جريدة المناضل-ة تحاور الرفيق غياث نعيسة: الثورة السورية، وضعها الراهن وآفاقها
(أخذ عن موقع الحوار المتمدن- العدد: 3988 – 2013 / 1 / 30)
- تقترب الثورة السورية من إتمام عامها الثاني، ففي مارس القادم ستحل الذكرى الثانية لاندلاعها، وحصيلة حرب النظام الفاشي: مائة ألف شهيد ومئات الآلاف الجرحى، وأكثر من ثلث المساحة السورية أصبحت خرابا من بينها ثلاثة ملايين بيت سويت مع الأرض.
- وبوجه صرخات الشعب السوري، تعلو طلقات الرصاص وفوهات الدبابات وأزيز الطائرات الحربية. وبالرغم من كل مناورات النظام العسكرية والسياسية، لازال الشعب السوري مصرا على نيل حريته، فالمظاهرات مستمرة والمقاومة المسلحة صامدة.
- بهدف إطلاع قراء جريدة المناضل-ة وقارئاتها، حول الحالة الراهنة للثورة السورية، ومستقبلها، كان لنا حوار مع الرفيق غياث نعيسة، وهو طبيب ومناضل منفي، وأحد مؤسسي لجنة الدفاع عن الحريات الديمقراطية بسوريا (CDF)، التي أسست في كانون الأول/ديسمبر عام 1989، معظم أعضائها تم اعتقالهم أو أرغموا على اختيار المنفى. كما أن الرفيق مناضل في صفوف تيار اليسار الثوري في سوريا.
- المناضل-ة: طرح الديكتاتور بشار الأسد في خطابه 6 كانون الثاني 2013 في دمشق مبادرة تشكيل حكومة جديدة وعفو عام جديد، ودعا مرة أخرى إلى “تعبئة مجمل الأمة” لمواجهة الثوار الذين وصفهم بـ “إرهابيي القاعدة”، كما دعا إلى مؤتمر للمصالحة الوطنية، ما دلالات المبادرة سياسياً، وما أوجه تأثيرها في مجرى الثورة؟
- غياث نعيسة: لقد جاء خطاب الطاغية بشار الأسد المذكور بعد شهور من الصمت المطبق، وفي أسبوع شهد عدد من المبادرات والمناورات الدبلوماسية للدول الكبرى بخصوص الملف السوري، وخاصة الاعلان عن لقاء في 11 من كانون الاول/ديسمبر 2012 في جنيف ضم ممثلي الحكومتين الأمريكية والروسية مع المبعوث الدولي لسوريا الأخضر الابراهيمي.
كان أحد أهداف الطاغية من خطابه، أن يستبق لقاء جنيف المذكور ليوضح السقف الأعلى لما يمكن أن يقبل به في أي مبادرة أو مفاوضات محتملة. وكان واضحاً في خطابه أن مسألة تنحيه عن السلطة هو أمر غير مقبول له أبداً. وركز خطابه على اجترار ادعاءات نظامه بأن ما يواجهه في سوريا انما هو “اعتداء خارجي” وأن ما يجري في بلادنا “ليس ثورة” بل مجرد عصابات ” من القتلة والمجرمين” وانه يواجه ارهاب القاعدة.
في الواقع، كان خطابه إعلان صريح على اصراره في متابعة حربه ضد الشعب الذي خرج يطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ومن الاهداف الاخرى لخطاب الدكتاتور، محاولته رفع معنويات وطمأنة أتباعه ومواليه بأنه ما يزال قويا وصامدا.
- أما فيما يخص ما ورد في خطابه عن فهمه للحل “السياسي” الذي يطرحه النظام الدكتاتوري، فهو لا شيء أخر سوى تكرار لما سبق أن وعد به ولم ينفذه أبداً. وهو حل لا يستجيب للحد الأدنى من مطالب الشعب الثائر، وهو بالتالي بلا قيمة. فقد رفضته أغلب أطراف المعارضة السياسية ورفضه كل مكونات الحراك الشعبي، الذي أدرك بعفويته أن هذا النظام البرجوازي الدكتاتوري الدموي عصي على أي اصلاح، والحل الوحيد هو اسقاطه.
- المناضل-ة: سعت القوى الامبريالية لفرض تسوية على الطريقة اليمنية، بالتضحية برأس النظام والحفاظ على هياكل نظامه سالمة، فلا مصلحة لها في انهيار مجمل نظام حافظ على هدوء تام مع الحدود الإسرائيلية منذ 1973، هل لازال هذا الرهان قائما؟
- غياث نعيسة: لقد وقفنا مبدأياً، نحن في تيار اليسار الثوري، ومنذ بداية الثورة ضد أي تدخل عسكري خارجي ، ولكننا كنا نرى في نفس الوقت أن ترويج بعض أطراف المعارضة المحافظة والليبرالية له ، و لا سيما المجلس الوطني السوري، أو تخويف بعضها الآخر منه، مثل هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي أو بعض بقايا الاحزاب الشيوعية الموالية للنظام، إنما هو ترويج أو تخويف لوهم لا توجد في الوقائع الفعلية ما يدفع له، فالتدخل العسكري الفعلي هو ما تقوم به روسيا وايران لصالح النظام، في حين أن قطر والسعودية قدمت قليل من الدعم العسكري لبعض المجموعات القريبة منها سياسيا.
- ولكن موقف القوى الامبريالية الكبرى وعلى رأسها الولايات، التي تتوافق بموقفها مع القوة الامبريالية الأخرى وهي روسيا، كان ومنذ البداية الدعوة للقيام بما أسموه “انتقال منظم” في سوريا بمعنى الدعوة إلى تغييرات جزئية وفوقية في هيكلية النظام فحسب. وليس حتى بالضرورة على شاكلة السيناريو اليمني. بل وتكرر هذه القوى الامبريالية منذ عامين، لأسباب جيو استراتيجية منها حماية الكيان الصهيوني ومنع انتصار الثورة الذي يعني انتشارها الى كل المشرق العربي بما فيها الملكيات النفطية الرجعية، على أن الحل في سوريا سيكون سياسيا وليس عسكرياً. لكن هذا لا يعني أن بعض الدول الاقليمية الحليفة للإمبريالية مثل قطر والسعودية وتركيا دفعت، وما تزال، باتجاه إسقاط النظام من خلال دعمها الحصري للقوى الاسلامية والسلفية السورية. لكننا بدأنا نلاحظ تراجع في الموقف السعودي برز من خلال تصريح وزير الخارجية السعودي الأخير خلال زيارته لمصر، ودعا خلاله الى أن الحل في سوريا هو “حل سياسي” بخلاف الموقف القطري والتركي المراهن حتى الأن على دعم القوى الاسلامية والسلفية عسكرياً ومالياً.
- أما الموقف الإسرائيلي فقد عبر عنه بوضوح وزير دفاعها السابق ايهود باراك، الذي أعلن مبكراً في العام الماضي أن الحل في سوريا يجب ان يستند على القواعد التالية:” تحقيق مخرج أمن ومشرف لبشار الاسد والحلقة القريبة منه، الحفاظ على الجيش وتماسك المؤسسة العسكرية، والحفاظ على أجهزة الأمن وعلى حزب البعث”.
- والحال، فان الدول الامبريالية والكيان الصهيوني، ترى ان الدمار الذي يجرى في البنية التحتية لسوريا والدمار الذي يصيب قدراتها العسكرية إنما يتناسب مع مصالحها على المدى البعيد، وهو إنما يضعف قدرات هذا البلد على كل الصعد وكائناً ما كانت طبيعة نظام الحكم القادم.
- المناضل-ة: في ظل الاستنزاف الاقتصادي بفرض العقوبات الدولية وتهريب البرجوازية السورية لأموالها للخارج وبالخصوص إلى مصر، ودخول مناطق من العاصمة الصناعية حلب لبؤر التظاهرات، وأيضاً في ظل الاستنزاف السياسي بقطع العلاقات وسحب السفراء واستمرار الانشقاقات عن السلطة، وكذلك انشقاقات العسكريين عن الجيش، إلى أي حد تتوقع صمود النظام بعد عامين من الاحتجاجات الشعبية؟ وعلى ماذا يراهن بالضبط؟
- غياث نعيسة: صحيح أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في حالة تدهور مريع، وأن هنالك انشقاقات متواصلة في صفوف قوات النظام ويتعرض الى خسارة العديد من المواقع العسكرية، إضافة الى العقوبات والحصار الذي يتعرض له.
- لكن النظام الدكتاتوري ما يزال يمتلك قدرات عسكرية مدمرة وهائلة، وما تزال مؤسساته العسكرية والأمنية الاساسية متماسكة- وهي التي تشكل جوهر السلطة الحقيقي- وفاعلة، وبالرغم من الانشقاقات التي حصلت فيها خلال العامين الماضيين لكنها لم تصل الى حد يؤدي الى انهيارها. ويوفر حلفاء النظام- نقصد روسيا وإيران والحكومة العراقية وحزب الله- له كل وسائل الدعم اقتصاديا وعسكريا وامنيا ولوجستيا ودبلوماسيا.
- بخلاف أنظمة الحكم التي سقطت بفضل الثورات في كل من تونس ومصر التي تخلى حلفائها عنها، فإن النظام السوري يحظى بدعم صريح من حلفائه الذين لم يتخلوا عنه. وفي الأسبوع الأول من العام الحالي قدمت إيران للنظام السوري قرضاً بقيمة مليون دولار وكانت قد قدمت له خمسة مليارات دولار العام الماضي. هذا على سبيل المثال. هذا الدعم من حلفاء النظام، إضافة الى تماسك قواه العسكرية- الأمنية تعطيه القدرة على الاستمرار طويلا في حربه الوحشية ضد الشعب.
- وتراهن الدكتاتورية السورية الحاكمة على قناعة لديها بقدرتها على إنهاك ملايين المواطنين في المناطق الثائرة، من خلال تدمير مقومات الحياة فيها وسحق العلاقات الاجتماعية الأساسية. وإيلام الجماهير الثائرة الى حد يدفعها الى اليأس والقنوط والاستسلام والتخلي عن استمرارها في الاحتجاج والثورة.
- فقد أدت وحشية النظام الى تهجير نحو 4 ملايين مواطن يعيشون في ظروف غير انسانية، ودمر تماماً نحو مليون منزل، وتجاوز عدد الشهداء الستين الفاً ويقترب عدد اللاجئين في الدول المجاورة نحو مليون مهاجر.
- إنها سياسة الدمار الكامل للمناطق الثائرة وحصارها المحكم ومنع وسائل الحياة عنها.
- لكن عزيمة الجماهير الشعبية واصرارها على الخلاص من الدكتاتورية ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لم تفل فالشعب يريد أكثر من ذي قبل إسقاط هذا النظام المجرم وهو يحقق خطوات كبيرة الى الأمام على هذا الطريق رغم هول الآلام والتضحيات.
- المناضل-ة: المقاومة المسلحة عبارة عن مجموعات “إسلاموية مسلحة”، إلى أي مدى تصح هذه الصورة التي تقدمها وسائل الإعلام؟
- غياث نعيسة: القول بأن المقاومة الشعبية المسلحة هي مجرد مجموعات “إسلاموية” هو إدعاء مغالى يفتري على الثورة السورية وصورة كاذبة عنها، ساهم في ترويجها، لأسباب في نفس يعقوب، وسائل اعلام وفضائيات الملكيات النفطية الرجعية- التي تخشى انتصار الثورة الشعبية السورية لما سيكون لها من تأثير ثوري على شعوبها- وخاصة الجهاز الإيديولوجي لمشيخة قطر واقصد قناة الجزيرة.
- هذا لا ينفي حقيقة تزايد المجموعات الجهادية السورية وغير السورية وخاصة منذ بداية العام الماضي، والتي حازت وتحوز، كما سبق أن ذكرت، على دعم عسكري ومالي لها من قطر والسعودية.
- لكن علينا أن نعود إلى حقائق الواقع، فالمقاومة المسلحة هي مقاومة شعبية أولاً وأخيراً. فقد حمل جزء من الجماهير الشعبية، والتي كانت تتظاهر، السلاح كرد فعل على وحشية النظام المريعة في قتله الواسع للمتظاهرين والتنكيل بهم وإهاناته للسكان المدنيين. اذن، المقاومة المسلحة هي ذلك الجزء من الشعب الثائر الذي قرر حمل السلاح لمواجهة الدكتاتورية وللدفاع عن نفسه.
- ويقدر عدد مقاتلي المقاومة الشعبية المسلحة إلى أكثر من مائة ألف مقاتل، في حين أن أغلب التقارير تشير إلى أن عدد مقاتلي المجموعات الجهادية هو نحو خمسة آلاف مقاتل، فلنقل فرضاً أنهم ضعف هذا العدد، إذن بخلاف الادعاء المذكور فانهم لا يشكلون سوى حالة هامشية ومحدودة مقارنة بحجم المقاومة الشعبية المسلحة، وليس لها تواجد أو نفوذ جماهيري ملموس. لذلك علينا ألا نبالغ بدورها وحجمها ونفوذها، مثلما أن علينا ألا نتجاهل ضررها على مسار الثورة، وضرورة فضح ممارساتها السيئة وأطروحاتها السياسية والاجتماعية المغرقة في الرجعية.
- وهذا ما يقوم به الحراك الشعبي، عبر المظاهرات المستمرة التي لم تتوقف، والتي انتقدت مراراً هذه المجموعات الجهادية وأهدافها الرجعية.
- للثورة الشعبية السورية اليوم سياقين الأول سلمي والثاني مسلح، نحن نراهن على نهوض أقوى للحراك الشعبي – الذي لم يعد، ومنذ نحو عام يخرج من الجوامع، وهذه كانت حجة بائسة لبعض اليسار الانتهازي لتبرير تحالفه مع الدكتاتورية – وإعادة هيكلة العمل المسلح بربطه بالحراك الشعبي وببرنامج الثورة الشعبية، وبناء قيادة ثورية جماهيرية بديلة –عن المجلس أو الائتلاف الوطني اللذين يعبران عن معارضة محافظة وليبرالية- لأن ذلك شرط لأفاق تقدمية لانتصار الثورة.
المناضل-ة: بالرغم من فزاعة المساعدات والدعم الضخم الزائف للإمبريالية الأمريكية وقطر والسعودية ولكن الرفض الفعلي تقديم أية مساعدات عسكرية، كيف ترى قدرة هذه المقاومة المسلحة في ظل تواضع إمكاناتها، على الاستمرار في معركتها وتأثيرها في مسار الثورة؟
- غياث نعيسة: سبق أن قلت إن قطر خصوصاً والسعودية قدمتا تسليحاً وتمويلاً لمجموعات جهادية فحسب، لكن ما تقولونه صحيح تماماً، فالمقاومة الشعبية المسلحة لا تتلقى إلا القليل جداً من الدعم بالسلاح والذخائر، وهذا الأمر أصبح مصدر إدانة وفضح من مكونات العمل المسلح كالجيش السوري الحر، حتى الدعم المالي لم يكن بمستوى وعود الدول التي تدعي انها من “أصدقاء الشعب السوري” فأطراف المعارضة الليبرالية المذكورة أعلاه أصبحت تصدر البيانات تلو البيانات لفضح أن وعود هذه الدول لم تحترم وأن دعمها المالي شح وضعيف.
- وحقيقة الأمر، أن المجلس الوطني السوري الذي يهيمن عليه الإخوان المسلمين قد جير الكتلة الأساسية من تمويل المجلس لصالحهم كتنظيم للإخوان عبر محاولاتهم شراء الولاء لهم عبر عمليات الإغاثة أو المساعدة، وهذا ما ادانته عشرات المظاهرات واللافتات الجماهيرية، وفشل الإخوان المسلمين في تحقيق هدفهم الى حد كبير.
- ولم تعد للمقاومة الشعبية المسلحة ثقة تذكر بهذه الدول التي تدعي صداقتها للشعب السوري، ولا بأي هيئات المعارضة المذكورة أو الوسطية كهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي. فالمقاومة الشعبية المسلحة تعتمد بشكل اساسي في تسليحها على غنائمها من مخازن اسلحة قوات النظام التي تستولي عليها، وهذا هو مصدر تسليحها الرئيسي، اضافة الى تصنيعها المحلي والحرفي لبعض انواع الاسلحة وخاصة راجمات صواريخ صغيرة.
- من المؤكد أن المقاومة الشعبية المسلحة تلعب دوراً هاماً في معركة الشعب السوري للتحرر من نير الطغمة الدكتاتورية الحاكمة، ولكنها تحتاج إلى توحيد كتائبها فعلاً تحت برنامج الثورة الشعبية السورية وليس تحت أي برنامج أخر. وفي الوقت نفسه، أصبح ملحاً رفع وتيرة وتوسيع الحراك الشعبي لأنه الحامل الأساس للبرنامج الشعبي والثوري، مع تشكيل قيادة سياسية جماهيرية للثورة تندرج المقاومة الشعبية المسلحة الموحدة تحت رايتها.
- بالرغم من كل الصعوبات والتحديات، وكما حصل في كل الثورات الشعبية، تتعلم الجماهير كل يوم من تجاربها واخفاقاتها وآلامها، وتلتمس بنفسها طريق الانتصار، ومهمة اليسار الثوري ان يندرج في كفاحها ويطرح برنامجها الثوري.
- المناضل-ة: دك النظام كل المعالم المدنية في سوريا في أكثر من ثلث المساحة السورية، ويتجاوز عدد اللاجئين أربع مليون سوري، ويفتقر السكان بشكل مريع للمواد المعيشية الحيوية، وتعطل الاقتصاد بشكل شبه كلي، … كيف يسير السكان شؤونهم مع غياب الدولة؟ هل من أشكال التسيير الذاتي؟
- غياث نعيسة: من المفيد أولاً الإشارة إلى أن الدوافع الأساسية للسيرورات الثورية في بلداننا هي الديناميات الاقتصادية- الاجتماعية. بمعنى آخر، إن القوى الاجتماعية الاساسية المحركة للثورة الشعبية السورية هي الطبقات الشعبية من العمال والكادحين والعاطلين والمهمشين إضافة إلى الطلبة، وإن هذه الثورة تفجرت بغياب قيادة سياسية ثورية جماهيرية لها.
- ومع ذلك، فان الجماهير الشعبية الثائرة أقامت ومن الأسفل أدوات تنظيم كفاحها الذاتي التي اشتهر اسمها في كل مكان وهي “التنسيقيات” الثورية. ولم تكتف بذلك فحسب، بل إننا نشهد توسع هام لإقامة “هيئات إدارة ذاتية” شعبية ومن الأسفل هي المجالس المحلية والمدنية، وإن كانت ما تزال في طور أولي ولم تنتشر بعد على الصعيد الوطني، نتيجة القصف والدمار الذي يطال المناطق الثائرة و “المحررة”.
- تقوم هذه المجالس، وفي اغلب الحالات، على انتخاب أعضائها وتهتم بمهام إدارة الحياة اليومية للسكان، كتنظيم القطاع الصحي والإعاشة والإسكان والمواد المعيشية كالخبز وغير ذلك من احتياجات السكان.
- لقد كنا نطرح نحن الماركسيون الثوريون، ومنذ عقود، بديل اشتراكي، على خلاف التجربة الستالينية القميئة، يقوم على سلطة العمال والكادحين ويستند على مجالسها المنتخبة ديمقراطياً. ولكن خبرة جماهير شعبنا وذاكرتها لم تكن تحتوي على هكذا خبرات، بل كنا نستند على خبرات الشعوب والثورات التي شهدها العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا سيما كومونة باريس عام 1871 والثورة الروسية 1917، لكننا اليوم في سوريا، وبالتالي في عموم المنطقة، أصبحنا، بفضل الثورات الجارية في بلادنا، نمتلك هذه التجربة والخبرات التي اصبحت جزءا من تجربتنا المعاشة واليومية، لتصبح بذلك جزءا من تراثنا الثوري الراهن والقادم.
- ويذكرني هذا بمقولة لهيغل: ” إن بومة منيرفا لا تبدأ في الطيران إلا بعد أن يدلي الليل سدوله”.
- المناضل-ة: يمثل الطلاب السوريون ربع شهداء الثورة، ونسمع صدى الشبيبة الطلابية في جامعة حلب وحمص ودمشق في تنظيم الكفاح، ما حجم المشاركة الطلابية في الثورة؟ وماهي الفئات ذات الدور البارز فيما يجري على الأرض من تظاهرات وأشكال كفاح؟
- غياث نعيسة: نعم، لقد لعب الطلاب دوراً ناشطاً وبارزاً في الحراك الشعبي ومنذ بداية الثورة وحتى الأن، وخاصة جامعة حلب التي أصبحت تسمى جامعة الثورة، وهي الجامعة التي تعرض طلابها إلى مجزرة بشعة يوم 15 كانون الثاني/يناير 2013 حيث تعرضت أبنيتها الى قصف بالطيران راح ضحيته أكثر من 82 طالبا شهيداً ونحو مئتين من الجرحى، وهي الجامعة نفسها التي شهدت مظاهرات احتجاجية على هذه المذبحة يوم 18 كانون الثاني /يناير من نفس العام.
- ولكن الحركة الطلابية لم تقتصر على جامعة حلب وحدها، بل شملت أغلب الجامعات السورية وخاصة جامعتي دمشق وحمص. فالشباب والطلاب ناشطون جداً في تنظيم المظاهرات وفي العمل الإعلامي وفي داخل التنسيقيات، ولم يتوقف نشاطهم لحظة واحدة رغم كل ما تعرضوا له من أقسى عمليات القتل والاعتقالات، كما شارك الطلاب بنشاط في المظاهرات الشعبية وليس الطلابية فحسب، وقدموا نسبة عالية من الشهداء. والحركة الطلابية هي أكثر الشرائح الاجتماعية التي شاركت في الثورة بصفتها كذلك.
- في حين أنه، ورغم أن الطبقات الشعبية هي القوى الاجتماعية المحركة للثورة وفي مقدمتها العمال، إلا ان العمال لم يشاركوا بصفتهم كطبقة مثلا، بل بشكل فردي عموماً، نتيجة للقمع الشديد الذي تعرضت له الحركة العمالية على مدى عقود ولسيطرة السلطة على الاتحاد العام لنقابات العمال، إضافة إلى توقف أكثر من 3000 مصنع عن العمل نتيجة الدمار الذي سببه وحشية النظام الدكتاتوري.
- كما يشارك في الثورة بشكل أساسي فقراء المدن والفلاحين والعاطلين عن العمل، وتلعب المرأة السورية دور هام وبارز على كل الصعد، وأصبح معروفا أسماء العشرات من المناضلات لدورهن الهام في المظاهرات والتنسيقيات، كما أنهن دفعن ثمناً عالياً من التضحيات كضحايا للقتل والاعتقال.
- لقد استطاعت الجماهير الشعبية أن تبتدع أشكال عديدة للنضال، من بينها المظاهرات الجماهيرية الحاشدة، التي شهدتها، مثلاً، في تموز العام الماضي مدينتي حماة ودير الزور، والمظاهرات السريعة (الطيارة) التي تدوم دقائق أو أقل من ساعة، والمظاهرات في الأحياء الضيقة ، التي يصعب على الأمن اكتشافها سريعاً وتطويقها وتسمح بتشتت الثوار في الازقة الضيقة المتعددة في حال تعرضها للقمع، والمظاهرات الليلية، وإطلاق البالونات التي تحمل شعارات الثورة، و إغراق البحيرات في الميادين الرئيسية للمدن الكبرى باللون الاحمر، ورفع أعلام الثورة في الشوارع والشرفات، وإعادة تسمية الشوارع بأسماء شهداء الثورة، وأيضا سلسلة من الاضرابات العامة التي كان أخرها في منتصف شهر كانون الاول من عام 2012 ودام لمدة يومين باسم اضراب العزة، وترفع الجماهير كل أيام الجمعة شعارات أكثرها موحدة تعمل من خلالها على الرد على وضع محدد أو التعبير عن موقفها من قضية ما تعني مسار الثورة، وهي أيضا وسيلة لتشكيل وعي جماعي ومشترك ووسيلة لتعميم الخبرات والتجارب، وغير ذلك الكثير من أشكال الكفاح الجماهيري.
- المناضل-ة: يعادي قسم من اليسار التقليدي الثورة السورية، ويقدم الجماهير الثائرة كألعوبة بيد الامبريالية، غير واعية بأهدافها، كيف يتدخل اليسار الثوري فيما نشهده من مقاومة سلمية ومسلحة؟ وما الأدوار المفترض أن يضطلع بها؟
- غياث نعيسة: لقد انفضح، وبشكل فاقع ونهائي، الموقف الانتهازي والبائس من الثورات ولا سيما الموقف من الثورة السورية لليسار التقليدي في سوريا وفي منطقتنا وعلى الصعيد العالمي، فقد جرت خلال ثلاثة أعوام من الثورات في منطقتنا إعادة اصطفاف جديدة على صعيد اليسار تقوم حول موقفه من الثورات الشعبية الجارية، وذلك يشبه الى حد ما، دون أن نبالغ، ما جرى من اصطفاف في اليسار العالمي عقب الحرب العالمية الاولى.
- هنالك اليوم يسار ثوري يقف مع ثورات الجماهير الكادحة وهنالك في الصف المقابل يسار انتهازي وخائن يتخذ بعضه موقفا وسطياً بين الدكتاتوريات والجماهير الثائرة وبعضه الآخر يقف بكل صفاقة مع الأنظمة الدكتاتورية ضد الثورات الجماهيرية. والحجج كثيرة وتافهة لتبرير خيانته لقضية الثورة الشعبية، بعضها بحجة أصبحت باهتة هي معاداة الإمبريالية (وكأن روسيا وامريكا ليستا كلتاهما امبرياليتين) أو بحجة الخطر الإسلاموي، وكأن السيرورات الثورية مجرد ثمار يجب أن تنضج وفق مزاجنا وأن تسقط ميكانيكيا بين أيدي اليسار، وإلا فإنها ليست ثورات؟
- قام اليسار الثوري في سوريا، بمكوناته وأفراده، بالانخراط الفعلي في الثورة الشعبية منذ انطلاقها، وقمنا نحن في تيار اليسار الثوري بطرح برنامجا واستراتيجية ثوريين واضحين منذ منتصف تشرين اول عام 2011 باسم “البرنامج الانتقالي لليسار الثوري في سوريا”، لكننا عملياً لا نستطيع أن نتدخل، رغم حماس رفاقنا الشديد، بشكل أوسع مما تسمح به طاقاتنا الذاتية التي ما تزال متواضعة مقابل ضخامة المهمات التي تطرحها الثورة السورية.
- فإننا نعمل على بناء وتعزيز الذات في معمعة العملية الثورية الجارية، في الوقت الذي ينخرط فيه مناضلو اليسار الثوري في كل أشكال النضال الجماهيري الممكنة ويرفعون راياتهم في كل ساحات النضال، ويكسبون الى صفوفهم بازدياد أفضل الناشطين والمناضلين الحراكيين، لكننا ما زلنا بعيدين عن لعب دور رئيسي وقيادي في الثورة، لان ذلك يتطلب بناء الحزب العمالي الثوري والجماهيري، وهو ما نعمل من أجله بكل صبر واصرار، ولكننا ما زلنا بعيدين عن تحقيقه في المدى المنظور.
- ولهذا، فإننا ندعو إلى ضرورة بناء جبهة متحدة لقوى اليسار السوري المندرجة في الثورة، لرفع قدرات اليسار السوري في العمل الثوري وبالتالي زيادة تأثيره ونفوذه عموماً. ونقوم بدعاية واسعة لتشجيع بناء المجالس المحلية الشعبية من الأسفل، وضرورة بناء قيادة ثورية بديلة تنبع من الحراك الثوري نفسه وتؤطر المقاومة الشعبية المسلحة. ونعمل على بناء شبكة تضامن أممية مع الثورة الشعبية السورية واليسار الثوري فيها.
- المناضل-ة: كيف ترى مستقبل الثورة السورية؟
- غياث نعيسة: أصبح واضحاً أن ما تشهده بلادنا، وما يجري في مصر وتونس دليل على ذلك، ليس ثورات سياسية محضة هدفها فقط تغيير فوقي في رأس النظام، أو ثورات على مراحل. ما نشهده هو سيرورات ثورية لن تتوقف عند تغييرات فوقية وجزئية في الأنظمة القائمة، ولا سيما أن الدوافع المحركة لها التي أشرنا اليها يتطلب تحقيقها ما هو أعمق من المطالب السياسية تحديدا بل تستدعي تغييرات اجتماعية واقتصادية جذرية، كما سبق ان ذكرته أعلاه.
- وإن هذه السيرورات الثورية قد تمتد سنوات وتتجاوز، وهي فعلاً كذلك، الحدود الجغرافية لمنطقتنا، إنها ثورات جماهيرية من الأسفل تدفع بلا أدنى ريب إلى أعمق التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، أي انها ثورات دائمة.
- ما يجب أن يعمل عليه اليسار الثوري هو الدفع بهذه السيرورات الثورية من خلال تعبئة الجماهير ورفع سوية وعيها الثوري إلى مداها الاقصى، أي نحو الثورات الاجتماعية: الاشتراكية.
- وككل السيرورات الثورية فان مألاتها غير محسومة سلفاً، إنها سيرورات مفتوحة على احتمالات عدة، مرهونة بموازين القوى السياسية والطبقية وبخيارات القوى الفاعلة فيها.
- ولكنها في الوقت عينه عملية تحرر عظيمة لكل المجتمع المعني، ومهما شهدت من منعطفات وتراجعات، فإن الجماهير الواسعة قد نزلت بعنف وتصدرت خشبة مسرح التاريخ في بلداننا ولا عودة عن ذلك.
- رغم الصعوبات والمعوقات والتحديات التي سبق لي ذكرها والتي تواجه الثورة الشعبية السورية، ومنها أن حكومات الدول الرجعية والامبريالية التي تدعي صداقتها للشعب السوري لا ترغب بانتصارها، لأن الثورة السورية هي الجدار الاخير الذي يعني انتصارها انتشار الثورات كاللهيب في مجمل دول الخليج والسعودية وما ورائهما، ونلمس مسبقا تأثيرها بالتهاب الحراك الثوري في السعودية والكويت والبحرين، بعد اليمن. وبغض النظر عما تتعرض له الثورة السورية من تقدم او تراجع او انعطاف او التفاف هنا او هناك، لكننا يغمرنا، كالملايين من جماهير شعبنا الثائر، قناعة راسخة بالانتصار على نظام الطغمة البرجوازية الدكتاتورية الحاكم.
