
غياث نعيسة
10/12/2012
(الحوار المتمدن- العدد: 3938 – 2012 / 12 / 11)
عن الأسلحة الكيماوية والتدخل الامبريالي
أعلن الحلف الأطلسي يوم 4 ك 1/ديسمبر عن موافقته على طلب الحكومة التركية بنشر صواريخ باتريوت على الجانب التركي من الحدود التركية – السورية .
أعقب ذلك تصريح رسمي بتعهد الحكومة الهولندية إرسال بطاريتين من هذه الصواريخ، وتبعها في موقفها كلا من الحكومتين الألمانية والأمريكية ، ليكون مجموع البطاريات ستة، مهمتها تغطية حدود تتجاوز بطولها 800 كم وبعمق من الجهة التركية نحو 60 كم.
لكن تصريحات بعض الخبراء العسكريين تقدر بأن عدد البطاريات المطلوبة من صواريخ باتريوت لتغطية هذه المساحة هو 15 بطارية، لذلك يبدو هذا الاعلان بنشرها أقرب الى كونه إجراء ردعي واعلامي من كونه إجراء هجومي فعلاً.
وفي الوقت نفسه، نشرت وسائل الإعلام ،وخاصة الروسية منها ، أخباراً تؤكد استلام النظام السوري لصواريخ اسكندر الروسية وهي صواريخ شبيهة بالباتريوت الأمريكية وتتميز عنها بقدراتها الهجومية ، كما نشرت أنباءاً عن وصول ثلاثة بوارج روسية إلى ميناء طرطوس غداة إعلان الحلف الأطلسي عن موافقته على نشر صواريخ باتريوت في الجانب التركي من الحدود.
تربك هذه المناورات للقوى العظمى الامبريالية (الامريكية والروسية…) بسهولة غريبة قسم من اليسار، وحتى بعض اليسار الجذري، الذي ما يزال يعبر ، ومنذ نحو عامين من الثورة السورية، عن هاجس تخوفه من حصول تدخل امبريالي (غربي طبعا) في سوريا: مرة بحجة أن جزء من المعارضة السورية المستقرة في تركيا، والمعني هو المجلس الوطني السوري، كان يطالب بمنطقة حظر الطيران، ومن ثم طالب بمناطق أمنة، ومؤخراً بحجة تخوفه من “توسع عدد الجهاديين” ، والآن يجد هذا اليسار حجته في نشر صواريخ باتريوت وتحذيرات الإدارة الأمريكية للنظام من استخدام الأسلحة الكيماوية ضد السكان، التي جاءت في تصريحات هيلاري كلينتون في 5 ك1/ديسمبر وتصريح أوباما في نفس الخصوص بعدها بيومين.
لا يصغي هذا اليسار المرتبك، ومنذ قرابة عامين من عمر الثورة السورية، إلا إلى وقع صدى خطى زحف الجيوش الامبريالية الغربية.
والحال، فإن النظام الدموي الحاكم في دمشق هو من أوائل من تحدث عن الأسلحة الكيماوية لديه ، في تصريح للناطق باسم الخارجية السورية بتاريخ 24 تموز/يوليو 2012 الذي هدد باستخدام النظام لها في مواجهة أي ” تدخل عسكري أجنبي”. في حين أنه لم تقدم هذه القوى الغربية أي دعم عسكري للمقاومة الشعبية المسلحة بالرغم من تصريحاتها القاسية تجاه نظام الاسد.
ولم يتوقف النظام الحاكم عن مجزرته بحق الشعب الثائر مستخدماً الأسلحة الروسية والإيرانية ( من براميل TNT والمدفعية الثقيلة والصواريخ والطيران الحربي بكل أنواعه والقنابل الفوسفورية والعنقودية والدبابات) ، مسبباً قتل أكثر من 50 ألف قتيلاً وعشرات آلاف من الجرحى وعدد هائل من الأحياء والبلدات والقرى قد تم تدميرها ومسحها تماماً، ونحو ثلاثة ملايين نازح ولاجئ. ولكن لم تنسى الحكومة السورية من التصريح بأنها تؤمن تماماً هذه الأسلحة “إن وجدت” برسالة مطمئنة موجهة الى كل من الولايات المتحدة واسرائيل.
لقد استوعب الشعب السوري ومنذ أشهر طويلة درساً أساسياً هو أنه لا يمكنه الاعتماد فعلا سوى على قواه الذاتية في كفاحه من أجل اسقاط النظام المتوحش، كما أن الوعي الشعبي هزأ بدوره من هذه التحذيرات الغربية للنظام بعدم استخدام الأسلحة الكيماوية ، وفسرها أنها تعني ” أن هذه القوى الغربية تسمح للأسد باستخدام كل أنواع الاسلحة ضد شعبه باستثناء السلاح الكيماوي” ، وحقيقة أنه لا توجد أية قوة كبرى أو قوة اقليمية (تركيا وإيران والسعودية وقطر) ترغب حقا بانتصار الثورة الشعبية. لأن هكذا انتصار سيكون له قوة المثال والقدوة لكل شعوب المنطقة، ولا سيما في الممالك النفطية.
بعيداً عن هذا الصخب الاعلامي، تتابع الولايات المتحدة وروسيا مفاوضاتهما منذ توقيعهما على تفاهم جنيف في 30 حزيران/يونيه من هذا العام يتضمن بنود خطة توفر “انتقال منظم ” في سوريا، مع محاولة كل طرف منهما توفير أفضل الشروط الملائمة لمصالحه الخاصة والعمل على تجنب اندلاع حريق يشمل المنطقة. في هذا السياق يمكن فهم إعلان الادارة الامريكية عن وضع “جبهة النصرة” ، وهي مجموعة صغيرة من الجهاديين، على قائمة المنظمات الارهابية .
من جهة، تقف روسيا مع طغمة آل الاسد وتعارض أي تدخل عسكري غربي أو تركي، وهنا نشير إلى اعتدال رد الفعل التركي- مقارنة بالتصريحات النارية لحكامها- على عمليات القصف المتفرقة التي تصيب أراضيها من الجهة السورية. ومن جهة اخرى، لا توجد قرائن على مصلحة للأمريكيين بالتدخل في الشروط الراهنة، فالكلفة والعواقب ستكون باهظة جداً لهم، ومضرة لمصالحهم، وخصوصاً أن النظام السوري يقوم بما هم يرغبون بالقيام به ، ما يعني تدمير البنى التحتية للبلاد وأضعاف طاقاتها العسكرية.
وكائناً ما كانت طبيعة النظام القادم بعد سقوط الأسد، فإن المهمة الملقاة على عاتقه ستكون هائلة، وهي إعادة تعمير بلاد دمرت بوحشية دون تدخل عسكري خارجي بل على أيدي دكتاتورية بربرية.
واستكمالاً لمفاوضات القوى الكبرى حول سوريا، التقى وزير الخارجية الروسي لافروف بنظيرته الأمريكية هيلاري كلينتون بمشاركة الأخضر الابراهيمي مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية لسوريا في دبلن في السادس من هذا الشهر من أجل البحث عن “مخرج سياسي” ل “الأزمة السورية” ، وتابعت هذه الأطراف مفاوضاتها في جنيف في التاسع من الشهر الحالي . ما رشح إعلاميا عن لقاءاتها يشير إلى اقترابها من التوصل إلى تفاهم يستند على إعلان جنيف السابق الذكر.
الثورة في سوريا هي ثورة شعبية، فالقوى الاجتماعية المحركة لها هي شرائح العمال(خمسة مليون) والمأجورين والمستغلين وفقراء الفلاحين. وهذا الأمر يتضح من رصد المناطق الثورية ، فهي الأحياء والمدن العمالية والشعبية التي ثارت أولاً وتابعت ثورتها حتى اليوم. وهي نفس المناطق التي تعرضت إلى أقسى أنواع الدمار والهمجية من قبل جيش النظام الدكتاتوري وقواته الأمنية وميليشياته.
وتتميز الثورة الشعبية السورية عن شقيقاتها من الثورات العربية الأخرى بميزتين أساسيتين، هما : أن الطبقات المستغلة والثائرة السورية شكلت هيئات تنظيمها الذاتي المتمثل بالتنسيقيات، وشكلت أيضاً أنوية هيئات الإدارة الذاتية من خلال بناء المجالس المحلية من الأسفل.
لم تكن المقاومة الشعبية المسلحة سوى النتيجة الطبيعية للبشاعة المنقطعة النظير التي مارسها النظام ضد الجماهير التي تظاهرت سلمياً، وهي مقاومة شعبية لأنها تمثل قطاع من الجماهير الشعبية، بتفاوت وعيها السياسي، حملت السلاح. بينما تبقى المجموعات الجهادية هامشية (نحو ثلاث مجموعات تضم حوالي 4 الاف مقاتل) وتتلقى دعماً من السعودية وقطر. في حين تضم المقاومة الشعبية المسلحة (الجيش السوري الحر …) نحو 70 ألف مقاتل. ولم تقم هذه المقاومة المسلحة على حساب الحراك الشعبي السلمي، فما تزال تهدر في شوارع المدن السورية كل يوم وأيام الجمع مئات المظاهرات، وجرى اضراب عام للمرة الثالثة في اليومين الاولين من شهر ك 1/ديسمبر الجاري.
ما يجري في سوريا هو ثورة شعبية، ومخطئ تماماً من يتحدث عن “حرب أهلية” ، بالمعنى الذي يحيل إلى ما حصل في لبنان او العراق وأمثالهما، أو بلقنة للوضع فيها.
وعلى الرغم من استهداف مقصود من قوى الأمن الحكومية لمناضلي اليسار والمناضلين الديمقراطيين الثوريين عبر قتلهم او إلقائهم في السجون او إجبارهم على الرحيل إلى المنافي، لكن هذه القوى الديمقراطية واليسارية ما تزال حاضرة وناشطة في الثورة، والظهور الملحوظ للإسلاميين يبقى محدوداً رغم المبالغة الإعلامية له. فلا توجد قوة سياسية واحدة بإمكانها ادعاء قيادة الثورة ولا أي واحدة منها تملك دوراً مهيمناً فيها.
إن ما يقوم فيه بعض اليسار العربي والعالمي من العويل خوفاً من وهم مزري يعتقد بخرافة خطف للثورة الشعبية تم على أيدي أطراف الثورة المضادة ، أو الزعيق والتلويح يوشك حصول تدخل عسكري امبريالي، ما يزال افتراضياً، إنما هدفه أن يبرر بهما هذا اليسار التائه تقاعسه أو دعمه لدكتاتورية بورجوازية دموية ، وهو بفعله هذا إنما يضيف إلى عماه السياسي وضاعة اخلاقية .
من واجب اليسار الجذري العالمي، وإن تأخر نوعاً ما في ذلك، القيام بالدعم العملي لهذه السيرورة الثورية الشعبية الأصيلة.
