النظام السوري وعلامات الانهيار
تيار اليسار الثوري في سوريا
1/6/2012
غياث نعيسة
أخذ من الحوار المتمدن-العدد: 3747 – 2012 / 6 / 3
قام تجار دمشق بإضراب ملفت لهم في 28 ايار ، فقد شهدت أسواق دمشق التقليدية مثل الحميدية وباب سريجة والحريقة إغلاقا تاماً للمحلات والمتاجر، ولم تفلح محاولات أجهزة الأمن في كسر الاضراب عبر التهديدات أو كسر المحلات وفتحها عنوة في إعادة الأسواق إلى حالتها السابقة.
ودون أن يصدر بيان عن التجار يفسر اضرابهم إلا أنه معروف أنه يأتي احتجاجا على عنف السلطة ووحشيتها وخصوصاً بعد مجزرة الحولة التي سقط فيها نحو خمسين طفلاً والتي استدعت بياناً ، غير ملزماً ، من مجلس الأمن ، وتصريحاً من وزير الخارجية الروسي أن حكومته لا تدعم حكومة الأسد ولكنها تدعم خطة أنان في سوريا.
ويترسخ في ذاكرة الشعب السوري الاضراب العام الشهير لعام 1936 الذي سبق الاستقلال واضراب نيسان عام 1964 ، دون ان ننسى احتجاجات عام 1980 .
للبرجوازية التجارية وخاصة في دمشق قصة طويلة مع نظام آل الأسد، فقد رحبت بانقلاب الدكتاتور الأب حافظ الاسد عام 1970، وقام بينها وبين سلطته نوع من العهد المتبادل يدعم اغتنائها ويحفظ مصالحها مقابل أن تترك له السلطة، وقد كان لموقفها الملتصق بالسلطة في بداية الثمانينات دور حاسم في قدرة النظام على سحق الاحتجاجات المدنية حينئذ وانتصاره في صراعه المسلح مع الاخوان المسلمين.
لقد جاءت ردود الأفعال على مجزرة الحولة قرب حمص يوم 25 أيار التي اقترفتها قوات النظام وميليشياته والتي راح ضحيتها أكثر من مئة قتيل بينهم عشرات الأطفال ، صارمة في إدانتها للنظام الحاكم .
فقد تحدث الرئيس الفرنسي هولاند عن “عدم استبعاد إمكانية تدخل عسكري” بشرط أن يحظى “بموافقة مجلس الأمن الدولي” ، كما قامت فرنسا و عدد آخر من الدول الغربية و غيرها بطرد السفراء السوريين ليفاقم من العزلة الدولية للنظام السوري، وخرج وزير الخارجية الفرنسي فابيوس في اليوم التالي لتصريح رئيسه لتوضيح أن ” أي تدخل بري هو احتمال غير وارد أبداً و خاصة لوجود مخاطر بانتشاره على الصعيد الاقليمي و خاصة لبنان..”، لقد كانت هذه التصريحات و ما شابهها من الحكومات الغربية هي أقرب إلى تهيئة التربة للقاء أنان مع الدكتاتور الاسد في نهاية شهر ايار ، و تمهيدا لزيارة بوتين لفرنسا و الولايات المتحدة منها إلى تهديد فعلي، لقد رد بوتين في الاول من حزيران في لقاء صحفي مشترك مع الرئيس الفرنسي على طلب الاخير “بتنحي الاسد” باستخفافه بهذا المطلب قائلا “ان عزل الزعماء لا يؤدي بالضرورة إلى السلام”.
إن ما نراه من سياق مواقف الحكومات الغربية إنما يندرج في سياسة الضغط المتواصل على نظام الأسد وخصوصاً أنه بدأت تتراءى علامات ضعف متزايدة داخل النظام نفسه، كانت إحدى أهمها اضراب تجار دمشق في 28 أيار وما تلاه من اضراب لهم في حلب أيضا، في حين أنه معروف أن البرجوازية التجارية الدمشقية ( وأيضا الحلبية) هي عماد اجتماعي أساسي من أعمدة النظام السوري، وأن تعبيرها عن قلقها من قدرة النظام الحاكم على المحافظة على مصالحها يبدأ بدفعها إلى موقف التخلي عنه.
في حال تأكد موقف البرجوازية التجارية في تخليها عن نظام الاسد، فإنه سيكون مؤشر مهم على تفكك كبير في القاعدة الاجتماعية التي يستند عليها نظام الأسد الذي يعبر، عموماً، عن مصالحها العامة.
و يترافق هذا الأمر مع معطيات تشير إلى تزايد اعتماد الطغمة الحاكمة على فرق عسكرية مضمونة الولاء وبالأخص على ميليشياتها الموالية “الشبيحة” في مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية، وهو انموذج لانحطاط دكتاتورية بوليسية كلاسيكية إلى شكل من أشكال الفاشية لأنه “ان تبقرطت الفاشية فإنها تصبح جد شبيهة بالأشكال الاخرى للدكتاتورية العسكرية و البوليسية”(تروتسكي، ماهي الفاشية وكيف نهزمها) ولكننا نرى أيضاً أن تخلخل أركان الدكتاتورية الحاكمة في سوريا قبل انهيارها الكامل ، انما يدفع بها إلى الانحطاط إلى واحد من أبشع الأشكال الفاشية للحفاظ على بقائها. إنها علامات تفسخ متزايدة للنظام المستبد.
ما يبدو واضحاً، ولاسيما مع استمرار توفر دعم حكومات روسيا والصين وإيران الحليفة للنظام المجرم، أن الموقف الأمريكي والأوربي المعلن حتى الآن هو توفير مقتضيات تحقيق “انتقال منظم” أو نوع ما من “الحل اليمني”، بمعنى رحيل الأسد وبعض أفراد نظامه معه والحفاظ على أسس النظام الأخرى.
فقد كان أيهود باراك وزير دفاع الدولة الصهيونية الأكثر وضوحاً في هذا الخصوص، حين صرح في 16 أيار 2012(وكالة الصحافة الفرنسية 17 أيار) أن الحل في سوريا يجب أن يقوم على “رحيل بشار الأسد وعدد من كبار المسؤولين حوله فقط، وليس كل بنى النظام”. وشدد باراك على ضرورة حل “يمني” لتغيير النظام في سوريا يسمح بمغادرة بشار الاسد وفريقه للبلاد مع “الحفاظ على الحزب(البعث) والمخابرات والقوات المسلحة”.
والحال ، فإن هدف مبادرة أنان ليست بعيدة عن هذا السيناريو المرغوب من الحكومات الغربية، ولا نعتقد أن حكومة بوتين نفسها تمانع حقاً من تحقيقه بشرط أن يتم “بدون تدخل عسكري” وبموافقة كلا من طرفي “النظام والمعارضة”.
ومما ينسجم مع هذا الأمر ما نشرته صحيفة النيويورك تايمز في 27 أيار 2012 عن خطة تعدها الحكومة الامريكية تسعى من خلالها إلى التوصل إلى ازاحة بشار الاسد عن سدة الحكم على شاكلة ما جرى في اليمن، وأن نجاح الخطة الامريكية يتطلب قبول روسي بها.
ليس فقط على صعيد حكومات الدول الكبرى والاقليمية يتم التسويق “للحل اليمني” في سوريا، بل هنالك قوى معارضة سورية تتبنى هذا الحل، وتسوق لمبادرة أنان في سياق الحل نفسه. بل ان بعضها رأى في حضور مراقبي الجامعة العربية في نهاية العام الماضي ، واليوم مع حضور المراقبين الدوليين مدخل يسمح بتحقيق “انتقال منظم” يقتصر على رحيل الاسد والبقاء على أسس النظام. أبرز هذه القوى التي تحمل هكذا مشروع هي هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، ولكنها ليست الوحيدة. وإن كانت تطالب بتحقيق كافة بنود خطة أنان قبل الدخول بمفاوضات مع أطراف من النظام ممن ” لم تتلوث يداه بالدماء” لتوفير مرحلة انتقالية.
السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه، سؤال من شقين: الأول هل تقبل الجماهير الثائرة ودينامية السيرورة الثورية نفسها بحل فوقي يقتصر على رحيل بعض رموز النظام السابق مع بقاء أسسه رغم التضحيات الهائلة التي قدمتها؟
والثاني هو، هل أن طبيعة وبنية النظام الدكتاتوري لآل الاسد تسمحان أصلاً بحل يقوم على رحيل الدكتاتور مع بعض فريقه دون أن يعني ذلك انهيار حقيقي وكامل للنظام برمته؟
إننا نعتقد أن كلاً من دينامية السيرورة الثورية وتجذرها السياسي والاجتماعي العميق، التي تدفع إلى إسقاط النظام بكامله وإنجاز أعمق التغييرات السياسية والاجتماعية في البلاد، من جهة. وطبيعة النظام الدكتاتوري المغلق والوحشي نفسه، والغير قابل للإصلاح إطلاقاً، من جهة أخرى. يمنعان أية امكانية ولو ضعيفة لتحقيق حل فوقي على الطريقة اليمنية المذكور أعلاه، بل ونعتقد أن أي “انتقال منظم” وحل يمني في سوريا إنما يعني ويتطلب لتحقيقه: أما تدخل عسكري خارجي، وهو ما تدعي أغلب الدول الكبرى أنها لا ترغب به. وإما هزيمة الثورة الشعبية السورية.
وفي كلا الحالتين، فإن موقفنا، موقف اليسار الثوري السوري، يقوم على رفض هذا الحل الفوقي “اليمني” والتدخل العسكري الخارجي الذين يعنيان، وفي كل الحالات، سحق الثورة الشعبية وهزيمتها.
فالمكون الاجتماعي الأساسي للقوى المحركة للثورة هي الطبقات الشعبية المحرومة و المفقرة و المضطهدة، وهي تجذرت خلال أكثر من عام في مواقفها تجاه نظام فاسد وقاتل واستغلالي مارس تجاه مطالبها السلمية وحشية منقطعة النظير، وأدركت هذه الجماهير الثائرة بحسها العفوي و ممارستها الكفاحية اليومية أن معركتها مع هذا النظام هي معركة حياة أو موت، فشعاريها “الموت ولا المذلة” و “النصر أو الموت” يعبران تماماً عن إرادتها بخوض الثورة حتى إسقاط النظام كاملاً، وليس رحيل رأسه فقط، ، كما أنها تمكنت، و في خلال الفترة نفسها، من التخلص من وهم ضار جداً نشرته بعض أطراف المعارضة، ولا سيما المجلس الوطني السوري، بأن الخلاص سيكون سريعاً بتدخل عسكري خارجي وشيك.
مما لا شك فيه أن جماهير الثورة الشعبية اليوم قد تخلصت تماماً من هذا الوهم، واستعادت ثقتها بقدرتها على إسقاط النظام بقواها الذاتية، مثلما أنها استطاعت أن تجهض محاولات النظام الدكتاتوري وأطراف الثورة المضادة إلى جرها إلى مستنقع صراع طائفي مدمر للثورة. لذلك فان السيرورة الثورية أصبحت من الجذرية لدرجة انها لن تقبل بأنصاف الحلول.
في المقابل، فإن النظام الحاكم في سوريا هو نظام دكتاتورية بوليسية يقوم حول طغمة عائلية حاكمة مع شركائها في خدمة برجوازية سورية مصالحها –وخاصة التجارية منها- مرتبطة عضويا بالسلطة.
إنها طغمة تتحكم بالسلطة والثروة وتمسك بكل تلابيب “الدولة السورية” بل وأعادت هيكلتها بشكل أنها أفرغتها من كل وظائفها سوى وظيفة واحدة هي الفساد والقمع وخدمة مصالح هذه الطغمة الضيقة وبقائها في الحكم.
ليس “مجلس الشعب” أو “رئاسة الوزراء” أو “الجبهة الوطنية التقدمية” سوى هياكل فارغة، تتحكم بها أجهزة الطغمة الحاكمة.
تستند الطغمة في حكمها بشكل أساسي على عدد واسع من الأجهزة الأمنية وقسم حديث وموالي من القوات المسلحة، وجيش من الميليشيا الموالية الجاهز للتعبئة في كل لحظة، من الشرائح الدنيا للبرجوازية الصغيرة والموظفين. إنها دكتاتورية آل الأسد وشركائهم.
لهذا، فانه لا يمكن تصور رحيل رأس هذه الطغمة العائلية وفريقه، إلا إطار انهيار كامل للنظام الدكتاتوري. وهذا الأمر هو ما يدفع به ، مع تزايد علامات ضعفه وانهاكه في مواجهة الثورة الشعبية، إلى جر البلاد نحو أتون حرب أهلية، تريدها الطغمة أن تكون طائفية، باعتبارها، من وجهة نظرها، مخرجها الوحيد من الهزيمة الكاملة أمام الشعب الثائر، ولكن الطغمة الدموية بتهييجها وتحضيرها العملي لهكذا حرب أهلية انما تنزلق أكثر فأكثر إلى شكل من اشكال الفاشية المتخلفة والشديدة الوحشية.
والحال، فإن شروط انتصار الثورة الشعبية وإسقاط النظام الدكتاتوري المنحط فاشياً تستلزم وعياً سياسياً ثورياً رفيعاً، وبالأخص تواجد قوي وموحد لقوى اليسار الثوري، من جهة. وبناء جبهة ثورية متحدة كقيادة جماهيرية بديلة عن قوى المعارضة المتهالكة، من جهة أخرى.
قيادة جماهيرية للثورة تتشكل من مكونات الحراك الثوري الميداني ببرنامج سياسي شعبي واجتماعي وديمقراطي وعلماني جذري، وبالأخص العمل الجدي، من الآن، على بناء هيئات سلطة جماهيرية ديمقراطية بديلة من الأسفل.
الثورة مستمرة حتى إسقاط نظام الاستبداد والاستغلال
