
ترجمة علي أحمد.
فهرس المحتويات
مقدمة
مر أكثر من سبعين عامًا على عمليات التطهير العرقي التي قامت بها المليشيات الصهيونية، والتي أجبرت أكثر من 750 ألف فلسطيني على النزوح من بيوتهم، فاتحة الطريق نحو قيام دولة إسرائيل.
وعلى حد وصف بيان اللجنة الوطنية لحركة المقاطعة (BNC) الفلسطينية في 2018، في عيد الاستقلال الإسرائيلي، فإن النكبة قائمة وتعيش بيننا:
“النكبة عملية مستمرة وليست جريمة من الماضي. سبعون عامًا مرت ولاتزال إسرائيل تهدم البيوت الفلسطينية، وتسرق أراضينا لبناء مستوطنات غير شرعية حصريًا لليهود الإسرائيليين، وتبعد الفلسطينيين عن القدس بإبطال تصاريح إقامتهم، وتحرم اللاجئين الفلسطينيين، ككثير من أعضائنا، من العودة إلى بيوتهم كحق معترف به دوليًا”.
ورغم ذلك لايزال الفلسطينيون يقاومون إبعادهم. ومرة تلو الأخرى ينظمون تحركات جماهيرية تتحدى مضطهديهم.
هذا الكراس يكشف تاريخ دولة إسرائيل التي تحاول، مع الحكومات الغربية المتحالفة معها، أن تجعل العالم ينساه. ويذهب إلى أبعد من العناوين الحالية ليطرح “تساؤلًا عن كيفية تحقيق العدالة للفلسطينيين وإنهاء الاحتلال للأبد؟”.
مولد إسرائيل ونكبة فلسطين
عند التدقيق الشديد في تاريخ النكبة الفلسطينية، يطرح إيلان بابي بشكل مقنع أن قيام دولة إسرائيل في 1948 كان فصلًا مخططا له مسبقًا من التطهير العرقي. فقد أُجبر أكثر من 850 ألف فلسطيني على النزوح عن منازلهم، وتعرضت نصف قراهم ومدنهم إلى “التدمير الشامل ولم يبق منها إلا الركام والحجارة”1.
هذه الجريمة المروعة قامت بها حركة صهيونية نشأت في البداية كرد فعل على العنصرية ومعاداة السامية في أوروبا وفي ظل مذابح النازية لليهود أو ما يعرف بالهولوكوست.
تكمن مأساة الصهيونية في القرار الذي اتخذه زعماؤها ليصبحوا روادًا للاستعمار الأوروبي بدلًا من أن يكونوا مناصرين للضحايا. ومن بين كل العلاقات التي أبرمها قادة الصهاينة مع دول أوروبا، فإن العلاقة مع بريطانيا أثبتت أنها الأكثر أهمية.
فمن خلال إصدارها لوعد بلفور عام 1917، أعلنت الحكومة البريطانية دعمها لقيام “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى تحول احتلال الجيش البريطاني للبلاد إلى “انتداب”.
وقد لخص الحاكم العسكري البريطاني للقدس بعد 1917، رونالد ستورس، وجهة نظر الإدارة البريطانية في الحركة الصهيونية، واصفًا إنشاء مستعمرة صهيونية بخلق “جيب يهودي” موالٍ داخل محيط معادٍ. هذا النوع من المستعمرات الاستيطانية هي ما تميزت به الإمبريالية الأوروبية في عدة مناطق من العالم. فعلى سبيل المثال، حكم المستعمرون الفرنسيون الجزائر بينما حُرِمَ الجزائريون من عرب وأمازيغ من حقوقهم بأن يكونوا على قدم المساواة مع الفرنسيين.
إلا أن البريطانيين كانوا على علم بأن المستوطنين لا يستطيعون إخضاع المنطقة بأكملها. كانوا بحاجة إلى حلفاء من بين الحكام العرب المحليين ليكونوا حاجزًا بين سادة المستوطنات وبقية السكان. صارت المنطقة بعد ذلك مجزأة إلى دويلات ملكية يحكمها من خلف الستار مستشارون بريطانيون أقوياء. وباقي المنطقة مُنِحَت لفرنسا، حليف بريطانيا في الحرب ومنافسها الإمبريالي.
شعر الامراء العرب والتجار وأصحاب الأراضي الذين هيمنوا على الممالك الجديدة بالخديعة من الشراكة البريطانية مع الصهيونية وكانوا يجهرون أحيانًا بالحديث عن الظلم القومي، لكن رهانهم على النظام الإمبريالي كان أكبر بكثير من المخاطرة بقلبه.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكنتيجة لها، جرفت أمواج الإضرابات والاحتجاجات والانتفاضات أنظمة التحكم الامبريالي لتهتز المنطقة حتى نخاعها، ويقوم ضباط متمردون من الجيوش الوطنية بإطاحة الأنظمة المَلكية في مصر والعراق، وتخرج الثورات ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا، والمغرب، وتونس، والجزائر.
وعلى النقيض من ذلك، فقد دمر قيام دولة إسرائيل آمال الفلسطينيين بالتحرر الوطني. عمل قادة الحركة الصهيونية على دمج مليشيات الحركة معًا، دافعين بعشرات الآلاف من الرجال والنساء المسلحين للسيطرة على معظم فلسطين التاريخية وطرد قاطنيها. قام الصهاينة بعملية تطهير عرقي في تحدٍ واضح لخطة الأمم المتحدة لتقسيم البلاد بين عرب ويهود.
معاداة الصهيونية ليست هي معاداة السامية
يتلخص الزعم الصهيوني في أن معاداة الصهيونية ماهي إلا غطاء حديث لمعاداة السامية. يستبعد هذا الطرح السجل التاريخي. معاداة السامية هي كراهية اليهود بكونهم يهودًا بغض النظر عن موقفهم السياسي أو الاجتماعي.
بينما تكمن معاداة الصهيونية في الرفض السياسي لفكرة الدولة الطائفية (دينية أو عرقية حصريًا) ونقد سياسات إسرائيل. لم تكن الغالبية العظمى من اليهود صهاينة حتى قامت النازية بمحاولة محو يهود أوروبا وتبعها رفض الدول الغربية لاستقبال الناجين من معسكرات الموت في نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولهذا السبب لا يوجد أي رابط ضروري لمعتقدات اليهود الدينية وتراثهم الثقافي بماهية إسرائيل. واليوم نرى أن بعضًا من أبرز معارضي إسرائيل وسياساتها هم من اليهود.
صعود المقاومة الفلسطينية
تمنى مؤسسو دولة إسرائيل أن يكونوا قد قضوا على الهوية الفلسطينية للأبد في 1948، لكنهم كانوا مخطئين. ففي الخمسينيات، بدأت عملية طويلة وبطيئة لبناء حركة تحرر وطنية داخل مخيمات وتجمعات اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة.
واجه الأغلب الأعم من اللاجئين الفلسطينيين مستقبلًا مأساويًا. فقد زُجَّ بهم في مخيمات تتلقى إعانات هزيلة من وكالات الأمم المتحدة ودول مضيفة تمنع معظمها أي حقوق سياسية لهم بشكل منهجي.
لم يواجه الأغنياء أو الطبقة المتوسطة نفس العقبات. فقد انجذب الكثير منهم إلى الخليج ليضطلعوا بدورٍ مهم في الخدمات العامة والإعلام وبعض القطاعات الصناعية، وفي هذه الدوائر وُلِدَت الحركة الفلسطينية الجديدة.
تأسست فتح على يد ياسر عرفات، الذي عمل مهندسًا، مع مجموعة صغيرة من رفاقه في الكويت سنة 1959. فقد ألهمت تجارب نضال حركات المقاومة في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية هذه المجموعة. كان لفتح مبدأ جوهري وهو “عدم التدخل”، بمعنى أن على الفلسطينيين تجنب الوقوف مع أي طرف في الصراعات الداخلية للدول المضيفة والتي تمول حكوماتها المقاومة. أصبحت لفتح السيطرة بعد ذلك على منظمة التحرير الفلسطينية التي أسستها الأنظمة العربية سنة 1964 كممثل رسمي للشعب الفلسطيني.
في 1993، وُقِّعَت اتفاقية سلام رسمية بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض بعد مباحثات سرية بين المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ابتهج العديد من الفلسطينيين، أو على الأقل تنفسوا الصعداء، بعدما ظهر لهم أخيرًا تطور حقيقي نحو تأسيس دولة فلسطين. وازدانت شوارع غزة والضفة الغربية بالأعلام الفلسطينية التي كانت تمنعها السلطات الإسرائيلية. وأُعِدَّت قوة شرطية على عجل، كما حدث مع غيرها من إدارات الحكومة الفلسطينية، وعاد ياسر عرفات وقادة منظمة التحرير إلى الوطن بعدما قادوا الحركة من المنفى لعقود.
لكن اتفاقيات أوسلو لم تأت بالسلام. بعد عشرين عامًا من التوقيع، يدين أڤي شلايم المؤرخ الإسرائيلي وأحد الداعمين لعملية السلام في 1993، حسابات “النيات السيئة” لقادة حزب الليكود:
“لقد تحولت عملية السلام التي طال التبجح بها إلى لعبة عبثية. في الحقيقة كانت أسوأ من لعبة؛ فقد أعطت لإسرائيل الغطاء الكافي التي كانت تبحث عنه لتكمل دون عقاب مشروعها الاستعماري غير الشرعي والعدواني على الضفة الغربية”2.
كان الأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد أكثر دقة عندما وصف الاتفاقية بأنها “صك الاستسلام الفلسطيني” الذي قبل به قادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن بددوا الفرص التي حققها النضال الشعبي من خلال الانتفاضة3. كانت شروط الاتفاقية واضحة بأنها بين طرفين غير متكافئين وبينهما فرق شاسع. ومن خلال اعترافها بحق إسرائيل في الوجود، منحت منظمة التحرير الفلسطينية الشرعية لسيطرة إسرائيل على معظم فلسطين التاريخية. إسرائيل في المقابل “اعترفت” بمنظمة التحرير الفلسطينية -التي أصبحت السلطة الفلسطينية- مع استمرارها بالتحكم بالحدود الدولية للأراضي الفلسطينية، ومعظم الأراضي داخل هذه الحدود من خلال شبكة واسعة من المستوطنات والمناطق العسكرية و”المحميات الطبيعية”.
أوسلو وما بعدها: فلسطين النيوليبرالية
في 1993، وُقِّعَت اتفاقية سلام رسمية بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض بعد مباحثات سرية بين المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ابتهج العديد من الفلسطينيين، أو على الأقل تنفسوا الصعداء، بعدما ظهر لهم أخيرًا تطور حقيقي نحو تأسيس دولة فلسطين. وازدانت شوارع غزة والضفة الغربية بالأعلام الفلسطينية التي كانت تمنعها السلطات الإسرائيلية. وأُعِدَّت قوة شرطية على عجل، كما حدث مع غيرها من إدارات الحكومة الفلسطينية، وعاد ياسر عرفات وقادة منظمة التحرير إلى الوطن بعدما قادوا الحركة من المنفى لعقود.
لكن اتفاقيات أوسلو لم تأت بالسلام. بعد عشرين عامًا من التوقيع، يدين أڤي شلايم المؤرخ الإسرائيلي وأحد الداعمين لعملية السلام في 1993، حسابات “النيات السيئة” لقادة حزب الليكود:
“لقد تحولت عملية السلام التي طال التبجح بها إلى لعبة عبثية. في الحقيقة كانت أسوأ من لعبة؛ فقد أعطت لإسرائيل الغطاء الكافي التي كانت تبحث عنه لتكمل دون عقاب مشروعها الاستعماري غير الشرعي والعدواني على الضفة الغربية”2.
كان الأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد أكثر دقة عندما وصف الاتفاقية بأنها “صك الاستسلام الفلسطيني” الذي قبل به قادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن بددوا الفرص التي حققها النضال الشعبي من خلال الانتفاضة3. كانت شروط الاتفاقية واضحة بأنها بين طرفين غير متكافئين وبينهما فرق شاسع. ومن خلال اعترافها بحق إسرائيل في الوجود، منحت منظمة التحرير الفلسطينية الشرعية لسيطرة إسرائيل على معظم فلسطين التاريخية. إسرائيل في المقابل “اعترفت” بمنظمة التحرير الفلسطينية -التي أصبحت السلطة الفلسطينية- مع استمرارها بالتحكم بالحدود الدولية للأراضي الفلسطينية، ومعظم الأراضي داخل هذه الحدود من خلال شبكة واسعة من المستوطنات والمناطق العسكرية و”المحميات الطبيعية”.
أعادت اتفاقيات أوسلو تشكيل اقتصاد الأراضي المحتلة لصالح إسرائيل. فقد خلقت آليات تصبح فيها المؤسسات الفلسطينية شريكًا فاعلًا في عملية ربط الضفة الغربية وغزة بالاقتصاد الإسرائيلي. وحولت هذه الآليات قوة العمل الفلسطينية، كما يقول آدم هنية، إلى “جيش عمال احتياطي قابل للتصريف … صنبور يُقفَل أو يُفتَح بحسب ما تقتضيه الحالة الاقتصادية والسياسية”.4 قبل اتفاقيات أوسلو كان يعمل ثلث الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة في إسرائيل. وبحلول 1996، تدهور هذا الرقم إلى 15%. وهبطت مكاسب العمل في إسرائيل من 25% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني إلى 6% فقط.
سلطت الاقتصادية سارة روي الضوء على معاناة فلسطين من “التنمية في الاتجاه العكسي”، وهي إستراتيجية إسرائيلية لضرب الأعمال الفلسطينية الصناعية والزراعية المستقلة. ففي التسعينيات، منع الإقفال المتكرر للحدود التي تتحكم بها إسرائيل من وصول البضائع الفلسطينية إلى الأسواق المحلية والعالمية.
وفي أثناء الهجوم على غزة في 2008-2009 و2014، أطلقت القوات الإسرائيلية الرصاص على الماشية والجمال واقتلعت أشجار الزيتون ومحت بالقصف الصاروخي مصانع الغذاء من على الخريطة. يقول محمد الطالباني، مالك مصنع العودة لصحيفة الجارديان البريطانية في 2014: “هذه حرب على اقتصادنا، لقد بدأت من الصفر وبعد ٤٥ عامًا من بناء هذه التجارة ضاعت كلها الآن”.5
سلام فياض كان اللِبنَة الأخيرة في الإستراتيجية الاقتصادية الإسرائيلية. موظف سابق في صندوق النقد الدولي يصبح وزيرًا للمالية ومن ثم رئيسًا للوزراء بعد انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة ضد حكومة الوحدة الوطنية المنتخبة لحماس في غزة في 2007. قادت “الفياضية” إلى ازدهار اقتصادي حرَّكهُ انفجار الاستهلاك والديون الشخصية.6
لكن ذلك لم يساعد على رفع الفقر وعدم المساواة. ففي 2011 كان نصف الأسر الفلسطينية في بعض المناطق بالكاد تغطي احتياجاتها من الطعام. يصف الناشط والكاتب الفلسطيني علي أبو نعمة كيف خرجت صفوة جديدة راكمت الثروة من عملية السلام نتيجة “العلاقة التكافلية بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي”:
عندما أنشأ القائد السابق للفلسطينيين ياسر عرفات السلطة الفلسطينية، جلب معه حاشية من الرأسماليين الفلسطينيين المغتربين الذين كون الكثير منهم ثرواتهم في دول الخليج. وسرعان ما وضعوا أنفسهم مشرفين على مفاصل الاقتصاد الفلسطيني.7
فمثلًا مدينة الروابي الجديدة في الضفة الغربية التي كان يُضرَب بها المثل على أن الاقتصاد الجديد ينجح بالفعل، هي في الحقيقة نموذج مشابه للقرى الاستيطانية الإسرائيلية في المنطقة ج. أخرجت السلطة الفلسطينية أهالي القرى والفلاحين من أراضيهم وكانت معدات البناء تُشتَرى في إسرائيل.
وفي النهاية، أنشأت إسرائيل والسلطة الفلسطينية مناطق صناعية مشتركة وشجعا الاستثمارات التمويلية من دول الخليج وباقي أنحاء العالم للاستفادة من العمالة الفلسطينية غير المنظمة. لاحظ البنك الدولي أن “الشركات الإسرائيلية أقامت مصانع داخل الدولة الفلسطينية للاستفادة من العمالة الفلسطينية الرخيصة وبعدها صُدِّرَت من هناك إلى باقي العالم العربي”، لتدخل بضائعها بسهولة إلى العالم العربي مطبوع عليها “صُنِعَ في فلسطين”.
مثلت اتفاقيات أوسلو اللحظة التي قررت فيه البرجوازية الفلسطينية تحت القيادة السياسية لعرفات أن مصلحتها تكمن في الاستسلام لمطالب القوى الامبريالية المهيمنة على المنطقة -الولايات المتحدة ووكيلها المحلي إسرائيل.
سار ياسر عرفات على خطى الرئيس المصري أنور السادات الذي وقع أول معاهدة سلام عربية-إسرائيلية في 1979 والتي تشابكت فيها السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية (الانفتاح) مع التنازلات العسكرية والدبلوماسية المصرية. وصارت السلطة الفلسطينية آليةً تعمل على إثراء القلة، ووفقًا للنموذج العالمي تمتعت هذه القلة بحماية جهاز أمني متضخم بنته الولايات المتحدة ليحمي المجموعة التي التفّت حول محمود عباس، خليفة عرفات المذعن. وبات الوضع أكثر قمعًا على الشعب الفلسطيني مع تحرك القوى الفلسطينية والجيش الإسرائيلي معًا ليحققا الطموحات من صاغوا الإستراتيجية الإسرائيلية منذ زمن بعيد.
أصبح واضحًا الآن، أكثر من وقت مضى منذ ظهور منظمة التحرير الفلسطينية، أن أزمة الهوية الفلسطينية هي في الأساس مشكلة طبقية. فمنذ البداية سعت البرجوازية الفلسطينية في الخليج لحشد الشباب في المخيمات لتحقيق مصالحها من خلال حركة نضال تتحكم بها. وبعد خمسين عامًا، صارت البرجوازية الفلسطينية في الضفة الغربية أكثر ارتباطًا واقترابًا من الرأسمال العالمي وظهر ذلك في المعاملات البنكية والتجارية والاهتمامات الإعلامية، وعملت بشكل علني مع إسرائيل ضد غالبية السكان الفلسطينيين.
غزة: صعود حماس إلى السلطة
ارتبط وصول حركة المقاومة الإسلامية، حماس، إلى السلطة بشكل خاص باتفاقيات أوسلو وخيانة فتح للنضال الفلسطيني. جاء ظهور حماس في الانتفاضة الأولى 1987، لكن جذورها تعود إلى الجمعيات والمؤسسات الإسلامية الخيرية التي نشأت في غزة منذ السبعينات على أيدي ناشطين استلهموا تجارب الإخوان المسلمين في مصر.
بعد عقود من هيمنة فتح وفصائل اليسار الوطنية على قيادة الحركة الفلسطينية، شيدت القيادات الإسلامية، مثل الشيخ أحمد ياسين، دعمًا لنفسها بأشكال مختلفة. فمن خلال الوعظ الديني والأعمال الخيرية بنوا قاعدةً شعبية تنافس العلمانيين الوطنيين للسيطرة على المؤسسات المهنية. كان هدفهم الأساسي هو كسب الفلسطينيين نحو الحياة على الطريقة “الإسلامية”.
استدعى اندلاع الانتفاضة في ديسمبر 1987 تكتيكًا مختلفًا بشكلٍ كبير من النشطاء الإسلاميين. فقد دفعوا أنفسهم نحو حشد الدعم للانتفاضة الشعبية. وكلما استمرت الانتفاضة ارتفع صوتهم بالنقد لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية على قبولهم التسوية مع إسرائيل وداعميها في الولايات المتحدة.
في البداية همشت اتفاقيات أوسلو الإسلاميين، ولكن مع تصاعد خيبة أمل الفلسطينيين في “عملية السلام” ازدادت شعبية حماس. وبينما استمر إقفال الحدود وخنق الاقتصاد الفلسطيني، وزاد بناء المستوطنات بشكل متسارع، بدا أن حماس تقدم بديلًا إستراتيجيًا لما تقدمه فتح.
عندما اندلعت انتفاضة جديدة في العام 2000 وردت عليها إسرائيل بقوة غاشمة، أطلقت حماس هجومًا عسكريًا ضد قوات الاحتلال. فقامت مجموعات تتبع الحركة بعمليات فدائية خارج الأراضي المحتلة أدخلت الرعب في قلب إسرائيل. وأظهرت تكتيكات حماس العسكرية الفارق الكبير في القوى بين حجم وموارد الإسرائيليين والفلسطينيين.
واصلت حماس السير على نهج طويل من العمليات الفدائية الفلسطينية كانت في طليعتها فتح وفصائل اليسار في منظمة التحرير الفلسطينية. بعض فصائل فتح استمرت على نهج المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، ولكن سيطرة السلطة الفلسطينية على الأجهزة الأمنية جعل من ذلك تناقضًا مستحيلًا.
هل كان على قيادات فتح التخلي عن السلطة الفلسطينية وأجهزة السلطة التي خلقتها اتفاقيات أوسلو أم التخلي عن مقاومة إسرائيل؟ لقد اختاروا التخلي عن المقاومة تاركين ساحة المعركة إلى حد كبير لحماس.
أثبتت حماس أيضًا أنها منافس فعال ضد فتح في انتخابات 2006، إذ اكتسحت مراكز الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في 2006 وأعلنت على الفور عرضًا بتهدئة عسكرية طويلة الأمد.
كان رد الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر هو التآمر مع فتح ضد حكومة الوحدة التي تقودها حماس. أعقب ذلك محاولة انقلابية فاشلة قامت بها الأجهزة الأمنية الفتحاوية في غزة. بعدها، أطبقت حماس قبضتها على قطاع غزة لتواجه حصارًا عسكريًا واقتصاديًا فرضته إسرائيل وطبقته مصر.
وفي غضون ذلك زادت السلطة الفلسطينية التي تقودها فتح من وتيرة الضغط على حماس برفضها دفع رواتب موظفي الحكومة المحلية في غزة وتواطؤها مع إسرائيل في حجبها للخدمات الكهربائية عن القطاع. وزاد من الصعوبات التي واجهت حماس التنافس الإقليمي بين السعودية وحلفائها من جهة وإيران وحلفائها من الجهة الأخرى.
قدمت دولة قطر تمويلًا حيويًا لحكومة حماس في غزة، واستضافت قادتها في المنفى بعد خروجهم القسري من سوريا قي 2012. لكن في يونيو 2017، تعرضت قطر نفسها إلى مقاطعة اقتصادية ودبلوماسية من السعودية كجزء من إستراتيجية عدائية تستهدف السيطرة على الخليج وتطويق التأثير الإيراني في المنطقة بشكل واسع.
دفعت كل هذه الضغوط حماس نحو المساومة، ففي أكتوبر 2017 وقعت معاهدة “مصالحة” مع فتح برعاية النظام المصري، ووافقت على تكوين حكومة وحدة وطنية تحت مظلة السلطة الفلسطينية وانتخابات عامة مزمعة في نهاية 2018.
وقدمت مسيرات الاحتجاج الضخمة على الحدود مع إسرائيل في مارس وأبريل من عام 2018 دليلًا حيًا على أنه رغم ضغط الحصار اللاإنساني، لم يستسلم الفلسطينيون في غزة بل واصلوا النضال من أجل العدالة. احتشد عشرات الآلاف على الحدود ليواجهوا عنفًا قاتلًا من قبل القوات الإسرائيلية. محتجون غير مسلحين يحملون الأعلام وأيضًا شباب أعلنوا تحديهم برمي الحجارة أُطلِقَت عليهم النيران وقُتِلوا على يد قناصة إسرائيليين مدججين بالسلاح. ففي أبريل 2018 قُتِلَ 17 فلسطينيًا على الأقل وأُصيبَ حوالي 1500، وفي 14 مايو قُتِلَ على الأقل 60 آخرون.
الرد الإسرائيلي العسكري الساحق “لمسيرات العودة الكبرى” لم يكن حادثًا عرضيًا، بل كان جزءًا من سياسات العقاب الجماعية الوحشية على سكان غزة أثناء الحصار. الفلسطينيون الذين يقاومون الاحتلال سواء عن طريق النضال المسلح أو الاحتجاج السلمي، سواء كانوا تحت راية حماس أو أي منظمة أخرى، دفعوا ثمنًا باهظًا. لهذا السبب وعلى عكس ما يقوله المتحدثون الإسرائيليون والمدافعون عنهم في الحكومات الغربية، فإن السبب لم يكن من يحكم غزة أو حماس، بل الحق في مقاومة الاحتلال وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم المسلوبة.
نحو موقف ثوري من حماس
(مصطفى عمر، الاشتراكيون الثوريون، مصر)
لم يساو موقفنا أبدًا بين كل الحركات (الإسلامية) المتنوعة في الدول المختلفة وفي لحظات مختلفة في الزمن. ودائما ما نحاول أن نتفهم الحركات الإسلامية في سياق نشأتها التاريخية ومضمونها الاجتماعي والطبقي وأهدافها السياسية؛ ودائما ما نحاول أن نحلل ما إذا كانت هذه الحركات تقاوم الأنظمة الرجعية والإمبريالية، حتى ولو بشكل متذبذب أو مشوه، أو ما إذا كانت حركات رجعية صرف تعادي نضال ووحدة الجماهير المستغلة والمضطدة، وبالتالي تخدم مصالح الأنظمة الرجعية والإمبريالية.
وعلى أساس فهمنا المادي لهذه الحركات الاسلامية وعلاقتها بالجماهير وبالأنظمة الرجعية وبالإمبريالية حددنا دائما موقفنا منها على تنوعاتها. كما أننا نعدل ونغير من مواقفنا الاستراتيجية والتكتيكية تجاه هذه الحركات مع تطورها وتعرجاتها ومقاومتها للإمبريالية أحيانا وخيانتها للجماهير أحيانا أخرى.
فعلى سبيل المثال، نحن نعتبر أن حركات إسلامية مثل داعش في سوريا والعراق هي حركات رجعية في الصميم تٌقوي من خلال عنصريتها وجرائمها ضد الشيعة والمسيحيين إلي القضاء على فكرة أن توحد المضطهدين أمر أساسي لمقاومة الأنظمة الديكتاتورية والاستعمار، ولذلك فنحن نعتبرها حركة تخدم، وبالضرورة، مصلحة الأنظمة الديكتاتورية والاستعمار، ونعاديها من حيث المبدأ على هذا الأساس.
ونحن نفرق بين داعش الإسلامية الرجعية الصرف –من ناحية– وحماس الإسلامية أو حزب الله الإسلامي –من ناحية أخرى– لأن الأخيرتين نشأتا بهدف مقاومة الاستعمار ودخلت في صراعات ومواجهات عديدة مع الصهيونية والإمبريالية من أجل الحقوق المشروعة للشعبين الفلسطيني واللبناني.
فنحن ننظر إلى حركة حماس، والتى نشأت في خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينات واكتسبت شعبية واسعة بين الفلسطينيين لرفضها التنازل والاستسلامات التي قدمتها (فتح) للعدو الصهيوني والولايات المتحدة، ولمقاومتها العسكرية لأكثر من عدوان إسرائيلي غاشم على غزة – ننظر اليها على أنها حركة مقاومة للصهيونية والامبريالية.
ومن هذا المنظور فإننا ندعم حركه حماس عندما تناضل بشكل عسكري أو غير عسكري ضد إسرائيل –دعم غير مشروط: لأنه يضعف الكيان الصهيوني ويرعب الأنظمة العربية والولايات المتحدة– وبالتالي يقوي فرص النضال الطبقي في الدول العربية ضد هذه المنظومة الإمبريالية.
إلا أن دعمنا غير المشروط لحماس لا يعني ولم يكن ولن يكون دعمًا غير نقدي، لأننا نؤمن أن إستراتيجيات حركة حماس في النضال لتحرير فلسطين –مثلها مثل إستراتيجيات فتح واليسار الفلسطيني من قبلها– إستراتيجيات عجزت وستعجز عن تحرير فلسطين.
إن استراتيجية حماس في الارتباط ببعض الانظمة العربية (ومن ضمنها مصر حتى الأمس القريب) وغير العربية الرجعية التي تقمع شعوبها وتتآمر دائما لخنق النضال الفلسطيني (لأنها تدرك أن البطولة والصمود الفلسطيني هو أمر كان وسيكون دائما محفز لهذه الشعوب، وهي الظهير الطبيعي لنصرة القضية الفلسطينية على الثورة ضدهم)، هذه الاستراتيجية التي تستنسخ استراتيجية فتح واليسار الفلسطيني منذ الستينات لن تحرر فلسطين؛ فبدلا من أن تتضامن حماس مع نضالات الجماهير العربية التي لها مصلحة في التخلص من الإمبريالية والصهيونية، تمضي حماس في استراتيجية التحالف مع الأنظمة التي تتعاون وعن طيب خاطر مع الإمبريالية والصهيونية.
ثانيا، فرغم البطولات الخارقة لمقاتلي حماس الذين يتصدون ببسالة لكل عدوان إسرائيلي وفي ظروف مستحيلة – هذه البطولات التي أضاءت قلوب الملايين حول العالم بالأمل في لحظات هزيمة للربيع العربي – رغم هذه البطولات فإن أسلوب حماس الفوقي في التفاعل مع الجماهير الفلسطينية – وهو ذات الأسلوب الذي اعتمدته من قبلها حركة فتح واليسار الفلسطيني في تعاملها مع الشعب الفلسطيني – كأدوات يقتصر دورها على مساندة النضال المسلح والسمع والطاعة للقيادة الثورية بديلا عن المشاركة الشعبية الواسعة في تطوير استراتيجية المقاومه والمشاركة في اتخاذ القرار – هو منهج يضعف قدرات المقاومة الجماهبرية على المدى الطويل في ظل وجود عدو تزداد أسلحته الفتاكة يوما بعد يوم.
ولهذا السبب فإن تأييد القوي الثورية لحماس وللمقاومة الفلسطينية ليس فقط تأييد غير مشروط بل هو تأييد نقدي أيضًا.
وبنفس المنطق فأننا، رغم تأييدنا له في أي مواجهة مع إسرائيل، ندين الموقف المعادي للثورات العربية التي اتخذه حزب الله بوقوفه إلى جانب السفاح بشار الأسد في سوريا.
تأييدنا للمقاومة في فلسطين هو تأييد غير مشروط لأن النضال الفلسطيني ضد الصهيونية شوكة في عنق الإمبريالية، ولأن للشعب الفلسطيني، وله هو فقط، مثله مثل كل الشعوب المستعمرة، الحق في تقرير مصيره، وذلك يتضمن حقه في اختيار قياداته واختيار وسائل المقاومه التي يراها مناسبة لطبيعته وظروفه.
وهو تأييد أيضًا نقدي لأن مصير التغيير الثوري في العالم العربي يرتبط عضويا بالمقاومة الفلسطينية والعكس صحيح.
داخل دولة إسرائيل العنصرية
يحب الداعمون لإسرائيل تقديمها على أنها دولة الديمقراطية والتنوير. لكن العنصرية تجاه الفلسطينيين لا تفضح المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل الدولة نفسها التي تأسست عليها. ينص تقرير مركز “عدالة”، المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، لسنة 2011 على الآتي:
“إن تعريف إسرائيل كـ“دولة يهودية” أو “دولة الشعب اليهودي” يجعل من عدم المساواة عمليًا وسياسيًا وأيدولوجيًا حقيقة بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، فهم مهمشون ويعانون من التمييز على يد هذه الدولة على أساس انتمائهم الوطني والديني كونهم غير يهود”.8
إن القوانين الأساسية التي تعرف المواطنة والحق في الهجرة إلى إسرائيل تميز اليهود على الفلسطينيين، إذ تسمح القوانين الجديدة بسحب الهوية الإسرائيلية عن الفلسطينيين الذين يمثلون 20% من مجموع السكان “لعدم ولائهم” للدولة.
ولا يستطيع المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل المتزوجون من فلسطينيين في الأراضي المحتلة (الضفة وغزة) إحضار زوجاتهم أو أزواجهم إلى إسرائيل منذ 2002. الفلسطينيون أيضًا يواجهون بشكل منهجي تمييزًا في التشغيل وفي كثير من الأحيان يمنعون من العمل لأنهم لم يخدموا في الجيش.
أما معدلات الفقر، فهي أعلى بكثير عند الأقلية الفلسطينية مقارنةً بالأغلبية اليهودية. والتمييز موجود في قطاع السكن والقدر على الوصول إلى الأرض. فمنذ 1948 شُيِّدَن حوالي 600 بلدية جديدة لليهود، وفي المقابل لم يُبنَ شيء للمجتمعات الفلسطينية. وتبلغ معدلات الوفيات عند الأطفال الفلسطينيين ضعفيّ مثيلتها عند اليهود.
إن الإطار القانوني للتمييز العنصري أصبح أكثر قوة. ونشر مركز عدالة تقريره لسنة 2011 وفيه رصد 30 قانونًا عنصريًا، وفي سبتمبر 2017 تضمنت قاعدة بيانات مركز عدالة 65 قانونًا “يميز ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل في كل مناحي الحياة”9.
كلب حراسة الإمبريالية
تلقت دولة إسرائيل منذ العام 1948 مساعدات أمريكية بلغت 72 مليار جنيه إسترليني. لا توجد دولة في العالم وصل لها هذا الكم من المساعدات، ومع ذلك فإن العلاقة بين “كلب حراسة” الإمبريالية الإسرائيلي وسيده الأمريكي مرت بعدة مراحل دقيقة لكن مع تحولات مهمة.
تعكس تلك التحولات آليات عمل الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي، والتغيرات الواسعة في ميزان القوى في المنطقة. ففي السنوات الأخيرة تضخم التعاون العسكري الأمريكي-الإسرائيلي، وتراجعت المعونة الاقتصادية المباشرة تدريجيًا (بعد أن كانت من قبل مهمةً لبقاء الاقتصاد الإسرائيلي)، فالحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري على جيرانها كان دائمًا ركنًا رئيسيًا من سياسة الولايات المتحدة.
ووفقًا لبيان موجز للكونجرس، فإن “المعونة العسكرية الأمريكية لإسرائيل وُضعت لتمنح إسرائيل “ميزة عسكرية نوعية” على جيوش جيرانها 10. أضف إلى ذلك أنه منذ 2008 تلتزم الحكومة الامريكية قانونًا بتبيان أن أي مبيعات أسلحة لبلد في الشرق الأوسط لن يؤثر سلبًا على إسرائيل.
ومنذ 1999 ومذكرات التفاهم العشرية (مدة التفاهم عشر سنوات) تحكم المعونة الأمريكية لإسرائيل. أول التفاهمات كانت في عهد إدارة كلينتون التي وقعت مذكرة تعطي إسرائيل ما مجموعه 26.7 مليار دولار معونات عسكرية واقتصادية، كان لحجم المعونة العسكري فيه حصة الأسد، فقد بلغت 21.3 مليار دولار.
في عهد إدارة جورج بوش، وُقِّعَت مذكرة تفاهم عشرية جديدة بلغت 30 مليار دولار، أما باراك أوباما فقد وقع اتفاقًا جديدًا مع إسرائيل في 2016 يتعهد بمبلغ 38 مليار دولار مساعدات عسكرية للسنوات المالية 2019-2028. ورغم تغير الرؤساء والإدارات، تظل هذه التفاهمات حجرًا أساسيًا في السياسة الخارجية الأمريكية لعقود.
أربعة عقود من المساعدات الامريكية شكلت الاقتصاد الإسرائيلي وعززت من دور الجيش داخل المجتمع الإسرائيلي. تحتل إسرائيل الآن المركز العاشر في تصدير السلاح على مستوى العالم. فصناعاتها الحربية عالية التقنية أصبحت المحرك الرئيسي للاقتصاد في العقدين الماضيين. تحولت إسرائيل من اقتصاد مشلول يعتمد على المساعدات الأمريكية في الثمانينيات إلى بلد صناعي ثري كما هو عليه الحال اليوم.
يمكننا ملاحظة تغير الميزان بين المساعدات العسكرية والاقتصادية في العشر سنوات الأخيرة. فالمعونة الاقتصادية المباشرة قد تلاشت تمامًا في 2007 مع ازدياد المساعدات العسكرية بشكل كامل. الاستثمار الإستراتيجي الأمريكي طويل المدى في قطاع تكنولوجيا السلاح منذ السبعينات حوَّل إسرائيل إلى حامية استعمارية، فأبحاث مختبرات تصنيع السلاح والقوة الضاربة النخبوية اندمجت معًا في وحدة واحدة.
أصبحت الطبيعة المتشابكة للصناعات الحربية الأمريكية الإسرائيلية في السنين الأخيرة أكثر وضوحًا.
ففي مارس 2014، وقعت الولايات المتحدة وإسرائيل اتفاقية إنتاج مشترك يمنح المصنعين الأمريكيين الحق في الوصول إلى التكنولوجيا خلف نظام الدفاع الصاروخي للقبة الحديدية. ويركز الاستثمار الأمريكي مؤخرًا في إسرائيل على التكنولوجيا التي يمكن نقلها إلى حروب الولايات المتحدة ضد “تهديد غير متماثل” من مجموعات مقاومة خفيفة التسليح.
ساعد صعود السلاح عالي التقنية أيضًا على ترسيخ سياسات الإقصاء الإسرائيلية العنصرية. فقد حرص الصهاينة دائمًا على إبعاد الفلسطينيين عن اقتصادهم حتى من قبل إنشاء إسرائيل.
ففي قطاعات مهمة كالزراعة والبناء كانوا مجبرين على استخدام أعداد كبيرة من الفلسطينيين كقوى عاملة رخيصة، لكن الصناعات عالية التقنية أثبتت أنه يمكن الاعتماد على قوى عاملة ضئيلة أكثر مهارة تحقق المكاسب دون الحاجة إلى استخدام العمالة الفلسطينية.
وبالتالي، فإنه رغم أنه بالإمكان وصف إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، فإنها تختلف بالتكوين عن نموذج دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. فقد أُسقِطَت الدولة العنصرية هناك من خلال عناصر أهمها تحرك الطبقة العاملة السوداء. كان للعمال السود في جنوب إفريقيا القوة الاقتصادية التي لا يملكها الفلسطينيون وحدهم.
هذه التحولات تساعد على فهم سبب الانجراف طويل المدى نحو اليمين في السياسات الإسرائيلية. كانت إسرائيل دومًا مشروعًا عنصريًا، لكن الاقتصاد أصبح أكثر اندماجًا من ذي قبل في الاقتصاد العسكري للولايات المتحدة. وهذا يغذي التوجه بأن إسرائيل تحتاج إلى قهر الفلسطينيين بدلًا من المساومة معهم. وعزز هذا بدوره اليمين في إسرائيل وكذلك تجربة الاحتلال.
كثف وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2016 من الضغوط على الفلسطينيين. فرغم استمرار سياسة الدعم العسكري لإسرائيل بشكل متزايد كما سبق وأوضحنا، والتي بدأت قبل عقود من انتخاب ترامب، جاء ترامب بسياسات جديدة كتطبيق قرار كان قد أُجِّلَ لفترة طويلة، وهو نقل السفارة الامريكية إلى القدس، والانسحاب من تمويل الأونروا، وهي أحد هيئات الأمم المتحدة التي تقدم إعانات اقتصادية للاجئين الفلسطينيين.
ارتبط دعم ترامب لهذه السياسات جزئيًا بالتقاء مصالح القوى السياسية لليمين المسيحي الأمريكي مع القوى السياسية لليمين الصهيوني في الولايات المتحدة وإسرائيل. فبعض المسيحيين الإنجيليين يعتقدون أن قيام دولة إسرائيل تنبأ به الإنجيل، وبالتالي فإن دعم هذه الدولة واجب ديني. تتوافق هذه المعتقدات وتتناغم مع اهتمامات الصهاينة بإزالة أي مؤشرات لمعارضة، حتى وإن كانت رمزية إلى حد بعيد، لهيئات دولية كالأمم المتحدة وحكومات أخرى لاحتلال الأراضي الفلسطينية.
كان الإنجيليون المسيحيون جزءًا مهمًا من قاعدة ترامب الانتخابية، وبعض المتبرعين لحملته كانوا صهاينة مثل قطب الكازينوهات شيلدون أديلسون. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو الآخر يحظى بدعم من أديلسون الذي يملك أيضًا أكبر صحيفة يومية دورية في إسرائيل. إلا أنه سيكون من الخطأ اختزال سياسات ترامب بشأن فلسطين بأنها راجعة إلى رغبة ترامب اليائسة لإرضاء المتبرعين الأثرياء وقاعدته الانتخابية.
فبالنسبة للولايات المتحدة، تعتبر إسرائيل جزءًا مهمًا من آلية الهيمنة على الشرق الأوسط. فإسرائيل تساعد بشكل إستراتيجي على السيطرة على منطقة حيوية غنية بالنفط. لابد أن تُفهَم شدة التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل أيضًا في إطار التغيرات الأخرى التي تحدث في المنطقة.
الثورة والثورة المضادة في العالم العربي
ردت الانتفاضات التي اندلعت في 2011 على الادعاء الكاذب بأن التغيير من أسفل في العالم العربي هو حلم مستحيل. فلقد سقط الحكام الديكتاتوريون في تونس ومصر عندما اندفع المحتجون إلى الشوارع وشلت الإضرابات قطاعات رئيسية في الاقتصاد. من بنغازي في ليبيا والمنامة في البحرين من حمص في سوريا إلى صنعاء في اليمن، خرج مئات الالاف رافعين شعارًا عذبا واحدًا ” الشعب يريد إسقاط النظام”.
دفعت هذه الأزمات الثورية لأول مرة إليها ملايين الناس إلى النشاط السياسي، إذ شكل هؤلاء لجانًا شعبية ونظموا إضرابات تركل عملاء النظام الحاكم من أماكن العمل وتنشئ نقابات مستقلة وتُطلق الصحف والمواقع على الإنترنت. الأقليات الدينية كالأقباط المسيحيين في مصر أخذوا مطالبهم في المساواة والعدالة إلى الشوارع، وانتشرت الحركات الجديدة التي تتحدى قمع النساء.
أُصيبَ المعلقون الغربيون بحيرة في البداية. عجز الصحفيون والأكاديميون عن التفكير وهرعوا للبحث عن إجابات. هل كان الفيسبوك هو السبب؟ هل كانت الانتفاضات الشعبية تواقة إلى الديمقراطية الغربية أم أنها تنادي بقيام نظام إسلامي جديد؟
عاملان أساسيان وقفا وراء انفجار الأزمة الثورية في المنطقة. الأول هو تبني السياسات النيو ليبرالية عبر المنطقة. كان التحول التدريجي في سياسات اقتصاد الدولة عاملًا مزعزعًا للاستقرار لأنظمة الحكم الوطنية التي ظهرت جراء الموجة المعادية للاستعمار بعد العام 1945. فمعظم هذه الأنظمة منحت الأمان الوظيفي والدعم للاحتياجات الأساسية، وتبنت رسميًا الخطاب المناهض للاستعمار في مقابل السبات السياسي الكامل.
في السبعينيات، عندما انزلق الاقتصاد العالمي إلى الأزمة، أدركت حينها الطبقة الحاكمة أن مجرد الحفاظ على نظام دعم متهالك من العقد السابقة سوف يأكل من أرباحها. وانخرطت حكومات المنطقة في برامج تعديل إصلاحية هيكلية وقروض من صندوق النقد الدولي وتبنت نهج النيوليبرالية.
العامل الرئيسي الثاني هو هزيمة الولايات المتحدة في العراق. أثبت الغزو والاحتلال بعد 2003 أخطاءً كارثية في التقدير من جانب هذه القوة العظمى. غاصت أقدام القوات الامريكية في الوحل بقتالها المتمردين العراقيين. والنظام العراقي الطائفي الذي خرج من عباءة هذه الفوضى كان تحت تأثير الجارة إيران، ولكن مع سيطرة البيت الأبيض عليه في نفس الوقت.
تصاعدت الأزمة الاقتصادية العالمية بعد 2008، وأصبح من الصعب تمويل تكلفة الاحتلال أو دعم الأنظمة المعتلَّة اقتصاديًا والمتحالفة مع الولايات المتحدة. هذا الانحدار النسبي لقوة الولايات المتحدة منح حلفاءها وكذلك أعداءها مساحةً أكبر لتنفيذ أجنداتهم الخاصة، مما زاد من حدة التنافس بين دول المنطقة.
وقد شكل هذا التشابك بين المطالب السياسية والاقتصادية للحركات الجماهيرية من أسفل تهديدًا بالغًا على الطبقات الحاكمة في المنطقة. فللمرة الأولى منذ عقود تطالب حركات المعارضة بالديمقراطية، وتلقى آذانًا صاغية من ملايين الناس العاديين، ومنهم عمال منظمون ممن اكتووا بنيران الإصلاحات النيوليبرالية.
لذا لم يكن من المستغرب أن الطبقة الحاكمة التي تقود التراكم الرأسمالي في المنطقة والتي سوف تخسر كثيرًا من انتصار الثورات أن ترد وتدشن الثورة المضادة. فحكام السعودية مع دعم شرائح كبيرة من الطبقة الحاكمة في الخليج كانوا في قلب إستراتيجية العمل على دحر الانتفاضات الشعبية بالجمع بين القمع العسكري المباشر والترويج للطائفية بين المسلمين السنة والشيعة لتقسيم الحركة من الأسفل.
كانت جزيرة البحرين مسرحًا لأول اختبار لهذه الإستراتيجية. غزت القوات السعودية البحرين في 16 مارس 2011 لتقمع الانتفاضة الشعبية بناءً على طلب من الملكية السلطوية الفاسدة هناك. وقفت الطبقة الحاكمة في السعودية أيضًا خلف الثورة المضادة في مصر، ومنحت النظام العسكري دعمًا تمويليًا ضخمًا ساعدته في الانقلاب على محمد مرسي في 2013 وعلى قيامه بمذابح مروعة للإخوان المسلمين ومؤيديهم في أغسطس من العام نفسه.
وفي سوريا، قاد نظام الأسد بنفسه الثورة المضادة لكن بدعم قوى أخرى في المنطقة؛ دعم من إيران التي وسعت نفوذها في العراق وسوريا ولبنان. وكما في الخليج، حيث يتخذ الصراع على السيادة شكلًا طائفيًا، كذلك النظام السوري يقدم نفسه كحام للمسلمين من غير السنة والأقليات الدينية الأخرى ضد الجماعات الإسلامية السنية الطائفية.
وفي واقع الأمر، فإن سياسات القمع الوحشية للنظام السوري نفسه بتنفيذ عقاب جماعي للمناطق التي تؤيد الثورة السورية بقوة، كانت العامل الأكبر في تحويل الثورة إلى حرب أهلية طائفية. وتسارعت هذه العملية بتدخل دول الخليج في الحرب الأهلية السورية بمساندتها أكثر الجماعات السنية رجعية وطائفية.
كان النضال الفلسطيني حاضرًا طوال الثورات العربية. ففي تونس، احتفل المحتجون بسقوط بن علي وهم ينادون بتحرير القدس. وفي مصر، سار عشرات الآلاف إلى السفارة الإسرائيلية في سبتمبر 2011 وأغلقوها بالقوة. وفي سوريا، انضم اللاجئون الفلسطينيون في مخيمات دمشق إلى الحراك الثوري ودفعوا ثمنًا باهظًا بحصار الأسد لمخيماتهم.
في المقابل، أعادت الثورة المضادة زمام المبادرة لأعداء التحرر الفلسطيني. النظام العسكري بقيادة السيسي اضطهد الفلسطينيين الذين يعيشون في مصر، وجرت شيطنة حركة حماس، وشُدِّد الحصار على غزة بتدمير الأنفاق التي تُستَخدَم في تهريب البضائع ودُمرت بيوت الأهالي على الجانب المصري من الحدود.
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي أُقرَّ بأنه القوة الصاعدة للعرش في الرياض قال علنًا إنه يؤمن “بحق الإسرائيليين في أن يكون لهم أرضهم”. ووفقًا لما أوردته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فإن هذا الدفء الجديد نحو دولة طالما أدانتها السعودية رسميًا لعقود كانت له انعكاسات اقتصادية وجيوسياسية.
“بدلًا من أن يرى الأمير محمد إسرائيل كعدو، فأنه أصبح يرى الدولة اليهودية كمركز جذب اقتصادي وتكنولوجي في المنطقة وكشريك محتمل في الحرب الباردة للمملكة مع إيران. وبمقتضي ذلك الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، فمن الأفضل أن يكون ذلك في سياق معاهدة سلام مع الفلسطينيين”11
صعود حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) والهجوم الصهيوني المضاد
انطلقت حركة المقاطعة في 2005 باعتراف مباشر من الحركات الاجتماعية الفلسطينية والنقابات المهنية، باسم “المكونات الثلاثة للشعب الفلسطيني: اللاجئين الفلسطينيين والفلسطينيين تحت الاحتلال والفلسطينيين المواطنين داخل إسرائيل”.
إنها حركة تستهدف إسرائيل كدولة عنصرية وليس فقط الممارسات الإسرائيلية في المناطق المحتلة. إنها حركة فلسطينية مستقلة تؤكد على حق الفلسطينيين في العيش بكرامة وتدعو إلى تضامن دولي مع نضالها. ومنذ 2005 تحول جوهر الحركة، وهو الدعوة إلى التضامن الدولي مع فلسطين، من دعم عام لنضال الشعب الفلسطيني إلى تدخلات تهدف إلى عزل الكيان الصهيوني في المحافل التجارية والسياسية الدولية والثقافة العالمية.
في المشاريع الخيرية والنقابات المهنية وفي الجامعات والكليات والكنائس والمعابد والمساجد واجتماعات المساهمين واجتماعات مجالس البلديات، كان السؤال المطروح للحركة هو إذا كان بالإمكان أخلاقيًا الدفاع أو سياسيًا تبرير التعامل التجاري كالمعتاد مع شركات ومؤسسات تستفيد من دعم السياسات العنصرية والقمع الوحشي في قلب المشروع الصهيوني.
صُمِّمَت هذه الإستراتيجية الجديدة لتكون بديل اللاعنف لنضال التحرر الوطني المسلح وكذلك لفكرة المساومات التفاوضية مع الصهيونية. ومع دفاعها عن حق المقهورين في حمل السلاح ضد الاحتلال، إلا أنها تدرك استحالة الانتصار المسلح المباشر مع استعمار عنيف تسنده الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين. ومع إنها تقر أيضًا بمفاوضات ملائمة لكنها تدرك أن التفاوض مع الحكومات الصهيونية من موقع الضعف سيعني تسوية تبقي غالبية الفلسطينيين إما مطرودين وإما مقموعين.
ساهمت حركة المقاطعة بشكل ضخم في ضرب شرعية الصهيونية خارج إسرائيل. وأكدت مجددًا على المبادئ الرئيسية التي أبقت على الحركة الفلسطينية لعقود:
•حق عودة اللاجئين وأحفادهم الذين طُردوا من فلسطين عام 1948.
•حق تقرير المصير لكل الفلسطينيين.
•رفض “حق” إسرائيل في الوجود “كدولة يهودية” –أي تعريف مواطنية الدولة بشروط دينية أو عرقية.
يناشد إعلان تأسيس حركة المقاطعة “ضمائر الشعوب” ألا تسمح لمؤسساتها بالتعاون مع المؤسسات الصهيونية وألا يسمحوا لأنفسهم بأن يتواطؤوا مع جرائم إسرائيل إما بالشراكة وإما العمل مع مؤسسات إسرائيلية. إنها تطلب من الحكومات أن تفرض المقاطعة على إسرائيل، ومن الشركات أن تسحب استثماراتها من إسرائيل أو أي مشاريع مشتركة مع الشركات الإسرائيلية.
تطالب حركة المقاطعة بشكل مركزي كل من ينحاز إلى العدالة والمساواة مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية والانضمام إلى حملة العقوبات وسحب الاستثمارات ومقاطعة بضائع وخدمات الشركات التي لم تسحب استثماراتها وما زالت تتربح من قمع الشعب الفلسطيني.
الأمر لا يتعلق بمقاطعة هدفها ببساطة البضائع الإسرائيلية التي تنتجها شركات إسرائيلية بشكل غير قانوني في الضفة الغربية، بل يتعلق بحقوق الإنسان العالمية لكل الفلسطينيين وبالاعتراف بالقانون فيما يخص الاحتلال وحق النازحين بالعودة إلى بيوتهم. لذا تنطبق المقاطعة على كل البضائع الإسرائيلية وليس فقط التي تنتج في الضفة الغربية.
حققت حركة المقاطعة بعض النجاحات في السنين الأخيرة. فقد كسبت دعم نقابات مهنية رئيسية ومجالس محلية واتحادات طلابية. وتحركت قضية العمل ضد سياسات التمييز والفصل العنصري والعنف الذي يواجه الفلسطينيون من جانب الدولة الإسرائيلية، من الهامش إلى الاتجاه العام.
لكن هذا النجاح استفز رد فعلٍ عنيفًا. فاعتبرت الحكومة الإسرائيلية حركة المقاطعة “تهديدًا إستراتيجيًا” وخصصت مصادر هائلة للتعبئة ضد الحركة تضمنت رفع قضايا قانونية وتفعيل حملات تشويه في الإعلام وإصدار تشريعات جديدة تمنع مؤيدي حركة المقاطعة من دخول إسرائيل.
معاداة السامية ومعاداة الصهيونية واليسار
من ضمن بعض النجاحات التي لقيها أحد خطوط الهجوم المضاد على حركة المقاطعة وعلى التأييد المتنامي للحقوق الفلسطينية، هو خط الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. فبحسب أنصار الهجوم المضاد، فإن كون إسرائيل تعلن عن نفسها كـ”دولة لليهود”، فأي هجوم على السياسات الإسرائيلية أو الاعتراضات على الطبيعة العنصرية للدولة التي تقصي غير اليهود عن المواطنة الكاملة لابد أن يُترجَم كهجوم على اليهود.
صارت الصورة أكثر تشوشًا بصعود معاداة السامية في دول عديدة وخصوصًا في شرق أوروبا، حيث تنكر أحزاب أقصى اليمين الهولوكوست أو تقلل منه، وأصبحت أكاذيب الكراهية المعادية للسامية التي تنشرها تلقى دعمًا جماهيريًا.
إلا أنه في الولايات المتحدة، مهَّد نمو أقصى اليمين الطريق لانتصار ترامب في الانتخابات، ليعطي النازيين ومناهضي السامية من مناصري التفوق العرقي للبيض ممرًا إلى أروقة السلطة. وبالرغم من حقيقة أن قاعدة ترامب الانتخابية تحوي هذه العناصر، لم يمنع هذا صهاينة الجناح اليميني من تقديم كل الدعم له.
وبدلًا من ذلك ركزوا كل هجومهم على اليسار وكسبوا دعم قطاعات من الإعلام والأحزاب الرئيسية في المملكة المتحدة، وحتى البعض من داخل حزب العمال. فدعم جيرمي كوربن المبدئي لحقوق الفلسطينيين ومعارضته الشديدة للإمبريالية الأمريكية والبريطانية في الشرق الأوسط، جعلت منه هدفًا استثنائيًا لحملتهم.
لهذا كان من الضروري دعم كوربن وكل من يقف مع الحقوق الفلسطينية في مواجعة ادعاءاتهم، والتي ليس لها أي أساس من الصحة، بأنهم معادون للسامية. فمعارضة العنف العرقي تجاه الفلسطينيين والاحتجاج على “حق” إسرائيل في الوجود كدولة تحرم بشكل منهجي غير اليهود من الحقوق المتساوية مع اليهود لا يعتبر عملا معاديًا للسامية.
وفي الوقت نفسه لا يجب أن يكون هناك مكان في الحركة من أجل الحقوق الفلسطينية للذين يفرخون الكره والمعاداة للسامية ويلومون اليهود كيهود على الاحتلال. ففي أي مكان تصعد فيه العنصرية وبأي شكل تتخذه، ستجد الاشتراكيين في قلب المبادرة لإنشاء حركات لمعارضتها.
كيف ينتصر الفلسطينيون؟
بعد مرور عشرين سنة على اتفاقات أوسلو، أصبح واضحًا أن فكرة ظهور دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل ليست إلا وهمًا. “الدولة” التي ولدت خلال هذه العملية الاستعمارية هي حطام متهالك. شعر ميرون بنفيزتي، أحد قلائل الأقلية المتبقية من القادة الصهاينة الأوائل، بالاشمئزاز من تداعيات هذه الإستراتيجية وتنبأ بأن سيادة هذه الدولة ستكون:
“محدودة بارتفاع مساكنها وعمق مقابرها، فالفضاء ومصادر المياه ستظلان تحت السيطرة الإسرائيلية. دوريات المروحيات وموجات الهواء والأيادي على مضخات المياه ومفاتيح الكهرباء وسجلات السكان وإصدار الهويات وأذون الدخول والخروج سيتحكم بها (بشكل مباشر أو غير مباشر) الإسرائيليون.
هذه الصورة الكاريكاتورية السخيفة لدولة فلسطينية مقطوعة الرأس وبلا أقدام أو مستقبل أو أي فرصة للنمو، تُقدَّم على أنها تحقيق لهدف الانسجام والعدالة المغروس داخل شعار “دولتين لشعبين”12
ومع هذا، لو تمخضت اتفاقيات أوسلو عن دولةٍ قابلة للحياة تحقق جزئيًا مطالب الفلسطينيين بعودة اللاجئين والمشاركة في القدس وتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، فهل تتحقق بذلك العدالة؟
الإجابة لابد أن تكون لا. هذا الحل لا يتطرق إلى الجريمة التاريخية التي أدت إلى وجود إسرائيل والذي اعتمد على تطهير عرقي لـ850 ألفًا من الفلسطينيين في 1948.
وسيترك هذا الحل دولة عنصرية استعمارية مدججة بسلاح الإمبريالية الأمريكية تشكل تهديدًا ليس على الفلسطينيين فقط، بل على المنطقة بأكملها. ولهذا السبب ترتفع أصوات عدد من النشطاء الفلسطينيين البارزين بالمطالبة بدولة واحدة علمانية ديمقراطية على مبدأ تساوي الحقوق لكل مواطنيها بما فيهم اليهود الإسرائيليون.
يقول عمر البرغوثي، العضو المؤسس في حركة المقاطعة BDS:
“إن قبول المستوطنين المستعمرين كمواطنين وشركاء كاملين في بناء وتطور مجتمع تشاركي جديد حر من الإذعان الاستعماري والفصل العنصري -على النهج النموذجي للدولة الديمقراطية- هو أكثر العروض كرامة يقدمها أي سكان اصليين لمضطهديهم، بعد عقود من القمع” 13.
لكن كيف يمكن لهذه الدولة أن تنشأ؟ فاحتمال أن يأتي الكفاح المسلح وحده بنصر كهذا هو احتمال لا يُذكَر. لا تستطيع المقاومة المسلحة الباسلة التي تقوم بها حماس وبقية الفصائل الفلسطينية أن تهزم آلة الحرب الصهيونية. الأنظمة العربية كذلك جزء مندمج في النظام الإمبريالي في المنطقة، لذا لا تستطيع ذلك ولن تدخل في مواجهة مع الجيش الإسرائيلي.
إن قيام إسرائيل جعل من الفلسطينيين أقلية مقموعة داخل بلادهم. وعودة اللاجئين الفلسطينيين ستجعل السؤال حول مستقبل فلسطين مطروحًا وحله هو الوسائل الديمقراطية كالاستفتاء مثلًا بناءً على قاعدة شخص واحد صوت واحد. ومسألة تقرير المصير أيضًا مسألة مركزية. فالفلسطينيون ليسوا أوراق مساومة في الصراع الدبلوماسي والعسكري، بل هم صناع القرار حيث أفعالهم هي التي تقرر مستقبل بلادهم.
إن للفلسطينيين الحق بأن يتسلحوا لتحقيق هدفهم، ولهم الحق أن يقرروا من يناضل ومن يتحدث باسمهم. والحركات الفلسطينية التي تحيي تراثًا ديمقراطيًا من الاحتجاجات الشعبية والعصيان المدني والإضرابات تهدد المشروع الإسرائيلي بعمق.
هذه الأشكال من التحرك تربط بشكل مباشر بين نضال الفلسطينيين في المناطق التي استولت عليها إسرائيل بالغزو المسلح الوحشي في 1948 مع إخوانهم واخواتهم في الضفة الغربية وغزة وباللاجئين الفلسطينيين خارج حدود فلسطين التاريخية.
إن اتفاقيات أوسلو والاستيلاء على الأراضي بالمستوطنات وبناء جدار إسمنتي ضخم يقطع الضفة الغربية، كلها صُمِّمَت من أجل منع أي ثورة من أسفل مرة أخرى، ولكن مع ذلك، فإن نضال الفلسطينيين لوحدهم أو حتى مع دعم حركات التضامن الدولية لن يكفي لتحقيق العدالة.
إن قمع الفلسطينيين هو حجر الأساس في النظام الإمبريالي في الشرق الأوسط، فهو نظام يعتمد على الأنظمة العربية بنفس قدر اعتماده على إسرائيل. ولهذا السبب لابد أن يرتبط النضال الفلسطيني مع بناء حركات ثورية مستقلة تناهض الأنظمة العربية. وهذه ليست فكرة جديدة بالنسبة للنشطاء في المنطقة، بل هي جزء من خبراتهم المشتركة في الفترة التي سبقت ثورات 2011.
إلا أن الموجة الثورية في 2011 كشفت أيضًا بعض نقاط الضعف خصوصًا في عدم وجود جذور لها في مواقع العمل والاحياء الفقيرة. وتبقى هناك مسألة شديدة الأهمية بالنسبة للنشطاء الثوريين العرب، هي ما إذا كان بالإمكان أن يصبح التضامن مع فلسطين مطلبًا أساسيًا للحركات العمالية المستقلة في العالم العربي.
إن عودة ظهور مثل هذه الحركة سيطرح أسئلة مختلفة وجديدة على العمال الإسرائيليين. وقد رأينا ملمحًا من ذلك التناقض السياسي والاجتماعي بين اليهود الإسرائيليين في 2011 عندما ألهمت الثورات في العالم العربي احتجاجات ضخمة داخل إسرائيل.
هذه الاحتجاجات لوحدها لا يمكنها كسر قبضة الأيديولوجيا الصهيونية الاستيطانية على ضمائر العمال اليهود في إسرائيل، لكنها أظهرت أن انتفاضات ثورية ناجحة جزئيًا قد تفضح الانقسامات الطبقية داخل المجتمع الإسرائيلي.
ونحن كاشتراكيين ثوريين ندرك أن معركة “دولة واحدة” في فلسطين لا يمكن في الغالب كسبها بدون تحول ثوري في المنطقة. نريد أن نرى أن النضال من أجل التحرر الوطني ينمو إلى نضال من أجل الاشتراكية. ليس فقط من أجل إسقاط الدكتاتورية والاحتلال الاستيطاني، ولكن من أجل تفكيك النظام الرأسمالي الذي يجد فيه القمع له موطنًا.
في هذه المعركة سيكون دور الطبقة العاملة المنظمة حاسمًا. وستكون طرق نضالها الإضرابات والاحتجاجات الجماهيرية والعصيان المدني: الحشد الذي يتضمن أوسع وأكثر أشكال المشاركة الديمقراطية. فنتائجها لن تُحسَم داخل الأبواب المغلقة بالدبلوماسيين أو الجنرالات (حتى لو كانوا من المقاومة).
لن يكون هذا الأمر سهلًا، فالثورة المضادة تخنق المنطقة. وسيكون من العسير كسب الدعم للفلسطينيين داخل مواقع العمل المصرية بينما النظام العسكري يطلق حملته الإعلامية الشرسة ليشيطن بها حماس. ومع هذا فإن غنيمة الانتصار في هذه المعركة ستكون هائلة.
وبالنسبة للشباب الذين يعيشون في ظل الاحتلال، لن يكون من السهل إقناعهم بعدم وضع ثقتهم في من قادوا الحركات على مدار عقود من الزمان، والاعتماد بدلًا منهم على عزمهم وتصميمهم وشجاعتهم. ورغم صعوبة ذلك، هناك فلسطينيون يقدمون هذا الطرح اليوم.
نحن أيضًا لنا دور مهم لنقوم به من خارج المنطقة. إسرائيل ترسل طائرات مسيَّرة صُنِعَت في بريطانيا لقتل الأطفال في غزة. الشركات التي تربح من وراء الاحتلال موجودة في مدارسنا وجامعاتنا وخدماتنا المحلية. كل ضربة نصيب بها الدولة البريطانية والطبقة الحاكمة البريطانية تقوض من استقرار الإمبريالية في الشرق الأوسط.
إن بناء تيار ثوري اشتراكي أممي أصبح الآن أكثر ضرورة مما مضى. إذا كنت توافق على ذلك انضم إلينا.
هوامش
1) Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, (Oxford, Oneworld,2006), p9
2) Avi Shlaim, It’s now clear: the Oslo peace accords were wrecked by Netanyahu’s bad faith, The Guardian, 12 September 2013, http://www.theguardian.com/commentisfree/2013/sep/12/oslo-israel-reneged-colonial-palestine
3) Edward Said, ‘The Morning After’, London Review of Books, 21 October 1993, http://www.1rb.co.uk/v15/n20/edward-said/the-morning-after
4) Adam Hanieh, Lineages of Revolt: Issues of Contemporary Capitalism in the Middle East (Chicago, Haymarket, 2012), p109.
5) Harriet Sherwood, Gaza counts the cost of war as more than 360 factories destroyed or damaged, The Guardian,
22 August 2014, http://www.theguardian.com/world/2014/aug/22/gaza-economic-cost-war-factories-destroyed
6) Ali Abunimah, The Battle for Justice in Palestine (Chicago, Haymarket, 2014), p85
7) Ali Abunimah, The Battle for Justice in Palestine (Chicago, Haymarket, 2014) p106
8) Inequality Report (Al-Adalah, 2011), adalah.org/upfiles/2011/adalah_The_Inquality_Report_March_2011.pdf
9) The Israeli Discriminatory Law Database (2017) is available online at adalah.org/eng/Israeli-Discriminatory-Law-Database
10) fas.org/sgp/crs/Mideast/RL33222.pdf
11) Ben Hubbard, Saudi Prince says Israelis have right to ‘their own land’, New York Times, 23 April 2018, http://www.nytimes.com/2018/04/03/world/middleeast/saudi-arabia-mohammed-bin-salman-israel.html
12) ‘United We Stand’, Ha’aretz, 19 January 2010. His article is referenced in Ali Abunimah, The Battle for Justice in Palestine, (Chicago, Haymarket, 2014), p47.
13) Omar Barghouti, ‘Re-imagining Palestine’, Znet, 29 July 2009, zcomm.org/znetarticle/re-imaginingpalestine-by-omar-barghouti/
