من أن الطائفية ووحشية تنظيم الدولة أثارت اشمئزاز معظم العراقيين، فإن مستوى القمع الذي مارسه حلفاء الولايات المتحدة أكسب التنظيم بعض الدعم، وخصوصًا في غرب العراق.
أما الجولاني، فقد عاد إلى سوريا في أغسطس 2011 وساهم في تأسيس جبهة النصرة، وهي جماعة إسلامية سنّية مسلّحة سرعان ما أصبحت قوة بارزة بين فصائل المعارضة التي تحارب نظام الأسد. وفي عام 2013، أعلن قادة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق اندماجهم مع جبهة النصرة تحت اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وكان ذلك بدافع جزئي من التنافس مع التنظيم الأم، القاعدة، الذي أسّسه أسامة بن لادن. رفض الجولاني هذا الاندماج وقطع علاقاته مع تنظيم الدولة، بل وأرسل مقاتلي جبهة النصرة لمحاربة داعش بعد أن استولى الأخير على مساحات واسعة من سوريا، لا سيما حول مدينة الرقة شمال شرق البلاد في عام 2014.
في سوريا، تمتع مقاتلو داعش بعدة مزايا على الجماعات المسلحة الأخرى. فلديهم خبرة طويلة في القتال، بما في ذلك مواجهة خصوم أكبر وأفضل تسليحًا كالقوات العراقية والأمريكية. كما كان لديهم العراق كقاعدة خلفية لعملياتهم في سوريا. إضافة إلى ذلك، اختلفت أهدافهم السياسية والإقليمية عن الآخرين، واستفادوا من انشغال خصومهم بقتال بعضهم البعض. فبينما كان الهدف النهائي للنظام ومعارضيه هو العاصمة دمشق، سعت داعش إلى إنشاء دولة جديدة في منطقة مختلفة. ولهذا السبب تعاون نظام الأسد بشكل براغماتي مع داعش أحيانًا في مجال النفط، فاستمر في دفع رواتب عمال النفط في المناطق التي تسيطر عليها داعش لضمان استمرار تدفق النفط والغاز إلى العاصمة. في كل منطقة سيطرت عليها، قامت داعش بسحق ما تبقّى من الحراك الشعبي، وأعدمت الناشطين، وفرضت حكمًا استبداديًا على السكان. وفي النهاية، هُزمت الدولة الإسلامية من خلال تحالف بين القوات الأمريكية والمجموعات الكردية المسلحة في الرقة، وتحالف من الميليشيات الإسلامية الشيعية المدعومة من الولايات المتحدة وإيران في شمال العراق.
في المقابل، فإن قرار الجولاني بالتركيز على بناء تحالفات عسكرية وسياسية بين فصائل المعارضة السورية المتشظية أثمر في النهاية، وقاده إلى السلطة في دمشق. هناك عدة أسباب محتملة لنجاحه مقارنة بفشل قائده السابق، أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة. بعض هذه الأسباب سياسية: فقد عبّر الجولاني بوضوح عن رفضه لاستراتيجية بناء دولة إسلامية جديدة تتعمد القطيعة مع الإطار الذي رسمته القوى الأوروبية في نهاية الحرب العالمية الأولى، على عكس خلافة داعش العابرة للحدود بين سوريا والعراق. وفي مقابلات أجراها قبل الهجوم في ديسمبر 2024، سعى لإقناع الحكومات الغربية بأن تنظيمه لا يعتزم خوض صراع مسلح عابر للحدود ضدها، على غرار تنظيم القاعدة.
أما الدولة التي لعب الجولاني دورًا رئيسيًا في بنائها، وهي حكومة الإنقاذ السورية في إدلب، فتعكس نهجًا مختلفًا عن داعش وغيرها من الجماعات الإسلامية المسلحة الأكثر تشددًا أيديولوجيًا. فقد حرص الجولاني وآخرون في هيئة تحرير الشام، التشكيل العسكري الموحد الذي ساعد على تشكيله من فصائل إسلامية متعددة منها جبهة النصرة، على خلق انطباع بأن الشؤون المدنية تُدار من قبل إدارة منفصلة. وقد كانت حكومة إدلب سلطوية، وتعرضت بشكل متكرر لحركات احتجاجية كبيرة تندد بسياساتها الاجتماعية وبالوحشية والتعذيب الممارس ضد معارضي الهيئة وحكومة الإنقاذ، لكنها حصلت أيضًا على قدر من الشرعية من قدرتها على جمع الضرائب، وإصلاح الطرق، وتوفير السكن والطعام لملايين السوريين المهجرين الذين فروا من مناطق سيطرة النظام إلى إدلب. ومع ذلك، فإن جيب حكومة الإنقاذ كان دائمًا في وضع هش للغاية، وكأنه على وشك أن يُسحق في أي لحظة بهجوم حاسم من النظام. ومع ذلك، وفي مقابلة أجراها الجولاني عام 2019 مع باحث من مجموعة الأزمات الدولية، ظل متمسكًا بموقفه:
“إذا طُلب مني أن أكون واقعيًا وأن أقبل بعدم وجود إرادة دولية لتغيير النظام، فعلى العالم أيضًا أن يكون واقعيًا ويقبل بأن أكثر من نصف سكان سوريا، أي نحو 12 مليون شخص، اختاروا عدم العيش تحت سيطرة النظام. لقد صوّتوا بأقدامهم. أقل ما يستحقه هؤلاء الناس هو أن يعيشوا بأمان. عندما تتجول هنا في إدلب، اختر أي مدني واسأله ماذا يعني له أن يعيش تحت سيطرة النظام. سيقول لك إنه يفضل العيش في مخيمات مؤقتة يموت فيها أطفاله من قساوة الطقس على العودة إلى مناطق النظام حيث يعلمون أنهم سيتعرضون للتعذيب والقتل.”
هذا التحليل يسلط الضوء على السبب الجوهري الآخر لنجاح هيئة تحرير الشام: الانهيار التام لشرعية النظام وسلطته السياسية، حتى في المناطق الخاضعة لسيطرته العسكرية. هذا الضعف السياسي لم يكن نتاجًا لسياسات الهيئة ذاتها، بل كان انعكاسًا لحجم الانتفاضة عام 2011، وفشل النظام في استعادة الثقة في مؤسساته بعد سحق الثورة الشعبية عسكريًا بدعم من حلفائه الخارجيين.
=================================================================
صندوق – وجهة نظر أحد المجندين حول سقوط النظام
تم تجنيد إياد في جيش نظام الأسد وكان يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية عندما سقط النظام في ديسمبر 2024. وتساعد روايته في تفسير السبب وراء انهيار القوات المسلحة التابعة للنظام بهذه السرعة بعد أولى الانتصارات العسكرية التي حققتها القوات بقيادة هيئة تحرير الشام على أطراف حلب، وتؤكدها العديد من الروايات الشاهدة المماثلة.
“قبل 15 آذار 2011، كانت الخدمة العسكرية للسوريين مدتها سنة ونصف. وكان يُخدَم المجندون في رتب مختلفة حسب مستواهم التعليمي. إذا كان لديك شهادة ثانوية أو بكالوريا، تصبح ضابط صف، بينما خريج الجامعة يصبح ضابطًا. بعد 2011، بقيت مدة الخدمة رسميًا سنة ونصف، لكن من دخل الجيش لم يكن يعلم متى سيتم تسريحه، وأطول خدمة وصلت إلى عشر سنوات ونصف. بالإضافة إلى السنة والنصف الإلزامية، كان يُفرض على الشبان أن يخدموا 8 سنوات في الاحتياط، مثلاً.
كان على الجميع أن يخدم، إلا إذا استطاعوا دفع المال للإعفاء، أو كانوا مصابين بمرض مزمن، أو المعيل الوحيد لأمهم. طبعًا، 90 بالمئة من الناس لم يرغبوا بالذهاب، لأن الشبان كانوا يُقتلون في الحرب. كانوا يهربون أو يتأخرون في الالتحاق، رغم أنه كان يتم الإمساك بهم على الحواجز ثم يُسجنون. كانت الأوضاع سيئة جدًا للجنود في المهمات القتالية. سيئة إلى درجة لا توصف. ولم يكن بإمكانك أن تشتكي أو تتكلم. كان عليك فقط أن تسمع كلام قائد الفصيل. كانت الخدمة العسكرية سيئة جدًا لأنهم كانوا يجعلونك تعمل، ويعذبونك، ويسرقون مالك. إذا دفعت مالاً، كان هناك بعض التسهيلات. الطعام والشراب كان سيئًا لأن معظمهم كان يُسرق. كل شيء كان يتعلق بالمال في الجيش. إذا استطعت أن تدفع، كنت تستطيع الخروج في إجازة باكرًا. وحتى الحصول على هوية عسكرية كان يكلف مالاً كثيرًا. وكان على الضباط أن يدفعوا من أجل الحصول على تحويلة إلى المستشفى إذا مرضوا.
كان البلد كله قد بدأ بالخروج والاحتفال في الشوارع حتى قبل أن يرحل بشار الأسد. وكنّا كجنود مقتنعين أن النظام سيسقط، فلم نغادر معسكراتنا، بينما في الحقيقة الضباط غادروا القاعدة قبل حوالي أسبوع وذهبوا إلى بيوتهم. لم يكن هناك شيء اسمه جيش عندما سقط النظام.”
=================================================================
الفصل الرابع – النضال من أجل تحرير فلسطين
أثار سقوط نظام الأسد ردود أفعال متباينة بين النشطاء الفلسطينيين وفي أوساط حركة التضامن الأوسع مع فلسطين. إذ رأت إحدى التوجهات أن انهيار نظام الأسد كارثة، فاقمت الضرر الذي لحق بحزب الله في لبنان خلال حربه مع إسرائيل. ووفقًا لهذا المنظور، فإن إضعاف “محور المقاومة” – إيران والميليشيات التي تدعمها – شكّل نكسة كبيرة لحركة تحرير فلسطين. في المقابل، احتفل آخرون بسقوط الأسد، قائلين مثلًا إن زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، سيسمح للمسلمين السنة “بالظهور كقوة كبرى في المنطقة والعمل من أجل تحرير فلسطين”، بحسب الباحث زين حسين.
وجرت هذه النقاشات بينما كانت القوات الإسرائيلية تصعّد هجماتها الإبادية على غزة وتستولي على مزيد من الأراضي السورية. في الواقع، شكّلت تداعيات سقوط الأسد دليلًا إضافيًا على طموحات إسرائيل التوسعية، بما في ذلك السيطرة على جبل الشيخ المطل على العاصمة السورية دمشق. ويبيّن المسار الطويل الذي أدى إلى سقوط الأسد ميزتين أساسيتين من ميزات النضال من أجل تحرير فلسطين. أولًا، ضعف الاستراتيجيات المعتمدة على المواجهات العسكرية التقليدية مع القوات الإسرائيلية، والتي تعتمد بطبيعتها على دعم الدول الإقليمية. وثانيًا، تبرز الحاجة إلى استراتيجية بديلة تضع الثورة الفلسطينية في موقعها الحقيقي – في قلب نضال الشعوب العادية عبر المنطقة لتحرير أنفسهم. ويتطلب ذلك مشاركة نشطة وواعية من الطبقة العاملة المنظمة لتكون لها فرصة حقيقية في النجاح. وهذا بدوره يحتاج إلى مساحة سياسية تتيح للعمال والفقراء تنظيم أنفسهم بشكل مستقل عن الدولة. وفقط في ظل هذه الشروط يمكن للجماهير أن تجعل تحرير فلسطين أحد مطالبها الخاصة وتدرك أن إسقاط الطغاة الإقليميين هو خطوة ضرورية نحو النصر.
أظهر انهيار نظام الأسد مجددًا محدودية الاعتماد على الدول الإقليمية كحاجز ضد العدوان الإسرائيلي باستخدام أدوات الحرب التقليدية. وعلى الرغم من آمال الكثيرين، لم يكن “محور المقاومة” قادرًا على مضاهاة القدرات العسكرية لإسرائيل وداعميها الغربيين.
وإذا كانت حركة حماس تهدف من خلال هجمات 7 أكتوبر 2023 إلى حشد دعم الدول الإقليمية لمقاتليها المحاصرين وتغليبهم على القوات الإسرائيلية، فإن هذا لم يحدث حتى الآن. إذ تردد قادة إيران وحزب الله في تصعيد تبادل الصواريخ مع إسرائيل ردًا على الهجوم الوحشي على غزة. وقد أتاح هذا التردد للجيش الإسرائيلي فرصة لاغتيال قيادات ميدانية لحزب الله وقصف لبنان بقوة لإجباره على وقف إطلاق النار. ولم يتمكن “محور المقاومة” من توحيد موارده العسكرية لتفوق القوة النارية الإسرائيلية المدعومة غربيًا. وقد تمتع قادة إسرائيل حتى الآن بحصانة سياسية كاملة حيث يهم الأمر – أي بين حلفائهم الغربيين وموردي الأسلحة والمعدات العسكرية الأساسيين.
لكن هل تعني هذه الانتكاسات أن انتصار إسرائيل على حماس وباقي فصائل المقاومة بات مؤكدًا؟ لقد تصرفت الولايات المتحدة بوحشية مماثلة، وبدت بمنأى عن المحاسبة، وهي تقصف وتحرق فيتنام وكمبوديا، ومع ذلك هُزمت في النهاية. وقتلت القوات الاستعمارية الفرنسية أكثر من عُشر سكان الجزائر في عام 1954، لكنها فشلت أيضًا في النهاية. ولم تتمكن القوات الإسرائيلية، رغم تفوقها العسكري، من القضاء على المقاتلين المقاومين في جنوب لبنان وغزة. وعلى الرغم من حجم الدمار الذي يوازي دمار الحرب العالمية الثانية في شدته، فقد جندت حركة حماس تقريبًا عددًا مماثلًا لما فقدته من مقاتلين، بحسب ما قاله وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في يناير 2025.
علاوة على ذلك، فإن التوسع الإسرائيلي في سوريا سيؤدي إلى ولادة تمرد جديد. فقد أطلقت القوات الإسرائيلية النار على سبعة من سكان قرية السويسة وجرحتهم أثناء احتجاجهم على احتلال أراضيهم، في واحد من العديد من الحوادث في المناطق التي تم الاستيلاء عليها مؤخرًا.
وهناك عامل آخر يحد من قدرة إسرائيل على تحقيق النصر، وهو غضب وحنق المهمشين، وهو ما يغذي حركات التحرر الوطني من القاعدة. فالذين لا يملكون شيئًا يخسرونه، والذين لم يتمكنوا أبدًا من شراء مخرج أو مهرب، يثبتون دومًا أنهم عصيون على القهر. وليس من قبيل الصدفة أن تكون مخيمات اللاجئين الفلسطينيين قد أنجبت أجيالًا متعاقبة من المقاتلين، حتى لو كان قادة الحركات من طبقات اجتماعية أعلى.
ويظهر هذا الغضب جليًا في مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية. فهنا، من السهل أن نرى ملامح حرب طبقية تتشكل في تصاعد المواجهات والمقاومة. فقد دمرت إسرائيل جنين خلال الانتفاضة الثانية وتواصل قصفه. ويعد جنين من أكثر المناطق فقرًا وبطالة في الضفة الغربية. وتتشكل فيه تشكيلات مقاومة جديدة بينما تتوحد فصائل مثل الجهاد الإسلامي الفلسطيني وكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.
وقد نُفذت الهجمات الأخيرة على المخيم، وعمليات الاختطاف والاغتيال لعدد من المقاتلين، ليس من قبل الإسرائيليين، بل على يد شرطة السلطة الفلسطينية العسكرية. وقد نظّم شبان وشابات احتجاجات جماهيرية، وحاصروا عربات الشرطة المصفحة، متهمين الضباط بالخيانة والتعاون مع الاحتلال. وتتوصل مخيمات أخرى، مثل الأمعري قرب رام الله، وطولكرم، والخليل إلى الاستنتاج ذاته: أن السلطة الفلسطينية باتت عائقًا أمام النضال ضد الإبادة الجماعية والاستعمار الاستيطاني.
وتتردد أصداء سقوط نظام الأسد في النضال الفلسطيني. فقد شكّلت الهجمة العسكرية التي قادتها هيئة تحرير الشام نوعًا من “قصة عودة” مؤثرة من لاجئين فقراء ومبعدين. وستظل صور المقاتلين الذين يسيرون من مدينة إدلب السورية إلى المناطق التي أجبروا على مغادرتها قبل عقد من الزمن محفورة في ذاكرة السوريين لسنوات طويلة. وكما أشار الكاتب الفلسطيني أحمد إبسيس: “لقد حركت صور السوريين العائدين إلى ديارهم شيئًا عميقًا في وعينا الجمعي – إمكانية العودة، والطرق التي يعاد وصلها، والحدود التي تُمحى بفعل بسيط هو مشي الناس نحو بيوتهم.”
لكن توجد العديد من التناقضات في سوريا بعد الأسد. فهناك توترات محتملة بين مصالح المقاتلين العاديين المنفيين وقيادة الجولاني التي تسعى إلى إدماج نفسها ضمن جهاز الدولة – ودمج هذا الجهاز داخل النظام العالمي.
إن براغماتية الجولاني تجاه إسرائيل نابعة جزئيًا من ذات الضغوط التي دفعت زعيم السلطة الفلسطينية السابق، ياسر عرفات، نحو التنازل والخيانة. فالحاجة إلى الظهور بمظهر مقبول أمام الحلفاء المترددين والأصدقاء المتقلبين للحصول على التمويل لإعادة بناء المنازل المدمرة، ودفع رواتب الموظفين الحكوميين، والحصول على الأسلحة، قد تتجسد بشكل أسرع من التجربة الفلسطينية.
وهناك أسباب إضافية تدعو للحذر من هيئة تحرير الشام والشك بدورها في تحرير فلسطين. أحد هذه الأسباب هو الميول الشوفينية والطائفية لقيادات مثل الجولاني، الذي يركز أكثر على المعركة ضد النفوذ الإيراني في المنطقة بدلًا من التركيز على القضية الفلسطينية. وتشكل السياسة الرجعية لقيادة الهيئة فيما يخص قضايا مثل حقوق النساء، والطبيعة السلطوية للدولة التي يسعون إلى بنائها، تهديدًا حقيقيًا للسوريين الذين ناضلوا طويلًا من أجل الحرية.
وتكمن المشكلة في اختزال النقاش حول إسقاط الأسد إلى تقييم “الطابع الثوري” لإستراتيجيتين نخبويتين مختلفتين. فذلك يخفي ثلاثة دروس مهمة يمكن أن يستفيد منها النضال الفلسطيني من الثورة السورية عام 2011.
أولًا، كانت انتفاضة سوريا مدفوعة بغضب المهمشين والمحرومين. فقد لعبت الضواحي الفقيرة للمدن الكبرى دور الخزانات الحيوية للتحركات الثورية، وأصبحت أماكن للملاذ والأمل في وجه قمع النظام. وقد دفعت هذه المناطق ثمنًا باهظًا لتمردها، من حصار وتجويع وقصف ونزوح، لكنها لم تتراجع. وعندما أتيحت الظروف، شرع الناس العاديون في تنظيم أنفسهم مجددًا للمطالبة بالحريات الأساسية والعدالة الاجتماعية.
ثانيًا، يبين مصير المجتمع الفلسطيني في مخيم اليرموك بجنوب دمشق استحالة “الحياد” أو “عدم التدخل” بالنسبة للفلسطينيين العاديين خلال ثورة شعبية. فبحلول عام 2011، كان المخيم الأصلي قد اندمج في الضواحي العمالية المحيطة، لكنه احتفظ بهويته الفلسطينية رغم التحديات، حتى عندما هُدد الفلسطينيون الراغبون في الانضمام للثورة بمجازر وبأن يصبحوا لاجئين مرة أخرى. وعلى الرغم من ذلك، رأى العديد من الفلسطينيين أنفسهم بشكل فطري وغير مشروط في صف الشعب ضد الدولة، وتصرفوا بناءً على ذلك.
وانفجر المخيم أولًا في وجه الفصائل الفلسطينية المتحالفة مع نظام الأسد، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة. فقد تصرفت قيادة هذه الفصائل المسلحة كمرتزقة في خدمة الدولة البعثية. ووقعت أول مواجهة كبرى بعد أن جنّدت الجبهة مجموعة من الشباب النشطاء لتنظيم مظاهرة على حدود الجولان المحتل في يونيو 2011. فقامت القوات الإسرائيلية بإطلاق النار وقتلت أكثر من 20 فلسطينيًا.
وقد شارك حوالي 30 ألف شخص في جنازات الضحايا في اليرموك، ووجّه الغضب نحو النظام السوري. واتهم المحتجون الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة بالتضحية بأرواح شباب اليرموك لصرف الانتباه عن حملة القمع الوحشية المتزايدة ضد المظاهرات المعارضة لحكم الأسد. وقد كانت هذه المظاهرات قد بدأت منذ ستة أسابيع، ووفقًا للتقارير الإعلامية، فتح مسلحو الجبهة النار على الحشود.
وقد تذكر الكاتب السوري الفلسطيني نضال بيتاري لاحقًا مشاعره العارمة خلال مظاهرة جنازات يونيو 2011 في اليرموك:
“في تلك المظاهرة، أدركت أنني أصرخ بكلمة حرية من أعماق قلبي، لأنني كنت أشتاق إليها: كنت أتوق لها. كما أدركت أن فلسطين لم تكن سوى اللجام الذي وضعه النظام على أفواهنا طيلة ثلاثين سنة من حياتي. صرخت كثيرًا، وانهار ذلك الحاجز، وانكشف الحجاب.”
وخلال السنوات التالية، اشتد عدوان النظام السوري على الشعب. ففي ديسمبر 2012، قصفت القوات الجوية السورية مخيم اليرموك لأول مرة، ما أجبر غالبية سكانه على الفرار. وفي العام التالي، فرض النظام حصارًا على المنطقة، وطبق سياسة “الاستسلام أو الموت جوعًا” التي تهدف إلى سحق المقاومة السياسية والمسلحة.
وقد كانت أوجه الشبه القاتمة مع الفظائع التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في شمال غزة بعد عقد من الزمن واضحة للعيان.
=================================================================
صندوق – حماس والثورات في مصر وسوريا
اتخذت حركة حماس الإسلامية الفلسطينية موقفًا مختلفًا من الثورة الشعبية في سوريا عن الفصائل الفلسطينية المتحالفة مع نظام الأسد. وعلى عكس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، أعلنت حماس دعمها للثورة. ففي 24 فبراير 2012، ألقى إسماعيل هنية، زعيم حماس، خطبة علنية في مسجد الأزهر بالقاهرة، هنأ فيها الشعب السوري على “نضاله من أجل الحرية والديمقراطية والإصلاح”، وسط هتافات حاشدة من الآلاف الذين رددوا “اخرج يا بشار، اخرج أيها الجزار!”. وبعد مرور 12 عامًا، ومع انهيار النظام، كان نشطاء حماس من بين الذين تم الإفراج عنهم من السجون مثل سجن صيدنايا، وأصدرت قيادات الحركة بيانًا هنأت فيه الشعب السوري على هروب بشار الأسد.
لكن موقف حماس من النظام كان معقدًا بسبب حقيقة أن الحركة كانت قد قبلت مساعدات عسكرية من الأسد لسنوات طويلة قبل عام 2012، عندما غادر قادتها دمشق إلى مكان آخر للمنفى في قطر. بحلول فبراير 2012، كانت الزخم في الحركة الشعبية في سوريا قد تضاءل بسبب الهجمات الوحشية للنظام، وكانت الثورة قد تحولت إلى حرب أهلية. جاءت خطاب هنية متأخرًا سنة كاملة. ولو أنه أعلن دعم حماس للثورات الشعبية في مصر وسوريا في مارس2011، لكان ذلك قد أدى إلى تصعيد الموقف وتغذية موجة التعبئة المتصاعدة.
بصفته رئيس حكومة حماس في غزة، كان هنية مدركًا جيدًا أن الجيش والشرطة المصرية يغلقون أبواب غزة من الخارج. وقد حصلوا على مليارات من المساعدات المباشرة من الولايات المتحدة، التي كانت تعتمد على توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. هذا هو جوهر المصالح المشتركة بين الفلسطينيين والمصريين والسوريين في الثورة، ضد إسرائيل العنصرية ولكن أيضًا ضد الدول المصرية والسورية. كانت شوارع مصر وسوريا تقف بحزم إلى جانب النضال الفلسطيني في 2011. لكن القوى السياسية الكبرى في مصر، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، رفضت الدعوة إلى تفكيك المعاهدة مع إسرائيل – مما كان سيؤدي إلى صراع مباشر مع الجيش وأجهزة الأمن. رغبة القادة الإصلاحيين في الحفاظ على الدولة سالمة تركت الأسلحة في يد الثورة المضادة.
=================================================================
صندوق – تناقضات دور حزب الله في سوريا
يكشف سقوط الأسد عن أخطاء الاعتماد على الديكتاتوريين في النضال من أجل تحرير فلسطين بدلاً من الحركات الشعبية. فقد تخلى جنود الأسد عن النظام – واتضح أن نظامه كان فارغًا تمامًا. لم يتمكن حلفاؤه الخارجيون، بما في ذلك حركة حزب الله اللبنانية، من إنقاذ النظام. جاء دعم حزب الله للثورة المضادة للأسد بتكلفة فادحة ليس فقط على الشعب السوري، ولكن أيضًا على حزب الله نفسه. فقد تمكنت القوات الإسرائيلية من جمع معلومات استخباراتية عن قادة حزب الله وهم يقاتلون إلى جانب قوات الأسد، مما استخدموه لتخطيط الغارات الجوية القاتلة ضد الشخصيات البارزة في أكتوبر 2024.
ومع ذلك، تروي قصة نشأة حزب الله بعد غزو إسرائيل للبنان في 1982، ودوره الحاسم في إجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من لبنان في 2000، قصة مختلفة. في هذه الحالة، وأثناء الهجوم الفاشل لإسرائيل على لبنان في 2006، حاز حزب الله على دعم كبير من العديد من الناس في لبنان ومنطقة أوسع، بفضل قيادته للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وعمليات القصف الوحشية. في 2006، بدلاً من الاعتماد على الشعارات الطائفية لإلهام المقاتلين، استطاع حزب الله الاعتماد على التضامن العملي من جميع الطوائف اللبنانية من خلال مبادرات المقاومة المدنية التي نظمها نشطاء فهموا التهديد الذي تطرحه الهجمات الإسرائيلية.
لقد شكل الدمار الذي ألحقته غارات إسرائيل على لبنان في أكتوبر 2024 اختبارًا صعبًا لحزب الله ومنظمات المقاومة اللبنانية الأخرى. ومع ذلك، من المرجح أن يتكرر تاريخ الغزو الإسرائيل السابق للبنان في 1982. ذلك أن الحركات الثورية التي تتجذر في مجتمعاتها نادرًا ما يتم القضاء عليها بالوسائل العسكرية فقط إذا كانت صراعاتها تمثل رمزية للنضال من أجل التحرير والعدالة. تُظهر الأحداث الأخيرة في جنوب لبنان بوضوح كيف أن أشكال المقاومة الشعبية تتغذى من عزم الناس العاديين على التصدي للإمبريالية والاستعمار. فقد نظم العائدون إلى القرى التي دمرها الهجوم الإسرائيلي مسيرات احتجاج عبر الشوارع المدمرة برسالة متحدية. وقال سليم مراد، رئيس بلدية عيترون، لوكالة أسوشيتد برس: “قريتنا هي ملكنا، وسنعيدها أجمل مما كانت عليه من قبل. نحن باقون.”
=================================================================
صندوق – النضال الفلسطيني من أجل العدالة
قرار القوى الأوروبية بتقسيم سوريا وفلسطين إلى دول منفصلة بعد الحرب العالمية الأولى قوبل بمعارضة شعبية واسعة. وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بدأت حركة مقاومة فلسطينية ضد النشاط الاستيطاني الصهيوني تكتسب زخماً، ذروته مع الإضراب العام عام 1936، الذي سحقته السلطات الاستعمارية البريطانية بوحشية. أدى التطهير العرقي لفلسطين وتأسيس دولة إسرائيل عام 1948 إلى دخول عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى المجتمع السوري، وأدى ذلك إلى خلق جار عدائي جنوب سوريا. خلال الخمسينيات والستينيات، تطورت حركة وطنية فلسطينية في المنفى. أدى ذلك إلى إنشاء تنظيم سياسي وعسكري بين اللاجئين من خلال ظهور حركات مثل فتح بقيادة ياسر عرفات، المجموعة التي قادت منظمة التحرير الفلسطينية، تلاها نمو حركات يسارية وإسلامية منافسة.
سعت قيادة فتح بشكل عام إلى تجنب المواجهات مع حكومات الدول العربية، لكن الضغوط من الجماهير الفقيرة للاجئين في المخيمات لتوحيد الحركة الفلسطينية مع نضال اليسار من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي كانت صعبة للغاية. في بداية الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان عام 1975، تحالفت القوى الفلسطينية مع الجماعات اليسارية والقومية اللبنانية ضد الأحزاب المارونية المسيحية اليمينية والطائفية. أرسل حافظ الأسد القوات السورية إلى لبنان في عام 1976 لدعم الأحزاب المارونية ضد منظمة التحرير الفلسطينية. في الثمانينيات، قاتلت القوات السورية منظمة التحرير الفلسطينية بالتحالف مع ميليشيا أمل الشيعية.
مع حلول ثورة 2011، كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا واحدة من أكثر الفئات ضعفًا في البلاد. فقد كان 530,000 لاجئ مسجلين لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا)، موزعين عبر تسع مخيمات رسمية وثلاثة غير رسمية (في الواقع أحياء حضرية طويلة الأمد) تقع في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك العديد منها في ضواحي دمشق. ورغم أن الفلسطينيين كانوا على الورق يتمتعون بالعديد من نفس حقوق المواطنين السوريين، بما في ذلك حق الوصول إلى بعض الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة السورية، إلا أنهم كمجتمع عانوا من معدلات وفيات أطفال أعلى ومعدلات تسجيل مدارس أقل من باقي السكان. وفقًا للأمم المتحدة، كان حوالي 27% من الفلسطينيين في سوريا يعيشون تحت خط الفقر في عام 2011، وكان 12% غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية.
=================================================================
الفصل الخامس – دور تركيا في سوريا والمسألة الكردية
يُنظر إلى رئيس الوزراء التركي السلطوي، رجب طيب أردوغان، من قبل الكثيرين على أنه أحد أبرز المستفيدين من النظام الجديد في سوريا، بل وحتى كأحد مهندسي سقوط الأسد من خلال دعمه للهجوم العسكري الذي قادته هيئة تحرير الشام. فزوال النظام البعثي يعني أن الطبقة الحاكمة في تركيا على وشك جني فوائد كبيرة على المدى القصير – من زيادة النفوذ على سوريا، إلى احتمالية إعادة ملايين اللاجئين السوريين من تركيا. كما ستسعى الشركات التركية إلى الاستفادة من إعادة إعمار مدن سورية مثل حلب.
وفي الوقت نفسه، واصلت “الجيش الوطني السوري”، وهو ميليشيا حليفة لتركيا ومدعومة من سلاح الجو التركي، هجومه ضد “قوات سوريا الديمقراطية” ذات القيادة الكردية، بعد أسابيع من توقف القتال في بقية أنحاء البلاد. فالصراع في شمال سوريا يضع قوات عسكرية مدعومة من عضوين مختلفين في حلف الناتو في مواجهة مباشرة. فالولايات المتحدة دعمت “قسد” باعتبارها شريكاً برياً في عملياتها ضد داعش على مدى عقد من الزمن، واعترفت في ديسمبر 2024 بأنها أبقت على 2000 جندي في قواعدها داخل سوريا. وليست هذه المرة الأولى التي تتقاطع فيها قضية الأكراد في سوريا مع صراعات القوى الإقليمية والدولية.
فبعد انهيار الوحدة مع مصر عام 1961، أُعلنت سوريا جمهورية عربية. وجرى تنفيذ تعداد سكاني خاص في منطقة الجزيرة، أدى عملياً إلى تجريد أكثر من 100 ألف كردي سوري من جنسيتهم، مما حرمهم من الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والوظائف، وحتى من ملكية الأراضي والمنازل. وتحت ذريعة “إنقاذ الجزيرة”، بدأ النظام البعثي عملية تعريب، حيث تم طرد آلاف الفلاحين الأكراد من أراضيهم لإفساح المجال أمام المستوطنين العرب. وتمت إعادة تسمية المدن الكردية بأسماء عربية، وحُظر استخدام اللغة الكردية. وقام النظام بقمع أي تعبير عن الثقافة الكردية، حتى أنه فتح النار على مسيرات الاحتفال بعيد نوروز (رأس السنة الكردية).
وقد عكست سياسة الدولة السورية تجاه الأكراد سياسات الحكومات التركية المتعاقبة التي حاولت محو الهوية الكردية على مدى سنوات من خلال حظر استخدام اللغة الكردية. وبعد الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980، خاضت الدولة التركية حرباً وحشية ضد حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو حزب كردي شنّ نضالاً مسلحاً من أجل تحرير كردستان. ومع ذلك، لم يمنع هذا حافظ الأسد من غضّ الطرف عن استخدام حزب العمال الكردستاني لمنطقة الجزيرة كقاعدة خلفية لعملياته. فقد سعى الأسد لشراء السلام في مناطقه الكردية، بينما استخدم الحزب كورقة تفاوضية ضد الجار التركي القوي. ولم يُجبر على طرد زعيم الحزب عبد الله أوجلان ومقاتليه من سوريا إلا في عام 1998، تحت ضغط من الحكومة التركية.
وفي مارس 2004، اندلعت انتفاضة في مدينة القامشلي الكردية بعد أن استعرض مشجعو فريق كرة قدم زائر يحملون العصي والسكاكين صوراً لصدام حسين (الذي قتل نظامه عشرات الآلاف من الأكراد). وأسفر تدخل الجيش عن مقتل العشرات واعتقال المئات، جميعهم من الأكراد. وتبع المذبحة حملة قمع ضد “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، وهو حزب كردي سوري تأسس عام 2003 ومرتبط بحزب العمال الكردستاني.
وقد تزامن اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 مع ذكرى انتفاضة القامشلي، وخرج آلاف الأكراد في مظاهرات ضد النظام في القامشلي والحسكة. واستمرت هذه التظاهرات رغم وعد الأسد في أبريل 2011 بمنح الجنسية لآلاف الأكراد. ومع تطور الصراع المسلح، انسحب جيش النظام إلى حد كبير من منطقة الجزيرة التي لم يعتبرها أولوية قصوى. وسيطرت “وحدات حماية الشعب” (YPG)، وهي ميليشيات كردية مرتبطة بـ PYD، على عدد من المناطق، وبدأ الحزب في التحرك نحو إقامة حكم ذاتي في منطقة “روجآفا”. وقد خاضوا معارك ضد داعش للسيطرة على مناطق مثل كوباني، التي حاصرها التنظيم في 2014، وشكلوا في هذه العملية تحالفاً مع الولايات المتحدة.
وفي مارس 2016، أعلن PYD وحلفاؤه عن تأسيس “اتحاد ديمقراطي ذاتي” يربط بين مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين التي يسيطرون عليها. وفي عام 2018، شنت ميليشيا “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا هجوماً سيطرت فيه على عفرين من “قسد”. وعلى الرغم من اتخاذهم إجراءات سياسية واجتماعية تقدمية في مناطقهم، إلا أن PYD وYPG سلكوا مساراً مشابهاً للأحزاب الكردية في العراق، ما جعلهم عرضة للتحول إلى أدوات في صراعات القوى الإمبريالية في سوريا. فبعد التعاون المباشر مع القوات الأمريكية خلال الدفاع عن كوباني عام 2014، أصبحت YPG المكون الرئيسي في “قسد”، وهو تحالف مدعوم من الولايات المتحدة يضم ميليشيات كردية وعربية وآشورية وأرمنية وتركمانية وشركسية تقاتل داعش وجبهة النصرة.
ولا تزال المسألة الكردية تطرح تحديات كبيرة على أردوغان والطبقة الحاكمة التركية. فقد حول تصاعد الحرب الأهلية السورية في 2014 تركيا إلى واحدة من أكبر وجهات اللجوء في العالم، حيث فرّ ما بين 3 و4 ملايين سوري عبر الحدود. واستغل أصحاب المصانع الأتراك اللاجئين السوريين كيد عاملة رخيصة، حتى مع بدء الحكومة بالتدخل المباشر في الحرب. ويشرح أوزدش أوزباي، وهو اشتراكي من تركيا، كيف شهدت السياسة التركية تقلبات حادة في تعاملها مع المنظمات الكردية داخل تركيا وسوريا خلال السنوات الأخيرة:
“في عام 2015، انفجرت المدن الكردية داخل تركيا نتيجة للتدخل العسكري التركي في سوريا، وبدأت معركة دموية بين الجيش التركي وPKK، قُتل فيها حوالي 3000 شخص خلال 8 أشهر، ودُمرت عدة أحياء. وكانت هذه الحرب من أسباب التدهور الاقتصادي في تركيا.”
وقد أدى التدخل العسكري في سوريا إلى تعطيل المفاوضات غير العلنية بين الحكومة التركية وزعيم PKK المسجون عبد الله أوجلان لفترة من الزمن. إلا أن أوزباي يشير إلى أن الدولة التركية استأنفت هذه المحادثات، كما كشف عن ذلك دعوة زعيم حزب المعارضة الفاشي (OHP) للسماح لأوجلان بالكلام في البرلمان التركي:
“أن يطالب الحزب الفاشي – الذي كان حتى وقت قريب يطالب بإعدام أوجلان، وإغلاق حزب الشعوب الديمقراطي (DEM)، ويعارض أي ‘عملية حل’ – بإجراء مفاوضات معه، يُظهر مدى خطورة التهديد الذي تشعر به الدولة ومدى جديتها.”
وتستهدف الهجمات العسكرية التي تشنها ميليشيات متحالفة مع الدولة التركية في شمال سوريا تعزيز موقف أردوغان التفاوضي عبر إضعاف PKK وحلفائه. كما امتد ضغط الدولة التركية إلى بريطانيا، حيث داهمت الشرطة في ديسمبر 2024 منظمات مجتمعية كردية واعتقلت ناشطين أكراد، ووجهت لعدة أشخاص تهماً بدعم PKK. وقد أثارت هذه المداهمات الذعر في أوساط الجالية الكردية في هارينغي شمال لندن، مما دفع الآلاف للخروج في احتجاجات.
ويمثل هذا القمع من قبل الحكومة البريطانية لحقوق الأكراد تذكيراً بأن النضال ضد العنصرية والاضطهاد يجب ألا يعرف حدوداً. وتوضح الناشطة الاشتراكية شينول كيف يحاول الاشتراكيون في تركيا الربط بين هاتين القضيتين:
“الدفاع عن حقوق الشعب الكردي والدفاع عن حقوق اللاجئين السوريين هما وجهان لنضال واحد ضد العنصرية. فقبل وصول اللاجئين السوريين إلى تركيا، كانت العنصرية تستهدف الأكراد بشكل رئيسي. ثم تحول المستهدف الرئيسي إلى اللاجئين، عبر دعاية عنصرية مكثفة. والنضال ضد العنصرية بشكل عام، وضد جميع تجلياتها، يوفر الإطار اللازم لربط حرية الأكراد بحرية اللاجئين في تركيا. وهذه خطوة مهمة جداً نحو دمج النضال من أجل حل القضية القومية بالنضال ضد العدوان على اللاجئين.”
وفي سوريا نفسها، أبرز سقوط نظام الأسد التحديات التي تواجه “قسد” والقوى السياسية الكردية في روجآفا. فبعد دخول قوات “قسد” إلى دير الزور في أوائل ديسمبر 2024، خرج السكان المحليون في احتجاجات ضد السيطرة العسكرية لقسد، مطالبين الفصائل المتحالفة مع هيئة تحرير الشام بطردها من المدينة. ومع ذلك، ومع بدء ترسيخ الإدارة الجديدة في دمشق لسيطرتها، شرع قادة قسد في التفاوض حول “تعزيز” الحكم الذاتي في روجآفا ضمن سوريا، ودور مستمر لقوات قسد كـ”كتلة عسكرية” ضمن الجيش الجديد. وقد أشار القادة الأكراد إلى الدعم الأمريكي في هذه المفاوضات. ولكن بدلاً من السعي لبناء تحالفات مع الحركات داخل سوريا التي تحاول وضع ضمانات شعبية ضد عودة الديكتاتورية، فضلوا التركيز على المناورات العسكرية والدبلوماسية من الأعلى. غير أن التحرر القومي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق في ظل أجنحة أي من القوى الإمبريالية أو الإقليمية المتصارعة على المنطقة.
لقد تداخل نضال الأكراد ضد الاضطهاد والنضال ضد الديكتاتورية في جميع البلدان التي يتواجد فيها الشعب الكردي: في تركيا وسوريا، وكذلك العراق وإيران. ولا يمكن فرض حق الأكراد في تقرير مصيرهم الوطني بشكل مستدام بمعزل عن هذه النضالات الشعبية الأوسع.
الفصل السادس – النضال لصياغة مستقبل سوريا من القاعدة
لقد فتح انهيار نظام بشار الأسد مساحات أمام الناس العاديين في جميع أنحاء سوريا لتنظيم أنفسهم بحرية أكبر. وليس ذلك لأن السلطات الجديدة تدعم المبادئ الديمقراطية أو تؤمن بتوسيع الحريات أو أن لديها أجندة قائمة على العدالة الاجتماعية، بل لأن النظام القديم فقد شرعيته السياسية وقاعدته الاجتماعية، في حين أن الحكومة الجديدة التي تقودها هيئة تحرير الشام وحلفاؤها لا تزال في طور بناء هاتين الركيزتين.
يقول عادل، وهو ناشط اشتراكي يعيش في سوريا، إن الأشهر الأولى التي تلت سقوط النظام شهدت اندلاع احتجاجات حول قضايا متعددة:
“احتجّ العمال في قطاعي الصحة والتعليم في الحكومة المحلية في طرطوس بعد تعليقهم عن العمل. وخرجت مظاهرات في ريف حمص ضد المداهمات والانتهاكات والقتل الموجه ضد قرى غالبية سكانها من طائفة معينة، بينما كانت هناك احتجاجات في دمشق بسبب الإهانات الموجهة للرموز الدينية. كما شهدنا مظاهرات تطالب بدولة مدنية علمانية تضمن حقوق مواطنيها بغض النظر عن هويتهم الدينية أو العرقية أو القومية أو الجندرية. كما كانت هناك مظاهرات تضامنية مع القضية الفلسطينية.”
الهجوم العسكري الخاطف الذي شنته هيئة تحرير الشام وجماعات مسلحة أخرى على نظام الأسد في ديسمبر 2024 خلق الظروف لـ”تسليم” سريع للسلطة السياسية داخل مؤسسات الدولة، حيث سارعت السلطات التي تقودها الهيئة في دمشق إلى تعيين محافظين ومديرين كبار جدد في الوزارات والمؤسسات الأخرى، وأعلنت عن خطط طموحة لإعادة تنظيم الحكومة في أعقاب سقوط الأسد. وقد تجلّى الجانب الرمزي لهذا الانتقال بوضوح، حيث رُفعت راية الثورة ذات الثلاث نجوم والخط الأخضر على المباني العامة في أنحاء البلاد بدلًا من رموز النظام القديم.
لكن النظام الجديد لا يمتلك عددًا كبيرًا من الكوادر لتولي إدارة مؤسسات الدولة، لذلك غالبًا ما اعتمد على تعيين عدد قليل من الأشخاص الجدد في المناصب العليا، بينما ترك جزءًا كبيرًا من القيادة القديمة على حالها.
وكان الوضع مختلفًا بالنسبة للعاملين في الدولة. هناء وسامي وعادل، وهم نشطاء في تيار اليسار الثوري، وهو حزب اشتراكي كان ينشط سرًا في سوريا وخارجها خلال حكم البعث، يوضحون أن السلطات الجديدة أرسلت العديد من الموظفين إلى منازلهم بإجازات مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر، بينما طُلب من أقلية فقط الاستمرار في العمل:
“امتدت مخاوف الناس من القلق على الأمن العام إلى التساؤل عمّا إذا كانوا سيتمكنون من كسب لقمة العيش. كل ذلك حصل دون أي مبرر أو صلاحيات قانونية تسمح للحكومة الفعلية باتخاذ هذا النوع من القرارات.”
وفي ظل ارتفاع أسعار الخبز والوقود بشكل صاروخي، يتعرض الناس العاديون لضغط هائل. فقد ارتفع سعر ربطة الخبز من 500 ليرة سورية إلى 4000 ليرة في بعض المناطق، بينما تضاعفت تكاليف النقل خمس مرات. وفي مجتمع أنهكته أكثر من عشر سنوات من الحرب، بلغت مستويات الفقر مستويات قياسية. ووفقًا للأمم المتحدة، فإن نحو 12.9 مليون شخص في سوريا كانوا بحاجة إلى مساعدات غذائية في عام 2024.
ومع ذلك، بدأ بعض موظفي الحكومة في عدد من مناطق سوريا بتنظيم أنفسهم للرد على الهجمات التي تطال وظائفهم. ففي مدينة درعا جنوب البلاد، نفذ موظفو قطاع الصحة إضرابًا احتجاجًا على خطط الحكومة الجديدة لطرد 700 موظف من أصل 1700 في يناير 2025.
كما أن قضايا حقوق المرأة، وحقوق الأقليات، والعدالة الانتقالية أصبحت نقاط اشتباك سياسي، حيث تواجه محاولات النظام الجديد لفرض سياسات رجعية وطائفية مقاومة من قبل نشطاء يساريين وديمقراطيين. ويشير عادل إلى أن:
“الاحتجاجات اندلعت مع سقوط الأسد، والأسباب التي تدفع الناس إليها تتزايد. فهناك مظاهرات من أجل حقوق النساء بدافع الخوف من القمع والحكومة المتطرفة. وهناك مظاهرات تطالب بالعدالة الانتقالية وبالتحقيق في قضايا المختفين قسرًا والمعتقلين، وهي قضايا تتجاهلها السلطات الحالية.”
يناضل النشطاء اليساريون الراديكاليون لبناء تحالفات أوسع وجبهات موحدة مع قوى يسارية أخرى ومع منظمات حقوق الإنسان والنساء والشباب. وقد نُشر بيان مشترك في يناير 2025، وقع عليه تيار اليسار الثوري وأحزاب يسارية أخرى ورابطة ضحايا الإخفاء القسري، يدعو إلى الوحدة تحت شعار: “لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي”، محذرًا من محاولات التستر على القمع الطائفي وتصفيات الحسابات الشخصية تحت غطاء “تطهير مؤسسات النظام السابق” .وأكد البيان على الدور الحيوي الذي تلعبه الأحزاب السياسية المستقلة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني في النقاش حول مستقبل البلاد:
“إن غياب هذه القوى عن النقاشات الوطنية التي تهيمن عليها القيادات الدينية وحدها يُعد انحرافًا خطيرًا عن طريق الانتقال الديمقراطي ويعيد إنتاج نموذج النظام السابق في التمثيل الطائفي.”
وتأتي أخطار التدخل العسكري الأجنبي من عدة جهات، منها القوات التركية في شمال سوريا، والقواعد الأمريكية الكبيرة في الشمال الشرقي، إضافة إلى توسع السيطرة العسكرية الإسرائيلية في الجنوب، مما أثار موجة جديدة من المقاومة والاحتجاجات المتضامنة مع السوريين والفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي.
يشرح عادل:
“القضية الفلسطينية قضية تخص العالم كله، لكنها تهم الأمة العربية وسوريا بشكل خاص. فالعدو الإمبريالي الصهيوني هو مثال حي على فشل النظام الرأسمالي الاستبدادي. ونظرًا لتاريخ إسرائيل في الانتهاكات، فمن غير المرجح أن تكتفي بما فعلته ضد الفلسطينيين. وهذا واضح الآن من خلال تقدم الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي السورية وإنشاء قواعد عسكرية هناك. يجب أن تكون القضية الفلسطينية في صلب اهتمام الجميع في سوريا، لأن إسرائيل تمثل تهديدًا للعالم العربي بأسره وانتهاكًا لحقوق إخوتنا الفلسطينيين.”
يعمل نشطاء تيار اليسار الثوري على بناء تيار اشتراكي ثوري أوسع وأكثر تجذرًا ضمن الحراك الديمقراطي واليساري المتجدد في سوريا. ومن أكبر التحديات التي تواجه الناشطين الاشتراكيين هو الفراغ الذي خلفه قمع النظام السابق لجميع أشكال النشاط السياسي المستقل. يقول عادل:
“لم أرَ أي تنظيمات اشتراكية تعمل علنًا تحت حكم النظام القديم. وكان هذا طبيعيًا بسبب الخوف من الاعتقال، نتيجة القمع الذي طال النشطاء الاشتراكيين والشيوعيين منذ أيام حافظ الأسد. والاستثناء الوحيد كان الأحزاب “الاشتراكية” الفارغة التي كانت تتستر بغطاء حزب البعث، ولا أعتقد أنه يمكن اعتبارها تنظيمات اشتراكية حقيقية.”
إن توحيد قوى اليسار الصغيرة والتدخل في القضايا التي تهم الناس العاديين سيكون أمرًا حاسمًا في الأشهر والسنوات القادمة:
“يجب أن يسعى اليسار السوري لبناء قاعدة جماهيرية بين الشعب السوري في معظم المحافظات، من خلال التركيز على المجتمعات المحلية التي غالبًا ما يتم تجاهلها، والعمل على نشر الأفكار اليسارية المرتبطة بالوضع الراهن. علينا أن نعمل على جذب أكبر عدد ممكن من الأعضاء، وتشكيل جبهات مع أحزاب وتيارات مختلفة للعمل على الأهداف المشتركة لليسار السوري.”
تتفق هناء وسامي وعادل على أهمية الوحدة وضرورة التواجد في الشارع:
“أولًا، علينا أن نعمل مع جميع فئات الشعب في كل الأراضي السورية لتنظيم أنفسنا في الشوارع وملء الفراغ. نحتاج إلى رفع الوعي ومواجهة مخاوف الناس، وتوجيه الجماهير نحو أساليب فعالة للدفاع عن حقوقهم في العيش بكرامة وحرية.”
ويؤكدون أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي جزء لا يتجزأ من هذا النضال:
“تحررنا يجب أن يكون كاملًا: تحرير من الاحتلال الأجنبي، إلى جانب التحرر من الظلم والقمع والجوع داخل سوريا.”
الخاتمة – التنظيم من أجل بديل ثوري لعالمٍ يرزح تحت الأزمة
إن شجاعة الناس العاديين في سوريا الذين لا يزالون يقاومون من أجل العدالة والتحرر في وجه الديكتاتورية، والتدخل الإمبريالي، والحرب، يجب أن تلهم النشطاء حول العالم. أما نحن في الخارج، لا سيما في الدول الواقعة في قلب الإمبريالية الغربية كأمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، فعلى تضامننا مع الثوار والناشطين السوريين أن يتخذ أشكالاً ملموسة. فلاجئو سوريا، مثلهم مثل العديد من مجتمعات المهاجرين في مختلف البلدان، باتوا في مرمى اليمين المتطرف الصاعد، الذي سيستغل الكراهية والعنف بلا رحمة ليرسّخ سلطته ويحوّل انتباه الفقراء عن الأسباب الحقيقية لمعاناتهم.
في أوروبا، هرعت الحكومات خلال ساعات من سقوط الأسد إلى تعديل سياساتها المتعلقة باللجوء، بهدف إجبار مزيد من السوريين على المغادرة. وعلى الرغم من أن الأسلحة الأمريكية والأوروبية هي التي غذّت النزاعات التي مزّقت سوريا، فإن الحكومات الغربية لن تلتزم سوى بمبالغ ضئيلة جداً لإعادة الإعمار. هذه الحكومات نفسها موّلت وسلّحت الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وحربه على لبنان، بينما لا تكفّ عن إلقاء المحاضرات على السوريين حول الديمقراطية والحكم الشامل.
إن المبادئ الديمقراطية، والمساواة بين المواطنين، والتحرر من القمع، وحق التنظيم في النقابات والأحزاب السياسية، لم تُمنح للشعوب مجاناً، بل انتُزعت انتزاعاً من الطبقات الحاكمة في أوروبا على أيدي العمال والفقراء مع نشأة النظام الرأسمالي، واضطر الناس في كل بقعة أخرى من العالم إلى انتزاعها مجدداً عبر النضال. وإذا أردنا لهذه المبادئ مستقبلاً في أوروبا، فسنحتاج إلى القتال من أجلها ضد الأنظمة السلطوية الجديدة التي تنهض مع ضعف الليبرالية وتصاعد الفاشية في قلب النظام العالمي.
كل مرة ينهض فيها الناس العاديون لتغيير العالم، كل مرة يواجهون فيها سلطة الأثرياء وسطوة الدولة في ثورة شعبية، يعيدون اكتشاف مبادئ جوهرية وعالمية: توسيع الديمقراطية إلى أقصى مدى، والتحرر من جميع أشكال القمع، وعكس اتجاه تدفّق الثروة من القمة إلى القاعدة. الثورة الشعبية في سوريا بدأت تطرح هذا النوع من المطالب، ولهذا تآمرت الطبقات الحاكمة في عدة بلدان على سحقها.
تحب الدول الغربية أن تصوّر نفسها كمعلمة للعالم، تعلمه مبادئ المساواة أمام القانون ومحاربة جميع أشكال القمع. لكن لا شيء أبعد عن الحقيقة من ذلك. الأشخاص أنفسهم في الحكومات الغربية الذين يدينون الهجمات على الأقليات في سوريا اليوم، هم من يشجعون الهجمات العنصرية على الأقليات في أوروبا، بما في ذلك اللاجئين السوريين. في بريطانيا، حالياً، يُعدّ النشطاء في النقابات واليسار أكبر حركة منظمة تقف ضد العنصرية والتمييز، وقد خرجوا بالآلاف إلى الشوارع حين حاول بلطجية اليمين المتطرف حرق الفنادق التي تؤوي اللاجئين في الصيف. أما ترامب، فيريد استغلال فترته الرئاسية الثانية ليفجّر موجة عنف عنصري.
الطائفية والعنصرية موجودتان في كل المجتمعات، لكن الثورات الشعبية تفتح نافذة لرؤية كيف يمكن للناس العاديين أن يتوحدوا للقضاء عليهما. كان رفض الطائفية من قبل المتظاهرين في الثورة السورية عام 2011 مثالاً حيّاً على ذلك. فالوحدة في النضال من الأسفل أحدثت أزمة في صميم جهاز الدولة، وسمحت للناس بتجاوز الفوارق الدينية وبناء أشكال جديدة من التضامن.
عاشت الثورة الشعبية في سوريا شكلاً من أشكال الديمقراطية الثورية من خلال لجان التنسيق المحلية في المناطق التي انسحبت منها قوات النظام أو حاصرتها. ولجان المقاومة في السودان تمثل مثالاً آخر هاماً على الديمقراطية الثورية الشعبية، المبنية على الأحياء بدلاً من أماكن العمل. لم تكتف هذه اللجان بصناعة الثورة، بل تغيّرت هي ذاتها عبرها.
فقد بدأت كأدوات تعبئة للتظاهرات، ثم أصبحت تؤمن الناس والإمدادات للاعتصامات. وفي فترة الحكومة الانتقالية بعد سقوط البشير، لم تنحل هذه اللجان، بل واصلت تنظيم نفسها اجتماعياً وسياسياً – تراقب توزيع الطحين على المخابز، وتقود حملات للصحة العامة أثناء كورونا، وتنظّم التثقيف السياسي. لقد أنشأت شبكة مستقلة ومثابرة من الثوار المنظمين، وكانت أقوى حين ضمّت مندوبين من أماكن العمل والنقابات. كتبت هذه اللجان مواثيق ثورية عبر عمليات مكثفة من النقاش والحوار. واقترحت إصلاحاً جذرياً للدولة وبدأت بطرح أسئلة العدالة الاقتصادية وتوزيع الثروة.
من مآسي الثورة السورية أن العمال لم يتمكنوا من استخدام قوة تنظيمهم الديمقراطي في أماكن العمل للحد من عنف النظام وكسر مؤسسات القمع التابعة للدولة. والتجارب السابقة تؤكد أن هذا عنصر أساسي لتوسيع الثورة وتعميقها، ولتجاوز تبديل الوجوه في السلطة نحو تغيير بنية النظام الرأسمالي نفسه.
لقد طُبّقت مبادئ سيطرة العمال وديمقراطيتهم في العديد من الثورات في الماضي: من الثورات الروسية في أوائل القرن العشرين، إلى الثورة البرتغالية في 1974، وانتفاضة العمال في تشيلي عام 1972-1973. وفي الثورة الإيرانية عام 1979، سيطرت لجان العمال المنتخبة – الشورى – على معظم قطاع النفط في السنة الأولى للثورة، قبل أن يقمعها نظام الخميني أو يسيطر عليها. وحتى في مصر عام 2011، كانت هناك لمحات قصيرة من هذا النوع من التنظيم في بعض أماكن العمل.
فبمجرد أن تدخل مسألة الديمقراطية إلى أماكن العمل، تبدأ بطرح أسئلة إضافية حول توزيع الثروة والموارد والسلطة. وعندما يبدأ أولئك الذين يؤدون العمل فعلياً في اتخاذ القرارات، فإن أسئلة العدالة الاقتصادية تصبح حتمية. وأحياناً تفرض الظروف هذه الأسئلة: فإضراب العمال، بقدرته على شل المجتمع، يفرض على المنظمين اتخاذ قرارات بشأن توزيع الموارد. فعمّال الكهرباء الذين أضربوا في الخرطوم أثناء الثورة السودانية لم يطفئوا كل الأنوار فحسب، بل قطعوا الكهرباء عن القصر الرئاسي والثكنات العسكرية، وأبقوها على حالها في باقي الأحياء.
أما مسألة إعادة توزيع الثروة بشكل دائم، فهي تتطلب تحدّي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع – حكم المنافسة الرأسمالية ودكتاتورية السوق. وهذا يكشف مجدداً دور الدولة كضامن لحكم الأغنياء على الفقراء، وكأداة لفرض انضباط السوق على حساب الناس والكوكب. فالرأسمالية هي جذر الظلم والاستغلال والقمع الذي نعيشه.
إذا أردنا أن نحقق فعلاً رؤية مجتمع جديد يقوم على المبادئ المذكورة أعلاه، فعلينا أن نبني تنظيماً يقاتل من أجل ثورة ضد الرأسمالية. لا يمكن أن يكون مجرد مجموعة مسلحة صغيرة، حتى لو ادّعت أنها تمثّل المقهورين والمستغلين. فالشعب – العمال والفقراء – هم من عليهم تحرير أنفسهم وتحطيم مؤسسات الدولة التي تقسمهم وتسيطر عليهم. لذلك فإن نوعاً خاصاً من التنظيم مطلوب – تنظيم يركّز على توسيع وتعميق العملية الثورية، لتنتقل من المطالب السياسية إلى تحقيق المجتمع الجديد. تنظيم يلتزم بثورة اجتماعية ضد حكم رأس المال.
إن الحماية الأهم لمبادئ الديمقراطية من الأسفل، والتحرر، والعدالة، لا تأتي من الدولة، بل من الجذور الاجتماعية لهذه المبادئ في نضالات الطبقة العاملة. ففي كل مرة يناضل فيها العمال من أجل أنفسهم، نجد بذور هذه المبادئ. لكنها تحتاج إلى وقت لتنضج، ونحن بحاجة إلى أن ننظم أنفسنا داخل الطبقة العاملة لنمنحها المساحة لتزدهر.
ولهذا نعيد التأكيد: التنظيم كعمال ليس كافياً بحد ذاته – بل نحن بحاجة إلى نوع مختلف من التنظيم: حزب ثوري يرفض أن يساوم سياسياً مع الدولة الرأسمالية، ويكرّس نفسه لتدميرها واستبدالها بشيء جديد. حزب يؤمن بالثورة الدائمة – الثورة المستمرة حتى تحقق أهدافها بالكامل.
الدولة الرأسمالية ليست أبدية – نعرف هذا لأننا رأينا ما يحدث حين تنهار، ولم نعد نخاف من فكرة أننا لا نستطيع العيش بدونها. هناك حياة خارج أسوارها، ونحن نراهن بالأمل على أننا قادرون على خلق هذه الحياة معاً.
الديمقراطية، والتحرر من القمع، والعدالة الاجتماعية، لا يمكن أن تُخلق إلا بأفعالنا نحن، عبر معارضة لا هوادة فيها للنظام الرأسمالي القائم. سوريا بحاجة إلى جيل جديد يناضل من أجل هذا، والعالم بحاجة إلى سوريا حيث ينمو هذا الجيل بحرية.
صندوق – بيان التيار الاشتراكي الأممي حول سقوط نظام الأسد في سوريا
- نرحب بسقوط نظام بشار الأسد في سوريا. نهنئ الشعب السوري على هزيمة الديكتاتورية التي حكمتهم لأكثر من 50 عامًا، قتلت مئات الآلاف، أفقرَت وشردت الملايين، ومزقت البلاد. لقد انتصرت أخيرًا الثورة الديمقراطية الشعبية التي بدأت في مارس 2011.
- رفع عن كاهل الشعب السوري عبء ثقيل. سقوط الأسد يمثل فرصة للسوريين، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم، لبناء سوريا جديدة حرة ومستقلة على أنقاض هذه الديكتاتورية الدموية.
- رد النظام على الثورة بإشعال حرب مدمرة دامت لأكثر من عقد. بمساعدة حلفائه – روسيا، إيران، وحزب الله – تمكن الأسد من سحق القوى الثورية عسكريًا. ومع ذلك، قوضت المقاومة الشعبية النظام بمرور الوقت، مما جعله غير قادر على الدفاع عن نفسه عندما شنت هيئة تحرير الشام (HTS) هجومها.
- لحظة السقوط تشكلت بفعل عوامل داخلية وخارجية متداخلة، شملت انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، ضعف إيران وحزب الله بسبب الهجمات الإسرائيلية منذ سبتمبر، رفض النظام تطبيع العلاقات مع تركيا، رفضه لأي حل سياسي تفاوضي، وانهيار مؤسساته، خاصة الجيش.
- تقدم هيئة تحرير الشام وقوى المعارضة الأخرى لم يكن ممكنًا دون دعم تركيا وموافقتها. كانت المواجهات الكبرى مع قوات النظام محدودة، وسقطت المدن بوتيرة استثنائية. سقطت دمشق خلال 12 يومًا فقط. رفضت قوات النظام، بما في ذلك الجنود وضباط الصف، الدفاع عن النظام، تاركين أسلحتهم وعائدين إلى قراهم ومدنهم. وحينما أدركت الجماهير انسحاب قوات النظام، نزلوا إلى الشوارع يهتفون بسقوط النظام والتحرير، ومن ثم تحركت قوات هيئة تحرير الشام عبر المدن.
- الحرب سمحت للقوى الخارجية بتقسيم مناطق النفوذ في سوريا، ويستمر ذلك رغم فرار عائلة الأسد. تمتلك تركيا الآن نفوذًا مهيمنًا. ورغم أن الولايات المتحدة وإسرائيل ربما كانتا تفضلان بقاء نظام الأسد ضعيفًا، إلا أنهما ترى سقوطه جزءًا من عملية “إعادة ترتيب الشرق الأوسط” التي بدأت مع الهجوم على لبنان. أطلقت إسرائيل قصفًا مكثفًا لتدمير القدرات العسكرية السورية، وعززت سيطرتها على مرتفعات الجولان، واحتلت أراضي جديدة، بهدف تحويل سوريا إلى دولة منزوعة السلاح بغض النظر عن شكل الحكم في المستقبل. كما شنت الولايات المتحدة غارات جوية متعددة وتحتفظ بمنطقة نفوذ خاصة بها في سوريا، مما يشكل تهديدات كبيرة للحرية الجديدة للشعب السوري.
- تسيطر هيئة تحرير الشام الآن على الحكومة في دمشق. ورغم انضباطها وفعاليتها، فإنها طبقت سياسات قمعية ومحافظة اجتماعيًا في إدلب. لديها قاعدة اجتماعية محدودة، وستكافح لتحقيق توازن بين طموحاتها ومصالحها ومطالب القوى السياسية السورية الأخرى والقوى الخارجية، مما يُنذر بمزيد من عدم الاستقرار والصراع.
- ندعم كافة الجهود لتوسيع وتعزيز تنظيم الطبقة العاملة والجماهير ضد الرأسمالية السورية والمستغلين الإمبرياليين والإقليميين. وندعم مطالب رفاقنا في تيار اليسار الثوري للإسراع ببناء سوريا ديمقراطية:
- حماية الحريات العامة والفردية: يجب صون الحريات التي انتزعها السوريون بتضحيات كبيرة، وإحياء النشاطات السياسية والنقابية والاجتماعية، بما في ذلك حرية تشكيل ونشاط الأحزاب والجمعيات والنقابات، وضمان حرية الرأي، والإعلام والتنظيم والاحتجاج.
- كومة انتقالية شاملة: تضمن هذه الحكومة الحريات، توفير الأمان للمواطنين، ترفض الطائفية والعنصرية، وتعيد هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية لحماية السيادة الوطنية والحدود. على هذه الحكومة أن تُهيئ الظروف لانتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور ديمقراطي جديد وتنظيم انتخابات برلمانية حرة ونزيهة على أساس التمثيل النسبي.
- توحيد جهود الحركات اليسارية والديمقراطية في سوريا: يجب على اليسار الانخراط في النضالات الشعبية لبناء نظام ديمقراطي غير طائفي يضمن العدالة الاجتماعية والمساواة.
- إنهاء كل الاحتلالات الأجنبية: العمل على طرد كافة القوات الأجنبية وتحرير الأراضي المحتلة، بما في ذلك مرتفعات الجولان.
- مناهضة الاحتلال الإسرائيلي: مقاومة الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة وتجديد الدعم الثوري المبدئي للقضية الفلسطينية.
- يجب على تركيا إنهاء عملياتها العسكرية وسياساتها في سوريا التي تؤجج التوترات بين قوات المعارضة السورية والمعارضة الكردية. أي صراع بين الأكراد والشعوب الأخرى في سوريا قد يؤدي إلى حرب أهلية جديدة ويهدد حقوق الشعب الكردي في العيش وتقرير المصير بحرية.
- رد فعل السياسيين السائدين واليمين المتطرف في أوروبا وتركيا على سقوط الأسد كان بمطالبة اللاجئين السوريين بالعودة إلى بلادهم. أعلنت النمسا خططًا لترحيل السوريين، فيما أوقفت بلجيكا وبريطانيا وفرنسا واليونان وألمانيا طلبات اللجوء السورية. اللاجئون السوريون هم ضحايا قمع الأسد والعنصرية ضد المهاجرين. لديهم الحق في العودة إذا اختاروا ذلك، كما لديهم الحق في البقاء في الدول التي أعادوا بناء حياتهم فيها. من المشين استغلال هذا الانتصار الديمقراطي لتبرير المزيد من الكراهية العنصرية. نحن نرحب بالمهاجرين واللاجئين ونرفض جميع أشكال قيود الهجرة.
تنسيقية التيار الاشتراكي الأممي
14 ك1/ ديسمبر 2024

