
فهرس المحتويات
1. مقدمة الطبعة العربية
أطلقت الثورة المصرية، كما هو طبيعي في حالة كل الثورات، طاقات نضالية عميقة للجماهير المضطهدة على مدار العامين الماضيين. وتبادلت النضالات الاقتصادية والسياسية الأدوار في احتلال مركز الصدارة في المشهد النضالي من خلال موجات متفرقة تحاول من خلالها الجماهير تلمس طريقها لتنظيم أنفسها لتحقيق مصالحها في انتزاع مصالحها في العدالة الاجتماعية وحياة كريمة. واجهت الجماهير المؤمنة بالثورة مقاومة شرسة ودموية من طبقة حاكمة هزتها الانتفاضة الثورية ولكنها صممت وتعمل جاهدًة، كما يجب أن يكون منتظر من كل الطبقات المُستَغلِة، على هزيمة الثورة وإعادة فرض سيطرتها الشاملة.
دخلت الطبقة الحاكمة هذه المعركة مزودة بأسلحة اقتصادية وسياسية لا حصر له، مُتكِئة على جهاز دولة عميق وإعلام يناصر مصالحها تحت قيادة المجلس العسكري غير المأسوف على تفكيكه، ومعتمدة على استعداد الأحزاب القائمة – سواء ليبرالية أو إسلامية – للتهادن مع النظام الاقتصادي والسياسي المُجحف للعمال والفقراء والمضطهدين سواء من خلال تأييدهم لقمع العسكر والشرطة للجماهير في لحظات من عمر الثورة أو ، كما نرى الآن في ممارسات الأخوان المسلمين في الحكم أو مضمون معارضة الليبراليين للإخوان، إجراء إصلاحات محدودة وشكلية مع إعادة تأهيل كل العناصر الأساسية في النظام الرأسمالي الفاسد بأكمله.
وللأسف دخلت الجماهير الثورية المعركة وهى تفتقد الأدوات السياسية والإعلامية الضرورية لتطوير مستوى تنظيم ونضج حركتها للتعامل مع ضراوة قوى الثورة المضادة ودرجة تنظيمها. وفى هذا السياق، ورغم بسالة النضالات سواء سياسية كانت أو اقتصادية، لم ولن تكفى أبدا الشجاعة والنضالية والتعبئة الجماهيرية ومواجهات الشوارع في حد ذاتها لهزيمة الطبقة الحاكمة.
ففي حين تمتلك الطبقة الحاكمة حتى الآن القوة الاقتصادية والسياسية والإعلامية في المجتمع للدفاع عن نظامها، فإنه لا مفر أن تعتمد الجماهير المصممة على استكمال الثورة ليس فقط على نضالي الاقتصادية أو السياسية العفوية بل على رفع وتطوير درجة وعيها وتنظيمها السياسي جنبا إلى جنب مع النضال.
ومن هنا سنحاول من مركز الدراسات الاشتراكية أن نستمر في المساهمة برؤيتنا الاشتراكية الثورية – التي تؤمن بأن الاشتراكية الحقيقية ما هي إلا نضال الجماهير من أجل بناء مجتمع قائم على حكم الجماهير لأنفسها وبأنفسها من أجل تلبية الحاجات الإنسانية الأساسية بدون استغلال وطغيان – في تطوير النقاشات النظرية التي لا غنى عنها لكل الثوريين الذين يطمعون في انتصار الثورة المصرية إما أجلا أو عاجلا.
ونصدر هذا الكتيب عن الرؤية الماركسية للأفكار والإستراتيجيات الأناركية على مدار الخبرة التاريخية – وهى الأفكار التي أثرت لحد كبير في تشكيل الحركات الثورية في بلدان عديدة وتؤثر بشكل أو بأخر في صفوف وتوجهات الكثيرين من المناضلين في مصر ممن يشاركون في الثورة- ليس بهدف توبيخ أو التقليل من المساهمات الرائعة لكل من شارك أو شاركت في هذه الثورة وكل من قدم التضحيات لتقدمها، بل لأن كثير من الرفاق الأناركيون يشاركوننا نفس الحلم في مجتمع يقوم على المساواة والحرية للمنتجين، وينبذون كما ننبذ التجارب الستالينية التي قمعت العمال والفقراء بإسم الاشتراكية.
وإذا كنا لا ندعى أن لدينا كل الإجابات السليمة على كل المسائل التكتيكية والإستراتيجية التي واجهت وستواجه الجماهير، وإذا كنا أيضًا نؤمن بأهمية الحوار النظري بين كل الثوريين في إطار النضال المشترك على أساس الاحترام المتبادل، فإننا نحمل القناعة بأن الماركسية كنظرية مُرشدة للنضال هي سلاح لا غنى عنه للثوريين، وأن بناء حزب وأحزاب سياسية ثورية مرتكزة على العمال والفلاحين والمضطهدين هو ضرورة لا غنى عنها في النضال اليومي ضد طبقة مُستغلة ومنظمة سرقت الماضي وتستميت لرهن المستقبل.
مركز الدراسات الاشتراكية
خريف 2012
2. مقدمة الكاتب
اندلعت أثناء كتابتي لهذه الكراسة الثورة التونسية والمصرية في شتاء 2010\2011 تبعتها معارك ملحمية تستمر في ليبيا والبحرين واليمن وسوريا وأنا أكتب. وإذ تربطني علاقة قديمة باليسار المصري كان من الطبيعي أن تشتت الأحداث انتباهي عن نقد الأناركية لبعض الوقت إلا أن سريعًا ما تلاها تطورات زادت من أهمية وضرورة هذا النقد وأشير هنا إلى حركة احتلال الميادين في أسبانيا.
احتل آلاف الأسبان في 15 مايو2011 ساحة بويرتا ديل سول، الميدان الرئيسي في مدريد، مستلهمين ميدان التحرير وذلك أسبوع قبل بدء الانتخابات المحلية على مستوى البلاد، احتجاجًا على البطالة وأزمة السكن والنظام السياسي الفاسد بأكمله. وقد أطلقوا على أنفسهم لوس إنديجنيادوس أو الغاضبون وشجبوا التيارات الرئيسية من الساسة والأحزاب. كان شعارهم “إنهم لا يمثلوننا” وطالبوا بـ”ديمقراطية حقيقية الآن!”. وفي ظرف أيام كانت هذه الاعتصامات أو المخيمات قد انتشرت في 100 مدينة في أنحاء البلاد بل وأيضًا في ساحة كاتالونيا المحورية ببرشلونا. وانضمت جماعات أسبانية على بُعد يماثل المسافة بين بروكسل ودابلن في احتجاجات تضامنية. وفي 19 من يونيو تظاهر ما يقرب من مليون شخص، منهم 250 ألف في برشلونة، تضامنا مع الغاضبون. وما إلى ذلك ففي 25 مايو أقيم مخيمًا مشابهًا في ساحة سينتاجما بأثينا كمركز لاحتجاجات جماهيرية وإضرابات عامة متواصلة ضد التدابير التقشفية القاسية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على الشعب اليوناني.
اتسمت هذه الحركة بشكل عام بالشبابية والسلمية وكانت شديدة الحيوية والحماس، كما تأثرت بأشكال كثيرة من الأناركية أو على الأقل بأفكارها فقد اعتمدت أسلوب الديمقراطية المباشرة في اتخاذ القرارات في جمعياتها العامة ومنعت كل الأحزاب السياسية براياتها وأعلامها وصحفها، إلخ، من دخول الساحات.
إن نضال لوس إنديجنادوس los Indignados (الغاضبون) جزء من موجة دولية صاعدة من النضالات ردًا على أزمة الرأسمالية العالمية التي بدأت مع انهيار المؤسسة المالية الأمريكية ليمان براذرز Lehman Brothersفي أغسطس 2008 وهي الموجة التي كانت قد ضمت المقاومة المستدامة للطبقة العاملة اليونانية، ونضال العمال الفرنسيين ضد رفع سن التقاعد، وتمرد الطلبة البريطانيين في أواخر عام ،2010 والثورات المدهشة في تونس ومصر وباقي دول الربيع العربي، والحركة الجماهيرية في ولاية ويسكونسن في الولايات المتحدة، والمظاهرات الضخمة للعمال البريطانيين في 26 مارس وإضرابات 30 يونيو وغيرها الكثير. ونأمل أنه عند نشر هذا الكتيب تكون نضالات أخرى قد تطورت.
في وضع كهذا لا محال من عودة أفكار أو أمزجة أناركية للظهور. هكذا كان الأمر في النضالات العظيمة في عام 1968 وبالأخص في أحداث مايو في باريس والحركة الطلابية العامة في تلك الحقبة، ثم الحركة الدولية المناهضة للرأسمالية التي بدأت في سياتل 1999. فالقضايا المُميزة للأناركية – من رفضها القاطع للدولة والسلطة والممارسات النيابية الفاسدة وللأحزاب السياسية التي تخدم مصالحها الذاتية – لها صدى قوي لدى للشباب المتمرد التلقائي وحديثي العهد بالعمل الراديكالي. وهذا ما يحدث بالأخص مع وجود هذا الفراغ الكبير في اليسار الذي خلفه الانحسار والاختفاء التاريخي للأحزاب الشيوعية القديمة، والنقلة الكبيرة للأحزاب الاشتراكية الإصلاحية الأوروبية باتجاه اليمين (الممثلة للآن في شخص توني بلير البغيض، الصديق الصدوق لجورج بوش وبرلسكوني).
وإضافة إلى ذلك، يعتبر عودة أفكار أو أمزجة أناركية تطور محمود بشكل عام إذ يُدخِل على الحركة الخيال والروح بالإضافة إلى أنه يقدم تكتيكات جديدة وآمال أكبر لما هو ممكن وهذا أفضل كثيرًا من عُقم البيروقراطية والروتين.
ولكن هذا لا يعني أن هذه الأفكار الأناركية تمثل مُرشدا مفيدًا للنضال – فالأمر ليس كذلك للأسف. وأقول للأسف لأنه لو كان الأمر كذلك لوفر علينا كمًا لا نهائيًا من الجهد السياسي أغلبه مُضني. وبصفتي اشتراكي وماركسي أقول أنه على كل “يساري” وكل اشتراكي أو ثوري أن يعمل بداخل هذه الحركات المتأثرة بالأناركية ومعها بروح من التضامن والتعاون والاستعداد للتعلم – فالماركسيون العظام، بدءًا من ماركس، طالما كانوا يتعلمون من الحركة – ولكن عليهم كذلك الخوض في نقاشات ومحاولات إقناع للناشطين الأناركيين لأن الفكر الأناركي به نقاط ضعف جوهرية. وهذا الكُتيب معني بطبيعة الحال بعرض نقاط الضعف تلك، ولكنني أو د في هذا الصدد أن أستعرض بعض الأمثلة على هذا بُناءًا على الخبرات الأخيرة.
أولا: الكفاح في أسبانيا
كما تمت الإشارة أعلاه فقد كانت أهم الشعارات التي رفعتها هذه الحركة “إنهم (المقصود هنا الحكومة والساسة) لا يمثلوننا” و”ديمقراطية حقيقية الآن”. إن نشر هذه الشعارات بين الجماهير يعتبر إنجازًا عظيمًا. فهي موجهة إلى صميم زيف الديمقراطية النيابية التي يختار من خلالها الناس كل أربع أو خمس سنوات مجموعة السياسيين الذين سيكذبون عليهم وسيمثلونهم على نحو غير صادق وسيخدعونهم في حين أن السلطة الحقيقية في المجتمع لا يتم التصويت عليها ولا يتم محاسبتها وهي السلطة الماكثة في غرف مجالس إدارة الشركات ومكاتب إدارة الدولة.
إلا أن هناك كذلك ثمة مشكل عويص. يطالب لوس إنديجنادوس بـ”الديمقراطية الحقيقية” ولكن كيف سيحصلون عليها عمليًا؟ فمن الواضح أن الطلب في حد ذاته لا يتحقق لمجرد المطالبة به؛ فأقل ما تحتاج إليه تأسيس ديمقراطية “حقيقية” والتي يقصِد بها المحتجون “ديمقراطية مباشرة” أن تحِل الحكومة الأسبانية وجهاز الدولة نفسهما طواعية. وبالطبع يمكن للحركة أن ترد أنها تخلق الديمقراطية الحقيقية الخاصة بها من خلال تجمعاتها العامة في الميادين، وهذا أيضًا من الإنجازات المُبهرة، ولكنها تظل سيطرة ديمقراطية على الميادين فقط وليس على المجتمع الأوسع. كما أنها لن تحقق أي سلطان على الاقتصاد والشرطة والجيش أو أي من مقاليد السلطة الرئيسية في المجتمع الأسباني ولا تقدم إستراتيجية مفيدة أو سبيلا لتحقيق ذلك.
واقع الأمر أن تأسيس ديمقراطية حقيقية في المجتمع، وليس مجرد بشكل مؤقت في الميادين، سيتطلب على الأقل: (أ) إزاحة أو تفكيك نظام الدولة القائم واستبداله بنظام قائم على الديمقراطية المباشرة و(ب) جمع وحشد قوة جماهيرية قادرة على إحداث هذا التغيير أي ثورة سيكون مفروض عليها كسر المقاومة الحتمية من قبل الأثرياء والسلطات القائمة.
وهذا بدوره سيتطلب تطوير إستراتيجية سياسية للوصول لأغلبية من العمال العاديين، وإدخالهم في نضال لا يقتصر على الشارع فحسب بل وأيضا في أماكن عملهم حيث تكمُن السلطة الاقتصادية. بعبارة أخرى، سيتطلب تأسيس ديمقراطية حقيقية في المجتمع تجاوز مجرد الرفض للدولة والقيادة والتنظيم السياسي وهي السمات النمطية للأناركية.
ثانيًا: الثورة في مصر
تبدو هذه الثورة للوهلة الأولى كالبرهان على أحلى أحلام الأناركية: طاغية مكروه أُسُقط بفعل تمرد جماهيري تلقائي قام به الناس، بمعارك ضارية في الشارع، غالبيتهم شباب تم حشدهم عن طريق الفيسبوك والتويتر.
وهي صورة صحيحة بدرجة ما. فمعظم الثورات العظيمة (بما فيها الثورة الفرنسية وكومونة باريس والثورة الروسية) بدأت بتلقائية؛ وحتى الآن لم توجه الثورة المصرية أو يتزعمها أي حزب أو فصيل سياسي واحد.
إلا أنه صحيح أيضًا أن مزيد من الفحص يظهر وجود كثير من العمل السياسي الشاق من وراء وداخل التلقائية الظاهرة. فالعصيان الذي بدأ في الخامس والعشرين من يناير 2011 لم يأت من فراغ. فقد أشعله نجاح الثورة التونسية في الرابع عشر من يناير؛ كما أن سلسلة من النضالات من أجل الديمقراطية والعمالية والمناهضة للإمبريالية مهدت له على مدار عدة سنين.
لم يكن للأفكار الأناركية تأثير يذكر على هذه النضالات ولكن الأحزاب السياسية، ومن بينها الإخوان المسلمين وحزب الكرامة الناصري وحركة كفاية والاشتراكيين الثوريين، لعبت دورًا هامًا. بالإضافة إلى ذلك أفرزت موجة إضرابات عام 2008 نقابات عمال مستقلة (إذ أن الاتحادات السابقة كانت واقعة تحت سيطرة نظام مبارك) تطورت أكثر في مسار الثورة. أما أثناء الثورة نفسها فقد استمرت هذه الأحزاب في العمل بنشاط كما تم إنشاء أحزاب أخرى.
أما اللافت للنظر على نحو خاص فكان الدور الذي قام به الإخوان المسلمون، الحزب المعارض الأكبر على الإطلاق في مصر. كان الإخوان المسلمون في ظل الحكم الدكتاتوري حزب إصلاحي معتدل محافظ، ذا طابع إسلامي ولكن ليس أصولي متطرف أو إرهابي. وبشكل ما كان الإخوان المسلمون أشبه لحزب العمال البريطاني الإصلاحي منه لتنظيم القاعدة، إلا أنه كان محظورًا ويتعرض باستمرار للملاحقة.
عارض الإخوان المظاهرة الأولى في يوم 25 يناير لكن مع تزايد دعم الجماهير لها رضخ التنظيم للضغوط وسمح لأعضائه من الشباب أن يشارك. وكل الشهادات تشير إلى أن شباب الإخوان حينذاك قاموا بدور بطولي في التصدي للشرطة والدفاع عن ميدان التحرير ضد البلطجية المؤيدين لمبارك في معركة حياة أو موت سُميت بمعركة الجمل في 2 فبراير. وعندما سقط مبارك بانقلاب المجلس العسكري عليه عاد الإخوان لمساندة الحكومة ومعارضة مزيد من الاحتجاجات إلا أن هذا أدى إلى انشقاق العديد من الشباب عنهم.
كل من يريد للثورة المصرية أن تستمر ويريدها أن تتجه نحو”الديمقراطية الحقيقية” بل وإطاحة الرأسمالية، عليه أن يتعامل مع هذه التناقضات من الناحية الإستراتيجية والتكتيكية بقدر ما عليه أن يعرف كيف يعمل مع النقابات العمالية المستقلة في طور الإنشاء، وكيف يجمع بين المطالب الديمقراطية والمطالب الاجتماعية والاقتصادية حتى يتم تركيز وتوحيد الطاقة الثورية الهائلة للجماهير المصرية التي استيقظت حديثًا.
للأسف إن التعامل مع التناقضات والعمل الإستراتيجي والتكتيكي ليست من مواطن قوة الأناركية، والرفض القاطع لكل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والرايات على طريقة لوس إنديجنادوس الأسبانية لن تنجح إلا في العزل التام لأصحاب هذه الرؤية عن الجماهير. كما أن خيار الجلوس مكتوفي الأيدي غير مطروح في مصر اليوم، وقول البعض أن علينا الانتظار حتى تحرر جماهير العمال المصرية نفسها من أوهامها العديدة في التيارات الدينية والجيش والديمقراطية البرجوازية وأن يصبحوا أناركيين بحق هو وصفة للانتحار السياسي. فقبل أن يحدث هذا بكثير ستكون اللحظة الثورية قد تبددت وسيكون من المحتمل أن يجد الاشتراكيون والثوريون – سواء كانوا من الأناركيين أو التروتسكيين أو اللينينيين أو أياُ كان – أنفسهم في السجون المصرية.
بعبارة أخرى فالأحداث الجارية تؤكد الحجة الأساسية لهذا الكتيب وهي أن خبرة الـ150 عام الماضية تبين بما لا يدع مجالا للشك أن الأفكار الأناركية بشتى أشكالها، رغم فضائلها، لا تمثل الطريق الصحيح لتغيير العالم.
جون مولينيو، صيف 2011
3. جاذبية الأناركية
لطالما كان للأناركية جاذبية شديدة على المتمردين على هذا المجتمع الفاسد وبالأخص على الشباب منهم وهي نقطة تُحسب لها تمامًا. ففي كل حركة راديكالية وثورية لعب الشباب فيها الدور الأكبر، فالشباب غير المنكسر والمنحني يتمتع بأعلى درجات النشاط والحماس والمثالية.
تصرخ الأناركية صرخة تحدى واستنكار في وجه الاستغلال والظلم المتفشي والهيمنة الساحقة للدولة الرأسمالية والقبضة المُحكمة لأيديولوجيتها، وتنفي أننا مُجبرين على أن نحيا بهذه الطريقة، وأن نقبل أن سُنة الحياة هي أن يكون هناك الغني والفقير والمُستَغِل والمُستَغَل والحاكم والمحكوم، وأنه غير صحيح أن الحرب والعنصرية والقمع كُتب علينا وأن أقلية لا بد أن تسيطر على أغلبية أو حتى أغلبية على أقلية.
على عكس عملية التلقين غير المنقطعة التي تعتبر أن جموع البشر بطبيعتهم إما أغبياء أو أنانيين وأنه من ثَم يلزم إخضاعهم للأوامر والسيطرة على أعمالهم من قبل سلطة أعلى منهم، تؤكد الأناركية أن في مقدورنا العيش في تعاون وألفة.
وترفض الأناركية بازدراء نفاق ممارسات (المؤسسات) البرجوازية وانتهازيتها التهكمية التي يقوم الساسة فيها بتغليف أنفسهم وطرح أشخاصهم للبيع كما لو كانوا منتجات تجميل ومساحيق بدرة. وتمثل الأناركية خاصةً رد فعل ضد الاندماج المتزايد لتيار اليسار الإصلاحي الرئيسي وأحزاب المعارضة في عالم السياسة الرسمية الفاسدة، وتعبر براديكالية عن الرؤية المنتشرة بين عامة الناس أن كل الساسة من نفس الفصيل، لا يريدون سوى السلطة لأنفسهم وتعمير جيوبهم بأموال الغير.
فمن ثم من غير المستغرب في الظرف الحالي أن تشهد الأناركية نوع من الانتعاشة في أنحاء أوروبا. نادرًا ما حدث، إن كان حدث في التاريخ الحديث للرأسمالية، أن تخلت الأحزاب الاشتراكية الإصلاحية بهذا السُفور الذي نشهده الآن عن أدنى نية لتحد النظام، أو باتت مفضوحة بهذا الجلاء وهى تلعب دور مجرد أحزاب متواطئة مع الدولة.
وكان الأهم من ذلك هو تفسخ ما سمي بالنظم الشيوعية في شرق أوروبا وروسيا في بداية التسعينات التي اعتبرتها ملايين الناس في العالم لعقود طويلة بدائل “تقدمية” للرأسمالية الغربية. إلا أن أحداث الأعوام 92-1989 كشفت هذا الوهم بلا رحمة، مُبينة الفشل الذريع للاقتصاديات الشمولية البيروقراطية بل وكذلك كراهية الشعوب الرهيبة لهذه الأنظمة. انهارت بشكل أو آخر الستالينية، التراث الذي هيمن لمدة ستين عامًا على جزء كبير من اليسار العالمي؛ وأنتشر مع هذا الانهيار الإحباط بين الكثيرين متجاوزا بكثير صفوف الأحزاب الشيوعية نفسها ممتداً إلى كل من كان يعتبر الشرق “الاشتراكي” مُتفوقًا نوعًا ما على الرأسمالية الغربية.
أما والوضع أصبح هكذا، فكان من المتوقع أن ينظر البعض الباحث عن بديل راديكالي للرأسمالية إلى الأناركية على أنها الأيديولوجية الوحيدة التي مازالت يداها نظيفة حتى الآن.
كما أن للأناركية جاذبية شديدة كمنطق أيديولوجي لفئات ذات أسلوب حياة معين. فبالنسبة لفئة من الشباب، يعيش أغلبه في فقر ولا يجد معظم الوقت عملاً ولا سكنًا ويقطن في عشوائيات، يتواجدون على هامش المجتمع تقريبًا في المناطق المهمشة، فالأناركية ترمز إلى رفضهم للنظام الظالم.
إلا أن الغايات النبيلة والجاذبية الشديدة لأيديولوجية ما لا تقدم على أية حال أي ضمانة بأن هذه الأيديولوجية بإمكانها فعلا تحقيق الغايات التي تعلن عنها. فالستالينية، على سبيل المثال، كان لها جاذبية هائلة لفترة طويلة عند مناهضي الرأسمالية والإمبريالية إلا أنها أثبتت أنها طريق مسدود تمامًا. فهل الأناركية إذن أيديولوجية قادرة على إرشاد نضال التحرر الإنساني إلى النصر في النهاية؟
هذا ما تنفيه حُجة هذا الكتيب حيث نرى أن الأفكار الأناركية بها علة خطيرة ستؤدي إلى ممارسات معيقة للنضال من أجل التحرر. سيقدم الكتيب نقدًا للنظرية والممارسات الأناركية من المنظور الماركسي، أي من منظور الماركسية الكلاسيكية لماركس ولينين وتروتسكي وليس الستالينية؛ وسنجادل بأن الماركسية وحدها هي التي تشير إلى الطريق الذي يؤدي إلى مجتمع المستقبل الحر والخالي من الطبقية، والذي يتشارك في استهدافه الماركسيين والأناركيين معًا كغاية نهائية.
4. الأفكار الأناركية
للأناركية أشكال متعددة، فهناك الأناركية الفردية الخالصة الرافضة لكل أنواع التنظيم؛ وهناك العديد من المنظمات الأناركية الصغيرة: هناك أناركيون يعلنون عن ثقتهم في الناس بغض النظر عن الطبقة التي ينتمون إليها؛ هناك أناركيون شيوعيون يضعون آمالهم في الطبقة العاملة؛ هناك أناركيو العصبة الفلاحية على طريقة ماخنو (زعيم الفلاحين في روسيا خلال الحرب الأهلية التي تلت الثورة)؛ هناك أناركية رافضة للنقابات العمالية وأناركية نقابوية مستندة على النقابات العمالية؛ وهناك أناركيون ثوريون، وإرهابيون، سلميين Pacifists، وخضر؛ وهناك أناركيون لا ينطبق عليهم أي من هذه التصنيفات أو لديهم ترتيب تصنيفي خاصة بهم.
وهناك أناركيون متأثرون بالرموز التاريخية للحركة الأناركية مثل برودون وباكونين وكروبوتكين، إلا أنه لا يوجد برودونيون أو باكونينيون أو كروبوتكينيون يتبعون مذهبًا أو خطًا بعينه. ولذا تشكل الأناركية هدفًا مراوغا أمام الناقد؛ إذا ما هاجم نظرية أو توجهات سياسية لتيار أناركى محدد يجد أن أغلب الأناركيون لا يؤيدونها، وإذا ما حلل أفكار مفكر أناركى تقليدي يتبرأ منه أناركيون آخرون.
ومع ذلك هناك أفكار ومواقف عامة تعتبر مشتركة بين جميع أو أغلب الاتجاهات الأناركية يمكن أن تستخدم كنقطة انطلاق للنقد، أهمها: (أ) العداء للدولة بكافة أشكالها بما فيها فكرة الدولة الثورية، (ب) العداء للقيادات بكافة أشكالها بما فيها القيادات الثورية، (ج) العداء لكافة الأحزاب السياسية بما فيها فكرة الحزب الثوري، (د) الميل للفردية Individualism. وسأتطرق لكل نقطة من هذه النقاط على حدة.
الدولة
المعنى الحرفي للأناركية هي “اللاسلطوية”، ومعارضة الدولة والحكومة – لا دولة بعينها ولا حكومة بعينها ولكن كل الدول والحكومات وفى كل زمان ومن حيث المبدأ – وهذه هي السمة المحددة للأناركية كعقيدة.
تصر الأناركية أن ذات وجود الدولة، في شكل هيئات خاصة مكونة من رجال (ونساء) تمارس سلطة قانونية ومادية على المجتمع ككل، هو أمر جائر ولا يتماشى مع الحرية الإنسانية الحقيقية. ولوضع حد للقمع وتوطيد الحرية تري الأناركية أنه لا بد من استبدال حكم الدولة بجماعة ذاتية الحكم، أي جماعة ليس لها سلطة مركزية عليا.
وبحسب الحكمة السائدة في المجتمع، يعتبر تحقيق منظور كهذا أمر مستحيل أو أمر إذا تحقق فسيؤدي إلى وضع كارثي. مستحيل لأن “طبيعة الإنسان” تحتم صعود أفراد أو مجموعة أفراد إلى القمة ليبسطوا حكمهم. وكارثي لأن المجتمع بدون دولة سينزلق إلى حرب فوضوية “يتحارب فيها الكل مع بعضه البعض” ويسود فيها ما يسمى بـ”قانون الغابة” وتصبح حياة الإنسان “كريهة ووحشية وقصيرة” (كما وصفها ذات مرة فيلسوف القرن السابع عشر السياسي توماس هوبز Thomas Hobbes. ولذا فأفضل ما يمكن أن نتعشم فيه، بحسب الحكمة السائدة في المجتمع، هو أن تكون الدولة ديمقراطية، تُنتخب حكومتها وتراعي حقوق ديمقراطية محددة كحرية التعبير وغيرها.
إلا أنه في هذا تخطئ الحكمة السائدة وتصيب الأناركية. فعلم الأنثروبولوجيا يقدم الدليل القاطع بأن البشر يستطيعون العيش في مجتمعات بدون دولة أو حكومة وأن هذه المجتمعات بعيدة كل البعد عن الفوضوية، وعلى ذات درجة تنظيم مجتمعاتنا بل وأكثر منها. فلقد شاهد ودرس علماء الأنثروبولوجيا العديد من هذه المجتمعات غير المرؤوسة، وتعد الكونج سان وقاطني أدغال كالاهاري في أفريقيا الجنوبية أمثلة بارزة على تلك المجتمعات. وهناك أسباب تدعوا للاعتقاد بأن حالة اللادولة في المجتمع كانت النموذج السائد لمئات الآلاف من السنين منذ بداية المجتمع الإنساني حتى تقسيمه إلى طبقات مع ظهور الزراعة والرعي والملكية الخاصة منذ ما يتراوح من عشرة آلاف وخمسة آلاف سنة.
كما أن الأناركية مُحقة في رؤيتها بأن الدولة، بكل أشكالها، تحتوي على قمع مجموعة من المجتمع لمجموعة أخرى. ولم يغير ظهور الديمقراطية البرلمانية من هذا شيئاَ؛ فالبرلمانات، أيًا كانت الطريقة التي انتخبت بها، لا تملك السلطة الحقيقية في المجتمع وإنما تظل السلطة الفعلية مُركزة في أيدي البيروقراطية الدائمة للدولة (كالجنرالات ولواءات الشرطة والقضاة وكبار الموظفين العموميين وغيرهم)، والمصرفيين وكبار رجال الأعمال الذين يستخدمون سلطتهم الاقتصادية في التحكم بالدولة وذلك لرعاية مصالحهم الخاصة وليس مصالح عامة الناس.
ولكن إذا كان وجود مجتمع بدون رأس، أي بدون رؤساء ومرؤوسين، شيئا ممكنا ومرغوبا فيه، فكيف إذن نتخلص من الدولة الموجودة؟ وبالتحديد عند التعامل مع هذا السؤال المهم يبدأ مأزق الأناركية.
لا بد من القول أن بعض الأناركيين لا يحاولون حتى الإجابة على هذا السؤال، فهم مكتفين بمجرد رفض سلطة الدولة كموقف شخصي خالص، ولا يشعرون بحاجة لصياغة إستراتيجية متسقة لإسقاط هذه السلطة. إلا أن هذا الموقف هو موقف متنصل إذ أنه يترك المجال للدولة أن تمارس قمعها ضد الجماهير إلى أبد الآبدين، كما أنه انهزامي لأن مقاومة سلطة الدولة في النهاية عمل لا يمكن أن يقوم به شخص واحد أو حتى مجموعة صغيرة.
وبعض الأناركيين يحاولون الهروب من سلطة الدولة بإقامة مجتمعات صغيرة ذاتية الحكم في الريف أو داخل قمقم في المدن. وللأسف تعاني هذه المجتمعات الأناركية من المشاكل ذاتها التي عانت منها التعاونيات الاشتراكية التي دعا إلي إقامتها داخل المجتمع الرأسمالي روبرت أو ين Robert Owen وأمثاله من الاشتراكيين الطوباويين من أكثر من 150 عامًا: فهي (أ) حل لا يصلح من الناحية العملية إلا لأقلية صغيرة، كما أنه (ب) تظل هذه الأقلية معرضة لكل ضغوط المجتمع الأكبر وعاجلا أو آجلا (وعادة عاجلا بدلا من آجلا) تستسلم لها.
إنما الإجابة الأكثر راديكالية والأكثر جدية على هذا السؤال هي أن الدولة ستهدم بفعل ثورة، أي في انتفاضة شعبية جماهيرية ستقوم فيها الطبقة العاملة عن طريق الفعل الذاتي المباشر بالتغيير الجذري للمؤسسات المركزية للدولة القائمة وهي: القوات المسلحة والشرطة والمحاكم والسجون، إلخ.
ومن المنظور الماركسي يعتبر هذا التغيير الجذري صحيح تمامًا – فقد كرس لينين أهم أعماله النظرية “الدولة والثورة” الذي ألفه في 1917 تحديدًا للتدليل على أن جوهر الثورة هو خلق آلة دولة جديدة (بالمعارضة للفكر الاشتراكي الديمقراطي والإصلاحي والذي يهدف إلى مجرد تولي زمام الدولة القائمة). وتمتلك عملية بناء دولة جديدة ميزة أن لها سابقة في التاريخ، فقد طُبقت للمرة الأولى كومونة باريس في عام 1871 ثم مرة ثانية في الثورة الروسية في عام 1917؛ كما أن كل ثورة شعبية كبيرة، سواء الثورة الألمانية في 23-1918 أو الثورة الأسبانية في 1936 أو الثورة الإيرانية في 1979، عادةً ما يظهر فيها ميولًا في اتجاه بناء شكل جديد للحكم.
إلا أن التخلص من آلة الدولة القديمة يطرح على الفور السؤال التالي: ما الذي سيحل محلها؟
وتميل الأناركية إلى الغموض الشديد في التعامل مع هذه النقطة. إلا أن الإجابة الوحيدة علي هذا السؤال والمتسقة مع مبادئ الأناركية هي أن الدولة القديمة لا بد أن تُستبدل في الحال بمجتمع يُحكم ذاتيًا بدون دولة، وليس به حكومة أو سلطة مركزية.
وهنا يفقد الموقف الأناركي كل النفعية والواقعية.
فمن وجهة النظر الماركسية، يمكن أن نقول أنه في المدى الطويل ستفقد الدولة وظائفها فتذوي وتختفي ككيان كما نعرفها الآن بعد انتصار الاشتراكية بشكل نهائي على المستوى الدولي واختفاء الطبقات والصراع ما بينها ووصول مستويات الإنتاج إلى درجة تغطي ضروريات الحياة، فيصبح مسلك العمل من أجل الصالح العام طبيعة بشرية ثانية.
أما أن تقترح الأناركية، والثورة جارية، في لحظة يكون نجاحها معلق من شعرة، أن تتوقف الطبقة الثورية في الحال واللحظة عن اللجوء لاستخدام القوة المنظمة بواسطة جهاز دولة يعبر عن المصالح الثورية فهذا أمر مختلف.
هذا سيؤدي إلى كارثة لسببين أساسيين؛ السبب الأول أنه لا يضع في الحسبان المقاومة التي لا محال وأن تبديها الطبقة الحاكمة القديمة. إن الصراع الطبقي لا ينتهي بنجاح الانتفاضة لأنه يتضح من تاريخ كل الثورات أن الطبقة الحاكمة لن تتوارى عن فعل أي شيء من أجل الاحتفاظ بالسلطة التي مازلت في أيديها بل أو كذلك لتستعيد السلطة المفقودة. ونظرًا لعدم احتمال حدوث ثورة عالمية متزامنة، لا بد أن يوضع في الاعتبار أن البرجوازية التي أخرجت من الحكم ستلقى الدعم من حكومات وقوى رجعية في الخارج.
على الثورة الناجحة أن تتوقع كل شيء من الطبقة الحاكمة، من عرقلة بيروقراطية إلى تخريب للاقتصاد حتى المقاومة المسلحة والإرهاب والحرب الأهلية إلى التدخل العسكري الأجنبي. وهل يستطيع شعب ثائر أن يدافع عن الثورة ضد أعمال للثورة المضادة كهذه بدون مساعدة مليشيات أو جيش من العمال وبدون أي نوع من النظام القانوني لضمان احترام إرادة الشعب وبدون نظام مركزي لاتخاذ القرار وللسلطة أي بدون إقامة شكل ثوري لسلطة الدولة؟ لا، لن يستطيع.
وأحداث سابقة كثيرة في التاريخ تثبت ضرورة وجود دولة ثورية لإفشال الثورة المضادة. لكن دعونا نأخذ مثالا افتراضيًا؛ دعونا نفترض أن ثورة في فرنسا تصدى لها تمرد من الجناح اليميني مركزه مدينة مرسيليا، علي سبيل المثال، مع حدوث هجمات علي يد عصابات يمينية من الشمال الشرقي الفرنسي مدعومة من الحكومتين الألمانية والأمريكية. في حالة مثل هذه، ومن أجل أن تدافع الثورة عن نفسها، عليها أن تتخذ قرارات بشأن القوات التي ستركزها في الشمال الشرقي والتي سترسلها إلى مرسيليا، وكيفية توصيل الإمدادات والسلاح لها. سيكون هذا القرار لزاما قرارًا مركزيا لا بد أن تتخذه حكومة مركزية، والإخفاق في التنسيق بين قرارات كهذه هي ببساطة وصفة للهزيمة.
أما السبب الثاني لأهمية وجود دولة ثورية هو لإقامة نظام اقتصادي جديد. ستأتي نضالات الجماهير بمبادرات هائلة من أسفل في شكل احتلال المصانع وسيطرة العمال على الصناعة وإقامة تعاونيات للتوزيع، إلخ، ولكن تظل الدولة لا غنى عنها في هذه المرحلة المبكرة.
أنظروا مثلا إلى مشكلة ملكية القطاعات والمصانع المُنتزعة من الرأسماليين؛ إن لم تتملكها الدولة الجديدة ولكن تَملكها عمال كل شركة على حدة فلن يؤدي ذلك إلى إعاقة التعاون والتخطيط فحسب بل وإلى تنافس مواقع العمل المختلفة مع بعضها البعض، مما سيقسم الطبقة العاملة وذلك في ذات اللحظة التي تكون هذه الطبقة في أمَسْ الحاجة للوحدة.
أو لنأخذ مثال عملية تسيير سكك الحديد والذي استشهد به فريدريك إنجلز وهو يجادل الأناركية من أكثر من 138 سنة فكتب:
هنا أيضًا يكون التعاون بين عدد مطلق من الأفراد ضروري ويجب أن يتم في ساعات محددة بدقة حتى لا تقع حوادث. وهنا أيضًا يكون شرط العمل هو إرادة مهيمنة تسوي كل الأسئلة الثانوية سواء تمثلت هذه الإرادة في مندوب واحد أو لجنة واحدة مكلفة بتنفيذ قرارات أغلبية من الشخصيات المعنية.
واضح أن هذه الحُجج لا تزال صالحة اليوم. فقد يكون عدد العمال هائلا في كل مكان، في لندن ومانشستر في بريطانيا أو هامبرج وبرلين في ألمانيا أو القاهرة والإسكندرية في مصر، لكن وضع جداول مواعيد للقطارات أو بناء خطوط سكك حديد جديدة أمر يتطلب تفعيل عملية تنسيق عام أو ممارسة سلطة عامة من نوع ما. وإذا فكر العمال في تحديد مسائل مثل الدرجات الوظيفية والأقدمية تصبح الحاجة لوجود سلطة ما أكثر وضوحًا وإلحاحًا.
ولا يكفي أن نُعلن أن المصانع ببساطة ستكون ملك كل المجتمع، وهذا قد يكون ملائمًا في مرحلة لاحقة عندما يكون هناك مجتمع موحد بحق، ولكن أثناء مجريات الثورة يظل “المجتمع” منقسم بين طبقات وفئات مُتعارضة ومُتحاربة – ولذلك تظل من الضرورة بمكان أن يستخدم المجتمع الثوري والطبقة العاملة مؤسسات مركزية تُمثل وتدافع عن مصالحها بشكل حاسم.
أو لنأخذ كمثال أخر مسألة العاطلين والمرضى وغيرهم ممن يعيشون حاليًا على الإعانات الحكومية. في مجتمع اشتراكي (أو أناركي) كامل التطور ستختفي ظاهرة البطالة وستوزع البضائع والخدمات حسب الاحتياج. ولكن في أعقاب الثورة مباشرة سيظل الملايين من المعتمدين على إعانات الدولة موجودين وسيموتون جوعًا إن لم يُصرف لهم، وبشكل منظم ومركزي، الطعام والخدمات. وتلك الإعانات تقتطع من الضرائب المفروضة على أصحاب الرواتب من الشعب، ولذا يجب أن تكون هناك هيئة مركزية ما تمارس سلطة تحصيل الضرائب في أسابيع وأشهر ما بعد الثورة . ولذا لا بد من وجود دولة في الفترة التي تعقب الثورة.
يكمن ضعف الأناركية في هذه النقطة الخطيرة لأنه كثيرًا ما يتطبع تصورها للثورة بالرومانسية ويكون مُعتمدًا علي أن كل المشاكل تحل فورًا بالنوايا الحسنة بعد “اليوم العظيم” أي بعد انتصار الثورة. ويفشل الاعتماد على قوة دفع النوايا الحسنة في تفهُم مُعضلة أساسية في عملية التغيير الثوري وهى أنه على الرغم من أن الملايين من العمال الذين يشاركون في الثورة لتغيير المجتمع يتغيرون أنفسهم، حيث ينضج وعيهم السياسي والاجتماعي ويتطور شعورهم بذاتهم كجزء من جماعة بشكل كبير (وهي التحولات الفكرية التي لا يمكن بدونها أن يتم بناء مجتمع جديد) إلا أنه يستحيل أن تحدث عملية التحول بشكل شامل ومتساوي علي الفور.
لا يمكن أن يحدث التحول الفكري عند كل المضطهدين بشكل كامل وآلي في عملية الثورة لسبب بسيط ألا وهو أن القطاعات المختلفة من الطبقات العاملة لا يمكن أن تكون كلها منخرطة في الصراع من أجل التغيير بالدرجة نفسها، وبعضها قد لا يتأثر بالصراع أصلا، وينطبق هذا أيضا بل وبدرجة أكبر على الملايين من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى. فلمدة زمنية بعد نجاح الثورة ستتواجد شرائح من الشعب تظل تحمل نظرة عامة للأشياء أو لقضايا معينة متأثرة بالأفكار القديمة أو تابعة للطبقة الحاكمة القديمة. وسيجب إخضاع تلك الشرائح أحيانًا ، قانونًا إذا لزم الأمر، على قبول قرارات الأغلبية وسيستلزم هذا وجود دولة عمال.
وتشبه ضرورة فرض الطبقة العاملة لسلطتها الجديدة في هذه الحالة المركبة في بدايات الثورة من خلال دولتهم ، من حيث المبدأ، ضرورة أن تمنع أي مجموعة من العمال المضربين في ظل النظام الرأسمالي أي أقلية من بين صفوفهم تريد كسر الإضراب. ففي التحليل الأخير، تعتبر دولة العمال بعد نجاح الثورة بمثابة الحائط الرئيسي لحماية هذه الثورة.
إلا أن بعض الأناركيون سيقولون أن استمرار وجود كيان دولة بعد الثورة سيعني أن نخبة متمتعة بامتيازات ستفسدها السلطة وسرعان ما ستتحول إلى طاغية جديد. إلا أن في هذا تجاهل لحقيقة أن الطبقة العاملة أظهرت مرارًا وتكرارًا قدرة على خلق هياكل سلطة ثورية تختلف كلية، في الشكل والمضمون، عن الدولة الرأسمالية القديمة، وتتسم بالديمقراطية والمساواة.
علي سبيل المثال، فقد أقرت دولة العمال المصغرة في تجربة كومونة باريس عام 1871 مبدأ أن تكون كل المناصب العامة في المجتمع بالانتخاب، وأن لا يُتقاضى أي فرد مسئول أكثر من أجر العامل، وأن يكون المنتخبون عرضة لسحب الثقة والتغيير الفوري من القاعدة. وهذا من شأنه تحجيم محاولة المتسلقين في القفز على المناصب إلى حد كبير، ويساعد على منع الممثلين المنتخبين من البحث عن مصالح فردية بعيدًا عن تلك التي انتخبوا لتمثيلها.
أما السوفييت أو مجلس العمال، والذي طوره العمال الروس لأول مرة في سان بطرسبورج في ثورة عام 1905 ثم انتشر في كل روسيا في ثورة 1917، فكان يتم فيه انتخاب المندوبين في كل مجلس من مواقع العمل المختلفة، وعزز السوفييت تمركز السلطة في يد القواعد حيث كان المندوبين مسئولين أمام جمعية عامة للعمال في أماكن عملهم تجرى فيها المناقشات والمداولات الديمقراطية وعملية اتخاذ القرارات.
وتتفوق الديمقراطية العمالية نوعيا على الديمقراطية البرلمانية. فمن الصعب على المنتجين والعمال كناخبين في الدائرة البرلمانية، وهي منطقة ليست بصغيرة جغرافيًا، السيطرة على تصرفات نائب البرلمان، ولا يستطيعون إقالته حتى إذا خرق هذا السياسي كل وعود الانتخابات أو إذا غير ولاءه السياسي، لأن الناخبين في الديمقراطية البرلمانية مجموعة من الأفراد المنعزلين عن بعضهم البعض ولذا فهم لا يشكلون إرادة مجتمعة ولا يتخذون قرارًا موحدًا أو جماعيا.
ومثال ممتاز على ذلك الانتخابات العامة في بريطانيا سنة 2010، حيث صوت فيها ملايين الناخبون لحزب الديمقراطيين الليبراليون الليبرالي علي أمل إبعاد حزب المحافظين اليميني الذي يتزعمه دافيد كاميرون عن الحكم، فإذ بالديمقراطيين الليبراليين يشكلون ائتلافا مع حزب المحافظين اليميني أمام أعين الناخبين، ليطلق الحزبان معا هجمة قوية على المكتسبات الاجتماعية للعمال والفقراء. ولم يسع الناخبون فعل شيء لمدة أربعة سنوات، لعدم إمكانية العمل علي تغيير البرلمان في تلك الفترة، بعدما يكون قد وقع الضرر.
أما مع وجود مجالس عمالية مُنتخبة في أماكن العمل فلن يتطلب الأمر سوى عقد اجتماع في مكان العمل وسحب أي ممثل أو مندوب للعمال يخرق القرار الجماعي للقاعدة.
أحيانًا يُعترض على هذا نظام بأنه غير ديمقراطي لاستبعاده من لا مكان عمل لهم – كالعاطلين والسجناء والعاملون من منازلهم وغيرهم. ولكن الأمر غير ذلك. بافتراض أن مجالس العمال ستكون مقراتها في مواقع العمل، حيث تتركز القوة الجماعية للمُنتجين، فما مانع أن يحضر ممثلين من، لِنقُل، اتحادات العاطلين عن العمل والمتقاعدين ومجموعات المستأجرين والسكان وغيرها، بل يمكن ويجب تمثيل كل فئات الشعب عدا الاستغلاليين والفاشيين في هذه المجالس. بالإضافة إلى أن أغلب الظن أن هذه المجالس ستشمل عددًا من مختلف الأحزاب والتشكيلات التي تمثل اتجاهات أو أطياف مختلفة لآراء سائدة بين العاملين. وهذا المشروع ليس على الإطلاق مشروع دولة أحادية الحزب أو دكتاتورية، بل على العكس ستكون هذه الدولة أكثر ديمقراطية وتسييرًا لمشاركة الجماهير من الطبقة العاملة العادية بمراحل من النظام البرلماني.
ومنذ الثورة الروسية ظهرت مجالس عمال أخرى في الثورة الألمانية في 19-1918 وإيطاليا في 1920 والمجر في 1956، وبشكل جنيني في تشيلي في 1972 وإيران في 1979 وبولندا في 1980. وكان من الممكن أن تتطور اللجان الشعبية لحماية الثورة التي برزت وقتيا خلال الثورة المصرية في 2011 أيضًا في هذا الاتجاه.
وتأسيس مجالس العمال لا يتم وفقًا لخطة مسبقة إنما تنشأ تلك الأشكال تلقائيًا من رحم الصراع، وهي الشكل المنطقي للتنظيم التي تعتمد عليه الطبقة العاملة عندما يدخل صراعها في طور تحدى النظام ككل، وتمثل هذه المجالس مركز دولة العمال الجديدة التي ستحل محل الدولة الرأسمالية القديمة، وتمثل نقطة بداية مرحلة انتقالية إلى مجتمع بلا طبقات تتلاشى فيها الدولة كما نعرفها.
تتمحور النقطة الفيصلية في كل ما سبق أعلاه أنه لا يوجد أدنى ريب أن الدولة ليست بمؤسسة أبدية، كما أنها ليست مجرد “هفوة” أو “فكرة سيئة” استقرت بطريقة ما في أذهان الإنسانية لتسيطر علينا على مدار التاريخ حتى وصلت الأناركية إلى المشهد لتفصح للبشرية عن عدم الحاجة لها. فالدولة كيان تقتضيه ظروف اقتصادية واجتماعية معينة – أو لها وأهمها تقسيم المجتمع إلى طبقات معادية لبعضها البعض حيث تكمن ضرورة وجود الدولة في تدني مرتبة القوى المنتجة التي تسمح بتحقيق الكفاية المستدامة للجميع – ولا يمكن إلغاء الدولة قبل أن تتغير هذه الظروف القائمة، كما أن تغيير هذه الظروف يلزم وجود شكل ثوري جديد للدولة لفترة من الزمن.
القيادة
دائمًا ما يعلن الأناركيون عن رفضهم لفكرة القيادة في المطلق وهذا أمر مفهوم. فطالما ظنت الطبقة الحاكمة في المجتمع الرأسمالي أنها ولدت لتقود الجميع، وصفة “القيادة” هي من أولى السمات التي تحاول أن تغرسها هذه الطبقة في نشئها في المؤسسات التعليمية النخبوية المختلفة، وفي هذا السياق ارتبط مفهوم القيادة في أذهان الكثيرين بالعجرفة والسطوة والامتيازات، وللأناركيين الحق في استنكار هذا المفهوم المتعالي.
كما لا تقدم قيادات اليسار في حركة العمال والنقابات المهنية صورة أكثر زهوا في ممارساتها “القيادية”. فعلى مدار القرن العشرين ووصولا إلى هذا القرن، بات كون الفرد “زعيمًا اشتراكيا” أو “زعيما ديمقراطيًا اشتراكيا” مرادفاً للوسطية والتسلق الاجتماعي. والمسار المعتاد لبعض النشطاء أن يبدأ في كسب دعم القواعد الشعبية بخطاب وسياسات تبدو راديكالية حتى يسطع نجمه شيئا فشيئًا ويتجرد من المبادئ في الطريق حتى يبرز هو(أو تبرز هي) كعضو أصيل في النخبة السياسية بما يصاحب ذلك من مظاهر الملابس الأنيقة والسيارة بسائق والراتب المجزي والعلاقات في أو ساط الأعمال وغيرها من المكتسبات التي لا تحصى، ليصبح هذا الراديكالي السابق أسيرًا للنظام الذي أراد أن يغيره في البداية.
والأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة لقيادي النقابات العمالية. فمنذ لحظة تقلده منصبًا نقابيا يترك هذا الشخص ظروف العمل في المصنع القاسية وراء ظهره وينتقل إلى مكتب مريح. ولا يعود أجره وساعات عمله مرتبطة بأجر وساعات عمل من يمثلهم، ويبدأ في مراكمة الامتيازات. وتدفعه طبيعة وظيفته ودوره النقابي في الوساطة بين العمال والإدارة تدريجيًا لقضاء وقت أطول مع أصحاب الشركة من مع العمال. ويصبح شبح الوقوع في ممارسات الفساد السياسي، إن لم يكن كذلك المالي، أمر لا يمكن تفاديه تقريبًا. وقبل أن يمر وقتًا طويلا يبدأ هذا النقابي في النظر إلي المنازعات والإضرابات على أنها “مشاكل” يجب حلها وليست معارك يجب كسبها، ويركن إلي مفهوم أن أفضل طريقة لحلها هي التفاوض للوصول إلى أقل صفقة يمكن أن تقبلها العمالة بالمخادعة والترهيب.
هذا النوع من القيادة النقابية يُعتبر كارثي على المستوى السياسي، ففي أو قات الثورات الكبيرة وعندما تبدأ الجماهير الحاشدة من عمال أن تشترك وأن تأخذ زمام الأمور في أيديها تحاول هذه القيادات بشكل فطري أن تهدئ الأجواء وتعيدها إلى مجراها المعتاد حتى وإذا كان هذا يعني خيانة القضية التي يفترض أن يمثلوها.
وأحداث مايو1968 في فرنسا تصلح مثال كلاسيكي على الدور الذي قد يلعبه هذا النوع من القيادات الكارثية. ففي حين انفجرت حركة عفوية مدهشة للطلاب والعمال ضد نظام تشارلز دي جول وتطورت إلي معارك جماهيرية حاشدة في شوارع باريس وعمليات احتلال قام بها الطلبة، وإضراب عام على مستوى البلد لعشرة ملايين عامل مع وقوع احتلال للمصانع ومواقع العمل في عدة أماكن – أنهمك “القادة”، الذين كانوا آنذاك بشكل أساسي منتمين للحزب الشيوعي الستاليني والنقابة العامة للعمل CGT، في تقليص هذه الحركة، التي كان من المُمكن أن تتحول إلى ثورة، إلى مجرد سلسلة من المطالب المتواضعة خاصة بالأجور وظروف العمل، وسعت هذه القيادة علي إعادة الجميع إلى مواقع عملهم بأسرع ما يمكن.
من السهل أن نستنتج من خبرات كهذه، وهي خبرات تكررت في تاريخ صراع الطبقة العاملة والحركة الثورية مرة بعد الأخرى، أن فكرة القيادة في حد ذاتها خطأ ويجب التخلص منها. ولكن، لسوء الحظ، يقترن بهذا الموقف مشكل لا حل له ألا وهو أن القيادة واقع ضروري في الحياة والنضال: واقع لا ينبثق عن فكرة خاطئة في أذهان الناس، أو من شر فطري في البعض، أو من هياكل تنظيمية معينة، ولكن واقع أن الناس تختلف في خبراتها العملية والفكرية ومن ثم في مستوى وعيهم السياسي ودرجة التزامهم ومعرفتهم وشجاعتهم ونضاليتهم، إلخ.
ففي كل موقع عمل وكل نقابة عمالية وكل حملة في جامعة تجد من هو أقدر وأكثر استعدادًا من غيره لتحمل مسئولية المهام اللازمة، من إلقاء الكلمة الرئيسية للتعبئة أو متابعة قائمة العناوين أو متابعة الأمور المالية، وما هو أهم، تقديم رؤية سياسية ما للآخرين للتقدم إلى الأمام.
وسنجد حتى في أكثر الاضطرابات والمظاهرات والإضرابات والانتفاضات “عفوية”، تلك التي لم يسجل لها التاريخ قيادة أو تنظيم رسمي، هياكل قيادية غير رسمية مثل الشخص هتف “إلى الأمام” في اللحظة الحاسمة والشخص الذي تقدم إلى الصفوف الأمامية وكان أول من ألقي الحجارة، إلخ.
وواقع الوجود الدائم لقيادة ما ينسحب على الأناركية كذلك. فمهما استنكر الأناركيون فكرة أو ضرورة القيادة فالحقيقة أن الحركات الأناركية طالما كان لها قيادات وأن تاريخ الأناركية، كتاريخ الاشتراكية، يمتلئ بالرموز الأناركية القيادية: برودون وباكونين وكروبوتكين في القرن ال19 وماخنو وجولدمان ودوروتي في القرن ال20 وحتى دانيال كون بنديت في العقود الأخيرة.
أن ترفض الحركات الأناركية على المستوى الرسمي مثلا الاعتراف بحقيقة “وجود” قيادات لا يخفف المشكلة بل يُعقدها. هذا يعني أن القيادات الأناركية (غير المنتخبة رسميًا) لا يمكن زحزحتهم من المنصب أو إخضاعهم لرقابة ديمقراطية. ويعني أن الحركات الأناركية تظل تحت رحمة قيادات نصبت نفسها للأبد، أو حتى قيادات اختارها الإعلام (فأكثر الحركات الطلابية التلقائية في ستينيات القرن العشرين عانت بشدة من هؤلاء “النجوم” التي صدرهم الإعلام). وعدد الحركات الأناركية التي لم تُعرف تاريخيًا إلا بأسماء قادتها مدهش فعلا. فمَن، مِن غير الدارسين، يستطيع اليوم أن يُسمي الاسم الرسمي لحركة الأناركي باكونين أو حركة الأناركي ماخنو الروسي أو دوروتي الإيطالي؟ أما الحزب الشيوعي والأممية الأولى أو الحزب البلشفي بالمقارنة فمعروفين نسبيًا بشكل جيد على مستوى اليسار وليس فقط من خلال قياداتهم مثل ماركس ولينين أو تروتسكي.
وإذا كانت الأناركية عاجزة عن حل مشاكل القيادة الخاصة بها فلن تقدر أيضا على حل مشاكل القيادة على مستوى الطبقة العاملة بأكملها والتي ظلت تاريخيًا في يد الديمقراطية الاشتراكية الإصلاحية أو الستالينية – الأمر الذي أدى إلى خيانات وهزائم لا تحصى من انزلاق الأممية الثانية إلى النزعة القومية في دعم الحرب الإمبريالية في 1914 إلى الاستسلام لهتلر في 1933 حتى توني بلير واعتناق أحزاب العمال الإصلاحية في الغرب بشغف لسياسات الخصخصة والليبرالية الجديدة وتأييدها لجورج بوش والحرب على العراق، إلخ.
نعم، يشكل مجرد وجود الأناركية إزعاجا أمام هيمنة هذه القوى. وتحاول الأناركية بأعمال نشر الكتب والكتيبات والأوراق والمنشورات أو حتى إلقاء الخطب التأثير على اليسار والطبقة العاملة. إلا أن بقدر ما ترفض الأناركية مسألة ضرورة وجود القيادة في حد ذاتها، ومن ثم تفشل في النضال السياسي والتنظيمي من أجل قيادة الطبقة، بقدر ما لا تساهم الأناركية في تحرير الطبقة العاملة من قيادات السوء الإصلاحيين إنما تسهم في استمرار هيمنة قادة تلك القيادات.
كما لن تُجدي محاولة الأناركيين دفن الموضوع بعبارات مثل “القيادة لا تهم، إنما ما يهُم هو ما تفعله الجماهير”. لا شك أن النظرة البرجوازية للتاريخ، المُتماشية مع نُخبويتها وفردانيتها عامة، بالغت بلا حدود في دور القيادات حتى اختزلت التاريخ في كونه مجرد سلسلة متعاقبة من الملوك والأباطرة والجنرالات والرؤساء. ولكن رغم المبالغات البرجوازية فإن أفعال القيادات من شأنها إحداث الفارق في التاريخ. نعم لا تستطيع القادة أن تستحضر الثورات من العدم أو تخلق الحركات الجماهيرية بقوة الإرادة؛ نعم لا تستطيع القادة أن تصنع على الإطلاق ثورة بذاتها، ولا يستطيع فعل ذلك إلا الجماهير. ولكن عندما توجد هناك حركة جماهيرية وحالة ثورية يمكن أن يكون للدور الذي تلعبه القيادات لهذه الحركة تأثير مهم على النتيجة، بل وأحيانًا يمثل هذا الدور فارق ما بين النصر والهزيمة.
وتُعتبر الهزيمة التاريخية للطبقة العاملة الألمانية وانتصار النازية في الثلاثينيات من القرن العشرين من أكثر الأمثلة تراجيدية في توضيح الفارق في مسألة وجود أو عدم وجود قيادة ثورية في اللحظات الحاسمة في النضال.
كانت الحركة العمالية الجماهيرية الألمانية، الأعظم حجمًا وتنظيمًا في تاريخ الرأسمالية، خلال سنوات صعود هتلر إلى الحكم (1929-1933) مُنقسمة الولاء ما بين الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإصلاحي (SPD) والحزب الشيوعي الألماني الستاليني (KPD). ولو أن هذين الحركتين وحدتا صفوفهما لكان توفر لديهما القدرة على وقف صعود النازيين. لكن رغبة الاشتراكيين الديمقراطيين في تفادي الصدام، كما هي عادتهم، وأوامر ستالين لقيادات الحزب الشيوعي بتركيز النيران على الاشتراكيين الديمقراطيين وليس على النازيين حال دون تشكيل جبهة متحدة بين تياري اليسار، وساهم كثيرًا في صعود هتلر إلى سدة الحكم وتدمير أقوي حركة عمالية في تاريخ العالم.
فبما أن مشكلة القيادة لا يمكن تجاهلها، ولا التغلب عليها بمجرد التمني، فالخيار الوحيد المُتبقي لمن يسعى بجدية لتغيير المجتمع هو العمل على بناء قيادة ثورية حقيقية تتسم بأنها (أ) تخضع للسيطرة الديمقراطية لأتباعها ، (ب) تقاوم الإفساد من قبل النظام، (ج) وتكون قادرة على تحديد مسار النضال الصحيح إلى الأمام. أما التخبط النظري للأناركية في هذا الموضوع وتعنُتها برفضها مبدأ القيادة يعني أنها غير قادرة على القيام بهذه المهام.
الحزب
تقودنا مسألة القيادة الثورية مباشرة إلى قضية الحزب الثوري. إذا كان للأناركية موقفًا معاديًا بقوة تجاه الدولة والقيادة فمعارضتها لفكرة الحزب يفوق العداء السابق عنفًا. ومرة أخرى نتفهم مصادر هذا العداء تمامًا. فقد كان لا بد وأن يثير واقع أن بعض الأحزاب اليسارية، التي زعمت أنها ماركسية أو لينينية أو أحزاب عمال، كانت أداة رئيسية في قمع واستغلال مئات الملايين من العمال في الدول المسماة بالشيوعية بشرق أوروبا رد فعل عام “معادي” للأحزاب. وإذا زدنا على هذه الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وغيرها من الأحزاب الإصلاحية ذات الطابع المحافظ والبيروقراطي والانتهازي، بالإضافة للتشرذم السخيف لبعض أشباه أحزاب اليسار المتطرف، يكون من الممكن تفهم انتشار الشكوك عند الكثيرين، ومن ضمنهم الأناركيين، من جدوى فكرة الأحزاب عامًة.
ومع ذلك يبقى تأسيس حزب ثوري من الطبقة العاملة مسألة أساسية وضرورية لإدارة الحرب اليومية ضد الطبقية، بل وأهم عامل في نجاح الثورة المستقبلية.
ثمة سببان بسيطان ومنطقيان لذلك. السبب الأول هو أن الطبقة العاملة تواجه خصمًا شديد التنظيم والمركزية ولذا يجب أن تنظم صفوفها حتى تنتصر. وهذا ينطبق على كل موقع عمل وصناعة يواجه فيه العمال سلطة رأس المال المركزية. فالشرط الأول لأي مقاومة ناجحة هو التنظيم ووحدة فعل العمال. أما العمال الذين يحاولون تحدي رؤساءهم منفردين بدون قوة منظمة جماعية سيفصلون ببساطة. وهذا ينطبق بدرجة أكبر علي المجتمع الأشمل حيث يتمتع حكم الرأسماليين بحماية من هذه المنظمة المركزية الرئيسية: الدولة الرأسمالية. وأي عامل، مهما كان وعيه الطبقي والسياسي ضئيلا، يدرك الحاجة للتنظيم لخوض أي معركة طبقية. ولذا فمن يرفض من الأناركيين التنظيم برمته يحكم على نفسه بالعزل التام عن الطبقة العاملة.
والسبب الثاني الداعي لوجود حزب ثوري هو أن وعي الطبقة العاملة السياسي دائمًا ما ينموا بشكل غير متساوي. فالسيطرة الرأسمالية على الإعلام والنظام التعليمي والجوامع والكنائس وغيرها من المؤسسات الفكرية التي لا تعد ولا تحصى في المجتمع – تؤمن تأثيرًا قويًا للأيديولوجية الرأسمالية على تفكير غالبية العمال في الأوقات “العادية”، أي في غير أوقات مراحل الصراع الجماهيري الثوري.
ورغم أنه من الخطأ أن نعتقد أن جماهير العمال بلا عقل، يصدقون بسلبية كل ما تقوله لهم الرأسمالية – فالتجارب التي مرت عليهم من استغلال وقمع وفقر وبطالة، إلخ، علمتهم غير ذلك – تظل حقيقة أن الأفكار البرجوازية تمارس تأثير قوي في صفوف الطبقة العاملة. ففي أغلب الأوقات، نجد أن وعي الطبقة العاملة هو مزيج من تركيبة متناقضة من الأفكار: فتتواجد دائمًا أفكار نقدية للمجتمع ونابعة من خبرة العمال الخاصة، جنبًا إلي جنب مع أفكار رجعية مفروضة على العمال من أعلى. فنجد العديد من العمال، مثلا، يكرهون رؤسائهم في العمل ويدركون أن هناك قانونًا في المجتمع للأغنياء وآخر للفقراء، ومع ذلك يظل عند ذات العمال تعصبا تجاه الأجناس الأخرى والمرأة والأديان الأخرى، وغيرها من الأفكار المتعصبة. ونجد أن بعض العمال قد يحمل أفكار مناهضة للعنصرية ومع المساواة بين الجنسين ومع ذلك، وفي ذات الوقت، يؤمن نفس العمال أن الفوارق الطبقية هي أمر قدري. ففي الأوقات العادية لا تجد في أي مجتمع رأسمالي سوى قلة قليلة من العمال ترفض الأفكار الرأسمالية بإصرار وبشكل دائم، وتجد أغلبية الطبقة العاملة تحمل أفكارا متناقضة ومتضاربة ومركبة.
ونظرًا للوجود المزمن لهذا الوعي المتناقض داخل صفوف العمال يصبح من الضروري وجود تنظيم سياسي يضم الأقلية الواعية سياسيًا من العمال (الطليعة) ويشكل منهم قاعدة للنضال من أجل نشر الأفكار الثورية بداخل حركة الطبقة العاملة الأشمل والمضطهدين في المجتمع ككل.
ولهذا السبب تظل الإستراتيجية التي يعتمدها عدد كبير من الأناركيين النقابويين، وهم تيار من الأناركيين المؤمنين بفكرة أهمية دور الطبقة العاملة في عملية التغيير الثوري والمُتقبلين لحاجة هذه الطبقة في التنظيم بشكل عام، في الاستكفاء ببناء “نقابات ثورية” و”إتحاد نقابي ثوري يشمل كل عمال العام” مع رفض بناء “حزب سلطوي”، تظل إستراتيجية قاصرة. ورغم أن فكرة بناء “إتحاد نقابي ثوري عالمي” قد تمثل خطوة إلى الأمام بالمقارنة بالأناركية الفردية لأنها على الأقل تحاول أن تدخل في علاقة مع الطبقة العاملة علي عكس الأناركيين الفرديين إلا أنها لا توفي بالغرض في نضال العمال من أجل التغيير الثوري.
فالنقابات العمالية في الأساس هي منظمات جماهيرية شكلها العمال للمساومة والتفاوض على الأجور وظروف العمل والتنازع عليها في إطار العلاقات الرأسمالية للإنتاج وليس لتجاوزها. وللقيام بهذه الوظيفة لا بد أن تكون عضوية هذه النقابات واسعة وشاملة بقدر المستطاع. والوضع المثالي أن تضم النقابة بين صفوفها كل العاملين في مكان عمل أو حرفة أو صناعة ما عدا العمال من كاسري الإضرابات أو الفاشيين. وبالتالي، ومما لا مفر منه، أن تضم النقابات أعدادًا غفيرة من العمال مُشوشي الأفكار وأصحاب المواقف الرجعية الصرفة تجاه العديد من القضايا.
ولذلك يجب أن يكون هناك مستوى إضافي من التنظيم العمالي غير النقابات ألا وهو الحزب السياسي الذي يقود معركة نشر الأفكار الثورية والإستراتيجية الثورية ويناضل من أجل تقديم القيادة الثورية داخل النقابات، وكذلك داخل قطاعات المجتمع من غير المُنتمين للنقابات أو لأماكن عمل محددة (العاطلين والطلاب وربات البيوت وغيرهم).
والأناركيون الذين يدركون أهمية النضال المنظم من أجل الأفكار الثورية والذين يقومون بناءً عليه بتأسيس منظمات أناركية خاصة بهم، هم في الحقيقة يشكلون أحزاب أناركية ولكن بمسميات جديدة. ولا يعتبر عدم اعترافهم بهذا علناً بميزة تُمكنهم من تفادي المشاكل التي تقع فيها المنظمات الحزبية التقليدية، إنما يُمثل ضعف يُضاف إلى ارتباكهم بخصوص مسألة الحزب ومسألتي الدولة والقيادة، مما يمنعهم من التوصل لإستراتيجية متماسكة أو بلورة فكرة واضحة لدور وهياكل المنظمة الخاصة بهم.
أن الحاجة إلى تنظيم الطبقة العاملة وتطوير وعيها المتفاوت من خلال نضال حزب سياسي ثوري يضم طليعة الطبقة ضرورة لا ينفيها إلا من يحملوا رؤية رومانسية عن “نقاء العمال الثوري” الذي لا وجود له. وهنا فالرد المعتاد والأكثر استخداما من الأناركيين هو أن سجل الأحزاب الثورية يبين أنها حتمًيا تقع في البيروقراطية والنُخبوية والسلطوية وشرور أخرى كثيرة من هذا القبيل، ويسأل الأناركي: “وما ضمان ألا تأخذ أحزابكم المُقترحة هذا المنحى هي الأخرى؟”
بالطبع لا يمكن أن يكون هناك ضمان كامل أو أكيد لانتصار الثورة أو عدم بقرطة أي حزب ثوري أو حتى نجاح مظاهرة أو إضراب، بل وأي ضمان حتى لنجاح الأناركية نفسها في أي شيء. والسبيل الوحيد للتعامل بتعقل مع هذه المشكلة هي أو لا أن نتوصل لسبب فساد هذا العدد من المنظمات والأحزاب العمالية، ثم ثانيًا البحث في كيفية الوقاية منه.
والتفسيرات المعتادة التي يقدمها الأناركيون لفساد الأحزاب هي إما “نهم السلطة الفطري” عند القيادات، أو “السلطوية المتأصلة للأشكال اللينينية للتنظيم كالمركزية الديمقراطية”.
أما التفسير الأول عن “نهم السلطة الفطري” فهو تفسير ممكن تعميمه على مقدمه وليس فقط على من ينتقدهم. فإذا كنا نتحدث عن وجود ميول “فطرية” فستُفسد هذه الميول ليس فقط أي إتحاد أو مجموعة أو منظمة أو مجتمع بل سَتَحُول دون تحقق الأناركية ذاتها. وأما التفسير الثاني عن “سلطوية اللينينية” فهو أيضًا قاصر. فالتجربة التاريخية تؤكد أن الفساد البيروقراطي لم يحل فحسب على الأحزاب اللينينية إنما حل على كافة أنواع المنظمات العمالية بما فيها الأحزاب الإصلاحية الجماهيرية والاتحادات النقابية وكذلك على الأناركيين النقابويين.
وعلى النقيض من هذين التفسيرين، يُرجع الماركسيون ميل الأحزاب للفساد إلي الضغوط التي يمارسها المجتمع الرأسمالي على منظمات العمال التي تنشأ في وسطها؛ وتمارس الرأسمالية هذه الضغوط على مستويين: فمن ناحية، يُصعِب الاستغلال والقمع والعمل في عزلة – والذي تفرضه الرأسمالية على عامة العمال – تنمية ما يلزم من ثبات ووعي عند العمال للسيطرة على قياداتهم؛ ومن ناحية أخرى، تمارس الرأسمالية بطبيعتها أثر مُفسد مُضطرد على القيادات بما يفضى للتفرقة بينهم وبين عامة العمال إما مباشرةً أو بشكل غير مباشر.
لهذا التفسير أهمية خاصة في تعليل لما هو دون شك أسوأ حالة تدني في تاريخ الحركة الثورية وهو تحول البلشفية في روسيا إلى الستالينية. فمن ناحية كان لضغط الرأسمالية العالمية على الثورة الروسية، الذي جاء في شكل حرب أهلية فُرضت من الغرب وبمساندته، أثر مُدمر على الطبقة العاملة الروسية التي صنعت ثورة 1917. كانت هذه الطبقة قد وصلت في عام 1917 إلى قمة درجات الوعي والثقة في الذات، ثم تحطمت هذه الطبقة بفعل الحرب والمجاعة والوباء والانهيار الاقتصادي التام بين 1918 1921 فلم تستطع على الاستمرار في ممارسة حكمها الديمقراطي الصحي ولم يكن هناك مفر في النهاية من بقرطة القيادة البلشفية. ومن ناحية أخرى، فلقد دَفع ضغط الرأسمالية على القيادة البلشفية، التي انحدرت إلى طابع بيروقراطي يُرمز إليه بالستالينية، إلى تخليها عن توجهها الأصلي إلى إستراتيجية الثورة العالمية كالطريق الوحيد الذي كان يمكن أن ينقذ الثورة، وانخراطها بدلًا من ذلك في التنافس مع الرأسمالية الغربية بشروطها من خلال إقامة دولة استغلال رأسمالية من أجل تراكم رأس المال التنافسي والقضاء التام بنهاية عقد العشرينات على دولة العمال الوليدة في روسيا.
مثل هذه الضغوط تسفر أيضًا، حتى وإن عملت في ظروف مختلفة تمامًا، عن سيطرة البيروقراطية الدائمة على النقابات والنواب البرلمانيين المحترفين على الأحزاب الإصلاحية.
فكيف إذن يستطيع حزب ثوري أن يحمي نفسه من هذه الضغوط الفاعلة على الدوام في المجتمع الرأسمالي؟ ثَمة أربعة تدابير أساسية:
على الحزب أن ينخرط في نضالات الطبقة العاملة اليومية، فهذه هي العلاقة التي تخلق الضغط المضاد لضغط الرأسمالية. وعلى النقيض تعتمد الأحزاب الإصلاحية في الحفاظ على قواعدها على سلبية العمال، في حين أن المجموعات العصبوية لا تقيم علاقة مع الطبقة العاملة أصلا.
على الحزب أن يلتزم التزاما صارمًا بالمبادئ الثورية. هذا في حد ذاته سيبعد إلى حد بعيد العناصر المتسلقة سياسيًا والرجعية التي لديها قابلية أن يتم التلاعب بها.
لأسباب بينة لا يجب أن تلحق بمناصب القيادة أو أن يكون لقيادات الحزب أي امتيازات مادية.
يجب أن يجمع هيكل الحزب ودستوره بين الديمقراطية (أي مناقشة وافية وتداول وجدل حول السياسات والانتخاب ومسئولية القيادة) والمركزية (أي الوحدة في الفعل لتنفيذ قرارات الأغلبية). وعلى عكس نظرة البعض، وبالأخص الأناركيين، للمركزية والانضباط علي أنه آلية سيطرة سلطوية من أعلى فالحقيقة أن المركزية تعتبر أداة لضمان سيادة الديمقراطية في الحزب الثوري، حيث تضمن المركزية تنفيذ القيادات لسياسة وقرارات الحزب، على نقيض المنظمات المركزية غير الديمقراطية حيث تمتلك القيادات “الحرية” في التغاضي عن سياسة الحزب ورؤية غالبية الأعضاء أو صياغتها بشكل فردي.
وفي التحليل النهائي تظل 1) العلاقة الحيوية بين الحزب والصراع الطبقي هي الحاسمة في النضال ضد البيروقراطية داخل الحزب و2) المركزية الديمقراطية اللينينية أفضل وسيلة لمقاومة الضغوط المستمرة التي تمارس على كافة أحزاب الطبقة العاملة من البيئة الرأسمالية. ورغم أنه لا يمكن ضمان عدم البقرطة مسبقًا بأي هيكل تنظيمي فإن هذا لا يغير بشكل من الأشكال ضرورة وجود حزب عمالي ثوري لتحقيق نصرًا ثوريًا.
وبرفضها للأحزاب بشكل عام، والحزب اللينيني بشكل خاص، لا تساهم الأناركية سوى في نزع السلاح التنظيمي والسياسي من أيدي الطبقة العاملة سواء في معارك اليوم أو الغد.
الفرد والمجتمع والطبقة
ما من شك أن من الخلافات الرئيسية التي دارت بين الماركسية والأناركية كانت حول علاقة الفرد والمجتمع، وهي نوعًا ما نقطة يصعب تناولها مقارنة بالخلافات التي تطرقت إليها حتى الآن؛ فهي أولا بالضرورة خلافات أكثر تجريدًا وفلسفية، وثانيًا هي معقدة نتيجة الخلاف العميق الذي طالما دار داخل الحركة الأناركية ذاتها حول هذه المسألة. إلا أن الأناركية الفردية لها ثقل بداخل الحركة الاجتماعية من الأهمية ليدفعني أن أتناولها، مُتمنيًا أن يتفهم الأناركيون الرافضون للفردية والمُفضلين لمنهج التغيير الثوري القائم على الصراع بأن هذا الجزء التالي غير موجه ضدهم.
ومن الدواعي الإضافية لمناقشة هذا الموضوع أن الماركسية عادة ما تُعَرف بالمناهضة الصريحة لحقوق الفرد وأنها تدين كل ما يتعلق بالفردية على أنه أمور”برجوازية”، وأنها تضع مصالح المجتمع والجماعة في تعارض آليً ضد مصالح الفرد. ولكن هذه قراءة خاطئة لماركس وللموقف الماركسي من حقوق الفرد – أَججته بالطبع الستالينية القمعية وهو انطباع أسعى إلى تصحيحه.
يمكن إرجاع المدرسة الأناركية الفردية إلى الفيلسوف الإنجليزي وليم جودوين William Godwin (1836-1756) والفيلسوف الألماني ماكس شتيرنر Max Stirner (1856-1806) واللذان كانا من دعاة الفردية المتطرفة وهذا ما يمكن أن نستشفه من لمحة من المقولات التالية في كتاب شتيرنر “الأنا وذاتها” (1845):
لا شيء يمثل لي قيمة… ألا نتعلم من هذه الأمثلة الممتازة (الله والإنسان) أن الأناني أفضل من يسلك طريقه؟ أنا عن نفسي تعلمت درسًا منهم وأقترح بدلا من أن نستمر في خدمة الأنانيين العظام بتفان أن نصبح نحن أنفسنا أنانيين… الله والإنسان لم يشغلوا أنفسهم إلا بأنفسهم، فدعوني إذن أنشغل بنفسي…فلتختفي كل الهموم التي لا تهمني…فلا هم لي سوى نفسي!
ظني أن التأثير المباشر لجودوين أو شتيرنر على الأناركية اليوم يقترب من الصفر. ولكن، لأن ثمة نزعة فردية مُبهمة وغير مصاغة منهجيًا على طول وعرض الفكر الأناركي فلذلك تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية عن الفردية المتطرفة – أي فكرة الإنسان “الحر” الذي لا يسعى إلا لغاياته الشخصية دون قيد أو مبالاة تجاه الآخرين.
يجب أن يقال أولا أن الأنانية الخالصة الغير مقيدة كهذه لم يكن لها وجود على الإطلاق في تاريخ الإنسانية. إن الجنس البشري بطبيعته التي لا تُختزل هو جنس اجتماعي – أي أنه يعتمد على الآخر وذلك منذ الأزل. ولم يكن للفرد في مجتمع الصيد والجمع، الذي لم يكن فيه كما رأينا دولة أو سلطة سياسية منفصلة عن الجماعة ككل، حرية التصرف كما يحلو له مطلقًا، أو أن يخدم نفسه دون غيره. فالصيد كان ضرورة فرضتها الطبيعة وكان عملا جماعيًا تعاونيًا بالأساس. ومن كان من الأفراد يرفض أن يعترف بالتزاماته تجاه الجماعة يجد نفسه منفيا منها ـ الأمر الذي ظل لمدة طويلة بمثابة حكم بالإعدام علي هذا الشخص.
ففكرة حرية التصرف “الخالصة” لا يمكن أن ترد في الواقع إلا إذا تخلينا كمجتمع عن عملية إنتاج ضروريات الحياة. غير أن حاملي فكرة “الحرية الخالصة” يعتبرون قضية الإنتاج قضية محسومة ببساطة. و”الافتراض” الضمني هنا أن الملابس التي نرتديها والغذاء الذي نأكله، إلخ، سيأتي من مكان ما وبطريقة ما، وهو افتراض نخبوي وبرجوازي صرف دحضه تمامًا ماركس في أعماله النظرية التي أو ضحت أن العمل البشرى والإنتاج يُمثلان حجر الزاوية في تطور التاريخ الإنساني. وللأناركية الفردية أن تُجادل أن علينا أن نخلق مجتمعًا به وفرة من البضائع حتى تُتاح لنا بدرجة ما حرية العمل من عدمه، إلا أن هذا لا يحل معضلة: لمن منا توكل مهمة خلق هذا المجتمع وكيف.
والشيء الآخر أن التاريخ يبين أن الجذور الاجتماعية لهذا النوع من الفردية تنبع من أعماق البرجوازية. ففي المجتمع الإقطاعي كانت نقطة الانطلاق الفلسفية هي الله والكنيسة والنظام الاجتماعي المُنزل من السماء. ومع ظهور الرأسمالية تحولت نقطة الانطلاق في المجتمع إلى الفردية كما عبر عنها الفيلسوف الفرنسي ديكارت في مقولته “أنا أفكر إذاً أنا موجود”. وفي بدايات فكر توماس هوبز، قدم الفيلسوف السياسي فكرة أن حياة البشر في الأساس تتمثل في حرب فردية “للجميع ضد الجميع” تبريرًا لاستنتاج أن ما نحتاجه هو دولة قوية – وهو استنتاج بالطبع معاكس للأناركية. وبالمِثل، يتخذ الاقتصاد النيو- كلاسيكي البرجوازي من “المستهلك الفرد الأناني العقلاني” نقطة انطلاق له. علاوة على ذلك، فليس من قُبيل المصادفة أنه في حين قد يرغب الأناركيون في إضفاء لمحة يسارية على فكرة “اللاسلطوية” الفردية فأننا نجد أن عدد غير بقليل من الليبراليين المحافظين يتخذون فكرة “اللاسلطوية” أساسًا للسياسات النيوليبرالية المؤيدة للرأسمالية وشديدة اليمينية.
وفي هذا السياق لابد كذلك أن نذكر فيلسوف أو أخر القرن التاسع عشر الألماني فريدريك نيتشه الذي آمن أن القوة الدافعة على امتداد كامل التاريخ والسلوك الإنساني (وإلى حد ما الكون بأكمله) هي الرغبة الفطرية لكل فرد في “امتلاك السلطة”. ولم يكن نيتشه أناركيًا بل اشتهر لتأثيره على اليمين المتطرف بما فيهم النازيين ولكنه كان قد قرأ شتيرنر وتأثر به، كما كان له أثر هام على مفكري القرن العشرين كالمفكر الفرنسي ميشيل فوكو الذي بدوره أثر على الأناركية.
من الواضح أن كثير من الأناركيين يقبلون صيغة ما لنظرية الرغبة الفطرية في امتلاك السلطة، ومن المؤكد أنهم يستخدمونها لتفسير سلوك الآخرين مثل اللينينيين والسياسيين والبيروقراطيين وغيرهم – وإن استثنوا، بالطبع، أنفسهم. كما يتماشى هذا الاعتقاد الأناركي مع فكرة أن مبدأ الدولة أو مبدأ السلطة هو الذي أدى لظهور الطبقات في المجتمع والتفاوت اقتصادي وليس العكس بحسب رؤية ماركس.
وبغض النظر عن افتقارها للأساس العلمي، فنظرية الرغبة الفطرية في امتلاك السلطة في جوهرها تعد نظرية يمينية. ويمكن إضفاء بريق أو جاذبية يسارية على هذه النظرية اليمينية، كما فعل ميشيل فوكو، إذا ما استُخدمت لتفسير صراعات السلطة المنتشرة في أرجاء المجتمع – في كل مدرسة ومستشفى وسجن ومكتب – ويصاحب “الرغبة الفطرية في امتلاك السلطة” الخيار الطوعي والأخلاقي بالمقاومة المستمرة للسلطة والوقوف دومًا مع من لا يملكونها.
إلا أن هذه التركيبة النظرية – رغبة فطرية عند البشر في السلطة والخيار الطوعي عند البعض بالمقاومة – تواجه معضلتين. الأولى هي الاعتقاد أن أفضل ما يمكن أن نتعشم فيه في المجتمع الطبقي هو القيام المقاومة الأبدية للظلم، لأنه وللأسف، لا يوجد أمل حقيقي في تحقيق تحرر كامل للإنسانية إذ أن صراعات البشر على السلطة ستتجدد دائمًا. والمعضلة الثانية هي أنه إذا كانت الرغبة في السلطة فطرية عند الإنسان فلماذا يُفرض علينا، أو على الأناركيين، أن ننحاز لمن لا يملك السلطة إذا كان من “الفطرية” أن ننحاز لأصحاب السلطة كما انحاز العديد من أتباع نيتشه فعلا.
فما هي إذن رؤية الماركسية لعلاقة الفرد بالمجتمع؟
إن الماركسية لا ترفض البتة المسعى للحرية الفردية وتنمية شخصية الفرد. وفي “المانيفستو الشيوعي” أدان ماركس وإنجلز الرأسمالية لأنها، رغم دعوتها لاحترام الفردية، فهي تسحق الفردية الشخصية للأغلبية في الحقيقة:
فرأس المال في المجتمع البرجوازي مستقل وله شخصية فردية، في حين أن الإنسان الحي غير مستقل ولا يتمتع بشخصية فردية. ثقافة الفردية، التي يتباكى (البرجوازي) على فقدانها، إنما هي تمثل بالنسبة للأغلبية الساحقة مجرد أن يفرض عليهم أن يعملوا كآلة.
ثم يعلن ماركس وإنجلز غايتهم: “استبدال المجتمع البرجوازي القديم بطبقاته وعداواته الطبقية … بمجتمع تكون فيه التنمية الحرة لكل فرد هي شرط للتنمية الحرة للجميع.”
ويستفيض إنجلز في هذه النقطة في كتابه دفاعًا عن الماركسية ضد الاشتراكي الألماني يوجين دوهرنج (1877):
“لا داعي للتأكيد على أن المجتمع لا يستطيع أن يحرر نفسه إلا إذا ما تحرر كل فرد فيه. فلذا يجب الإطاحة بالأسلوب القديم للإنتاج برمته وبالأخص تقسيم العمل الذي لا بد أن يختفي. يجب أن تحل محله منظومة إنتاج لا تسمح من ناحية أن يلقي فرد بنصيبه من العمل المنتج على أكتاف غيره، وهذا شرط طبيعي للوجود البشري؛ ومن ناحية أخرى يصبح العمل المنتج، بدل من أن يكون وسيلة لإخضاع الإنسان، وسيلة لتحرر البشرية عن طريق توفير لكل فرد فرصة تطوير مهاراته الجسدية والذهنية في كل الاتجاهات وأن يمارسها بأقصى طاقة. بالنسبة لماركس فالفرد ليس كائن أناني مُنعزل أو “جزيرة منفصلة” في موضع مقابل للمجتمع. وفي كتابه “مخطوطات اقتصادية وفلسفية” (1844) يقول ماركس “الفرد كائن اجتماعي بالأساس،” مُنتقدًا “الشيوعية الفجة” التي لا تعنى إلا بمجرد الإلغاء السلبي للملكية الخاصة و”تُنكر شخصية الإنسان في كل المجالات”. ويؤكد ماركس أن الشيوعية ستمثل “عودة الإنسان إلى ذاته كاملا ككائن اجتماعي (أي إنساني) … وستمثل حل حقيقي للصراع … بين الفرد والبشرية ككل”.
إلا أن الوصول “لعالم الحرية” يحتاج إلى مُفَعّل للتغيير، إلى قوى اجتماعية قادرة على الإطاحة بالرأسمالية وبناء مجتمع جديد. ويرى ماركس أن هذا المُفَعّل، كما عرفه في المانيفستو الشيوعي، يتمثل في الطبقة العاملة أو البروليتاريا: “الطبقة الجديدة من العاملين بأجر والذين لا يملكون وسائل الإنتاج ويضطرون أن يقتاتوا من قدرتهم على العمل”.
إن تحديد الدور الثوري للطبقة العاملة – قدرتها على تحرير نفسها وتحرير الإنسانية معها – هي الفكرة المركزية في الماركسية والخيط الأساسي لهذا الكتيب. وأود أن أطرح هنا نقطتين بخصوص علاقة نضال الطبقة العاملة وحرية الفرد.
النقطة الأولى ببساطة هي أن أي نضال جماعي يفرض بعض الحدود على حرية الفرد المشترك به ويقيد تصرفاته أو تصرفاتها كما سبق وأن لاحظنا في أبسط أشكال صراعات الطبقة العاملة وهو الإضراب، فمن يفعل ما يحلو له ويعمل أثناء الإضراب يُعتبر خائنا.
ولكن النقطة الثانية هي أن هناك اختلافا مهما جدًا بين خبرة الطبقة الوسطى وخبرة الطبقة العاملة بالنسبة لمسألة الحرية الفردية. فالحرية الفردية وتنميتها للشخص المُنتمي للطبقة الوسطى مُؤمنّة بغض النظر عن وضع الجماعة ككل بل وتتطور للفرد بالتضاد مع مصلحة الآخرين في الجماعة ؛ أما بالنسبة لشخص من الطبقة العاملة فالقيد الرئيسي على فرديته وحريته هو الوضع الاقتصادي المُكبل والذي لا يمكن تحسينه إلا من خلال التواصل مع الجماعة. وبالتالي فالتنمية الفردية لأغلبية الطبقة العاملة متوقفة على تقدم طبقتهم ككل. على سبيل المثال، تقترن مقدرة الفرد العامل أو العاملة أن يحيا حياة صحية وطويلة بنضال جماعي يكتسب للجميع خدمة صحية مجانية، وفرصة الحصول على التعليم للفرد مرتبطة بإتاحة تعليم حكومي مجاني للجميع، إلخ. فالشخصية الفردية الحقيقة لعديد من العمال تبدأ وتزدهر تحديدًا في النضال الجماعي ومن خلاله. إن في الثورة صحوة جماعية لملايين من الشخصيات الفردية، وانتصار قوة العمال في المجتمع– إن لم تعني الحرية المطلقة – ستعني توسع هائل في الحرية الفردية مقارنة بأي شيء قد تقدمه الرأسمالية.
وتشارك بعض تيارات الأناركية، كالأناركية النقابوية والأناركية الشيوعية، الماركسية في الاعتراف بدور الطبقة العاملة الرئيسي في تغيير المجتمع ولكن عادةً ما تكتفي التيارات الأناركية بمقولات مجردة عن الحرية في المطلق، ولا تُمعن التفكير في العلاقة بين صراع الطبقة العاملة والحرية الفردية كما فعل ماركس وإنجلز. وهناك أناركيون آخرون يرفضون فكرة نضال الطبقة العاملة جملة وتفصيلاً ومن ثَم يعزلون أنفسهم عن القوى الاجتماعية التي قد تحدث تغييرًا فعليًا، أو أنهم يسعون لإيجاد بديل لدور الطبقة العاملة من خلال إستراتيجيات مثل “الحشد الجماهيري” mobilization أو الاعتماد على العناصر المتأرجحة اجتماعيا من الفقراء كالقوة الأساسية للتغيير. وهذه الخيارات الأخيرة ستُناقش في الجزء الخاص بتيار أناركية الاستقلالية الذاتية المعروف بالاوتونومية.
5. سجل الأناركية
تعود بعض عناصر الفكر الأناركي عدة قرون إلى الوراء، فطالما كان الإنسان يحلم بمجتمع تسوده الحرية والمساواة، ولكن الأناركية، كأيديولوجيا وحركة محددة، تُؤرخ مثلها مثل الماركسية، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ولا شك على أنه علي مدار 160 عامًا أو ما شابه من وجودها أفرزت الأناركية نصيبها من الأبطال والبطلات، المشاهير وغير المشاهير، ممن ضحوا بحياتهم في سبيل القضية الثورية.
ولا شك أيضًا أن مواطن الضعف التي أوضحناها سابقا ظهرت على الممارسة الأناركية بشكل مضطرد، مما يجعل مراجعة تاريخ الأناركية كاملا في هذا الصدد من المحال طبعًا. ولكن ما سنحاوله في هذا القسم بدلا من ذلك هو استعراض الحجج المقدمة فيما سبق، ومن ثَم التأكيد عليها، وذلك من خلال الإشارة إلى ثلاثة مراحل في تاريخ الأناركية. 1) نشاطات باكونين في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ و2) الثورة الروسية (مع ملاحظات على النقد الأناركي الموجه ضد البلشفية)؛ وأخيرا، دور الأناركية في الحرب الأهلية في أسبانيا في ثلاثينيات القرن العشرين. وسنستعرض تلك الحجج ليس للتفتيش في سجل الأناركيين بحثًاً عن فضائح أو خيانات أو حماقات – فتلك محاولة لا معنى لها ويمكن تكرارها بسهولة مع تاريخ الماركسية – ولكن بالأحرى لاختبار الممارسة الأناركية في اللحظات الفارقة في تاريخ الكفاح الثوري، أي لاختبار فعالية التراث الأناركي في أو قات القوة، لا في أوقات الضعف.
باكونين
قد يكون ميخائيل باكونين (1814-1876) هو الشخصية الأكثر شهرة في تاريخ الأناركية. ولا شك أنه بمظهره وأسلوب حياته ونشاطه الشغوف بدا كأسطورة نمطية للبطل الأناركي الرومانسي. فقد شارك بشكل مباشر في أكثر من انتفاضة مسلحة ضد النظام واعتاد حياة السجون المختلفة بل وقضى خمس سنوات من الحبس الانفرادي في سجن قلعة بطرس وبولس المخيف في سان بطرسبرج في روسيا.
ويُعزى لباكونين، أكثر من أي شخص آخر، تأسيس الأناركية كاتجاه سياسي منظم يختلف عن الحركة الاشتراكية العريضة. كما جسد باكونين شخصيًا، وبشدة غريبة، التناقضات الملازمة للأناركية كأيديولوجيا.
باتهامه للماركسية بالـ”دولانية” و”السلطوية”، وبتصريحاته الدُهمائية العديدة، قدم باكونين نفسه على أنه المعارض الراديكالي لكل قوة أو سلطة أو قيادة. ويقول برنامج حركته “الأخوة العالمية”:
نسعى بصيحة السلام للعمال، والحرية للمقموعين والموت للطغاة والمستغلين والأوصياء من كل نوع، لتدمير كل الدول والكنائس ومعها المؤسسات والقوانين الدينية والسياسية والقضائية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والشرطة والجامعات، حتى يتحرر ملايين البشر المخدوعين والمُستعبدين والمُعذبين والمُستغلين من المديرين سواء كانوا رسميين أو غير رسميين، سواء كانوا جماعة أو كأفراد، لتتنفس البشرية أخيرًا نسمات الحرية المطلقة.
وقد صرح باكونين في 1871: “في كلمة واحدة نرفض كل التشريعات والسلطات وكل الهيمنة المُميزة والقانونية والرسمية وغير الرسمية علينا حتى إذا كانت نتيجة تصويت عام”. وفي 1872 قال: “لا نقبل الاتفاقات السياسية والمجالس التأسيسية والحكومات المؤقتة أو ما تسمى بالدكتاتوريات الثورية حتى وإن كانت لغرض الانتقال الثوري”.
أما في ممارساته السياسية، فقد تفرغ باكونين لتنظيم جماعات تآمرية صغيرة وسرية وهرمية قائمة على الطاعة التامة لشخصه. وقدم باكونين تبريرًا لأساليبه في أحد خطاباته إلى المتآمر الروسي الشهير ناتشاييف:
علينا أن نجبر الجمعيات التي تتشابه أهدافها مع أهدافنا أن تنصهر مع جمعيتنا، أو على الأقل يجب أن يتم إخضاعها دون علمها، كما يجب استبعاد المؤذيين فيهم. أما الجمعيات المعادية أو الضارة ضررًا قاطعًا فيجب تصيتها. وبعد ذلك سيمكننا أن ندمر الحكومة. كل هذا لن يتم بنشر الحقيقة، إنما سيلزم اللجوء إلى المكر والدبلوماسية والخداع.
ومثلت هذه التكتيكات الأساليب التي وظفها باكونين في محاولة لفرض السيطرة على رابطة الشغيلة الأممية (أو الأممية الأولى التي شارك في تأسيسها ماركس في عام 1864). فعندما انضم باكونين وأنصاره إلى الأممية في 1869 أعلنوا عن حل منظمتهم، والتي كانت تسمى تحالف الديمقراطية الاشتراكية، لكنها في الحقيقة استمرت في العمل كشبكة في الخفاء.
في 1872عام كتب باكونين ما يلي في خطابه إلى أناركى إيطالي من أنصاره:
أظنك ستفهم آجلا أو عاجلا ضرورة تأسيس نوى داخلية (في أقسام الأممية) من الأعضاء الأكثر إيمانًا وإخلاصًا وذكاءً ونشاطاً أو باختصار الأقربون لنا. هذه النوى [ستكون] شديدة الترابط ما بين أعضاءها، وبينها وبين شبيهاتها من المنظمات بإيطاليا أو بالخارج، وسيكون لها مهمة مزدوجة. بادئ ذي بدء، ستشكل [النوى] الروح الباعثة المفعمة لهذا الكيان الرهيب المسمى برابطة الشغيلة الأممية وغيرها من الكيانات، ثم ستتولى [الإجابة عن] الأسئلة التي من المحال معالجتها علنًا … ظني أني قلت ما يكفي لرجال بذكائك أنت وأصدقاءك … وأمر مفروغ منه ألا يقبل هذا التحالف السري بين صفوفه إلا عدد قليل جدًا من الأفراد.
لا يجب أن يُنظر إلى هذا التناقض بين المبادئ المعلنة والممارسة الفعلية كمجرد نتيجة ميول للهيمنة خاصة بطبيعة شخصية باكونين. ففي الواقع، يمثل باكونين التجسيد الحي لتناقض أصيل في رفض الأناركية لمفهوم القيادة في حد ذاتها: بمعنى أن الأناركية تستبدل القيادة المُنتخبة ديمقراطياً والقابلة للرد بقيادة غير مُنتخبة وغير ديمقراطية وغير قابلة للرد.
لم يمثل التآمر السري خرقًا لمبادئ الأناركية نفسها فحسب لكنه أسفر كذلك عن قيادة كارثية لثورة الطبقة العاملة. فلا يمكن بأي حال من الأحوال لفئة محدودة من الأفراد الذين ينصبون أنفسهم بأنفسهم كقيادة أن تقدر مزاج الطبقة العاملة أو ترشد حركتها. لذا أفضى التآمر مباشرة إلى “نزعة انقلابية” وهي محاولة مجموعة صغيرة القيام بعمليات تمرد مستقلة عن حركة ورغبات أغلبية العمال.
وقد شارك باكونين في عدد من هذه المغامرات، انتهت جميعها بإخفاقات محرجة بما فيها مهزلته في ليون بجنوب فرنسا في سبتمبر 1870. وسط موجة من الاضطرابات الشعبية، احتل باكونين وأنصاره فندق دافيل وأعلنوا عن أنفسهم لجنة إنقاذ فرنسا و”إلغاء الدولة”. ولسوء حظ باكونين رفضت الدولة الاعتراف بإلغاء نفسها، وأنهت انقلاب باكونين على الفور بإرسال سريتين للحرس الوطني الفرنسي لليون. وأضطر باكونين للهرب حتى انتهى به الأمر في جنوه في إيطاليا وأدى ذلك إلى أنه حُرم في العام التالي من المشاركة في ثورة عمالية حقيقية اندلعت في فرنسا وهى كومونة باريس.
ومن الطريف أن باكونين لم يكن يطبق فكرته عن السلطة السرية في منظمة الحركة الثورية فحسب ولكن ه عمم هذه الفكرة كذلك في تنظيم مجتمع ما بعد الثورة. ففي خطاب إلى صديقه ونصيره ألبرت ريتشارد شرح باكونين كيف سيؤسس وأنصاره “دكتاتورية سرية” بعد إقامة الأناركية:
بصفتنا قادة غير مرئيين وسط هذه الزوبعة البروليتارية فيجب أن يتم نوجهها، لا عن طريق السلطة الصريحة، ولكن عن طريق ديكتاتورية المتحالفين الجماعية (أعضاء التحالف مع باكونين): ديكتاتورية لن يكون لها شارات عمل علنية ولا ألقاب ولا حقوق رسمية، وسيزيد من قوتها أنه لن يكون هناك أي مظاهر قوة لها. هذه هي الديكتاتورية الوحيدة التي أقبلها .
من حسن الحظ أن هذه الرؤية للسلطة الخفية يمكن الاستغناء عن خدماتها اليوم ليس فقط لشدة خياليتها ولكن أيضا لأنها إذا تحققت لأصبحت الشكل الأقل ديمقراطية للحكم في التاريخ على الإطلاق.
وقد حاول بعض الأناركيون فيما بعد التنكر من باكونين وتخيلاته، ولكن، كما سنرى، سيعود القصور الأساسي في مذهب باكونين للظهور في أناركية القرن العشرين حتى في “أزهى” لحظاتها.
روسيا
وبما أن التراث الأناركي في روسيا سابق على الماركسية بسنوات، فإننا نجد أن ضآلة دور الأناركية في ثورة 1917 يعتبر أمر مثير للعجب.
فرغم أن الثورة الروسية هي الأعظم والأعمق في التاريخ، ورغم أن مستوى النضالية والوعي السياسي الذي وصل إليه العمال والجنود الروس في عام 1917 كان الأعلى بالنسبة لأي طبقة عاملة على مر الزمان، لم تفلح الأناركية أن تُثْبِت لها أي أقدام في هذه الحركة الفاصلة إلا بالكاد.
وهكذا لم يجد فولين، أهم مفكر أناركي روسي في هذه الحقبة، عند عودته إلى روسيا في 1917 جريدة أناركية واحدة أو أي ملصقًات أناركية أو مُتحدثًا أناركي واحد في مدينة بتروجراد وهي قلب الثورة. ولم يكن للأناركية ثمة تمثيل يذكر في السوفيتات؛ وحتى في اللجان العمالية القاعدية في المصانع كانت المقترحات الأناركية تخسر باستمرار عند التصويت أمام المقترحات البلشفية وبأغلبية ساحقة.
ويعود إخفاق الأناركيين في الثورة الروسية لسببين أساسيين.
السبب الأول هو أن المزاج بين قطاعات الطبقة العاملة عامًة ما يميل للأناركية عندما تصل قيادات الحركة العمالية الموجودة لقمة غدرها فتعُم خيبة الأمل بين العمال. أما في أثناء أحداث 1917، أستطاع البلاشفة تقديم قيادة ثورية واضحة وبديلة للإصلاحيين فاجتذبوا دعم كل طليعة الطبقة العاملة تقريبًا.
والسبب الثاني أن الأناركية فشلت في تقديم إجابات على التحديات التي واجهت العمال في نضالهم من أجل حسم الثورة لصالحهم في فترة السلطة المزدوجة من فبراير حتى أكتوبر عام 1917 – أي فترة الصراع الذي احتدم في تلك الشهور بين الدولة القديمة والدولة الجديدة الجنينية – حين وقفت بقايا الدولة القيصرية القديمة وجيشها وبيروقراطيتها برئاسة حكومة مؤقتة جديدة في جانب، والسوفيتات التي شكلها العمال والجنود بأنفسهم والتي كانت تزداد قوة وسلطة يوما بعد يوما في الجانب الآخر. كان السؤال الحاسم – بل الوحيد – في تلك الأزمة هو: أي دولة تُمثل أي طبقة ستنتصر؟ هل ستسحق الدولة القديمة القيصرية /الرأسمالية السوفيتات والطبقة العاملة أم هل ستهزُم الطبقة العاملة الدولة القديمة وتحول كافة السلطات للسوفيتات؟
في تلك اللحظات المصيرية صارت كل القوى السياسية التي ترددت في الإجابة بحسم على هذا السؤال – حكومة كيرينسكي والمناشفة إلخ –عاجزة تدريجيًا. أما التيارات التي كانت ترفض كل أشكال الدولة من حيث المبدأ كالأناركية فقد هُمشت بالضرورة. فلقد قام أغلبية الأناركيين إما بمواءمة أيديولوجياتهم ليتبعوا السلطة البلشفية بفتور، أو انفصلوا عن الأناركية لينضموا إلى البلاشفة بحماس. أما من لم يفعلوا ذلك كالأناركى المخضرم كروبوتكين (الذي فقد مصداقيته بعد دعمه للإمبريالية الروسية والبريطانية والفرنسية في الحرب العالمية الأولى) فأصبحوا يحُسبون على الحكومة المؤقتة التي كانت الكراهية لها تتزايد.
في الواقع لم يتح للأناركية أن تلعب دورًا مستقلا هاما في الأحداث إلا بعد انتصار ثورة أكتوبر بفترة خلال الحرب الأهلية التي تلت وكانت فترة صعاب كبيرة بالنسبة للثورة ومعاناة رهيبة للشعب الروسي.
فلقد كانت الثورة مُحاصرة، والجيوش البيضاء (وهو الاسم الذي عرفت به قوات الثورة المضادة)، بقيادة أكثر جنرالات القيصر رجعية والمدعومة بالمال والعتاد والتعزيزات الآتية من كل قوى الرأسمالية العالمية، كادت أن تقترب من الاستيلاء على بتروجراد حتى أصبحت قاب قوسين أو أدنى منها ومن القضاء على دولة العمال الوليدة. وزاد على دمار الحرب العالمية الأولى الأزمة الاقتصادية في 1917 والفوضى التي أحدثتها حتمًا الثورة نفسها والخسائر الضخمة بالنسبة لروسيا الناتجة عن معاهدة برست ليتوفسك عندما أضطر البلاشفة لتوقيع الصلح مع ألمانيا والتخلي عن جزء ضخم من أرض روسيا لها لتحييدها. فالحرب الأهلية لم تفض فحسب إلى خسائر فادحة في الأرواح إنما أو صلت كذلك الاقتصاد السوفييتي الوليد إلى انهيار كامل. فلقد توقفت الصناعة وانهارت شبكة النقل ولم تكن المحروقات متوفرة لتدفئة المدن وأضطر العمال أن يذهبوا إلى الريف بحثًا عن الطعام كما انتشرت أمراض الكوليرا والتيفود الوبائية ببشاعة.
وتمثل استطاعة البلاشفة، برغم كل تلك الكوارث، أن يخرجوا في النهاية منتصرين شهادة لمدى تأييد الطبقة العاملة الروسية لهم. إلا أن الأناركية استطاعت في هذا الوضع البائس أن تصل إلى مسامع بعض قطاعات الطبقة العاملة وأكثر منها إلى الفلاحين الذين أصابتهم خيبة أمل بسبب ما تكبدوه من خسائر.
بلغ السخط مداه بين الفلاحين بالذات. كان الفلاحون قد استولوا على أراضي لملاك قمعوهم لسنين من الزمان وكان البلاشفة قد أيدوا هذه العملية مما ربط تمرد الفلاحين في الأرياف مع ثورة البروليتاريا في المدن. ولكن خلال الحرب الأهلية اضطرت دولة العمال لمصادرة محاصيل الحبوب من الفلاحين بالسلاح. ولم يكن لدى البلاشفة خيار آخر – فالبديل الوحيد كان سيكون حدوث مجاعة على نطاق واسع في المدن وهزيمة محققة للثورة. ولكن نتج عن ذلك لا محالة استعداء الفلاحين. كان ولاء جماهير الفلاحين للدولة السوفييتية مضمونًا حين كانت الحرب في أوجها وخطر عودة الملاك القمعيين يلوح في الأفق، ولكن مع اقتراب نهاية الحرب كاد غضب الفلاحين أن يفور، مما أثار ظاهرتين مرتبطتين بالأناركية وتعد جزء من تراثها – حركة ماخنو وتمرد كرونشتاد – والتي كانت لهما أهمية تاريخية.
كان نستور ماخنوشاب أناركي من أوكرانيا جمع من حوله جيش من الفلاحين حارب في البداية ضد الجيش الأبيض ثم حارب الجيش الأحمر بجسارة ونجاح شديدين حتى هُزم في النهاية على يد الجيش الأحمر بنهاية الحرب الأهلية.
أما كرونشتاد فكانت قاعدة بحرية على جزيرة تسيطر على كل الطرق البحرية المؤدية إلى بتروجراد، وقد كان لبحاريها دور قيادي في ثورة 1917. ولكن في مارس عام 1921 شهدت كرونشتاد تمردًا مسلحًا ضد نظام البلاشفة للمطالبة بوقف مصادرة محاصيل القمح وإقصاء الشيوعيين من السوفيتات. وخشي البلاشفة أن يؤدي التمرد إلى اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى بعدما كانت قد خمدت مؤخرًا فجاء رد فعلهم قاسيًا وزحف الجيش الأحمر، مشيًا من فوق البحر المتجمد، ليستولى على الجزيرة في معركة دامية.
ولقد أرخ الأناركيين حركتي ماخنو وكرونشتاد في صورة الأسطورة المعبرة عن ثورة الشعب الحقيقية من أجل الحرية والتي قمعها الاستبداديون البلاشفة إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك تمامًا.
ربما كان ماخنو مغرمًا بالبيانات الأناركية الفخمة ولكن في أفعاله كان زعيمًا فلاحيًا وقائدًا عسكريًا استبداديا ميالا لتنفيذ أحكام الإعدام التعسفية ضد معارضيه (وخاصة الشيوعيين) ولعربدات السكر الشديد. وقد يكون أدل حكم على طبيعة ماخنو وحركته الحقيقية قد جاء على لسان جورج وودكوك George Woodcock المؤرخ المنحاز له بشدة في دراسته الكلاسيكية عن الأناركية في عام 1975 :
في أعماق قلبه كان ماخنو رجلا ريفيًا ضيق الأفق؛ كان يكره المدن والحضارة المدنية وتتوق نفسه إلى “البساطة الطبيعية” والعودة إلى عهد “الكادحين الأحرار” الذين يذهبون إلى العمل يرددون الأغاني الحرة المبهجة كما ورد في خرافات الفلاحين القديمة. وهذه الرومانسية الطوباوية تفسر لماذا لم يواجه أتباع ماخنو أبدًا، عندما احتلوا في مرحلة لاحقة عددًا من المدن الكبيرة، مشكلة تنظيم الصناعة، ولماذا لم يحوزوا أبدًا إلا على ولاء عدد صغير من عمال الحَضر.
وكان جيش ماخنو الثوري، الخاضع نظريًا لمؤتمر للفلاحين والعمال والمتمردين، يحكمه فعليًا ماخنو ذاته وجنرالاته. وككل الجيوش التقليدية كان جيش حر من ناحية الاسم فقط فقد تم تجميعه بالتجنيد الإجباري وطبق فيه على الجنود نظامًا قاسيًا لا يدع مجالا للشك أن ماخنو كان هو الآمر الناهي… وكثيرًا ما كان العقاب المتبع سريع وقاس…أما نزوات ماخنو فكانت من الطراز الأخوة الأعداء الكارامازوفي كما أعترف الأناركي فولين.
حتى فولين، وكان من المعجبين بماخنو، فقد اشتكى:
وهو في حالة السكر … كان ماخنو يفقد السيطرة على نفسه تمامًا … وحينئذ تحل تقلباته الشخصية التي كثيرًا ما كانت مصحوبة بالعنف… وفجأة تطغى شهواته على حسه بالواجب الثوري. أدى الطغيان والمزاح السخيف وغرائب الديكتاتور وزعيم المحاربين …. إلى كون جيشه وبطانته تشبه تشكيل العصابات المسلحة أكثر من أي شيء أخر.
ومثل ما فعل ماخنو، فلقد رفع تمرد كرونشتاد شعارات تحررية كالدعوة “للثورة الثالثة” التي جذبت دعم الأناركيين إلا أنها كانت متجذرة بشدة في معارضة الفلاحين لمصادرة محصول الحبوب في سياسة شيوعية الحرب التي أنتهجها البلاشفة من 1919-1921. ولكن بحلول عام 1921 لم تكن حامية كرونشتاد في هي نفس الحامية التي لعبت دور بارز في ثورة 1917. فقد مرت التركيبة الطبقية للحامية بتغير كبير إذ أن رفاق 1917 إما قتلوا أو نقلوا لأماكن أخرى وتم استبدالهم بمجندين جدد من الريف من مناطق كانت العديد منها تكِن لماخنو تعاطفًا خاصًا مثل ال2500 أو كراني من قوات الحامية 160 لسلاح البنادق.
إلا أن الفلاحين لم يشكلوا قوة اجتماعية قادرة على دفع الثورة الروسية إلى الأمام. فظروف حياة الفلاحين المادية – أي حيازتهم لملكية خاصة في شكل مزارع صغيرة وطريقة إنتاجهم الانفرادية وانعزالهم الجغرافي والاقتصادي عن قوى الإنتاج الحاسمة في المدن- جعلت من المستحيل لحركتهم أن تشكل بديلا للقوى البلشفية على المستوى القومي (ناهيك عن المستوى الدولي).
ولا يمكن لمجتمع معاصر أن يُحكم أو يدار من الريف، فالفلاحين مُجبرين أن يتبعوا طبقة من إحدى الطبقتين الرئيسيتين في الحضر، إما البرجوازية أو البروليتاريا.
هذه الحقيقة العامة صدقت بقوة بالنسبة للوضع في روسيا بالذات. ففي مواجهة القيصرية وملاك الأراضي وفي التحالف مع الحركة العمالية في المدن كان تمرد الفلاحين تقدميًا بشكل هائل. ولكن في مواجهة العمال في المدن أو حتى بقايا قوى العمال الممثلة في البلاشفة كان تمرد الفلاحين رجعيًا بلا ريب. فتمرد الفلاحين الهادف إلى تحطيم “ديكتاتورية الشيوعية”، سواء كان لون الشعار المرفوع أحمر أو أخضر أو أسود كلون علم الأناركية، لم يكن إلا ليفتح الباب لإعادة بناء إما الرأسمالية أو القيصرية.
لو كان تمرد كرونشتاد، بموقعه الإستراتيجي في مدخل بتروجراد، كُتب له النجاح أو حتى الاستمرار لمدة أطول من الزمن لوفر فرصة ذهبية للجيش الأبيض المُنهزم لتوه لإعادة شن حرب أهلية. ولقد أدرك الجيش الأبيض هذا جيدًا ولذلك لم يدخر جهدًا لإدخال المؤن إلى كرونشتاد مع إعداد مخطط لإرسال قواته حال نجاح التمرد.
إن الدعم المحشود من الأناركيين الروس والأجانب لكرونشتاد لا يظهر إلا تشوشهم بخصوص ولاءهم الطبقي، وعدم قدرتهم على تحليل الوضع من الناحية الطبقية، وفشلهم في الوصول لرؤية واقعية لمتطلبات النضال نتيجة تعلقهم بنظرياتهم الطوباوية عن ثورة بلا دولة ولا قائد.
إذن يكشف ميزان تاريخ الثورات العظيمة أن الأناركية لم تلعب دورًا في تقدمها بل قدمت، عن غير قصد، عونًا فعالا للثورة المضادة عندما كانت الثورة تتراجع.
ملاحظات على النقد الأناركي للبلشفية
طالما شكل نقد الماركسية عنصرًا هامًا في الأيديولوجية الأناركية إذ يصف الأناركيون الماركسية بالسلطوية. وتمحور لب هذه الحجة في نقد الأناركيين للينينية والبلشفية وبالأخص سلوك لينين والبلاشفة في أولى سنوات الثورة.
وبما أن الاشتراكيين الثوريين والماركسيين الرافضين للستالينية (وخاصة التروتسكيين) دافعوا بشكل عام عن سجل البلاشفة في هذه الفترة باتت نقطة هامة في النقاش الدائر بين الأناركية والماركسية. من المستحيل التطرق إلى هذه الأمور بشكل واف لضيق المساحة المتاحة في هذا الصدد (مع الإشارة إلى أن من أفضل الشهادات وتحليل لهذه الفترة هي للماركسي الثوري الإنجليزي توني كليف في كتابه الثورة المحاصرة) ، إلا أنه لا بد من التعليق على بعض القضايا الرئيسية.
النقاط الجوهرية للحجة الأناركية هي أن:
ثورة 1917 كانت أشبه بالانقلاب البلشفي منها لثورة عمال حقيقية
بدلا من إقامة ديكتاتورية البروليتاريا (حكم العمال) أقام البلاشفة ديكتاتورية خاصة بهم على البروليتاريا – ركزوا السلطة في أيديهم بشكل منهجي ولغوا سيطرة العمال في المصانع وقمعوا كل المعارضين (كماخنو وكرونشتاد) وأقاموا دولة الحزب الواحد
هكذا مهد (لينين وتروتسكي) الطريق لقدوم نظام ستالين الوحشي الذي تلا، وأن اللينينية أدت وستؤدي مرة أخرى إلى الستالينية
أول ملاحظة بخصوص هذه الرؤية هي توافقها شبه التام مع رأي أغلبية البرجوازية والأكاديمية اليمينية في الثورة من أمثال المؤرخ البريطاني روبرت سرفِس وغيره. هذا التوافق مع منظور القوى الرجعية في حد ذاته لا يفند رؤية الأناركيين ولكن عندما يتعلق الأمر بمسألة شديدة الحساسية سياسيًا فعلى الأناركيين أن يتمهلوا ويتأملوا في معضلة تطابق رؤيتهم مع رؤية اليمين.
حظيت فكرة أن أكتوبر 1917 كان مجرد “انقلاب” بمصداقية ما لأن بسط السيطرة في بتروجراد جاء على يد بضعة آلاف من الحرس الأحمر – ميليشيات العمال والجنود الثورية – وتم في غضون ليلة واحدة. إلا أن في هذا تجاهل لوجود دعم واسع لحركة الحرس الأحمر ما بين جماهير العمال، وكذلك حصول البلاشفة في ذلك الوقت على أغلبية في السوفيتات وفي لجان المصانع.
كما أن النقطة الفيصلية وراء استطاعة بضعة آلاف من الحرس الأحمر أن يستولوا على القصر الشتوي للقيصر ويلقوا القبض على أعضاء حكومة كيرينسكي دون أن تقمعهم قوات الدولة هو أن معظم الجنود والبحارة والعمال كانوا بالفعل قد انضموا للثورة تاركين حكومة كيرينسكي بدون حماية. وعلى كل المُتشككين أن يحاولوا أن يتخيلوا ما الذي سيحدث إذا حاول غدًا حزب له عدة آلاف عضو في أي حزب أن يزحفوا على البرلمان أو قصر باكنجهام للاستيلاء عليه بدون وجود تأييد شعبي عميق لحركتهم؟
أما الحجة بخصوص سلوك البلاشفة “الاستبدادي” في الحكم فهي، رغم أن بها قدر من الصواب، أُحادية الطرف. بالفعل لقد تصرف البلاشفة في الحكم بنوع من الاستبداد – فمنعوا مثلا تشكيل أحزاب المعارضة. ولكن مسألة السياق الذي تم فيه ذلك تمثل كل الفارق في التحليل. فإذا قلت أن ثوري شهير يعتبر نفسه “صديقًا للشعب” أطلق النار على صدر شخص معادى فقد يبدو هذا الفعل بشعًا. أما إذا عرفنا أننا نتحدث عن جان-بول مارا الصحفي الثوري في الثورة الفرنسية وأن السيدة هي شارلوت كورداي المنتمية للثورة المضادة والتي كانت بصدد طعنه في قلبه بسكين فهناك فرق. (للأسف لم يكن مع مارا مسدس ليدافع عن نفسه ولقي مصرعه).
لم تكن سلطوية البلاشفة نابعة من العقيدة أو جزءًا من طبيعتهم ولكن جاءت نتيجة لظروف وجدوا أنفسهم فيها – ظروف حرب أهلية طاحنة قاتلوا فيها من أجل حياتهم وحياة الثورة. كما أنه من المهم أن نفهم أن الحرب الأهلية حطمت الاقتصاد الروسي تمامًا مما أدى إلى انخفاض الإنتاج إلى مستويات كارثية وبشكل دمر القاعدة الاجتماعية للثورة أي الطبقة العاملة الصناعية الثورية. وهكذا، للأسف، وجد البلاشفة أنفسهم معلقين في الهواء ومُجبرين على التصرف بطريقة ديكتاتورية.
كما لم تُدخل الحجة الأناركية عواقب الاختيارات السياسية المختلفة في حساباتها. فما هي تحديدًا الاحتمالات التي كانت واردة في روسيا في 21-1920؟ إحدى الاحتمالات التي كانت قائمة بشدة كان انتصار الجيش الأبيض التابع للثورة المضادة مما كان سيعني دون أدنى مجال للشك مذبحة من أفظع ما يكون للعمال والفلاحين والثوريين وظهور نوع من النازية الروسية. وأحد الاحتمالات الملموسة الأخرى كانت الديكتاتورية البلشفية.
هل كان من الممكن لديمقراطية صحية نابضة أن تنشأ في تلك اللحظات الفارقة؟ لا، لم تكن ممكنة، كما لم تكن ديمقراطية “عادية” برجوازية ممكنة أيضا. فالتناقضات الحادة والفقر المدقع والمجاعات حالت دون تحقق هذين الخيارين. هل كان من الممكن حدوث ثورة أناركية أو قيام مجتمع أناركي على السريع؟ لا،على الإطلاق! وفي مثل هذه الظروف لم يكن مستغربًا أن يجنح الثوار ومنهم شخصيات أقرب نظريًا للأناركية مثل فيكتور سيرج Victor Serge للديكتاتورية البلشفية بكل مساوئها كأقل الشرور بين الاختيارات المحدودة في تلك الفترة الحرجة.
وطبعًا يمكن المجادلة بأن الديكتاتورية البلشفية أدت إلى وقوع “أفظع المذابح للعمال والفلاحين والثوار” تحت حكم ستالين بعد عام 1928 إلا أن لفارق التوقيت كل الأهمية. لقد كان المخرج الوحيد أمام الثورة الروسية من مأزقها نشر الثورة عالميًا وكانت إستراتيجية لينين وتروتسكي تعتمد على التمسك بالسلطة على أمل تحقق مثل هذه الثورة. ولكن ما حدث هو أن الثورة العالمية هُزمت خاصة في ألمانيا في عام 1923، ونتيجة لذلك قامت ثورة مضادة شرسة داخل روسيا على يد ستالين. ولكن هذا لا يعني أن إستراتيجية لينين كانت بالضرورة خاطئة خاصة أن السبب الرئيسي لإخفاق الثورة في إيطاليا وألمانيا وغيرها من الأماكن يرجع لغياب أحزاب ثورية من النوع البلشفي.
إن مضاهاة اللينينية والبلشفية في الفترة من 1917-1923 مع نظام الدولة الرأسمالية الستالينية الذي تطور في ثلاثينيات القرن العشرين يعد بمثابة الخلط الخاطئ بين ثورة محاصرة ُمُشوهة، ولكن حية وتقاوم، مع ثورة مضادة مُنتصرة. ولو أن ثورة عمال قامت اليوم بقيادة حزب لينيني لوجدت نفسها في ظرف أفضل بكثير من ناحية التطور الاقتصادي وحجم الطبقة العاملة وفرص الانتشار في العالم. وسيكون في مقدورها انتهاج السبيل الذي تخيله لينين نفسه في 1917، حيث يستطيع الحزب اليوم أن يلعب دورًا قياديًا في ظل ديمقراطية سوفيتية صحية مُتعددة الأحزاب وسيكون للعمال فعلا قدرة أعلى على ضمان ذلك.
أسبانيا
إذا كانت الثورة الروسية تعد هي الأكثر أهمية بين الثورات في القرن العشرين فالثورة الأسبانية في 36-1937 تعد بين أقرب المنافسين لها. وفوق ذلك، أنها المرة الوحيدة في التاريخ التي شاركت فيها الأناركية في فوران ثوري وحازت بالفعل على دعم جماهيري واسع. فبحلول عام 1936 بلغ عدد أعضاء إتحاد النقابات الأناركية، وأسمه الاتحاد الوطني للعمل (CNT) ، مليون عضو وكان يمثل تيار ذات أغلبية ساحقة داخل الطبقة العاملة. لذلك يجوز أخذ الثورة الأسبانية كنموذج لاختبار الأناركية – اختبار رسبت فيه ليس بسبب عيب في العمال الأسبان الأناركيين الذين ناضلوا ببسالة وضحوا بأرواحهم ولكن بفعل العيوب المتأصلة في الأناركية كإستراتيجية ثورية.
بدأت الثورة الأسبانية في يوليو1936 كرد فعل على التمرد الفاشي للجنرال فرانسيسكو فرانكو ضد حكومة الجبهة الشعبية التي تم انتخابها حديثًا من ائتلاف للحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والبرجوازيين الجمهوريين.
ورغم عجز الحكومة الأسبانية فلقد نهض العمال الأسبان، ومعظمهم متأثرين بالأناركية، وتصدوا للفاشيين بشكل رائع. حاصر عمال مسلحون ثكنات الجيش في مدريد وبرشلونة ودعوا الجنود للعصيان ضد ضباطهم. وبعد يوم من القتال سقطت الثكنات في برشلونة ثم في اليوم التالي سقطت في مدريد. وفي ظرف أيام أستطاع العمال أن يبسطوا سيطرتهم الكاملة على المدن، وانبثقت لجان عمالية لتنظيم النقل والمؤن الغذائية والميليشيات والرعاية الصحية. وأرسلوا فيالق مسلحة إلى الريف لتأمين الغذاء ودعم حركة العمال الزراعيين. كان من شأن عملية التنظيم الجماعي لإدارة المجتمع انتشال الجميع من عقود من الاستغلال والقمع. ففي برشلونة، مثلا، تحسن وضع المرأة مقارنة بوضعها في أي بلد في العالم: تم إصدار قانون يسمح للمرأة بالحق في الإجهاض والتوعية بوسائل منع الحمل وتم تشريع نوع جديد من الزواج يخلو من الإكراه أو أي منع للطلاق. وكما لاحظ الكاتب البريطاني جورج أورويل George Orwell الذي كان حاضرًا وشاهدًا على الثورة:
“وفوق كل شيء كان هناك إيمان بالثورة والمستقبل وشعور بأننا دخلنا فجأة عصر من المساواة والحرية. حاول البشر أن يتصرفوا كبشر وليس كتروس في الماكينة الرأسمالية “.
كانت فرصة نجاح ثورة العمال هائلة إلا أن خطر الفاشية ظل قائمًا – فقد نجح فرانكو في السيطرة على جنوب غرب أسبانيا والجنرال مولا، فاشي آخر، كان يهاجم من الشمال – كما قامت حكومة الجمهوريين، التي ظلت، اسما على الأقل، في الحكم، بهجوم في منطقة كاتالونيا (قلب الثورة) ومدريد.
فماذا فعل القادة الأناركيين؟ (يلاحظ مرة أخرى الوجود الفعلي لمصطلح “قادة” أناركيين). لقد انضموا للحكومة – أولا في كاتالونيا في سبتمبر 1936 وبعد ذلك في مدريد في ديسمبر. لم يكن هذا عملا مناهضًا للمبادئ الأناركية فحسب بل ما هو أفظع منه إنه خيانة للطبقة العاملة والثورة فحكومة الجبهة الشعبية التي دخل فيها القادة الأناركيون كانت تعمل على الاحتفاظ بالملكية الخاصة والنظام الاجتماعي الرأسمالي وإعادة سلطة الدولة الجمهورية الرأسمالية. وبرر القادة الأناركيون ذلك بأنه يجب أن تكون هناك جبهة واسعة لكل القوى الديمقراطية (ويضم ذلك البرجوازية الليبرالية) في النضال ضد فرانكو، وأن مطالب الطبقة العاملة بالتغيير الاجتماعي الجوهري لا بد وأن تؤجل حتى يُهزم الفاشيين.
عبر هذا الموقف عن حقيقة أن انتصار الفاشية في النهاية كان بالنسبة لممثلي البرجوازية في الحكومة هو شر أقل من انتصار الطبقة العاملة وأنهم بالتالي لن يتعاونوا مع اليسار إلا بضمان لحقوقهم الملكية؛ أما بالنسبة للحزب الاشتراكي فكان هذا الموقف تعبيرًا عن رغبته القديمة جدًا في التعاون مع البرجوازية؛ وأما بالنسبة للحزب الشيوعي فكانت مشاركته في الجبهة نتيجة سياسة مفروضة من موسكو لعدم إثارة أي قلق عند الحكومتين الفرنسية والبريطانية بأن ستالين يغازل هتلر ضد الحلفاء في فترة بات فيها قيام حرب عالمية مسالة وقت.
وهكذا انضم القادة الأناركيون لحكومة الجبهة الشعبية وقبلوا تحمل المسئولية عن حكومة تسعى واعيًة للتضييق على انتفاضة الطبقة العاملة الأسبانية، كما قبلوا أيضًا تحمل المسئولية عن إستراتيجية لم تقدم أي دعم للكفاح ضد فرانكو بل حكمت عليه بالهزيمة. فلقد شنت حكومة الجبهة الشعبية الحرب ضد الفاشيين كحملة عسكرية تقليدية ولذلك صار من المؤكد أن فرانكو، المدعوم بآلة حرب موسوليني وهتلر، كان سيخرج منتصرًا في النهاية.
كانت الطريقة الوحيدة لانتصار العمال والفلاحين هي تحويل الحرب إلى حرب شعبية ثورية وإطلاق العنان لطاقة ومبادرة الجماهير واكتساب ولاء العمال والفلاحين في المناطق التي يسيطر عليها الفاشيون بالفعل كما بالقول، وإضعاف قواعد فرانكو في المغرب (التي كان ينظم الثورة المضادة من أراضيها) بمنح المستعمرة الاستقلال.
عارضت حكومة الجبهة الشعبية تطبيق هذا البديل بشدة ودعمتها في ذلك القيادة الأناركية التي مثلت تيار الأغلبية الساحقة في الحركة العمالية الأسبانية. والسؤال الحاسم هو لماذا تصرفت القيادة الأناركية على هذا النحو؟ هل كان انحرافا فرديًا محضًا أم كان نتيجة مواطن ضعف في طبيعة الأناركية؟ الإجابة على ذلك قدمته قيادات الاتحاد الوطني للعمل نفسها فأشاروا، في محاولة لتبرير أنفسهم، إلى الطبيعة الاستثنائية للموقف (التهديد الفاشي) وقدموا هذا التفسير:
كان علينا إما أن نتعاون (مع الليبراليين) أو أن نفرض ديكتاتوريتنا… ولا شيء أبعد عن الأناركية من فرض إرادتها بالقوة… لم نستولي على السلطة ليس لعدم قدرتنا على ذلك ولكن لأننا لم نرغب في ذلك لأننا ضد أي نوع من الديكتاتورية.
أي بعبارة أخرى، كان الوضع مثيرًا لليأس: الثورة المضادة على الأبواب ومقاومتها تتطلب قيادة وتنسيق وسلطة. وهذه السلطة لا يمكن أن تتمثل إما في دولة برجوازية أو دولة عمال، ديكتاتورية البروليتاريا. وهنا يصمم الأناركيون: بما أننا نرفض ديكتاتورية البروليتاريا فلا خيار لنا سوى التعاون مع الدولة البرجوازية!
هذا المنطق المتحجر المعمول به لا يقتصر على أسبانيا في عام 1936 لكنه انطبق وسينطبق مستقبلا على أي موقف ثوري حقيقي. دائمًا ما ستكون الثورة المضادة على الأبواب والخيار الواقعي دائمًا ما سيكون إما بين القوى البرجوازية أو العمال؛ ورفض ديكتاتورية البروليتاريا دائمًا ما سيعني الاستسلام في اللحظة الحاسمة. لذا فإن مثال فشل الأناركيين في الثورة الأسبانية، حين وصلت الأناركية كحركة جماهيرية إلى أعلى قمة في تاريخها، ليس بصدفة وإنما هو فشل يظهر قصور الأناركية القاتل كدليل ومرشد للعمل الثوري.
6. الأناركية اليوم
للأناركية اليوم، كما في الماضي، أشكال مختلفة كثيرة حتى بلغ تنوعها عددًا أمر يثير الحيرة (وطبعًا الشيء ذاته ينطبق على الماركسية). وبدلا من محاولة إعطاء نظرة عامة، لا يمكن أن تكون شاملة بطبيعة الحال، سنفحص اتجاهين، هما الأناركية كأسلوب حياة (Lifestyle anarchism (والاوتونومية أو أناركية الاستقلالية الذاتيةAutonomism ، وهما الاتجاهان اللذان صار لهما أهمية في السنوات الأخيرة ويمثلان قطبين متناقضين في داخل الحركة الأناركية. كما سأضيف ملحوظة عن “أناركية البرنامج” ثم أستكمل بالتعليق على بعض القضايا التكتيكية الرئيسية التي يميل الماركسيون والأناركيون للاختلاف عليها، تحديدًا مسائل العمل المباشر والمشاركة في الانتخابات واتخاذ القرارات ديمقراطيًا.
الأناركية كأسلوب حياة Lifestyle anarchism
أقصد بالأناركية كأسلوب حياة أيديولوجيا عائمة – أي لا تقوم على عقيدة محددة – تُعظم أو تُمجد الحياة داخل النظام الرأسمالي وفقًا لمبادئ الأناركية أو محاولة الحياة هكذا. وعادة ما يتمثل هذا في الابتعاد عن الوظائف بأجر والحياة بطريقة أو أخرى كجماعة في أماكن خالية بوضع اليد، حيث لا تُطبق القواعد “العادية” والبناء الهرمي للنظام. هذا ما يُطلق عليه أحيانًا الحياة “خارج” النظام ولكن بما أنه لم يعد للنظام الرأسمالي “منطقة خارجية” حقيقةً فمن الدقة أن نصف هذا النمط من العيش بالحياة في جيوب أو سراديب داخل النظام كما عبر عنها جون هولوواي John Holloway. وتوجد هذه الجيوب عادة في مناطق سكنية منخفضة الإيجار في أو ساط المدن كحي هاكني في لندن أو كرويتسبيرج في برلين ولكن أحيانًا تقام هذه المجتمعات الصغيرة في مناطق ريفية. وقد تُصاحب هذا النوع من الأناركية مجموعة من الأنشطة الثقافية والفنية – بما فيها فن “الكاباريه” والبهلوان وفنون السيرك الأخرى، الفن المرئي المعاصر، والموسيقى إلخ – وأنماط غذائية معينة، وعبادات وثنية وأشكال لروحانيات مُستحدثة.
تستبعد الأناركية كأسلوب حياة، بحكم طبيعتها، أي خطً أو سياسة أو إستراتيجية أو فلسفة سياسية مشتركة، إلا أن أحيانًا تنخرط هذه الجماعة أو عناصر في داخلها في عمل جماعي ومظاهرات وحملات وما شابه بما فيها مواجهات مع الدولة.
قدم الكاتب والناشط الأمريكي المخضرم موراي بوكشين Murray Bookchin نقدًا مفصلا عن الأناركية كأسلوب حياة من منظور الأناركية الاجتماعية ( (social anarchismالأكثر قربًا للاشتراكية. ويسوق بوكشين في كتابه بالتفصيل الحجج ضد مختلف نظريات ومنظري الأناركية كأسلوب حياة خاصًة الذين يحملون قناعات لا منطقية ومعادية للعلم، ويستنكر الظاهرة بأكملها واصفًا إياها بالبرجوازية الضيقة التي توفر “الآمان اللذيذ” لمتبعيها. ولا داعي لتكرار كل حجج بوشكين في هذا المقام لأنه من المنظور الماركسي هناك نقطتين في منتهى البساطة والوضوح توجه كنقد لهذا النوع من الأناركية.
النقطة الأولى، أن نظرية الأناركية كأسلوب حياة لا تقدم إستراتيجية أو رؤية لتغيير العالم، بل أنها لا تبذل أي جهد جاد لمحاولة تقديم مثل هذه الإستراتيجية. ويكاد لا يُطرح السؤال عن كيفية التغلب على سلطة رأس المال والدولة الرأسمالية، بدلا من التهرب منها، ناهيك عن الإجابة عليه. وأكثر ما يؤمل منها كما يبدو هو أن يجذب أسلوب الحياة الأناركي الناس أو غالبية منهم فيتبعونها في وقت آجل أو عاجل.
من غير الواضح إذا كان هناك فعلا من يؤمن بإمكانية نجاح هذا الاتجاه الأناركي في الانتشار إلا أنه لا بد وأن يقال أن هذا الأسلوب لا يفضي إلى أي شيء. فبالنسبة لقطاع كبير من الناس – من الطبقة الحاكمة والطبقة المتوسطة العليا المرتبطة بها ارتباطا وثيقًا ككبار المديرين والمسئولين في الدولة وغيرهم – لا يوجد أدنى احتمال أنهم سيتأقلمون مع أسلوب حياة الأناركية أو إيديولوجيتها، وللأسف هؤلاء تحديدًا هم من يسيطرون على الثروة والسلطة في هذا المجتمع. وعلى نحو مشابه، مع اختلاف الأسباب، من غير المحتمل أن تتأقلم أغلبية الطبقة العاملة مع هذا النمط في الحياة. فأغلب المنتمين للطبقة العاملة لا يحبون العمل المأجور – على اعتبار إنه عمل منفر ومكروه بالنسبة لهم حتى وإن لم يصفوه هكذا، إلا أن البطالة بلاء أكبر من العمل المأجور بالنسبة للأغلبية الساحقة لأنها تحكم عليهم وعلى أسرهم بالفقر البائس وتشعرهم بعدم أهميتهم. والدليل على هذا أنه كلما سمح الاقتصاد الرأسمالي بفرص العمل نجد أن عدد العاطلين يهبط إلى مستويات منخفضة جدًا.
بالإضافة إلى ذلك يجب القول أن حدس العمال في محله من ناحية قوتهم السياسية ومن ناحية المنظور الاجتماعي العام. فقوة الطبقة العاملة الاقتصادية والسياسية لا تكمن مجرد في أعدادهم ولكن، وبشكل حاسم، في قدرتهم على التنظيم في مجال الإنتاج لضرب أرباح مديريهم وفي النهاية لتشكيل مجالس عمال والسيطرة على عملية الإنتاج برمتها. ومن ثم، فمن شأن البطالة أن تضعف قوة العمال كأفراد وكجماعة.
كما أن أسلوب الحياة الأناركي لا يمكن تعميمه لأنه يعتمد بألف طريقة وطريقة على نظام العمالة بأجر– فكل مجموعة سكنية أو جماعة أناركية تستخدم هاتفًا أو محمولاً أو حاسوبًا أو سيارة أو حافلة أو قطارًا أو دراجة أو غاز أو كهرباء أو مياه جارية أو أدوات المائدة أو غيرها من الأجهزة المصنوعة التي لا حصر لها هي مرتبطة شاءت أم أبت بالعملية الإنتاجية الرأسمالية المعاصرة، فالمنظومة الرأسمالية أصبحت الآن معولمة بشدة ويمكن الاستيلاء عليها ولكن لا يمكن أبدًا لعدد مهما كان كبيرًا أن يختار الخروج منها.
وهذا يقود مباشرة إلى نقطة النقد الرئيسية الثانية لأناركية أسلوب الحياة وهي أن أسلوب الحياة الأناركي لا يمكن أن يدوم طويلا إلا لعدد قليل جدًا من الأفراد حتى وإن كان خيارًا تفضله أقلية (من باب التصور عن مجتمع مستقبلي). إن الأناركيون، مثلهم مثل الاشتراكيين وكل من في هذا المجتمع، هم مُنتج للرأسمالية وتم تشكيلهم اجتماعيًا تحت مظلة الرأسمالية ويتعرضون باستمرار لضغوط اقتصادية واجتماعية وأيديولوجية من الرأسمالية. وكلما كبُر الإنسان، وبالأخص إذا كان لديه أطفال (يتعرضون هم أيضًا للضغوط الاجتماعية) تزداد هذه الضغوط ولا تقل. وحتمًا لا بد لهذه الضغوط أن تضعف وتؤثر على التزام الأفراد بداخل المجتمع الأناركي وعلى مبادئ المجتمع ككل. وهذا سيحدث خاصة في حال انخراط أعضاء الجماعة في أنشطة صغيرة للتوظيف الذاتي أو الأعمال الريادية. ولذلك فالنموذج السائد لأسلوب الحياة الأناركي ينجح فقط كمرحلة مؤقتة في حياة قلة تعيش على هامش المجتمع الرأسمالي.
أناركية الاستقلالية الذاتية (الاوتونومية) Autonomism
الاوتونومية تيار سياسي كان له تأثير على الحركة العالمية المناهضة للرأسمالية. وعادة ما يؤرخ لهذه الحركة بدءًا من مظاهرات سياتل في الولايات المتحدة ضد منظمة التجارة العالمية في نوفمبر 1999، ووصل تأثيره إلى الذروة في مظاهرتي جنوة في يوليو2001 والمنتدى الاجتماعي الأوروبي بفلورنسا في سبتمبر 2002.
ينظر البعض للاوتونومية أحيانًا على أنها تيار ماركسي وذلك لرجوع الجذور النظرية لمفكريها الأساسيين، وهما ماريو ترونتي Mario Tronti وتوني نيجري Toni Negri، إلى الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI) ثم في مجموعة “قوة العمال” Potere Operaio اليسارية العصبوية في أواخر الستينيات. إلا أنه من ناحية نظريتها وممارستها الفعلية فقد كانت الاوتونومية أقرب كثيرًا للأناركية عنها للماركسية “الكلاسيكية” لماركس أو إنجلز (أو لينين وتروتسكي ولوكسمبورج).
تمحور اهتمام الاوتونومية في الستينيات (وكانت تعرف بـ”العمالوية” آنذاك) في كفاح العمال الصناعيين المناضلين على الإنتاج، خاصة في مصانع السيارات في شمال إيطاليا. كان هؤلاء يختلفون بشدة عن الإصلاحيين البرلمانيين وتكونوا من الحزب الشيوعي الإيطالي والقيادات التابعة له في الاتحادات العمالية والرافضة للصراع السياسي بين الأحزاب والاتحادات بشكل عام. وبلور ترونتي ونيجري ما سمي بـ”إستراتيجية الرفض” التي لم تحض على الإضرابات غير الرسمية فحسب ولكن كذلك على الأعمال التخريبية والغياب عن العمل، وهى الأفعال التي كان يُرى فيها رفضًا “ذاتيًا” من الطبقة العاملة للتعاون مع الرأسمالية من أجل إضعافها.
وفيما بعد، بعد قمع حركة العمال الإيطاليين في السبعينيات وحلول أزمة عامة في حركة اليسار الإيطالي الثوري، حول نيجري تركيزه من عمال الإنتاج الصناعيين إلى ما أسماه “العامل الاجتماعي” مع التركيز على العاطلين عن العمل وعناصر “مهمشة” أخرى. ثم بعد سجنه من قبل الدولة الإيطالية (بتهم خاطئة بالتورط مع منظمة الألوية الحمراء الإرهابية) كتب بالاشتراك مع مايكل هاردت Michael Hardt كتابين Empire (2000)وMultitude (2004) . وحظي العملين على قدر لا بأس به من النجاح لفترة ما وكان لهما تأثير واضح على الدوائر الراديكالية في أوروبا وأمريكا الشمالية. وأريد أن أتفحص فكرتين لنيجري، يشاركه فيهما العديد من الذين يعتبرون أنفسهم اوتونوميين أو أناركيين، يشوبهما أخطاء فاضحة بل والأدهى من ذلك أعتبرهما فكرتين ضارتين بشدة لليسار والحركة المناهضة للرأسمالية بمعناها الأشمل.
أولا فكرة أن رفض العمل بأجر هو عمل ثوري. لقد انتقدت هذه الفكرة من قبل بالنسبة لنظرية الأناركية كأسلوب حياة، إلا أن نيجري والاوتونوميين، وبالتحديد لأنهم كانوا في زمن سابق نشطاء راديكاليين، تطرفوا في دفع هذه الفكرة حتى بلغت حد الكارثة. فهم لم يركزوا فحسب في إستراتيجيهم على العاطلين بل رأوا أن من يعمل بأجر هو شخص متواطئ مع النظام الرأسمالي. يكتب نيجري في ذلك:
تظل بعض مجموعات العمال وبعض الفئات من الطبقة العاملة مرتبطة بعنصر الأجر… أي أنهم يحصون على دخلهم من عائد الإنتاج. وهم بذلك يسرقون وينتزعون القيمة الفائضة للبروليتاريا – ويشاركون في الخداع الاجتماعي للعمال ككل – على نفس طريقة الإدارة. لا بد من محاربة هذه المواقف – وممارسات الاتحادات العمالية التي ترعاها – بالقوة إذا لزم الأمر. وسيحدث، ولن تكون المرة الأولى، أن تدخل مسيرة للعاطلين على مصنع كبير لتحطم عجرفة أصحاب الدخول.
ولقد قامت هذه الفكرة، والتي طبقها بعض المناضلين من الشباب، بمهمة تقسيم الطبقة العاملة بالإنابة عن المديرين. وأدى ذلك في بعض الأماكن إلى وقوع مواجهات جسدية ما بين أنصاف الثوريين والمُنتمين للاتحادات العمالية كما أحدث الوقيعة بين أصحاب الوظائف والعاطلين.
وثانيًا، وانتقالا من فكرة “العامل الاجتماعي”، اقترح نيجري وهاردت مفهوم “الجمع” Multitude (على نقيض فكرة الطبقة العاملة). و”الجمع” مصطلح عائم جدًا ينطبق تقريبًا على كل من لا ينتمي فعليًا للطبقة الحاكمة ويشبه مصطلح “الشعب” القديم. ويبدو هذا للوهلة الأولى مقبولا إذ أن الاشتراكيين والأناركيين على حد السواء طالما إاستخدموا مصطلح “الشعب” بتعثر. غير أن الكثير من علماء الاجتماع البرجوازيين (وبعض الاشتراكيين) يعملون بتعريف أضيق أكثر مما يجب للطبقة العاملة إذ أنهم يحصرونها في العمال اليدويين فقط، بدلا من اعتبار كل من يتعيش من عمله في عداد الطبقة العاملة، ومُبعدين بذلك أصحاب الياقات البيضاء (العمال الذهنيين) من صفوف الطبقة، ومصورين بكل ذلك الطبقة العاملة في صورة طبقة في طريقها للانقراض في المجتمع المعاصر.
ومع ذلك ففكرة “الجمع” مغلوطة بشكل قاتل. فما يغيب عنها، بل ما تشوش عليه فعليًا، حقيقة أنه يوجد بين ضحايا الرأسمالية العالمية غير المعدودين طبقة خاصة، وهي تحديدًا الطبقة العاملة الأممية، والتي لديها مقدرة فريدة تستطيع من خلالها أن تتحدى النظام وتتغلب عليه. وتحديد الطبقة العاملة على هذا النحو هو حكم استراتيجي وليس أخلاقي. هو تحديد ليس قائمًا على اعتقاد أن العمال “أفضل” من غيرهم من الناس، أو تصور أن جميع العمال لديهم وعي اشتراكي، أو بناءًا على حنين رومانسي لماضي الحركة العمالية، ولكنه تحديد يستنتج من وضع العمال الاقتصادي كمصدر رئيسي لأرباح الرأسماليين وارتباطهم بمنابع الإنتاج الرئيسية في المجتمع وتركزهم العددي الهائل في أماكن العمل والمدن الكبيرة.
ولقد ظهرت مركزية الطبقة العاملة مرة أخرى في الثورة المصرية في عام 2011. فرغم مظاهرات الجماهير المصرية بالملايين واحتلالها الميادين والشوارع واستبسالها ضد الشرطة استمر مبارك بالتمسك بالسلطة. ولكن عندما انضم للمظاهرات موجة هائلة من الإضرابات العمالية من 9 إلى 11 فبراير دُفع الجنرالات الأوفياء لمبارك لاتخاذ قرار التضحية بالدكتاتور إنقاذًاً للنظام.
شكلت الطبقة العاملة منذ ولادتها من رحم الثورة الصناعية نقطة انطلاق والأساس الاجتماعي والمرتكز الإستراتيجي لأفضل عناصر اليسار، سواء كانوا اشتراكيين أو أناركيين أو تروتسكيين أو نقابيين. وبانزوائها عن هذه الركيزة، تهيئ الاوتونومية الساحة للتيه الإستراتيجي والوقوع في العديد من الأخطاء التكتيكية.
وينطبق الشيء ذاته على فكرة “البريكاريات” Precariat أو “غير المستقرون” التي بلورها مؤخرًا المفكر الاقتصادي جاي ستاندنج Guy Standing. ووفقًا لستاندنج فأن “الغير مستقرون” هم “طبقة جديدة وخطيرة” ويضعها في المقابل مع “البروليتاريا – الطبقة العاملة الصناعية التي بنيت عليها الاشتراكية الديمقراطية للقرن العشرين”:
تتكون هذه “الطبقة” من مختلف الناس الغير مستقرة في طبيعة حياتها، من الذين يعيشون حياة مبعثرة، يتناقلون ما بين وظائف غير دائمة، دون الحصول على أى خبرات وظيفية متجانسة؛ وتشمل هذه “الطبقة” ملايين الشباب المتعلم والمُحبط الذي لا يعجبه ما يراه، وملايين النساء المستغلات في أعمال قهرية، وأعداد متزايدة من الموصومين مدى الحياة بسوابق جنائية، والملايين الذين يصنفون “بأصحاب عجز”، والعمالة المهاجرة بمئات الملايين حول العالم.
ويزعم ستاندنج (مُخطئًا) أن الثورة المصرية والانتفاضات الحاصلة مؤخرًا في أسبانيا واليونان كلها تمت بقيادة البريكاريات، إلا أنه لا يدافع عن قضيتهم بقدر ما يستخدمهم كمجرد سلاح تهديد ليطالب الدولة بالإصلاح وتوفير دخل أساسي لكل الناس. ورغم أن ستاندنج نفسه ينتمي سياسيا ليسار الاشتراكية الديمقراطية ، إلا أن هذا لم يمنع العديد من الأناركيين والاوتونوميين أن يتبنوا مصطلحه الطنان وأن يستخدموه.
والخطأ الأساسي في هذه النظرية يكمن في أن من يُطلق عليهم البريكاريات هم في الحقيقة مجرد جزء من الطبقة العاملة بل ويمثلون نسبة الأقلية فيها (25% من السكان) وليسوا طبقة منفصلة مضادة للبروليتاريا، كما أنهم لا يشكلون بالتأكيد بديلا لها كأداة التغيير الاجتماعي أو الثورة. فمن ناحية، يتجاهل تعريف ستاندنج الضيق للبروليتاريا على أنها تضم فقط العمال الصناعيين حقيقة أن حتى حياة نسبة كبيرة من العمال تمتلئ بعدم الاستقرار الشديد خاصًة في فترات الركود وانتشار البطالة. ومن ناحية أخرى، فالطبقة العاملة لا تقتصر فقط على العمالة الصناعية أو اليدوية لكنها تشمل كذلك العمال ذوى الياقات البيضاء. إن الطبقة العاملة تشمل كل من يتعيش من عمله مقابل أجر سواء كانوا عمال حديد وصلب أم مدرسين، أو عمال إنشاءات أو مبرمجين كومبيوتر، أو عمال في متاجر أو ممرضات أو حتى أطباء حكوميين.
وبالنتيجة، فمحاولة اعتبار ما يسمى بالبريكاريات أو غير المستقرين بأنهم القاعدة الإستراتيجية لحركة التغيير الاجتماعي هو بمثابة شق لصفوف الطبقة العاملة، واقتصار للحركة على أقلية بداخل الطبقة العاملة والمجتمع وفصلها عن الأغلبية المنظمة في الطبقة التي تمتلك القوة الاقتصادية والقدرة الأكبر على ضرب الرأسمالية في مقتل وذلك بوقف عملية الإنتاج. فلقد وصف ماركس البروليتاريا بأنها “الحركة الواعية بنفسها، الحركة المستقلة للأغلبية الساحقة والتي تعمل لصالح هذه الأغلبية” – وهنا تكمن قدرتها على الانتصار. أما وضع الحركة في أيدي أقلية فهي مرة أخرى وصفة للفشل.
وقال نيجري وهاردت أيضًا في كتابهما الإمبراطورية Empire أن الدولة فقدت أهميتها كبؤرة للقوة الرأسمالية. فقد أنتجت العولمة ما أسموه بالـ”المسطح الناعم” للقوة الرأسمالية الخالصة حيث فقد الصراع الإمبريالي بين الدول القومية الأهمية. لم تكن هذه المقولة موفقة من حيث التوقيت، إذ جاءت قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001 مباشرة وما تلاه من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، إلا أنه يجب التأكيد على أنها كانت خاطئة في كل الأحوال. على أبسط المستويات لا يمكن لشركات موبيل للنفط أو جنرال موتورز للسيارات (وغيرها من الشركات العملاقة) أن تتاجر ولا ليوم دون مساندة من دولها القومية وجيوشها المسلحة – وإلا نهبها الفقراء. أما على مستوى الاقتصاد الدولي فأن أكثر من 90% من أضخم 200 شركة عالمية يوجد لهم مقر وطني محدد وروابط وثيقة مع أجهزة دولة قومية بعينها. وكما يقول الشعار “لا يمكن أن توجد شركة مكدونالدز (للهمبوجر) دون وجود شركة ماكدونالد دوجلاس (لصناعة السلاح)”.
إن خطأ التقليل من أهمية الدولة تضاعف عندما خطى جون هالوواي خطوة إضافية في كتابه “غير العالم بدون الحصول على السلطة Change the World Without Taking Power والذي نشر في عام 2002. ففي حين رأى نيجري أن أهمية الدولة تتضاءل في عصر الإمبريالية الحالي، اعتبر هولوواي أن التركيز على الدولة هو الخطأ الأصلي والمستمر للحركة الاشتراكية بأكملها منذ بدايتها. ففكرة الاستحواذ على سلطة الدولة التي يسعى إليها الإصلاحيون والثوريون والاشتراكيون الديمقراطيون والبلاشفة والشيوعيون والتروتسكيون على حد سواء خطأ في حد ذاتها لأن جهاز الدولة بطبيعته سلطوي وقمعي و”الاستحواذ” عليه لن يفضى سوى إلى تكرار القمع التي قامت الثورة لتقضي عليه. وينادي هولوواي بدلًا من التركيز على الاستحواذ على سلطة الدولة بإستراتيجية تعتمد على إقامة قواعد سلطة “مستقلة” عن الدولة، كما فعل ثوار الزاباتيستا Zapatista في ولاية شياباس Chiapas بالمكسيك في أبان انتفاضتهم الشهيرة في 1994 ضد قمع الدولة المركزية للسكان الأصليين.
قد يكون لهذا الطرح وجاهته كنقد لممارسات أحزاب العمال الإصلاحية وغيرهم من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يلهثون دومًا من أجل التحكم في جهاز الدولة البرجوازي، ولكن يغيب عنه نقطة جوهرية أصر عليها ماركس بعد كومونة باريس في 1871 وطورها لينين في كتاب “الدولة والثورة” عام 1917 – وهي أن الطبقة العاملة لا تستطيع ببساطة أن “تستحوذ” على جهاز الدولة البرجوازية وتطويعه لمصالحها، إنما عليها أن تحطم الجهاز القديم وتقيم دولة من نوع جديد.
ولكن كإستراتيجية بديلة للتغيير، يفتقر طرح هالوواي (إقامة قواعد سلطة مستقلة) للعملية. بالفعل كان لتمرد الزاباتيستا أثرًا ملهمًا واسعًا في لحظة تاريخية محددة كانت فيها المقاومة على المستوى الدولي في حالة سكون نسبى وكان قادة العالم يهنئون بعضهم البعض في نشوة انتصارهم بعد سقوط الشيوعية في بداية التسعينات من القرن الماضي. لكن الزاباتيستا لم يفلحوا في تغيير المكسيك، ناهيك عن تغيير العالم. وبالإضافة إلى ذلك فما كان بالإمكان عمله في أدغال شياباس لا يصلح تنفيذه في مدن ساوباولوأو بوينس أيريس أو القاهرة أو أي مكان في العالم الرأسمالي المتطور. فالآن لم يعد يوجد مكان خارج نطاق ذراع الدولة ولم يعد هناك بقعة يمكن أن تحافظ على استقلاليتها للأبد إذا كانت تمثل تهديدًا للسلطة الرأسمالية. فمن الممكن أن نحاول أن نتجاهل الدولة ولكن هذا لا يعني أن الدولة ستتجاهلنا.
يقدم جون هولوواي منظوره لعدم الحاجة للاستيلاء على السلطة بمزيد من البلاغة الثورية الشاعرية عن رفض إعادة خلق الرأسمالية بعملنا والاحتفال بالتصدعات داخل النظام، إلا أن الحقيقة هي أن هذه الإستراتيجية تعتبر إصلاحية وليست ثورية، بل وتوفر غطاءًا راديكاليًا لكل أنواع المنظمات غير الحكومية ومجموعات الضغط والحملات الاجتماعية التي تود قطعًا تفادي المواجهة مع الدولة إما لأن الدولة تمولها أو لأنها لا تستهدف الإطاحة بالرأسمالية على الإطلاق.
أناركية البرنامج Platform anarchism
إن أناركية البرنامج ظاهرة محدودة ولكنها مثيرة للاهتمام. ولقد استوحى أسمها وأفكارها من “البرنامج التنظيمي للشيوعيين التحرريين”16 الذي كتبه في عام 1926 نستور ماخنو وبيوتر أرشينوف Piotr Arshinov وأناركيين روس آخرين من مجموعةDielo Trouda (قضية العمال) في المنفى في باريس؛ ولأناركية البرنامج أهمية معاصرة لتأثيرها على عدد من المجموعات الأناركية الصغيرة اليوم بما فيها حركة تضامن العمال في أيرلندا والاتحاد الشرقي-الشمالي للشيوعيين الأناركيين في شمال أمريكا.
كما يمثل البرنامج التنظيمي نتاج خبرة مؤلفيه في الثورة الروسية وهو شديد التأثر بها. وعليه يُرجع البرنامج أسباب ضعف الأناركية قبل كل شيء إلى غياب مبادئ مترابطة خاصة بالتنظيم السياسي:
الأناركية ليست فكرة طوباوية جميلة، ولا هي فكرة فلسفية مجردة؛ إنها حركة اجتماعية للجماهير العاملة. ولهذا السبب عليها أن تجمع قواها في منظمة واحدة وتقوم بالتحريض المستمر حسب ما يمليه الواقع واستراتيجية الصراع الطبقي.
تعوزنا بشدة منظمة تقوم، بعدما تُجمع غالبية القوى المشاركة في الحركة الأناركية، بتأسيس خطًا سياسيًا عامًا وتكتيكيًا في الأناركية يصلح ليكون دليلاً للحركة بأكملها.
والأسلوب الوحيد الذي يأتي بحل لمشكلة التنظيم العام، في نظرنا، أن يتم حشد المناضلين الأناركيين الناشطين لوضع أساسًا لمواقف محددة: نظريًا وتكتيكيًا وتنظيميًا، أي أساسًا لبرنامج متناسق بما يتسم به من كمال أو نقصان (التشديد في الأصل).
إنها سطور مدهشة حين تخرج من أفواه الأناركيين، فما هي “منظمة واحدة” ذات “خط سياسي عام وتكتيكي” و”برنامج متسق” بناءًا على “مواقف محددة” غير حزب بل وحزب وفقًا لتصورات لينين؟
والأكثر منها دهشة ما يقوله البرنامج، وبالتفصيل، في جزء بعنوان “الدفاع عن الثورة”:
إن الثورة الاجتماعية، المُهدِدِة لامتيازات الطبقات غير العاملة في المجتمع بل ولكيانها ذاته، ستدفع هذه الطبقات لا مَحالة إلى مقاومة يائسة ستأخذ شكل حرب أهلية شرسة…
وكما أظهرت التجربة الروسية فحرب أهلية كهذه لن تدوم مجرد بضعة أشهر ولكن عدة سنوات. مهما كانت خطوات العمال الأولى مليئة بالبهجة في بداية الثورة ستتمكن الطبقات الحاكمة من المقاومة لفترة طويلة وبقدرة فائقة. لسنوات طويلة سيشنون الهجمات على الثورة لمحاولة إعادة السلطة والامتيازات التي ضاعت منهم. سيتصدون للعمال المنتصرين بالجيوش العظيمة والتقنيات والاستراتيجيات العسكرية والمال …
لذا يتوجب على العمال، حفاظًاً على مكاسب الثورة، تكوين منظمات للدفاع عن الثورة حتى يواجهوا الهجمات الرجعية بقوة قتالية ضاربة تتناسب مع حجم المهمة…
… كحال كل الحروب، لا يمكن للعمال شن حرب أهلية بنجاح إلا مع تطبيق المبدأين الأساسيين للعمل العسكري: وحدة خطة العمليات ووحدة القيادة العامة. اللحظة الأكثر حسمًا للثورة ستأتي عندما تهجم البرجوازية على الثورة بقوة منظمة. إنها لحظة حاسمة تفرض على العمال تبني هذه المبادئ للإستراتيجية العسكرية.
ومن ثم، فبالنظر إلى الضروريات التي تفرضها الإستراتيجية العسكرية وأيضًا إستراتيجية الثورة المضادة، فعلى قوات الثورة المسلحة أن تعتمد بالتالي على جيش ثوري عام بقيادة مشتركة وخطة عمليات…
لقد عرضت هذا الاقتباس المطول من البرنامج تحديدًا لأنه من المدهش قراءة هذه السطور من أقلام معلنة لأناركيتها. فها هم يعترفون بأساس حجة الحزب كما واعترفوا كذلك، من واقع تجربتهم في الثورة الروسية أي من واقع ثورة حقيقية، بأساس الحجة الماركسية الداعمة لضرورة بناء دولة عمال للدفاع عن الثورة.
المؤلفون (وتلاميذهم المعاصرين) ينكرون هذا التطابق، بالضبط كما ينكرون أن “المنظمة الواحدة” ذات “برنامج متسق” هي حزب، إذ أنهم، كما يقولون، رافضون “للمبادئ” الخاصة “بالدولة” و”السلطة”. ولكن لا فائدة من الإنكار. فأساس الدولة، كما أصر إنجلز ولينين، هي تحديدًا “هياكل من الرجال المسلحين”. فسواء أعجبنا الأمر أم لا، فإن تكوين جيش من العمال الثوريون “ذو قيادة موحدة” يعني تكوين دولة، كما يعني أيضًا وجود قدرًا من السلطة على أرض الواقع. ولن يُجدي التلاعب بالكلمات للتحايل على هذه الحقيقة وهذا التطابق مهما كان.
يستطيع الماركسي إلى حد بعيد أن يقول للرفاق الأناركيين أصحاب توجه البرنامج أنكم أدركتم أشياءً مهمة – عن ضرورة وجود منظمة واحدة على أساس برنامج متسق، وضرورة التعامل مع الثورة المضادة العنيفة والحرب الأهلية، إلخ. إلا أن هذا ببساطة لا يمكن أن يندرج تحت الإطار الأناركي. الأفضل كثيرًا أن يتم البناء عليه من خلال إعطاءه أساسًا نظريًا جادًا بواسطة المادية التاريخية لماركس وإدخاله في النظرية الماركسية عن الدولة والحزب، وكلاهما أكثر تطورًا وأكثر عمقًا، وما هو أهم، أكثر ديمقراطية، مما قد يدرك العديد من الأناركيين.
الفعل المباشر Direct Action
من القضايا التي كثيرًا ما أختلف حولها الماركسيون والأناركيون على امتداد الحركة هو اللجوء لاستخدام تكتيك “للفعل المباشر”. وإعطاء تعريف محدد “للعمل المباشر” ليس بالأمر السهل لأن المصطلح يستخدم لنطاق واسع من التكتيكات ولكنه بشكل عام يشير إلى الاحتجاجات أو أعمال المقاومة التي تخرق القانون الرأسمالي أو تتحداه كالاعتصامات في الشارع وتعطيل الطرق الرئيسية واحتلال المباني وكسر النوافذ وغيرها من الاعتداءات على الأملاك الخاصة. وقد يُستخدم العنف في الفعل المباشر وقد يكون فعل مباشر سلمى. من الواضح أن أشكال الفعل المباشر يُمكن استخدامها وكانت مًستخدمة من قبل العديد من القوى السياسية والاجتماعية المختلفة من حركة الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة في الستينات إلى المتظاهرين المناهضين للرأسمالية في جنوه في إيطاليا في 2002 إلى طلبة لندن. والعمال المضربين والذين يحتلون أو يحاصرون مواقع العمل يقومون نوعًا ما باستخدام تكتيك الفعل المباشر. واليمين المتطرف والفاشيون أيضا قد ينخرطون في الفعل المباشر كما يحدث عندما تستهدف “عصبة الدفاع الانجليزي” الفاشية الجوامع على سبيل المثال.
فكيف لهذه القضية أن تشق بين الماركسيين والأناركيين؟ الأمر بالتأكيد لا يتلخص في أن الأناركيين يؤيدون الفعل المباشر وأن الماركسيين يعارضونه – على العكس فقد تعددت المناسبات التي أيد فيها الماركسيون الفعل المباشر وقاموا به. إلا أن هناك فرق. فالأناركية تميل إلى الهوس بالفعل المباشر وتتمسك به مًستبعدة أشكال أخرى من العمل وتميل للانتقاص من الأشكال الأخرى للاحتجاج. ويصاحب هذا ميل لإعلاء شأن استخدام طرق الإثارة والمخاطرة والشجاعة التي تشد الأنظار في العمل المباشر فوق متطلبات إشراك الجماهير في النضال وحشدها. أما الماركسيون، وعلى العكس، يرون في استخدام العمل المباشر تكتيكًا يُلجأ إليه فقط عندما يخدم الهدف الأساسي وهو رفع ثقة جماهير الطبقة العاملة ووعيها ونضاليتها.
لا يمكن طبعًا أن تكون هناك قاعدة مطلقة في إست خدام تكتيك الفعل المباشر فالحكم يكون حسب الظروف على الأرض وكلنا نخطئ أحيانًا. إلا أن رأيي بشكل عام أن النهج الماركسي للعمل الجماهيري يظل هو النهج الصحيح. فيوجد في الإعلاء من دور العمل المباشر لأقليات صغيرة سوء تقدير لمدى بطش وقوة النظام وجهاز الدولة التابعة له. مثلا، أثبتت فكرة المجموعة الإيطالية توتي بيانكي Tute Bianchi (الاوفرول الأبيض) أنه بالإمكان التغلب على الشرطة أو حتى تحجيمها بتطوير تكتيكات خاصة لحرب الشوارع (برداء مُبطن، إلخ) أنها وهم تام عند تجربتها في جنوه في 2002. فالدولة لا تملك مجرد جهاز شرطة بهراواته وخيله وكلابه وغازه المسيل للدموع، ولكنها تملك أيضًا أسلحة نارية وجيش بمدفعية ودبابات. والطريقة الوحيدة لمواجهة آمنة مع الشرطة في الصدامات في الشارع تكون بالتفوق على عددها كما حدث في الثورة المصرية مؤخرًا، والطريق الوحيد لهزيمة الدولة الرأسمالية ككل هي مواجهة ملايين العمال لها حتى تنكسر من الداخل.
ويكون للمظاهرات المليونية، حتى إذا كانت سلمية تمامًا وحتى إن لم تنجح في إحداث تغييرًا في سياسة الحكومة، دور مهم في الحركة. فبالنسبة للكثير من العمال تكون هذه المظاهرات هي أول تعريف لهم بالسياسة وأول تجربة في العمل الجماعي، وقد يكون لها تأثير قوي في التثوير. كما تعطي هذه التعبئة الناس شعور بقوتهم كجماعة متجاوزين العزلة والتفتيت الذي يحاول النظام أن يفرضه. فلا بد أن تكون هناك أشكال للعمل يستطيع أن يشارك فيه ناس مازال وعيهم يتطور ويخطون أولى خطواتهم، التي قد تكون مُهتزة، نحو المشاركة في الحركة. كما أن للمظاهرات الكبيرة أثر دعائي مهم، على المستوى الدولي والمستوى القومي على حد سواء. فمثلا عندما تظاهر عدة ملايين في الغرب ضد الحرب على العراق في 2002-2003، ورغم أنهم لم يمنعوا حدوثها، أرسلوا برسالة مهمة إلى الشرق الأوسط بأن جماهير الناس العادية في الغرب غير مؤيدة للعدوان الإمبريالي لحكوماتهم. وهذه المظاهرات ساعدت اليسار في الشرق الأوسط على المجادلة ضد أطروحات الإسلاميين والتيارات الإرهابية المعادية للغربيين عامًة، وخلقت أساس هام للتضامن الأممي المستقبلي.
وعلى النقيض، قد يؤدي الهوس بالفعل المباشر إلى الفصل بين الأقلية المتحمسة والأغلبية الأقل حماسًا. وقد تنفصل الأولى عن الأخيرة وتتوهم بأن الأعمال الدرامية لمجموعة صغيرة من داخل الحركة هي فقط التي تحدث التأثير. وهذا النوع من الخلط قد يدمر الحركة. ويجب هنا التأكيد على إن الثورة عملية تحرر ذاتي لملايين من الطبقة العاملة ولا يوجد لها اختصارات. ولهذه الأسباب يجب أن يكون لحشد جماهير الطبقة العاملة الأولوية في كل الأوقات.
المشاركة في الانتخابات
يرفض كل الأناركيون تقريبًا المشاركة في الانتخابات النيابية والانتخابات الرسمية الأخرى، ويعتبرونها نشاطًا سياسيًا برجوازيًا بامتياز وعملية فاسدة ومُزيفة – فرأس المال والأثرياء يظلون هم المُسيطرون على المجتمع الرأسمالي بغض النظر عن من يفوز في الانتخابات – ولذا فالأناركيون ينظرون للمشاركة في الانتخابات على أنها بمثابة “الاعتراف” بالدولة الرأسمالية البغيضة. وتشاطر الماركسية الأناركية نفس انتقاداتها بالنسبة للديمقراطية البرجوازية، نافيةً إمكانية أن تقود سكة البرلمان إلى الاشتراكية أو التغيير الثوري. وتستهدف الماركسية إزاحة ثورية للبرلمان البرجوازي واستبداله بمجالس عمالية، ولكنها، مع ذلك، تؤيد المشاركة في الانتخابات النيابية حسب الظرف.
وبما أنه يجب أن يكون الثوار منخرطين طوال الوقت في النضال لتوعية الطبقة العاملة ضد تأثير الإعلام الرأسمالي والأحزاب السياسية الرأسمالية والأحزاب الإصلاحية، لذلك فإن الانتخابات البرجوازية هي أرضية هامة يجب أن تخاض عليها هذه المعركة. ورغم أن الانتخابات البرجوازية ليست على الإطلاق هي الأرضية الأهم في النضال من أجل محاربة التأثير الأيديولوجي الرأسمالي – حيث أن معارك النقابات العمالية والإضرابات مثلا أهم بكثير – إلا أنه لا يجب تجاهل الانتخابات. قد لا يخدع النظام البرلماني العناصر المتقدمة بين العمال ولكنه من المؤكد أن ملايين العمال ينخدعون في الانتخابات حتى من فيهم يدعي أنه متشكك في جدواها. وهذا يعنى أنه في أوقات الانتخابات ينصب اهتمام الناس على السياسة أكثر من الأوقات العادية ومن ثم فالمُرشحين في الانتخابات تكون لديهم فرصة مهمة لتوصيل الأفكار الاشتراكية لجمهور عريض من العمال والفقراء.
وإذا تم انتخاب مرشحين من الاشتراكيين الثوريين إلى مجالس محلية أو برلمانات قومية تزداد فرصة الدعاية الاشتراكية الفعالة بشكل كبير – ليس فقط الدعاية عن طريق المنشورات والخطب (داخل الغرف وخارجها) ولكن أيضًا عمليًا عن طريق دعم النواب الاشتراكيين للإضرابات والذهاب إلى خطوط العمال المضربين والمشاركة في الاحتلالات والاعتصامات والإضرابات، وتعلم كيف يتم فضح وتفنيد الديمقراطية المُصطنعة للمَكلَمة البرلمانية من الداخل. ولا يمكن، كما قلنا، أن نغير البرلمان ليصبح كيان يعمل من أجل الطبقة العاملة والشعب، إلا أن من الممكن للثوريين أن يعمل بداخله كمدافع عن مصالح الشعب أمام الشعب.
سيقول البعض، أناركيين وغيرهم من الناس الذين سئموا الأكاذيب والنفاق والرشوة البغيضة للسياسات البرجوازية اليومية (وهذا حال كل بلد رأسمالي)، أن لحظة دخول الثوري الصادق إلى النظام البرلماني الفاسد لا مناص من أن تُفسده هو أيضًا. وطبعًا يوجد خطر حقيقي لحدوث ذلك، كما قد يحدث مع بعض الأفراد الذين يُنتخبون لمناصب رسمية في النقابات العمالية، لأن النظام الرأسمالي يمارس ضغوط كبيرة على الناس ليتوافقوا ويتواءموا معه. فالبرجوازية تمتلك عقود من الخبرة في إفساد ممثلي الطبقة العاملة. ولذلك فعلى الحركة الاشتراكية الثورية أن تتخذ احتياطاتها حتى لا يتم التخلي عنها وعن مبادئها أثناء العمل داخل البرلمان، وأن تتأكد من أن مُرشحيها يظلون على وعي وحصانة ضد الضغوط التي سيتعرضون لها، وأن ترسي آليات لمحاسبة النواب الثوريين أمام القواعد الجماهيرية. وأهم شيء أن تتأكد الحركة الاشتراكية الثورية والحزب من أن يظل مركز ارتكازها وتركيزها الأساسي على النشاط السياسي خارج البرلمان، في الصراع الطبقي في مواقع العمل والجامعات والأحياء.
مع اتخاذ هذه الاحتياطات، لا يعد من وراء الخيال أن تجد الحركة الثورية الكوادر ذات العزم السياسي لخدمة الثورة والطبقة العاملة في القلعة البرلمانية للنظام الرأسمالي ذاته. وبالفعل قد أثبت التاريخ أن هذا الأمر ممكن. ونجد مثالًا بارزا على ذلك في شخص كارل ليبكنشت Karl Liebknecht، رفيق الكفاح لروزا لوكسمبورج في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، قد أنتُخب في الرايشستاج (البرلمان) الألماني وعارض فيه الحرب العالمية الأولى، ولعب دورًا قياديًا وأستشهد في الثورة الألمانية في 1919. ونجد مثالًا أخر في برناديت ديفلن Bernadette Devlin النائبة المنتخبة في البرلمان الإنجليزي في 74-1969 عن منطقة ميد ألستر Mid-Ulster التي اعتقلت لمشاركتها في معارك حركة فري ديري Free Derry في أيرلندا الشمالية ضد الاضطهاد البريطاني للأقلية الكاثوليكية والتي لَكَمت وزير حكومة المحافظين ريجينالد مودلينج Reginald Maudling في بيت العموم بعد مجزرة الأحد الدامي عام 1970. وهناك شخصيات عديدة أقل شهرة لعبت دورًا ثوريا يخدم الحركة الاشتراكية من خلال البرلمان.
ومشكلة الموقف الأناركي في عدم الترشح للانتخابات هو إخلاءُه هذه الساحة السياسية بأكملها للبرجوازية وحلفاؤها الأوفياء في الطبقة العاملة والأحزاب الإصلاحية. وهم بهذه الطريقة يساعدون الإصلاحيين الذين يغدرون بالطبقة العاملة في أي مواجهة حاسمة والذين ينشرون الأفكار البرجوازية يوميًا بين الناس ليظلوا مُتحكمين في وعي الطبقة العاملة. والأسوأ أنه عندما يشعر العمال بخيبة أمل من جراء خيانات حكومات من النمط الإصلاحي لهم، كما سبق وحدث مرارًا وتكرارًا، يصبح هناك خطر كبير، في حال غياب بديل يساري، أن تتجه الناس في الانتخابات للأحزاب اليمينية والفاشية. ومن تجربة هتلر في الثلاثينات من القرن الماضي حتى صعود أسهم الأحزاب الفاشية في اوروبا في العقود الأخيرة، أظهر الفاشيون إجادتهم للجمع بين ممارسة السياسة البرلمانية مع السياسة خارج البرلمان. ولا يمكن لليسار الثوري أن يغسل يداه من الانتخابات ويترك لهم هذا المجال لنشر سمومهم بدون تديم بديل ثورى.
اتخاذ القرارات في الحركة
لتنظيم أي إضراب أو حملة أو مظاهرة أو اجتماع بشكل ناجح يجب اتخاذ قرارات ما، فهذا أمر لا مفر منه. يكون نطاق بعض هذه القرارات ضيق وطابعها تنفيذي إلى حد بعيد – من قُبيل تحديد موعد اجتماع في الساعة 7 أو 8 مساءً؟ ولكن كثيرًا ما يتعلق الأمر بقضية مبدئية – هل تعتبر هذه الحملة داعمة لحقوق الأقليات أم لا؟ وأحيانًا يبدو مثل هذا السؤال تنظيمي بسيط، إلا أنه يمكن أن يترتب عليه تداعيات سياسية وإستراتيجية أوسع. فمثلًا، قد يدور النقاش عن مسار وتكتيكات مظاهرةً ما، إما أن تظل سلمية تمامًا أم تخاطر بالانتهاء بمواجهات مع الشرطة. وأثناء تنظيم أي مُؤتمر يجب اتخاذ قرارات خاصة بجدول الأعمال والمتحدثين، إلخ، فكيف يتم اتخاذ القرارات الهامة؟
هناك أسلوب يُتبع بإفراط في الحركات الراديكالية وهو أن تكون الكلمة العُليا في كل شيء لشخص صاحب “كاريزما” أو هيبة. هذا لا يجب أن يقبله الماركسي ولا الأناركي. فالأسلوب المُتبع تقليديًا في الطبقة العاملة والحركة الاشتراكية هو الانتخاب الديمقراطي، فهو يسمح بطريقة أو أخرى بتفويض قدر ما من السلطة للـ”قيادات” وللـ”مسئولين” مع التمسك بالمبدأ الأساسي أن القرار للأغلبية. وفي السنوات الأخيرة مال العديد من الأناركيين والاوتونوميين إلى أن تتم عملية اتخاذ القرارات عن طريق التوافق – فلا يعتبر قرارًا ساريًا على الجميع سوى ما أتفق عليه كل المشاركين في الحملة (أي الحاضرين في الغرفة في ذلك الوقت بالتحديد). فأي من هذين الأسلوبين هو الأفضل؟
لا شك أن اتخاذ القرار بالتوافق بين المشاركين هو الأسلوب الأمثل – في حال توافق الآراء. أو قد يكون الأفضل عندما يتوفر قدرًا كافيًا من الاتفاق في الرأي ليتم التوافق في زمن معقول. ولكن تقع الكارثة عندما لا يوجد توافق على موضوع هام وتبدو الأمور كأنه لا يمكن أن يتم التوصل إليه. ولقد حدثت مواقف من هذا القبيل وستكرر مرة بعد أخرى في أي حركة حية. ويصبح عدم الوصول إلى توافق في لحظات معينة كارثة لأنه بدون حسم القرارات فنحن لا نستطيع تنظيم مظاهرة دون تحديد مكان التجمع وتوقيته أو مؤتمر دون حجز القاعة مسبقًا؛ أو قد يُتخذ القرار ولكن بعد إنهاك جانب للجانب الآخر بنقاشات لا نهائية (وهذا يعطي ميزة كبيرة لغير الملتزمين بمواعيد عمل في الصباح التالي). كما أن أسلوب”التوافق” يسمح لأقلية صغيرة متصلبة الرأي في صد وإحباط أغلبية كبيرة فتفشل حملة أو مظاهرة أو فعالية ما.
واتخاذ القرارات عن طريق الانتخاب أيضًا له عيوبه. فقد يتم تزويرها أو التأثير عليها بطريقة غير نزيهة، كما قد يتم تجاهل القرارات عند التنفيذ. ومع ذلك، فالانتخاب الديمقراطي يظل من ألأساليب الأساسية في حركة الطبقة العاملة. وسأعطى مثالين للتوضيح: المثال الأول افتراضي إلا أنه يحدث يوميًا في حياة الحركة العمالية.
خمسمائة عامل من موقع عمل “أ” مضربين عن العمل ومطلبهم زيادة في الأجر بنسبة 10%. وبعد أسبوع يعرض أصحاب العمل زيادة 5% وتنصح النقابة العمال بقبول العرض على أساس أن هذا أفضل ما يمكن التوصل إليه في اللحظة الراهنة. فينقسم العمال: من بين الـ500 يقبل حوالي 100 العرض بلا تردد، ولكن يظل تقريبًا 100 آخرين مُصرين أن يستمروا في النضال مُعتقدين أن الحصول على المزيد ممكن. فكيف تُحسم القضية حيث لا يتوافر أي أمل في التوصل إلى “التوافق” بين القطبين المتمسكين بموقفهم؟ إذا تصرف كل واحد حسب رغبته سيتفتت الإضراب وستحل الهزيمة. كلا! يجب هنا اللجوء إلى التصويت. سُيفضل أصحاب العمل الاقتراع بالبريد حتى يُدلي العمال بأصواتهم من منازلهم كأفراد معزولين. أما نحن (الراديكاليين والاشتراكيين والثوريين، إلخ) سنقاتل من أجل إجراء التصويت في اجتماع جماهيري عمومي بعد النقاش العلني حتى يتاح لجانبي الخلاف فرصة إقناع الـ300 مِن مَن لم يحسموا موقفهم بعد بحُججهم.
الاحتكام إلى التصويت الديمقراطي تقليد يجب أن نناضل من أجله والدفاع عنه في الحركة العمالية وكل حركة. يجب أن يعتاد العمال (والثوريون) على عملية التصويت – ويقبلوا بالنتيجة في حالة الهزيمة. وطبعًا، فإن بعض الانتخابات لا يُمكن قبولها ولا يجب أن تقبل – فكل قاعدة لها استثناءاتها – ولكن بشكل عام لا يمكن الحفاظ على وحدة أي نقابة أو إضراب أو احتلال لمواقع أو حملة أو حزب أو تطويره إلا إذ تقبل الناس إمكانية الخسارة في التصويت الديمقراطي دون الانفصال أو الاستقالة.
والمثال الثاني هو حادثة وقعت بالفعل ولها أهمية تاريخية بالغة – ثورة أكتوبر 1917. في ساعات الصباح الباكر من 25 أكتوبر بدأ الحرس الأحمر بقيادة اللجنة الثورية العسكرية لسوفييت بتروجراد (ورئيسها ليون تروتسكي) في الاستيلاء على المُنشئات الأساسية في المدينة. ولم تُقابل هذه الانتفاضة الثورية أي مقاومة تقريبًا. وفي العاشرة صباحًا أصدرت اللجنة الثورية البيان التالي:
إن الحكومة المؤقتة عُزلت. وانتقلت سلطة الدولة إلى يد اللجنة العسكرية الثورية، التابعة لهيئة سوفييت بتروجراد لنواب العمال والجنود ، والمسئولة عن قيادة بروليتاريا بتروجراد وحاميتها العسكرية.
في هذا التوقيت كانت الحكومة المُؤقتة البرجوازية القديمة ما زالت مشلولة في داخل القصر الشتوي. وفي هذه الأثناء، في اليوم نفسه والمدينة نفسها، كان اجتماع سوفيتات عموم روسيا في حالة انعقاد في معهد سمولني ويحضره مُوفدين من مجالس العمال والجنود من جميع أنحاء روسيا. فقد كان شعار الانتفاضة التي قادها تروتسكى هو “كل السلطة للسوفيتات”. فما هو الموقف المتوقع أن يتخذه المؤتمر المنعقد تجاه هذه الانتفاضة؟ كيف سيتم البت في الأمر العاجل؟ التوافق مستبعد تمامًا – ففي القاعة تواجد معارضون عتاة للانتفاضة والذين كان سيغادرون في التو واللحظة للانضمام للثورة المضادة، كما كان يتواجد ناس أمثال الرفيق مارتوف من الحزب المنشفي من الذين كانوا يسعون لإيجاد حل وسط. كان من الواضح أنه يجب إجراء تصويت – وبالفعل تم إجراء سلسلة من التصويت.
وقد أعطى تروتسكي في كتابه الرائع “تاريخ الثورة الروسية” بعض الأرقام:
إن الإحصاءات في هذا المؤتمر المنعقد أثناء القيام بالانتفاضة لم تكن مُستوفاة بالمرة. في لحظة الافتتاح كان عدد الموفدين 650 وجاءت الأصوات 390 صوتًا من نصيب البلاشفة…أما المناشفة والمجموعة القومية التابعة لهم فلم يتعدى عددهم إلا 80 عضوا – ونصفهم تقريبًا “يساريين”. كما مثل اليساريين 60% من بين 159 (أو 190 في تقرير أخر للقوائم) من الثوريين الاجتماعيين. وبالإضافة إلى ذلك، استمر اليمين في الذوبان سريعًا أثناء هذه الجلسة للمؤتمر.
وبنهاية الجلسة كان العدد الإجمالي للمندوبين قد وصل 900 وفقًا لعدة قوائم…وتم اتخاذ تصويتًا استطلاعيًا بين المندوبين الحاضرين. وكشف هذا التصويت أن 505 من مندوبي السوفيتات صوتوا تأييدًا لنقل كل السلطة إلى السوفيتات، و86 أيدوا حكومة “للقوى الديمقراطية”، و55 أيدوا حكومة ائتلاف، و21 صوتوا لحكومة ائتلاف ولكن بدون حزب الكاديت الليبرالي.
إذا كنا سنهزم الرأسمالية الدولية فيجب أن تكون هناك العديد من هذه المؤتمرات لمجالس العمال أو هيئات مشابهة والعديد من عمليات التصويت هذه. وهذا هو السبب الثاني لأهمية العناية بممارسة التصويت الديمقراطي بداخل الحركة، بجانب مطالب الصراع الطبقي الآنية.
كل هذه الاختلافات بين الماركسية والأناركية حول قضايا أسلوب الحياة والاوتونومية والبرنامج والفعل المباشر والانتخابات والتصويت لها أصل واحد: هي نابعة من حقيقة أن الماركسية الحقيقية طالما كانت واضحة فيما يخُص هدفها المُتمثل في ثورة عمالية على المستوى العالمي، وأنها تحاول دائما أن تُقيم وتفكر في كل الأسئلة الإستراتيجية والتكتيكية من هذا المنطلق. وعلى العكس، فطالما افتقرت الأناركية لمثل هذا الوضوح، وبالتالي فأنها تأرجحت دومًا من مكان لمكان، أحيانًا مُنقادة وراء احتياجات الطبقة العاملة وأحيانًا وراء مجموعات اجتماعية أخرى وأحيانًا مدفوعة بعواطف أنصارها.
7. الطريق إلى الأمام
قد تُلخص حجة هذا الكتيب في جملة واحدة: “الأناركية لا تستطيع أن تنتصر”؛ فهي تفتقر رغم كل المُثل السامية وكل بُطولتها لإستراتيجية جادة لإسقاط الرأسمالية وتحقيق مُثلها. إلا أننا في أحوج ما نكون لإستراتيجية تقودنا نحو النصر، فمستقبل الإنسانية بأكمله مرهون بذلك.
فوضع العالم الحالي لا يمكن السكوت عليه – حيث تتمركز في أيدي 358 ملياردير ثروة تساوي ما يَحتكم عليه النصف السُفلي من سكان العالم. ويعاني مليار نسمة من البشرية من الجوع في حين تُنفق 500،1 مليار دولار أمريكي على السلاح كل عام، ومع تحميل فاتورة الأزمة الاقتصادية للمصرفيين على العاملين والفقراء في الولايات المتحدة واليونان والبرتغال وأسبانيا وفرنسا وبريطانيا وأيرلندا وأيسلندا والبقية، ومع الحروب والتعذيب والعنصرية والقمع والاستبداد في كل الجوانب – ولكن إذا استمرت الرأسمالية كما هي سيزداد الوضع سوءًا.
لا يبدو أن الأزمة الرأسمالية التي بدأت في عام 2008 ستهدأ. بالعكس، بعد ظهور مؤشرات تعافي طفيفة – ضخمها الإعلام كثيرًا – بات من الواضح أنها عادت لتتدهور مرة أخرى. وها هي منطقة اليورو ألأوروبية تترنح من كارثة إلى أخرى ومن حزمة إنقاذ مالي إلى أخرى، في حين أن أيرلندا واليونان ثم إيطاليا وأسبانيا تقف على حافة الانهيار والعجز عن تسديد الديون. ويجبن أوباما والساسة الأمريكيون في مواجهة الدين الأمريكي الذي يقترب من 14 تريليون دولار أمريكي. أما الصين التي اعتبرت أكبر قصة نجاح في العصر الحديث والتي كان من المأمول أن تنقذ الاقتصاد العالمي فقد بدأ اقتصادها أيضًا في التباطؤ ويخنقها التضخم. وفي الوقت نفسه، وعلى الجانب الآخر من النظام، يواجه عشرة مليون إنسان المجاعة في القرن الأفريقي.
وحتى إذا نحينا جانبًا العواقب المستمرة للأزمة الاقتصادية، والتي تشمل صعود القوى الفاشية في الكثير من البلدان الأوروبية واحتمال اندلاع حروب إمبريالية أكثر تدميرًا, فسنجد أن هناك ثمة قنبلة موقوتة وهي الكارثة البيئية. وإذا تركنا التغير المناخي يستمر – والاحتمال ضعيف أن توقفه الرأسمالية التي يدفعها المنافسة واللهث وراء الربح– فالتوابع المفزعة المحتملة بالنسبة للإنسانية قد تجعل كل ما رأيناه في الماضي من ويلات تافهًا بالمقارنة.
سنشهد وقوع فيضانات كالتي حدثت في نيواورلينز وباكستان وبنجلاديش ولكن على نطاق أكبر بكثير؛ جفاف ومجاعات كالتي شاهدناها في دارفور ومنطقة الساحل الأفريقي وإثيوبيا والقرن الإفريقي ولكن على نطاق أوسع بكثير؛ وحروب تُشن من أجل الموارد (الماء بدلاً من النفط) ولكن على نطاق أوسع بكثير، ولاجئون من مناطق كل هذه الكوارث وعلى نطاق أوسع بكثير. وإذا أردنا أن نعرف ما سيكون رد الفعل الذي ستتخذه الرأسمالية على كل هذه الأحداث فعلينا أن نُلقي مجرد نظرة على رد فعل الفاضح لأغنى بلد رأسمالي في العالم وهو الولايات المتحدة على عاصفة كاترينا في نيواورلينز في 2005.
فالسؤال عن ماهية الإستراتيجية التي لديها فرصة حقيقية أن تنتصر له أهمية قُصوى مع الوضع في الاعتبار أن لا أحدا لا يستطيع تقديم ضمانات. وأول ما يجب أن تفعله مثل تلك الإستراتيجية هو أن تحدد القوة الاجتماعية الحقيقية التي تمتلك القدرة على تغيير العالم. فبدون هذا لا تكون أفضل التكتيكات وأنبل الأهداف وأكثر الخطط جرأة إلا من قبيل الجعجعة والتمنيات الطيبة. وأكبر نقطة قوة للماركسية وأعظم إنجازات ماركس النظرية تكمُن في تحديد هذه القوة وهي الطبقة العاملة العالمية.
قصد ماركس بالطبقة العاملة من يتعيشون من بيع قوة عملهم ممن يُوظفهم ويَستغلهم الرأسمالي. ما جعل ماركس يؤسس منظوره السياسي على الطبقة العاملة لم يكن مقدار مُعاناتِها ولكن مخزون قُوتِها. صحيح أن معاناة الطبقة العاملة والاستغلال الذي تتعرض له يثير الاشمئزاز كما يعطي للعمال الدافع والمصلحة في تحدي النظام، ولكن العبيد والفلاحين تعرضوا للمعاناة والاستغلال لآلاف السنين. ولكن ما يميز الطبقة العاملة هو(أ) قوتها التي تمكنها من أن تهزم الرأسمالية فعلا و(ب) قدرتها على خلق مجتمع جديد.
إن الطبقة العاملة هي الإبن الفريد للرأسمالية؛ إ فكلما توسعت الرأسمالية كذلك كبُرت الطبقة العاملة. تستطيع الرأسمالية أن تهزم الطبقة العاملة في معركة تلو الأخرى، تُفض إضراباتها وتُحطم اتحاداتها وتُقلص حرياتها ولكنها لا تستطيع أن تستغني عنها لتحقيق الربح، فلذا دائمًا ما يعود العمال للنضال مرة أخرى.
تُجمَع الرأسمالية العمال في مواقع عمل كبيرة وتربطهم في صناعات قومية وعبر+دولية وتركزهم في مدن شاسعة. وهذا ما يعطى العمال قوة سياسية كامنة رهيبة. فبدون عملهم لا يسير لا القطارات ولا اللوريات ولا الشاحنات؛ ولا يُستخرج الفحم أو الحديد أو النفط من الأرض؛ ولا تُطبع الأوراق ولا تُبث محطات التلفاز ولا يفتح مصرف أو مدرسة. وحتى القوات المسلحة للدولة تعتمد على العاملين في صفوفها.
لقد خلقت الرأسمالية، بخلقها للطبقة العاملة، أقوى طبقة مقهورة في التاريخ.
إن صراع الطبقة العاملة بطبيعته صراع جماعي. من أصغر حملة محلية إلى أكبر إضراب في شركة عملاقة أو إضراب عام ضد الحكومة ينظمه العمال يجب أن يقوموا به كجماعة. وقد تكون صفة الجماعية هذه مصدر إحباط للفرد المناضل أو الثوري، إذ أن العمال في مكان ما لا يمكن لهم فعل أي شيء إلا إذا كانت أغلبية منهم على استعداد للتحرك معًا. ولكن هذه المعضلة بالتحديد هي التي تحول الطبقة العاملة إلى طبقة اشتراكية. فلا يمكن للعمال أن يتقاسموا أدوات الإنتاج بشكل فردى (كما يقسم الفلاحون الأرض)، ولكنهم مضطرين أن يحولوها إلى ملكية للمجتمع من أجل تحقيق تحررهم.
وبالإضافة إلى ذلك ستظل الطبقة العاملة، عندما تستحوذ على السلطة، الطبقة المُنتجة في المجتمع دون أن تكون هناك طبقة أسفل منها تستغلها أو تعيش على حسابها. وبما أنها تعيش ممركزة في كبرى الصناعات والمدن التي تمثل عصب القوة الاقتصادية والسياسية فسيكون لديها المقدرة لمنع ظهور أي طبقة جديدة من فوقها؛ سيكون في إمكانها أن تُنتج وأن تحكم في آن واحد وبذلك تؤسس لمجتمع بلا طبقات حقيقي. ويعنى هذا إن الطبقة العاملة وهي تحرر ذاتها تحرر الإنسانية معها.
إن الدور الثوري للطبقة العاملة هو جوهر الماركسية. لم يرفض الأكاديميين والناقدين، بما فيهم الذين يتعاطفون مع الماركسية، طرحًا ماركسيًا مثلما رفضوا تمامًا هذا الطرح بالتحديد. فنحن نجدهم دائمًا ما يصيحون أن “الطبقة العاملة قد تغيرت”. فعلا، فقد تغيرت الطبقة العاملة من ناحية طبيعة الوظائف والملابس والأجر والجنسية والثقافة. ولكن الظروف الأساسية لوجودها تظل كما هي: فهي مازالت وليدة الرأسمالية، تتعايش من بيع قوة عملها ويتم استغلالها وتُكافح جماعيًا – في حين أنها نمت من ناحية حجمها وقوتها الكامنة بشكل رهيب. ففي أيام ماركس كانت البروليتاريا مُنحصرة في أوروبا الغربية، أما اليوم فتنتشر وتناضل في القارات الخمس من ساوباولو في البرازيل إلى سول في كوريا الجنوبية ومن كانتون في الصين إلى القاهرة. وهنا يكمن أمل الإنسانية.
إلا أن الخبرة التاريخية الطويلة والمُرة قد أظهرت أن الطبقة العاملة تستطيع أن تناضل، ولكن لتنتصر مطلوب تنظيم وقيادة وهذا يعنى أولا بناء حزب ثوري. بعبارة أخرى، إن الطبقة العاملة تحتاج تحديدًا كل الأشياء التي تنكرها الأناركية بكل أشكالها. وما أكثر المناسبات والأماكن التي ثارت الطبقة العاملة فيها ضد الرأسمالية: في باريس في 1848 و1871 و1936 و1968؛ وألمانيا في 1919-1923؛ وإيطاليا في 1919-1920؛ والصين في 1925-1927؛ وأسبانيا في 1936؛ والمجر في 1956 ضد رأسمالية الدولة الستالينية؛ وبوليفيا في 1952؛ وتشيلي في 1970-1973؛ والبرتغال في 1974، إلخ. ولكن، في كل مرة إما انحرفت الثورة أو هُزمت وسالت الدماء. وحتى الآن، لم يحرز لجانبنا إلا انتصارا واحدًا حقيقيًا – ولو مؤقتًا – هو الثورة الروسية عام 1917 – حتى اغتالتها الستالينية – وكان العامل الفارق فيها وجود حزب ثوري له جذور حقيقية وسط الطبقة العاملة.
وحزب كهذا لا يمكن أن ينشأ بين يوم وليلة. مرة أخرى أظهرت الخبرة أنه يكاد يكون من شبه المستحيل أن يُنشأ الحزب الثوري في خضم الأزمة الثورية وأنه من الأفضل أن يُنتهى من عناء إنشاءه قبل قيام الثورة. ولا بد له أن يجمع هذا الحزب أفضل عناصر الكفاح في الطبقة العاملة من كل مواقع العمل وكل الأحياء، بشكل مستقل عن الإصلاحيين وبيروقراطيي النقابات العمالية. علي الحزب أن يُسلح نفسه بالقدرة على توحيد بقية الطبقة في الصراع؛ عليه أن يتعلم كيف يتقدم وكيف يتقهقر، وكيف يعمل مع ناس خارج صفوفه وأحيانًا مع الإصلاحيين (وبالطبع مع الأناركيين) ومتى يضرب بالضربة القاضية. يجب أن يتعلم الحزب دروس التاريخ ويتدرب على تطبيقها اليوم.
وهنا، مرةً أخرى، يأتي دور الماركسية، كنقد للرأسمالية وكذلك كرؤية للمستقبل الاشتراكي، فالماركسية هي نظرية ومنهج لتعميم الخبرة التاريخية للصراع الطبقي. ولذا فالطريق إلى الأمام، لمن يريد أن يغير العالم، بناء الحركة العمالية وتنمية مقاومة العمال و، أثناء خوض هذه العملية، بناء حزب اشتراكي ثوري على أساس ماركسي.
8. قراءات مقترحة والمراجع
الاشتراكية الطوباوية والعلمية – فردريك إنجلز
التراث الماركسي الحقيقي – جون مولينيو
لينين: الإستراتيجية والتكتيك – تونى كليف – ترجمة أشرف عمر
المراجع:
F Engels, “On Authority”, 1872, http://www.marxists.org/archive/marx/works/1872/10/
authority.htm
مسألة العلاقة بين اللينينية والستالينية لها كما هو واضح أهمية كبيرة في النقاش الدائر بين الماركسية والأناركية وأعود لها في مناقشة الأناركية في الثورة الروسية. أما للإطلاع على الشهادات الماركسية العامة فانظر :
Chris Harman, How the Revolution was Lost (1967), http://www.marxists.org/archive/harman/1967/xx/revlost.htm
Tony Cliff, State Capitalism in Russia, http://www.marxists.org/archive/cliff/works/1955/statecap/index.htm
http:www.lsr-projekt.de/poly/enee.html#all
http://www.marxists.org/archive/marx/works/1877/antiduhring/ch25.htm
(M Bakunin, The Programme of the International Brotherhood, 1869)
Letter to S Nechayev, p34 http://quod.lib.umich.edu/l/labadie/2916979.0001.001?rgn=main;view=fulltext
International Working Men’s Association
Hal Draper, Karl Marx’s Theory of Revolution, Vol. III: The “Dictatorship of the Proletariat”, New York, 1986, p95
George Woodcock, Anarchism: A History of Libertarian Ideas and Movements (London 1975)( 396)
المرجع السابق، ص 397
Tony Cliff, Lenin, Vol. 3, Revolution Besieged, London 1987
CNT: Confederación Nacional del Trabajo
Social Anarchism or Lifestyle Anarchism: An Unbridgeable Chasm, AK Press 1995
Red Notes, eds., Working Class Autonomy and the Crisis, London 1979, p110
(http://www.policy-network.net/articles/4004/-The-Precariat-%E2%80%93-The-new-dangerous-class)
L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, London 1977, pp 1146-7
