عولمة الحروب والنهب – احتلال العراق وبعض نتائجه
حركة مناهضة العولمة في سوريا
أيار/2003
غياث نعيسة
(أخذ من الحوار المتمدن- العدد: 484 – 2003 / 5 / 11)
انتهت الحرب الإمبريالية الانجلو-امريكية على العراق سريعاً ، بالرغم من مقاومة شعبية شرسة في بداياتها. وانهار النظام الدكتاتوري الكريه مع فرار طاقمه وسقوط بغداد بسهولة ملتبسة تشبه عملية “استلام وتسليم”. واكتمل هكذا الاحتلال الأمريكي للعراق، مع تقسيم إدارته الميدانية لثلاث مناطق، لفرض الاحتلال، بين القوات الأمريكية وبين حلفائها الذين شاركوها الحرب.
وكان أول تباشير “تحرير العراق وديمقراطيته” التي بشرت بها الحرب الامبريالية للإدارة الامريكية الليبرالية الجديدة هي انتشار الفوضى والسطو والنهب لثروات العراق التاريخية والثقافية والمادية. وربما أعطى هذا مثالاً لما سيكون عليه العراق تحت الاحتلال. وبدأت تنضح من أعماق المجتمع العراقي الممزق والمفتت بالحصار والحروب اصطفافات اجتماعية وسياسية “عشائرية وطائفية ..” عوضاً عن التعبيرات الديمقراطية المدنية الحديثة، التي ستأخذ وقتاً قبل أن تتجلى ، ليس بفضل الاحتلال الإمبريالي بل في مواجهته.
وخبا الاحتجاج الشعبي في المنطقة العربية ، وازدادت خيبات الأمل والارتباك العام. ولعب فيها دور مهم واقع غياب حوامل اجتماعية وسياسية فاعلة ، إضافة إلى الدور الإعلامي المّموه و”المفرّغ” للشحنات الوجدانية للجماهير قامت به -وما تزال- بعض الفضائيات العربية وبالأخص قناة الجزيرة القطرية . فقد تحولت هذه الإمارة إلى مجرد قاعدة عسكرية للإمبريالية الأمريكية تنطلق منها العمليات العسكرية من جهة، بينما تتكفل “الجزيرة” بابتداع “الوقائع” وتنفيس مشاعر “الكره” والاحتجاج رمزياً ولفظياً بافتعال “معارك وبطولات” كلامية واستعراضية لإيهام مدى علاقتها بالواقع أو تمثيلها له (أشبه بمسرح العرائس، ولكن على صعيد واسع الانتشار) ، ويكفي الناس الارتماء أمام الشاشة لاستحسان “هذا الكلام” أو “استهجان” الآخر ، عوضاً عن النزول للشارع أو المشاركة المتواصلة في النضالات اليومية والعامة. لقد لعبت، وستلعب، هذه الفضائيات دوراً سلبياً في التأثير على الرأي العام ، خصوصاً أمام غياب هيئات اجتماعية وسياسية جماهيرية، وغياب حكومات، أو ممارسات، ديمقراطية. ولا نلغي، بالتأكيد، دورها في تعليم احترام الرأي والرأي الآخر. إنها (أي قطر) قد تحولت إلى أهم قاعدة عسكرية للإمبريالية بسلاحين : الأول, حربي. والثاني، ايديولوجي وإعلامي .
والحال ، فقد دشنت الامبريالية الأمريكية “دمقرطتها”! للعراق باحتلاله وازاحتها للنظام الدكتاتوري، عبر خطوة رمزية هامة وذات مدلول هو تعيينها لحاكم “دكتاتور عسكري أمريكي” هو الجنرال جي غارنر، وهو من طاقم المحافظين جداً من اليمين الجمهوري المتشدد. هذا “الجنرال الدكتاتور” تصل به “الديمقراطية” إلى درجة أنه يرى ” أن عملية احتلال العراق هي نموذج للاستراتيجية التي يجب أن تتبناها الولايات المتحدة . فلو أن الولايات المتحدة نفذتها خلال حربها في فيتنام باحتلال فيتنام الشمالية لاختلفت تماماَ نتيجة هذه الحرب !!!” وهو يدعو إلى توسيع “النموذج العراقي”. هذه ” الدكتاتورية العسكرية” للإمبريالية مؤقتة، وفق التصريحات الرسمية للإدارة الأمريكية . مؤقتة بانتظار إقامتها لنظام عميل شبيه بنظام قرضاي في افغانستان ، هذه هي الصيغة الحقيقية و الرسمية” للديمقراطية ” الإمبريالية الأمريكية المنشودة !.
قد يكون المسعى الأمريكي في المرحلة القريبة القادمة هو إلباس احتلالها للعراق لباس “الشرعية الدولية” عبر إشراك الأمم المتحدة، بشكل أو بآخر، في عملية “بناء العراق” ، أو بمعنى آخر دعوة الآخرين لدفع فاتورة الدمار الذي سببتها الحرب الإمبريالية نفسها. ولأن الولايات المتحدة، بالرغم من جبروت قوتها، أضعف عسكرياً واقتصادياً من أن تتحمل وحدها عبء كلفة احتلال بلد كالعراق، فإن إدخال الأمم المتحدة في اللعبة قد توفر لها لاحقاً ” قوة حفظ سلام وأمن دولية” تخفف من تكلفة الاحتلال عليها. وأخيراً فإن غطاء دولي قد يساعد الإدارة الأمريكية في مواجهة إرادة الشعب العراقي لمقاومة الاحتلال الأمريكي في حال ديمومته.
ونحن نعتقد أن التهديدات والضغوط الأمريكية على سورية تأتي في هذا السياق. أي سياق ترتيبات الإمبريالية الأمريكية لإدارة احتلالها للعراق. اذ بدأت هذه التهديدات قبل انتهاء الحرب ، تحديداً لأن الولايات المتحدة أدركت ولمست انهيار فرضية الترحيب الشعبي العراقي بقواتها . مما يعني زيادة تعقيد ومخاطر احتلالها للعراق على القصير والمتوسط. والتهديدات الأمريكية على سورية لها عدة أهداف ، منها : تحجيم ، إن لم يكن منع، قدرة سورية على التدخل أو دعم مقاومة الشعب العراقي الراهنة والمستقبلية ، أولاً. الاستفادة من دينامية الحرب نفسها لفرض “تأقلم” النظام السوري مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، ثانياً. فرض تفعيل عملية التسوية السلمية مع اسرائيل ، لصالح وبشروط الأخيرة، ثالثاً. اعتقاد الإدارة الأمريكية أن تفعيل التسوية له مردود إيجابي في “إراحة وتسهيل” احتلالها للعراق ووضع يدها على ثرواته النفطية، وقدرتها على إعادة رسم المنطقة، رابعاً.
وكائناً ما كان شكل ووتيرة “التأقلم” السياسي والاستراتيجي بل والثقافي للتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، فإن “التأقلم” الحكومي مع السياسات الليبرالية الجديدة قد خطى خطوات كبيرة داخلياً سوف تتصاعد مع المعطيات الجديدة.
وتكشف الحرب الإمبريالية على العراق حقيقة مكررة وهي أن العولمة الليبرالية الجديدة المتوحشة ليست مجرد نظام عالمي لآليات السوق المنفلتة من أي ضابط أو منظم. بل إنها عولمة عسكرية شرسة تضع العالم وشعوبه في حالة حرب مستمرة على حساب الغالبية العظمى من السكان المأجورين والمستغلين والمهمشين والمضطهدين، ولصالح فئات ضيقة من الرأسماليين.
كما كشفت عربياً، انهيار النظام الرسمي العربي، وتقلصت الجامعة العربية إلى نوع من “خرقة بالية”. وانفضح ، وبشكل مأساوي، تقلص -بل افتقاد- الأنظمة لأي هامش من الاستقلالية عن الإمبريالية الأمريكية. وتطفو على السطح مجدداً قضية ارتباط الاستقلال الوطني والسيادة الشعبية بمشاركة المواطنين المباشرة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. والحاجة لبناء بدائل جماهيرية مناهضة للعولمة الرأسمالية والإمبريالية، ديمقراطية وتعددية، تضع في المقدمة مصالح ومطالب شرائح الغالبية المستغلة والمضطهدة والمهمشة في الكرامة والديمقراطية والمشاركة في تقرير شؤون حياتها . هذا الفضاء ما يزال شاغراً إلى حد كبير، تاركاً الباب لمماحكات وفنتازيات “المتعولمين” و”المتلبرلين” من الديقراطيين الجدد المستوزرين من دعاة “حكومات الوحدة الوطنية” ، بغياب اصلاحات ديمقراطية وفقدان أية تمثيلية لهم نابعة عن التعبير الحر للمواطنين.
أصبح مناهضة العولمة الرأسمالية المتوحشة(متوحشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وعسكرياً) يتطلب وضع استراتيجية عالمية، لم تتحقق بعد رغم انجازات ملتقى بورتو اليغري الهامة. ولكن بدأت تتجلى بداياتها، التي تتطلب التقاء القوى (الاجتماعية والسياسية) المناهضة للعولمة الليبرالية الجديدة على الصعد المحلية والإقليمية وبالأخص العالمية. وصار مؤكداً أن تناميها داخل -أي في قلب- الإمبراطورية، ونعني الولايات المتحدة ، هو شرط ضروري لمقاومتها.
ونحن نتفق تماماَ مع شعار “لا لحربهم ولا لسلاهم” الذي طرحه مناهضو العولمة في الولايات المتحدة.
لا للحروب الإمبريالية ولا لسلامها. لا لغطاء الأمم المتحدة لها. ونعم للتضامن العالمي في مقاومة العولمة الرأسمالية المتوحشة. ونعم لحق الشعوب والمواطنين في تقرير مصيرهم وإدارة شؤون حياتهم مباشرة. هذه مطالب عالمية لنضالات تجمع الملايين من البشر، من أجل عالم أفضل وممكن.
حركة مناهضة العولمة في سوريا*: كانت من المجموعات التي نشطت في تلك الفترة وكان أفرادها من الجذور الأساسية – مع الرفاق من المجموعات الأخرى- , التي شكلت النوى الأولية لتيار اليسار الثوري في سوريا والذي أعلن عن تأسيسه في 15/10/2011
