أحمد زيد – الاشتراكي

كثيراً ما نسمع في تلك المرحلة التي نمر بها أحاديث كثيرة ومتعددة عن “اقتصاد إسلامي”، في ظل أيضاً العديد من المرشحين الإسلاميين الذين ما فتأو أوسعونا حديثاً عن طريق ثالث ليس بفحش سياسات السوق المفتوح ولا بثورية النظم الاشتراكية، مستشهدين بما يقارب الثلاث عشرة سنة فقط من عُمر الإمبراطورية الإسلامية الطويل، ومرتكزين على عدل العُمرين متجاهلين الظروف الاجتماعية التي أحاطت بتلك الحقبة ومتناسين التطور الذي طرأ على قوى وعلاقات الإنتاج، وهما المحركان الأساسيان لأي عمل يؤدي إلى تغيير المجتمع بل وتغيير مسار التاريخ.
في الحقيقة إن السياسات الاقتصادية، وما ترتب عليها عن قرارات سياسية، قد تغير كثيراً في الدولة الإسلامية بتغير الظروف الاجتماعية المحيطة التي تجلت بوضوح بازدياد رقعة الدولة وزيادة الموارد وتغير تقسيم العمل. فنرى أن سياسات المساواة الكاملة التي انتهجها الرسول ومن بعده خليفته “أبو بكر”، والتي كانت تتلائم مع النظام القبلي في تلك الفترة، قد تغيرت في عهد “عمر بن الخطاب” مع التطور الجديد الذي طرأ على الدولة بازدياد الموارد وتحول الاعتماد على الاقتصاد من النظام الرعوي إلى الزراعة التي كانت منتشرة في البلاد الجديدة المنضمة إلى رقعة الدولة الإسلامية حينذاك. ولقد حاول “عمر” أن يقاوم تلك الفجوة وأن يحافظ على السياسات السابقة ببعض القرارات منها:
• جعل الأرض الزراعية ملكية للدولة.
• حجز أشراف قريش الذين تطلعوا إلى الثراء.
• منع بني أمية من تولي بلاد كثيرة.
وبالرغم من كل ما فعله “عمر” في مواجهة التطور الحتمي للمجتمع الإسلامي، وإصراره على نهج سياسات سابقة، إلا أنه لم يستطع القضاء على نتائج ذلك كلياً، حيث اضطر أخيراً إلى أن يعدل عن تلك المساواة التي نشأ عليها المجتمع الإسلامي وأعاد توزيع الموارد وزيادتها بالأسبقية إلى الإسلام.
نتائج ذلك التغير في بنية المجتمع وتغير المحركان الأساسيان له – قوى الإنتاج وعلاقاته – قد ظهر جلياً في السياسات التي انتهجها الخليفة الثالث “عثمان”، والتي هدمت كل ما فعله “عمر”، حيث وزع الأراضي التي كانت ملكية عامة على الأثرياء من بني أمية الذين وجدوا ضالتهم عند عثمان مما أدى إلى ثورة على ذلك النظام الجديد ومقتل “عثمان” نفسه، والأحداث التي وقعت بعد ذلك وأدت إلى طموح بني أمية إلى السلطة حتى يحافظون على وضعهم الاقتصادي ولضمان مصالحهم، وهو ما ترتب عليه محاربة “معاوية” لـ “علي بن أبي طالب” ثم توليه السلطة.
وإذا ألقينا نظرة سريعة على الدول التي حكمت المجتمع الإسلامي بعد ذلك، يمكننا أن نرى كيف غيرت الثروة من السياسات التي كانت متبعة قبل ذلك. ورغم كل ما يستشهد به الإسلاميون في الشرعية الإسلامية من نهي عن العنف والتعذيب، لم يمنع ذلك من تحول الدولة الإسلامية في بعض الفترات إلى دولة قمعية ابتداءاً من عصر معاوية الذي استخدم كل أنواع العنف ليقمع مؤيدي “على بن أبي طالب”. ولم يأخذ القمع استراحة إلا في عهد “عمر بن عبد العزيز”، ثم عاد مرة أخرى على يد هشام بن عبد الملك واستمر هذا القمع في الدولة العباسية حيث أن المنصور قد روي عنه أنه دفن بعض أنصار “على بن أبي طالب” أحياء.
في الحقيقة لم يكن استخدام العنف والقمع من أجل السيطرة السياسية لطبقة على الطبقات الأخرى فقط، بل كانت للسيطرة الاقتصادية أيضا. فقد ظهر التعذيب للجباية – وهو تعذيب الفلاحين لأخذ الجزية منهم – وقد نقلت بعض الروايات أن هذا النوع من التعذيب قد ظهر أيام الصحابة، ولكن الأكيد أنه تفاقم جداً في عهد الأمويين مع انتشار الامتناع عن دفع الجزية بسبب سياسات الإفقار التي فرضها أمراء وملوك الأمويين على الشعب حيث وصل التعذيب في عهد الحجاج إلى جلد الفلاحين وحلق شعرهم لإرغامهم على الدفع.
ويمكن تفسير ذلك بأبسط مبادئ التحليل الماركسي، حيث أن تطور قوى الإنتاج وإعادة تقسيم العمل، وانعكاس ذلك على خلق وظائف سياسية جديدة كل ذلك أدى إلى التنافس واستخدام الطبقة الثرية ذات المصالح كل الأساليب لكي تصل إلى الحكم وتنفرد بالدولة كشيء منفصل عن المجتمع وتستخدمها كجهاز قمعي يحافظ على سيطرتها على باقي الطبقات مع الحفاظ على الخطاب الديني كقناع، و استغلاله كوسيلة لإقناع الناس بما يفعل أمراؤهم.
وهناك تناقض واضح يظهر لنا بوضوح هذه الأيام بين الوضع الطبقي ومجموعة المصالح التي تحرك قوى الإسلام السياسي، وبين مرجعياتها الدينية. وليس هناك دليل أكبر من مواقف مجلس الشعب ذي الأغلبية الإسلامية، حيث تصريحات بعض الإسلاميين التي تتنافى مع مرجعيتهم الدينية والتي يدعون أنهم ملتزمين بتطبيقها، حيث نجد بعض تصريحات من نواب إسلاميين بأن القروض ضرورة حيث أن الضرورات تبيح المحظورات – رغم اعترافهم ويقينهم بأن القروض ربا حسب مرجعيته – مما يتنافى مع المنطق إذا صدقنا أنهم يطبقون الشريعة، ولكنه يتفق تماماً حين نفسره من ناحية مصالحهم الطبقية. وحتى الآن لا يختلف البرلمان عن برلمان أحمد عز سوى في بعض النقاشات التي لا تضع في اعتبارها حق الفقراء أو الشهداء وتستخدم للإلهاء مثل النقاشات حول المواقع الإباحية وختان الإناث ومضاجعة الوداع، إلخ !!
من كل ما سبق يمكن أن نستنتج حقيقة الأمر، وهي أن الإسلام لم يأت بنظام ثابت وإنما بمبادئ عامة دون آليات تنفيذية، وهو أمر طبيعي حيث أن الآلية تتغير عبر صيرورة التاريخ. فإن كانت الديانة الإسلامية جاءت بآليات اقتصادية تقتضي إنشاء نظام معين، فعلينا أن نفترض أن هذا النظام هو واحد مما رأيناه قد تم تطبيقه في الدولة الإسلامية، ولكن هذا أيضا يؤدي بنا إلى استنتاج حتمي بأنه بسقوط أي من هذه الأنظمة – وهذا فعلا ما فرضه تطور قوى الإنتاج ووسائله – تسقط أيضا الشريعة وتصبح غير قادرة على التعايش مع عصر جديد متطور.
وإذا نظرنا إلى أكبر مشروع إسلامي مطروح على الساحة الآن، وهو برنامج الإخوان المسلمين أو ما يدعونه بمشروع النهضة، وجدناه ينتهج سياسات لا تختلف كثيرا عن تلك التي طالما تحدث بها نظيف وعجت بها خطابات مبارك. فهم يعتمدون على الخصخصة واستثمارات رجال الأعمال تحت اسميّ “التنمية وزيادة الصادرات”، وتنميتهم هذه تعتمد على رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب. أليست هذه تنمية مبارك التي رفضها الشعب المصري وثار عليها ؟!
إن أكبر دليل وأول خطوة في مشروع الإخوان المسلمين لاستبدال رجال النظام القديم برجالهم ومشروعهم الذي لا يختلف كثيرا عن النظام السابق هو مشروعهم لضم الصناديق الخاصة للميزانية، وذلك ليتحكموا في ولاء المستثمرين لنظامهم أو لاستبدال كبار رجال الأعمال برجالهم.
أما كل ما تطرحه برامج المرشحين الإسلاميين الجديدة، وعلى رأسها مشروع النهضة للإخوان المسلمين، فما هي إلى برامج رأسمالية بحتة ولكنها مغلفة بالخطاب إسلامي. والدعوات البرجماتية بأن هذا النظام ليس ليبراليا خالصا وليس اشتراكيا خالصا إنما هو طريق ثالث يجمع ما بين حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وما بين دعم محدودي الدخل والكادحين، الحقيقة أنها مجرد ادعاءات خادعة للبسطاء الذين يتوسمون خيراً فيما هو “إسلامي”.. إنه استغلال للشريعة الإسلامية حيث لا يعدو الاقتصاد الإسلامي سوى أن يكون قناعاً للطبقة الصاعدة الجديدة.. إنه الوهم الأكبر.
