
لا يخفى على أحد الانقسام الطبقي الحاد بين الطبقات العاملة والشعبية والنظام الرأسمالي العالمي بطبقته البرجوازية وأدواتها المعروفة، مثل كيانات الدولة البرجوازية وسلطاتها ومؤسساتها وأحزابها السياسية المباشرة وغير المباشرة من جهة أخرى.
بتطور هذه الأدوات، وخاصة أجهزة الدولة البرجوازية التي تمكنت من تحديث وتشريع قوانين مقيدة لحركة تطور وتحرر الطبقة العاملة وكل الطبقات الكادحة، وأيضًا تطوير التقنيات التكنولوجية من أجل الهيمنة الإعلامية العالمية على الشعوب، لتضليلها، وتسخيرها، وإبقائها خاضعة للمصالح الرأسمالية في كل العالم.
لهذا تبقي الرأسمالية أجهزتها وأدواتها تعمل باستمرار على مراقبة حركة الطبقة العاملة وكل الطبقات الكادحة ونشاطها وتطورها ومراقبة نشاط نقاباتها وأحزابها السياسية وتبقيها دائمًا تحت المراقبة كي تمنع إن استطاعت أي تحول ثوري لهذه الطبقات المستغَلة.
إذ تسارع إذا جرى تحول ونضوج ثوري في مجتمع ما للالتفاف عليه بكل الوسائل لديها، مستغلة أي ثغرة في الحراك الثوري الحاصل في مجتمع ما للانقضاض عليه عبر أجهزة الدولة وأدواتها المتعددة وقد يصل الأمر حتى إشعال حروب في مناطق الحراك، بحجج كثيرة لقتل الجماهير الثائرة وتشتيتها وإضعافها.
خير مثال على هذا: كيف تسابقت الدول الإمبريالية على إشعال حروب وحشية لمنع أي تطور ثوري للشعوب المنتفضة لأجل حريتها وكرامتها ونيل حقوقها؟ فما جرى مؤخرًا في الشرق الأوسط منذ عقد وحتى الآن من ثورات لشعوب المنطقة التي عرفت باسم الربيع العربي… هذا الربيع ما عاد ربيعًا بل شتاء جليديًا موجعًا لشعوب هذه المنطقة برمتها، ولكن كيف وصلت هذه الثورات جميعها في كل بلدان ودول هذا الشرق الى ما وصلت إليه من الهزائم الدامية والكارثية في بعض المناطق؟
لا يخفى على المتابعين والمهتمين بالشأن العام أن ازدياد التراكم السلبي في الأوضاع الاقتصادية للطبقات الشعبية والعمالية في بلدان الربيع العربي مع زيادة في قمع الحريات والاستبداد قبل بداية الربيع العربي وعلى مدى عقود… لم يكن خافيًا عن أنظار الإمبرياليات العالمية وتوابعها من الإمبرياليات الإقليمية، بل كانت تجري دراسات واختبارات عبر أجهزة مختصة وعلماء اجتماع متخصصين لمعرفة حال شعوب المنطقة، انطلاقًا من مراقبة نسبة الفقر والبطالة ونسبة التذمر الشعبي ضد أجهزة السلطة ومؤسساتها الأمنية والقضائية ومراقبة حجم الفساد في تلك الدول. كل هذا مكّنها من التنبؤ إلى حد ما بأن شعوب المنطقة عمومًا فوق صفيح ساخن وبركان ناشط سينفجر قريبًا جدًا.
بتوفر هذه المعلومات الدقيقة كان لديهم الوقت الكافي لدعم ميليشيات راديكالية مؤدلجلة ومتطرفة دينية وتم تدريبها وسلمت قيادتها لعملاء مرتبطين معهم عبر دول إقليمية لإمدادهم بالعتاد والسلاح والمقاتلين بإشراف أجهزة هذه الدول الأمنية.
أيضًا استخدام مليشيات مرتزقة محترفة لتشكيل قوى الثورة المضادة للثورات الشعبية في المنطقة عمومًا، التي لعبت دورًا أساسيًا في هزيمة هذه الثورات وفشلها.
أيضًا كان من أسباب فشل وهزيمة هذه الثورات هو تضافر جهود كافة قوى الرأسمالية العالمية بكل إمبريالياتها ومنصاتها العالمية لتحقيق التدخل السريع في عملية السيطرة المباشرة على الشعوب الثائرة، وتقطيع أوصال لحمتها، وتسهيل قيادة قوى الثورة المضادة وإمدادها، وتمكين جيوشها من الهيمنة المباشرة على هذه الشعوب وسرقة ثرواتها.
أيضًا من أجل إنقاذ ما أمكن من السلطات التابعة والخادمة لها من السقوط وحمايتها وإبقائها، من أجل شرعنة وجودها بإعطاء احتلالها وتدخل آلة القتل لها الصفة الشرعية من طريق عناوين ملزمة عبر مؤسساتها الدولية كمجلس الامن وهيئة الأمم المتحدة، مثل مكافحة الإرهاب وحماية المدنيين وحماية السلطات الشرعية وحقوق الانسان، وغيرها…
من عوامل هزائم الثورات أيضًا هو تلك الأحزاب الإصلاحية التي ترفع راية الاشتراكية وتتحدث باسم الطبقة العاملة والكادحة، وهي تعمل على تضليلها وتقسيمها وإضعافها من طريق شق وحدتها ومن أكثر هذه الأحزاب تضليلًا هي الأحزاب الشيوعية الستالينية بكل ألوانها وفروعها وكل الأحزاب التي وضعت عنوان يافطاتها الاشتراكية واليسارية والديمقراطية.
كانت تخدم سلطات البرجوازية وبقائها واستمرارها وإطالة عذابات شعوب المنطقة، عن قصد أو دون قصد، من طريق التحالف مع هذه السلطات بحجة الدفاع عن كيان الدولة وخوفًا من انتشار الفوضى وإن الوضع ليس ثوريًا وهؤلاء الثوار هم فوضويون وعصابات منفلتة ضد الدولة يجب مواجهتها أو إنها ثورة ملونة ممولة وغيرها من الحجج السخيفة فبهذا تكون قد قدمت للسلطات المرتبكة الدعم والحماية ضد ثورات التحرر الشعوب والمساهمة في هزيمتها.
أيضًا من أهم الأسباب (من وجهة نظرنا) في فشل الثورات وعدم استطاعتها تحقيق نتائج وانتصارات لصالح الطبقات الشعبية الواسعة والمهمشة هو عدم وجود أحزاب ثورية -قبل قيام هذه الثورات- منخرطة ضمن قطاعات الطبقات الكادحة وأهمها ضمن الطبقة العاملة التي دأبت السلطات الحاكمة على مدى عقود على الملاحقة والاعتقال لمنع تشكيل أية تيارات وأحزاب يسارية ثورية، وحتى أحزاب ديمقراطية لا تقبل الانضواء تحت عباءتها وتدجينها، فقد كانت الساحة خالية من أي قيادة ثورية منخرطة ضمن هذه الطبقة العاملة التي هي المؤهلة للتنظيم الثوري وللقيادة الثورية فكانت معظم هذه الكوادر إما معتقلين أو متخفين أو مهجرين بعيدين عن مسرح الأحداث السياسية وتطورها، لهذا كان من السهل جدًا حين انفجر بركان الثورات الشعبية تحت ضغط الفقر والقمع والاستبداد تنشد الحرية والكرامة والعدالة.
كان من السهل على السلطات زج فصائل الثورة المضادة في مسرح الأحداث وشق الوحدة الشعبية باستخدام أدواتها من ميليشيات الثورة المضادة وتحت عنوان الثوار وارتكابها المجازر بحق الطبقات الشعبية الثائرة تحت عناوين مذهبية وطائفية وإعطاء صفة الإرهاب لها من طريق ارتكاب أفعال إرهابية وحشية بحق الفقراء الثائرين وبهذا إيجاد المسوغ الشرعي الدولي والإقليمي للسلطات بحق محاربة الارهاب.
هكذا نجد أن افتقار الثورات الشعبية عمومًا في كل المنطقة للأحزاب الثورية والقيادة الثورية التي كانت ستشكل البوصلة الرئيسية في توجيه الحراك الثوري للشعوب من طريق رؤية ثورية واضحة وتكتيك واستراتيجيا نضالية فعالة تحقق للطبقات الشعبية انتصارات ومكاسب وصولًا للانتصار الاستراتيجي على سلطات ومؤسسات البرجوازية.
لكن لغياب هذه الأحزاب وقياداتها الثورية، تمكنت البرجوازية بسلطتها الحاكمة من حرف مسار الثورات وتضليلها وهزيمتها بوحشية عبر أدواتها وأذرعها من ميليشيات الثورة المضادة والاستعانة بالتدخل الدولي لتحقيق هزيمة هذه الثورات وأيضًا الالتفاف عليها بخداعها بتغيير رموز شكلت عداء للطبقات الشعبية واستبدالها بأشخاص تطلق الوعود بالديمقراطية والتغيير، مع الإبقاء على الدولة البرجوازية ومؤسساتها لتعود من جديد للإطباق على الطبقات الشعبية التي ثارت لأجل تحقيق الحرية والديمقراطية كما حصل في عدة بلدان مثل تونس ومصر وليبيا.
أما الشكل الأكثر دموية ووحشية ودمارًا، فهو ما حدث في هزيمة الثورة في سوريا، وما زال الوضع كارثيًا منذ بداية هزيمة الثورة وحتى الآن. ولكن في خضم هذا التشظي ورحم الطبقات الشعبية والعاملة الثائرة نشكل تيارًا ثوريًا بكوادر وقيادة ثورية تكون جيش الطبقة العاملة وعناصر تشبيك النضالات ضد جميع أشكال التمييز والاضطهاد العنصري والجندري والجنساني والطبقي في سبيل بناء الحزب الجماهيري بإيديولوجيا اشتراكية ثورية.
ليتمكن هذا الحزب من أداء مهامه بفاعلية خلال الثورة الموعودة من طريق ربط ساحات النضال ضد الطبقة المسيطرة بهدف تحطيم الدولة البرجوازية وتقويض سيطرتها على المجتمع ليتمكن الناس من بناء سلطتهم الذاتية الديمقراطية في المعامل والأحياء وكل مراكز وجودهم.
أبو غيفارا _ الخط الأمامي