
ماهي الاشتراكية؟
هناك دائماً هذه الثنائية بين الرأسمالية والاشتراكية، فلِمَ هذا العداء إذن للرأسمالية؟!
عندما نظر الثوري الألماني كارل ماركس، مؤسس الاشتراكية العلمية، إلى البؤس الذي يغرق فيه العالم، تسائل ما سبب هذا الشقاء؟ عندها أخذ في تحليل المجتمع من حوله، كيف تطورت وسائل الإنتاج وأنماطه، وكيف اثر هذا على حياة البشر، هل الجميع سواء؟ من المستغِل ومن المستغَل؟!
بعد تحليل تطور المجتمعات والنظام الرأسمالي، أرجع ماركس المعاناة والفقر إلى هذا النظام المبني على استغلال طبقة تملك كل وسائل الإنتاج لطبقة أخرى لا تملك سوى قوة عملها. فحينما كانت النظام في أوج ازدهاره في بعض المدن، وبينما انبهر الجميع بما تستطيع الدول الصناعية إنتاجه وتحقيقه، نظر هو إلى كم التدمير الذي تلحقه بالبشر والعالم.
قد يدعي البعض أن هذه الرؤية مبنية على كراهية الرأسماليين كأشخاص والحقد عليهم، لكن هذا أمرٌ عارٍ تماماً من الصحة؛ فنقدنا للرأسمالية واعتبارها نظام فاشل ليس مبنياً على نوايا وطبائع الرأسماليين الأفراد بل على طبيعة النظام نفسه التي جعلت منه نظاماً مأزوماً يتخلص من أزماته على حساب أغلبية الجماهير.
النظام الرأسمالي مبني على الاستغلال
يفسر رجال الأعمال والحكام الرأسماليون كل مظاهر الفقر والبؤس والبطالة التي يعيشها البشر، من خلال اتهام الفقراء والكادحين بالتسبب فيها. فمثلاً هم يفسرون ذلك بزيادة معدلات النمو السكاني والإكثار من الإنجاب، مما يؤدي إلى التهام كل “الجهود التنموية العظيمة” للحكومات الرأسمالية وكبار رجال الأعمال.
هذا التفسير ليس إلا خدعة كبرى، فصحيح أن موارد سوريا والعالم كله محدودة، لكن التقدم التكنولوجي الجبار الذي يشهده العالم الرأسمالي قد وصل إلى درجة تسمح بتحقيق معدلات نمو اقتصادي تزيد كثيراً عن معدلات النمو السكاني.
هناك أيضاً تفسير ثاني يروّجه الحكام ورجال الأعمال الكبار في العالم، وهو أن الفقراء مسئولون عن فقرهم بسبب كسلهم وعدم رغبتهم في العمل. أما هذا التفسير فهو في الحقيقة أكثر وقاحة من سابقه؛ فكيف يمكن أن نصف بالكسل الطلاب الذين يتركون دراستهم من أجل العمل لمساعدة أسرهم في تحمل أعباء المعيشة، وكيف نصف عمال المصانع الفقراء بالكسل في حين يعمل أغلبهم لمدة 10 أو 12 ساعة في اليوم الواحد. وعلى الجانب الآخر، كيف يمكن أن نصف رجال الأعمال وأبناءهم بالنشاط في حين أن كل المجهود الذي يبذلونه هو ملء خزائنهم بالأموال وإنفاقها في الرحلات والسهرات وسبل الرفاهية والمتعة المختلفة!
أما الاشتراكية الثورية فترى أن كل الفظائع لا يتسبب فيها العمال ولا الفقراء، بل أنهم ضحايا الرأسمالية القائمة على النهب والاستغلال. فالنظام الرأسمالي يقوم عامة على قاعدة أساسية، هي أن الدافع وراء النشاط الاقتصادي هو تحقيق الأرباح للرأسماليين وليس تلبية الاحتياجات الأساسية للبشر. وبما أن المحرك الأساسي للنظام الرأسمالي هو تحقيق الأرباح ومراكمة رأس المال، لذا فالرأسماليون يتسابقون في السوق على تخفيض التكاليف الإنتاجية من خلال زيادة وتكثيف استغلال العمال لديهم. وبالتالي فإن ثروة الرأسماليين مصدرها جهد وعرق العمال.
الأمر كله لا يتوقف على درجة “إحسان وطيبة” رجال الأعمال الرأسماليين على العمال الذين يعملون لديهم، لكن بوضع هؤلاء الرأسماليين في المنافسة مع بعضهم محلياً، وعلى المستوى العالمي أيضاً. فإذا عمل أحد الرأسماليين على زيادة أجور عماله أو تحسين الظروف التي يعملون وفقها، لن يجد لديه ما يكفي من الأرباح التي تسمح له بتوسيع استثماراته ومراكمة المزيد من رأس المال لينافس به نظرائه. وإن لم يفعل ذلك سوف يسقط في هذه المنافسة ويلتهمه منافسيه في السوق.
ويستثمر الرأسمالي وينتج لأنه يتوقع أرباحاً، وليس لأنه يريد “إسعاد البشرية”. ومن ثم لا تكترث الرأسمالية في سوريا.
وفي سياق المنافسة التي لا تنتهي بين الرأسماليين، تتولد الأزمات الاقتصادية التي تنتج عن تكالبهم على الاستثمار في القطاعات الاقتصادية التي ترتفع فيها معدلات الربح، بغض النظر عن مصالح المجتمع الذي يعيشون فيه. تماماً كما ضربنا المثل بالاستثمار في قطاع العقارات.
لكن ذلك يؤدي إلى زيادة العرض عن الطلب في مثل تلك القطاعات بشكل كبير، ومن ثم تكدس البضاعة في الأسواق دون أن تجد من يشتريها نتيجة تدني الأجور، ثم إفلاس الرأسماليين وانهيار الاقتصاد بأكمله. وهذا بالضبط ما نطلق عليه “فوضى السوق” حينما تتحكم مصالح حفنة من الأغنياء في توجيه ثروة المجتمع وموارده وقراراته الاقتصادية.
وصحيح أنه في كل وحدة إنتاجية (مصنع أو شركة) توجد درجة عالية من التنظيم والتنسيق بين أقسام الإنتاج المختلفة. ففي شركة تويوتا لإنتاج السيارات مثلاً، يوجد تنسيق وتكامل عالي المستوى بين قسم إنتاج الإطارات وقسم إنتاج الهياكل، إلخ، لكن في الوقت نفسه ليس هناك أدنى درجة من التنسيق بين شركة تويوتا وشركة فورد أو بي إم دابليو مثلاً . وهذا ما يؤدي إلى تراكم مئات الآلاف من السيارات المنتجة في السوق دون أن تجد من يشتريها، فيتوقف الإنتاج وتُغلق المصانع ويتم تسريح العمال. وهذه هي الفوضى التي تؤدي بالنظام الرأسمالي العالمي إلى أزمات دورية من فيض الإنتاج ثم الركود والإفلاس.
لكن مصر تعد من البلدان المتأخرة اقتصادياً، أي التي لم تصل بعد إلى مستوى تطور اقتصادي تستطيع معه أن تدخل حلبة المنافسة في السوق العالمي. وهذا ما يضاعف المشكلة. فالمشكلة لدينا ليست في الأزمات الدورية والركود الاقتصادي فقط، بل أيضاً في الانخفاض المزمن لمستوى الاقتصاد.
هذا بالضبط ما يدفع السلطة والرأسماليين في سوريا إلى اتباع سياسات اقتصادية أكثر توحشاً، حيث خصخصة المصانع ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، ورفع الدعم على السلع والخدمات، ومضاعفة معدلات الاستغلال. وكل ذلك من أجل تحقيق أكبر قدر من تراكم رأس المال للوصول إلى الأسواق العالمية.
وهذا ما يفسر العلاقة الوثيقة التي جمعت بين سلطة الديكتاتورالاسد بكبار رجال الأعمال في سوريا. فالسلطة تسن لهم القوانين التي سهلت لهم النهب والاستغلال، وفي عهده تم توجيه دعم هائل إليهم في نقل البضائع وفي قيمة الضرائب على الأرباح وقيمة الجمارك على نقل المعدات والآلات من الخارج، إلخ.
في نفس الوقت هناك ما نطلق “إصلاح الرأسمالية”، حيث يتم استبدال نظام ديكتاتوري يقف إلى جانب رجال الأعمال ضد مصالح الفقراء، بنظام أكثر ديمقراطية (أو أقل ديكتاتورية) يقف إلى جانب نفس رجال الأعمال، وقد يمنح الفقراء بعض الفتات من الثروة الاجتماعية التي ينتجونها بأنفسهم، لكن دون القضاء على أسس الاستغلال التي تقوم عليها الرأسمالية.. والتغيير الجذري لمشكلات المجتمع لا يكمن بالتأكيد في إصلاح الرأسمالية.
دائما ما يضرب المثل بتجربة الدول الاسكندنافية كنموذج لإصلاح الرأسمالية بإدخال إجراءات وإصلاحات ذات طابع اشتراكي، ولكن حتى هذه الدول رغم قوة اقتصادها إلا أنها تشهد حالياً احتجاجات وتناقصات كبيرة في مستوى الرفاهة – مقارنة بما كانت فيه من قبل – نظراً للأزمة الاقتصادية العالمية التي طالت هذه البلدان بالطبع.
لم يكتف ماركس بتحليل الواقع فقط وإدراك فشل الرأسمالية واستحالة إصلاحها، بل أيضاً بحث عن سبل تغيير هذا الواقع الأليم، ووجد في التجارب الثورية التي عاصرها (ثورات 1848 في أوروبا، وكوميونة باريس 1871، إلخ) دليلاً ومرشداً لما يمكن أن يكون عليه المجتمع الاشتراكي الذي يسطير فيه الكادحون على القرار. ففي كوميونة باريس على سبيل المثال، رسم رجال ونساء باريس الكادحين تصورا لكيف يمكن أن يتغير المجتمع عندما سيطروا على المدينة وأداروها، من خلال مجالسهم الديمقراطية، لصالح الجماهير الفقيرة، ففتحوا المدارس للجميع بالمجان، ووفروا الطعام والملبس، وافتتحوا دور الأيتام، حتى انقضت الثورة المضادة على الكوميونة وذبحت ما يقرب من 30 ألف من مناضلي الطبقة العاملة.
رأى ماركس أن التغيير الجذري للنظام لابد أن يكون عبر ثورة اجتماعية تطيح بكل أشكال الاستغلال، ثورة تخلق فيها الجماهير أشكالاً جديدة لتنظيم الحياة وإدارتها والتعبير عنهم.
الطبقة العاملة هي الطبقة القائدة
من يمكنه إذن قيادة الثورة الاجتماعية، المستمرة إلى اليوم في مصر، لتحقيق التغيير الجذري الذي نأمله؟
لا شك أن الثورة هي عيدٌ للفقراء والمقهورين، لكن من بين كل المضطهدين في عالمنا المعاصر، توجد طبقة واحدة لديها القدرة على قيادة معسكر المظلومين إلى النصر – الطبقة العاملة.
هناك عاملان رئيسيان يجعلان من الطبقة العاملة قوة اجتماعية قادرة على قيادة الثورة الاجتماعية إلى النصر. الأول هو عملها المباشر على وسائل الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، في المصانع والمؤسسات الخدمية، إلخ. وهذا ما يمنحها قوة اقتصادية هائلة حيث تتحكم بشكل مباشر في عجلة الإنتاج وتستطيع إيقافها (من خلال الإضراب عن العمل) وتهديد أرباح رجال الأعمال إذا أرادت تغيير مسار الأمور.
العامل الثاني في قيادية دور الطبقة العاملة في الثورة الاجتماعية يكمن في طبيعة عملية الإنتاج التي يندمج فيها العمال؛ فهم بطبيعة هذه العملية يشكلون الطبقة الأكثر تنظيماً ووحدة في المجتمع الرأسمالي الحديث، حيث يعملون بالآلاف – وعشرات الآلاف أحياناً – في مصانع ومؤسسات إنتاج ضخمة يتم فيها تقسيم العمل فيما بينهم بشكل منظم ودقيق، ويتعرضون خلالها للاستغلال الرأسمالي بشكل مباشر، ما يجعل لهم ظروف معيشية متقاربة وبالتالي مصالح اقتصادية وسياسية مشتركة.
ولا تضم الطبقة العاملة عمال الصناعة فقط، بل تشمل كل العاملين بأجر والخاضعين لاستغلال وسلطة رأس المال، وهكذا فإن الموظفين وعمال الخدمات والمهنيين من أطباء ومهندسين ومحاسبين، إلخ، هم أيضاً في عداد الطبقة العاملة.
وفي جميع الثورات في العالم الرأسمالي المعاصر، لعبت الطبقة العاملة أدواراً جوهرية فيها وحققت انتصارات هامة، وكادت في الكثير من الثورات أن تطيح بالرأسمالية بشكل كامل وأن تبني مجتمعاً جديداً لا يحكمه الرأسماليون أو ممثلوهم، بل مجتمعاً يقرر فيه الكادحون من خلال مجالسهم القاعدية والمنتخبة تقرير مصيرهم وصياغة مستقبلهم.
هذا لا يعني تجاهل باقي طبقات المجتمع أو معاداتهم؛ فلا انتصار للثورة دون مشاركة الفلاحين والمضطهدين من الأقليات والمرأة في الثورة، ودون تبني مطالبهم. يجب أن تكون دعايتنا واضحة بأننا نبني سويا مجتمعاً لا لحزب أو جماعة بل ليجد فيه الجميع الرفاهة والكرامة.
هذا المجتمع يعطي أولوية الإنتاج لا لأرباح الرأسماليين وشركاتهم الكبرى، بل للاحتياجات الجماهيرية المباشرة. ومن أجل تحقيق ذلك، فإن الطبقة العاملة تحتاج لوحدة سياسية كي تطرح مطالبها ومصالحها الطبقية وتخترق طريقها نحو بناء المجتمع الجديد.
بناء الحزب الثوري حياة أو موت
الثورة ليست نزهة ولا تنتهي بين يوم وليلة، فهي تبدأ بانتفاضة ضخمة وتكتمل بصراع بين الجماهير من ناحية، وبين الطبقة الحاكمة القديمة التي تحاول بإصرار من أجل البقاء والاستمرار والحفاظ على أكبر قدر من امتيازاتها.
وإذا عقدنا مقارنة بسيطة بين الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة، سنجد بسهولة أن ما يميز الطبقة الحاكمة هو أنها موحدة ومنظمة بدقة شديدة؛ فجهاز الدولة يمثل عقلاً وجهازاً رفيع المستوى يقوم من خلاله الحكام ورجال الأعمال الكبار بإدارة شئونهم. فالطبقة الحاكمة لديها قوات أمن تدافع عنها وإعلام يتحدث بإسمها علاوة على سيطرتها على رأس المال وتحكمها في توجيه الاقتصاد.
أما الانتفاضة العفوية للجماهير فهي تستطيع أن تحقق قدر كبير من المكتسبات، مثلما حدث في مصر حينما استطاعت الانتفاضة إسقاط الديكتاتور مبارك. لكن إسقاط الديكتاتور لا يعني أن النظام القائم قد سقط، حتى مع تبديل الأوجه خلال سنوات الثورة. وصحيح أن الانتفاضة العفوية تستطيع أن تهز أركان النظام، لكنها لا تستطيع أن تطيح به بشكل كامل. الثورة الاجتماعية هي التي تستطيع فعل ذلك، والانتفاضة ليست إلا بداية لعملية طويلة من الثورة تناضل فيها الجماهير من أجل استكمال الثورة، بينما تعيد الطبقة الحاكمة ترتيب أوراقها من أجل الحفاظ على البقاء.
وخلال العملية الثورية تستطيع الطبقة الحاكمة أن تتغلب على قدر هائل من النضالات العمالية والجماهيرية، طالما أن تلك النضالات ليست موحدة ولا منظمة سواء من حيث درجة الوعي أو الحركة. لذا فالثورة تحتاج إلى عقل وإلى ذاكرة وإلى جهاز تنظيمي يوحد نضالات الجماهير المختلفة في حركة واحدة تضرب ضربتها لنظام وسلطة رجال الأعمال التي تتحكم في كل شيء. تحتاج إلى من يواجه سنوات طوال من تراكم أفكار غرستها الطبقة الحاكمة في عقول الجماهير لتفرقة صفوفهم، أفكار رجعية عن المرأة والأقباط والأقليات، أفكار من شأنها تشتيت الجماهير وتدمير أي حلم لمجتمع الجميع فيه متساوون بلا تفرقة.
لذا النضالات الجماهيرية تحتاج إلى حزب ثوري يتبنى مشروع الثورة الاجتماعية، وقادر على توحيد الجماهير في طريق هذه الثورة دون تماهي، ودون انخداع في الأشكال والرموز الجديدة للطبقة الحاكمة والتي تنفذ نفس السياسات القديمة في ثوب جديد.
وفقط الحزب الثوري المنغرس في قلب الجماهير الثورية المناضلة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة، هو الذي يستطيع توحيدها من أجل هدم النظام الحالي وبناء نظام جديد ينحاز لأغلبية المجتمع من عمال وفلاحين وفقراء ومهمشين.. وهذا الحزب لا يسقط من السماء ولا يأتي من الفراغ، بل يُبنى بالكفاح والصبر، في المصانع والأحياء والجامعات ليكون سلاحاً في يد الجماهير ليرشدها ويشق طريقها للنصر.. نحو بناء الدولة العمالية الاشتراكية.
الدولة والثورة
تنتمي وتدافع مؤسسات الدولة في سوريا وفي أماكن أخرى عن مصالح طبقة واحدة من المستغلين، ولذلك ليس من مصلحتها تعميق وتحقيق مطالب الثورة، وبالتالي أي ظن أنها من الممكن أن تقف مع – أو حتى أن تتحلى بالحياد – تجاه الثورة لهو أمر غير منطقي؛ فالثورة بالتعريف ضد مصالحهم. لذلك كان هتاف “الشعب يريد اسقاط النظام” هتافاً عبقرياً في سبيل تحقيق مطالب هذه الثورة؛ فلابد من إسقاط هذه المؤسسات بفسادها وعدائها للثورة.. ولكن هنا فزاعة الفوضى تظهر في الأفق.
مرة أخرى تتجلى أفكار الطبقة الحاكمة؛ فقد ترسّخ في أذهاننا أن الفوضى في المظاهرات والاحتجاجات وصراخ المظلوم ومطالبته بحقه، فما هو تعريف الفوضى؟ إذا كان نهب ثروات بلد بأكمله لصالح طبقة ضئيلة في المجتمع وتجويع الباقي ليست بفوضى؟ هل أن تصبح الشرطة طليقة اليد لتقتل من تشاء وتعذب من تشاء دون محاسبة ليست بفوضى؟ هل اكتظاظ السجون بالأبرياء والقتلة والمجرمين طلقاء ليست بفوضى؟ هل التعليم الفاسد والمدارس المُكدّسة واالطلبة الذين يُقتلون بجامعاتهم والمستشفيات الغير مؤهلة لاستقبال المرضى ليست بفوضى؟! ما هي الفوضى إذاً؟
نحن لا ندعو إلى شيء سوى نظام تخلقه الجماهير من تنظيماتها المتعددة؛ لجان شعبية في الأحياء، شرطة وجيش ديموقراطيين آدميين من الجماهير ويحمون مصالحهم لا أداة قمع في يد السلطة، مجالس عمالية في المصانع، وشتى أشكال التنظيمات الجماهيرية الأخرى، بحيث تتوحد وتنسق أعمالها وشئون الجماهير معاً من خلال المندوبين المنتخبين من كل حي ومصنع وقرية، في تعبير حقيقي عن مصالح الأغلبية من الجماهير الفقراء والمهمشين والمضطهدين ومصالحهم ومطالبهم. ونهدف لاستبدال دولة الفساد والرأسمالية بدولة العدل والحرية والمساواة بين البشر دون تفرقة على أساس الطبقة أو الجنس أو الدين. هذه هي الدولة العمالية.
لا توجد اشتراكية في بلد واحد
إلى أي مدى يمكن لمثل هذه الدولة العمالية، التي تقوم على أسس الاشتراكية والعدل الاجتماعي، أن تصمد؟ كيف يمكنها أن تستمر في ظل سيطرة الرأسمالية على العالم كله؟ النظام الرأسمالي سلسلة واحدة، فهل يمكن تحطيم إحدى حلقات هذه السلسلة دون تحطيم الحلقات الأخرى؟
“العالم قرية صغيرة”.. هذا ما يخبرنا به مفكرو الرأسمالية عبر العالم، إذ أن العولمة الرأسمالية قد خلقت وشائج وارتباطات اقتصادية وسياسية عديدة بين مختلف البلدان، كما أوجدت بينها تقسيم عمل عالمي؛ فالبلدان المتقدمة تعتمد على العمالة الرخيصة والمواد الخام والأسواق في البلدان المتأخرة، والأخيرة تعتمد على الصناعات المتطورة والاستثمارات الكبرى لدى الأولى.
وعند انتصار ثورة اشتراكية تعيد هيكلة الاقتصاد لصالح الجماهير الفقيرة لا لصالح الشركات الرأسمالية الكبرى، في أحد البلدان، فإن هذا يعني ببساطة فك الارتباط والتبعية للرأسمالية العالمية. وهنا لا يمكن للرأسمالية أن تصمت على تهديد مصالحها وأطماعها، بل ستواجه الثورة بكل الوسائل التي تضمن إعادة فرض سيطرتها ومصالحها. هذا ما حدث في أعقاب انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917 وبناء الدولة العمالية العادلة، حين توجهت جيوش 18 دولة أوروبية لضرب السلطة العمالية المنتصرة لإجهاض الثورة وإعادة سيطرة الرأسماليين الروس والأوروبيين على الاقتصاد الروسي.
لكن الثورة ضد الرأسمالية، والفقر والقهر الملازمين لها، لا تقوم بشكل منعزل في بلد واحد أو بعض البلدان بعيداً عن باقي العالم. لكنها، على العكس، تقوم في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة كسلسلة من الثورات التي تهز أركان النظام الرأسمالي العالمي.
فنتيجة للأزمة العميقة التي شهدتها الرأسمالية العالمية قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، اندلعت الثورة في روسيا عام 1917، ومهّد انتصارها لقيام موجة ثورية عملاقة في مناطق متفرقة من العالم (وفي مصر قامت ثورة 1919). وفي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، انطلقت موجة ضخمة من الثورات استطاعت أن تجبر الرأسمالية على تقديم إصلاحات اجتماعية هائلة لقطاعات واسعة من الجماهير، كما انتعشت حركات التحرر الوطني في المستعمرات بشكل هائل (وفي مصر انطلقت انتفاضة 1946 ضد الاستعمار البريطاني وانتشار الفقر والبطالة). موجة أخرى من الثورات زلزلت النظام الرأسمالي في غرب وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية ومناطق متفرقة من العالم في الفترة بين 1968 وحتى منتصف السبعينات (وفي مصر قامت احتجاجات طلابية واسعة إلى أن اندلعت انتفاضة يناير 1977 ضد الفقر والغلاء).
هذا بالضبط ما شهدناه في السنوات السابقة؛ ففي كل صعود للثورة السورية وجدنا بالتوازي تصاعداً في الاحتجاجات في تونس ومصر والبحرين، وأيضاً عقب تراجع الحراك الثوري في سوريا وجدنا تراجعاً في تونس ومصر، إلخ. الوضع مشابه أيضاً في أوروبا؛ فالحركة العمالية العملاقة التي تشهدها في مواجهة خطط التقشف الاقتصادية التي تنفذها الحكومات الأوروبية في محاولة لتحميل الأزمة الرأسمالية على أكتاف العمال والفقراء اتخذت من ثورات المنطقة ذخراً لها.
الثورة الاشتراكية لن تستطيع بناء المجتمع الاشتراكي كجزيرة صغيرة في بحر من الرأسمالية، لكنها تستطيع فعل ذلك طالما أن ثورات أخرى تتقدم وتنتصر لتقويض النظام الرأسمالي العالمي.
قد يبدو الأمر مستحيلاً إذا تجاهلنا حقيقة هامة أن جميع شعوب الأرض تعاني من استبداد واستغلال النظام الرأسمالي. بالطبع هناك تفاوت في مدى سوء الوضع بين الأشد فقراً وبين الأكثر رفاهة، إلا أن الجميع مجتمعون في معاناة الطبقة الأفقر والفوارق الاجتماعية الشاسعة في جميع البلدان بين أغلبية الجماهير العاملة والطبقة الرأسمالية التي تسيطر على كل شيء. هذه الفوارق بين الطبقات توفر أرضية خصبة للنضال، وإصلاح الرأسمالية لن يقضي على الاستغلال والفوارق بين البشر، بل القضاء على الرأسمالية بالثورة الاشتراكية.
قالوا عن الاشتراكية الثورية…
الاشتراكية والاتحاد السوفييتي وعبد الناصر
يأتي إلي أذهان الكثيرين عندما يسمعون كلمة “يسار” أو “اشتراكية” صوراً للشمولية ونظام الحزب الواحد ولعالم رمادي كئيب لا حقوق فيه ولا حريات. والسبب في ذلك هو أنه لفترة طويلة من القرن العشرين ارتبط شعار الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي السابق وبدول الكتلة الشرقية، والتي كانت بالفعل دولا شمولية مستبدة تضطهد شعوبها لمصلحه أقلية علي رأس الدولة والحزب الحاكم. ولكن بالنسبة للاشتراكية الثورية، فتلك الدول لم تكن اشتراكية إلا في الإسم ولكنها كانت في الواقع شكلاً من أشكال رأسمالية الدولة، لا تختلف في جوهرها من الدول الرأسمالية الغربية. كان ذلك أيضاً مختلفاً تماماً عن مبادئ الثورة الروسية التي هزت العالم في ١٩١٧ ولكننا نري أن تلك المبادئ قد تم قلبها رأساً علي عقب خلال ثلاثينات القرن الماضي حين تم تصفية الثورة وتحولت الحرية إلي الاستبداد والمساواة إلي شعار فارغ وحكم الجماهير إلي حكم أقلية في قمة الحزب والدولة.
وما ينطبق علي الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية ينطبق أيضاً علي فترة حكم عبد الناصر في مصر. فهناك تناقض صارخ بين الشعارات حول التحرر الوطني والتنمية المستقلة وبين سيطرة حفنة صغيرة من الضباط علي السلطة والثروة. وصحيح أن تلك الفترة قد شهدت الكثير من الإصلاحات الاجتماعية، إلا أنها لم تكن إصلاحات جذرية، وإلا لم نكن لنعود إلى سياسات الانفتاح الاقتصادي والسوق الحر والخصخصة في عهد السادات ومبارك من بعده. والسبب الحقيقي في ذلك هو أن إصلاحات الستينات جاءت على يد انقلاب الضباط الأحرار في 1952، ولم تأتي بثورة جماهيرية تصنع تلك الإصلاحات بنفسها كي تستطيع أن تصونها وتدافع عنها إلى النهاية.
وبالتالي، لم تكن تأميمات الستينات انتقالاً من ملكية كبار رجال الأعمال إلي ملكية وسيطرة جماهير الشعب، بل انتقالاً إلي إدارة وسيطرة الضباط الذين شكلوا دولة جديدة تحتكر كل شيء. والحديث عن الحرية في ظل امتلاء المعتقلات بالمناضلين، سواء من الإخوان أو من الشيوعيين هو نفاق محض. كل هذه التناقضات ساهمت بلا شك في انهيار التجربة الناصرية مع مأساة الهزيمة في 1967.
الاشتراكيون والعلمانية والإلحاد
دائما ما كان يُتهم الاشتراكيين بالإلحاد. كان ذلك هو الاتهام الجاهز، الذي تستخدمه حكومات بلادنا لتشويه الاشتراكية في أعين الجماهير. ولكن الواقع هو أنه لا توجد أي علاقة بين الإلحاد والاشتراكية. الاشتراكية الثورية تنطلق من المصالح التاريخية للفقراء من العمال والفلاحين ومعركتنا هي ضد الرأسمالية والاستعمار وليست ضد الدين أو المتدينين. نحن ندافع عن حقوق العمال علي سبيل المثال سواء كان هؤلاء مسيحيين أو مسلمين، ملتزمين دينياً أو غير ملتزمين. قضيتنا هي وحدة العمال في نضالهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. ونحن نؤمن بأن جوهر الدين هو الحق والعدل وبالتالي فلا يتعارض مع ما نناضل من أجله.
أما العلمانية فهي قضية ملتبسة عند الكثيرين. فهناك من يري أن فصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة هي ضرورة من ضروريات التقدم للشعوب ويأخذون من النموذج الأوروبي مثالاً يجب تقليده وتحقيقه في بلداننا. وهم بذلك يتجاهلون الفوارق الكبرى التاريخية والثقافية بين الشعوب. هؤلاء العلمانيون المتطرفون يجعلون من العلمانية هدفاً في حد ذاته بغض النظر عن وسيلة تطبيقها حتى وإن كان ذلك بالقمع والقهر وضد رغبة الغالبية العظمي من السكان (كما كان في تركيا مثلاً)، كما أنهم يعادون من يرفع الشعارات الدينية حتى وإن كان هؤلاء يحاربون الظلم والاستعمار (لبنان وفلسطين مثالا).
أما نحن الاشتراكيين الثوريين فنقف صفاً واحداً مع كل مقاوم للاستعمار والظلم، سواء كان يرفع شعاراً دينياً أم لا (فيتنام في حرب التحرير ضد الاحتلال الأمريكي وأفغانستان ضد نفس الاحتلال). ونناضل ضد من يضطهد الشعوب باسم الدين (النظام الحاكم في السعودية أو السودان أو باكستان). فقضيتنا ليست حول درجة التداخل بين الدين والدولة أو بين الدين والحركة السياسية بل المضمون الطبقي لتلك الدولة أو الحركة وعن أي مصالح طبقية تدافع عنها، هل مصالح العمال والكادحين أم عن مصالح الشركات الرأسمالية وكبار رجال الأعمال.
وبالتأكيد تقف الاشتراكية الثورية مع الحرية الكاملة في العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، لذلك فنحن نناضل ضد كراهية الإسلام واضطهاد المسلمين في أوروبا، تماماً كما نناضل من أجل الحرية الدينية للمسيحيين في مصر ومن أجل المساواة التامة بين المسيحيين والمسلمين في مصر في كافة الحقوق السياسية والاجتماعية.
الاشتراكية والفقر
هناك اعتقاد شائع بأن الاشتراكية تدعو إلى إفقار الجميع؛ أي إلى مساواة الجميع في الفقر والعيش الزاهد. هذه الصورة ترسخت في الأذهان على مدار عقود من السلطة الديكتاتورية في الاتحاد السوفييتي (ستالين ومن بعده)، وغيرها من الدول الديكتاتورية التي ادعت الاشتراكية كذباً فيما مثلت شكلاً من أشكال الرأسمالية نطلق عليها “رأسمالية الدولة”؛ أي سيطرة جهاز الدولة بدلاً من الطبقة الرأسمالية من رجال الأعمال وممارسة نفس أشكال الاستغلال والاضطهاد.
في هذه التجارب كان الجميع متساوون بالفعل، لكن متساوون في الفقر ومعاناة الاضطهاد، فيما كان جهاز الدولة هو من يسيطر على الإنتاج والربح والثروة الاجتماعية.. وبالتالي السلطة السياسية أيضاً. بينما المجتمع الاشتراكي يعني أن كل الإمكانيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية يتم تسخيرها من أجل رخاء جميع البشر والقضاء على الفقر والحرمان بالقضاء على الاستغلال سواء بيد رجال الأعمال أو بيد الدولة.