
فهرس المحتويات
مقدمة
يتضمن هذا الكتاب أربعة أجزاء مستقلة عن بعضها البعض، ولكنها تشكل مع ذلك وحدة لا تنفصم، لأنها مكرسة لبحث المسائل الأساسية الخاصة بالأممية الشيوعية. ويتناول هذا الكتاب كل أوجه نشاط الأممية الشيوعية: برنامجها واستراتيجيتها وتكتيكها وتنظيمها، وأعضاء قيادتها. ولأن الحزب الشيوعي السوفياتي، الحزب القائد للاتحاد السوفياتي، يلعب دورا حاسما، في سائر النواحي، كحزب رئيسي في الأممية الشيوعية، لذا يضم هذا الكتاب تقييما للسياسة الداخلية للحزب الشيوعي السوفياتي في الفترة الأخيرة التي بدأت مع مرض لينين ثم وفاته. وبهذا المعنى، فإن هذا الكتاب، كما آمل، يشكل كلاّ متكاملا.
إن مؤلفي هذا لم ينشر في روسيا. لقد كتب في فترة 1928 وهي فترة غدت فيها الكتب الماركسية في الاتحاد السوفياتي معرضة للمنع أكثر من أية كتب أخرى. ولكي أؤمن انتشارا ما لكتاباتي جعلت من الجزأين الأوليين وثائق رسمية وجهتها إلى المؤتمر السادس للأممية الشيوعية الذي انعقد في موسكو خلال صيف العام السابق. أما الجزآن الثالث والرابع المكتوبان بعد المؤتمر فقد انتقلا من يد إلى يد على شكل مخطوط، مع أن نقل هذه سجون توبولسك في الفترة الأخيرة.
ولقد نشر القسم الثاني فقط، “نقد البرنامج” في ألمانيا. ولم يعش الكتاب بمجمله إلا كمخطوط، كحياة جنين لم يرَ النور. لقد ظهر لأول مرة بالشكل الذي أخذته الطبعة الفرنسية. ولكن تسرب مخطوطات الكتاب بمختلف السبل إلى مختلف بلدان أمريكا وأوروبا والصين الغربية، يدفعني إلى التصريح بأن النسخة الفرنسية الحالية هي الطبعة الأولى والوحيدة التي أحمل مسؤوليتها أمام القراء.
وبناء على قرار المؤتمر السادس، فإن مشروع البرنامج، الذي انتقده في هذا الكتاب، أصبح برنامج الأممية الرسمي. لهذا فإن نقدي ما زال قائما وحاليا، وذلك لأن جميع الأخطاء القاتلة في المشروع التي ذكرتها بقيت فيه، ولأن نقدي مبني على حق، ونابع من الإيمان. وتساءلت لجنة البرنامج داخل المؤتمر عما يجب عمله حيال نقد لم يطرد صاحبه من الأممية الشيوعية فحسب بل نفي إلى آسيا الوسطى. فظهرت أصوات خجولة ومعزولة تقول بضرورة التعلم من الخصوم، وبأن الآراء الصائبة تبقى صائبة مهما كانت شخصية من يصيغها. بيد أن جماعة قوية متماسكة أخمدت هذه الأصوات دون مقاومة أو صراع. وصرحت سيدة محترمة –كلارا زيتكين– بأن من المعتذر اعتبار الأفكار الصادرة عن تروتسكي أفكارا صائبة، فنفذت بذلك الدور الذي حُدد لها وراء الكواليس. لقد كان نظام ستالين كله يعتمد على تكليف شخصيات كريمة وشريفة بمهمات غير لائقة. وصمت صوت الحق الخافت فورا، وأغمضت اللجنة عينيها ومرت قرب “نقدي” دون أن تراه. لهذا يحتفظ كل ما قلته حول مشروع البرنامج بكامل قوته وصلاحيته بالنسبة للبرنامج الرسمي الحالي. ليس لهذا البرنامج قوام نظري، وهو ضار سياسيا، ولا بد من تغييره، وسيُغير.
وكالعادة، “أجمع”، أعضاء المؤتمر السادس على إدانة “التروتسكية” من جديد. ودعتهم موسكو خصيصا لهذا الغرض. إن أغلبيتهم لم تدخل حلبة السياسة إلا البارحة أو أول البارحة، وليس من بينهم عضو واحد شارك في خلق الأممية الشيوعية. كما أن عددا قليلا منهم حضر مؤتمرا أو مؤتمرين من المؤتمرات الأربعة التي ترأسها لينين. ولقد اختارهم أنصار الخط السياسي الجديد، والجهاز العامل في خدمة النظام الجديد. واتهمني المجتمعون –أو بالأحرى وقعوا على وثيقة الاتهام – بأنني خرقت المبادئ اللينينية. ولم يكن اتهامهم برهانا على وضوح تفكيرهم النظري أو معرفتهم بتاريخ الأممية الشيوعية، بل كان دليلا على خضوعهم.
لم يكن لدى الأممية الشيوعية حتى المؤتمر السادس أي برنامج مقنن. وكانت البيانات والقرارات الأساسية تحل محل البرامج. ولقد وجه المؤتمران الأول والثاني إلى الطبقة العمالية بيانات (وكان البيان الصادر عن المؤتمر الثاني بصورة خاصة يحمل صفات البرنامج). وكنت قد كتبت هذه الوثائق التي وافقت عليها اللجة المركزية دون تعديل، وأقرها المؤتمران الأول والثاني، اللذان كان لهما أهمية تأسيسية بارزة.
وأيد المؤتمر الثالث الأطروحات البرامجية الخاصة بالمسائل الأساسية للحركة العمالية العالمية. وتحدثتُ في هذا المؤتمر دفاعا عن الأطروحات التي صغتها. وكانت التعديلات المقترحة موجهة ضد لينين وضدي على حد سواء. وانخرطت ولينين في نضال حازم ضد المعارضة الممثلة آنذاك بتايلمان وبيلاكون وبيبير وغيرهم من المشوشين، حتى وافق المؤتمر في النهاية على أطروحاتي بالإجماع تقريبا.
ولقد عملت مع لينين على تقديم التقرير الرئيسي للمؤتمر الرابع، وهو تقرير خاص بالوضع في الجمهورية السوفييتية، وبآفاق الثورة العالمية. وكنا نشترك في النقاش منطلقين من وجهة نظر واحدة، كما كنت أقوم في بعض الأحيان بصياغة – وهي حجر الزاوية في الأممية الشيوعية– التي وضعتها أو شاركت في وضعها، وكانت تطرح وتُطبق الأسس الماركسية، أدينت فيما بعد من قبل الجماعة الستالينية وباسم “التروتسكية”.
ومن المجدي أن نضيف أن الزعم الحالي لهذه الجماعة لم يشارك أي مشاركة – مباشرة أو غير مباشرة – في أعمال الأممية الشيوعية داخل المؤتمرات واللجان، أو في فترة التحضير التي حمل الحزب الشيوعي الروسي معظم أعبائها. وليس هناك وثيقة واحدة تدل على أن ستالين فقام بأي نشاط خلاّق خلال المؤتمرات الأربعة الأولى، أو اهتم بهذه المؤتمرات وبشكل جدّي.
ولا تقف الأمور عند هذا الحد، فإذا أخذنا لائحة المندوبين الذين حضروا المؤتمرات الأربعة الأولى والتي تشمل أول أصدقاء ثورة أوكتوبر وأشدهم إخلاصا لها، ومؤسسي الأممية الشيوعية ومساعدي لينين وأقربهم إليه، لوجدنا أنهم أُبعدوا جميعا عن قيادة الأممية بعد وفاة لينين، بل طردوا منها نهائيا. وينطبق هذا القول على وفود الاتحاد السوفياتي كما ينطبق على وفود فرنسا وألمانيا وإيطاليا والبلاد السكندينافية وتشيكوسلوفاكيا، ويشمل وفود أوروبا وأمريكا على حد سواء. فهل يُعقل أن يكون الخط اللينيني قد تعرض لهجوم من ساعدوا لينين في صياغته، وهبَّ للدفاع عنه أولئك الذين قاوموه في عصر لينين، ولم يشاركوا في الأممية إلا خلال سنواتها الأخيرة، ولا يعرفون ماذا تم في السابق ولا يفكرون بما يمكن وقوعه في الغد ؟
إن نتائج تبديل السياسة والقيادات معروفة جيدا. فمنذ بداية عام 1923 لم تعرف الأممية الشيوعية سوى الهزائم في ألمانيا وبلغاريا وإنكلترا والصين. وفي بلدان أخرى لم تكن النتائج مأساوية كما في البلدان الأولى، ولكنها كانت خطيرة مع ذلك. وفي كل الأحوال، فإن سبب الهزيمة المباشرة يعود إلى العمى الانتهازي للقيادة. ويبقى علينا أن نقول بأن أخطر الهزائم هي الهزيمة التي يعدّها ستالين في الجمهورية السوفيتية. ولعل ستالين قد حدد هدفه بأن يدخل التاريخ كأكبر منظم للهزائم.
*****
وإذا ما بحثنا عن مناضلي الأممية الشيوعية اللينينية في الجمهورية السوفيتية لوجدنا أنهم في المنفى أو السجن أو يعيشون بعيدا عن بلادهم. ولا تجري الأمور في ألمانيا وفرنسا بشكل مخالف كثيرا لما يجري في الجمهورية السوفيتية. ولا يعود الخطأ هنا إلى انصهار تايلمان أو أتباع كاشان وحدهم. ويطلب هؤلاء “الزعماء” من الشرطة الرأسمالية بأن لا تتساهل مع زملاء لينين في بلاد الديمقراطية البرجوازية. ففي عام 1926 برز كاشان طردي من فرنسا بحجج شوفينية جدا، وهو يطالب اليوم بمنعي من الدخول إلى فرنسا: إنه في الحقيقة يهتم بقضاياه تماما كما أهتم بقضاياي.
ويعرف الجميع أنني كنت خلال فترة المؤتمرات الأربعة الأولى أهتم اهتماما بالغا بالشؤون الفرنسية، وكنت كثيرا ما أدرس مع لينين قضايا الحركة العمالية الفرنسية. وكان لينين يسألني في بعض الأحيان بلهجة لا تخلو من الدعابة رغم جديّة مضمونها: “أفلا ترى بأنك تنظر بكثير من التساهل إلى المتذبذبين البرلمانيين من طراز كاشان ؟. وكنت أرد على ذلك: بأن كاشان وأمثاله لا يمثلون سوى معبَر مؤقت يسمح لنا بالوصول إلى الجماهير العمالية الفرنسية، وأنه ما أن يظهر ثوريون حقيقيون ينظمون أنفسهم حتى يكنسوا من طريقهم كاشان ورفاقه. ولأسباب مشروحة في هذا الكتاب طالت العملية وامتدت حقبة طويلة من الزمن، ولكن من المؤكد أن ينتهي المترددون إلى مصير يناسبهم، لأن البروليتاريا بحاجة لأدوات من الفولاذ لا من الصفيح.
إن الجبهة الموحدة التي تضم ستالين، والشرطة البرجوازية، واتباع نسبية في الحياة السياسية الأوروبية الحالية.
فما هي الاستنتاجات العامة التي يمكن الوصول إليها من هذا الكتاب ؟ إن هناك جهات متعددة تحاول أن تنسب إلينا مشروع خلق أممية رابعة: وهذه فكرة خاطئة تماما، لأن الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية تمثلان ميلين تاريخيين عميقين تمتد جذورهما داخل العلاقات بين الطبقات. كما أن وجود الأممية الثانية والثالثة ونضالهما عبارة عن عملية طويلة مرتبطة بمصير المجتمع الرأسمالي. وهناك حالات تحقق فيها الاتجاهات “الوسطية” تأثيرا كبيرا، ولكنه تأثير لا يدوم طويلا. ولقد بدت محاولة فريدريك آدلر وصحبه لخلق أممية وسطية، هي الأممية 2،5 محاولة مجدية تتمتع ببعض فرص النجاح… ثم لم تلبث هذه المحاولة أن أفلست. وتبدو السياسة الستالينية كصورة أخرى من صور الوسطية بالرغم من استنادها إلى أسس وتقاليد تاريخية. لقد أمسك آدلر بالمسطرة والفرجار، وحاول رسم خط سياسي يصل البلشفية بالاشتراكية الديمقراطية. أما ستالين فلا يملك رؤى مذهبية كآدلر. ويتسم خطه بالتعرج التجريبي بين ماركس وفولمار، وبين لينين وتشانغ كاي تشيك، وبين البلشفة والاشتراكية الوطنية. فإذا أعدنا هذه التعرجات إلى معناها الحقيقي، وصلنا إلى النتيجة الحسابية نفسها: 2،5 ولولا استناد الوسطية الستالينية إلى القواعد الإيديولوجية والمادية للدولة التي خلقتها ثورة أوكتوبر لسقطت سياسيا منذ أمد بعيد، بعد ما ارتكبته من أخطاء، وما سببته من هزائم قاسية. ومع ذلك فإن أقوى الأجهزة عاجزة عن إنقاذ سياسة بلا أمل، وليس هناك مكان للستالينية بين الماركسية والاشتراكية الوطنية. ولا بد للأممية الشيوعية، بعد كل ما عانته من تجارب وأزمات، أن تتحرر من نير بيروقراطية محرومة من المبادئ، ولا تتقن إلا ممارسة الضغط والتعرج والقمع وإعداد الهزائم. إننا لا نجد سببا يدفعنا إلى تأسيس أممية رابعة، ولا بد لنا من متابعة وتطوير خط الأممية الثالثة التي أعددنا لها مع لينين خلال الحرب، وساعدناه على تأسيسها بعد ثورة أوكتوبر. إننا لم نترك خط الإرث الإيديولوجي لحظة واحدة. وأكدت كثير من الأحداث التاريخية الهامة كل أحكامنا وتوقعاتنا. ونحن مقتنعون اليوم أكثر من أي وقت مضى، ورغم الضنك والنفي، بصحة أفكارنا وقدرتنا الأكيدة على النصر.
القسطنطينية
15 نيسان 1929
ليون تروتسكي
هدف هذه الرسالة
لا يمكن أن يكون لمحاولة التوضيح هذه من معنى إلا إذا حررناها من كل تحفّظ ونفاق ودبلوماسية. وهذا يتطلب تسمية الأشياء بأسمائها حتى ولو كان ذلك قاسيا ومزعجا بالنسبة للحزب. وعادة في مثل هذه الحالات يثور البعض بحجة أن العدو يمسك بالنقد ويستعمله ضدنا. واليوم، قد يكون من الحماقة أن نتساءل من أفاد أكثر العدو الطبقي: أهي سياسة القيادة التي قادت الثورة الصينية إلى هزائم قاسية أم التحذيرات التي خنقت المعارضة التي كانت تعمل على تهديم الهيبة الزائفة لعصمة القيادة.
مما لا شك فيه أن الاشتراكية الديمقراطية حاولت في سلسلة من الحالات الاستفادة من نقد المعارضة. إن العكس هو ما قد يكون مستغربا، فالاشتراكية الديمقراطية هي اليوم، بمعنى تاريخي واسع، حزب طفيلي. إن الاشتراكية الديمقراطية بوفائها بالمهمة التي تهدف إلى حماية المجتمع البرجوازي “من تحت”، في مرحلة ما بعد الحرب (وبخاصة بعد عام 1923)، في سير انحطاطها الظاهر، تعيش من أخطاء الأحزاب الشيوعية وعثراتها، واستسلامها في اللحظات الحاسمة، أو على العكس من محاولاتها المغامرة للعودة إلى وضع ثوري فات أوانه. استسلام الأممية الشيوعية في خريف عام 1923، ثم عناد القيادة في عدم رغبتها فهم معنى هذه الهزيمة الهائلة، والخط المغامر اليساري المتطرف لعام 1924-1925، والسياسة الإنتهازية الفظة في 1926-1927: هذا ما يدعم مواقع الإشتراكية الديمقراطية، وما يسمح لها بجمع أكثر من تسعة ملايين صوت في الانتخابات الألمانية الأخيرة، لذا يغدو ذكر كون نقد المعارضة، في هذه الظروف، تستعيده الاشتراكية الديمقراطية أحيانا وتقدمه للعمل، عبارة عن سفاسف، إن الاشتراكية الديمقراطية لن تكون هي نفسها إن لم تذهب، أحيانا، بعيدا في هذا الطريق، وإن لم تعبر بواسطة جناحها اليساري عن “تعاطف” متقطع وزوائف مع المعارضة، هذا الجناح اليساري الذي يمثل صمام أمانها، كما تمثل هي بالذات صمام أمان المجتمع البرجوازي. إن الاشتراكية الديمقراطية تسمح لنفسها بالقيام بذلك طالما بقيت المعارضة أقلية مضطهدة، وطالما لا يكلّفها “التعاطف” أي ثمن، لا بل قد يؤمن لها ترحيبا بين الشغيلة.
لا تملك الاشتراكية الديمقراطية اليوم، ولا يمكنها أن تملك، خطّها الخاص حول المسائل الأساسية: فخطّها تمليه عليها البرجوازية. ولكنها إذا اكتفت بمجرد الترداد لما تقوله الأحزاب البرجوازية، فإنها تكف عن تأدية خدمة للبرجوازية. فحول المسائل الصغيرة، غير الراهنة أو البعيدة، يتعين على الاشتراكية الديمقراطية أن تستخدم جميع ألوان قوس قزح بما في ذلك الأحمر القاني. وهي تأمل عند استخدام بعض أحكام المعارضة أن تُحدث انشقاقا داخل الحزب الشيوعي. ولكن مَن فهم طابع هذه الآلية لا يرى في المحاولات الرامية إلى توريط المعارضة، بحجة أن أحد السماسرة أو الاشتراكيين الديمقراطيين أخذ يردد جملة واردة في نقدنا، سوى عبارة عن فقر ذهني. والحقيقة أن الاشتراكية الديمقراطية الدولية أبدت “تعاطفها” في جميع القضايا السياسية الهامة – وخاصة قضيتي الصين واللجنة الأنكلوروسية – مع السياسة “الواقعية” للقيادة ولم تبد أي تعاطف معنا.
ولكن الأهم بكثير من ذلك هو حكم البرجوازية العام على الاتجاهات المتصارعة داخل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وداخل الأممية الشيوعية: فليس هناك ما يدفع البرجوازية للتردد أو التستر حول هذا الموضوع. وحول هذه النقطة لا بد لنا من أن نذكر بأن كافة النشرات الإمبريالية العالمية، التي تتمتع ببعض الجدية والاعتبار والأهمية في ا،روبا وأمريكا تعتبر المعارضة عدوّها اللدود: فخلال المرحلة المنصرمة قامت هذه الصحف باظهار تعاطف محدود وحذر أمام سلسلة من الخطوات التي قامت بها القيادة الرسمية، أو بالتعبير عن الرأي القائل بأن التصفية التامة للمعارضة وتدميرها الكلي يشكلان المقدمة الضرورية “لتطوير” السلطة السوفياتية “الطبيعي” نحو النظام البرجوازي. ويمكن للمرء استنادا إلى الذاكرة فقط ودون العودة إلى أي مصدر للمعلومات، الاستشهاد بتصريحات عديدة في ذلك النوع: نشرة أنباء الصناعة الثقيلة الفرنسية كانون الثاني 1927، تقرير مخبر الوزراء وأصحاب المليارات الأمريكيين، تقديرات التايمز ونيويورك تايمز وأوستن شامبير لِن المذكورة في منشورات عديدة وخاصة في الصحيفة الأمريكية “ذي نايشون” “الأمة” الخ. وإنه لشيء ذو دلالة أن صحافة الحزب الرسمية توقفت بعد محاولتها الأولى والفاشلة عن نشر تقديرات أعدائنا الطبقيين حول الأزمة التي كان يمر بها الحزب في الأشهر الأخيرة، والتي لا يزال يعني منها: فهذه الأحكام كانت تكشف بوضوح ظاهرة الطبيعة الثورية الطبقية للمعارضة.
ولهذا فإننا نعتقد بأنه قد يكون بوسعنا أن نحصل على وضوح أكبر لو تم نشر كتابين معدين بكل عناية بصدد هذا المؤتمر السادس وهما: “كتاب أبيض” يضم تحليلات الصحافة الرأسمالية الرصينة حول الخلافات داخل الأمة الشيوعية، و”كتاب أصفر” يضم تقديرات الاشتراكية الديمقراطية.
وعلى كل حال، فالخوف من رؤية الاشتراكية الديمقراطية تحاول التدخل في نقاشنا لن يمنعنا لحظة واحدة من أن نحدد بكل جلاء ودقة ما نعتبره خطرا في سياسة الأممية الشيوعية، وما نراه شافيا. إن سحق الاشتراكية الديمقراطية لا يتم بالدبلوماسية أو بإخفاء الأخطاء، بل باتباع سياسة ثورية صحيحة لا بد من وضعها ورسم خطوطها.
لماذا لم تعقد الأممية الشيوعية أي مؤتمر منذ أكثر من أربع سنوات
لقد انقضى أكثر من أربع سنوات منذ المؤتمر الخامس. وخلال هذه الحقبة تغير خط القيادة بشكل جذري، كما تبدل تشكيلها وتركيب مختلف الأحزاب وتركيب الأممية الشيوعية بمجملها. ولم تتم إزاحة رئيس الأممية من مركزه فحسب، بل طُرد من الحزب أيضا، قبل أن يعود فيُقبل فيه من جديد(1)، قُبيل افتتاح هذا المؤتمر السادس. لقد جرت هذه الأحداث دون أن يُعقد أي مؤتمر، رغم أنه لم يكن هناك عائق موضوعي يمنع الدعوة إليه. وفي حين كانت تُطرح على الحركة العمالية والجمهورية السوفياتية معضلات حيوية، ظهر إجتماع الأممية الشيوعية وكأنه عمل لا داعي له:فكان يتم تأجيله سنة بعدأخرى،كأنه عائق زائد أو وزن معطِّل غير مفيد. ولم تتم الدعوة إليه إلا عندما قُدّر بأنه سيكون أمام الأمر الواقع.
خلال هذه السنوات الأربع – المليئة بالأحداث الهامة، والممزَّقة بالخلافات العميقة – وُجد وقت كاف لعقد العديد من المؤتمرات والاجتماعات والندوات البيروقراطية: كالمحادثات المنفردة لجنة الأنكلو-روسية، ومؤتمر العصبة الديمقراطية للنضال ضد الامبريالية، ومؤتمر “أصدقاء الاتحاد السوفياتي”(2) المسرحي… ولم ينقص الوقت ويضيق المكان إلا لعقد المؤتمرات النظاية الثلاث الخاصة بالأممية الشيوعية !
خلال الحرب الأهلية والحصار الامبريالي، وعندما كان المندوبون الأجانب يلاقون صعوبات هائلة ويُقتل بعضهم في الطريق، كانت مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفياتي والأممية الشيوعية تنعقد بصورة منتظمة وفقا لأنظمة الحزب البروليتاري وروحه. فلمَ لا يتم التصرف بالشكل نفسه في هذه الأيام ؟ إن الادعاء بوجود “أشغال عملية” كثيرة الآن يعني الاعتراف بأن فكر الحزب وإرادته تعيق عمل القيادة، وأن المؤتمرات هي عبء وسط الأعمال الهامة والجدية. والحقيقة أن ذلك يعني فتح السبيل أمام التصفية البيروقراطية للحزب.
من حيث الشكل، تم حسم كل المسائل خلال هذه السنوات الأربع من قبل اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، أو بصورة أدق من قبل أمانة سره المستندة إلى الجهاز الحزبي التابع لها. ونحن لا نقصد هنا طبعا التأثير الأيديولوجي الذي كان يمارسه الحزب الشيوعي السوفياتي، والذي كان حجمه في أيام لينين أكبر من حجمه الحالي، والذي كان له معنى خلاقا قويا. إننا نقصد السلطة المطلقة لأمانة السر التي تفرض نفسها بواسطة السلطة المطلقة للجهاز. ولم تكن هذه السلطة موجودة في أيام لينين، كما أنه حذّر بشدة من هذا الخطر في نصائحه الأخيرة التي وجهها إلى الحزب(3).
أعلنت الأممية الشيوعية “حزبا عالميا متحدا” وأُخضعت لها جميع الفروع القومية. كان لينين قد لعب في هذه المسألة، وحتى النهاية، دور المعدِّل: وكرّر تحذيراته حيال الميول البيروقراطية للقيادة، خاشيا أن تنحرف الديمقراطية المركزية نحو البيروقراطية، نتيجة غياب القاعدة السياسية. غير أن المركزية القصوى انتصرت فور توقف لينين عن العمل. وأُعلنت اللجنة التنفيذية لجنة مركزية تتمتع بجميع السلطات في الحزب العالمي المتحد، على ان تكون مسؤولة أمام المؤتمرات فقط. وبالواقع ماذا نرى في هذه القضية، لم تُعقد المؤتمرات عندما كنا بأمسّ الحاجة إليها (والثورة الصينية وحدها مبرر كاف لدعوة مؤتمرين). إن اللجنة التنفيذية هي نظريا المركز القومي للحركة العمالية العالمية، ولكن هذه اللجنة عرفت في السنوات الأخيرة، ومرات عديدة، تعديلات عميقة. فخرج منها عدد من الأعضاء الذين تم انتخابهم في المؤتمر الخامس ليلعبوا دورا في القيادة، وقد جرت الأمور بشكل مشابه داخل فروع الأممية اليوعية أو أهمها على الأقل. فمن هو الذي أدخل التعديل على اللجنة التنفيذية، التي ليست مسؤولة مبدئيا إلا أمام المؤتمر…، إن لم ينعقد المؤتمر ؟ الجواب على ذلك واضح كل الوضوح: لقد جاء التعديل من النواة القيادية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي التي كانت تلجأ عند كل تبديل لتركيبها إلى تعديل اللجنة التنفيذية، بالرغم من النظام الداخلي للأممية الشيوعية وقرارات المؤتمر الخامس.
لقد تمت التبديلات داخل النواة القيادية في الحزب الشيوعي السوفياتي ليس فقط من وراء ظهر الأممية الشيوعية، ولكن أيضا من وراء ظهر الحزب الشيوعي السوفياتي نفسه، وذلك بين المؤتمرات وبشكل مستقل عنها بواسطة انقلابات يقوم بها الجهاز. وكان “فن القيادة” يكمن في وضع الحزب أمام الأمر الواقع؛ ثم تتم التعيينات لحضور المؤتمر، الذي يتم تأخيره بناء على آلية مكشوفة الوحي، بناء على رغبة القيادة الجديدة المعينة، على حين يُطلق بكل بساطة على النواة القيادية السابقة اسم “القمة المعادية للحزب”.
ونحن لا نريد الاطالة في تعداد جميع مراحل هذه العملية؛ إنني لن أذكر إلا حدثا من جملة الأحداث، ولكنه يعبّر عنها كلها أحسن تعبير. لقد كانت مجموعة زينوفييف على رأس المؤتمر الخامس، ليس فقط من الناحية الشكلية ولكن أيضا من الناحية الواقعية، وهي بالضبط التي أعطت الصبغة الأساسية لأعمال هذا المؤتمر: الصراع ضد “التروتسكية” المزعومة. ولكن هذا التكتل القيادي لم يستطع البقاء حتى انعقاد المؤتمر السادس في أي حزب من أحزاب الأممية الشيوعية. وفي يوليو (تموز) 1926 أعلنت النواة المركزية لهذا التكتل – والمؤلفة من زينوفيف وكامنييف وسوكولنيكوف وآخرين غيرهم – ما يلي:
“منذ الآن لم يعد هناك أي مجال للشك بأن النواة الأساسية لمعارضة 1923 كانت محقة عندما نبّهت غلى الأخطار الكامنة في الابتعاد عن الخط البروليتاري، وإلى أخطار نمو نظام الجهاز”.
وأكثر من هذا: في الاجتماع العام للجنة المركزية ولجنة المراقبة المركزية (من 14 إلى 23 يوليو (تموز) 1926) أعلن زينوفييف – رئيس المؤتمر الخامس وروحه المحركة – بأنه يعتبر أن الخطأين الرئيسيين في حياته هما: خطأ 1917، والصراع ضد المعارضة في عام 1923. ويقول زينوفييف: “إنني أعتبر الخطأ الثاني أكثر خطورة، لأن خطأ عام 1917 الذي تمّ أيام لينين، قد صححه لينين.. بينما يكمن خطئي في عام 1923 (4) في ما … “
“أورد جونيكيدزه – ماذا إذن، فقد حشوت دماغ الحزب كله !
“زينوفييف – نعم لقد كان تروتسكي محقا على عكسكم في موضوعيْ الإنحراف والطغيان البيروقراطي للجهاز”.
ولكن مشكلة الانحراف، أي مشكلة الخط السياسي، والنظام القائم داخل الحزب تشكل مجمل الاختلافات في وجهات النظر. ولقد رأى زينوفييف في عام 1926 أن معارضة عام 1923 كانت محقة حول هذه القضايا، وأنه يعتبر صراعه ضد “التروتسكية” في فترة 1923–1925 أكبر خطأ ارتكبه في حياته، وأكثر خطورة حتى من معارضته لتفجير ثورة أوكتوبر. ومع هذا، نشرت الصحف في الأيام الأخيرة قرارا صادرا عن لجنة المراقبة المركزية يقضي بإعادة زينوفييف مع عدد من الأشخاص إلى الحزب نظرا لأنهم “تراجعوا عن شططهم التروتسكي”. إن هذه القصة، التي تؤكدها الوثائق بشكل كامل، ستبدو لأحفادنا وأحفاد أحفادنا قصة غريبة من نسج الخيال، وربما أنها لم تكن لتستحق الذكر لو أنها لا تتعلق إلا بشخص واحد، أو جماعة معينة، ولو لم تكن مرتبطة ارتباطا وثيقا بكل الصراع الفكري الذي شهدته الأممية الشيوعية في السنوات الأخيرة، ولو لم تتم عضويا وسط الشروط التي سمحت بعدم عقد أي مؤتمر خلال أربع سنوات، أي وسط السلطة اللامتناهية للأساليب البيروقراطية. في الوقت الحاضر لا تتم قيادةٌ ايديولوجية للأممية الشيوعية، بل إدارتها. ولم تعد النظرية أداة للمعرفة والتوقع، بل غدت أداة تقنية للإدارة. تلصق بالمعارضة بعض الآراء، ثم يحكمون عليها من خلال هذه الآراء. يشيرون إلى البعض “كتروتسكيين”، ثم يبرؤون ساحتهم منها فيستدعونهم ويعودون إلى العمل كما لو كانوا موظفين في سفارة !
ويصاحب مثل هذه التبدلات الايديولوجية حتما انقلابات داخل التنظيم؛ وهي تأتي دائما من الأعلى، وعندما تغدو منهجا متبعا تصبح النظام العادي لا للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي فحسب بل لأحزاب أخرى في الأممية الشيوعية. وقلما تتطابق الدوافع الرسمية لكل انقلاب في القيادة مع الدوافع الحقيقية. إن الازدواجية في مجال الأفكار هي النتيجة المحتومة لتبقرط (bureaucratisation) النظام. وخلال هذه السنوات سار قادة الأحزاب في ألمانيا وفرنسا وانكلترا وأمريكا وبولونيا…الخ أكثر من مرة على طرق انتهازية دون أن توجه لهم أي إدانة لأن موقفهم بالنسبة لقضايا الحزب الشيوعي السوفياتي الداخلية كانت خير حماية لهم.
وما تزال الأمثلة الأخيرة حية في الأذهان. لقد تمتعت القيادة الصينية التي ضمت تشين–دو–سيو وتان–بين–سيان وشركاهما، والمنشفية بعمق (5)، حتى آخر لحظة بالدعم الكامل من قبل اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، ضد انتقادات المعارضة. وليس هذا غريبا، طالما أن تان–بين–سيان أعلن في الإجتماع العام السابع للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية ما يلي:
“منذ أول ظهور الترونسكية تبنى الحزب الشيوعي الصيني والشبيبة الشيوعية الصينية موقفا إجماعيا ضدها (6).”
هنالك في الجنة التنفيذية للأممية الشيوعية نفسها وفي جهازها عناصر تلعب دورا هاما، مع أنها عناصر عارضت الثورة البروليتارية، ثم عرقلتها على قدر استطاعتها في روسيا وفنلندا وبلغاريا وهنغاريا وبولونيا، وفي بلدان أخرى؛ ولكنها بالمقابل أثبتت قدرتها في اللحظة المناسبة عند صراعها ضد “التروتسكية”.
إن تجاهل النظام الداخلي وخرقه، واللجوء إلى الانقلابات داخل التنظيم والأفكار، وتأجيل المؤتمرات والاجتماعات، وتنمية لأساليب التعسفية لا يمكن أن تكون كلها وليدة الصدفة، ولا بد أن يكون وراءها أسباب عميقة.
إنه لنقص في الماركسية تفسير هذه الأمور بأنها ناجمة فقط أو بصورة رئيسية على الأقل عن أسباب شخصية (صراع الجماعات على السلطة، الخ)، رغم أن هذه الدوافع تلعب في بعض اللحظات دورها (انظر “وصية” لينين). غير أن الأمر يتعلق بعملية عميقة طويلة الأمد لا يمكن أن تستند إلى أسباب نفسية فحسب ولكن في الدرجة الأولى إلى أسباب سياسية، وبالفعل فهي تستند إلى مثل هذه الأسس.
يعود تبقرط النظام كله داخل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، والأممية الشيوعية بشكل رئيسي، إلى تفاقم التباعد خلال السنوات الخمس الأخيرة بين الخط السياسي للقيادة والآفاق التاريخية للبروليتاريا. وكلما تفاقم التباعد كلما أثبتت الأحداث خطأ هذه السياسة، وكلما انعدمت القدرة على تطبيقها مع احترام نظم الحزب وعلى ضوء النقد، كلما غدا ضروريا أكثر فأكثر فرضها على الحزب من الأعلى بواسطة الجهاز، وحتى بالوسائل الخاصة بالدولة.
في مثل هذه الظروف لم تعد القيادة تحتمل إطلاقا النقد الماركسي. إن النظام البيروقراطي يتسم بالشكلية الجامدة، والسكولاستيكية هي الايديولوجية الأكثر تناسبا معه. ولقد كانت السنوات الخمس الأخيرة مرحلة تشويه للماركسية التي تحولت إلى مذهب سكولاستيكي بغية تغطية الانحراف السياسي وخدمة عملية الاغتصاب البيروقراطي.
السياسة من عام 1913 حتى عام 1927
مما لا شك فيه أن الرغبة بانتظار انتصار عالمي كبير كانت إحدى دوافع تأجيل المؤتمر السادس عدة مرات، ففي مثل هذه الحالات ينسى الناس الهزائم القريبة العهد بسهولة أكبر، ولكن النصر لم يأت… وليس هذا من قبيل الصدفة !
لقد استفادت الرأسمالية الأوروبية والعالمية في هذه الحقبة من تأجيل جديد كبير. منذ عام 1923 تقوّت الاشتراكية الديمقراطية بشكل ملحوظ. على حين لم تنمُ الأحزاب الشيوعية إلا بشكل لا يذكر وليس هناك من يجرؤ على القول بأنها عرفت خلال هذه السنوات الأربع أو الخمس كيف تؤمن استمرارية قياداتها وثباتها ونفوذها. بل إن هذه المتانة وتلك الاستمرارية تعرضتا للاهتزاز بعمق حتى داخل الحزب حيث كانتا تتوافران بالشكل الأوفر ضمانا؛ ألا وهو الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي.
حققت الجمهورية السوفياتية في هذه الحقبة تقدما جديا في المجالين الاقتصادي والثقافي، وهو تقدم يظهر للعالم أجمع معنى الأساليب الاشتراكية في الادارة وقوتها، والامكانيات الواسعة التي تحملها. ولكن هذه النجاحات تحققت على أساس استقرار الرأسمالية المزعوم، ذلك الاستقرار الناجم عن سلسلة الهزائم التي لحقت بالثورة العالمية.
وخلافا للمزاعم المتفائلة، فلقد مال الميزان الداخلي للقوى في حقلي الاقتصاد والسياسة ضد مصلحة البروليتاريا: ومن هنا سلسلة الأزمات المضنية التي لم ينته الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي منها.
إن السبب الأساسي لأزمة ثورة أوكتوبر يكمن في تأخر الثورة العالمية نتيجة لعدد من الهزائم القاسية التي لحقت بالبروليتاريا. حتى عام 1923 كان هناك فشل حركات وانتفاضات ما بعد الحرب نظرا أولا لاختفاء قسم كامل من الشبيبة، وثانيا لضعف قوة الأحزاب الشيوعية. وبدءا من عام 1923 تغير الموقف بشكل جذري: فلم يعد الأمر مقصورا على هزائم البروليتاريا، بل أصبح يتعلق بهزائم سياسة الأممية الشيوعية. وكانت أخطاء هذه السياسة في ألمانيا وانكلترا والصين – وبدرجة أقل في بلاد أخرى مختلفة– كبيرة لدرجة أنه من المستحيل أن نعثر على أخطاء مشابهة في مجمل تاريخ الحزب البلشفي: وإذا أردنا ذلك فينبغي أن نعود إلى تاريخ المنشفية في سنوات 1905–1917 أو أيضا العودة عشرات السنين إلى الوراء. إن التأخر في تطور الأممية الشيوعية.
يظهر ناجما بشكل مباشر عن السياسة الخاطئة التي اتـّـُبعت خلال السنوات الخمس الأخيرة. ولا يمكن أن نلقي عبء هذا التأخر على “الاستقَرار” إلا إذا تصورنا طبيعة الاستقرار بصورة سكولاستيكية وبغية التهرب من هذه المسؤولية. إن الاستقرار لم يسقط من السماء، ولم ينجم عن تغير آلي لظروف الاقتصاد الرأسمالي العالمي: إنه ثمرة تبدل في اتجاه غير ملائم في الميزان السياسي للقوى الطبقية. لقد ضعُفت البروليتاريا في ألمانيا نتيجة لاستسلام للقيادة في عام 1923، وخدعتها وخانتها في انكلترا قيادة بقيت الأممية الشيوعية متكتلة معها حتى عام 1926، أما في الصين فقد رمت بها سياسة اللجنة التنفيذية للامية الشيوعية وسط فخ الكومينتانغ في 1926–1927.
تلك هي الأسباب المباشرة التي لا جدال فيها للهزائم. أما السعي إلى القول بأن الهزائم كانت محتومة حتى مع استخدام سياسة صحيحة فهو يصبّ في قدرية منفـِّرة، وتراجع هن الفهم البلشفي لدور القيادة الثورية وأهميتها.
واستفادت البورجوازية من هزائم البروليتاريا الناجمة عن سياسة خاطئة وحصلت على مهلة سياسية استخدمتها لتقوية مواقفها الاقتصادية. من المفهوم أن تقوية المواقع الاقتصادية البرجوازية قد أثرت بدورها – بوصفها عاملا من عوامل “الاستقرار” – على الوضع السياسي. غير أن السبب الجوهري لصمود الرأسمالية خلال سنوات “لاستقرار” الخمس تلك كامن في أن قيادة الأممية الشيوعية لم تكن في أية لحظة من اللحظات على مستوى الإحداث. ولم تكن الأوضاع الثورية قليلة، ولكنها دائما لم تجد من يحسن استخدامها. وليس هذا الخطأ ناجما عن الصدفة،كما أنه لا يتصف بالشذوذ: إنه نتيجة محتومة للخط الوسطي الذي يستطيع في الحالات العادية إخفاء رخاوته وعدم تماسكه، ولكنه يؤدي بما لا مفرّ منه إلى أخطر الكوارث في وضع ثوري عندما تحدث تغيرات مفاجئة.
لفهم معنى الاتجاه الحالي نحو اليسار لا يكفي ان نملك نظرة كاملة لما شكله الانزلاق نحو الخط العام الوسطي – اليميني الذي انكشف تماما في 1926 – 1928 ، بل ينبغي علينا ان نعرف ما كانت مرحلة التطرف اليساري السابقة في 1923–1925 خلال إعداده لهذا الانزلاق. ولذا فالأمر يتعلق بالحكم على السنوات الخمس التي أعقبت وفاة لينين.
منذ المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي السوفياتي في ربيع 1923 ظهر بوضوح موقفان متميزان حول قضايا الاتحاد السوفياتي الاقتصادية. وتطور هذان الموقفان خلال السنوات الخمس التي تلت ذلك، وتم التحقق من وجودهما بصدد أزمة تخزين القمح في 1927–1928. لقد اعتبرت اللجنة المركزية أن الخطر الرئيسي الذي يهدد التحالف مع الفلاحين هو تطور الصناعة بشكل سابق لأوانه، ووجدت البرهان على هذا “أزمة البيع” المزعومة في خريف 1923. وعلى العكس فإنني قد دعمت في المؤتمر الثاني عشر الفكرة القائلة بأن الخطر الرئيسي الذي يهدد “السميتشكا” (1) ودكتاتورية البروليتاريا يتمثل في “المقص” الذي يمثل التباعد بين أسعار المواد الزراعية وأسعار البضائع الصناعية. وهو تباعد يعكس تأخر الصناعة. وكنت أقول بأن الحفاظ على هذا التباين، فكيف بتفاقمه، سيؤدي حتما إلى تمييزات في الاقتصاد الزراعي والإنتاج الحرفي، وإلى نموّ عام للقوى الرأسمالية من جهة أخرى. ولقد طرحت هذا التحليل بكل وضوح أثناء المؤتمر الثاني عشر. وفي هذه الفترة أيضا طرحت الفكرة القائلة لأنه إذا ما تأخرت الصناعة جاءت المواسم الزراعية الحسنة لتزيد الميول الرأسمالية بدلا من تغذية التطور الاشتراكي، ولتعطي بذلك العناصر الرأسمالية أدة لبث الاختلال داخل الاقتصاد الاشتراكي.
ووجدت هذه التوجهات الأساسية المقدمة من الطرفين في الصراعات التي طبعت السنوات الخمس التالية. وفي هذه الفترة تصاعدت باستمرار ضد المعارضة الصيحات والاتهامات السخيفة والرجعية في جوهرها مثل: إنها “تخاف من الموجيك الفلاح”، أو “تخشى المحصول الجيد” أو “تنظر بحذر إلى زيادة الثروة في القرية” أو أفضل من ذلك “تؤد نهب الفلاح”. وهكذا فمنذ المؤتمر الثاني عشر، وخاصة في مناقشات خريف 1923، رفضت الكتلة الرسمية المقاييس الطبقية، وتمسكت بمفاهيم مثل “الفلاحين” بشكل عام و”المحاصيل” والإثراء. وفي هذه الطريقة لإدراك الأمور يظهر ضغط الشرائح الاجتماعية الجديدة التي تشكلت على أساس السياسة الاقتصادية الجديدة “النيب” N. E. P. وكانت مرتبطة بجهاز الدولة، وبدت حريصة على ألاّ يضايقها أحد في ارتقائها.
وخلال هذه السيرورة، أخذت الأحداث العالمية أهمية حاسمة. وكان النصف الثاني من عام 1923 فترة انتظار وقلق للثورة البروليتارية في ألمانيا. وفـُهمَ الموقف بصورة متأخرة، وكان هناك تردد. وظهرت داخل القيادة الرسمية احتكاكات مطموسة (مع بقاء ستالين – زينوفييف في الحقيقة على الخط الوسطى نفسه). وبالرغم من التحذيرات المتكررة، لم تلجأ القيادة إلى تبديل التكتيك إلا في اللحظة الأخيرة. وانتهى كل شيء بالاستسلام الرهيب لقيادة الحزب الشيوعي الألماني، وتركها للعدو مواقع حاسمة (2).
وكانت هذه الهزيمة في حد ذاتها تحمل إنذارا واضحا. غير أنها أخذت معنى شاقا أكثر بكثير، لأن قيادة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، والمسؤولة إلى حد كبير عن الهزيمة، لم تفهم اتساعها ولم تقدر عمق الخسارة، ولم تشأ بكل بساطة الاعتراف بواقع الهزيمة.
ورددت القيادة بكل عناد بأن الوضع الثوري يتابع تطوره، وأن المعارك الحاسمة واقعة لا محالة في المستقبل. واستنادا إلى هذا الحكم الخاطئ من أساسه، حدد المؤتمر الخامس كل توجهه في منتصف عام 1924.
طوال النصف الثاني من عام 1923 قرعت المعارضة أجراس الإنذار محذرة من العقدة السياسية التي كانت تقترب، ومطالبة بمسلك يتجه فعليا نحو الانتفاضة، لأن الأمور تجري في مثل هذه اللحظات التاريخية بسرعة كبيرة تجعل عدة أسابيع بل عدة أيام تقرر مصير الثورات لسنوات عديدة. وبالمقابل في الشهور الستة التي سبقت المؤتمر الخامس رددت المعارضة بكل إصرار بأن الوضع الثوري قد فات و”أن من الضروري تبديل اتجاه الأشرعة على اعتبار أن الريح غدت معاكسة لا ملائمة”: وطرحا بأن الانتفاضة لم تعد في مهام الساعة، بل أنه يجب – عبر شن معارك دفاعية ضد العدو المهاجم – إعداد وحدة الجماهير وتأمين التفافها حول مطالب جزئية وخلق نقاط استناد داخل النقابات… الخ.
وبالرغم من الانحسار السياسي، اتجه المؤتمر الخامس بشكل إبرازي نحو الانتفاضة: فأدى إلى تحيير الأحزاب الشيوعية وإلى بث الفوضى في صفوفها.
عام 1924، وهو عام الانعطاف المباغت والواضح نحو الاستقرار، أصبح عام المغامرات في بلغاريا واستوانيا (3). واصطدم الخط اليساري المتطرف بشكل متزايد القوة مع خط سير الأحداث. واعتبارا من هذه اللحظة بدأ البحث خارج نطاق البروليتاريا عن قوى ثورية جاهزة سلفا: ومن هنا جاء تجميل بعض الأحزاب المزعومة فلاحية في عدة بلدان، كما جاءت المغازلة مع راديش لافولتت، والمبالغة في دور الأممية الفلاحية على حساب الأممية النقابية، والحكم الخاطئ على النقابات الانكليزية، والصداقة ما فوق الطبقية مع الكومينتانغ… الخ. إن كل هذه العكازات، التي حاول التيار اليساري المتطرف المغامر الاستناد إليها، غدت فيما بعد الدعائم الأساسية للتيار اليميني المكشوف الذي ترسخت أركانه بعد أن فشل المتطرفون اليساريون في تقدير الوضع، فتحطموا أمام عملية الاستقرار في 1924–1925.
حلّ مكان تطرف 1924 – 1925 اليساري، الضائع أمام الوضع، وبشكل عنيف، انحراف يميني، تذرّع بنظرية “عدم القفز فوق المراحل” ليطبّق سياسة التلاؤم مع البرجوازية القوية، والديمقراطية البرجوازية الصغيرة، والبيروقراطية النقابية، والكولاك الذين أطلق عليهم اسم “المتوسطين الأقوياء”، والموظفين…، بحجة تأمين النظام والانضباط.
وبعد ذلك جرف سيل الأحداث السياسة الوسطية–اليمينية، التي كانت تحافظ على مظاهر البلشفية في مسائل ثانوية، ووجدت ذروتها الدامية ذات الطبيعة المنشفية، في مسألتي الثورة الصينية، واللجنة الانكلو-روسية.
من التبجح الفارغ طبعا التأكيد على أن البروليتاريا الألمانية كانت دون أدنى شك ستستلم السلطة لو توفرت لها قيادة صحيحة، أو أن البروليتاريا الانكليزية لو قادتها قيادة صحيحة ستقلب دون أدنى شك المجلس العام (4)، وتقترب ساعة انتصار الثورة، أو أن البروليتاريا الصينية، لولا جرّها وراء راية الكومينتانغ، كانت ستنهي الثورة الزراعية منتصرة لتستولي بعد ذلك على السلطة دون أدنى شك بالتحالف مع الفلاحين الفقراء. غير أن هذه الاحتمالات الثالثة كانت قائمة، ولكن القيادة، بتجاهلها لصراع الطبقات كانت تدعم موقف العدو على حساب طبقتها بالذات، وكانت بهذا تزيد من إمكانية الهزيمة.
إن قضية الوتيرة حاسمة في كل صراع، فكيف بها في صراع أبعاده عالمية. ويرتبط مصير جمهورية السوفييت ارتباطا لا ينفصم بمصير الثورة العالمية. ونحن لا نملك قرونا أو حتى عشرات عديدة من السنين لنستخدمها على هوانا، إن المسألة تحسمها ديناميكية الصراع التي يستفيد العدو خلالها من كل خطأ أو هفوة، ويحتل كل شبر من الأرض إذا لم يكن محميا. وغياب السياسة الصحيحة لدى الأممية الشيوعية سيؤدي إلى تأخير الثورة العالمية تأخيرا تاريخيا غير محدَّد: غير أن الوقت هو الذي يفرض. وكل ما تخسره الثورة العالمية تربحه البرجوازية. إن بناء الاشتراكية صراع تقوم به الدولة السوفييتية ليس فقط ضد البرجوازية الداخلية بل أيضا ضد البرجوازية العالمية. فإذا ما استطاعت البرجوازية كسب تمديد تاريخي جديد طويل، ضد البروليتاريا العالمية، يصبح أكيدا أنها قادرة على قلب ديكتاتورية السوفييت بفضل تقدمها التقني القوي، وثورتها، وجيشها وأسطولها (ويبقى السؤال الخاص بالوسيلة التي ستحقق بها هذا العمل، وهل ستكون وسيلة اقتصادية أم سياسية أم عسكرية أم الثلاثة في نفس الوقت، عبارة عن سؤال ثانوي).
إن الوقت عامل حاسم في السياسة، وخاصة خلال الانعطافات التاريخية المباغتة، وعندما يدور الصراع حتى الموت بين نظامين. وعلينا أن نتصرف بالوقت باقتصاد كبير: إذ أن الأممية الشيوعية لن تستطيع الصمود أمام خمس سنوات أخرى مليئة بأخطاء مشابهة للأخطاء التي تم ارتكابها. تقف الأممية الشيوعية اليوم صامدة بفضل الجاذبية التي لثورة أوكتوبر ورواية ماركس ولينين بالنسبة للجماهير، ولكنها بددت خلال السنوات الأخيرة جزءا كبيرا من رأسمالها. إن الأممية الشيوعية لن تستطيع العيش خمس سنوات أخرى مع أخطاء مماثلة. فإذا ما انهارت الأممية الشيوعية عجز الاتحاد السوفياتي عن الصمود طويلا. ولن تبدو مزامير تصريحات ستالين المعلنة بأن الاشتراكية قد تحققت في بلادنا بنسبة 10/9 إلا كلغو فارغ. ومن المؤكد أن الثورة البروليتارية، حتى في هذه الحالة، ستشق طريقا جديدة إلى النصر: ولكن متى سيتم ذلك ؟ وماذا سيكون الثمن من التضحيات، والضحايا الغفيرة ؟ سيكون على جيل الثوار العالميين الجديد أن يربط خيط الإرث المقطوع ويكسب من جديد ثقة الجماهير وسط أكبر أحداث التاريخ الذي يمكنه أن يكون مهددا من قبل سلسلة غير منقطعة من الأخطاء والتقلبات والتزييف الايديولوجي.
يجب قول هذه الكلمات بوضوح وجلاء للطليعة البروليتارية العالمية، دون أي خشية من الصيحات والزمجرات والملاحقات المحتومة، الصادرة عن أولائك الذين لا يحافظون على تفاؤلهم إلا لأنهم يغلقون عيونهم بخوف أمام الحقيقة.
لهذا تهيمن سياسية الأممية الشيوعية، في نظرنا، على جميع القضايا الأخرى.
إن استقرار البرجوازية الأوروبية، وتدعيم الاشتراكية–الديمقراطية، وتأخر نمو الأحزاب الشيوعية، وتزايد الاتجاهات الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي، وانحراف سياسة قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي والأممية الشيوعية نحو اليمين، والبيروقراطية المنتشرة في النظام كله، والحملة الشعواء ضد الجناح اليساري، الملاحق والمضطر من جراء ذلك إلى أخذ مواقع المعارضة – كل هذه العمليات مرتبطة فيما بينها، وهي تدل على وجود ضعف – مؤقت بالتأكيد – ولكنه عميق لمواقع الثورة العالميةـ وتعبّر عن ضغط القوى المعادية على الطليعة البروليتارية.
تجذر الجماهير ومعضلات القيادة
أعلن تايلمان خلال خطابه، أو بالأحرى خلال سيل الشتائم التي وجهها إلى المعارضة، خلال الاجتماع العام للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية في فبراير (شباط) ما يلي:
“إن التروتسكيين لا يرون تجذر الطبقة العاملة العالمية، ولا يلاحظون بأن الوضع يأخذ وجها ثوريا متزايدا” (1).
ثم ينتقل بعد ذلك، كما ينبغي، إلى الإثبات، حسب الطقوس، ليؤكد بأننا، نحن وهيلفيردينغ، ندفن الثورة العالمية. وكان يمكن تجاهل قصص تايلمان الطفولية لو لم يكن الأمر يتعلق بحزب من الأممية الشيوعية – يشكل ثاني أحزابها من ناحية العدد – يمثله تايلمان في اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. فأين هو تجذر الطبقة العاملة الذي لا تلاحظه المعارضة ؟ لقد تحدث تايلمان وكثيرون غيره عن “التجذر” في 1921 و1925 و1926 و1927. فبالنسبة لهؤلاء لا يوجد في عام 1923 انخفاض في نفوذ الحزب الشيوعي ونمو في قوة الاشتراكية-الديمقراطية، حتى أنهم لم يتساءلوا عن سبب هذه الظواهر. ومن الصعوبة بمكان مخاطبة شخص لا يود تعلم حروف الأبجدية السياسية. ومن سوء الحظ أن الأمر لا يتعلق بتايلمان وحده، وحتى أن شخصه لا يتمتع بأية أهمية. لقد كان المؤتمر الثالث مدرسة الاستراتيجية الثورية بكل معنى الكلمة، إذ أنه كان يعلم أسلوب التمييز، وهذا هو أول شرط لحل أية مسألة. هناك فترات مد وفترات جزر، وتمر كل فترة من الفترات بدورها بعدة مراحل. وعلى التكتيك السياسي أن يتلاءم مع كل مرحلة، إلا أنه يجب في الوقت نفسه التمسك بخط سير عام يتجه نحو استلام السلطة، حتى لا نؤخذ على تعليمات المؤتمر الثالث. فتجاهل الوضع الموضوعي وأحل محل تحليلات الأحداث شعارا تحريضيا فظا هو: “الطبقة العاملة تتجذر، كما أن الوضع يزداد ثورية”.
والحقيقة أن الطبقة العاملة الألمانية لم تبدأ بالتخلص من نتائج هزيمة 1923 إلا منذ السنة الماضية. ونرى في إحدى الوثائق التي نشرتها المعارضة واستند إليها تايلمان ما يلي:
“مما لا شك فيه أن هناك حركة نحو اليسار في الطبقة العاملة الأوروبية، تظهر في تزايد الاضرابات وتضاعف عدد الأصوات الشيوعية في الانتخابات. بيد أن هذا كله لا يمثل سوى المرحلة الأولى للحركة. فأصوات الناخبين الاشتراكيين-الديمقراطيين تتزايد بصورة موازية لتزايد أعداد الناخبين الشيوعيين، وتتجاوزها في بعض الحالات. فإذا ما تطور هذا السير وتعمق، فستبدأ في المرحلة الثانية الحركة التي ستقود من الاشتراكية-الديمقراطية إلى الشيوعية” (2).
فإذا نظرنا إلى نتائج الانتخابات الأخيرة في فرنسا وألمانيا، وجدنا أن هذا التقدير الخاص بالوضع الداخلي للطبقة العاملة الأوروبية – وخاصة للطبقة العاملة الألمانية – يمكن اعتباره أن لا جدال فيه تقريبا. ومن المؤسف أن صحافة الأممية الشيوعية، بما في ذلك صحافة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، لا تقدم تحليلا جادا، عميقا، مدعما بالوثائق والأرقام حول وضع الطبقة العاملة. فإذا ما استخدمت الإحصائيات كان استخدامها راميا إلى رسم اتجاه يدعم هيبة القيادة وتخفي معطيات وأرقام ذات أهمية خاصة لرسم الخط البياني الخاص بالحركة العمالية في فترة 1923 – 1928، وذلك عندما تتعارض هذه المعطيات والأرقام مع الأحكام الخاطئة والتوجيهات المضللة. وهذا ما يجعل من الصعب إعطاء حكم حول الدينامية الفعلية لعملية تجذر الجماهير وحول مجراها والطاقات الكامنة فيها.
لم يكن يحق إطلاقا لتايلمان أن يقول في اجتماع فبراير (شباط) للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية بأن “التروتسكيين لا يرون تجذر الطبقة العاملة العالمية”، فنحن لم نرَ تجذر الطبقة العاملة الأوروبية فحسب بل أننا توصلنا انطلاقا من ذلك إلى تقييم الظرف منذ نهاية العام الماضي. وأكدت انتخابات الرايخستاغ في مايو (أيار) 1928 كليا وجهة نظرنا. إن التجذر يمر بمرحلته الأولى، وهو يقود الجماهير حتى الآن نحو الاشتراكية-الديمقراطية. ولم يشأ تايلمان أن يرى هذه الحقيقة في فبراير (شباط)، وهذا ما دفعه للقول: “بأن الموقف يأخذ وجها ثوريا متزايدا”. وتعبير بهذه العمومية لا يزيد عن كونه جملة جوفاء. هل يمكننا أن نقول بأن الموقف يأخذ “وجها ثوريا متزايدا” ؟ عندما نرى تزايد قوة الاشتراكية-الديمقراطية التي تشكل الدعم الأساسي للنظام البرجوازي ؟
للتقرب من وضع ثوري لابد لـ “تجذر” الجماهير من الوصول إلى درجة حيث يستطيع العمال الانتقال من الاشتراكية-الديمقراطية إلى الحزب الشيوعي، وهذا ما يتم الآن دون شك، بصورة جزئية، ولكن هذا لا يمثل الاتجاه العام للتيار. إن الحكم على مرحلة أولية، نصف سليمة نصف توفيقية، بأنها مرحلة ثورية يعني الإعداد لأخطاء قاسية. علينا أن نتعلم تمييز الأمور. ومن يردد سنة بعد أخرى بأن “الجماهير تتجذر وأن الوضع ثوري” ليس قائدا بلشيفيا، وإنما محرّضا كلاميا: ويمكننا التأكد من أنه لن يعرف الثورة متى أتت فعلا.
إن الاشتراكية-الديمقراطية هي الدعم الرئيسي للنظام البرجوازي. ولكن هذا الدعم في حد ذاته متناقض. فإذا انتقل العمال من الحزب الشيوعي إلى الاشتراكية-الديمقراطية أمكن التحدث بكل يقين عن توطيد النظام البرجوازي. وهذا هو ما وقع في عام 1924. ولم يستطع تايلمان وغيره من قادة المؤتمر الخامس فهم ذلك آنذاك: ولهذا ردوا على حججنا ونصائحنا بالشتائم. أما اليوم فالوضع وضع آخر، إذ ينمو الحزب الشيوعي مع نمو الحزب الاشتراكي-الديمقراطي، ولكن نموه ما زال لا يتم مباشرة على حسابها. إن الجماهير تندفع نحو الحزبين بصورة متوازنة، ولا تزال التيار المتجه نحو الاشتراكية-الديمقراطية حتى الآن أقوى من التيار الآخر. العمال يهجرون الأحزاب البرجوازية، إنهم يستيقظون ويخرجون من خمولهم السياسي, وفي هذا تحول جديد لا يعني، وذلك جلي، تقوية البرجوازية. بيد أن تطور الاشتراكية-الديمقراطية لا يشكل كذلك وضعا ثوريا. إن علينا أن نتعلم تمييز الأمور. إذن كيف يمكن تقييم الوضع الراهن ؟ إننا نمر الآن في وضع انتقالي، مليء بالتناقضات، حيث الاتجاهات ما زالت غير متميزة، وضع يحمل في طياته احتمالات مختلفة. إن علينا أن نتابع بكل عناية التطور اللاحق للتحويل، دون أن تدوّخنا الجمل الطنانة، وأن نكون مستعدين لمجابهة تبدلات الوضع الفجائية.
ولا تكتفي الاشتراكية الديمقراطية ببساطة بمجرد زيادة عدد أصواتها الانتخابية؛ وهي تنظر بعين القلق إلى تدفق العمال, والذي يسبب لها كثيرا من الصعوبات. وقبل أن ينتقل العمال بشكل جماهيري من الاشتراكية-الديمقراطية إلى الحزب الشيوعية – وهذا ما سيتم – علينا أن ننتظر وقوع احتكاكات قوية جديدة داخل الاشتراكية الديمقراطية نفسها، وأن ننتظر تشكيل تجمعات وانشقاقات جديدة. وهذا ما سيفسح المجال على الأرجح أمام الحزب الشيوعي للقيام بمناورات فعالة هجومية، على خط “الجبهة الموحدة”، بغية الإسراع في عملية التمايز الثوري للجماهير، وانتزاع العمال من أيدي الاشتراكية-الديمقراطية. ولكن الويل إذا اكتفت مناورات الأحزاب الشيوعية بالنظر من جديد في فم الاشتراكيين-الديمقراطيين “اليساريين” (الذين ما زال بوسعهم الانتقال كثيرا نحو اليسار) بانتظار ظهور أضراس العقل عندهم… ولقد رأينا من قبل مثل هذه “المناورات” المنفذة على نطاق ضيق في الساكس (1923) (3)، وعلى نطاق واسع في انكلترا والصين (1925–1927). وهي قد أدت في كل هذه الحالات إلى ضياع الفرصة الثورية، وسببت هزائم كبيرة.
إن قول تايلمان لا يمثل رأيه الخاص وحده، ولا أدل على ذلك من مشروع البرنامج الذي يقول:
“إن توطيد عملية تجذر الجماهير، وتزايد تأثير ونفوذ الأحزاب الشيوعية… يدلان بوضوح على حدوث مدّ ثوري جديد داخل مراكز الإمبريالية”.
إن هذا القول، إذا أخذناه كتعميم لطرح برنامج على أساسه، خاطئ تماما. لقد عرف عصر الإمبريالية والثورات البروليتارية وسيعرف ليس فقط “توطيد عملية تجذر الجماهير” بل كذلك حقبات تنحرف فيها الجماهير نحو اليمين، ليس فقط حقبات تزايد لتأثير الأحزاب الشيوعية بل أيضا عقبات انحدار مؤقت، وخاصة في حالات الأخطاء والهزائم وعمليات الاستسلام. فإذا نظرنا إلى الأمر كتقييم “ظرفي”، إلى حد ما صحيح في حقبة معينة، وفي عدد من البلاد، لا في العالم أجمع، فإن مكان هذا الحكم ليس في برنامج، ومن الأجدر وضعه في قرار مفصل: فالبرنامج موضوع لحقبة كاملة من الثورة البروليتارية. ومن المؤسف أن قيادة الأممية الشيوعية لم تظهر خلال السنوات الخمس الأخيرة بأنها تملك الفهم الدياليكتيكي بالنسبة لنمو الأوضاع الثورية ثم اختفائها. إنها قد تمسكت بسكولاستيكية مستمرة حول “التجذر”، دون أن تفكر بالمراحل الحية للصراع الذي تشنه الطبقة العاملة العالمية.
لقد أدت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية إلى إصابة الحياة السياسية في هذا البلد بشكل خاص بأزمات متعددة، وهذا ما وضع الطليعة الثورية البروليتارية في كل مرة أمام وضع يحمل مسؤوليات جسام. وكان السبب المباشر لهزائم البروليتاريا الألمانية في السنوات الخمس الأولى الضعف الشديد للحزب الثوري، أما هزائم السنوات الخمس التالية فكانت ناجمة عن أخطاء القيادة.
ففي 1918–1919 ظهر وضع ثوري افتقد إلى الحزب البروليتاري الثوري، وفي عام 1921 عندما بدأت عملية الجزر، حاول الحزب الشيوعي، الذي نمت قوته، الدعوة إلى الثورة، ولكن الشروط المسبقة كانت مفقودة. وتبع ذلك عمل تحضيري، “الصراع من أجل الجماهير”، أدى إلى انحراف يميني داخل الحزب. وتحطمت القيادة المحرومة من الإمكانيات والمبادرة أمام الانعطاف المفاجئ للوضع الذي كان يتجه نحو اليسار (خريف 1923). وأزيح الجناح اليميني ليحل محله الجناح اليساري، الذي تطابقت غلبته مع انحسار المد الثوري. ولكنه لم يشأ فهم ذلك بل حافظ على خط “السير نحو الانتفاضة”. ومن هنا نشأت أخطاء جديدة اضعفت الحزب وأدت إلى قلب القيادة اليسارية. واللجنة المركزية الحالية، المعتمدة بصورة سرية على جزء من عناصر “اليمين”، قد عملت دائما وبضراوة على محاربة اليسار، مردّدة في الوقت نفسه بطريقة ميكانيكية أن الجماهير تتجذر وأن الثورة تقترب.
إن تاريخ الحزب الألماني يقدم لوحة لتكتلات تقفز فجأة إلى السلطة كل بدورها، تمثل مختلف أجزاء الخط البياني السياسي: فكل مجموعة قيادية تصاب بالإفلاس عند كل انعطاف للمنحنى السياسي إلى أعلى أو إلى أسفل أي نحو أزمة ثورية أو نحو “استقرار” مؤقت، وتترك مكانها للمجموعة المنافسة. وكان ضعف جماعة اليمين كامنا في عجزها عن توجيه نشاط الحزب على طريق النضال الثوري من أجل السلطة، عند تغيّر الوضع. أما ضعف مجموعة اليسار فناجم عن عدم فهمها لضرورة تعبئة الجماهير حول مطالب انتقالية يفرضها الظرف الموضوعي في مرحلة الإعداد. فضعف كل مجموعة يمثل المكمل التناظري لضعف المجموعة الأخرى. كان تغيير القيادة في كل تبدّل في الوضع يؤدي إلى جعل الكادرات الحزبية العليا عاجزة عن اكتساب خبرة واسعة، تشمل في الوقت نفسه فترات الصعود والانحطاط، والمد والجزر، والمناورة والهجوم. ولا تستطيع قيادة أن تتعلم بمعنى ثوري تماما إلا إذا فهمت طبيعة عصرنا، وحركته المفاجئة وانعطافاته الحادة. أما فرز القادة بالصدفة أو “التعيين” فهو بشكل أكيد السبيل الأفضل للسير نحو إفلاس جديد عند أول أزمة اجتماعية كبيرة مقبلة.
إن القيادة هي التوقيع. وينبغي التوقف في الوقت المناسب عن مدح تايلمان لا لشيء إلا لأنه يجمع من حمأة الوحل كل الكلمات البذيئة ليوجهها إلى المعارضة، مثلما تم مدح تان–بين–سيان في الإجتماع السابع لمجرد قيامه بترجمة شتائم تايلمان إلى الصينية. ولا بد من أن نقول للحزب الألماني بأن حكم تايلمان على الوضع السياسي في فبراير (شباط) هو حكم فظ وبدائي وخاطئ. ولا بد من الاعتراف الصريح بجميع أخطاء الاستراتيجية والتكتيك المرتكبة خلال السنوات الخمس الأخيرة، ودراستها بكل جدية قبل أن تشفى الجروح الناجمة عنها: إذ أن دروس الاستراتيجية لا تعطي كل ثمارها إلا إذا لاحقت الأحداث خطوة خطوة.
