
مركز الدراسات الاشتراكية
11 مايو 2002
فهرس المحتويات
مقدمة
“أطلقوا 18 رصاصة على باب بيتنا .. اخترقت الرصاصات جسد أمي وجسد أخي يعقوب .. فسقط الاثنان على الأرض .. اتصلت بكل من أعرفهم لنقوم بنقلهم إلى المستشفى .. ولكن لم يأت أحد .. كانا يموتان أمام عيناي .. وعندما أتت عربة الإسعاف رفض ضابط إسرائيلي إعطائها الإذن بدخول شارعنا .. ولذا ظللنا على مدى 30 ساعة بينما الجثث مسجاة أمامنا .. وحشرنا الأطفال في دورة المياه لمنعهم من رؤية منظر الجثث .. أرجوكم ساعدونا”.
هكذا استنجد سامي عابدة ـ فلسطيني من بيت لحم ـ بالصحفي البريطاني المتخصص في شئون الشرق الأوسط روبرت فيسك في مكالمة هاتفية بعد بدء الغزو/المجزرة الإسرائيلية بأسبوع. إن تجربة عابدة المروعة ليست مجرد تجربة شخصية، بل هي تجربة شعب بأكمله. وهي لم تبدأ في 29 مارس الماضي. ولكنها بدأت قبل ذلك بـ 54 عاماً عندما تواطأت الإمبريالية العالمية مع الحركة الصهيونية على زرع دولة الاستعمار الاستيطاني العنصرية ـ إسرائيل ـ في المنطقة.
لم تنشأ دولة إسرائيل من فراغ. كان ورائها نظام استعماري عالمي يسعى لحراسة منابع النفط في الشرق الأوسط، وحركة صهيونية عنصرية وضعت على عاتقها مهمة حماية مصالح سادة الرأسمالية العالمية، وطبقات حاكمة عربية تخشى انتفاضة جماهيرها وترتمي في أحضان الولايات المتحدة والقوى الاستعمارية الجديدة. ولن يمكن القضاء على دولة إسرائيل من فراغ. فذلك لا يتطلب فقط النضال ضد سلطة الاحتلال والقهر، وإنما أيضاً الكفاح ضد الأنظمة المستغِلة المتواطئة التي اعترفت بإسرائيل وساعدتها على قمع وتطويق حركة التحرر الفلسطينية.
لم تتضح الحقائق أكثر ما اتضحت اليوم. ففي هذه اللحظة الحاسمة نقف جميعاً كشهود على آخر “إنجازات” نظام التوحش الاستعماري المسمى بـ”النظام العالمي الجديد”: إسرائيل تذبح الشعب الفلسطيني في عملية عسكرية تذكرنا بفظائع النازية؛ الولايات المتحدة تمدها بالسلاح والدعم السياسي؛ أما الأنظمة العربية فهي تتوسل إلى أمريكا ولا تدفع مليماً واحداً لدعم المقاومة الباسلة بينما تقوم آلات قمعها بقتل المتظاهرين من أجل تحرر فلسطين.
وحدها المقاومة ـ ومعها حركة الجماهير الغاضبة في الشارع ـ تقف في مواجهة آلة الحرب الجهنمية لإسرائيل فاضحة الأكاذيب التي روجها الحكام العرب ورجالهم وصحفييهم وكتابهم. فاليوم نحن نعلم عن يقين أن سلام مدريد وأوسلو لم يكن أكثر من فصل جديد من فصول الاحتلال العسكري البغيض ـ فصلاً أكثر عمقاً وقسوة ولكن تحت غطاء الشرعية الدولية الناعم!
السلام البرجوازي ـ أي التواطؤ مع الإمبريالية على نهب وقهر الشعوب ـ ذهب إلى مزبلة التاريخ. أما الأنظمة الفاسدة المستغِلة التي روجت أن “السلام” هو طريق الحرية والرخاء والرفاهية، فقد تعرت من آخر أوراق التوت التي سترت بها نفسها في نفس اللحظة التي زمجرت فيها الدبابات منطلقة ـ بأمر من شارون وعصابته ـ لسحق الشعب الفلسطيني في مدنه وقراه وأحيائه الفقيرة البائسة.
يقولون أن أحلك لحظات الليل هي آخره. ذلك ـ بدقة ـ هو ملخص ما نعيشه هذه الأيام. فالمجزرة الأخيرة دليل على فشل آلة القمع الصهيونية في إخماد صوت المقاومة الفلسطينية. وقتلى المظاهرات في مصر والبحرين دليل على إفلاس الطبقات العربية الحاكمة وفقدانها لأي شرعية. لقد طفت التناقضات على السطح واشتد التناحر إلى مداه. فلم يعد هناك شك في أن تحرر فلسطين مرهون بتحرر البلدان العربية من أنظمة غاشمة فقدت مبرر وجودها بعد أن أفلست كل رهاناتها الخارجية (السلام الأمريكي) والداخلية (الإصلاح الاقتصادي). ولم يعد هناك شك أن استراتيجية المقاومة والثورة، وليست استراتيجية طاولة المفاوضات سيئة السمعة، هي الطريق الوحيد إلى تحرير فلسطين. فقط طريق الانتفاضة هو البديل الوحيد. فالطبقات التي تقاسي ويلات الاحتلال والصهيونية ـ الطبقات العاملة والفقيرة ـ هي وحدها المنوط بها رفع رايات المقاومة.
إن دعم الثورة الفلسطينية هو واجب الجماهير العمالية العربية. إسرائيل زُرعت في المنطقة لقمع ثورات الكادحين ضد الفقر والاستعمار. ولذلك فقوى الثورة ـ والطبقات العاملة في القلب منها ـ صاحبة مصلحة في مزج ثورتها ضد الاستغلال في الداخل مع ثورتها ضد الصهيونية والإمبريالية.
إن طريق الثورة الاشتراكية، طريق الثورة ضد كل استغلال واضطهاد، هو طريق التحرر من الصهيونية ومن الأنظمة التي تحمي الصهيونية وتعترف بها وتطّبع معها. ونحن هنا في هذا الكراس نقدم وجهة نظر الاشتراكية في قضية فلسطين. ونشرح فيه أصل وتاريخ القضية ومراحل تطورها المختلفة، وذلك من أجل فهم جوهر الصراع ولتأكيد الحقيقة البسيطة التي أدركتها الجماهير، وهي أن الحل الجذري لمسألة احتلال فلسطين يقتضي ثورة جماهيرية تواجه الصهيونية والإمبريالية وتواجه أيضاً حلفائهما في المنطقة.
انتفاضة الأقصى تفضح خدعة “التسوية السلمية”
مثّلت انتفاضة الأقصى التي اندلعت في 28 سبتمبر 2000 ضربة قاصمة لمشروع “السلام” برعاية أمريكية الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية بدعم وتأييد من الأنظمة العربية وعلى رأسها مصر.
الانتفاضة ليست ـ كما يرى ويتمنى قادة البرجوازيات العربية ـ مجرد “أزمة عابرة” بين مرحلتين من المفاوضات على طريق مدريد وأوسلو، وإنما هي بداية لمرحلة نوعية جديدة في تاريخ الكفاح الوطني الفلسطيني.
المرحلة الراهنة من حركة التحرر الفلسطينية التي بدأت قبل 18 شهراً تكشف عن تحولات أساسية في طبيعة النضال ضد الصهيونية. فهي تعكس تفجر الرفض الفلسطيني لبديل المفاوضات الذي أثبت إفلاسه بعد سبع سنوات عجاف من التجربة في ظل السلطة الوطنية الفلسطينية (1994-2000). على مدى هذه السنوات تبخرت كل أوهام السلام ولم تبق إلا الحقائق المريرة، وهي حقائق وصفها أحد المعلقين المعتدلين بأنها تمثل “فظائع الاحتلال بحماية شرعية أوسلو”.
في ظل مرحلة ازدهار السلام ـ مرحلة أوسلو ـ تعلمت الجماهير الفلسطينية أن طريق المفاوضات لم يؤد إلا إلى تعميق الاحتلال.
فبينما كان المفاوضون الفلسطينيون يناقشون آلاف التفاصيل التافهة بلا كلل، كانت سلطة الاحتلال تخلق حقائق جديدة على الأرض. فقد استمر الطرد القسري لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني بدون الإقرار ـ ولو حتى اللفظي ـ بحق العودة؛ وتقطعت أوصال الضفة وغزة بعشرات من الطرق الالتفافية ونقاط التفتيش التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي؛ وتكرّس الاحتلال العسكري لأجزاء واسعة من الضفة مع السيطرة التامة على كافة الطرق الرئيسية ومحاور الانتقال في كل الأرض المحتلة؛ وتعمّق الاستغلال الاقتصادي البشع والهيمنة على الأسواق والعمليات التجارية؛ وتسارع التوسع الاستيطاني السرطاني المصحوب بمصادرة الأراضي وتجريفها؛ فضلاً عن ازدياد الإصرار على رفض إنشاء دولة تحقق الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني.
الانتفاضة إذن خلقت مأزقاً استراتيجياً لـ”معسكر السلام” الذي تزعمته الولايات المتحدة وانخرطت فيه الطبقات الحاكمة العربية والسلطة الوطنية الفلسطينية. وإذا ما تذكرنا أنها اندلعت بعد مرور شهور قلائل على النصر البطولي للمقاومة اللبنانية ونجاحها في فرض استسلام مخزي على جيش الاحتلال في الجنوب، يمكننا أن نفهم تماماً كيف أنها مثّلت مشروعية سياسية جديدة لبديل المقاومة على حساب بديل “مسيرة التسوية السلمية”.
جاءت المشروعية الجديدة لبديل المقاومة لتعكس ليس فقط تصاعد معاناة الشعب الفلسطيني في ظل أوسلو، وإنما أيضاً استحالة تحقيق تسوية تحقق أدنى طموحاته من خلال البديل التفاوضي. والحقيقة أن هذا لا يمثل أي مفاجأة لمن يعرف طبيعة إسرائيل.
فحتى خيار التصفية النهائية لاحتلال 1967لم يكن مقبولاً أبداً في أوساط النخبة الإسرائيلية الحاكمة بمختلف تياراتها من اليمين إلى اليسار. ليس مطروحاً أن تقبل دولة الاستعمار الاستيطاني العنصرية بحق العودة، وليس مطروحاً أن تنسحب إلى حدود 1967 كما يريدها الحكام العرب أن تفعل، وليس مطروحاً أن تسمح بوجود دولة فلسطينية لها مقومات حقيقية تعيش وتنمو في ساحتها الخلفية ـ باختصار ليس مطروحاً أن تتخلى إسرائيل ولو عن جزء من طبيعتها العنصرية الاستعمارية في مقابل التوصل لـ”تسوية تاريخية” كما تتمنى البرجوازيات العربية.
من هنا رأينا تصاعد التأييد لبديل المقاومة في صفوف الشعب الفلسطيني حتى قبل انطلاق انتفاضة الأقصى. فعندما تم توقيع اتفاقية أوسلو في عام 1993 حظيت على الفور بتأييد ثلثي الجماهير الفلسطينية. لكن بمرور الوقت هبطت التوقعات الفلسطينية المتفائلة بثمار عملية السلام من 44% في ظل حكومة بيريز، إلى 30% في العام الأول من حكم نيتنياهو، إلى 24% في ظل حكم باراك، إلى 11% مع انتخاب السفاح شارون.
أما عن العمليات الاستشهادية، فقد تزايد مؤيدوها بشكل مذهل خلال شهور الانتفاضة. فبين سبتمبر 2000 وسبتمبر 2001 ارتفعت نسبة من يعتقدون أنها وسيلة فعالة للمقاومة من 50% إلى 85%. ولم يكن ذلك فقط بسبب نجاحها في تحقيق أعلى مستوى للتوازن بين المقاومة والاحتلال خلال التاريخ الطويل للصراع، ولكن أيضاً لأنها تعد تقريباً الأداة الكفاحية الوحيدة في متناول الشعب الفلسطيني بعد أن تواطأت القوى الإقليمية والدولية وحرمت حركة المقاومة الفلسطينية من التسليح الذي يمكنها من مواصلة نضالها ضد الاحتلال.
وفي مواجهة المقاومة الفلسطينية البطولية كان “الخيار” الإسرائيلي هو القمع الوحشي. فقد صعد شارون ممثل الفاشية الصهيونية إلى السلطة بعد أربعة أشهر من الانتفاضة لتنفيذ برنامج انتخابي يتلخص في نقطة واحدة: سحق روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني. ومع كل فشل في تحقيق الهدف كان شارون ـ بدعم من الولايات المتحدة والقوى العالمية الكبرى ـ يلجأ إلى أساليب أكثر وحشية في محاولة مجنونة للحفاظ على هيبة دولة الاستعمار الاستيطاني. فمن القصف بالمروحيات وبمقاتلات الـ”إف-16″، إلى تدمير المنازل، إلى الاغتيالات، إلى التوغل المتكرر في أراضي السلطة الفلسطينية، إلى حصار عرفات، إلى الغزو الشامل للأراضي الفلسطينية في عملية بربرية تركت مئات القتلى وآلاف الجرحى والمعتقلين، عبأ السفاح القذر كل آلة الحرب الصهيونية في محاولة محكوم عليها بالفشل لتصفية المقاومة و”حسم القضية” بقوة السلاح.
كم يبدو الحديث عن “السلام” في هذا السياق مقززاً ومقيتاً؟ فبينما يُذبح الفلسطينيون بالمئات على يد مجرمي الحرب، يتحدث الطغاة العرب عن السلام “كخيار استراتيجي”! وبينما يدمر شارون “البنية التحتية” للسلطة الوطنية الفلسطينية تحت مظلة الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، يأمر الطغاة العرب أجهزة قمعهم بسحق المظاهرات الجماهيرية وبحماية السفراء الإسرائيليين!
إن شهوراً قليلة من الانتفاض والثورة تعلم الجماهير ما لا يمكنها تعلمه على مدى سنوات طوال. فاليوم يبدو واضحاً اليوم معنى “السلام البرجوازي”، ويبدو واضحاً دور الأنظمة العربية في قهر الشعب الفلسطيني ونهب وقمع الشعوب العربية، ويبدو واضحاً أن البديل الثوري ـ برغم المصاعب والعقبات ـ هو البديل الوحيد القادر على تحرير الشعب الفلسطيني.
وحتى ندرك مضمون وطبيعة وإمكانية البديل الثوري الذي تقدمه الاشتراكية لحل القضية الفلسطينية، علينا البدء من فهم طبيعة الصهيونية ومصالحها وروابطها مع الإمبريالية.
الصهيونية أشرس عدو للتحرر والثورة
يعلم أي مناضل من أجل العدل والحرية أن الصهيونية هي العدو الأول للتحرر والثورة في المنطقة العربية. ويعلم أي مناضل من أجل العدل والحرية أن إسرائيل ـ كتجسيد مادي للصهيونية ـ هي كلب حراسة المصالح الاستعمارية الذي مارس طوال عقود الاضطهاد والقمع، ليس فقط ضد الشعب الفلسطيني وإنما أيضاً ضد كل الشعوب العربية وغير العربية في هذه المنطقة من العالم. يشهد على ذلك القصف والاحتلال والتجويع الذي مارسته دولة الاستعمار الاستيطاني في السنوات منذ تأسيسها في 1948 وإلى اليوم. فلقد احتلت إسرائيل ـ إلى جانب فلسطين ـ سيناء، الجولان، جنوب لبنان، وأجزاء من الأردن. وقصفت إسرائيل، مرة أو مرات، مصر وسوريا ولبنان والعراق وتونس. وفي كل لحظة كانت تتهدد فيها المصالح الرأسمالية العالمية المرتبطة بتدفق النفط في الشرق الأوسط، كانت إسرائيل بآلتها العسكرية تقف بكل عنف إلى جانب الاستعمار.
فلماذا لعبت الصهيونية هذا الدور في منطقتنا؟ ولماذا وقفت وراءها الإمبريالية دوماً ودعمتها بالمال والعتاد والسلاح؟
اضطهاد اليهود في عصر الرأسمالية
من الخطأ الشديد الخلط بين الصهيونية واليهودية. فكما أكد كارل ماركس و إبراهام ليون ،لم تنشأ الأزمة المرتبطة باضطهاد اليهود في المجتمعات الأوروبية نتيجة خصوصية العقيدة أو الثقافة اليهوديين، وإنما نتيجة خصوصية الوضعية الطبقية لليهود الأوروبيين في القرون الوسطى.
فالوظيفة الاقتصادية الواحدة ليهود أوروبا ـ وظيفة المرابي ـ قد جعلت منهم شعب – طبقة، أي شعب ينتمي كل أبنائه لوضع طبقي واحد. وهذا بالتحديد ما جعلهم يصبحون موضوعاً لكراهية وسخط الفلاحين الفقراء في العصر الوسيط، خاصة في أوقات الانتفاضات الفلاحية. ولا غرابة في هذا، فاليهودي كان يمثل بالنسبة للفلاح الفقير مصدر البؤس والفقر والدَين، ولذلك فقد اصبح هو، وليس غيره، هدفاً للكراهية والاحتقار.
ومع قدوم عهد الرأسمالية الحديثة، بدأت طبقة جديدة من التجار المسيحيين في التكوّن. هذه الطبقة دخلت في منافسة شديدة مع تجار العصور الوسطى اليهود. وعلى أساس هذه المنافسة بدأت تتشكل من جديد الأفكار المعادية للسامية للتعبير عن كراهية تجار البرجوازية الجديدة من المسيحيين لمنافسيهم من اليهود.
من ناحية أخرى، ومع مرور الوقت و توسع الرأسمالية، بدأت الوحدة الطبقية لليهود في التفكك شيئاً فشئ. إذ توزع الشعب – الطبقة بين الطبقات الحديثة المختلفة: الطبقة العاملة، الطبقات الوسطى، والبرجوازية. وقد سهّل هذا التفكك من عملية اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية الحديثة. فالعمال اليهود بدءوا يرون مصالحهم أقرب إلى مصالح العمال الأوروبيين الآخرين، وكذلك الحال بالنسبة لليهود من باقي الطبقات.
ولكن كما أثبتت التطورات اللاحقة فإن هذا الاندماج الأولي لليهود في المجتمعات الأوروبية لم يكن أكثر من فجر كاذب. ذلك أن تناقضات تطور المجتمعات الرأسمالية الأوروبية والعالمية أدت إلى إعادة بعث المسألة اليهودية بشكل أعنف وأكثر وحشية. فبالذات في أوروبا الوسطى والشرقية ـ حيث بدأ التطور الرأسمالي متأخراً وفي ظل عهد من الحروب والأزمات الاقتصادية والتنافس الإمبريالي ـ كان دمج اليهود عملاً أكثر صعوبة ومليء بالتناقضات. ولأن الرأسمالية في هذه المرحلة ـ حوالي بداية القرن العشرين ـ كانت تنمو في ظل الأزمة والتناحر، فقد جعلت الطبقات الحاكمة من اليهود كبشاً للفداء تُوجَه إليه سهام العداء والكراهية بدلاً من توجيهها للحكام أنفسهم.
من هنا ظهرت أزمة اضطهاد اليهود في العصر الحديث، ومن هنا أيضاً طرحت القوى السياسية المتنافسة والمتعارضة حلولاً لها.
ميلاد الصهيونية
ظهرت الصهيونية في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر كحركة قومية رجعية ذات تأثير محدود تعبر عن مخاوف وطموحات المالكين الصغار والمتوسطين اليهود (البرجوازية الصغيرة)، وتدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود. فهؤلاء كانوا من ناحية أولى يكرهون الاشتراكية لأنها ستؤدي إلى سلب الامتيازات المحدودة والاستقرار النسبي الذين يتمتعون بهما باعتبارهم من المالكين أو الموظفين الصغار، وكانوا من ناحية ثانية يبحثون عن قوة تخلصهم من شر العنصرية التي تواجههم وتهدد حياتهم. وقد وجدوا ضالتهم المنشودة في الصهيونية التي تتوافق بسبب طبيعتها الرجعية العنصرية مع مصالحهم، وأيضاً مع المصالح الاستراتيجية للرأسماليين اليهود الذين تعرضوا ـ بالذات مع استفحال خطر الفاشية ـ إلى هجمات وضربات هددت استثماراتهم بشكل حقيقي.
وهكذا بدأت الصهيونية عهدها كحركة رجعية تجذب إلى صفوفها نشطاء يهود أغلبهم من الطبقات الوسطى يحلمون بوطن يهودي يحميهم من الاضطهاد والاشتراكية معاً! ولم يكن أمامها ـ حيث رفضها أغلب عمال وجماهير اليهود الذين كانوا يرفعون راية التحرر الاشتراكي ـ أي بديل غير أن تتحول إلى حليف أساسي للاستعمار العالمي. فقد اعتمدت على الدول الاستعمارية اعتماداً كاملاً، وسعت من خلال تحالفات معقدة مع إنجلترا وفرنسا ثم مع الولايات المتحدة إلى الحصول على قطعة أرض لتصبح وطناً قومياً لليهود.
بالنسبة للصهيونية كان التحالف مع الاستعمار اختياراً استراتيجياً وليس مجرد صدفة. ذلك أن النضال الجماهيري من أسفل لم يكن بديلاً ممكناً لتحقيق النصر لما يسمى بالقومية الصهيونية. فمن ناحية أولى كانت جماهير اليهود من العمال ترى مصالحها في النضال الاشتراكي، ومن ناحية ثانية كان اليهود قد فقدوا بالفعل وحدتهم وتوزعوا على مدى القرون المتتابعة بين دول قومية مختلفة، مما عنى أن ضمهم في وطن واحد كان يتطلب “المساومة” على قطعة أرض تصبح هي الوطن القومي المزعوم.
أما الدول الإمبريالية فقد مثلت الصهيونية بالنسبة لها، خاصة بعد توطن مئات الآلاف من الصهاينة في أرض فلسطين، فرصة هائلة لضرب حركة الثورة والتحرر في المنطقة العربية من خلال تكوين دولة قوية وحليفة في الشرق الأوسط تستطيع أن تقاوم أي محاولة للتخلص من السيطرة الاستعمارية. وقد زادت أهمية إنشاء هذه الدولة أضعافاً مضاعفة مع زيادة أهمية النفط كمصدر أساسي للطاقة بالنسبة للرأسمالية العالمية، ومع الاكتشافات المتتالية لحقوله في المنطقة، خاصة في دول الجزيرة العربية الضعيفة والهشة وغير المهيأة لمقاومة أي مد ثوري يأتي مثلاً من مصر أو العراق أو سوريا أو إيران.
الصهيونية تتحول إلى دولة
لماذا وكيف تحولت الصهيونية من حركة أقلية في أوساط اليهود إلى دولة قوية يؤيدها نسبة كبيرة اليهود في العالم؟ ولماذا وكيف نجحت هذه الحركة في انتزاع أعداد كبيرة من العمال والجماهير اليهودية من معسكر الاشتراكية وإلقائهم في براثن الرجعية؟ أهم سبب يفسر هذا الانقلاب الهائل هو الهزائم التي لحقت بالثورات العمالية التي اندلعت في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 –1918). فلقد أدت هذه الهزائم، وما تلاها من وصول الفاشية ـ أحط أشكال الحكم البرجوازي وأبشعها ـ لمواقع السلطة في عدد من الدول الأوروبية الكبرى، إلى سيطرة اليأس والرعب والأفكار الرجعية في أوساط واسعة من الفئات البرجوازية الصغيرة في أوروبا. وبالنسبة لجماهير اليهود بالذات كانت الهزيمة تعني الشيء الكثير: كانت تعني غرف الغاز والتهجير والإبادة الجماعية. وفي هذا الكفاية حتى نفهم كيف أن عدداً ليس بالهين من العمال اليهود رأوا في الحل الصهيوني مخرجاً من الموت المحقق الذي ينتظرهم على يد هتلر وموسوليني وأشباههم. وقد تزايد نفوذ الصهيونية في ظل هذه الظروف شيئاً فشئ، خاصة مع ارتفاع معدلات تهجير اليهود من الدول التي احتلها النازيون. فلقد اقتلع التهجير العمال اليهود من بيئاتهم العمالية، وأضعف صلاتهم القوى الاشتراكية التي تلقت ضربات هائلة مع صعود الفاشية.
على أنه من الضروري أن نشير هنا إلى حقيقة تاريخية هامة، وهي أن معظم العمال اليهود لم يتحولوا إلى الصهيونية، بل حاولوا الهجرة إلى دول أخرى غير إسرائيل. ولكن مزيج القوة والتحايل من جانب دول الحلفاء دفع الكثيرين منهم دفعاً إلى إسرائيل التي لم يجدوا لها بديلاً. ولكن في سياق الوضع كله ساد في أوساط اليهود إن لم يكن تأييد إيجابي للصهيونية، فعلى الأقل درجة من التعاطف السلبي معها ثم بعد ذلك مع دولتها الوليدة.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح الوضع مهيئاً، في إطار تقسيم الغنائم بين دول الحلفاء المنتصرة، لنشوء دولة إسرائيل. وبالفعل نشأت الدولة في 1948 بعد حرب إبادة وطرد شنتها العصابات الصهيونية المسلحة ضد الشعب الفلسطيني. وفور إعلان الدولة ـ بالتحديد بعد 11 دقيقة من إعلانها ـ اعترفت بها الولايات المتحدة، وتلتها الدول الإمبريالية المختلفة.
استعمار فلسطين وكفاح الشعب من أجل التحرر
تاريخ حركة التحرر الوطني الفلسطينية على مدى ثلاثة أرباع قرن أو أكثر ـ أي منذ عهد الانتداب البريطاني ـ هو تاريخ الصراع الطبقي في فلسطين والمنطقة العربية. عندما نتحدث عن حركة التحرر الوطني الفلسطينية نحن في الواقع لا نتحدث عن حركة واحدة منسجمة، وإنما عن استراتيجيات مختلفة ومتعارضة تبنتها، ولا زالت تتبناها، القوى الطبقية والسياسية المختلفة. وعندما نتحدث عن فشل هذه الحركة في تحقيق أيٍ من آمال وطموحات الشعب الفلسطيني، فنحن بالتحديد نتحدث عن فشل استراتيجيات البرجوازية الفلسطينية والبرجوازيات العربية ـ وهي القوى التي سيطرت أغلب الوقت على حركة التحرير الفلسطينية ـ في تحقيق الاستقلال.
الفشل الذي نتحدث عنه لم يكن صدفة ولم يكن بالأساس نتيجة تآمر بسيط من جانب القادة والحكومات، وإنما كان نتيجة إفلاس القوى البرجوازية وارتباطها العميق بالاستعمار ومصالحه. وما يشير إليه هذا الفشل هو أنه في فلسطين، ربما أكثر من أي مكان آخر، يحتاج الانتصار على الإمبريالية إلى قيادة طبقية ثورية وجذرية تستطيع أن تقطع الروابط مع الأنظمة ومع الاستعمار وأن تفتح الطريق أمام النضال الجماهيري من أسفل.
أصل المسألة الفلسطينية
لأن الصهيونية حركة شديدة الرجعية، ولأن صلتها بالإمبريالية صلة حياة أو موت، فقد اعتمدت منذ نشأتها وحتى اليوم على وسائل شديدة الدموية والوحشية لخلق دولتها والحفاظ على وجودها. الصهيونية في حقيقتها لا تعدو أن تكون حركة استعمار استيطاني وفصل عنصري. وهي في ذلك شديدة الشبه بحركة الفصل العنصري (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا.
منذ بداية الموجات الأولى للهجرة اليهودية وحتى تأسيس دولة إسرائيل في 1948 وما بعد ذلك، اتبعت الصهيونية سياسة عزل الاقتصاد والمجتمع اليهوديين عن مثيليهما الفلسطينيين. وقد توسع هذا الفصل العنصري كلما اكتسبت الصهيونية قوة على أرض فلسطين. وعند النقطة الفاصلة ـ عندما قررت الصهيونية أن تقيم دولتها بعد أن اقتنعت الإمبريالية تماماً بأهمية هذه الدولة لمصالحها ـ تطورت سياسة الفصل العنصري إلى نتيجتها المنطقية وهي التطهير العرقي. ففي حرب 1948 قام الصهاينة بمذابح بشعة هدفها طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم ومنازلهم لـ “تطهير” الدولة الوليدة من الوجود الفلسطيني.
إن أهمية الحديث عن مسألة طرد الفلسطينيين وتطوراتها تنبع في الحقيقة من تأثيرها الشديد على مصير حركة التحرر الفلسطينية. فعندما طُرد الفلسطينيون من أراضيهم في 1948 هربوا إلى ذلك الجزء من فلسطين الذي لم تحتله إسرائيل وهو الضفة الغربية وقطاع غزة، وأيضاً هربوا إلى الدول عربية المجاورة (كإمارة شرق الأردن). ولكن مصير الفلسطينيين من طبقات مختلفة كان متبايناً. لم يميز الاستعمار الصهيوني بين فلسطيني غني وفلسطيني فقير عندما طرد الجميع. ولكن كبار ملاك الأراضي الفلسطينيين والبرجوازية الناشئة استطاعا ـ عن طريق تحويل ذلك الجزء من ثرواتهم القابل للتحويل إلى الدول العربية ـ أن يجدا لنفسيهما حماية وفرها المال والثروة. أما العمال والفلاحون الفقراء والمعدمون والفئات الأفقر من المهنيين وأبناء الطبقة الوسطى فلم يجدوا أمامهم إلا المخيمات التي نصبت للاجئين. لقد كان الشتات الفلسطيني كارثة قومية نزلت على كل الطبقات في فلسطين، ولكن معنى الكارثة ومضمونها اختلفا اختلافاً عميقاً بين طبقة وأخرى.
بعد الهزيمة والتهجير في 1948 أصبح واضحاً تماماً أن الانتماء الطبقي هو الذي يحدد مصير الفلسطيني الذي فقد وطنه. فمن ناحية أولى ترعرعت ونشطت البرجوازية الفلسطينية في الدول العربية المجاورة لفلسطين وحققت نجاحات وراكمت ثروات وأصبح تشابك المصالح بينها وبين الأنظمة والبرجوازيات العربية أعمق وأعمق. ومن ناحية ثانية كان الباب مفتوحاً لأعداد واسعة من المهنيين لكي يعرضوا مهاراتهم ويبيعوها لرأس المال العربي (خاصة في دول الخليج النفطية). أما عمال فلسطين وفلاحوها الفقراء فلم يجدوا مخرجاً. محصلة الاستعمار والطرد بالنسبة لهم كانت تدهوراً حاداً في أوضاعهم: فقدان الأرض، زيادة في معدلات البطالة، اضطهاد واسع من الدول المستقبلة لهم …الخ. المفارقة في هذا الوضع هي أن الخيط الواهي والوهمي الذي وحد الفلسطينيين من كل الطبقات ـ خيط الرغبة في إقامة وطن قومي مستقل ـ كان مجرد غطاء فضفاض يخفي التباين العميق في الوضع والمصالح والأهداف بين طبقة وأخرى. الجميع كانوا يتحدثون عن التحرير، بل و”الثورة الفلسطينية”، ولكن معنى هذه الألفاظ كان مختلفاً تماماً على جانبي السد الذي يفصل بين الطبقات.
إفلاس استراتيجيات المقاومة
بدأت حركة مقاومة الاستعمار في فلسطين في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين. وقتذاك كان الاستعمار يتمثل في الانتداب البريطاني، جنباً إلى جنب مع الموجات الأولى من المهاجرين الصهاينة الذين شكلوا عصابات من المستوطنين المعادين لحركة التحرر الفلسطينية. بدأت الحركة بمبادرة من الجماهير الفلسطينية المستغَلة والمقهورة في شكل إضرابات ومظاهرات ومصادمات شوارع وحركة مقاطعة للبضائع والوجود الاستعماريين. وقد وصلت الحركة إلى إحدى ذرواتها في ثورة 1936. حيث نُظم إضراب عام صاحبته مظاهرات عارمة قمعها المستعمِر بالحديد والنار.
وقد لعبت الحركة الجماهيرية مرة أخرى دوراً جوهرياً في النضال الفلسطيني من أجل التحرر في النصف الثاني من الثمانينات مع بدء الانتفاضة الفلسطينية في ديسمبر 1987. وكما حدث في الثلاثينات، كانت المبادرة في إشعال الانتفاضة للجماهير المقهورة في الأرض المحتلة. مزجت الجماهير، خلال سنوات الانتفاضة، بين أشكال متعددة للنضال بدأت من الإضرابات والمقاطعة والمظاهرات، ووصلت إلى حروب الشوارع مع قوات الاحتلال المدججة بالسلاح.
نلاحظ في هذا السياق أنه بين بداية حركة التحرر الفلسطينية وبين زمن الانتفاضة الأولى ثم ما بعدها، مر النضال الفلسطيني بمنعطفات وتقلبات متعددة كشفت عن حدود دور كل طبقة وكل قوة سياسية في المعركة ضد الاستعمار. كشفت تقلبات النضال الفلسطيني عن حقيقة أخرى مريرة وهي أن كل هزيمة للمقاومة كانت تنقل المشروع الاستعماري الصهيوني إلى مرحلة أخرى من مراحله تتميز بعنف ووحشية أكبر من سابقاتها. إن محصلة التاريخ وخبراته هي أن الحدود الضيقة للنضال الوطني ـ نعني النضال القائم على فرض تحالف بين البرجوازية الفلسطينية والبرجوازيات العربية من ناحية أولى وبين جماهير الفلسطينيين الفقراء من ناحية ثانية ـ كانت وراء كل هزيمة، وكانت أيضاً وراء الاستسلام المخزي على طاولة المفاوضات الذي رأيناه على مدى السنوات العشر الماضية.
ففي المعارك الجماهيرية الأولى في العشرينات والثلاثينات كانت الطبقات المالكة (كبار ملاك الأراضي أساساً) تسعى بكل طاقتها إلى كبح جماح حركة الجماهير واستقلالها. كان كل توسع في حركة الجماهير يقلق كبار الملاك وممثليهم السياسيين ويثير خوفهم من أن تفلت الأمور من الزمام وتتحول إلى ثورة شاملة يشنها الفقراء ليس فقط ضد الاستعمار وإنما أيضاً ضد استغلال الأغنياء والمالكين للفقراء. ولقد سعت القوى الممثلة لكبار الملاك إلى مساومة مع الاستعمار لقطع الطريق على تنامي الثورة وتوسعها، وهو ما أدى إلى الهزيمة وبالتالي إلى انتعاش المشروع الاستيطاني الصهيوني (نذكر أنه بعد ما يزيد قليلاً على عقد من هزيمة ثورة 1936 تأسست دولة إسرائيل).
ومع إعلان الدولة الصهيونية ومع نجاح سياسة التطهير العرقي التي مارستها الدولة الجديدة ضد الشعب الفلسطيني، تغيرت الظروف الموضوعية للنضال الفلسطيني. فلقد أصبح معظم الشعب في ذلك الحين مطروداً خارج حدود دولة إسرائيل. ولذلك أصبح السؤال هو “من أين وكيف تنطلق المقاومة؟” بعد فترة ركود في النضال جاءت أهم الإجابات وأكثرها أساسية في مطلع الستينات على يد حركة فتح، وهي حركة تأسست على يد مجموعة من مهنيي الطبقة الوسطى ذوي الحال الميسور. كانت إجابة فتح سهلة وبسيطة: على المقاومة أن تنطلق من الدول العربية المجاورة لإسرائيل (حينذاك كانت الضفة تحت سيطرة الأردن وغزة تحت سيطرة مصر) ، وستكون بأيدي الفلسطينيين أنفسهم وفي شكل حركة مسلحة، والهدف هو الضغط على الأنظمة العربية ودفعها لأن تقوم هي بمواجهة كبرى مع إسرائيل تتحرر نتيجة لها فلسطين. إجابة فتح كانت تقوم على مجموعة من الركائز أهمها هو “عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية”.
لماذا طرحت فتح هذا الشعار المركزي ـ نقصد شعار عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية ـ وصممت عليه من البداية حتى النهاية؟ السبب يكمن في طبيعة فتح ذاتها. فهذه المنظمة كانت تعكس الآمال والطموحات السياسية للمهنيين والطلاب الميسورين من الطبقة الوسطى في إنشاء وطن قومي مستقل للفلسطينيين. هؤلاء كانوا “وطنيين”، ولكن وطنيتهم كانت أسيرة تماماً لمصالح البرجوازية. الخط الأحمر الذي رفض قادة فتح دائماً أن يتخطوه كان هو هز استقرار سلطة البرجوازيات في المنطقة. بل إن فتح سعت، بالعكس، إلى دفع تلك الأنظمة ذاتها إلى تبني القضية الفلسطينية، وتبني حركتهم مالياً وسياسياً! ولذلك اعتبرت أن أحد أهم انتصاراتها هو ما أعلنه مؤتمر القمة العربي في الرباط من أن منظمة التحرير الفلسطينية (التي تهيمن عليها فتح) هي الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين!! هذا الانتصار المزعوم كان في الحقيقة تعبيراً عن نجاح فتح في إقناع البرجوازية الفلسطينية والأنظمة العربية أنها تستطيع أن تحتوي حركة المقاومة في حدود آمنة بالنسبة لهم.
والسؤال هو: هل كان يمكن ألا تتناقض حركة حقيقية للمقاومة الفلسطينية مع الأنظمة العربية؟ التاريخ أثبت العكس. فدائماً ما كانت المقاومة الفلسطينية تمثل عنصر عدم استقرار في الدول العربية. الفقراء الفلسطينيون في المخيمات وفي الشتات عموماً لعبوا دائماً دوراً مفجراً للنضال الطبقي في الدول العربية. في دول الخليج مثلاً ـ وفي السعودية بالذات ـ كان الفلسطينيون، الذين أصبحوا في الخمسينات والستينات كتلة هامة من عمال النفط، هم قادة ومحرضو الإضرابات العمالية التي هزت العروش ودفعت الجيش إلى التدخل لإيقافها. وفي الأردن كان التجذير الذي خلقه التواجد الواسع للفلسطينيين هو السبب وراء اهتزاز عرش الملك حسين بشكل خطير على مدى شهور عام 1970. وفي لبنان كان وجود المقاومة بعد انتقالها إلى هناك عاملاً من عوامل خلق الوضع شبه الثوري في أوائل السبعينات.
لم يكن كل هذا صدفة. فدرجة تسييس الفلسطينيين عالية، ووضعيتهم في الدول العربية المضيفة لهم قائمة على الاضطهاد (لهم وضع أدنى في الحقوق والمعاملة)، والتجربة المريرة للحياة في المخيمات تؤجج روح المقاومة، والقضية الوطنية مشتعلة ومركزية. كل هذا كان معناه من وجهة نظر الأنظمة العربية أن هناك ضرورة لاحتواء الفلسطينيين، وإن لزم الأمر قمعهم. ولذلك فإن أي تنظيم سياسي للفلسطينيين في الدول العربية كان يعد خطراً رهيباً. وأي نشاط سياسي لهم، حتى ولو ضد إسرائيل فقط، كان يقابل بكل الحزم. ولعل ذلك يفسر بدرجة كبيرة لماذا كانت فتح نفسها، بالرغم من مواقفها القائمة على عدم التدخل في الشئون الداخلية للأنظمة، تتصادم مع الدول العربية من آن لآخر، خاصة عندما كانت تضطر تحت وطأة الضغط من أسفل للسير مع موجة المقاومة الشعبية.
الحكام العرب كانوا يخشون من حركة المقاومة الفلسطينية، ويرتعدون من إمكانية توسعها أو التحامها بحركة الجماهير العربية الفقيرة لتصبح قوة حقيقية وهادرة تكنس الأنظمة. وقد كان لهذا الخوف ما يبرره. فقد رأى الحكام العرب جميعاً صورة مستقبلهم ـ إذا لم يقمعوا حركة المقاومة الفلسطينية ـ في وضعية الملك حسين المتهاوية في عام 1970. ولذلك فقد كانت الأنظمة تكبح جماح المقاومة، وتستخدم القضية الفلسطينية فقط كورقة ضغط في “لعبة الأمم”. ومنظمة فتح هنا كانت هي القوة السياسية الوحيدة المقبولة، وذلك بالضبط لأنها وضعت كل رهانها على الأنظمة وعلى الإمبريالية.
على أن الهوس بالأنظمة وبالتحالف بين الطبقات والخوف من الجماهير لم يكن فقط سمة مميزة أساسية لفتح، وإنما أيضاً ميز بدرجة ما القوى الأكثر جذرية. فالجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وهما على يسار فتح، اعتمدتا على الأنظمة التي يقال عنها أنها راديكالية في المنطقة العربية (كسوريا). هذا بالرغم من أن سوريا، فيما يخص مسألة دعم النضال الفلسطيني، لم تكن أبداً أفضل من الدول العربية الأخرى (لا ننس أن مذبحة تل الزعتر للفلسطينيين في 1976 تمت بأيدي سورية).
أما حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي في فلسطين ـ وهما أهم معارضي منظمة التحرير الفلسطينية اليوم ـ فإن أيديولوجيتهما المختلفة شكلاً لا تعني اختلافاً كبيراً في المضمون. فإصرارهما على سياسة التحالف بين كل قوى (طبقات) الشعب الفلسطيني، وتذبذبهما في مواجهة الخط المهادن للسلطة الفلسطينية، شتت إمكانيات تصعيد وتعميق حركة المقاومة الفلسطينية. وبالرغم من بطولة المناضلين الإسلاميين الذين ينفذون عمليات استشهادية، إلا أن الميل للتعالي على الجماهير لدى حماس والجهاد عرقل فرص الربط بين عمليات المقاومة وبين حركة الجماهير العاملة الفلسطينية.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى
انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ديسمبر 1987. وقد مثّل انطلاقها تحول كيفي في حركة النضال الفلسطيني. إذ فتح دخول الجماهير الفلسطينية العريضة إلى ساحة المعركة أفقاً جديداً لتحرير الأرض المحتلة وحل القضية التي أثبتت الأنظمة العربية والبرجوازية الفلسطينية أنهما غير قادرين على ـ ولا راغبين في ـ حلها.
لم تكن أعمال العصيان المدني التي تميزت بها الانتفاضة جديدة، بل جاءت كتطوير وتتويج لنضال متصاعد شهدته السنوات السابقة. على أن الانتفاضة تميزت عما سبقها بسمتين بارزتين: أولاً اتساع النطاق، وثانياً التنظيم من أسفل. ومن حيث النطاق فإن جموعاً هائلة من الناس ممن لم يكن النشاط السياسي جزءاً من عالمهم في السابق راحوا يشاركون في العمل النضالي على نحو أذهل قادة الاحتلال، بل وفاق توقعات أكثر أنصار الثورة الفلسطينية تفاؤلاً. فهاهم الأطفال يواجهون بالحجارة في أيديهم والأرواح البريئة في صدورهم دبابات جيش الاحتلال، وهاهم العمال الذين اعتادوا على العمل في إسرائيل و”المشي في حالهم” طلباً للرزق من أجل إطعام ذويهم يدخلون إضراباً يتوالى من شهر لآخر، وهاهن النساء يبدعن في إذكاء روح المقاومة وبناء الظروف والمؤسسات الكفيلة بتعزيز القدرة اليومية على البقاء خلال شهور الانتفاضة وسنواتها، وذلك من خلال ما أقمنه من مدارس بديلة ودور حضانة وغيرها.
إن اتساع نطاق الانتفاضة قد أربك قيادات المشروع الصهيوني على نحو غير مسبوق. فرابين مثلاً، الذي تولى وزارة الدفاع عام 1985 من أجل إخماد أعمال المقاومة التي كانت في تصاعد رغم تكثيف القمع الإسرائيلي، قد استشعر في قيام الانتفاضة واتساعها على ذلك النطاق الهائل هزيمة شخصية له. فقد وجد هذا القائد العسكري ـ المشهود له بـ”الكفاءة” في قمع الفلسطينيين والعرب ـ نفسه عاجزاً أمام صبية يقذفون جنوده بالحجارة. جاء إلى وزارة الدفاع ليحطم المقاومة فإذ به يجد نفسه مشلولاً أمام ثورة شاملة. وبعد أن كان يتهم منظمة التحرير بأنها وراء الأحداث بدأ يعترف أن الحركة انطلقت عفوياً من أسفل.
ولكن العفوية لم تظل على حالها. تطورت الانتفاضة خلال أسابيع من اندلاعها وبدأت روعة تنظيمها تظهر. نشأت اللجان المحلية من كل نوع وفي كل مكان لتنظيم كافة جوانب الحياة في ظل المواجهات البطولة اليومية مع جيش مدجج بالسلاح متمرس على الوحشية. لجان لتنظيم العمل الزراعي وأخرى لتنظيم توزيع السلع الاستهلاكية على أساس تعاوني .. لجان لتنظيم إغلاق المتاجر والمحلات وأخرى لتنسيق إضرابات العمال .. لجان تشرف على المدارس البديلة وأخرى تدعم أهالي الشهداء والمعتقلين .. الخ. ومن قلب كل هذه اللجان القاعدية خرجت القيادة الموحدة للانتفاضة التي تخرّج كوادرها من مدرسة النضال الثوري المتمثلة تحديداً في سجون إسرائيل.
بين “السلام الأمريكي” و”الثورة الجماهيرية”
عندما انطلقت الانتفاضة الفلسطينية في أواخر 1987 اعتقد كثير من المناضلين أن الإجابة على سؤال “كيف تتحر فلسطين؟” قد أُعلنت على يد الجماهير. وبلا شك فإن الانتفاضة قد قلبت العديد من الموازين وكلفت إسرائيل أموالاً كثيرة وخلقت موجة من التعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية. بل أنها قد أشعلت حركة مؤثرة للتضامن مع الشعب الفلسطيني في الدول العربية، وأكدت بذلك على أن القضية الفلسطينية يمكنها أن تلعب دوراً مفجراً للصراع الطبقي في المنطقة.
ولكن بعد سنوات على بدء الانتفاضة كانت المحصلة أن سلطة الاحتلال ظلت جاثمة على الضفة والقطاع بينما عرفات يجلس على طاولة المفاوضات يستجدي حكم ذاتي محدود. فلماذا حدث هذا؟ جزء أساسي من الإجابة يكمن بالطبع في الدور القذر الذي لعبه عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية لاستخدام الانتفاضة لتحقيق مصالحهم ثم وأدها بعد ذلك.
فلقد أعادت الانتفاضة القضية الفلسطينية إلى مقدمة مسرح الأحداث. وبتهديدها لإسرائيل أعطت للقيادة الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير فرصة للمساومة مع القوى الدولية ولفرض بعض الشروط لبعض الوقت. وهكذا ـ وبضغط من الأنظمة العربية المذعورة من تصاعد الانتفاضة وحركة التضامن معها ـ اعترفت الولايات المتحدة زعيمة الإمبريالية العالمية بمنظمة التحرير ودفعت إسرائيل للدخول في مفاوضات سلام. البرجوازية الفلسطينية عثرت على ضالتها المنشودة أخيراً! فلطالما حلمت بالحصول على دويلتها المستقلة الصغيرة لتحمي فيها مصالحها، ولطالما طالبت الإمبريالية أن تقبل بالطريق “السلمي” لتكوين هذه الدولة.
وهاهي تأخذ ما تريد بفضل الانتفاضة. وهكذا أصبحت الانتفاضة مجرد ورقة ضغط في المناورات الديبلوماسية: يحتويها ثم يقضي عليها عرفات في مقابل رضا الأنظمة والإمبريالية وفي مقابل قطعة أرض وعلم ونشيد. وقد سهّل من هذا كله تصاعد تأثير تيار أنصار التسوية السلمية في أوساط الطبقة الحاكمة الأمريكية في مطلع التسعينات. فأولئك رأوا أن الفرصة سانحة آنذاك ـ مع انهيار الكتلة الشرقية وتعميق النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط بعد حرب الخليج الثانية ـ لتصفية الصراع في المنطقة بشروط أمريكية تضمن أمن إسرائيل، ومن ثَم تضمن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
على جانب آخر، كانت هناك أسباب إضافية هامة وراء ولادة مشروع السلام الأمريكي بعد انتفاضة 1987. فلقد أثرت الانتفاضة بشدة على إسرائيل اقتصادياً وسياسياً، ولكنها لم تستطع ـ ولم يكن في مقدورها وحدها ـ أن تقضي على دولة الاستعمار الاستيطاني.
فالانتفاضة لم تكن ثورة، وإنما كانت مقاومة عنيدة باسلة واسعة النطاق. ومعنى أنها لم تكن ثورة هو أنها لم تخلق شكل ـ ولو جنيني ـ لسلطة بديلة من أسفل في فلسطين المحتلة بكاملها أو حتى في الأرض المحتلة في 1967. ولم يكن هذا صدفة، وإنما كانت له أسبابه. فبالرغم من التطورات الاقتصادية قد خلقت طبقة عاملة فلسطينية، إلا أن هذه الطبقة كانت ولازالت ـ بسبب الاستعمار وسياسة الفصل العنصري ـ ضعيفة وصغيرة الحجم. أولاً لأن الاستعمار الصهيوني منع تطور رأسمالية صناعية فلسطينية داخل الضفة والقطاع، وثانياً لأن العمال الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل معظمهم عمال غير مهرة ليسوا في قلب الإنتاج الصناعي الإسرائيلي. إضرابات هؤلاء تؤثر في الرأسمالية الإسرائيلية، ولكن يمكن تحملها. وعلى ذلك فلم يكن في مقدور الطبقة العاملة الفلسطينية أن تلعب دور بديل سياسي للقيادة البرجوازية لحركة المقاومة.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى إذن لم تستطع أن تمثّل وحدها بديلاً استراتيجياً لتحرير فلسطين. وهنا أصبح السؤال “ماذا بعد الانتفاضة؟” سؤالاً جوهرياً. بصياغة أخرى أصبح السؤال الأساسي هو: “هل تكون الانتفاضة مجرد ورقة ضغط على طاولة المفاوضات، أم تكون بداية لثورة أشمل وأوسع نطاقاً تعم دول المنطقة وتحل معضلة تحرير فلسطين؟” من الواضح أن كل بديل يمثل مشروعاً طبقياً مختلفاً تمام الاختلاف عن الآخر. الأول هو مشروع البرجوازية التي تريد دولة تحصل عليها في إطار تسوية تاريخية مع الإمبريالية. والثاني هو مشروع الثورة الاشتراكية ويعبر عن مصالح الجماهير العمالية والفقيرة.
خاتمة: في مفترق طرق
كما نعلم جميعاً، سارت الأمور حتى اندلاع انتفاضة الأقصى الباسلة على طريق بديل التسوية التاريخية مع الإمبريالية. وبالطبع لم يأت هذا البديل بالاستقلال أو بالدولة، وذلك بالضبط لأن البرجوازية الفلسطينية أضعف من أن تفرض دولتها، ولأن إسرائيل أقوى وأهم من أن تفرض عليها الإمبريالية دولة فلسطينية. ولكن اشتعال الانتفاضة قلب الموازين وغير الحسابات. فقد دخلت الجماهير إلى المعادلة، وكان دخولها تصويتاً على رفض بديل التسوية ونقطة بداية للمعركة الصعبة من أجل الاستقلال.
اليوم يمكن أن نقول أن النضال الوطني الفلسطيني يمر بمفترق طرق: ما بين الطريق البرجوازي والطريق الثوري. البرجوازية الخائفة من ثورة الجماهير في فلسطين وفي كل المنطقة العربية لازالت مصرة على مسيرة السلام الدامية التي تحقق مصالحها وتهدئ مخاوفها. أما العمال والفقراء الذين ذاقوا ويلات السلام والاستسلام، فلهم مصلحة أكيدة في الثورة على المحتل في الخارج والمستغِل في الداخل.
الحركة الجماهيرية تعيش الآن لحظة باهرة. المظاهرات ضد السلام وضد الصهيونية يعلو صوتها في كل مكان. والصلة بين الصهيونية والحكام العرب بدأت في الانكشاف. والطريق إلى مستقبل آخر، عدا ذلك الذي فرضته علينا البرجوازيات، بدأ يلوح في الأفق. فكلما تصاعدت حركة التضامن مع الانتفاضة، كلما تفجرت فرص التغيير في فلسطين وفي مصر وفي كل الدول العربية. وكلما ارتفع صوت الجماهير الهادر، كلما طفت إلى السطح التناقضات بين الشعوب والحكام، بين الفقراء وأصحاب الثروة، وبين أنصار الصهيونية وأنصار العدل والحرية.
إن الانتفاضة الفلسطينية اليوم هي الأمل في مستقبل جديد لعمال وفقراء المنطقة. هذه الانتفاضة، كسابقتها، تضع الجماهير في قلب المشهد التاريخي، وتفتح لهم الباب لصناعة مصيرهم بأيديهم، وتبرهن أنهم فهموا أن ما يسمى في قاموس البرجوازيات العربية بالسلام هو في الحقيقة استسلام للاحتلال الصهيوني.
إن الحركة الجماهيرية الناهضة اليوم تحتاج إلى أن تتعلم من تجربتها أن مواجهة خيار “السلام” لابد أن تلتحم مع مواجهة أشمل ضد “صناع السلام” في الداخل. والباحثين عن الخبز والحرية ـ الجماهير المقهورة والمستغلة ـ لديهم، من خلاصة تجربتهم الحياتية، معرفة ملموسة بأن “صناع السلام” هم في الحقيقة صناع الفقر والقمع والاضطهاد. فهل سيظهر البديل الثوري الذي سيبلور هذه الخبرة ويحولها، حين يحين الوقت، إلى واقع نضالي متكامل؟
