حركة مناهضة العولمة في سوريا*
3/1/2011
غياث نعيسة
(أخذ من الحوار المتمدن- العدد: 3235 – 2011 / 1 / 3)
فهرس المحتويات
“إذا تطابق الشكل مع المضمون أصبح العلم نافلاً”
كارل ماركس
مقدمة
يتزايد الاهتمام النظري بدراسة الامبريالية لدى المثقفين الماركسيين منذ نحو عقد من الزمن، وتترافق معه ظاهرة التدخل العسكري و الحروب و الاحتلالات التي تمارسها القوة العسكرية الأعظم في العالم، ألا و هي الولايات المتحدة، من غزو أفغانستان إلى الحرب على صربيا و احتلال العراق و التدخل في الصومال واليمن ….الخ.
فالولايات المتحدة تستخدم القوة العسكرية وبوضوح كاستراتيجية امبريالية خاصة لها، أو باسم الحلف الأطلسي، وفق احتياجات تدخلاتها. و يكرر الكثير من اليساريين حقيقة أن الامبريالية تسبب الحروب والدمار، لكن غالبيتهم لا تطرح أسباباً واضحة لماذا يحصل هذا في مرحلة معينة دون غيرها، و البعض الآخر من اليسار يستغرب كيف أن نهاية الحرب الباردة لم تؤد إلى إحلال السلام العالمي الذي وعدت به الايديولوجيا السائدة.
في الوقت عينه ، صدرت أطروحات تشير إلى نهاية مفهوم “الامبريالية” ليحل محله مفهوم “الامبراطورية” اللامركزية، أو قول البعض الآخر أننا وصلنا إلى مرحلة من العولمة الرأسمالية للعالم بحيث أنه لم يعد صالحاً استخدام مفهوم “الامبريالية”. لذلك أصبح ضرورياً إجلاء الفهم النظري الماركسي للإمبريالية اليوم، و إبراز التطور الفكري الذي طرأ عليه في السنوات الأخيرة.
من المعروف أن أحد أبسط تعريفات للامبريالية هو ما قدمه المؤرخ البريطاني فيكتور كيرنان:”الامبريالية اليوم تستخدم القوة الفظة في الخارج بوسيلة أو بأخرى، لتحصل على أرباح كان بالإمكان الحصول عليها بالتبادل التجاري البسيط”. وكذلك تعريف أنطوني بريوير :”الامبريالية تعني أولاً التنافس بين البلدان الرأسمالية الأكبر، تنافس يعبر عن نفسه في نزاع على أراض يأخذ شكلاً سياسياً و عسكرياً و أيضا اقتصادياّ”. وبالتأكيد فان التعريف الاكثر رواجاً عند الماركسيين هو تعريف لينين للإمبريالية عام 1916 –متأثراً بدراسة جون هوبسون حول الامبريالية الصادرة عام 1902- بأنها نظام يقوم على الرأسمالية الاحتكارية و تصدير رأس المال، و هي مرحلة عليا للرأسمالية.
الدافع الأساسي والبعد الاقتصادي الرئيسي للإمبريالية هو الربح و مزيداً من الربح لأنها تنبع من رحم نظام الاستغلال الرأسمالي لبقية العالم. فان كان حقاً رأس المال الاحتكاري ما يزال في قلب النظام الاقتصادي-الاجتماعي العالمي، فذلك لا يعفي الماركسيين و اليسار الاشتراكي الأممي عموماً من ضرورة فهم وتحليل ما هو الجديد في دينامية هذا النظام.
ثلاثة مواقف
يمكن تقسيم الدراسات النظرية الحديثة حول الامبريالية عند المثقفين اليساريين إلى ثلاث مجموعات أو مواقف، حسب التوافقات النظرية التي تجمعهم.
المجموعة الأولى: تطرح و تدافع عن وجهة نظر تقول أن الرأسمالية ما تزال غارقة في أزمة الربح منذ نهاية الستينات و لم تخرج منها بعد، و أن العالم تتقاسمه ثلاثة اقطاب اساسية للقوة الاقتصادية و السياسية- العسكرية هي أمريكا الشمالية و أوربا و أسيا الشرقية. وبالرغم من التفوق النسبي الراهن للولايات المتحدة و هيمنتها إلا أن تنافسات جديدة ما تزال قائمة بين القوى الرأسمالية الكبرى من جهة و أيضا مع دول ناهضة قوية مثل روسيا و الصين من جهة أخرى. (تشمل هذه المجموعة مفكرين ماركسيين مثل اليكس كالينيكوس و دافيد هارفي و جون ريز).
المجموعة الثانية: هي التنظيرات التي تقول بأن التنافس بين القوى الرأسمالية الكبرى أصبحت نافلة، نظراً للاندماج الحاصل و العابر للقوميات بين الطبقات الرأسمالية، بل و أصبح أيضا نافلاً بنى الدول و شبكة العلاقات التي تربط فيما بينها ( ويعبر عن هذه المجموعة كتابات توني نيغري وميكايل هاردت) وهي أطروحات بعيدة عن الماركسية.
المجموعة الثالثة: تنظر لمفهوم مفاده أن تفوق الولايات المتحدة و هيمنتها هو من العظمة إلى حد أن القوى الرأسمالية الأخرى انحطت إلى موقع الوكيل التابع (vassal كولاء الإقطاعي سابقاً لسيده الأمير أو الملك) ضمن امبراطورية غير معلنة للولايات المتحدة(كما يطرح جلبير اشقر). فالولايات المتحدة تدير المصالح المشتركة لهذه الامبراطورية، و بالتالي لم يعد هنالك من تنافس جيو سياسي بين القوى الرأسمالية المتعددة.
النظرية الماركسية الكلاسيكية
وقف كل من لينين و بوخارين و لوكسمبورغ موقفاً معارضاً لأطروحة كارل كاوتسكي عام 1914حول “الامبريالية العليا” الذي اعتبرها الأخير طور أخير لتطور الامبريالية يتميز بإمكانية قيام تحالف دائم للكتل الرأسمالية الكبرى يزيل التنافس العنيف بينها و يحقق السلام.
وفي حين شدد الأوائل على حقيقة أن طبيعة العلاقات بين الدول في ظل الرأسمالية هي بالضرورة علاقات تنافسية و تناحرية مما سيؤدي، عاجلاً أم آجلاً، إلى اندلاع الحروب بين الامبرياليات. و استند كل من هؤلاء المنظرين إلى أعمال ماركس لتطوير نظريته و إكمال ما بدأه ماركس حول الموضوع دون أن يستطيع انجازه.
لقد رأت لوكسمبورغ أن المسألة الأساسية هي شرح و فهم دينامية الاستعمار، و طرحت أن الرأسمالية، في محاولتها الدائبة لتجنب الأزمة المزمنة التي تعاني منها، بحاجة دائمة إلى توسيع أسواقها من خلال دمجها لأراض ليست رأسمالية بعد(أسواق جديدة)، و أن الحروب بين الدول الامبريالية تنتج عن هذا التنافس بين القوى الكبرى حول “استعمار” هذه الاراضي و البلدان.
لقد استندت لوكسمبورغ، وفق ما أظهره تطور النظام الرأسمالي لاحقاً، على نقد و فهم خاطئين لآليات إعادة إنتاج رأس المال لدى ماركس، إذ أنها استندت على نظرية خاطئة تفسر أزمة الرأسمالية ألا وهي نظرية “نقص الاستهلاك”.
إلاّ أن بوخارين، وأيضاً لينين، قدما الصيغة النظرية الماركسية الأكثر تماسكاً حول الامبريالية، إذ أكد بوخارين استناداً إلى مؤلفات ماركس أن ميل رأس المال إلى التمركز و التكثف يؤدي إلى نشوء رأس المال المالي (وفق مفهوم رودلف هيلفردنغ عن الاندماج المتبادل بين رأس المال المصرفي و رأس المال الصناعي) الذي يؤدي بدوره إلى تعزيز رأس المال على الصعيد القومي.
و يذهب بوخارين إلى أبعد من أطروحة هيلفردنغ حيث يلاحظ أنه يجري بشكل مواز ميل إلى عولمة رأس المال و هو ما يفاقم من التنافس بين رؤوس الاموال المتعددة ذات الأصول القومية. و استنتج أن الامبريالية هي طور يتميز بميل متزايد إلى انصهار الدولة مع الرأسمال القومي، ليجد أن الحرب هي شكل آخر من أشكال المنافسة الاقتصادية بين رؤوس الاموال المختلفة.
بينما كان لينين يرى، في هذا الخصوص، أن النزعة العسكرية تنبع من الميل إلى التطور غير المتكافئ بين كتل رؤوس الاموال، حيث أن تقاسم العالم يخضع لتوازن القوة الاقتصادية بين الدول الكبرى، فالتطور غير المتكافئ يخلق وضعاً يستدعي بالضرورة إعادة توازن جديد من خلال العنف و الحروب.
و قد استند عدد من المفكرين الماركسيين في السنوات الأخيرة على أطروحات بوخارين و لينين لتطوير الفهم الماركسي للإمبرياليةـ والمثال الأكثر أهمية عن ذلك هو استناد اليكس كالينيكوس في كتابه الأخير المهم جداً “الامبريالية و الاقتصاد السياسي المعولم” عليهما حيث ارتكز على أطروحة بوخارين لتعريف الامبريالية باعتبارها تفاعل جدلي بين المنافسة الاقتصادية و المنافسة الجيو-سياسية . في حين أنه – و غيره- استند على أطروحة لينين في تفسيره لمسألة بقاء و استمرارية تعددية أشكال الدولة و علاقات التناحر فيما بينها.
لكن نظرية لينين تعاني من اشكاليات عديدة منها أنها تعيد إنتاج مفاهيم عالم-ثالثية أثبت تطور الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية خطئها ( مثل مقولة طفيلية رأس المال المالي و مقولة الأرستقراطية العمالية..). في الوقت الذي عانت فيه نظرية بوخارين من مشكلة كبيرة تنبع من مشاركته لرأي هيلفردنغ حول رأس المال المالي فتوصل مثله إلى أن درجة التنظيم في داخل كل اقتصاد قومي قد وصل إلى مرتبة عالية يجعل من الصعب حدوث فوضى في الإنتاج، و بالتالي يجنب وقوع أزمة اقتصادية، جدير بالقول أن بوخارين قد طرح هذا الرأي عشية الازمة الاقتصادية العالمية المشهورة لعام 1929.
تطوير النظرية
في مقدمة الانتقادات الموجهة للخلل في النظرية الماركسية الكلاسيكية هو ما يسميه كالينيكوس “الاختزالية الاقتصادية”، والتي تعني تلك الرؤية الميكانيكية للمادية التاريخية التي تختزل السمات الجيو-سياسية للامبريالية إلى مجرد انعكاسات للتناحرات الاقتصادية بين الدول الكبرى.
و ينطلق من هذا النقد إلى الدعوة للتفكير بعنصر “استقلالية” الدولة النسبي. و هو يتفق في هذا الطرح مع دافيد هارفي –في كتابه الاخير” الامبريالية الجديدة” – حيث يقترح هارفي تعريفاً يبدو قريباً لتعريف كالينيكوس للامبريالية، إذ يقول هارفي أن الامبريالية هي “تفاعل بين منطقين( أو مصدرين) للقوة (او السلطة) الأول رأسمالي و الثاني إقليمي” (territorial). وذلك يعني أن مصدر القوة الرأسمالي في هذا التعريف هي تلك النابعة من السيطرة الرأسمالية على وسائل الإنتاج و القيمة التي تنتجها، و تشير مصدر القوة الإقليمية إلى بنى الدولة التي تضمن السيطرة الفعلية على أرض محددة و على ما تحتويه هذه الأرض من مصادر و طاقات بشرية و طبيعية.
ولكن ما يبدو غير واضحاً هو طبيعة العلاقة بين هذين المنطقين (أو المصدرين) للقوة لدى هارفي، و إن كان يدعو إلى تناولهما باعتبارهما مرتبطين جدلياً. ويشير كالينيكوس إلى هذا الضعف في تعريف هارفي للامبريالية، لذلك دعا إلى البحث في مفهوم النظرية الماركسية الكلاسيكية عن الدولة لعناصر الإجابة عن هذا التحدي النظري.
ينطلق كالينيكوس أولاً من قضية المنهج حيث يحدد أن” التنافس الاقتصادي بين “رؤوس أموال متعددة” هو مكون أساسي لنمط الإنتاج الرأسمالي ، وأن أي تطوير لنظرية ماركس يستند على فرضية أن نمط الإنتاج الرأسمالي أصبح سائداً على صعيد العالم ، عليه أن يدخل، في اللحظة المناسبة من التحليل، شكل آخر مميز من التنافس الرأسمالي له دينامياته و أهدافه الخاصة”. و يقصد كالينيكوس بالشكل الآخر للتنافس الصعيد الجيو-سياسي.
يقول كالينيكوس أن تعريفه يختلف عن تعريف هارفي للإمبريالية فقط في طريقة الصياغة. و لكن قراءة متأنية تؤكد أن التعريفين يحملان مفهومان مختلفان عن العلاقة الجدلية بين الاقتصادي و الجيو-سياسي. إذ أن هارفي يشدد على أن كلا المنطقين متمايزين وأن هنالك نوع من الصراع بينهما لمعرفة أيهما هو السائد. بينما يتناولهما كالينيكوس كشكلين ، بالطبع متمايزين، و لكنهما شكلين لدينامية واحدة هي المنافسة بين الرأسماليين، و هي دينامية مكونة أساساً لنمط الإنتاج الرأسمالي. و يشير إلى أن الامبريالية ظهرت في لحظة تاريخية أعطى فيها تطور نمط الإنتاج الرأسمالي ميزة جيو-سياسية للدول الرأسمالية (بريطانيا و هولندا) للتفوق على منافسيهما من الدول التي تحكمها أنظمة الحكم المطلق في القارة الأوربية، وهذا ما أدى بدوره إلى دفع تطور الرأسمالية في عموم أوربا في مسعى دول الحكم المطلق إلى الحفاظ على قدرتها على المنافسة الجيو-سياسية.
يمكن اذن القول ان الامبريالية قامت منذ اللحظة التي عمت فيها الرأسمالية القارة الاوربية ، بينما كان بوخارين يرى أن الامبريالية تنتج عن الميل إلى تعزيز رأس المال القومي من خلال تراكم ميلي الرأسمالية إلى تركيز و تكثيف رأس المال.
و في هذا الإطار تتفوق رؤية كالينكوس على تلك لبوخارين لأن الأولى تضع الامبريالية في سياق التطور البعيد المدى للرأسمالية ، أولاً، ولأنها تربط الامبريالية مع سيرورة الانتقال من الاقطاعية إلى الرأسمالية في اوربا، ثانياً.
يقترح كالينيكوس في مقاربته للاستقلال “النسبي ” للدولة فرضية نظرية للعلاقات التي تربط الدولة و رأس المال تقول” أن الرأسماليين من جهة، و موظفي (مديري) الدولة من جهة اخرى، يشكلون مجموعتان لفاعلين اجتماعيين لهم مصالح مختلفة هي بالنسبة للمجموعة الأولى زيادة رأس المال، وهي بالنسبة للمجموعة الثانية المحافظة على سلطة دولتهم في مواجهة السكان الخاضعين لها من جهة، وفي مواجهة الدول الاخرى من جهة أخرى”. في حال الاعتماد على هذه الفرضية يصبح سهلا فهم العلاقة بين هاتين المجموعتين أنها” علاقة اعتماد متبادل هيكلي” بينهما، لأن قدرات الدولة تعتمد على مدى الموارد التي بإمكانها حشدها من خلال الضرائب المتنوعة ، فإن لها مصلحة أكيدة في تعزيز أوسع تراكم ممكن لرأس المال. في الوقت نفسه يحتاج الرأسماليون إلى الدولة لتوفير أفضل الشروط السياسية والقانونية لهم لتحقيق تراكم رأس المال.
لكن لهذه العلاقة الجدلية التي تبدو قوية لدى كالينيكوس إشكالية وتعرضت لانتقادات عديدة حول ما تحمله من تنازل نظري لأصحاب التيار “الواقعي” في العلاقات الدولية و مبالغته الشديدة باستقلالية الدولة و استقلالية المجال الجيو-سياسي. كما أن فرضيته تخفق في توضيح الطبيعة الطبقية لبيروقراطية الدولة، فاذا كانت المجموعتان متمايزتان في مصالحهما فبأي درجة يمكن القول أن البيروقراطية تشكل جزءاً من الطبقة الرأسمالية، في هذه الحالة؟ وإذا لم تكن البيروقراطية جزءا من الطبقة الرأسمالية فهذا يعني أنه توجد أوضاع تتفارق فيها مصالحهما لحد أن مفهوم الاعتماد المتبادل يصبح ملغياً؟
و الحال، فإن كالينيكوس يعتقد فعلاً بهكذا امكانية لتفارق المصالح بين البيروقراطية و الرأسماليين ليبعد شبح الاختزالية الاقتصادية. ولكن في هذه الحال لا يعد هنالك شيء حقاً رأسمالي في مصالح البيروقراطية. بل أنها تبدو في هذه الحالة حاملة لنفس المصالح التي حملتها البيروقراطية في الدول الاقطاعية و الحكم المطلق.
لعل الفرضية النظرية الأفضل لتجاوز هذه الاشكالية هي الانطلاق من حقيقة تعدد الوظائف الضرورية لإعادة إنتاج رأس المال. وأن لكل من الرأسماليين و البيروقراطيين وظائف مختلفة –هذا في الاأضاع التي لا تعمل فيها الدولة بوصفها رأسمالي جماعي(أي رأسمالية الدولة) من خلال امتلاكها لوسائل الإنتاج و القرار في حقلي الاستثمار و إدارة عملية الإنتاج- مما يمكن وصف البيروقراطيين بـ”الرأسماليين السياسيين”، وهو مصطلح اقترحه كريس هرمان في مقاله” الدولة و الرأسمالية اليوم” ،لأن وظيفة البيروقراطيين هي توفير أفضل الشروط السياسية لمراكمة رأس المال، و يمكن وصف الرأسماليين ب،”الرأسماليين الاقتصاديين” لأن وظيفتهم هي تقرير طبيعة الاستثمارات و إدارة عملية الإنتاج.
قد تسمح هذه المقاربة بكشف علاقة تضامن طبقية متبادلة ما بين هاتين المجموعتين. و تسمح بتفسير عملية الانتقال السهلة و الدائمة للأفراد من البيروقراطية بعد مغادرتهم مناصبهم الحكومية إلى تولى مناصب في مجالس الشركات الرأسمالية الكبرى.
أشكال الدولة
السؤال الذي يحتاج جواباً هو كيف نفسر استمرارية تنوع أشكال الدولة في ظل سيادة الرأسمالية على الصعيد العالمي؟
يستند كالينيكوس على قانون التطور المتفاوت و المركب لتروتسكي ليفسر التمركز المكاني لرأس المال المتطور تقنيا، من جهة. و يستند على التحليل الذي قدمه كل من كريس هارمان و دافيد هارفي حول تشكل البنى الدولاتية، والتي تقول بان هذه البنى تنشأ حول التمركزات المكانية لرأس المال المنتج و التجاري و النقدي، من جهة اخرى.
ويتوصل كالينيكوس إلى أن الربط بين مفاعيلهما يشكل القوة التي ما تزال تحافظ على البنى الدولاتية القائمة، فقانون التطور المتفاوت و المركب يؤدي إلى تعزيز التمركزات المكانية القائمة مسبقاً. لكن كالينيكوس يعتبر أن هذا مجرد ميل، و ليس قانون مطلق، و يمكن تجاوزه في بعض الشروط، و ما الاتحاد الأوربي إلا دليل على ذلك.
صحيح أن الاعتماد على قانون التطور المتفاوت و المركب لتروتسكي يكشف أن دينامية تطور قوى الإنتاج ينتج عن المنافسة بين الرأسماليين، لكن يبدو ان هنالك نوع من التقليل من امكانية بزوغ أشكال دولاتية جديدة على الصعد الاقليمية في أطروحات كالينيكوس. فقد كان بوخارين قد أشار إلى أن الامبريالية هي ناتج التناقض الجزئي بين ميلين للرأسمالية ، الأول هو الميل إلى تعزيز الانغرأس القومي لرأسمال والثاني هو الميل إلى عولمة رأس المال. وأوضح كالينيكوس في كتابه المذكور أعلاه، أننا نعيش منذ الستينات في مرحلة يهيمن فيها الميل إلى العولمة. لكن عولمة رأس المال منذ السبعينات تأخذ شكلين ثانويين الأول هو تعدد الجنسيات لرأس المال، و الثانية هي التوجه إلى تعزيز تجلياته الاقليمية، و أوربا هي أفضل مثال على ذلك و إن لم تكن المثال الوحيد، حيث هنالك توجه اقليمي في امريكا اللاتينية و جنوب شرق اسيا، و أيضا بدايات لها في منطقة الشرق الاوسط (انظر إلى مجلس التعاون الخليجي أو التعاون الاقليمي المهم جدا بين سوريا و تركيا و ايران…) .
ومع أن ظاهرة “التجمعات الإقليمية”، التي أشار إليها دافيد هارفي في كتابه (الامبريالية الجديدة)، لم تلغ –بعد- الدول القائمة، لكن القبول بفكرة أن الأشكال الدولاتية تنشأ حول التمركز المكاني لرأس المال، يعني الإقرار بميل عميق للدول الراهنة نحو التجمع أو التعاون الاقليمي.
تكمن أهمية أطروحات كالينيكوس في حقيقة أنه تجنب منزلق الاختزالية الاقتصادية، و قدم عرضاً لعلاقة جدلية بين الاقتصاد و الجيو-سياسي (أي بين رأس المال والدولة) و تجنب تناول ظواهر عابرة غير أساسية و غير مكونة للإمبريالية (بخلاف ما فعله لينين) ، مع تأكيده على أن العلاقات بين الدول في ظل الرأسمالية هي ،بالتعريف، علاقات تناحرية لأنها شكل من أشكال العلاقة التنافسية في الرأسمالية وهي المكون الأساسي لنمط الإنتاج الرأسمالي. و هو بذلك يلغي ترسيمة المراحل التي طرحها لينين، فان ما كان مؤسسا للإمبريالية ليس بروز رأس المال المالي ، بل التفاعل بين المنافسة الاقتصادية والمنافسة الجيو-سياسية، و بذلك لا تكون الامبريالية “مرحلة عليا” للرأسمالية.
الامبريالية : بين الماضي والحاضر
يقدم كالينيكوس في كتابه عرضاً لثلاثة أطوار للإمبريالية :
الحقبة الأولى تبدأ في عام 1870 و هي مرحلة نشوء اقتصاد رأسمالي عالمي يرتهن فيه التنافس الجيو-سياسي بين الدول الأوربية بدينامية النظام الرأسمالي نفسه القائم على المنافسة، و تمتد هذه الحقبة لغاية 1945 و نهاية الحرب العالمية الثانية، وتميزت هذه الحقبة بالتعددية (القطبية) الاقتصادية و العسكرية والسياسية مع نمو واضح للنزعة العسكرية, كما تميزت هذه الحقبة بالتدخل المباشر للدولة في الاقتصاد .
الحقبة الثانية هي مرحلة ما عرف بالحرب الباردة، و تميزت بثنائية قطبية عسكرية-سياسية (كتلة غربية في مواجهة كتلة ستالينية)، مع تواجد تعددية قطبية اقتصادية و هو ما أدى إلى نوع من التفارق النسبي بين المنافسة الاقتصادية و بين المنافسة الجيو-سياسية، واهتمام متناقص تدريجياً من القوى الامبريالية بالعالم الثالث، و ما رافقه من سياسة نزع الاستعمار و التركيز المتزايد و الهائل لتدفق رؤوس الاموال في المراكز الامبريالية الثلاثة و هي امريكا الشمالية و أوربا و شرق اسيا ، و قد ساهم هذا الوضع بنشوء قوى امبريالية ادنى عبرت عنها قوى اقليمية مصنعة صغرى.
الحقبة الثالثة تبدأ مع انهيار الاتحاد السوفياتي و الدول الستالينية الاخرى و تتميز بانتهاء الثنائية القطبية السياسية مع استمرار التناحرات الجيو سياسية ، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن تأخذ هذه التناحرات طابع حرب مكشوفة.
لقد أدى زوال الاتحاد السوفياتي ، و معه التوازن النسبي المفروض على العالم المستقطب حول القوتين الأعظم، إلى تنافس أكبر بين الدول . ودفع سيادة النظام الرأسمالي عالمياً إلى ضخ مئات الملايين من الناس إلى سوق العمل والاستغلال الرأسمالي، و مما ساهم في زيادة الاستغلال الرأسمالي عدد من العوامل الجديدة مثل إزالة الحواجز الجمركية و ادخال تقنيات جديدة للإنتاج و الاتصالات بمقدورها أن تؤثر مادياً على التكوين العضوي لرأس المال نفسه. ودخل إلى سوق العمل المأجور ملايين البشر و لأول مرة في تاريخ البشرية ، مما يضخم ويؤثر على تكوين الطبقة العاملة في كل مكان في العالم و بشكل مباشر.
و كما قال غرينسبان رئيس صندوق الاحتياط الفدرالي الامريكي (جريدة وول ستريت 4 نوفمبر/ت2 2005) ” إن ضخ أكثر من 100 مليون عامل مدرب من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، و غالبية ال 750 مليون عامل التي تشكلها قوة العمل في الصين والعمال في الهند. سوف تضاعف تقريباً قوة العمل .. على صعيد العالم”.
لكن روسيا ماتزال قوة كبرى في العالم، و تبرز أوربا والصين كمنافسين للقوة الامريكية. واذا كانت ثروة الاتحاد السوفياتي ، خلال الحرب الباردة، تعادل نصف ثروة الولايات المتحدة، لكن الصين اليوم تملك الامكانية لتوفير ثروة وطنية تتجاوز مرتين ونصف ثروة الولايات المتحدة. فالصين تملك القدرة على التحول إلى بلد اقوى من الولايات المتحدة على المدى القصير.
و يحدد هارفي “أن رأسمالية الولايات المتحدة هي اليوم أضعف بكثير مما كانت عليه في الأربعينات. و عدم استقرار اقتصادها يكمن في التدهور السريع لميزان المدفوعات فيها”. وقد يكون أحد مظاهر هذا الضعف هو تخفيض قيمة الدولار، الذي يمكن أن يتعرض إلى تدهور منفلت. و يشير هارفي إلى “أن اي بلد آخر غير الولايات المتحدة يعاني من عجز مثل الذي تعانيه الولايات المتحدة ، لكان تعرض لنظام تقشف قاسي و إعادة هيكلة لاقتصاده من قبل صندوق النقد الدولي, لكن صندوق النقد الدولي هو تابع للولايات المتحدة”.
من الواضح أن الطبقة الحاكمة للولايات المتحدة واعية تماماً بضعفها الاقتصادي على المدى البعيد، لكنها تستند و بكل غطرسة على قوتها العسكرية لضرب أي بلد يجرأ على اعتراض سياساتها. و يؤكد أغلب المفكرين الماركسيين أن العنف المنظم من الدولة ما يزال الصفة المركزية للرأسمالية.
و يستند هارفي على أعمال روزا لوكسمبورغ في شرح أن هنالك سياقان للتراكم الرأسمالي ” الأول يعمل من خلال الاستغلال الواقع على العمل و هو سياق اقتصادي و واضح. و السياق الآخر يسود في السياسة الكولونيالية، و يعتمد بشكل فاضح على القوة العارية”، و يؤكد هارفي أن مفهوم لوكسمبورغ حول “المرحلة الأصلية الأولى لرأس المال” المرافق لمرحلة الاستعمار أو مفهوم ماركس حول حول “التراكم البدائي لرأس المال” ليسا شيئين من الماضي فقط. بل أن صفات العنف الشرس و الضاري المرافق للتراكم الرأسمالي مع ميلاد الرأسمالية ماتزال ماثلة أمامنا اليوم. ويطلق هارفي على هذه الدينامية مصطلح “التراكم من خلال نزع الملكية” ، وهي سمات كان قد حددها ماركس باعتبارها جوهرية في التراكم البدائي لرأس المال مثل تهجير الفلاحين وبلترة الآخرين (تحولهم لبروليتاريا) وابتلاع صغار رجال الأعمال من قبل الأكبر ، و النقل الاكراهي للبضائع داخل منطقة السوق ، وهي سمات ما تزال سارية في رأسمالية اليوم. مما يعني أن سياسة النهب التي جعلت من التراكم الرأسمالي الأولي ممكنا ما تزال في قلب السياسات الامبريالية المعاصرة.
لكن نتائج أطروحات هارفي تأتي مناقضة إلى حد ما لمقدماتها ، اذ يرى هارفي أن القوى الأساسية في مقاومة النظام الرأسمالي العالمي ليست الطبقة العاملة، وأن أشكال التنظيم للطبقة العاملة أصبحت اليوم عتيقة، و هو يدعو إلى الالتفات و الاهتمام بالنضالات ضد تدمير السكن و تخريب البيئة أو طرد السكان من اراضيهم، باعتبارها نضالات مركزية ضمن المجتمع المدني.
بالرغم من أهمية النضالات المذكورة، لا يقيم هارفي الدليل على أن أطروحته بأن المضاربة المالية و الخصخصة, -أي ما يسميه التراكم من خلال نزع الملكية- هي أكثر مركزية وأهمية للرأسمالية من استغلال قوة العمل في المصانع والورشات، فالرأسمالية ما تزال أساساً تعتمد على الإنتاج وتداول السلع ،وفي حين تساهم العديد من النضالات المذكورة في مواجهة الرأسمالية ، لكن الطبقة العاملة المتزايدة قوتها عالمياً هي التي تحتل الموقع الرئيسي في تحدي النظام الرأسمالي في مواقع الإنتاج التي تبقى القلب النابض للوحش الرأسمالي.
معاداة الامبريالية، معاداة الرأسمالية
تحتوي الماركسية على و جهتي نظر حول الامبريالية، الأولى واسعة الانتشار ترى أن الامبريالية تعني هيمنة الدول الأقوى على الدول الأضعف ، وهذا قد ينطبق على اليونان القديمة أو امريكا الحديثة بلا تمييز. و وجهة النظر الثانية- وهي التي نعتمدها- تقدم تعريفاً أضيق ، يضع الامبريالية في سياق التطور العام للنظام الرأسمالي، و بالتحديد مع بروز الرأسمالية الاحتكارية مع مطلع القرن العشرين، كما أنها لا تعرّف الامبريالية كسياسة لحكومة معينة بل باعتبارها مرحلة أو طوراً(ليست علياً) في تطور الرأسمالية نفسها. وهو تطور متفاوت ، نشأ فيه دول متطورة غنية و قوية وأخرى نامية(متخلفة) سجينة ( أو مدفوعة نحو) التخلف.
معاداة الامبريالية الجذرية تتطلب معاداة الرأسمالية ، فالسياسات الامبريالية ليست صفة لأفراد حاكمين دون غيرهم، كما حصل في بعض الكتابات التي وجدت في بوش و جماعته نزوعاً إمبريالياً لم يعد قائماً مع استلام أوباما لرئاسة الولايات المتحدة ، يشير في هذا الخصوص الكاتب جون بيلامي فوستر في أطروحته “عصر الامبريالية الجديد”(في الامبريالية الآن ، مانثلي ريفيو، اب/اغسطس 2003 ) :” من السهل جداً النظر إلى الامبريالية كمنتج طفيلي لمجموعات و أفراد ذات نفوذ خطفت السياسة الخارجية للبلد في خدمة مصالحها الخاصة الضيقة” لكن الامبريالية ليست سياسة” إنها واقع نظامي (هيكلي) يبرز حقيقة طبيعة التطور الرأسمالي، الامبريالية هي مركز الاحتكار في الرأسمالية”.
لا يعني هذا أنه يمكن اختزال أفعال الدول إلى دوافع اقتصادية فحسب، مثلما فعل الكاتب الأمريكي مايك ديفيس عندما اطلق على إدارة بوش لقب” اللجنة التنفيذية لمعهد النفط الامريكي” ، فالاستراتيجية الامريكية في الشرق الأوسط يمكن النظر إليها “كاستراتيجية شاملة لحيازة النفط” ولكن ليس ذلك فقط. فالولايات المتحدة لم تخض الحرب على افغانستان وتحتلها فقط لتأمين احتياطات النفط و الغاز في أسيا الوسطى، و لم تغزو العراق و تحتله فقط لوضع اليد على احتياطات النفط ، بل إنها بالأحرى شنت هذه الحروب لأسباب جيو سياسية لإعادة تأكيد هيمنتها العالمية عقب أحداث 11 سبتمبر.
لكن و مهما كانت عليه القوة الامبريالية الامريكية اليوم ، علينا أن لا ننسى ما كتبه اريك هوبسبون”الشئ الوحيد الذي نعلم أنه صحيح بالمطلق هو أنها(الإمبراطورية الأمريكية) ستكون ظاهرة عابرة تاريخياً كما كانت عليه كل الامبراطوريات قبلها”.
فالعصر الجديد للامبريالية هو أيضا عصر المقاومة والتمرد والانتفاض لجماهير المأجورين و الكادحين و المضطهدين و المهمشين.
حركة مناهضة العولمة في سوريا*: كانت من المجموعات التي نشطت في تلك الفترة وكان أفرادها من الجذور الأساسية – مع الرفاق من المجموعات الأخرى- , التي شكلت النوى الأولية لتيار اليسار الثوري في سوريا والذي أعلن عن تأسيسه في 15/10/2011
