الخط الأمامي
العامل السوري يسهم في مراكمة الثروة اللبنانية رغم “الاستغلال”
28/9/2012
رضا علي – زمان الوصل
يُقتل بصمت… العامل السوري يوفر على لبنان المليارات ويمسي ضحية لـ”العنصرية”
العمال السوريون.. بؤس على خط النار
الجزء الأول:
هذا التحقيق ترصد فيه “زمان الوصل” على جزئين، الوضع الإنساني المتردي للعامل السوري في لبنان، الذي أخذ صورة الديمومة، يبدأ من حوادث الاعتداء والخطف الأخيرة، ويعود بالذاكرة إلى تاريخها المر الطويل، كما يكشف الفوائد التي جناها الاقتصاد اللبناني من عمالة رخيصة دون تأمينات أو ضمانات، قامت بإعمار بلد من أنقاض الحرب الأهلية، كما يبين الوضع الاقتصادي السوري المتعب، المستفيد والمتجاهل في آن واحد لعماد قوته البشرية.
لا كرامة لعامل خارج وطنه
العامل السوري يوفر على لبنان المليارات ولكن “لا حمد ولا منيّة”
تفرَّق العاملون الخمسة، أحمد خليف (31 سنة ماجستير حقوق) عاد إلى الحسكة، عبد الرحمن وثائر (عاملا نجارة)عادا إلى جسر الشغور، أبو الوليد (طيَّان) عاد إلى سراقب، خالد (عامل بناء) عاد إلى بنّش.
شقتهم في حي “النبعة” الفقير خالية الآن، لن تخشى على سكانها من الاختطاف على يد آل المقداد أو غيرهم، وكذلك أيضاً شقق عديدة لعمال سوريين.
“هربنا بجلدنا” يقول أحمد. “كنت أفكر بخيارين الانضمام للثوار في القصير بحمص، أو العودة إلى أهلي بما جنيت من مئات قليلة من الدولارات”.
أصدقاؤه في الشقة الذين عملوا في لبنان منذ سنوات عديدة وبعضهم ورث المهنة عن أبيه أو أخيه عادوا إلى سوريا رغم صعوبة الأوضاع فالمضايقات واحدة.
يقول “الخليف” الذي عمل (فورمان-مشرف عمال) في الأشرفية، ودافع دوماً عن حقوق العمال السوريين، إن الثورة السورية كانت عاملاً إضافياً لتزداد معاناة العامل السوري الذي طالما كانت حياته في خطر وضحية للتقلبات السياسية.
“انعكست الأحوال سلباً على كل العمال السوريين بوجود موالاة للنظام كحزب الله وأنصاره، والحزب السوري القومي والاجتماعي فضلاً عن “عواينية” النظام أينما ذهب العامل.” يوضح خليف.
تحت مسمى الثأر
وأثارت تهديدات عائلة آل المقداد المسلحة باختطاف سوريين رداً على اختطاف قريب لهم في سوريا مخاوفَ أغلب العمال السوريين في لبنان، ما دفع “هيومان رايتس ووتش” لإصدار بيان عاجل في تموز الماضي طالبت فيه السلطات اللبنانية بتطبيق القانون، وإنهاء حالة الإفلات من العقاب على عمليات الاختطاف وغيرها من أعمال العنف، التي تنفذ بحق مواطنين سوريين تحت مسمى الثأر.
ونفذ آل المقداد تهديداتهم باختطاف 26 عاملاً سورياً على الأقل. وكانت سبقتها عمليات اختطاف أثارت ضجة إعلامية، كاعتقال ناشطين سوريين يقيمون في بيوت أحد العمال السوريين، وتسليمهم للسلطات السورية. وكانت تصاعدت الهجمات على العمال السوريين بعد اختطاف 11 شيعياً لبنانياً في سوريا في آيار الماضي بريف حلب.
نائب المدير التنفيذي للشرق الأوسط في “هيومان رايتس ووتش” نديم حوري قال: “على السلطات اللبنانية أن تتحرك سريعاً لوقف اختطاف السوريين والاعتداءات عليهم في لبنان، وذلك بأن تحمل الجناة المسؤولية بغض النظر عن دوافعهم”. وتابع: “إذا لم تقم السلطات بضمان احترام القانون، فسوف تستمر عمليات الاختطاف باسم الثأر”.
وكان عجز الحكومة اللبنانية عن لعب أي دور حيال العمال السوريين أمراً مثيراً للشكوك، إذ لم يتم نسب اتهامات إلى المعتدين أو ملاحقتهم أمام القضاء. ويبرر “الخليف” ذلك العجز بقوله: “لا نتأمل شيئاً من دولة تحكمها الميليشيات لا المؤسسات، وعلى الأخص المرتبطة بأجندة طائفية أو مذهبية “.
استمرار المضايقات
في العاشر من أيلول الجاري وقعت مشاجرة في الجنوب اللبناني بين سكان النبطية وعدد من العمال السوريين بسبب ظاهري كان بسطة خضار. هذه الحادثة وغيرها أسهمت أيضاً بدفع العديد من السوريين العاملين في مناطق ذات أغلبية شيعية للهروب من لبنان، لأنهم تلقوا تهديدات ومضايقات وضرباً على يد مواطنين لبنانيين متطرفين.
قبل ذلك قابلت “هيومان رايتس ووتش” مواطنَين سوريين تعرضا للضرب في حزيران على يد مجهولين في بيروت، أوضح الاثنان أنهما لم يتقدما للشرطة بشكاوى لأنهما لا يثقان بالشرطة اللبنانية.
“ما ذنبنا نحن فيما يجري في سوريا؟ لماذا يجري القصاص منا؟ نحن طبقة فقيرة ليست لدينا اهتمامات لا بالسياسة ولا بغيرها، لِمَ لا نُترَك نبحث عن قوت عيالنا؟” قالوا للمنظمة الإنسانية.
وفي بيان جديد صدر في بيروت، 20 آب 2012 قالت “هيومان رايتس ووتش “: إن على السلطات اللبنانية أن تحقق وتلاحق المسؤولين عن عمليات الاختطاف لعشرات المواطنين السوريين ورجل تركي، التي ظهرت تقارير عنها في 15 أغسطس/آب 2012. وقصدت بذلك عائلة آل المقداد المسلحة.
منظمة العمل العربية بدورها أكدت على لسان مديرها أحمد لقمان على حماية العمال العرب الوافدين في أرواحهم وأموالهم، وتجنيبهم أعمال العنف المسلح، وضمان حقهم في مدخراتهم وأجورهم وتأميناتهم الاجتماعية.
الظلال الاقتصادية للاعتداءات
وتصاعد تذمر العديد من متعهدي البناء اللبنانيين، الذين يعتمدون حصراً على العمالة السورية من ضربة موجعة في قطاعهم نتيجة عمليات الاعتداء والخطف.
ناصر العطوي أحد متعهدي البناء وبحسب الجزيرة نت قال إن حالات الاعتداء قلصت بصورة كبيرة أعداد السوريين في كل من الضاحية الجنوبية والمناطق المحيطة بها، إلى جانب مناطق الجنوب، في حين بقيت مناطق الجبل وطرابلس ووسط بيروت مكاناً آمناً للعمل.
قائمة المعاناة
مع قراءة جدول عريض من الضحايا السوريين في لبنان، المرفق بقائمة معاناة طويلة، يتكشف الضوء عن أوضاع العمال السوريين في لبنان، الذين طالما دفعوا ثمناً مضاعفاً لطقوس العمل، وربما تقلبات السياسة، وحتماً مناخات الاقتصاد، فلا يزال في لبنان نحو 500 ألف عامل، تضيق بهم المدن، وتغص بهمومهم الساحات، والمزارع والكروم، من الضاحية الجنوبية إلى منطقة الكولا والطريق الجديدة وبعبدا وخلدة وعين مريسه إلى محلة المرداشية في زغرتا والشوف، إلى صيدا وعكار إلى درب التبانة شمال طرابلس.
قوة اليد وقصرها
اكتسبت القوة العاملة السورية زخمها القوي منذ اتفاق الطائف 1989. الذي أذن بطفرة عمرانية وزراعية لبناء ما هدمته الحرب الأهلية، فكان العامل السوري عمادها الأول. ساعدت في ذلك الهجرة الكبيرة للبنانيين مع امتداد الحرب الأهلية. وتحول قطاعات كبيرة من مسارات الإنتاج إلى السياحة التي تتطلب عمالة كفؤة ومدربة إلى الزراعة والصناعة البدائية، باحتياجاتها اليد الرخيصة والمتاحة، الباحثة عن فسحة أمل، وفوارق مقبولة بين العملة الوطنية التي يصرفون منها، والصعبة التي يقبضونها.
السوريون كبش فداء
لا يمكن التقصّي حول العمالة السورية في لبنان مع تجاهل تعرض العامل السوري بين الفينة والأخرى لاعتداءات وصفتها منظمة حقوق الانسان بالعنصرية، إذ وصف تقرير صادر عن شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) التابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في بيروت، السوريين بكبش الفداء لكونهم في نظر العديد من الناس ضعفاء، لا حيلة لهم. وبالتالي يتوجّب الذكر أن الممارسات العنيفة ضد العمال السوريين بعدم التوثيق، سيما وأنه لم يبلغ عن كل الحوادث ضدهم، ما يجعل إحصاء الضحايا والخسائر مهمة شبه مستحيلة.
وكانت مجمل الأحداث التي طالت أمن اليد السورية عقب اغتيال الشهيد رفيق الحريري في شباط 2005؛ حيث رمي خلالها عمال كثر من الأسقف، وطعنوا وحطمت جماجم بعضهم بمطرقة حديدية “كمحمد مصطفى خولي/41 سنة” من محافظة حماة، والذي كسِّر صدره وأطرافه في 26/1/2007، ولهذا يستنكر “جلول” تلك الأحداث بقوله: “لا أسباب اقتصادية تبرر العنصرية ضد العمال السوريين في لبنان، ولا أسباب تاريخية وثقافية، ولا أسباب عرقية، فنحن وإياهم ننتمي إلى حضارة واحدة وثقافة واحدة، ولا أسباب متصلة بالحرب الأهلية، ولا بالوجود العسكري السوري السابق في لبنان”.
داخل الإحصاءات.. خارج الحسبان
بالرجوع لآخر إحصائيات “وزارة العمل اللبنانية وقطاع البناء والجمعيات الأهلية المعنية بالعمال الأجانب” يوجد في لبنان 159764 عاملاً أجنبياً، عام 2010، بينهم 123573 عاملة و2816 عاملاً في خدمة المنازل، و11717 عامل تنظيفات، إضافة إلى 7319 حمالاً، و6392 عاملاً زراعياً. وجميع هذه الإحصائيات غير دقيقة؛ كونها تشمل الإحصاء فقط لحملة إجازات العمل، تقول الجمعيات الأهلية والنقابية اللبنانية، وعليه يستثنى منها العمال السوريون، بوصفهم لا يحملون إجازات عمل، إذ تبلغ نسبة حاملي الإجازات من بينهم 9,4% فقط. كما يستثنى العراقيون، بوصفهم يحملون صفة لاجئين، ومن هنا يقر “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” في بيروت بوجود نحو ثلاثمائة ألف عامل سوري في لبنان، لا سيما في قطاع الزراعة، وهذه الأعداد تتضاعف في المواسم؛ حيث ترتفع لتصل نحو 600 ألف في المواسم الزراعية والسياحية.
كاهل الحكومة تثقله تحديات العمالة
يرى محللون اقتصاديون في تحول العمالة السورية إلى جيش عظيم العدد، سلاحه الوحيد قوته الجسدية والذهنية، حملاً كبيراً يثقل كاهل الحكومة السورية التي تعاني التحديّات الاجتماعية والاقتصادية، حسب منظمة العمل الدولية، يكمن أهمها في استحداث وظائف للقوى العاملة، سريعة النمو من جهة، والارتقاء بمعايير العيش من جهة أخرى، وبالتالي يبدو معدّل البطالة في سوريا المرتفع إلى أكثر من 16% واقعياً، وتؤيّد ذلك البيانات، التي يقول عنها الباحث الاقتصادي “محمد جمال باروت” إنها تقرأ بشكل إفلاس مئات المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة، نتيجة آثار الأزمة العالمية على سوريا، والثورة السورية، خاصة مع تراجع حجم التحويلات إلى النصف تقريباً، وترافق ذلك مع اشتداد الجفاف؛ حيث تمثل خلاصة هذه البيانات في أن قطاع الزراعة خسر بمفرده أكثر من 330 ألف فرصة عمل خلال فترة (2004-2008)، بينما خلق قطاع الصناعة التحويلية 95 ألف فرصة عمل، تليه التجارة، ثم المال والعقارات فقطاعي التعليم والصحة، ومن هنا يشير الشكل المرفق توزّع الفقر البشري في المحافظات السورية، وفق المكتب المركزي للإحصاء.
بؤس على خط النار
إذا كان معيار جودة العمل من راحة العامل، فإن أماكن سكن العمال السوريين في لبنان لا تختلف عن أحزمة الفقر والعشوائيات، التي قدموا منها من ريف دمشق إلى ريف حلب فإدلب والحسكة والقامشلي وغيرها. فبيت “عدنان حسين/50 سنة وصاحب بسطة” يقع حسب قوله على خط النار، كونه ضمن المنطقة الفاصلة بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس شمال لبنان، والمشهورة بتوترها الطائفي؛ حيث تشاطره فيها زوجته اللبنانية التي تعرف عليها أثناء تأديته الخدمة العسكرية أيام الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982. أمَّا أخوه “إبراهيم/الشاب الأعزب” فلم ير بُداً من افتراش سيارة البيجو 504 لضيق “قن الجاج” كما يحب أن يسميه، وعليه يقول الشقيقان: “من ير كيف نعيش ونسكن سيعرف حجم المهانة التي نتعرض لها كعمال”.
الجزء الثاني
يقول المحلل الاقتصادي اللبناني المقيم في باريس “فيصل جلّول”: إن رخص اليد العاملة السورية وفرت أرباحاً هائلة للبنانيين في مرحلة إعادة الإعمار، فكلفة بناء ما دمرته الحرب كان يمكن أن تكون مضروبة بثلاثة، لو أن اللبنانيين أرادوا حصر مشروع إعمارها بالعمالة اللبنانية”. وعليه يضيف: “لعب تضخم العمالة السورية وفيضانها عن حاجة السوق في زيادة العرض على الطلب، وبالتالي انخفاض الأجور وارتفاع أرباح كثير من اللبنانيين”.
والمعنى ذاته يكرره رئيس المجلس السوري اللبناني الأعلى “نصري خوري” عند التطرق لموضوع العمالة السورية؛ حيث يؤكد أنهم وفَّروا على لبنان 2 مليار دولار سنوياً، فضلاً عن أن الاقتصاد اللبناني الحر تضاعف نتيجة وفق قناعة “الجلول” فالعمال السوريون يسهمون بمراكمة الثروة اللبنانية، خاصة أنه لا يترتب عن قوة عملهم كلفة اجتماعية أو صحية، ما يجعلها باختصار “فرصة نادرة للنمو اللبناني”.
ويبقى المثال اللبناني ليس فريداً من نوعه وفقاً لجلول، فنهضة النمور الآسيوية قامت أصلاً على اليد العاملة الرخيصة والنهضة الصينية الراهنة متصلة برخص العمالة المحلية، وما يسمى بالسنوات الثلاثين المجيدة في فرنسا تدين للعمالة المغاربية المهاجرة والرخيصة، ونهضة الاقتصاد الألماني متعلقة جزئياً بالعمالة التركية الرخيصة. في تجربة النمور أسوة حسنة يبقى المثال اللبناني ليس فريداً لنوعه وفقاً لرأي “الجلول” فنهضة النمور الآسيوية بنيت أصلاً على اليد العاملة الرخيصة، فوقوف الصين الراهن على قدميها متصل برخص العمالة المحلية، بالمقابل تدين فرنسا للعمالة المغاربية المهاجرة الرخيصة، فيما يسمى بالسنوات الثلاثين المجيدة، بينما تعد نهضة الاقتصاد الألماني متعلقة جزئياً بالعمالة التركية الرخيصة. العقد شريعة متعاقد وحيد وفقاً لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، يشبِّه نديم حوري، العمالة السورية على أرض لبنان “بزواج مصلحة” بين البلدين الأمم؛ حيث تمكِّن هذه الظاهرة العديد من الشركات اللبنانية، توفير مبالغ مالية كبيرة عن طريق توظيف عمال سوريين تستطيع إنهاء عقودهم في أي وقت، لا سيما أنهم يستطيعون دخول لبنان دون الحاجة إلى الحصول على تأشيرة كما يقول الواقع ويوصِّفه “الحوري”.
نفخ في طبل العمالة يطالب رئيس المجلس الأعلى السوري اللبناني اقتصاديي لبنان بقراءة أعداد عمال سوريا في بلادهم وفق حجمها الحقيقي، دون مبالغة أو تحديد رقم معين، فوفقاً لصحيفة الأخبار اللبنانية، يقول: “هناك تضخيم لحجم العمالة السورية في لبنان؛ إذ يُعتقد أن العمالة السورية كلها دائمة، وهذا غير صحيح”، مؤكداً تراجع عددها بسبب ما يحدث في سوريا، “ما يرتب أعباء إضافية على الاقتصاد اللبناني”، الذي انتعش عبر تبادل تجاري قياسي بين سوريا ولبنان وصل إلى 100% منذ عام 1994 حتى عام 2011، بحجم تبادل بلغ ملياري دولار، بعدما كان مجموع الصادرات اللبنانية عام 1994 قليلة للغاية، لكنها تجاوزت نصف مليار دولار في 2010، وهذا يشير لتوازن في حركة التبادل. الأعداد لسوريا والأجور للبنان يشير “خوري” في المقابل أن السوق السورية أصبحت تستقطب العمال اللبنانيين وخصوصاً في القطاعات التكنولوجية والاتصالات والمصارف والتأمين والسياحة والنفط وغيرها، والعمل في هذه القطاعات يعد ذا مردود مرتفع، وبالتالي “ما يدخله العمال اللبنانيون من أموال إلى لبنان من خلال عملهم في سوريا يوازي ما يدخله العمال السوريون إلى بلدهم من خلال عملهم في لبنان”، رغم اختلاف العدد لصالح السوريين، وتفوق الأجور لصالح اللبنانيين؛ إذ تتحدد أعمال أغلبهم في سوريا بمتوسط يصل 3000 دولار شهرياً، وهي تساوي 15 ضعفاً لدخل المواطن السوري في بلده، ومن هنا كشف تقرير رسمي صادر عن “هيئة الأوراق المالية السورية” أن جنسية المدير التنفيذي في 15 شركة سورية منها 14 مصرفاً، ينتمون إلى جنسيات أخرى غير السورية وخاصة الأردنية واللبنانية، وبالتالي ليس غريباً أن يشاع في المجتمع السوري أن المدير التنفيذي بشركة اتصالات سوريا “القلعجي” يتقاضى كلبناني مليون ونصف ليرة سورية! عتب على قدر العتب يأخذ اللبنانيون على العمال السوريين أنهم يحولون ملياري ونصف دولار من أجورهم إلى سوريا، دون أن يذكروا مليارات الدولارات التي نتجت عن الأجور المصروفة والمحولة، هذا ما يؤكده “الجلول”، مستغرباً عدم التذمر من تحويل مليارات الدولارات من قبل نظراء السوريين من العمال السيريلانكيين والإثيوبيين والفلبينيين، ومن الجنسيات العربية الأخرى، في وقت بلغت فيه قيمة تحويلات العمالة اللبنانية إلى بلدها 8,5 مليار دولار لعام 2011. العامل شبح خفي من مزايا العامل السوري التكيف تبعاً لتقلبات الوضع اللبناني، اقتصادياً وسياسياً، يساعد في ذلك القرب الجغرافي، والعلاقات الثنائية لشعب واحد في بلدين؛ حيث يسجل رسمياً مع بداية الحرب اللبنانية نزوح قرابة 750 ألف لبناني إلى سوريا، كانت الدولة السورية تخشى على إمكانياتها عدم القدرة الاستيعابية لهم، ومع ذلك لم يلجأ لبناني إلى طلب مساعدة الحكومة، لوجود أهل وأقارب ومعارف تكفلوا به في سوريا، ومن هنا ليس غريباً أن يسمح للسوري بالإقامة ثلاثة أشهر في لبنان دون طلب إجازة عمل، وعند انقضاء المهلة، يكفيه الرجوع إلى الحدود في رحلة لا تستغرق من قلب العاصمة دمشق 50 دقيقة، لتجديد إجازات إقامته، في وقتٍ ينبغي على حاملي الجنسيات الأخرى شراء تأشيرة دخول، ثم الحصول على إجازات عمل تعطيهم الحقّ في بطاقة إقامة، إضافة إلى ما يفرضه ذلك من إلزام أرباب العمل في لبنان دفع تكاليف أخرى، كالضمان الصحي والتأمينات، والتي لا تشمل العامل السوري الخفي، فضلاً عن الأجور المتدنية بمعدل وسطي 350 دولاراً، أي ما يعادل 17.500 ليرة سورية، ولولا حذاقة العامل السوري، بجلب مؤونته وغذائه معه من سوريا، لمواجهة تكاليف الحياة المرتفعة لبنانياً، لما استطاع فتح دفتر توفير بين جنبات نفسه، وهو ما يعترف به العامل “محمد خلف” الذي يقول: “يضحك علينا سائقو الحافلات حين نشحن متاعنا وأكلنا وحتى شربنا، وكذلك موظفو الجمارك، ولكن من يعرف يعلم، ومن لا يعرف يقول كف عدس”.
على الموت لا يخلو السوري من الحسد “لعلاء محمد/25 سنة” الشاب اللبناني المقيم في بيروت رأي آخر؛ حيث يقول: “إن ما يشاع حول الأجور القليلة للسوريين غير صحيح، فالعامل السوري يتقاضى أجراً مثل اللبناني وأكثر، وما انعكس عليه إيجاباً وفقاً لدراسات لا يعرف لماذا لا تنشر حسب قوله، بالمقابل فإن البحث والتقصي عن أحوال العمالة السورية في لبنان يتبيّن أن: “76% منهم أصلحوا أحوالهم إذ استطاعوا إنشاء منازل في قراهم السورية، كما أنهم تمكنوا من الوصول إلى بر الاكتفاء الذاتي، ومن هنا قد يبدو ربط سن الزواج لدى السوريين بوفرة الكسب غير مستبعد؛ إذ انخفض لديهم إلى 24 سنة، مقابل ارتفاعه عند اللبنانيين إلى 35 سنة”، ولعل هذا أحد الأسباب التي دفعت مجموعة شباب لبنانيين بالتعبير عن رفضهم عمل السوري دون دفع ضريبة، من خلال إنشاء صفحة عبر موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، أطلق عليها: “لماذا لا تفرض الحكومة اللبنانية ضريبة إقامة على العمّال السوريين.” وتقول الصفحة إن السيريلانكيين والإثيوبيين والمصريين وجميع العمّال الأجانب من مختلف دول العالم يدفعون إلى وزارة العمل للحصول على رخصة للعمل في لبنان، وكذلك يدفعون للأمن العام اللبناني للحصول على الإقامة في بلادنا، بينما العامل السوري لا يدفع أية التزامات، رغم أنهم يشكلّون النسبة الأكبر من العمالة في بلاد الأرز. منذ آيار 2005 اتخذت الحكومة اللبنانية إجراءات تحد من دخول العمّال السوريين إلى أراضيها، بغية توفير فرص عمل للبنانيين.
كإلزام حيازة العمال السوريين الحصول على إجازة عمل، لكن هذا الإجراء لم يُطبَّق بسبب ضغوط أرباب العمل، ولا سيّما في الزراعة والبناء، كما لجأت وزارة العمل اللبنانية عام 2006 إلى تنظيم العمالة السورية الموجودة على الأراضي اللبنانية، معلنة إنشاء “دائرة تنظيم العمال السوريين في لبنان”، بعد محادثات مع الجانب السوري، إلا أن هذه الدائرة الجديدة لم تتمكن كذلك حتى اليوم، من الانطلاق في مهماتها، مع التذكير أن المادة الرابعة من اتفاقية العمل الثنائية الموقعة بين سوريا ولبنان عام 1991 تشير إلى تمتع العمال المشتغلين في الدولتين بنفس المعاملة والمزايا والحقوق والواجبات نفسها التي يستحقها عمال البلد، وفقاً للقوانين والأنظمة والتعليمات المرعية في كل منهما. هموم عالية بلا جدران رداً على ما عاناه الكثير من العمال السوريين خارج وطنهم، أنشأت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية جمعية أهلية في دمشق باسم “جمعية الدفاع عن العمال السوريين في الخارج” تهدف لدعم العمال السوريين خارج بلدهم، وفق الحقوق التي تكفلها لهم الاتفاقيات والقوانين الدولية، ما يعني مرة جديدة عدم متابعة شأن العامل السوري في لبنان كونه غير مرئي، أي بلا تصريح، ولا يتبع لاتفاقيات أو قوانين، لتبقى هموم العامل السوري مشرعة للهواء، ومعلقة بلا جدران على روافع الجدران ضمن الأبنية الشاهقة في سماء لبنان، وتحت وطأة أقدارها تترجم الآمال أو تغيب في ضبابية الحظ وربما الظلم، كأحلام “محمد خولي”، وفي أحسن الأحوال تبقى مخاوف على خط النار، في بلدٍ عاش ظلال الحروب، ويعرف معاني ظلمها، “كعدنان حسين” الذي يعمل بيد، والأخرى دائماً يضعها على قلب مخاوفه.
