
نُشِرَ هذا المقال أولا على مدونة كتابات وترجمات ذات الخط الاشتراكي الثوري الواضح، ونحن في الخط الأمامي- لسان حال تيار اليسار الثوري في سوريا إذ نجد قيمة بالغة لهذا المقال، وتعبيرًا واضحا وحازماً عن الموقف الاشتراكي الثوري الذي تم صياغته بأسلوب أدبي بليغ ورصين نعيد نشره لما له من أهمية في فهم موقفنا من المقاومة في فلسطين ولبنان اليوم.
فهرس المحتويات
إلى روح الشهيد عبد الكريم البرناوي (الطريق والدليل)
مقدمة
باسم الله هذا وطني
علمني ألتزم النار..
لماذا كل هذا الصمت؟” (مظفر النواب)
كان يفترض بهذا النص أن يكون مرثية لك، يا علي، لكنك لم تستشهد بعد. وأنا وإذ طال انتظاري وبحثي اليومي القلق في حساب علي شعيب على تويتر عنك، لم أكن أستعجل انتقالك إلى سدرة المنتهى، إنما كنت أبحث عن عينيك لأنني اشتقت إليهما، ستكون صورتك الأخيرة، كما انطبعت في بالي يوم رأيتك آخر مرة.
اخترت علياً اسماً لك، لسبب بديهي، إذ لبسك اسمك الجديد، لدرجة أنني نسيت اسمك الحقيقي، لقد حملت العبق الجنوبي به، تنشر الريح قبل وقوعك، الذي آمل أنه لن يحصل.
هي مسألة أنانية أن أكتب عنك، و أحدد موعد موتك أو استشهادك أو بقاءك على قيد الحياة، لا شك، لكن، أن أكتب عنك وإليك هو كل ما أملك، أو ما أستطيع فعله، أعتقد أنك ستتفهم ذلك، على الرغم من أنك لن تعرف بهذا النص، ولن تعرف كاتبه من يكون. تماماً كما لا يعرف كثيرون، حتى الآن، من أنت ومن تكون. ولأنك كذلك، شغلت (وما زلت) مكانة كبيرة في قلبي طوال هذه الأشهر الماضية، عندما عرفتك من عينيك في وقت سابق، من بين آلاف العيون.
لماذا نذهب إلى الحرب؟
بهذه الكلمات سأل الشهيد باسل الأعرج سؤالاً وأجاب عنه في تسجيل صوتي له منشور على المنصات. وقد أخذ الأعرج هذا السؤال من رواية الرعب والجرأة للكاتب ألكسندر بيك، حيث يعتبر الأخير أن الهدف من الحرب ليس الموت إنما الحياة، وقد استعمل الأعرج عبارة “أن تعيش”. وأكمل قائلاً إننا نقاتل ونقتل عدواً أقوى منا حتى لا يقتلنا، أو حتى لا يقتلنا بسهولة أو بفرح. الأعرج في حديثه يدرك أن العدو قادر على إبادتنا بفعل “اختلال” موازين القوى، لكن وبسبب هذا الاختلال وعلى الرغم منه، يكمل الأعرج، ينطرح السؤال الوجودي “ليش أنا عايش؟… ما معنى هذه الحياة من دون كرامة، ودون أن يكون لي القدرة على رفع الرأس وفق مفاهيم الشرف والعزة والكرامة، ولكن لتفكيك ذلك سيكون صعباً لأنها مرتبطة بالروح، أكثر من العوامل المادية”.
هنا يلتقي الأعرج، مع شهيد آخر هو عماد مغنية، حين قال: “إن من يقاتل فينا هو الروح، وليس القدرة البدنية وبالتالي يصبح الجسم عاملاً مسخّراً والإمكانات تصبح مسخّرة”.
إذاً، بحسب الأعرج ومغنية الروحية الموجودة فينا، كمستضعفين ومستغلين ومضطهدين، هي التي تؤمن القدرة والجهوزية والقابلية على مقاومة أعتى الجيوش، التي هي الأذرع المادية للرأسمالية والنيوليبرالية.
الروحية أو لحظة 7 تشرين
“… اه حدد لنا موعداً للقاء، وحدد فضاءً لأرواحنا الغاضبة، وانتظرنا نَعُد من بنادقنا و انتصاراتنا الموجعات، ومن جمرة في رماد مقابرنا الشاحبة، إن أسعد يخرج من موته، ويتابع في خندق يتقدم نحو النهاية، ممتشقاً عشقه للصنوبر والشمس، أسعد ماء على السهل، رعد على القمة الصاخبة” (حسن العبد الله- من قصيدة أجمل الأمهات)
تعرفت إلى الجنوب من خلال القراءة والراديو، بسبب زياراتي القليلة إلى تلك المنطقة. مؤخراً، قرأت أغلب روايات حسن داوود، تخيلت الجنوب وتعلقت به من خلال روايات مثل: مئة وثمانون غروباً- لعب حي البياض- روض الحياة المحزون- لا طريق إلى الجنة. وبها انتقلت كل حواسي، من جديد، عبر هذه الروايات إلى زواريب الجنوب وأعماقه، بالقرب من سواقي المياه وشتلات الزرع وتحت أشعة الشمس وزخات المطر.
أي إنني انتقلت، وأنا جالس أو نائم، أتصفح هذه الكتب، وأنا في ضفة من ضفاف بيروت، إلى منطقة شغلت خيالي. فأعادت لي في الوقت عينه، وعن قرب، الجنوب الذي سكنني خلال التسعينيات، وهنا الكلام هو عن التعرف السمعي إلى الجنوب، عندما كنت أستمع إلى بيانات إذاعة النور، وهي تبث الشكل القاعدي للروحية التي تحدثت عنها منذ قليل. لم أكن أكترث بالمشاهد التي بثتها القنوات التلفزيونية، إنما خلقت من الجنوب صورة في رأسي، نابعة من أسماء المواقع والقرى، لأوديته وسهوله.
صباح الـ 7 من تشرين كان يوماً عادياً واعتيادياً جداً. أزمة منتصف العمر، السؤال المكرر عن جدوى الحياة، والعمل، البقاء، الاستمرار، والاعتياد، القهوة المرة، ومراقبة الروزنامة لإعادة عيش ذات الروتين الوارد في الجملة السابقة، إلى درجة أنه يمكنني وقتها، وحتى اليوم، إعادة تكراره وتكراره حتى يكوّن صورة ذاتية عني تنبع من سؤال سأله باسل الأعرج: “ليش أنا عايش؟، شو معنى الحياة من دون كرامة، والقدرة على رفع الرأس…”.
هنا، ولأن الكهرباء مقطوعة، وربما بفضل ذلك، قررت الاستماع إلى إذاعة النور، وهي الإذاعات القليلة التي أستطيع التقاطها حيث كنت. وحين أدرت الإذاعة كانت أصوات المذيعين مختلفة عن المرات السابقة الاعتيادية، أي بعيداً عن التجهم الصوتي الصباحي الذي يمتاز به قارئو وقارئات الأخبار.
وإذا كنت قد تعرفت إلى الجنوب في التسعينيات عبر هذه الإذاعة، كان ذلك الصباح المجيد، تعرفي الجديد على الجنوب الآخر معلناً، مع اتصال مكتب التحرير بالمذيعين، بشائر الخطوات الأولى لتحرير الجنوب.
هنا، عمل المقاومون بالضبط تماماً كعبارة الشهيد باسل السابقة الذكر: “إننا نقاتل ونقتل عدواً أقوى منا حتى لا يقتلنا، أو حتى لا يقتلنا بسهولة أو بفرح”، باسل في التسجيل نفسه، يدرك تمام الإدراك قوة وقدرة العدو على الإبادة، وبسبب ذلك، ورغما عنه، قرر سلوك الطريق حتى آخره، كذلك فعل مقاومو الجنوبَين.
بعد أيام قليلة، رأيت عينيك يا علي. “لذلك أتحدث عنك وقلبي يطل من فمي، يا ابن موطني.” (عباس بيضون- قصيدة يا علي)
“الثورة في الشرق كشرط لإمكانية الثورة في الغرب” (سلطان غالييف)
أكاد أجزم، ويمكنني المراهنة على ذلك، أن العديد من القراء والقارئات قد شهقوا، حتى الآن، شهقات كبيرة وكثيرة أين منها شهقة سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت، لا بأس، انتظروا المزيد، حتى تشهقوا أكثر. لا عذر على الإزعاج، أعمل على ذلك.
لنرجع إلى تعاليم المعلمين كارل ماركس وفريدريك إنغلز، ففي رسالة أرسلها الأخير إلى الأول، عام 1858، نعم 1858، كتب فيها: “إن البروليتاريا الإنكليزية تصبح في الواقع برجوازية أكثر فأكثر، بحيث يبدو أن الهدف النهائي لهذه الأمم الأكثر برجوازية هو امتلاك، إلى جانب البرجوازية، أرستقراطية برجوازية وبروليتاريا برجوازية”. (1)
بعد 24 عاماً، أي سنة 1882، أرسل إنغلز رسالة لكارل كاوتسكي بدأها على الشكل التالي: “تسألني عن رأي العمال الإنكليز في السياسة الكولونيالية. حسناً، بالضبط وفق تفكيرهم بالسياسة بشكل عام: نفس تفكير البرجوازيين. لا يوجد لدينا حزب عمالي، إنما فقط حزب المحافظين والليبراليون الراديكاليون، ويشارك العمال بغبطة احتفالية احتكار إنكلترا للسوق العالمية والكولونيالات”. (2)
انطلاقاً من هاتين العبارات، إن مطلقي عبارة “أيها البروليتاريون، في جميع البلدان، اتحدوا”، وهي وردت في خاتمة كتيب البيان الشيوعي عام 1848، أي في وقت سابق على الرسالتين السابقتين، يعترفان بأنها عبارة تجريدية جداً، بالحد الأدنى.
فمضمون هاتين الرسالتين نراه جلياً، في حالة الحرب الحالية، ولكن كذلك في التجارب السابقة الكثيرة والمتكررة. وإذا كانت بريطانيا قد شهدت تأسيس حزب للعمال، لكنه كان في صلب المشروع الامبريالي الغربي في الحروب المتعددة على المنطقة، وكذلك داخل بلده، بتطبيق السياسات النيوليبرالية، هذا هو حال بقية الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية. وحتى تحالفي سيريزا وبوديموس، الذي استبشر بهما العديد من المفكرين، آخرهم جلبير الأشقر، (3) خيراً، لكن التحالفين كان لهما صولات وجولات في تنفيذ سياسات معادية للمهاجرين بواسطة فرونتكس (4) وتنفيذ سياسات معادية “للإرهاب” بالتنسيق مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، (5) في وقت لم تكن دماء مجزرة رابعة قد جفت بعد. وصولاً إلى الولايات المتحدة، حيث خيرنا “التقدميون” هناك، بين من هو أقل شراً: أي جو بايدن، ليتبين أنه كسلفه، مجرد حلقة من سلسلة مكونة من الديمقراطيين والجمهوريين المجرمين.
ولكن لماذا الثورة في الشرق هي شرط لإمكانية الثورة في الغرب، الذي عنونت به هذه الفقرة؟ في الواقع، هذا السؤال كان موضع نقاشات كبيرة خلال الثورة الروسية، سواء من مؤيديها ومن جانب معارضيها وأعدائها.
في كتاب قيّم كتبه مايكل لوي (6) عام 1981، أظهر فيه كيف أن الثورة الروسية نُظر إليها على أنها تحريف من قبل “ماركسيي” الاشتراكية الديمقراطية الغربية، إذ اعتبر بطاركة هذا التيار، أن طبقة العمال الصناعيين قليلة العدد في روسيا، وأن شروط قيام ثورة عمالية، غير متوفرة في بلد “متخلف” كروسيا، في حين دافع لينين وتروتسكي عن الموقف المعاكس، مستلهمين من كارل ماركس عبارته الشهيرة “هنا الوردة، فلنرقص هنا” (7).
حتى أن موقف لينين وتروتسكي لم يكن جامداً دوغمائياً إنما استند إلى “تحليل ملموس للواقع الملموس”، وهو تدرج في الانفكاك من موقف الاشتراكية الديمقراطية الانتظاري، علماً بأن ثقل الطبقة العاملة الصناعية في أوروبا الغربية كان أكبر بكثير وكانت تلك الأحزاب ضخمة في أعداد محازبيها ومؤيديها، ولكن يبدو أن مقولة إنغلز الواردة أعلاه التي انطبقت على العمال الإنكليز، قد انطبقت تماماً على مفكريهم- من المفيد التذكير أن روزا لوكسمبورغ وكلارا زيتكين قد فكرتا بالانتحار بسبب سوء موقف الاشتراكيين خلال الحرب العالمية الأولى، ونيل هذا الموقف إجماع شبه تام وقتها (8)- ولكن هذه الضخامة والأورومركزية لم تتمكن، وتشأ حتى، من ترجمة هذه القدرة إلى ثورة عمالية تسقط الرأسمالية في عقر دارها، نتيجة خيانة هذه القيادات لتطلعات جماهيرها.
في روسيا حصل العكس، وتجرأت القيادة على ذلك، وخيضت ثورة اخترقت السماء، ولكن في الوقت عينه واجهتها مسألة حق تقرير مصير الجمهوريات التي كانت تحتلها الإمبراطورية الروسية في ظل الحكم القيصري. وفي حين، اعترفت القيادة البلشفية بهذا الحق، وكان مؤتمر باكو عام 1920 تتويجاً له، لكن واجهت القيادة نقاشات جادة، في وقت كانت ما زالت النقاشات ممكنة وسط الكومنترن والأجهزة ذات الصلة، خاصة مع شيوعيي هذه المناطق، خاصة من جانب الرفيقين م.ن. روي وسلطان غالييف وسواهما، (9) اللذين اعتبرا أن الثورة في الشرق هي شرط الثورة في الغرب ودخلوا في تسوية مع المركز السوفياتي بحيث بات الشعار “يا عمال العالم ومضطهديه اتحدوا”، بعد إضافة كلمة مضطهدين (أي ليس فقط العمال) على الشعار الرمز وأقلمته مع واقع تلك الجمهوريات التي نعتت بــ”المتخلفة”، بسبب ضعف القطاع الصناعي فيها، وبالتالي ضعف الطبقة العاملة القادرة على إنجاز الثورة الاشتراكية، بحسب الدوغما الاشتراكية الديمقراطية.
لينين في سنواته الأخيرة، شدد على عدم إسقاط أشكال التنظيم الشيوعي من دون تبادل للخبرات والمعارف الثورية من مختلف الدول وضرورة ترجمة هذه التجارب إلى نظرية واستراتيجيا.
استعرضت الفقرة السابقة تغير وتبدل، وحتى تحريف، النظرية وفق الواقع الملموس والمتغير وفق الظروف التي تحكم هذه التبدل والتغير. ولكن القارئ/ة ههنا سيطرح سؤالاً، بعد أن شهق شهقات كثيرة، ما علاقة كل ذلك بجنوبَينا؟ انتظر حتى ترى التحريف والتجديف.
التحريف
أظن أن بعضاً ممن قرؤوا هذا الكلام، ووصلوا إلى هنا، قد قالوا في أنفسهم، هل تقارن الثورة الروسية بغزة وجنوب لبنان؟ بمعنى آخر أن الثورة الروسية هي النموذج الذي ينبغي أن يقارن به أي فعل آخر يحصل في أي زاوية في الكوكب. حسناً، الإجابة ستكون سريعة، لا ليست النموذج، إنما هي معلم استدلال.
لا شك بأن وقت نشوب الثورة الروسية، خاصة في شقها الثاني، أي سيطرة البلاشفة على الحكم، قد لقيت نقداً من اشتراكيين في أوروبا الغربية، سواء كانوا جالسين في مقهى عند ضفاف نهر شنيل في غرناطة أو عند ضفاف نهر السين في باريس أو نهر التايمز في لندن. واليوم تلقى المقاومة في غزة وجنوب لبنان نفس النقد من خلفاء من سبق ذكرهم، وحتى أن “الدعم” الذي تلقاه المقاومة يمتزج بشروط مفروضة من قبل هؤلاء اليساريين. فنجد مثلاً مقولات تعتبر أن الدعم هو للمقاومة ليس دعماً للحركات الإسلامية “الأصولية”، كأن الأغلبية الساحقة من المقاومين ليست من هذه الحركات. وبالتالي، عندما يطرح الدعم النقدي مسألة قيام حلف بين القوى التقدمية واليسارية بهدف معارضة الامبرياليات والاحتلال، (10) وذلك خلال العدوان، كأنه يقول، أن عدم قيام مثل هذا الحلف يعني أن الدعم سيكون زائفاً، لأنه مشروط بقيامه.
ولكن السؤال المطروح ههنا، هل من قوى تقدمية ويسارية في المنطقة؟ لا تهدف هذه الورقة إلى إحصاء أسماء هذه الأحزاب وقياس مدى ثقلها، فضلا عن بحث أسباب تراجعها، ولكن كان بمقدور هذه القوى الموجودة ولكن المتناثرة متسعاً من الوقت لبناء نفسها من جديد، في أوقات سابقة على العدوان الحالي، بشكل سري أو علني وفقاً لمعطيات كل بلد متواجدة فيه، ولكن ذلك لم يحصل، وطَرح تشكّل مثل هذا الحلف، الذي لن يحصل في هذه العجالة، لأن بناء المنظمات، المكونة لهذا الحلف، لم يحصل أصلاً هو بالضبط طرح استحالة وذلك لتجنب أخذ موقف داعم للقوى الإسلامية.
أكثر من ذلك، يسترجع كاتب، (11) في مقال تعفيشي له، (12) استراتيجية ألكسندر بارفوس، للتعاطي مع الحلفاء خلال التحالفات الظرفية مع قوى مختلفة أيديولوجياً مع “اليسار” مثل: “1) عدم خلط المنظمات، السير على حدة والضرب معًا؛ 2) عدم التخلّي عن مطالبنا السياسية الخاصة بنا؛ 3) عدم إخفاء اختلاف المصالح؛ 4) مراقبة الحليف كما يُراقَب العدو؛ 5) الاهتمام بالاستفادة من الوضع الناتج من النضال أكثر من الاهتمام بالحفاظ على الحليف”. (13) من دون شك إن القفز أكثر من 100 سنة بالتاريخ، وبمفعول رجعي، هو تحليل ملموس للواقع الملموس، واستعمال ضمير المتكلم يدل على تمثيل شعبي واسع النطاق للكاتب حتى يفرض على القوى الإسلامية هذه التكتيكات كشرط لقيام حلف مؤقت معها، ودون هذه الشروط، يستحيل قيام مثل هذا الحلف، أو أن يكون هذا الطرف اليساري أو ذاك متذيلاً للإسلام السياسي.
لكن بارفوس، المستشهد به كنموذج للثورية وينبغي وفق وَصفته عقد التحالفات، ناقض نفسه، ووَصفته حتى، يوم اعتبر أنه “على الحكومة العمالية عدم اتخاذ أي إجراءات اشتراكية، إنما فقط إدخال تشريعات اجتماعية تقدمية وإصلاحات لصالح الطبقة العاملة وضمن حدود النمط الرأسمالي للإنتاج”، (14) بالتالي، ما الذي تبقى للاشتراكيين والطبقة العاملة فعله في هذه الحالة، عندما يشنون ثورة تؤدي في نهاية الأمر إلى إدامة هيمنة الرأسمالية؟.
طبعاً، لو استمع البلاشفة، إلى نصائح رواد مقاهي أوروبا الغربية، وبارفوس، لاستمروا حتى يومنا هذا يوزعون مناشيرهم بانتظار اقتناع كل الطبقة العاملة الصناعية، حتى تصبح جاهزة وواعية ومدركة لنفسها ومادية بالكامل، حتى تستطيع شن الثورة النقية.
ولكن من يريد تحقيق الثورة النقية، يمكنه فعل ذلك، ولا أعرف حقاً من الذي يمنعه من فعل ذلك، فليبدأ بالتنظم ودعوة الناس إلى الالتحاق بصفوفه وليطبق الوصفات التجريدية السابقة الذكر. بانتظار أن يحقق منظّرونا الأشاوس ذلك، وهو أمر أجزم أنه لن يحصل، سأعود إلى جنوبَينا، لتفحص عن كثب من الذي يقاوم.
الله أكبر كزفرة المضطهدين بوجه الامبريالية والاحتلال
لأعوام طويلة، وخاصة بين عامي 2003-2009 استمعت مراراً وتكراراً لأغنية Persian Astronomy من أعمال الفنان THE ORIENTALIST، لم يكن استماعي لها من باب الإعجاب الشديد، إنما فقط لاحتوائها عند الدقيقة 2:56 على زفرة مختصرة، كانت هي كل ما يعنيني من الأغنية كلها، وحتى الألبوم. زفرة تمتد لأقل من ثانية، كنت أشعر بها حين كنت أنتقل من محطة باص إلى أخرى، حيث أجتاز طريقاً تمتد لحوالي مئتي متر، تتدرج صعوبتها كلما مشيت صعوداً. وعندما أصل عند نقطة معينة، وسط روائح المازوت والدخان والثقل الذي يطبق على صدري أزفر زفرة شبيهة بزفرة تلك الأغنية.
لم أجد تفسيراً للارتياح الذي كنت أشعر به إثرها، إثر ذلك التنفس، ولكنني فهمته حين وجدت مرتكزاً فكرياً في عبارة كارل ماركس الشهيرة، والتي غالباً ما أسيء فهمها وتفسيرها: “المعاناة الدينية هي في آن، تعبير عن معاناة واقعية من جهة، واحتجاج على المعاناة الواقعية من جهة أخرى. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، قلب عالم دون قلب، وهو روح ظروف دون روح. إنه أفيون الشعوب”. (15) تلك الزفرة هي نفسها التي سمعتها يوم وقف أحد مقاومي القسام في إحدى الفيديوهات، مستنداً إلى حائط، مطلقاً زفرة هائلة، سرعان ما استدار نصف استدارة مطلقاً قذيفة مضادة للدروع، فانفجرت الدبابة واحترقت بمن فيها، مطلقاً الصرخة/الطلقة: الله أكبر.
مقاومنا هذا، لم يكن يرتدي سوى قميص صيفي وبنطال أديداس، وحذاء، كل ملابسه سوداء، وسلاحه. هذه الملابس الهشة واجهت لوحدها دبابة يفوق سعرها 6 مليون دولار أميركي- أي فارق طبقي هذا؟!- لم يكن يملك سوى قذيفة واحدة، تبلغ كلفتها بضعة مئات من الدولارات يواجه بها كل هذا الجبروت الفولاذي المصفح.
هو لم يواجه جبروت واحد بمفرده، أي الدبابة بذاتها، إنما واجه الرأسمالية بوجهها الصريح والمكشوف، عام 2024، بعد صدور كل المواثيق الإنسانية الكاذبة. واجه كل الدول الرأسمالية المجتمعة لقتل غزة وإزالتها من الوجود بطلقة واحدة. هنا، وبحسب عامر محسن “قتل الأطفال الفلسطينيين «هو بالضبط ما يتوجّب على الحكومة الأميركية واحتكاراتها فعله من أجل إبقاء العالم كما هو»”. (16) وهذه الطلقة المقاوِمة وسواها الآلاف، سواء في جنوب لبنان أو في قطاع غزة، هي بالضبط من أجل ألا يبقى العالم كما هو.
كذلك، في 19 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023، تقدم 3 مقاومين نحو مبنى مستشفى الرنتيسي التخصصي الذي تحصن جنود الاحتلال فيه، وبقي مقاومان في الجهة المقابلة يصوران اقتحام رفاقهما للمبنى، ويكبران، ومن كثرة تكبير أحدهما بكى، بعدها انفجر المدخل وانتهى المشهد هنا. المقاومون ساروا في مسار عكسي من قصيدة طلال حيدر، “خيال”، وباتت نهايتها كالتالي “فتح عتمة خيالو وفات، في ناس قالوا قتل، في ناس قالوا مات”.
خلال بحثي عن موقع المستشفى وجدت أنها تقع بين شارعي كمال عدوان وكمال ناصر، وعلى مقربة منهما شارع آخر باسم محمد يوسف النجار، الذين سقطوا شهداء في عملية لجهاز الموساد في بيروت يوم 10 نيسان/أبريل عام 1973. واللافت أن موقع الخرائط في غوغل قد نبهني بأن “المعلومات حول هذا المكان قد تكون قديمة، انتبه دائماً إلى ظروف العالم الحقيقي، التي قد تتغير بسرعة”. فسألت نفسي ما هو القديم في الخريطة؟ المستشفى؟ الشوارع؟ أسماء الشوارع؟ الأبنية؟ الأشجار؟ الشهداء الذين سقطوا منذ 50 عاماً؟ أم مقاومو عام 2023؟
ولكن الإجابة ليست بهذه البساطة، وهي ليست ممكنة من دون إجراء مقارنة بين صيحة الله أكبر التي هتف بها مقاومون في شوارع خالية وسط الدخان والسماء الملبدة بالحرائق والموت، وصيحة الله أكبر التي هتف بها إمام المسجد النبوي الشيخ صلاح بن محمد البدير وأتبعها بقوله المشهور “اللهم احفظ بلاد المسلمين من النزاعات والصراعات والحروب والثورات”، (17) فأي عبارة هي الصادقة؟ أترك الإجابة لأمل دنقل: “فلتكن الريح في الأرض؛ تكنس هذا العفن”، (18) والخريطة ليست قديمة، ولن تكون، لأنه “من هنا تبدأ الخارطة والكلمات”. (19)
بنطلون الأديداس والمكان والزمان الصح
يظهر في الكثير من مقاطع الفيديو التي نشرتها كتائب القسام، مقاتلون يرتدون ثياباً رياضية، وأخرى أنيقة، من بينهم الشهيد المقاتل الأنيق، حمزة هشام عامر، ابن أحد مؤسسي هذه الكتائب الشهيد هو الآخر، وهي ثياب يطلق عليها صفة “الحداثية” أو التغريب الذي يُفترض أنه “يحقق تجانساً ثقافياً” (20) أي بمعنى آخر، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، توقع الكثيرون أن الهيمنة الإمبريالية الغربية، وبواسطة كل أدواتها الرأسمالية والتسليعية، قد انتصرت، وأن هذا التجانس سيصنع هناءة لزيادة هذه الربحية المتضاعفة المتولدة من أشكال مختلفة من الاضطهاد والاستغلال وسرقة الموارد وتدمير الكوكب حرفياً.
والرأسمالية، وإذ تولد تناقضاتها خلال عملها وأزماتها كذلك، لم تكن سنواتها الـ 34 الماضية هانئة، فقد شهدت كل زوايا هذا الكوكب، خاصة في عالم الجنوب، مواجهات حادة معها، وغزة تندرج في طليعة هذه المواجهات.
المقاتل عندما يرتدي ثياباً “حداثية” ويواجه الاحتلال، هو النقض لكل هذه “الحداثة”ـ، التي علينا تشربها، وتقبل حالنا، وعيش حياتنا في ظلها، وبالتالي أن ندعها وشأنها، كما قال الشهيد باسل الأعرج. ومقاتلنا هذا، هو النقيض لكل ذلك لأنه يواجه رأس حربة الرأسمالية في عالمنا، أي الاحتلال الصهيوني، هو الديالكتيك الأرضي والسماوي. هو لا يأتي من زمن أو مكان آخر، كما كتب جاك شينكر، (21) حين تحدث عن سكان عشوائيات القاهرة في كتابه عن الثورة المصرية، إنما هو ابن هذا الزمن وابن هذا المكان، يقف ويواجه بصدره، دون أي خوذة أو درع وقاية، دبابة غالية الثمن ومجهزة بأعقد التقنيات وتحت سماء تعج بطائرات الحداثة التجسسية.
بالتالي، إن وصم أبناء العشوائيات في القاهرة بأنهم جاؤوا من زمن متوشلخ، الذين أسقطوا بشجاعتهم نظام مبارك العميل، هو لصق، ولو عن غير قصد، لفكرة أن أبناء هذا الشرق، عندما يتحركون إنما يفعلون ذلك باتجاه الماضي، أي نحو “الرجعية والأصولية”، لكن ذلك ليس صحيحاً، لأن العامة لطالما تحركوا بوجه السادة، بحسب رفيقينا كارل ماركس وآلان أكاردو، ولكن إذا كانت القوى التقدمية غير جاهزة أو غير موجودة أو عاجزة عن أن تكون، هل على هذا المقاتل تسليم نفسه للاحتلال؟ هل على ابن العشوائيات تسليم نفسه لأجهزة المخابرات حتى يتحقق ما لم (ولن) يتحقق؟
أكثر من ذلك، فلنتذكر ثورة 1905، التي كانت بروفا لثورة عام 1917، التي بدأت بمسيرة سلمية يترأسها كاهن عميل للنظام القيصري الروسي، ردد فيها المتظاهرون هتافات تبجيلية بالقيصر، حاملين معهم عريضة ترجو من النظام تأمين مطالبهم، فكيف رد القيصر؟ ارتكب جيشه مجزرة. وكيف رد المتظاهرون؟ هل سلموا أنفسهم لأجهزة النظام؟ هل أغرقوا أنفسهم بالتجانس والهيمنة المفروضتين، حيث كانت الرأسمالية في بداياتها في روسيا؟ كلا، إنما هتفوا: أعطونا سلاحاً!
هذا هو شرقنا!
في هذا السياق، لا بد أن نتذكر قصة الرفيق خليل، الغزاوي، البروليتاري، الذي عمل في مستوطنات الاحتلال، وكان يسجل خلال عمله هناك كافة المعلومات والتفاصيل الميدانية- ليس ليكتبها بحثاً أكاديمياً يكون مرتكزاً لمراكز الأبحاث الغربية وأجهزة الاستخبارات- إنما ليكون دليلاً لمقاتلي القسام يوم 7 تشرين/أكتوبر.
خليل، لم ينتظر تشكّل أي قوى تقدمية أو تحرك ما يسمى بـ”الطبقة العاملة الإسرائيلية” حتى تمارس تحررها من طبقتها الحاكمة، إنما عرف أن الخط المستقيم ينطلق من بروليتاريته ويصل إلى تحرره الوطني (ولا يتوقف هناك).
خليل هو ثورتنا الدائمة، وهو الراية!
أبناء غزة وعشوائيات القاهرة هم أكثر تقدمية من اليسار الغربي ونقابييه، لأن الأخيرين يعودون إلى بيوتهم في نهاية اليوم، قي حين تستمر الرأسمالية، وتتراكم الأرباح، والتسلح حتى الأسنان كذلك. لكن مقاتلينا لا يعودون إلى بيوتهم، وإن عادوا، فلا عائلات لهم ولا بيوت، وفوق كل ذلك، يقاومون، خلال نوم الآخرين، أو خلال تظاهرات السبوت والآحاد.
من هنا، لا بد لغزة أن تنتصر.
تأملات في الحالة التضامنية في لبنان مع جنوبينا
ليس سهلاً الانتقال من الحديث عن خليل ورفاقه إلى الحديث عن ما يسمى الحالة التضامنية في لبنان. فعندما أنهيت الفقرة السابقة، اعتقدت أنها هذه هي الذروة ولا حاجة من بعدها إلى أي إضافة، وأعتقد أن هذا هو ظنّ القراء والقارئات.
أضف إلى ذلك أن كلمة تضامن هي كلمة منفرة، يمكن أن يقوم بها اليسار الغربي كل سبت وأحد ليريح ضميره، خلال استمرار المجزرة. وهي كلمة ليست في محلها، لأننا على تماس جغرافي وعقائدي وإيماني مع فلسطين، ويسقط يومياً على أراضينا خيرة شبابنا وأهلنا.
لقد مرت هذه الأشهر، وعليّنا وعبد الكريم البرناوي، وسواهما، قد عرفوا الطريق والدليل، دون الكثير من الحسابات ودون أي “لكن”. وهي أشهر كانت كافية للتدرب والإعداد العسكريين، ولكن ما العمل مع من هتف لجمّول طوال سنوات، وإذ به اليوم يتضامن مع هاتف ديما صادق؟ ما الذي بقي من يسار؟ وما الذي يمكن انتظاره منه؟
الجواب الوحيد: “أي تفو بيسار كهذا أينكر حتى دمه؟”. (22)
لكن، دعكم الآن من التدريب العسكري، فالحاجة إلى الترحال ونيل الڤيز ومراكمة الامتيازات أهم من التحرير والمساندة. فلنراجع ما الذي فعله هذا اليسار. فما عدا اعتصامات متفرقة هنا وهناك أمام السفارات والمنظمات الدولية، ما لبث أن تلاشى عدد المشاركين فيها، تخللها توزيع بيان واحد فقط، وضعه الرفاق في الاتحاد الطلابي العام، مذكراً فيه بأن المعركة تحصل الآن وهنا، وأننا معنيون بها. لم يجد يسار شارع الحمرا سوى الوقوف 35 ثانية بطلب من نضال الأشقر في مسرح المدينة يوم السادس من آذار/مارس، وذلك في مستهل ندوة فواز طرابلسي، (23) علماً أن الأشقر كانت قد طلبت من مناضلي المقاهي الوقوف دقيقة واحدة فقط، كمجهود لمساندة جنوب لبنان وغزة.
واليسار، وهي كلمة فضفاضة جداً على هذا الجمع من الناشطين، ترك الرفيق خضر أنور، ورفاقه ورفيقاته، يتعرضون للسحل والضرب أمام هذه السفارة وتلك المنظمة، ويتعرض للاعتقال مراراً وتكراراً، ولأيام طويلة في معتقلات النظام اللبناني. وما هي التهمة؟ نزع علم فرنسا واستبداله بعلم فلسطين، أو المطالبة بالأموال المنهوبة من فحوصات الـ pcr التي أجريت للمسافرين عبر مطار بيروت، والبالغ مجموعها ما يقدر بـ 52 مليون دولار أميركي كان يفترض أن تخصص لدعم الجامعة اللبنانية. ما الذي كان يمنع حشود مسرح المدينة من الوقوف 35 دقيقة أمام قصر “العدل” أو أمام مراكز الاعتقال للمطالبة بحرية الرفيق؟. لكن يومها كان الرفيق أنور حراً، وكان الحشد أسير الصمت والفراغ.
كما شهدنا في الأشهر هذه إعادة إنتاج اسم “حملة صامدون”، (24) التي كانت حملة سياسية قاعدية تعنى بالتصدي للعدوان الصهيوني على لبنان عام 2006 من النواحي السياسية والإغاثية والإنسانية، دون فصل أو تجزئة بينها، والتي ضمت رفاقاً ورفيقات من مشارب سياسية مختلفة، إذاً، أعيد انتاجها لتتحول إلى مجرد اسم يجمع التبرعات وينظم الحفلات، دون أن يظهر إلى العلن أي عمل قاعدي، أو أي بيان سياسي ضد الاحتلال، أو أي معلم من معالم عمل الحملة الأصلية في أيام التصدي التموزية. ولأن الاسم براق، و”ناجح” بسبب صيتها وجد القيمون الحاليون عليها مكانين يشبه ما باتت عليه، كحملة مسحوبة الدسم والسياسة- وفي ذلك سياسة أيضاً-، في الكرنتينا (25) والتباريس (26).
والتضامن مع هاتف الإعلامية كان أهم من التكاتف وإسناد الرفيقة نور سليمان، التي دفعت إلى الاستقالة، بسبب ممارسة حقها في التعبير عن تضامنها مع الشهداء الذين يسقطون بصواريخ الاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان، إثر إنذار مليء بالأخطاء الإملائية من إدارة تحرير موقع يضم في مجلسه 3 صحافيين/ات مجموع خبرتهم “الصحافية” أكثر من عمر نور بثلاث مرات. هنا لم يكن الصمت والفراغ سيد الموقف، إنما كان انحيازاً كاملاً مع إدارة الموقع المصون، وقد بدا ذلك جلياً، من حركة التعليقات في صفحات المؤسسة على مواقع التواصل الاجتماعي، وما عبرت عنه الرفيقة سليمان في المقابلات التي أجريت معها، (27) ولكن كذلك في التصاريح المتواطئة مع إدارة المؤسسة، (28) حين قال أحدهم: “أنّ عدم إصدار المؤسّسة أي تعليق يعود إلى أنّها لم ترصد انتهاكًا”، في حين كانت الصراحة فجة من الثانية: “التجمّع لا يقوم بنشر بيانات عن كلّ قضيّة يتدخل فيها وليس هذا المطلوب منه”.
آذار/مارس شهد استقطاب إضافي، كانت بطلته الراهبة مايا زيادة، وقد خرجت من وسط قضاء كسروان، في قرية غبالة- أي من “مارونستان أو فينيقيا” بحسبما يتشدق المتردكلون الكلاميون، وهنا سأستعيد خطبتها الصباحية، بحرفيتها، لكونها من أفضل ما حصل في لبنان إسناداً للجنوب وقطاع غزة والمقاومة وشعبنا الطيب: “بس حدا يقول ما بتعرفو وشو فهمكم، بيكون عم يكذب عليكم، ما بدو ياكم تفتحو عينكم على الحقيقة. يقول محمود درويش: “لم يعرفوني في الظلال التي/ تمتصُّ لوني في جواز السفرْ/وكان جرحي عندهم معرضاً/ لسائح يعشق جمع الصور (…) عارٍ من الاسم، من الانتماءْ؟/ في تربة ربَّيتها باليدينْ؟” شو يعني؟ يللي عم يصير بفلسطين المحتلة، بجنوب لبنان، صار معرض للغرب، بدل ما يساعدونا بيتفرجوا علينا. نحنا ما إلنا إلا حالنا تنخلص حالنا. بالجنوب، في تلاميذ بعمركم، بيقولو نحنا ما عنا أحلام، غير إنو نحمي أرضنا. هيدا بالجنوب، من هيك soeur [الراهبة] مايا ما فيها تسكت، وتقول “أيش بدك منهم لهالولاد”، إذا أنا كنت أصغر منكم وتعلمت، وكان في ناس عم تخبرني، اتفرج وروح فتش، أنتو بإيديكم في سمارت فون، وتابليت، يعني فيكم تفتشو، وفيكم تعرفو. اليوم، بدنا نصلي للجنوب، لأطفال الجنوب، لأهالي الجنوب، ولأمهات الجنوب، ولرجالهم، رجال المقاومة، وقولوا soeur [الراهبة] مايا قالت، لأنو هودي رجال من لبنان، هودي رجال عم يتعبو ليحموا هالوطن، وإذا ما صلينا لهم وما حبيناهم، بغض النظر عن شو منفكر، منكون خونة بحق أرضنا وبحق وطننا وبحق كل كتاب منفتحو ومنقرا فيه. منقول للعدرا تحمي شبابنا وولادنا ووطننا لأنو عم يمرق بمحنة كتير صعبة، وما في غير المحبة والتعاضد بيجمعنا وبيقوينا وبيمشينا لقدام”.
وبسبب وضوح خطاب الرفيقة الراهبة مايا، وما تضمنه من مفاهيم تقدمية، كانت الحملة شرسة وترهيبية ضدها، ليس فقط من مؤيدي البطريركية المارونية ولكن كذلك من حشود الليبراليين. وتجربة الرفيقة مايا، لم تأتِ من فراغ، فعقد الستينيات من القرن الماضي شهد حراك العشرات من أمثال الرفيقة، في وسط الكنيسة المارونية تحديداً، من كهنة وراهبات، وداخل قضاء كسروان، سعوا إلى قيام كنيسة تقدمية وتحررية تقف إلى جانب المستضعفين في الأرض ومن بينهم المقاومة. (29)
وبذلك، تتلاقى الرفيقة الراهبة مايا مع صيحة الله أكبر وزفرة مقاتلينا في جنوبينا. وهي كذلك تصدت في جرأتها تلك لجبروت البطريركية، تماماً كما يقف “عراة” درويش في شوارع غزة أو في عيتا الشعب بوجه الاحتلال وبوجه زيف الغرب الذي أظهر لنا وجهه الحقيقي، بحسبما أكدت الرفيقة مايا في كلمتها. هي اختارت موقعها وتموضعها، في وقت وقفت الهرمية الدينية في بلدها ضمن نفس الخط الذي عبر عنه إمام المسجد النبوي السابق ذكره، الداعم للأنظمة العميلة والاحتلال والامبريالية، فوجودهما واستمرارهما ناتج من بقائها.
ما جرى مع الرفيقتين مايا ونور، في شهر آذار/مارس، كان تكثيفاً لرمزية اليوم العالمي للمرأة، الذي فرضته العاملات، وبات يوماً رسمياً بدءا من عام 1911 بمبادرة من الرفيقة كلارا زيتكن، (30) بوجه البرجوازية والبطريركية، نحو عالم محبّ ومتعاضد، إذا أردت استعادة كلمات الرفيقة مايا، أي نحو عالم اشتراكي خالٍ من الرأسمالية والاحتلال والامبريالية وطريقنا إلى ذلك عبر “المقاومة حتى الثورة”. (31)
بمثابة خاتمة
يا علي! “جئت إليك من هناك”، (32) من وسط “رفاق” يسخرون من طريقة لفظي لبعض الكلمات الأجنبية، أو من طريقة تناولي الطعام. من وسط رفاق لا يوزعون بيانات منظمتهم، يرمونها في سلة المهملات، يريدون عمالاً يدويين لنقل الكتب، لا يوزعون مجلات منظمتهم، يكثرون الكلام والجعجعة، والنضال عندهم لحظة استراحة في محطات سيرهم كبرجوازيين صغار أو طبقة متوسطة ومراكمة الامتيازات، وآخر من بينهم صنفني بأنني ميسور الحال لأنني كنت أول من يدفع اشتراكه الحزبي الشهري. (33)
في لقائنا الأخير لم أودعك، لقد شاءت الظروف ألا يحصل ذلك. يتملكني الالتباس والغموض والارتباك حيالك، أخاف أن تموت، ولكنك اخترت طريقك في “هُناك”ـك. سأقنع نفسي أن هذا هو الديالكتيك الخاص بنا، أنا وأنت، سأبقى أتابع صفحة علي شعيب على تويتر، باحثاً عن صورتك، لن تكون مهزوماً، ستكون نجمة، نجمتي، وكأسي الملأى. وإن متُّ قبلك، سأكون مطمئناً لأنك ستكون “هناك” تحمي أرضنا، وتحرس نومي الأبدي.
“نحن نعرف أن الكابوس صغير في عين النهار، لذلك نبقى، ريثما تحمل أشجارك الهائلة شموعنا الباقية، ريثما يختنق السيل، فنخرج من جثته برؤوس الأزهار الصغيرة”. (34)
الهوامش:
(1) https://marxists.architexturez.net/archive/marx/works/1858/letters/58_10_07.htm
(2) https://www.marxists.org/archive/marx/works/1882/letters/82_09_12.htm
(3) جلبير الأشقر، إن يساراً مغايراً ممكن، موقع المناضل-ة، 2024
(4) Alejandro López, Spain’s PSOE-Podemos government sends police to Greece to attack migrants, World Socialist Web Site, 2024
(5) Cyprus–Egypt–Greece 2nd Trilateral Summit Nicosia Declaration, Ministry of Foreign Affairs, 2015
(6) Löwy, M. The Politics of Combined and Uneven Development: The Theory of Permanent Revolution, London: Verso, 1981
(7) Karl Marx, The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, Marx/Engels Internet Archive, 1852
(8) Ankica Cakardic, Like a Clap of Thunder, Rosa-Luxemburg-Stiftung, 2020
(9) Matthieu Renault, L’Empire de la révolution. Lénine et les musulmans de Russie, Paris, Syllepse, « Utopie critique », 2017.
(10) جوزيف ضاهر، فلسطين ضمن استراتيجية إقليمية للتحرّر الاشتراكي، مجلة صفر، 2024.
(11) جوزيف ضاهر، الأصولية الإسلامية: الجناح الثاني للثورة المُضادة، مجلة صفر، 2023.
(12) كتابات وترجمات، مواجهة التعفيش جزء من الصراع الطبقي، 2023
(13) مقابلة جان دوما دوكانج مع جلبير الأشقر، الدين والسياسة / الماركسية والإسلام (٢/٢)، رمان، 2020
(14) Löwy, M. op. Cit.
(15) Karl Marx, Contribution à la critique de La philosophie du droit de Hegel, Marx/Engels Internet Archive, 1843.
(16) عامر محسن، سلسلة الاقتصاد والسياسة [6]: الصّين واللعب مع الكبار، الأخبار، 2024.
(17) بي.بي.سي.، المسجد النبوي.. جدل بسبب دعاء على المظاهرات والثورات، 5 نيسان/أبريل 2024.
(18) أمل دنقل، سفر التكوين، الديوان.
(19) محمد العبدالله، من هنا تبدأ الخارطة والكلمات.
(20) Neil Davidson, Uneven and Combined Development: Modernity, Modernism, Revolution, Revolutionary Socialism in the 21st Century, 2017
(21) Jack Shenker, The Egyptians: A Radical Story (London: Allen Lane, 2016)
(22) مظفر النواب، في الرياح السيئة يعتمد القلب.
(23) مسرح المدينة، غزة فلسطين والصراع العربي “الإسرائيلي” مع الدكتور فواز طرابلسي، فايسبوك، 6 آذار/مارس 2024.
(24) بيان صامدون، موقع صامدون الإلكتروني، 22 تموز/يوليو 2006، يمكن للقراء والقارئات إجراء مقارنة بين بيان صامدون عام 2006 وبين “بيانات” ما يسمى بـ”صامدون” موديل الـ 2024، في الهامشين التاليين، وكيف انحطّت اللغة والموقف، والأهم، السلوك. مع العلم أن صامدون قد أصدرت وقتها 5 أعداد ورقية من نشرتها خلال حرب امتدت طوال 33 يوماً، وخلال عدوان شتاء 2008-2009 أصدر التجمع اليساري من أجل التغيير نشرة فلسطين حرة، خلال حرب امتدت طوال 3 أسابيع، في وقت اقتصر، كما سبق وذكرت، النشر على بيان واحد للاتحاد الطلابي العام، وكان الاتكال على وهم يسمى انستاغرام. وحتى لا أطيل الشرح، البيان الورقي له دور كبير في ربط المناضل/ة بالشارع وبالطبقة العاملة فضلا عن أدواره التعبوية، فأي منظمة أو تحرك يسقط من حسابه/ا هذه الأداة محكوم/ة بالفشل.
(25) الدعوة إلى جَمعة Jam3a في ked، انستغرام، 3 شباط/فبراير 2024.
(26) نشاط جمع تبرعات، شبكة مدى، فايسبوك، 1 نيسان/أبريل 2024.
(27)، نور سليمان مع هيداك البودكاست، يوتيوب، 26 آذار/مارس 2024؛ نور سليمان مع كمال فوعاني، يوتيوب، 15 نيسان/أبريل 2024.
(28) إيناس شري، نور سليمان x “درج”: السياسة تقتل النقاش مجددًا، المفكرة القانونية، 5 آذار/مارس 2024.
(29) فريد الخازن، تر. شكري رحيم، تفكك أوصال الدولة في لبنان (1967- 1976)، دار النهار، الطبعة الثانية، 2002. ص.ص. 112- 117. البارز في أسلوب فريد الخازن، حينما يشير، حينما كتب أسماء بعض الكهنة، بأنهم أصدقاء كمال جنبلاط أو منظمة التحرير أو ياسر عرفات، وكأن هؤلاء الكهنة الشجعان لا شخصية ولا وجود (سياسي) لهم إلا بهذه الصداقة، علما أنه لم يستعمل هذا الأسلوب حين تكلم عن بيار الجميل، إذ لم يكتب مثلا: بيار الجميل صديق الإسرائيليين. حبذا لو تمثل الدكتور فريد بربع شجاعة هؤلاء الكهنة، ولكنه خازنيّ وكان على رأس قسم الدراسات السياسية في الجامعة الأميركية، فعلى من أقرأ مزاميري؟
(30) عايدة سيف الدولة، يوم المرأة العالمي.. يوم نساء الطبقة العاملة، موقع الاشتراكيون الثوريون الالكتروني، 7 آذار/مارس 2012.
(31) صورة لنادل إيطالي وشم ساعده بعبارة “المقاومة حتى الثورة” التقطها الكاتب سامر أبو هواش، تويتر، 9 نيسان/أبريل 2024.
(32) سركون بولص، آلهة الزقوم.
(33) شهادة شخصية ومطولة قيد الإعداد بعنوان: قصة المنتدى الاشتراكي بين شهادتَي دكتوراه، وأمور أخرى كثيرة: قراءة في حال الاشتراكية الثورية في لبنان.
(34) عباس بيضون، الدمية.
