
وحدة الدراسات – مركز الدراسات الاشتراكية في مصر
الطبعة الأولى: مارس 2008
إعادة نشر وتقديم : تيار اليسار الثوري في سوريا
فهرس المحتويات
تقديم تيار اليسار الثوري في سوريا
نعيد نشر هذا الكراس الذي أعده الرفاق في مركز الدراسات الاشتراكية في مصر 2008, نتيجة للضرورة التاريخية الحالية المرتبطة بضرورة تقديم الدعم النقدي غير المشروط لحركات المقاومة الشعبية في وجه الامبريالية الاستعمارية, ونتيجة لاختباء اليسار المتخاذل المتلبرل خلف عباءة الإلحاد السياسي والعلمانية ليخفي تبعيته للنظام الرأسمالي الدولي ومصالحه الطبقية, ولأن الظروف الذاتية والموضوعية التي تصهر الطبقة العاملة تدفعها للبحث عن أي أيدلوجيا من تراثها الثقافي تتيح لها مقاومة القمع والاحتلال, فلا بد للموقف اليساري الثوري أن يقف على يسار الجماهير دائماً دون أن يفرض عليها قالباً أيديولوجي محدد كشرط للوقف معها, أو كشرط لاكتسابها حق الدفاع عن ذاتها ووجودها. فنحن مع الجماهير عندما تكون بنادقها موجهة للإمبريالية أو الديكتاتورية أينما كانت, ووقفنا معها هو وقوف مع مصالح الطبقة العاملة في صيرورة تحررها من الهيمنة الرأسمالية, فالنظام المهيمن هو من يتحكم بإنتاج الوعي المهمين, وإسقاط ذلك النظام هو مفتاح خلاص الجماهير من التبعية للمرجعيات الدينية أو التركيبة الطبقية داخل الحركة ذاتها, وبالوقت ذاته تأتي مهمة اليسار الثوري بتجذير نضالات الطبقة العاملة ودفعها إلى أقصى ما يمكنها من الثورية, لتخلق شكلها التنظيمي الثوري, ونظريتها الثورية المتحررة من الكهنوت العلماني أو الديني.
فحركات المقاومة الشعبية وبالذات تلك التي يشكل الدين حاملها الأيدلوجي, دائماً ما تكون مواقفها عرضة للتأرجح ما بين اليمين واليسار ويعود ذلك التأرجح لتناقضاتها الداخلية والخارجية ولطبيعة التركيب الطبقي داخل الحركة ذاتها, ويكون دور اليسار الثوري بالوقوف إلى جانب تلك الحركات بدعم غير مشروط عندما تأخذ موقفاً يسارياً, وشدها إلى اليسار عندما تتأرجح يميناً, أما الوقوف في صف الاستعمار والاحتلال في وجه تلك الحركات بحجة ايدلوجيتها الدينية, فهذا الموقف لا يعكس إلا عفن الإلحاد السياسي الليبرالي.
كتب هذا النص في 2008, وعلى الرغم من التأرجحات الكبيرة لمواقف بعض الحركات الواردة في النص بعد تاريخ كتابته, وعلى الرغم من الاستثمار السياسي لأنظمة رأسمالية -في إطار صراعها الامبريالي الامبريالي- ,في تلك الحركات, إلا أن الموقف الثوري لا يزال ذاته:
مع الجماهير في وجه الاستعمار دائماً, والنقد غير المشروط كوسيلة لتحرير الجماهير المناضلة من الهيمنة الأيديولوجية, ولتحرير الطبقة العاملة من هيمنة الطغمة الحاكمة في الإطار الاجتماعي الواسع أو داخل حركات المقاومة ذاتها. ولتحرير حركات المقاومة من استثمار الدول الرأسمالية فيها.
تيار اليسار الثوري في سوريا 19/4/2024
مقدمة السلسلة
ونحن نشرف على نهايات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، نواجه عالمًا مليئًا بالأزمات والحروب والاستعمار وهجمات غير مسبوقة من الرأسمالية العالمية على معيشة وأجور الغالبية العظمى من البشر.
ولكننا نشهد أيضاً صعودًا غير مسبوق للمقاومة في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان، وصعودًا مماثلاً للحركات العمالية والفلاحية في أمريكا اللاتينية، تلك الحركات التي أدت إلى صعود أنظمة يسارية للحكم في العديد من البلدان تقاوم بدرجات متفاوتة الهيمنة الأمريكية ومنطق السوق الرأسمالي، وشهدنا أيضًا صعود الحركات العالمية المناهضة للعولمة والحرب.
وفي مصر نجد أنفسنا مواجهين بمزيج من الاستبداد الوحشي والفساد وسياسات إفقار الأغلبية لصالح حفنة صغيرة من البليونيرات، وعمالة النظام الحاكم العلنية لواشنطن وتل أبيب، ولكننا نشهد أيضاً صعودًا غير مسبوق للحركة العمالية والاحتجاجات الاجتماعية، سبقتها حركات التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية ومناهضة احتلال العراق والحركة الديمقراطية التي واكبت التمديد لمبارك والتحضير لتوريث الحكم.
هذه التطورات المتلاحقة تطرح أسئلة مصيرية على كل من يريد تغيير هذا الواقع.
كيف نفهم الهجوم الاستعماري الأمريكي على منطقتنا؟
كيف نطور من مقاومتنا بحيث نصبح قادرين على دحر هذا الهجوم؟
كيف نفهم الصهيونية البغيضة ومعضلات المقاومة الفلسطينية؟
كيف نواجه الاستبداد والرأسمالية في مصر؟ كيف تطور الحركة العمالية من نفسها ليس فقط من أجل الدفاع عن أجورها وتحسين معيشة العمال، بل أيضاً من أجل أن تصبح قادرة على قيادة كافة الطبقات والفئات المضطهدة والمستغلة في مصر؟
كيف توحد تلك الطبقة صفوفها في ثورة تطيح ليس فقط بنظام مبارك بل أيضًا، والأهم، بسيطرة رأس المال المحلي والأجنبي والذي يمثله هذا النظام؟؟.
الإجابة على هذه الأسئلة لا تأتى من النظريات المجردة أو من فتاوى المثقفين، ولكن من بلورة الخبرة النضالية للطبقة العاملة العالمية في كفاحها الطويل ضد حكم رأس المال.
فالممارسة الثورية تحتاج بالتأكيد إلى نظرية ثورية ولكن هذه النظرية هي محصلة تراكم نضال المستغلين والمضطهدين، هي الاشتراكية الثورية التي تطورت عبر كفاح العمال وأحزابهم الثورية، عبر انتصاراتهم وهزائمهم وعبر تضحياتهم ودماء شهدائهم.
تحاول هذه السلسلة الجديدة من الكراسات أن تقدم للقارئ أهم مبادئ وتحليلات الاشتراكية الثورية. بعض فصول هذه الكراسات منتقاة ببعض التحرير والتجديد من مقالات ظهرت من قبل في أدبيات تيارنا خلال العقدين الأخيرين، وبعضها مكتوب خصيصاً لهذه السلسلة. وهدفنا هو أن يتعرف القارئ على الاشتراكية الثورية كسلاح نضالي نبني به معًا عالمًا أفضل.
2. تمهيد
يتناول هذا الكراس ثلاث قضايا ذات أهمية استراتيجية لكل من يريد التغيير فى منطقتنا بشكل خاص وفى العالم بشكل عام.
القضية الأولى وهي الامبريالية تتعرض لمسالة الاستعمار والهيمنة من قبل الدول الكبرى وعلاقتها بالنظام الرأسمالي العالمي فى مراحل تطوره المختلفة منذ بدايات القرن العشرين.
ففي حين تتناول التيارات الاسلامية مثلاً قضية الاستعمار من منظور الصراع الديني بين الغرب المسيحي والعالم الإسلامي وفى حين تتناوله التيارات القومية بصفتها مواجهة بين حضارات أو قوميات ، ويرى الاشتراكيون الثوريون أن قضية الاستعمار القديم والجديد لا يمكن أن نفهم جوهرها إلا من خلال فهم تطور العلاقة بين مصالح الشركات الرأسمالية ومصالح ودور الدول الرأسمالية الكبرى فى صراعها وتنافسها من أجل الهيمنة والنفوذ.
فلا يمكن مثلاً فهم الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان بدون فهم أزمة رأس المال الأمريكي واحتياجه للسيطرة المباشرة على منابع النفط لمواجهة المنافسة الصاعدة للصين وروسيا من جانب وللاتحاد الأوروبي من الجانب الآخر.
أما القضية الثانية وهى الصهيونية فهي بالنسبة لنا ليست مجرد نتيجة لمؤامرة يهودية ضد الأمة الاسلامية بل هي وثيقة الصلة بتطور الإمبريالية العالمية. فقد ارتبطت الحركة الصهيونية منذ نشأتها بالمشاريع الاستعمارية الكبرى. وكان إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين واستمراره حتى اليوم هو الامتداد الطبيعي للهيمنة الاستعمارية البريطانية ومن بعدها الأمريكية.
فالكيان الصهيوني هو بمثابة كلب الحراسة الذى يحرس مصالح الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الامريكية فى منطقتنا الحيوية ضد الجماهير العربية من جانب وضد أى تهديد لهذه المصالح من قبل دول منافسة فالاستعمار الاستيطاني الصهيوني هو مجرد قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة فى قلب المنطقة العربية. هذا هو جوهر الوجود الصهيوني وسر بقائه.
– وينقلنا هذا إلى القضية الثالثة التى نتناولها في هذا الكراس الصغير وهى قضية المقاومة والموقف منها ، فنطرح الرؤية الاشتراكية الثورية للمقاومة في فلسطين ولبنان والعراق والتي تقوم على أساس الدعم النقدي غير المشروط لحركات المقاومة. ونعنى بذلك أننا نؤيد بشكل كامل حركات المقاومة المسلحة والجماهيرية بكافة أشكالها ضد الاحتلال الصهيوني والأمريكي ونقف صفاً واحداً معها أيا كانت الشعارات التى ترفعها حركات المقاومة. ولكن هذا لا يعنى أننا نتغافل عن التناقضات والمعضلات التي تواجه حركات المقاومة فى منطقتنا فنحن نناقش أيضا في هذه الكراسة نقاط الضعف والأخطاء التى تقع فيها هذه الحركات سواء على مستوى الاستراتيجيات أو التكتيك وهذا بالطبع ليس بغرض التقليل من كفاحها البطولي بل للمساهمة فى تطويره وتعميقه والربط بينه وبين الجماهير العربية لتحقيق النصر ليس فقط على الاستعمار الأمريكي والصهيوني بل ايضا على الانظمة العربية التى تلعب دورا محوريا فى التآمر على المقاومة وحصارها.
3. الإمبريالية
شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عودة للاستعمار المباشر في منطقتنا ليس فقط بالاحتلال الأمريكي للعراق بل بتشييد القواعد العسكرية في غالبية دول المنطقة. وبعد أن كان الحديث مع نهاية الحرب الباردة عن نهاية عصر الحروب والاستعمار، أصبح الآن الحديث عن حرب عالمية دائمة ضد “الإرهاب”. كيف لنا أن نفهم هذا الهجوم المسعور؟ هناك من يطرح أن ما يحدث هو حرب ضد الإسلام أو مجرد الرضوخ لمؤامرات الصهاينة. ولكن الاشتراكية تطرح رؤية مغايرة لفهم ما يحدث. رؤية تطورت على أساس فهم تاريخي مادي لعلاقة الحرب والاستعمار بالنظام الرأسمالي العالمي في مراحله المختلفة. وسنحاول في السطور التالية تقديم عرضاً موجزاً لهذه الرؤية.
تقوم الرأسمالية على التنافس بين الشركات. كل شركة تحتاج إلى أن تعمّق من استغلال عمالها لتستخرج أكبر فائض ممكن وتستثمر الجزء الأكبر من ذلك الفائض في تطوير وتوسيع قاعدتها الإنتاجية لتزيد من الإنتاج وتقلل من التكلفة حتى تستطيع التنافس مع الشركات الأخرى في السوق، وهو ما يؤدي إلى اتساع حجم الشركات.
ومن ناحية أخرى، يعاني النظام الرأسمالي من أزمات دورية تؤدي إلى إفلاس الشركات الأصغر والأضعف وإلى ابتلاعها من قبل الشركات الأكبر. وبمرور الوقت يسفر هذا الوضع عن سيطرة عدد صغير من الشركات العملاقة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وإلى حدوث تداخل وتشابك واندماج بين هذه الشركات والبنوك الكبرى.
الامبريالية في النصف الأول من القرن العشرين
أدت هذه التطورات مع بداية القرن العشرين إلى تداخل واندماج متنامي بين الشركات الرأسمالية الكبرى والدولة القومية التي بدأت توسع من أدوارها في دعم وتنسيق وتنظيم رأسماليتها على المستوى القومي. ونتج عن ذلك تغيير هام في طبيعة التنافس الرأسمالي نفسه. فالاقتصاديات الكبرى تحتاج إلى التوسع العالمي بحثا عن المواد الخام والأسواق ومجالات الاستثمار، مما شكل الدافع الرئيسي للتوسع الاستعماري للقوى الأوروبية في أفريقيا وآسيا في نهايات القرن التاسع عشر. وبدأ التنافس الرأسمالي آنذاك يتحول من تنافس اقتصادي بين الشركات إلى تنافس عسكري وسياسي بين الدول القومية الكبرى..
شكلت هذه التطورات قوة الدفع الأساسية وراء الحروب الكبرى خلال القرن العشرين، حيث اندلعت الحروب بين القوى الإمبريالية المتصارعة بهدف إعادة تقسيم العالم فيما بينها. أسفر ذلك عن تنامي دور وحجم الدولة القومية على المستوى الاقتصادي، ووصل إلى قمته خلال الحرب العالمية الثانية. حيث اندمجت الدولة مع رأس المال في شكل رأسماليات الدولة القومية. هذا ما أتاح للدولة التدخل المباشر في توجيه الاقتصاد القومي، وهو ما دعت إليه الحاجة لتنظيم اقتصاد الحرب.
كان العالم خلال الفترة ما بين 1875 ـ 1945 متعدد الأقطاب على المستوى السياسي والاقتصادي. فلم تعد بريطانيا هي الدولة الصناعية الوحيدة خلال غالبية القرن التاسع عشر. ونتيجة لتطور السكك الحديدية والبواخر والصناعات الحديثة، ومن بينها صناعة السلاح، ظهر مفهوم “تصنيع الحرب”. وأصبحت القوة العسكرية لأي دولة ترتبط بمستوى التصنيع. وخلال هذه الفترة أيضا شهد العالم توسعا استعماريا كبيرا، فالرأسمالية الاحتكارية كانت في حاجة للخروج من حدود دولتها المحلية، واندفعت في نزاع من أجل تقسيم العالم، وقد تركز هذا النزاع على المنافسة على المواد الخام والأسواق. وارتفع حجم المستعمرات الأوروبية من ٤.٣ مليون كلم مربع و148 مليون نسمة عام 1860، إلى ٤٦ مليون كلم مربع و568 مليون نسمة عام 1914، ولم يكن هذا التقسيم قد وصل إلى نهايته، فمعظم منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال كانت تحت الحكم العثماني، ولم تكن بريطانيا وفرنسا قد اقتسماها حتى أواخر الحرب العالمية الأولى.
أدى الاندماج بين الدولة ورأس المال إلى اشتعال الحروب الإمبريالية. فأصبحت النزاعات الاقتصادية بين الكتل الرأسمالية القوية لا تحل إلا من خلال اختبار القوة العسكرية فيما بينها. وتم تحويل كل الموارد التي تحتاجها الدولة في الحرب الشاملة، فتحول الاقتصاد إلى تنظيم تابع لسيطرة الدولة. وخلال هذه الفترة، قامت الرأسمالية بنهب منظم للمستعمرات، ولكنها في نفس الوقت أدخلت النظام الرأسمالي في الإنتاج إلى تلك المستعمرات. فقد قامت بريطانيا مثلا بنهب منظم لثروات الهند، ولكنها أيضا أدخلت السكك الحديدية والطرق وبعض الصناعات لخدمة مصالح بريطانيا، مما أدخل الهند في النظام الرأسمالي وخلق بدايات رأسمالية وطبقة عاملة هندية، وقد حدث نفس التطور بالنسبة لمصر خلال الاستعمار البريطاني لها منذ عام 1882 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
إمبريالية القوى العظمى (1945ـ 1990)
مع نهاية الحرب العالمية الثانية شهد النظام الإمبريالي العالمي تحولاً كبيرًا. فقد أنهكت الحرب القوى الرأسمالية التقليدية. وقد طال الإنهاك كل من المنتصرين والمهزومين: بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، اليابان، وإيطاليا. على جانب آخر خرجت الولايات المتحدة من الحرب وهي قوة عظمى ذات اقتصاد قوي مزدهر يسيطر على نسبة كبرى من الإنتاج العالمي. أما الاتحاد السوفيتي، الذي كان قد تحول تماما على يد ستالين من دولة عمالية اشتراكية إلى نظام رأسمالية دولة في الثلاثينات، فقد استطاع أن يخرج من الحرب كثالث أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد كونت الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة حلف الناتو (شمال الأطلنطي)، بينما شكلت الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي، حلف وارسو، وأصبح العالم نتيجة لذلك ثنائي القطبية على المستوى السياسي، ولكنه ظل متعدد الأقطاب على المستوى الاقتصادي. فالمنافسة الاقتصادية ظلت قائمة، بينما انتهت النزاعات العسكرية بين الدول المنتمية إلى نفس الكتلة.
وبينما كانت الولايات المتحدة تعتمد بالأساس على قوة اقتصادها في السيطرة على المعسكر الغربي، فإن الاتحاد السوفيتي قد أعتمد على قوته العسكرية التي بناها على حساب معيشة جموع العمال والفلاحين في إطار سباق التسلح مع القطب الأمريكي. وتكرست على هذا الأساس مرحلة جديدة من مراحل الإمبريالية العالمية هي مرحلة الحرب الباردة. ونظرًا للانتعاش الاقتصادي الطويل الذي ساد الاقتصادي العالمي في الفترة من الأربعينات وحتى السبعينات، فقد اتسمت هذه المرحلة بوجود مساحة اقتصادية واسعة تدور داخلها المنافسة بين الرأسماليات دون أن يؤدي ذلك إلى صراعات عسكرية كبرى من النوع الذي كان مزمنا قبل 1945. وهكذا رأينا العالم منقسمًا إلى كتلتين تتنافسان على السيطرة على العالم في ظل ردع نووي مرعب لا مجال فيه لخوض حروب عالمية.
لم تشهد المنافسة الإمبريالية بعد 1945 حروبا بين الدول العظمى، ولكن الحروب استمرت مع ذلك على أطراف النظام. فقد نشب ما يقرب من 80 حربا بعد عام 1945، راح ضحيتها ما بين 15 و30 مليون شخص. بيد أنه حدث خلال الحرب الباردة تغيرًا هامًا في التوازن الاقتصادي بين الدول الرأسمالية الكبرى. ففي حين كانت الولايات المتحدة غارقة في الإنفاق العسكري الكبير وسباق التسلح، استطاعت الدول الأوروبية واليابان، وهي تحت الحماية العسكرية الأمريكية، أن تركز استثماراتها في الصناعات المدنية، وبالتالي أن تضاعف معدلات نموها وصادراتها. نتج عن ذلك ـ في نهاية الستينيات ـ انخفاض حاد في التفوق الاقتصادي النسبي الأمريكي، مما انعكس في انخفاض قيمة الدولار أمام الين الياباني والمارك الألماني، وأدى هذا بالتضافر مع عوامل أخرى إلى اندلاع أزمات جديدة في النظام العالمي مع بداية السبعينيات.
وقد شهدت أيضاً فترة ما بعد الحرب نموا متزايدا لما يسمى اليوم “العولمة الرأسمالية”. فالشركات المتعددة الجنسية استطاعت إعادة تنظيم عملياتها الإنتاجية على المستوى العالمي، وأصبحت التجارة العالمية في السلع الصناعية تستحوذ على نسب متنامية من الدخل القومي للدول الرأسمالية الكبرى، وزادت الأسواق المالية من قدرتها على تحريك الأموال عبر الحدود الدولية.
هذا السياق الذي اتخذته الرأسمالية الحديثة في تطورها خلق وعمق مع الوقت تناقضًا رئيسيًا ما بين تركيز رأس المال على النطاق القومي، وبالتالي ارتباطه الوثيق بالدولة القومية، وبين عولمة النظام من خلال الشركات متعددة الجنسية والتجارة العالمية واندماج الإنتاج على النطاق العالمي. والحقيقة أن هذا التناقض هو قوة الدفع الرئيسية للحروب خلال القرن الماضي والحالي.
فقد كانت السمة الأساسية لهذه المرحلة هي تدويل رأس المال، وزيادة أهمية التجارة العالمية، وخلق دوائر مالية عالمية لا تستطيع الدول لقومية السيطرة عليها. فلم تعد الدول القومية قادرة على السيطرة على حركة رأس المال، وكانت أكثر الدول التي تأثرت سلبا بهذه التطورات هي البلدان التي تلعب فيها الدولة دورا كبيرا في عملية الإنتاج الرأسمالي، مثل الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية.
الإمبريالية بعد الحرب الباردة
في إحدى المرات عبّر برجينسكي ـ وقد كان مستشار الأمن القومي لكارتر وأحد أهم مستشاري إدارة كلينتون ـ عن منطق الاستراتيجية الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة فيما أسماه “الأهداف الأساسية الكبرى للإستراتيجية الإمبريالية”، وهي “الحفاظ على الأمن بين الدول العميلة للإمبريالية الأمريكية، مع منع التقارب والتعاون المباشر بينها، وتقوية التعددية الجيوسياسية على الخريطة الآسيوية/ الأوروبية من خلال المناورة لمنع ظهور تحالف معادي يستطيع مع الوقت تحدي الهيمنة الأمريكية”.
لكن مع مطلع القرن الجديد تفاقمت المعضلات التي تعيق الولايات المتحدة عن تحقيق مشروعها الإمبريالي. فمن جانب هي تملك قدرة وتفوق عسكريين بعيدي المنال بالنسبة لأي متنافسين في الوقت الحالي أو في المستقبل المنظور، لكن من جانب آخر هي لا تملك القدرة الاقتصادية على إعادة بناء الاقتصاد العالمي الذي يعاني من ركود عنيف في مراكز النظام (ومدمر في أطرافه).
يختلف هذا الوضع اختلافًا واضحا عما كان عليه الأمر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ففي 1945 كانت الولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الإنتاج الصناعي العالمي إلى جانب امتلاكها لأقوى قدرات عسكرية، مما مكنها ليس فقط من الهيمنة عسكريًا على العالم الغربي وعلى مناطق النفوذ التي فقدتها القوى الاستعمارية القديمة (بريطانيا وفرنسا)، لكن أيضا من الهيمنة الاقتصادية شبه المطلقة وإعادة بناء أوروبا واليابان. ولقد استطاعت الإمبريالية الأمريكية من الحفاظ على هيمنتها خلال الحرب الباردة، فكان هناك قبولاً أوروبيًا ويابانيا تاما لهذه الهيمنة في مقابل الحماية التي توفرها لهم ضد التهديد السوفيتي، بالإضافة لقيامها بتأمين وتمويل الاستقرار والنمو الاقتصادي لأوروبا واليابان طوال تلك الفترة.
لكن مع نهاية الحرب الباردة بدأت التناقضات في الظهور، فمن جانب اختفى التهديد السوفيتي وتنافسه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وحلفائها. ولم تعد البلدان الأوروبية واليابان في نفس الحاجة للحماية العسكرية الأمريكية وبالتالي لقبول أولويات الإمبريالية الأمريكية على المستوى الاستراتيجي. ومن جانب آخر تغيرت الخريطة الاقتصادية للعالم، ففقدت الولايات المتحدة تفوقها المطلق وأصبحت تنتج أقل من 25% من إجمالي الناتج العالمي، بينما تنتج بلدان الاتحاد الأوروبي نفس النسبة تقريباً، وتنتج اليابان وحدها أكثر من نصف هذه النسبة.
هذا التضاؤل النسبي للقوة الاقتصادية الأمريكية يتناقض بحدة مع قدرتها العسكرية المتزايدة. فالولايات المتحدة مسئولة وحدها عن 36% من الإنفاق العسكري العالمي. ويتزايد هذا الإنفاق بمعدلات سريعة جداً، فقد وصل إلى 304 بليون دولار عام 2001، وزاد إلى 351 بليون دولار عام 2000، وتم اعتماد 396 بليون دولار لعام 2003، وقد تجاوز 470 بليون دولار عام 2007! هذا التناقض الحاد ما بين القدرات الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة هو ما يخلق المعضلة الرئيسية أمام مشروعها الإمبريالي. من هنا يمكن أن نفهم التحولات في السياسة الأمريكية للتوسع وفرض السيطرة والنفوذ عن طريق الحروب العسكرية المباشرة.
النفط وسياسات الإمبريالية الأمريكية
خلال الفترة الممتدة بين 1940/ 1967، استطاعت الشركات الأمريكية أن تزيد من حصتها في احتياطي بترول الشرق الأوسط من 10 %إلى 60%، بينما تضاءلت حصة الشركات البريطانية من 72% إلى 30% في نفس الفترة. وليس هناك مجالاً للشك في أن النفط هو العامل الاستراتيجي الأهم في تحديد سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فإلى جانب الأرباح المباشرة التي تجنيها شركات النفط الأمريكية بفعل استغلالها للنفط في المنطقة، فمن المهم أيضا ملاحظة أن لدى الولايات المتحدة 2% فقط من احتياطي النفط العالمي في حين أنها تستهلك 25% من إنتاج النفط العالمي سنويا. ومن ثم فأن هذا الوضع يدفعها بشكل دائم لمحاولة السيطرة على منابع النفط العالمي وتأمينها.
وفيما يتعلق بالعراق فإنه يمكن إدراك مدى أهمية قدراته النفطية بالنظر إلى أن الأراضي العراقية تحتوي على 100 بليون برميل بترول احتياطي، أي ما يمثل 12% من احتياطي النفط العالمي. وحتى وقتنا الحالي، يوجد 73 حقل بترول مكتشف حتى الآن، بينما لا يتم الانتفاع حاليا سوى بثلث هذه الحقول. وقدرت وزارة الطاقة الأمريكية أن هناك نحو 220 بليون برميل في شكل احتياطيات لم يتم اكتشافها بعد، وهو ما يعني أن إجمالي النفط العراقي يكفي استهلاك الولايات المتحدة من النفط بالمعدلات الحالية لمدة 98 عاما. وقد بدأت الشركات النفطية الأمريكية الكبرى الاستعداد للعودة إلى العراق وإيران. وكما صرح رئيس أحدها لجريدة نيويورك تايمز في شهر أكتوبر 2002 “لقد دخلنا قطر وعمان للحصول على موطئ قدم في الشرق الأوسط.. نحن نحتاج أن يكون لنا وضع في الشرق الأوسط استعدادا لحين عودة العراق وإيران إلى عائلة الأمم”.
إن الحرب الامبريالية في العراق والتحضير لحصار وضرب إيران وما يسمى الحرب على الإرهاب هي أجزاء مفصلية من الاستراتيجية الأمريكية لفرض الهيمنة، ليس فقط بالتحكم في منابع البترول، بل بالاستعداد للمرحلة القادمة من التنافس العسكري والحروب الكبرى والتي ستفرض نفسها علي المسرح العالمي مع التضاؤل النسبي للاقتصاد الأمريكي والصعود السريع لقوي عالمية أخري مثل الصين المتعطشة للطاقة والمواد الخام والأسواق والنفوذ.
ندخل اليوم ونحن نقارب نهاية العقد الأول من القرن العشرين أخطر مراحل تطور المنظومة الامبريالية. فالحروب الآتية لن يحكمها ذلك التوازن النسبي الذي ساد خلال الحرب الباردة، ولن تقف عند حدود الدمار الذي شهده العالم خلال الحرب العالمية الثانية. فتعدد مراكز التراكم الرأسمالي، وبالتالي تعدد القوي العسكرية والسياسية والقدرات التدميرية الهائلة للقوي الكبرى الجديدة منها والقديمة في عالم تتحكم فيه فوضى السوق الرأسمالي، يعنى أن الحرب والخراب والموت والاستعمار والقهر في القرن الواحد وعشرين سيتجاوز كل ما عانته البشرية خلال القرن الماضي.
على أن علينا ألا ننسى أبدا أن الورطات الاستعمارية الأمريكية لها ثمن باهظ مقارنة بأي مشروع استعماري آخر في تاريخ الإمبريالية. الولايات المتحدة اليوم تغامر بهيبتها ومستقبلها. ذلك أن حركات مناهضة الاستعمار ستكون اليوم – بفضل التطورات في التكوين الطبقي للبلدان الرأسمالية المتأخرة – أقوى من أي وقت مضى. وهذا ما سيغذي التوتر الحادث بالفعل في الصراع الدولي (وهو التوتر الذي تحاول أمريكا أن تستبق تطوراته بسياستها الهجومية).
باختصار لن تؤدي سياسة الهجوم الاستباقي الأمريكية إلا إلى تصعيد التناحر في قلب الصراع الدولي وفي النضال الطبقي على المستوى الأممي. نرى الأدلة على هذا اليوم في فلسطين والعراق وأفغانستان، كما نراها في حركات مناهضة الحرب والاستعمار والرأسمالية عالمياً. ومن المتوقع أن نرى أدلة جديدة غدًا وبعد غد في كل أركان العالم. ذلك أن أهم حقيقة نعيشها الآن هي أن عالمنا أصبح، بشكل متزايد، لا يقبل قانون “الربح فوق البشر” الذي تعده الرأسمالية دستورها المقدس.
4. الصهيونية
في عام ١٩٤٨شنت العصابات الصهيونية في فلسطين ما أطلقت عليه آنذاك “حرب الاستقلال”. وقبل انعقاد الهدنة بين الكيان الصهيوني الوليد وجيوش مصر والأردن وسوريا في 1949، كانت تلك العصابات قد شردت أكثر من 750 ألف فلسطيني من منازلهم وحولتهم إلى لاجئين داخل بلادهم التي سيطر عليها الجيش الصهيوني.
أدعى الصهاينة أنهم يعبرون عن حنين يهود العالم إلى “التحرر الوطني”. ومع ذلك إذا كانت الصهيونية حركة تحرر وطني فهي أغرب حركة من نوعها. فبدلاً من أن تسعى للتخلص من الإمبريالية ـ ما تحاوله حركات التحرر الوطني عمومًا ـ سعت بقوة إلى أن تكون تحت حماية القوى الإمبريالية وقامت بطرد الشعب الفلسطيني من أراضيه.
ما هي الصهيونية؟
إن الصهيونية هي النظرية التي انطلقت من افتراض أن التعايش بين اليهود وغير اليهود في مختلف أنحاء العالم غير ممكن، وأنه طالما ظل اليهود بدون وطن خاص بهم سيظلون يعيشون في ظروف بؤس واضطهاد. وتبنت هذه الحركة مشروع الهجرة إلى فلسطين بهدف إقامة دولة يهودية. وقد تطورت الصهيونية كرد فعل لتصاعد موجة العنصرية ضد اليهود (معاداة السامية) في أوروبا مع نهاية القرن الماضي. وجاء تأسيس أحزاب سياسية معادية علنا للسامية في أوروبا الغربية ليضعف الأفكار التي شاعت لدى كثير من اليهود حول إمكانية الاندماج في مجتمعات غير يهودية.
وفي روسيا القيصرية وبلدان أوروبا الشرقية، حيث كانت تعيش نسبة كبيرة من يهود العالم، وقع اليهود ضحية التحول من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي. فمع هذا التحول فقد اليهود دورهم المميز كتجار ومرابين في الاقتصاد الإقطاعي. ودخل الحرفيون وأصحاب المحلات اليهود في منافسة مع نظرائهم من غير اليهود. في نفس الوقت كان التطور الرأسمالي يدمر النظام الحرفي محولاً الحرفيين وأصحاب المهن إلى عمال أجراء. وقد ساهمت هذه العملية في خلق طبقة عاملة واسعة من اليهود في أوروبا الشرقية في أقل من خمسين عامًا.
هذه التغيرات المؤلمة في الوضع الاجتماعي لليهود دفعت الملايين منهم إلى الهجرة من أوروبا الشرقية، ومن بقي منهم غالبًا ما واجه مذابح وأحداث عنف ضد اليهود. فمن أجل الاستفادة من تصاعد موجه معاداة السامية بين أعضاء الطبقة الوسطى من غير اليهود والسعي للحفاظ على الانقسام بين الطبقة العاملة اليهودية وأخوتهم وأخواتهم من الطبقة العاملة غير اليهودية، شجع البوليس القيصري الروسي قيام المذابح ضد اليهود.
هذا الجو من الإحباط والاضطهاد أثار العديد من ردود الفعل لدى السكان اليهود، بما في ذلك تزايد النزعة القومية. إن القومية اليهودية، خاصة في شكلها الصهيوني، كانت مفهومًا حديثًا تمامًا نتج عن التطور السياسي والاجتماعي في أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر. ولعدة قرون كانت فكرة العودة إلى “صهيون” (الأرض المقدسة المزعومة في فلسطين) تحتل مكانة هامة في اليهودية، ولكن لم يكن لهذا الاعتقاد أي معنى سياسي، ولم تكن تتضمن الرغبة في إقامة دولة يهودية “عاصمتها الأبدية” هناك. فقد هاجر القليل من الحجاج اليهود إلى فلسطين في أواخر القرن الثامن عشر لتكوين طوائف دينية وليس لإقامة دولة. ومع ذلك فإن الحركة الصهيونية وضعت هذا الهدف بالذات نصب عينيها.
جاء أقوى تعبير عن الصهيونية في عام 1896 في كراس “دولة اليهودية” الذي كتبه صحفي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل المعروف بـ”أبو الصهيونية”. وفي عام 1897 عقد هرتزل أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا. ووافق مائتي مندوب من 17 بلد على تكوين المنظمة الصهيونية العالمية للمطالبة “بوطن معترف به ويتمتع بالحماية القانونية في فلسطين”. ومع ذلك اكتشف هرتزل مشكلة كبيرة في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين وهي أنه لم يهتم بهذه الدولة سوى عدد ضئيل جدًا من اليهود.
ففي الفترة بين 1880 ـ 1929 هاجر ما يقرب من أربعة ملايين يهودي من روسيا والنمسا وبولندا ورومانيا وبلاد أخرى. ولكن لم يهاجر منهم إلى فلسطين سوى 120 ألف فقط. وأكثر من ثلاثة ملايين منهم هاجروا إلى الولايات المتحدة وكندا. وفي عام 1914 كانت المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة تضم 12 ألف عضو فقط. في نفس الوقت كان الحزب الاشتراكي يضم نفس العدد من اليهود في مدينة نيويورك وحدها.
الاشتراكية والنضال ضد معاداة السامية
على خلاف ما فعل هرتزل دافع الاشتراكيون عن اليهود عندما تعرضوا للاضطهاد. كذلك اعتبر الاشتراكيون العنصرية ضد اليهود أحد السموم الموجهة ضد الحركة العمالية. فقد استنكر أوجست بيبل، أحد قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في مطلع القرن العشرين، معاداة السامية وأطلق عليها “اشتراكية الحمقى” لأنها تضلل العمال عن عدوهم الحقيقي وهو الطبقة الحاكمة وتدفعهم إلى التضحية باليهود. وأوضح كارل كاوتسكي، أحد زعماء الحزب الاشتراكي الألماني، أن انقسام اليهود إلى طبقات يعني أن أوضاع اليهود ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحركة الطبقة العاملة ككل. ولأن الاشتراكية أكدت على ضرورة الكفاح ضد معاداة السامية في البلاد التي يعيش فيها اليهود، ضمت الحركة الاشتراكية عددًا كبيرًا منهم.
وبينت الثورة الاشتراكية عام 1917مغزى الإستراتيجية الاشتراكية لتحرير اليهود في الممارسة. ففي بلد استغل فيه القيصر وأتباعه معاداة السامية من أجل تقسيم العمال، انتخب العمال الروس للمواقع القيادية في الحكومة الثورية بلاشفة من أصل يهودي مثل تروتسكي وزينوفييف وكامينيف وسفيردلوف. وأعلنت الثورة حرية العقيدة وألغت العقبات التي فرضتها القيصرية أمام تعليم وإقامة اليهود. وخلال الحرب الأهلية (فيما بين ( 1918ـ 1922) ضد الجيوش المضادة للثورة التي ذبحت الآلاف من اليهود، طبق الجيش الأحمر الثوري عقوبات صارمة ـ بما فيها الإعدام ـ ضد مرتكبي العنف ضد اليهود في صفوفه. وقامت الحكومة العمالية بالمساواة بين لغة الييدش المنتشرة في أوساط اليهود وجميع اللغات الأخرى. وعملت قوميسارية (وزارة) شئون اليهود ولجنة يهودية خاصة داخل الحزب البلشفي جنبًا إلى جنب من أجل انخراط اليهود في شئون الدولة العمالية وكسب جماهير اليهود للاشتراكية. وقد شهدت السنوات الأولى للثورة ازدهارًا للحياة الثقافية لدى اليهود لم يسبق له مثيل.
وقد رافق ذلك نقداً حاداً لا هوادة فيه للنزعة الصهيونية في أوساط اليهود. فقد كان الحل الاشتراكي لمشكلة اليهود هو اندماج العمال اليهود مع غير اليهود لبناء الاشتراكية وليس هجرتهم لبناء وطن وهمي من خلال قهر شعب آخر.
الصهيونية والاستعمار
لم يخف الصهاينة الأوائل أملهم أن تكون الدولة اليهودية كما قال هرتزل: “جزءًا من الحصن الدفاعي لأوروبا ضد آسيا، وموقعًا قويًا للحضارة في مواجهة البربرية.” وكانت كتابات هرتزل تمتلئ بالمديح للقوى الإمبريالية الكبرى في أوروبا، وكشف عن إعجابه بديكتاتورية القيصر الألماني حين كتب: “إن الحياة في ظل حماية ألمانيا القوية العظيمة ذات الحكومة الرائعة والمنظمة له تأثير مؤكد وجيد على الطبيعة القومية لليهود”. وفي 1902 كتب إلى روتشيلد، وهو صهيوني بريطاني ذو علاقات واسعة بالقيادات العليا للدولة البريطانية: “طالما لا زال لديكم (يقصد الإمبراطورية البريطانية) مساحة واسعة للحركة، بل من الممكن أن تحقق الكثير من خلال حكومتكم إذا دعمتم النفوذ البريطاني في الشرق الأدنى من خلال الاستيطان الواسع من قبل شعبنا للمنطقة الإستراتيجية حيث تلتقي المصالح المصرية والفارسية والهندية.”
لقد روج مؤسسو الصهيونية العنصرية الموالية للإمبريالية ضد ما اعتبروه “شعوبًا متخلفة” في آسيا وأفريقيا.
وأثناء الحرب العالمية الأولى تودد القادة الصهاينة إلى الإمبريالية البريطانية، وأملوا في أن تكافئهم بريطانيا بعد انتصارها على الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على فلسطين. وتحقق هدفهم في عام 1917 بوعد اللورد بلفور. فقد أعلن وعد بلفور تأييد بريطانيا “لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين” تحت الحماية البريطانية.
جاء وعد بلفور نتيجة لمفاوضات بين فرنسا وبريطانيا حول تقسيم أراضي الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وفي 1915 أقترح رئيس الوزراء البريطاني هربرت صموئيل أن تقيم بريطانيا محمية يهودية في فلسطين. وعارض غالبية الأعضاء هذه الخطة. وقتها كتب صموئيل: “من الغريب أن أكثر المؤيدين تمسكا بهذا الاقتراح هو لويد جورج الذي لا أحتاج إلى بيان أنه لا يهتم قيد أنملة بأمر اليهود أو بماضيهم أو مستقبلهم، ولكنه يرى أن ترك الأراضي المقدسة لتقع تحت سيطرة وحماية الفرنسيين الملاحدة هو بمثابة فضيحة.” ولكن بعد سنتين أصدرت بريطانيا وعد بلفور، فما الذي تغير في حسابات بريطانيا؟ أحد علامات هذا التغير هو أن بريطانيا أعلنت وعد بلفور بعد أيام من ثورة أكتوبر في روسيا. فكل من بريطانيا والصهاينة رأوا أن إقامة دولة يهودية يعد حصنا للإمبريالية ضد انتشار الثورة. وبعد ذلك أوضح وينستون تشرشل، رئيس وزراء المحافظين، دوافع بريطانيا في تلبية طموحات الصهاينة: “.. إن دولة يهودية تحت حماية التاج البريطاني.. ذات فائدة ومتوافقة مع المصالح الحقيقية للإمبراطورية البريطانية.”
تطور الصهيونية
من خلال وعد بلفور وعدت بريطانيا الصهاينة بفلسطين والأردن. ولكن الضغوط من البلاد العربية أجبرت بريطانيا على التراجع عن وعدها بخصوص الأردن عام 1922، وقبلت غالبية قيادة الحركة الصهيونية بقيادة بن جورويون ووايزمان قرار بريطانيا بالاكتفاء بفلسطين، وبعدها قبلوا قرارًا بريطانيًا آخر بالحد من هجرة اليهود إلى فلسطين. وأدى ذلك إلى انقسام كبير داخل الحركة الصهيونية، حيث اعترضت أقلية بقيادة الكاتب البولندي فلاديمير جابوتنسكي على سياسات بن جوريون “الواقعية”. رأى جابوتنسكي أن الصهاينة عليهم أن يصروا على الاستيلاء على كلا جانبي نهر الأردن وأن يرفضوا الالتزام بأية حدود تفرضها بريطانيا. و أطلقت المنظمة الصهيونية العالمية اسم “الوطن” على مستعمراتهم في فلسطين. ولكن جابوتنسكي أصر على أن يتحدث الصهاينة علنا عن هدفهم في بناء دولة يهودية في فلسطين. ووصل برنامج جابوتنسكي إلى الدعوة إلى مراجعة إستراتيجية منظمة الصهيونية العالمية، وبالتالي وصف أتباعه “بالمراجعين” في الحركة الصهيونية العالمية. وكتب جابوتنسكي بفجاجة في مقال له عام 1923 بعنوان “السور الحديدي”: “نحن لا نستطيع تقديم أي تعويض لفلسطين أو للفلسطينيين ولا العرب الآخرين. ولذا فإن التوصل إلى اتفاق طوعي أمر مستحيل، يجب أن يستمر الاستيطان حتى في أقل الحدود، تحديا للسكان الأصليين.. وبالتالي يمكنه أن يستمر ويتطور فقط تحت حماية درع القوة الذي يشمل سورًا حديديًا لا يستطيع السكان المحليين اختراقه.. هذه هي سياستنا مع العرب، وأي محاولة لصياغتها بشكل مختلف ليست إلا نفاقًا”.
كانت المؤسسات الأساسية للصهيونية العمالية في فلسطين هي الهستدروت أو الاتحاد العام للعمال في أرض إسرائيل، والكيبوتزيم أو شبكة اتحادات المستوطنين التي قارنها البعض بمجموعات الاشتراكيين المثاليين، وهاتين المنظمتين انتقلتا إلى دولة إسرائيل. ومن المذهل أن كثير من مؤيدي إسرائيل اعتبروهما تجليا للاشتراكية في المؤسسة الصهيونية، ولكن هذا جانب آخر من قصة الصهيونية حيث تصطدم الأسطورة بالواقع.
فمنذ بدايته قصر الهستدروت عضويته على العمال اليهود، ولم يسمح بضم الفلسطينيين العرب ذوي الجنسية الإسرائيلية إلا في عام 1960. وبعد عام واحد من تأسيسه امتلك الهستدروت شركة قابضة وبنك لم يأت رأس مالهما من عضويته البالغة 5000 عضو، ولكن من الوكالة اليهودية للحركة الصهيونية العالمية. بكلمات أخرى عاش الهستدروت ولازال على دوره كنافذة لاستثمارات الصهيونية العالمية وشكل العمود الفقري في التحضير للدولة اليهودية. فقد أشرف على أغلب الجهود الاستيطانية الصهيونية والإنتاج والتسويق والتوظيف وكذلك الدفاع (عصابات الهاجاناه). وقد وصفه أحد قادته الأوائل، بنحاس لافون الذي أصبح فيما بعد وزير للدفاع: “إن الهستدروت منظمة عامة تقع في القلب من مجتمعنا.. إنه ليس نقابة عمالية رغم أنه يتعامل بكفاءة مع احتياجات العمال.”
احتلال فلسطين
حاول الصهاينة إقناع العالم بأن فلسطين أرض بلا شعب، ولكن لأكثر من 1300 عام كان يعيش فيها غالبية من العرب المسلمين جنبًا إلى جنب مع اليهود والمسيحيين. وفي عام 1882 كان سكان فلسطين ينقسمون بين 500 ألف من العرب و24 ألف يهودي. وبحلول عام 1922، وبعد 20 عامًا من بدء الهجرة الصهيونية كان سكان فلسطين 760 ألف نسمة وكان 89% منهم من العرب الفلسطينيين.
زرع الصهاينة موضع قدم في فلسطين من خلال تواطؤ كبار الملاك العرب المتغيبين في العشرينات، وضمنت السلطات البريطانية نصيبًا متميزًا لهم من المياه والموارد الأساسية الأخرى.
وبعد تدعيم وضعهم في فلسطين بدأ الصهاينة في تأسيس اقتصاد يهودي مستقل وحكومة تحت إشراف الانتداب البريطاني. وتحت شعار “أرض يهودية، عمل يهودي، منتج يهودي” بدأ الهستدروت والكيبوتزيم والتعاونيات الزراعية في طرد الفلسطينيين من أعمالهم، وكان أعضاء الهستدروت هم الأعنف في مواجهة الفلسطينيين.
وناضل الفلسطينيون ضد نزع ممتلكاتهم و ضد الخطر الصهيوني الصاعد. وفي عام 1936 أعلنوا إضرابًا عامًا ضد تزايد الفقر وضد الصهاينة ومؤيديهم الإنجليز. واستمر الإضراب والانتفاضة المسلحة التي نتجت عنه قرابة الثلاث أعوام حتى أجهضا بسبب القمع الصهيوني والبريطاني. وأظهر الدور الذي لعبه الصهاينة في قمع الانتفاضة أن الصهيونية العمالية ليست لها أي علاقة بالتضامن بين العمال. فقد تعاون الصهاينة مع البريطانيين لكسر الإضراب بإحلال عمال يهود محل العمال العرب في ميناء حيفا والسكك الحديدية. كما أمد البريطانيون الميليشيات الصهيونية بالسلاح لتحطيم الانتفاضة الفلسطينية. ووصلت نسبة القوات البريطانية إلى 10 أضعاف الفلسطينيين المنتفضين ومع ذلك استمرت الانتفاضة ثلاث سنوات.
كان عنف الانتفاضة ناتجًا عن اتضاح التهديد الصهيوني لفلسطين. فعلى مدى الثلاثينات تزايد عدد السكان اليهود بمعدلات عالية. فقد توجه آلاف اليهود إلى فلسطين هربًا من الاضطهاد في وسط وشرق أوروبا خاصة وأن بريطانيا والولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية لم تسمح لهم بالدخول إليها. وفيما بين 1931 و1945 تضاعف عدد اليهود من 174 ألف إلى 608 ألف. ولكن حتى وقتها لم يكن اليهود يمثلون أكثر من ثلث السكان. وعندما أعلن قيام الدولة في 1948 كانوا أقلية قوية وجيدة التسليح. ومع تزايد السكان اليهود تزايد كذلك التحريض والاستفزاز الصهيوني ضد الفلسطينيين.
الطريق إلى النكبة
ربما بدون الهولوكوست (المحرقة أو القتل الجماعي لليهود على أيدي النازي) لما قامت الدولة الصهيونية. فقد أتى المهاجرون إلى إسرائيل من بين الآلاف الذين نجوا من الهولوكوست بعد دمار مجتمعاتهم في أوروبا. ولكن الأهم من ذلك أن الصهاينة استغلوا المحرقة لتبرير إقامة دولة يهودية. فقد أدعوا أن المحرقة قد برهنت على أن كل غير اليهود هم ضمنيا معادين للسامية. ولذا فاليهود الذين يعيشون في مجتمعات غير يهودية معرضين دائمًا للإبادة. ومع نهاية الحرب تبنت نسبة كبيرة من اليهود وجهة النظر الصهيونية، فقد كان قضاء النازية على كافة الرؤى السياسية غير الصهيونية في المجتمعات اليهودية وراء التأييد الكاسح الذي اكتسبته الصهيونية. ففي بداية الأربعينات كان النازيون يعكفون على قتل كل شيوعي أو اشتراكي أو مناضل يهودي تقع عليه أيديهم.
وأجبرت الحرب بريطانيا على الجلاء من الكثير من مستعمراتها بما في ذلك فلسطين، وتركت للأمم المتحدة تقرير مصير فلسطين. وفي نوفمبر 1947 وافقت الأمم المتحدة على خطة للتقسيم أعطت الصهاينة 55% من الأرض مع أنهم لم يكن يمثلون سوي ثلث عدد السكان. وأعلنت الخطة القدس مدينة عالمية يكون لليهود والمسلمين والمسيحيين حقوقًا متساوية فيها.
وقد وافق على هذا القرار الإجرامي الاتحاد السوفيتي وتبعه في ذلك الكثير من الأحزاب الشيوعية العربية في خيانة واضحة لقضية التحرر الوطني الفلسطيني ولكافة المبادئ الاشتراكية.
وافق الزعماء الصهاينة على خطة التقسيم في العلن فقط، لكنهم من ناحية أخرى خططوا للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية بالطرق العسكرية. واتحد الصهاينة على هدف اغتصاب البلاد، واستخدموا في ذلك الإرهاب والحرب النفسية والمذابح لإثارة الذعر بين السكان الفلسطينيين. وفي أشهر المذابح، قامت الميليشيات الإسرائيلية بقيادة مناحم بيجين واسحق شامير ـ وكلاهما احتل فيما بعد منصب رئاسة الوزراء ـ بإبادة قرية دير ياسين، ووصفت بعثة الصليب الأحمر المذبحة بأن العصابات أوقفت الرجال والنساء والأطفال ووجوههم للحائط وأطلقت عليهم الرصاص. وفي أعقاب المذبحة استغل الصهاينة التهديد بالمذابح لإجبار الفلسطينيين على ترك ديارهم وأراضيهم.
ومع نهاية الحرب سيطر الصهاينة على 77% من أراضي فلسطين وبها 95% من أجود الأراضي الزراعية في البلاد، واستولت الدولة الصهيونية على 80% من الأراضي المملوكة للفلسطينيين وطردت أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم وأحلت اليهود مكانهم.
ومنذ ذلك الحين تلعب الدولة الصهيونية دور كلب الحراسة للاستعمار في منطقتنا. فهي ليست سوى معسكر استيطاني يخدم المصالح الامبريالية البريطانية سابقًا والأمريكية حاليًا. وقد استخدمت وما زالت تستخدم تلك الإيديولوجية العنصرية الصهيونية لتبرير جرائمها ولتوحيد صفوف مستوطنيها ضد الجماهير الفلسطينية والعربية. وعلينا دائمًا في نضالنا ضد الصهيونية أن نفرق بين اليهودية والصهيونية وألا نرى الصهيونية كامتداد للدين اليهودي بل نراها على حقيقتها كحركة رجعية نشأت بين جاليات يهودية بعينها في أوروبا الشرقية واستخدمها وما زال يستخدمها الاستعمار لكسر آمال الجماهير الفلسطينية والعربية عمومًا في التحرر.
5. المقاومة والطائفية في الشرق الأوسط
ليس من قبيل المصادفة أن منطقتنا هي مركز مقاومة الإمبريالية. فالمنطقة تعاني أكثر من غيرها من الهيمنة الإمبريالية. ومن ثم فمن الطبيعي أن تكون هي رأس الحربة في المقاومة. فمنذ عقود طويلة والمنطقة بمفهومها التقليدي، أو بمفهومها “الكبير” الذي يمتد ليشمل إيران وما حولها من الدول الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي، إلى جانب باكستان وأفغانستان وتركيا، هي بؤرة الصراع في العالم. فعلى أرض تلك المنطقة تم خوض معظم الحروب الكبرى خلال أكثر من نصف قرن، بداية من حرب فلسطين 1948، ثم العدوان الثلاثي 1956، والحرب العربية الصهيونية 1967، وحرب أكتوبر 1973، والحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، والعدوان الصهيوني على لبنان 1982، وحرب الخليج الثانية 1991، وحرب أفغانستان 2001، والحرب على العراق 2003، وأخيرا الحرب الصهيونية على لبنان 2006. كما أن هذه المنطقة هي عامل أساسي في استراتيجيات الدول الإمبريالية وفي الصراع بينها. كذلك يظل الشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة التي لازال بها النموذج الفريد للاستعمار الاستيطاني، متمثلا في الدولة الصهيونية التي زرعها الاستعمار للعب دور الحارس في مواجهة أي توجه معاد له.
الإمبريالية والنفط
وفي الوقت الراهن تكمن أهمية المنطقة في عامل أساسي هو النفط. والنفط ليس مثل أية سلعة أخرى. فهو مصدر الطاقة الرئيسي في العالم، وهو يختلف عن الثروات الأخرى التي زخرت بها المستعمرات. فقد استطاعت الدول الاستعمارية تطوير بدائل لهذه الثروات مما كان أحد الأسباب وراء قبولها التخلي عن المستعمرات مع تصاعد حركات التحرر الوطني. لكن هذا لم يكن ممكنا بالنسبة للنفط آنذاك. كما إنه ليس ممكنا اليوم، بل وليس من المتصور أن يتم في المدى المنظور إنتاج بديل له بنفس التكلفة.
وتحوي منطقة الشرق الأوسط ثلثي احتياطي النفط العالمي. والدول الخمس التي تتمتع بأكبر احتياطي هي دول شرق أوسطية، تتمثل على الترتيب في السعودية والعراق والإمارات والكويت وإيران. ولذلك ارتبط مصير المنطقة بصناعة النفط منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. حيث أعطى انهيار الإمبراطورية العثمانية فرصة للدول الكبرى وشركات النفط لتوزيع الثروة النفطية فيما بينها.
وفي أعقاب الأزمات التي واجهت الإمبريالية منذ الخمسينات فصاعدا ــ تأميم مصدق للنفط في 51 وفشل العدوان الثلاثي 1956 وحظر الدول العربية تصدير النفط في أكتوبر 1973 ثم الثورة الإسلامية في إيران 1979ــ أصبحت مسألة تأمين مصادر النفط مسألة أمن قومي أمريكي، وهو ما برز في التحالف الاستراتيجي بين أمريكا الدولة الصهيونية، وتوطد العلاقات الأمريكية السعودية، ودعم صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية.
وبالرغم من ذلك، فإن السيطرة على النفط تعد مسألة حيوية بالنسبة للإمبريالية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. ولا يعني ذلك ببساطة مجرد السيطرة على أسعار النفط في حدود منخفضة لا تشكل عبئا ــ لأنه أحيانا يصبح من مصلحة الولايات المتحدة رفع أسعار النفط إذا كان ذلك سوف يضر المنافسين ــ أو تحقيق أرباح لشركات النفط الأمريكية عن طريق السيطرة على مصادره، ولكن وراء السيطرة على الأسعار والمصادر تأتي مسألة خلق مناخ مستقر في داخل الولايات المتحدة وخارجها يسمح للرأسمالية الأمريكية ككل بالتراكم والتوسع والحفاظ على الأرباح.
وفي نفس السياق تأتي أهمية السيطرة على النفط المتاح بالنسبة للدول المنافسة، وإجبار تلك القوى على قبول السياسات الأمريكية في المجالات الأخرى، وتقديم التنازلات للشركات الأمريكية، ودعم الاقتصاد الأمريكي لإخراجه من عثرته. وتصبح المسألة مصيرية بدرجة أكبر في ظل الهوة المتزايدة بين قوة الولايات المتحدة من الناحية العسكرية وقوتها من الناحية الاقتصادية. فعلى الصعيد العسكري، تملك هذه الدولة ترسانة من الأسلحة التقليدية والنووية تتفوق على كافة المنافسين. لكنها من الناحية الاقتصادية تواجه منافسة متزايدة من أوروبا ــ ألمانيا تحديدا ــ والصين واليابان. وقد خلق هذا الوضع اختلالات مهمة في الاقتصاد الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بعجز ميزان المدفوعات.
وكان طبيعيا في ظل هذا الوضع، وفي ظل الضغوط التي تفرضها الأزمة، أن تسعى الإمبريالية الأمريكية إلى الاعتماد على مجال التفوق الأساسي لديها، وهو القدرة العسكرية، لتعويض ضعفها الاقتصادي في مواجهة المنافسين ـ وهو ما حدث في العراق بشكل واضح، وفي أفغانستان بطريقة أقل وضوحا، حيث طغت أحداث الحادي عشر من سبتمبر على الأهداف الحقيقية للحرب. ومع زيادة حدة المنافسة نصبح بصدد سيناريو حرب لا نهاية لها، تسعى بموجبه الولايات المتحدة إلى زيادة إنفاقها العسكري حتى تتمكن من الهيمنة في المجال الاقتصادي. لذلك يرى البعض أن حرب العراق لن تكون الأخيرة، أو على الأقل لم يكن مخططا لها أن تكون الأخيرة. فاليوم العراق، وغدا إيران ثم سوريا. ويجري تبرير هذا السيناريو بما يسمى الحرب على الإرهاب، والتصدي للدول المارقة.
من هنا يمكن فهم لماذا تدفع منطقتنا الثمن الأفدح لمظالم الإمبريالية. فالمسألة ليست مؤامرة على العرب والإسلام كما ترى بعض التيارات القومية والإسلامية، وإنما تصادف أن هذه المنطقة تتركز بها الثروة الطبيعية الأهم بالنسبة لنمو الرأسمالية، لذلك كان يجب أن تظل خاضعة. وفي هذا السياق يأتي الدعم المطلق لإسرائيل ورفض تقديم أية تنازلات على صعيد الحقوق الفلسطينية، ومساندة النظم الاستبدادية الفاسدة في مواجهة شعوبها، والمسارعة لاحتواء أي خطر يبدو في الأفق، مثلما حدث مع إيران مؤخرا حين سُمح لإسرائيل بالعدوان على لبنان بهدف القضاء على حزب الله، وعندما فشل العدوان، أصبح هناك تفكير جدي في توجيه ضربة عسكرية مباشرة للمنشآت النووية الإيرانية.
ومن هنا أيضا يمكن أن نفهم لماذا تمثل المنطقة رأس الحربة في مواجهة الإمبريالية. وهذا ليس جديدا. لكن الذي تغير اليوم عن الأمس هو سمات المقاومة وتوجهاتها.
بين العلمانية والإسلامية
حركات المقاومة، كما نراها اليوم ممثلة في حزب الله وحماس والمقاومة العراقية وحركة طالبان الأفغانية، تختلف في كثير من جوانبها مثلا عن الحركات العربية المعادية للاستعمار التي برزت في النصف الثاني من القرن العشرين، وأهمها جبهة التحرير الوطني الجزائرية وحركة فتح والجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل التي اتخذت من عدن قاعدة لعملياتها ضد الاحتلال البريطاني.
وفي الحقيقة، فإن هناك تشابها أساسيا يتمثل في الدور المحوري الذي لعبته الطبقة الوسطى في قيادة حركات المقاومة الحالية والسابقة، وهو ما سيأتي ذكره لاحقا. لكن اختلافا مهما في التوجهات قد طرأ على طبيعة المقاومة. فقد اتخذت حركات المقاومة في حقبة الخمسينات والستينات طابعا قوميا علمانيا، وأحيانا يساريا، بفعل عديد من العوامل.
فمن جهة كان هناك مشروع تحرري وليد يقوم على التخلص من السيطرة الاستعمارية وتحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة عن طريق سياسة إحلال الواردات وتبني سياسات اجتماعية تحقق قدرا من العدالة عبر تطبيق إصلاح زراعي وإعادة توزيع الثروة عن طريق التأميمات وتعزيز دور الدولة في تقديم الخدمات مثل الصحة والتعليم والوظائف. وقد استطاع هذا المشروع، العلماني في طابعه، أن يجذب قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي وجدت في السيطرة الاستعمارية عائقا أمام اضطلاعها بالدور الذي تطمح من خلاله في قيادة بلادها. لذلك نجد أن القادة السياسيين والعسكريين لحركة فتح كانوا من المهنيين ــ ياسر عرفات كان مهندسا عمل فترة في الخليج ــ كما أن كثير من قادة الجبهة الوطنية الجزائرية مثل أحمد بن بله وهواري بومدين والعربي بن مهيدي كانوا من الطلاب. وقد استطاع المشروع القومي التحرري أن يكون في قلب توجهات هذه الحركات.
ومن جهة أخرى، ارتبطت علمانية المقاومة بالدعم الذي أعطته الدولة الستالينية وحلفاؤها للبرجوازية الصغيرة والطبقات الوسطى الراغبة في التحرر من الإمبريالية. ومن ثم فقد كان المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق مصدر دعم بالتسليح والتدريب للكثير من حركات التحرر. فالثورة الجزائرية تلقت المساعدات من هذه الدول عن طريق مصر، كما أن حركة فتح تلقت الأسلحة والتدريب من الاتحاد السوفيتي، وأحيانا الصين، وكذلك الثورة اليمنية.
من ناحية ثالثة، كان للشيوعيين تأثير مهم في الكثير من حركات المقاومة. ففي ثورات العراق ضد الاحتلال وملاك الأراضي وكبار التجار، والتي امتدت من عام 1945 وحتى 1958، تطلع الآلاف صوب الحزب الشيوعي. وكان للشيوعيين نفوذا في حرب التحرير اليمنية، بينما ضمت منظمة التحرير الفلسطينية فصائل ماركسية على رأسها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
غير أنه مع نهاية حقبة السبعينات تخلت حركات المقاومة عن طابعها القومي العلماني واتخذ كثير منها طابعا إسلاميا. وكان ذلك مرتبطا بفشل المشروع الوطني التحرري في دول العالم الثالث بشكل عام وفي المنطقة بشكل خاص. فقد تبنت كثير من الدول، منها مصر والهند والأرجنتين، نموذج إحلال الواردات باعتباره طريقا للتنمية يقوم على نوع من الانفصال عن المراكز الكبرى في النظام العالمي. غير أنه سرعان ما وجدت هذه الدول نفسها عاجزة عن توفير الموارد اللازمة لتمويل عملية التنمية تلك. كما ثبت لمعظم هذه القوى الناشئة أنها غير قادرة على المنافسة وأن هناك حدودا لما يمكن أن تقوم به في عملية التصنيع. من ناحية أخرى، كان لمنطقة الشرق الأوسط وضعا خاصا في هذه العملية. حيث أدت هزيمة يونيو 1967 المدوية وضياع فلسطين بالكامل إلى إظهار إفلاس هذا النموذج الوطني الاستقلالي بشكل لا يقبل المناقشة. ثم جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية 1979 لتمثل نموذجا ملهما للقوى المناهضة للإمبريالية.
وفي هذا السياق نشأ حزب الله في لبنان عقب الغزو الإسرائيلي عام 1982 من رحم حركة تهدف إلى تحسين وضع الشيعة الذي كانوا وما زالوا في قاع الهرم الطبقي في لبنان. واستلهم الحزب النموذج الإيراني منذ نشأته، واضعا هدف إقامة الدولة الإسلامية على نمط ولاية الفقيه على رأس أهدافه، قبل أن تجبره الأوضاع الداخلية والإقليمية على التخلي عن هذا الهدف والانغماس في الواقع السياسي اللبناني. وخلال سنوات قليلة برز الحزب على رأس حركات المقاومة اللبنانية، وكان له الدور الأساسي في خروج قوات الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان عام 2000.
وفي فلسطين أُعلن عن تشكيل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) رسميا في ديسمبر 1987 في إطار الضعف الذي شاب منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المختلفة عقب الصلح بين مصر وإسرائيل وحصار المقاومة الفلسطينية في بيروت وخروجها من لبنان. فقد اعتبرت الحركة، كما ورد في بيانها التأسيسي، أن منظمة التحرير أصبحت تبدي استعدادا لقبول حلول وسط والتخلي عن حق إقامة دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني. ويشير البيان التأسيسي إلى أن الحركة هي “جزء من حركة النهضة الإسلامية، تؤمن أن هذه النهضة هي المدخل الأساسي لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وهي.. تعبير عملي عن تيار شعبي واسع ومتجذر في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية يرى في العقيدة والمنطلقات الإسلامية أساسا ثابتا للعمل ضد عدو يحمل منطلقات عقائدية ومشروعا مضادا لكل مشاريع النهوض في الأمة”. أما حركة الجهاد الإسلامي، التي يقتصر دورها على العمل المسلح، فقد تألفت من طلبة سابقين درسوا في مصر في نهاية السبعينات استلهموا نموذج الجماعة الإسلامية والجهاد في مواجهة نظام السادات.
وفي أفغانستان، انبثقت الحركة الإسلامية لطلبة المدارس الدينية (طالبان) في أتون الحرب الأهلية التي اندلعت بين الفصائل الأفغانية عقب زوال لاحتلال السوفيتي (1979 – 1989). فقد نشأت الحركة في منتصف عام 1994 بولاية قندهار جنوبي أفغانستان بقيادة طلبة المدارس الدينية الذين كانوا يدرسون في باكستان، واستطاعت السيطرة على 90% من الأراضي الأفغانية بحلول نهاية التسعينات، وذلك بدعم قوي من باكستان التي كانت ترغب في إيجاد بديل أقوى من حكمتيار الزعيم الأفغاني المعارض لحكومة الرئيس برهان الدين رباني وأحمد شاه مسعود، وبغض الطرف من جانب الولايات المتحدة التي كانت ترغب في مواجهة النفوذ الإيراني.
وأخيرا فرغم أن حركة المقاومة العراقية لا تحمل طابعاً إسلامياً صرفاً، إلا أن المكون الإسلامي فيها يعد رئيسياً. فالمقاومة العراقية التي تتألف من نحو 50 خلية وفقا لبعض التقديرات، تضم في صفوفها البعثيين والسلفيين الإسلاميين ورجال العشائر إضافة إلى دور محدود لفصائل يسارية وعلمانية أخرى.
فلقد كان من مآسي المرحلة البعثية انهيار كافة الآمال المتعلقة بالتحرر والتنمية. فرغم أن نظام البعث حدّ من سلطة كبار الملاك عن طريق إجراء إصلاح زراعي في نهاية الستينات، وساعد على خلق طبقة متوسطة جديدة، وسمح بإعادة توزيع بعض الثروات على الطبقة العاملة عقب تأميم النفط عام 1972، إلا أن المغامرات التي قام بها صدام حسين في إيران ثم الكويت، والهجوم الإمبريالي الوحشي على الشعب العراقي، قضيا على كافة إمكانيات النهضة ووضعا الشعب العراقي تحت نير عقوبات أودت بحياة نحو مليون شخص. وقد كان لانهيار مؤسسات الدولة في العراق في عقد التسعينات أثرا على تنامي دور المؤسسات السنية والشيعية الخيري، ومن ثم ساعد على الصعود السريع لرجال الدين السنة والشيعة وبروزهم السياسي في أعقاب سقوط صدام حسين.
وإذا كانت مظهر الاختلاف الأساسي بين حركات المقاومة الحالية وتلك التي انبثقت من نصف قرن هي غلبة النفوذ الإسلامي على الأولى والميل القومي العلماني للثانية، فإن السمة المهمة الأخرى هي افتقاد المقاومة في وقتنا الحالي إلى مشروع اجتماعي بديل عن المجتمع الراهن.
تستمد حركات المقاومة دعمها الجماهيري الواسع في أحيان كثيرة من القدرة على لعب دور مساعد للدولة، أو بمعنى أصح دور يقوم بملء الفراغ بالنسبة للدور المفترض للدولة والمتعلق بتقديم الخدمات للجماهير الفقيرة. ولعل النموذج الأكثر دلالة على هذا التوجه هو حزب الله الذي يسيطر على شبكة واسعة للرفاهة تضم عيادات ومستشفيات ومدارس وتعطي منحا دراسية ومساعدات للفقراء. وأصبحت كثير من التقديرات تشير إلى أن تلك الشبكة، التي يستفيد منها بشكل أساسي الشيعة في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع الشرقي، تلعب دورا يفوق ذلك الذي تلعبه مؤسسات الدولة في هذه المناطق. ويعتمد الحزب في تمويل هذه الشبكة على الدعم الإيراني والإعانات من أفراد وجماعات وشركات وبنوك في لبنان والخارج، وكذلك المشروعات الاستثمارية الواسعة التي يديرها.
كذلك اضطلعت حركة حماس بنشاط خيري واسع في قطاع غزة الذي يعد من أكثر المناطق فقرا في العالم. فبينما كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تطارد فصائل المقاومة العلمانية واليسارية التي كانت تقوم بهجمات مسلحة ضد قوات الاحتلال في الثمانينيات، سمحت هذه القوات للنشطاء الإسلاميين بالعمل في المجال الخيري. كذلك فقد برز الدور الاجتماعي لحماس بوضوح عقب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، مع التدهور الكبير في حياة سكان القطاع بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل وانهيار مؤسسات السلطة الوطنية.
وهكذا فإن المقاومة اليوم تميل، على الصعيد الاجتماعي والطبقي الداخلي، إلى لعب دور المؤسسة الخدمية العملاقة، وهو ما يحتاج إلى ارتباطات قوية بأجهزة دول قائمة وبرجال أعمال، أي يحتاج إلى خلق روابط مع المجتمع الرأسمالي القائم ومؤسساته، بدلا من طرح إستراتيجية تغيير اجتماعي جذري تربط بين مقاومة الإمبريالية والنضال ضد الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة.
معضلات المقاومة اليوم
يصعب إنكار أن المقاومة في منطقتنا تلعب الدور الأساسي في مواجهة خطط الإمبريالية. كما يصعب إنكار أنها هي التي تمنع الإمبريالية من المزيد من التوسع. فعلى صعيد الوضع في العراق لا يختلف الكثيرون، حتى المؤيدين للاحتلال، أن العراق قد أصبح مستنقعا لأمريكا التي أصبحت غير قادرة على اتخاذ قرار التراجع رغم صعوبة الاستمرار في ظل الخسائر المادية والبشرية المرتفعة. وفي لبنان حقق حزب الله ما لم تحققه أية دولة عربية في صراعها مع إسرائيل، عبر الصمود وإجبار الجيش الإسرائيلي على التراجع دون تحقيق أهدافه. وفي أفغانستان تصاعدت في الأشهر الأخيرة عمليات المقاومة ضد قوات حلف الناتو وحكومة الدمى برئاسة حميد كرزاي، التي لا تسيطر الآن عمليا إلا على العاصمة كابول وبعض المناطق المحيطة بها. وفي فلسطين، فرغم صعوبة الظرف الذي تواجهه المقاومة بسبب الخلل الهائل في ميزان القوى والحصار الذي تواجهه من جانب إسرائيل والنظم العربية المتحالفة مع أمريكا والصهيونية، إلا أنها نجحت في إجبار شارون على الانسحاب من غزة في عام 2005.
لكن هذه النجاحات أصبحت في المرحلة الحالية تواجه تحديات مصيرية تهدد بحدوث نتائج كارثية أبرزها خطر الحرب الأهلية.
ففي العراق اندلعت شرارة المقاومة في أبريل 2003 حينما أطلقت القوات الأمريكية النار على متظاهرين في الفلوجة مما أودى بحياة 13 شخصاً. ويشير أحد التقارير إلى أنه حتى نهاية 2004 استهدفت 75% من العمليات المسلحة قوات الاحتلال، فيما استهدف جانباً مهماً من العمليات الباقية المتعاونين والشرطة العراقية. وفي أبريل من نفس العام، حينما شن الجيش الأمريكي هجومه الأول على الفلوجة، انهالت المساعدات على المدينة من المناطق الشيعية، وأقيمت الصلوات المشتركة بين السنة والشيعة، ورفضت أحدى كتائب الجيش الشيعية التوجه إلى الفلوجة لقمع المقاومة. وتحدث كثيرون آنذاك عن وجود تعاون بين قوات جيش المهدي التابعة للزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، التي كانت تقاوم الاحتلال في النجف، وبين الجماعات المسلحة السنية.
غير أن الصورة تغيرت كثيراً في عام 2006، وخاصة عقب الهجوم على ضريح الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في مدينة سامراء السُنية في فبراير. فقد تلا هذا الهجوم على الضريحين الشيعيين تنفيذ هجمات على نحو 170 مسجدا سُنياً، وتم نسف بعض هذه المساجد واستولى الشيعة على البعض الآخر. ومنذ ذلك الحين بدأت الأحياء المشتركة تختفي من بغداد، حيث تعرضت أحياء العاصمة وضواحيها لعمليات تطهير طائفي اضطرت السكان السُنة في الأحياء ذات الأغلبية الشيعية والعكس إلى هجر مناطق إقامتهم وسط تهديدات بالقتل، وتواترت الأنباء عن مشاركة جيش المهدي – الذي يضم عشرات الآلاف من المقاتلين – في عمليات التطهير تلك بغرض إخلاء العاصمة من السُنة، وبرزت عصابات الموت التي تقتل السنة، واتسعت الهجمات على المساجد الشيعية والسنية.
وفي فلسطين، شهدت الأشهر القليلة الماضية صراعاً دامياً بين نشطاء حركتي فتح وحماس راح ضحيته العشرات بين قتلى وجرحى، وسط خلافات حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وفي ظل حصار إسرائيلي وأمريكي على الأراضي الفلسطينية منذ مارس الماضي حينما شكلت حماس الحكومة الفلسطينية بعد نجاحها الانتخابي.
وفي لبنان، ورغم الطبيعية السياسية للصراع بين الحكومة والمعارضة، إلا أن التركز الطائفي النسبي للفريقين جعل الحديث عن الحرب الأهلية إحدى السيناريوهات المطروحة لتطور النزاع.
وفي أفغانستان، رغم عدم توفر معلومات دقيقة، فإن حركة طالبان السنية المنتمية إلى قومية البشتون، قد اتخذت منذ نشأتها طابعا قبليا وطائفيا، وقامت بشن الهجمات ضد الشيعة والقوميات الأخرى، وهو الأمر الذي تستخدمه قوات الاحتلال لإضعاف المقاومة وكسب أنصار محليين لها من معارضي طالبان.
بالقطع لا يمكن تجاهل الدور الذي تقوم به الإمبريالية وحلفائها في تعزيز النزعات الطائفية داخل حركات المقاومة لتحويل الصراع السياسي والاجتماعي إلى صراع طائفي. وهذه العملية ليست جديدة. حيث تم في لبنان بناء النظام السياسي على أساس طائفي على يد الاستعمار الفرنسي. والآن، لا شك أن عملاء أمريكا وإسرائيل يسعون إلى جرف النزاع السياسي إلى نزاع طائفي عن طريق الاغتيالات المتكررة. وفي العراق، منذ أن بدأت أمريكا في تجميع الفصائل العراقية في الخارج، اتخذت العملية أساسا طائفيا وعرقيا. وعقب الغزو، تم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أسس طائفية. ولا شك في أنه عندما تتم إقامة النظام السياسي على أساس طائفي، يصبح من الصعب للغاية التخلي عن ذلك، خاصة وأن الزعامات السياسية والدينية التي عادت إلى العراق مع الاحتلال، قد بنت نفوذها الجماهيري على أسس طائفية، ومن ثم فمن مصلحتها استمرار هذا الوضع. والآن، فإنه من الغني عن القول أن الاحتلال مخترق لجماعات المقاومة العراقية ويلعب دورا تخريبيا في تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية. كما أن قوات الاحتلال وحكومة نوري المالكي تتبعهما عصابات الموت الخاصة بهما، والتي تمارس عمليات قتل طائفي.
وفي فلسطين، لا يمكن أيضا إغفال الدور الذي تقوم به أمريكا والدول المجاورة لفلسطين في دعم السلطة الفلسطينية الممثلة في فتح ومدها بالسلاح كي تواجه حماس.
لكن مع ذلك، لا يمكن إنكار أن حركات المقاومة يعتريها ينقصها القدرة على تطوير مشروع نضالي اجتماعي قادر على تجاوز الوضع الراهن ودفع المجتمع بأكمله إلى الأمام. وبالطبع لا يمكن المساواة هنا بين كافة حركات المقاومة. حيث أن حزب الله على سبيل المثال يختلف كثيرًا عن حركة طالبان من حيث وجود رؤية سياسية واجتماعية، وهو ما عبرت عنه مواقف الحزب الرافضة لخطط التقشف المدعومة من البنك الدولي التي طرحتها حكومات رفيق الحريري. في حين أنه لم ترد أية إشارات حول وجود رؤى أو أهداف اجتماعية لحركة طالبان وغالبية جماعات المقاومة العراقية.
لكن مع ذلك يبقى حزب الله، الذي قد لا يختلف الكثيرون على أنه أرقى نماذج المقاومة من حيث التماسك ووضوح الرؤية، غير قادر حتى هذه اللحظة على الأقل، على تبنى رؤية اجتماعية تدفع اللبنانيين إلى تجاوز الانتماءات الطائفية لصالح مشروع طبقي واضح ضد الاستغلال. وقد برز ذلك بوضوح خلال الصراع الأخير بين الحكومة والمعارضة في لبنان. فبالرغم من أن الجانب الاجتماعي لم يكن غائبا عن النزاع، بدليل مشاركة الحزب الشيوعي واتحاد العمال في اعتصامات المعارضة، إلا أن حزب الله حرص من خلال الدعاية وخطب السيد حسن نصر الله على إبراز الخلاف السياسي وحده، دون أية محاولة لتبني موقف طبقي يمكن أن يساهم في قسم المجتمع عرضيا بين من يملكون ومن لا يملكون، وهو ما كان يمكن أن يسهم في تعبئة فقراء لبنان وراء الحزب. والأكثر من ذلك أن الحزب تحالف بشكل أساسي في الأزمة الأخيرة، كما في الانتخابات اللبنانية التي جرت قبل نحو عامين، مع التيار الوطني الحر بقيادة ميشيل عون، الزعيم المحافظ المتحالف مع الإمبريالية.
كل ذلك لا يمكن فصله عن الأساس الطبقي للحزب، الذي تقوده شريحة من مهنيي الطبقة الوسطى ــ مهندسون وأطباء ومحامون وغيرهم ــ التي خبرت حراكا اجتماعيا لأعلى عبر قيامها بدور أساسي في تقوية الشبكات الاجتماعية التي يبنيها الحزب. من ناحية أخرى، فإن ارتباط الحزب الوثيق بالنظام الرأسمالي القائم، سواء عبر الاعتماد على الصفقات الداخلية والخارجية في الحصول على الدعم السياسي والمعنوي، أو عبر الاعتماد على شبكة المشروعات التي يديرها ــ كما سبقت الإشارة أعلاه ــ يدفعه حتما إلى اتخاذ موقف اجتماعي محافظ. وفي هذا السياق، نرى أن البرنامج الانتخابي للحزب لم يتجاوز الدعوة إلى توسيع خدمات الصحة والتعليم والمطالبة بإشراك أناس أكفاء في مشروعات التنمية ومواجهة الفساد وتطوير المحليات وغيرها من المطالب التي تعبر عن التوجه الاجتماعي المحافظ للحزب.
ولا تختلف المسألة بالنسبة لحركة حماس التي تضمن الجانب الاجتماعي من برنامجها الانتخابي تشجيع الاستثمارات ومحاربة البطالة والفقر وتحسين الخدمات…إلخ، وهي أهداف يمكن أن ترد في برنامج أي حزب ليبرالي. ولا يبدو ذلك مستغربا أيضا لاعتماد حماس على الطبقة الوسطى من مهنيين ومثقفين ورجال دين، إضافة إلى رجال الأعمال.
وكما سبق القول، فإن الرؤية الاجتماعية لهذه الحركات تقوم على لعب دور بديل للنظام القائم عن طريق تقديم الخدمات والمساعدات التي لا ترغب الدولة في تقديمها، وذلك عن طريق تلقي التبرعات والإعانات من جهات داخلية وخارجية هي بالضرورة محافظة. ويبدو الأمر أكثر وضوحا إذا قارنا رؤى حركات المقاومة الآن بالبرنامج الاجتماعي للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل التي خاضت مقاومة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن انطلاقا من عدن في الفترة 1963-1967. فقد تضمن برنامج الجبهة إجراء إصلاح زراعي يحرر غالبية الفلاحين من استغلال ملاك الأرض، وتأميم المشروعات الأجنبية، وتغيير النظام الاقتصادي في جنوب اليمن عن طريق إنهاء الاعتماد على الميناء الحر في عدن. وهنا تنبغي الإشارة إلى أنه رغم أن قادة الجبهة كانوا ينتمون إلى الطبقة الوسطى، فإن وجود مشروع تحرري اجتماعي وتأثير العناصر الشيوعية وما كان يعرف بالدول الاشتراكية لعب دورا أساسيا في إضفاء نوع من الراديكالية الاجتماعية على الحركة وحركات المقاومة عامة في ذلك الحين كما سبقت الإشارة.
لكن تبني المقاومة لمشروع اجتماعي تحرري ليس مسألة ترفيه، بل هو ضرورة. حيث أن غياب هذا المشروع يحد من تأثيرها الجماهيري ويجعلها عرضة للانزلاق إلى هاوية الصراع على أساس المذهب أو الانتماء العشائري أو حتى بسبب اختلاف الرؤى السياسية. وتتمثل خطورة اللحظة الراهنة في صعود المذهبية في المنطقة بشكل خطير وربما غير مسبوق منذ زمن طويل. ويرجع ذلك من جهة إلى دور الإمبريالية في تأجيج حدة الانقسام الطائفي، والصراع بين القوى الإقليمية، الذي يتخذ بعدا مذهبيا واضحا كما في حالة إيران، ودور الحكام العرب في الترويج لهذا المناخ الانقسامي الطائفي، عن طريق الحديث عما يسمى بالهلال الشيعي والخطر الإيراني، بهدف توجيه اهتمام الجماهير إلى مخاطر وهمية بدلا من الانتباه إلى المأساة الحقيقة التي تواجهها هذه الشعوب في ظل أنظمة الحكم الفاسدة والمستبدة، وغياب البديل اليساري بتنويعاته المختلفة التي عملت في حقب سابقة على مساعدة الجماهير على تجاوز الانتماءات الطائفية والمذهبية. ولعله ليس من المبالغة القول أن مستقبل المقاومة، وقدرتها على الصمود في مواجهة الإمبريالية والنظم المتحالفة معها في المنطقة، يتوقف إلى حد كبير على قدرتها على التعبير عن آمال الغالبية الساحقة من الجماهير الفقيرة في التحرر من الاستغلال والقهر.
دور اليسار
ارتكب اليسار في منطقتنا أخطاء كارثية خلال ما يزيد عن نصف قرن، لم تؤد إلى اهتزاز صورته ومصداقيته في عيون الجماهير فحسب، ولكن أيضا إلى زوال تأثيره بينهم.
أول هذه الأخطاء كان الخضوع للنظم القومية العلمانية دون قيد أو شرط، وذلك بناء على الرؤية التي فرضها الاتحاد السوفيتي السابق حول “الطريق اللا رأسمالي للتحول الاشتراكي”، و ”الجبهة الشعبية” و”التحالف مع البرجوازية الوطنية”. ففي مصر حل الشيوعيون حزبهم في 1965 بزعم أن نظام عبد الناصر يسير في طريق الاشتراكية. وفي العراق تحالف الحزب الشيوعي ــ أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم العربي والذي كان مؤيدوه يقدرون بمئات الآلاف ــ مع عبد الكريم قاسم وتعامل مع عبد الكريم قاسم معاملة الأبطال في بدايات الثورة. كما تلقى الحزب توجيهات من موسكو بعدم إرباك موازين القوى الهشة مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عن طريق إثارة صراع على السلطة في العراق. وقد اتضح آخر الأمر أن انتصار عبد الكريم قاسم كان وبالا على الحزب الشيوعي. حيث قام بتنحية مؤيدي الحزب من الحكومة وطهر الجيش من نشطائه. وأدى ذلك إلى إضعاف الحزب إلى أن انتهى به الأمر بلا وسيلة لتعبئة الجماهير في مواجهة الانقلاب الذي قام به حزب البعث عام 1963. وتكرر الخطأ عندما تحالف الحزب الشيوعي مع حزب البعث. حيث قبل أن يكون شريكا أصغر في الحكومة عام 1972. لكن ذلك لم يمنع البعث من الانقلاب على الشيوعيين عام 1978 وإعدام الآلاف منهم وإلقاء آلاف آخرين في السجون.
وفي سوريا تحالف الحزب الشيوعي مع حزب البعث فيما سُمى الجبهة الوطنية التي جعلت من القوى السياسية المشاركة بمثابة ملحقات بالبعث إلى يومنا هذا.
الخلاصة أن اليسار في تلك الدول فشل في إدراك الطبيعة المتناقضة للنظم القومية العلمانية. فصحيح أن تلك النظم كانت معادية للإمبريالية. لكنها أيضا كانت صاحبة مشروع طبقي خاص، هو مشروع رأسمالية الدولة الذي لا يختلف جذريا مع التصور الاشتراكي لتغيير المجتمع فحسب، ولكنه أيضا قد ينزع إلى إيجاد قنوات للاتصال مع الإمبريالية حينما يكون ذلك مفيدا. وكانت نتيجة هذا التحالف غير المشروط اهتزاز صورة اليسار في أعين الجماهير.
أما الخطأ الثاني الرئيسي فهو يتعلق بالموقف من الحركات الإسلامية. فقد ترتب على التحليل الذي يعتبر أن الحركات الإسلامية هي حركات فاشية أن أصبحت مواجهة الإسلاميين على رأس الأولويات وتهون في سبيلها كل الصعاب، حتى لو كان ثمن ذلك الوقوف في معسكر الدولة الاستبدادية المتحالفة مع الإمبريالية.
اعتمدت رؤية “فاشية الحركة الإسلامية” على أنها حركة تتبنى شعارات دينية متطرفة تعبر بشكل رجعي فاشي عن معاناة الطبقة الوسطى الجديدة، المتمثلة في المهنيين والمتعلمين، والقديمة المتمثلة في البرجوازية الصغيرة من أصحاب المحلات والمشروعات الصغيرة، وقت الأزمة الرأسمالية. الجانب الصحيح في هذا التحليل هو أن الحركة الإسلامية هي تعبير عن معاناة الطبقة الوسطى من تناقضات المجتمعات الرأسمالية في منطقتنا. فعلى المستوى الخارجي، ورغم حصول دول المنطقة على الاستقلال، إلا أن الإمبريالية لازالت تسيطر على ثرواتها وأهمها النفط. وعلى المستوى الداخلي، فرغم التوسع في الدور الاقتصادي للدولة عبر إنشاء الصناعات العملاقة، إلا أن الإنتاج الحرفي الصغير والعائلي لازال يلعب دورا مهما في المجتمع. ورغم أن التوسع في التعليم أدى إلى تخرج مئات الآلاف وربما الملايين من الجامعات، فقد أدى فشل الدولة في خلق الوظائف الملائمة إلى توجه الكثير منهم للعمل في مهن تقل كثيرا عما كانوا يطمحون إليه. وفي الريف، رغم أن الإصلاح الزراعي أفاد قطاعات من الفلاحين، فقد وجدت قطاعات أخرى نفسها بلا أرض أو تحوز قطع أرض لا تكفي للإعالة مما ترتب عليه هجرة الكثير منهم إلى أطراف المدن للبحث عن عمل. الحركة الإسلامية هي استجابة لهذا الواقع الذي زاد صعوبة وتوحشا مع الأزمة الاقتصادية في الثمانينات ثم مع تبني الليبرالية الجديدة في التسعينات وما بعدها.
لكن هذا التحليل يتجاهل مسألة أساسية، هي أن الفاشية ليست مجرد حركة طبقة وسطى تعبر عن أزمة النظام الرأسمالي وترفع شعارات ضد الأقليات أو النساء. الحركات لا تصبح فاشية إلا عندما تلعب دورا لصالح رأس المال، أي عندما تسعى إلى مساعدة الطبقة الرأسمالية على الخروج من أزمتها على حساب الطبقة العاملة. لذلك وجهت المنظمات الفاشية في ألمانيا وإيطاليا سهامها إلى اتحادات العمال والشيوعيين. لكن الوضع يختلف بالنسبة للحركات الإسلامية التي وقفت في كثير من الأحيان ضد الدولة وهاجمت مصالح الإمبريالية، وهو ما لم يكن مطروحا في حالة المنظمات الفاشية. وعلى أية حال، فقد نتج عن هذا التحليل أن تحالف اليسار مع الدولة في مواجهة الإسلاميين، كما حدث في مصر بشكل واضح، مما وجه ضربة قاتلة إلى تأثير اليسار.
وعودة إلى الموقف من المقاومة. فقد انسحب الموقف من الحركة الإسلامية على الموقف من المقاومة الإسلامية التي أصبحت في أعين كثير من قوى اليسار رجعية وغير جديرة بالدعم لأن قواها الأساسية ذات مرجعية إسلامية. لذلك نجد أن كثير من اليساريين في مصر والعالم العربي قد اتخذوا موقفا مناوئا لحزب الله في الحرب الأخيرة في لبنان. وكذلك بالنسبة للمقاومة في فلسطين والعراق.
لكن المقاومة، شئنا أم أبينا، هي العائق الأول الذي يحول في الوقت الراهن دون نجاح الخطط الإمبريالية. فما حدث في لبنان وما يحدث في العراق وأفغانستان، هو الذي يمنع أمريكا من تصعيد عدوانها ضد إيران وسوريا وفنزويلا وحتى كوريا. وكون المقاومة اليوم ذات توجه إسلامي لا يغير من هذه الحقيقة. بالتأكيد نحن كاشتراكيين كنا نود أن نرى مقاومة ذات طبيعة يسارية، لكن هناك أمر واقع لا بد من التعامل معه كما هو. ومن ثم فإن تأييد المقاومة تأييدا غير مشروط، دون أن يعني ذلك اعتبار أن المقاومة فوق النقد، هو ضرورة حتمية إذا كان اليسار يسعى جديا للتأثير بين الجماهير في المنطقة. وإلا فسوف يضيف اليسار إلى أخطائه التاريخية خطأ جديدا يمكن أن يساهم في إصابته بالشلل لأجيال قادمة، خاصة أن تكتيك التأييد النقدي غير المشروط للمقاومة، هذا التكتيك الذي طوره الشيوعيون الثوريون في مطلع القرن العشرين، هو الوحيد القادر على إعطاء اليسار فرصة _ يحتاجها هو وتحتاجها الحركة الجماهيرية _ للتأثير على المقاومة لتجاوز أخطاءها ولتبني مشروع اجتماعي يجمع حولها الجماهير ويقضي على احتمالات الانقسام العرقي والديني والمذهبي.
6. اليسار والدعم غير المشروط للمقاومة
هناك بعض القوى التي تصف نفسها باليسارية، ولكنها تتخذ مواقف من المقاومة تتناقض بشكل عنيف مع تراث الاشتراكية كما نفهمه. فخلال العدوان الصهيوني علي لبنان في صيف ٢٠٠٦ مثلاً وجدنا نشطين “يساريين” يعلنون بوضوح إدانتهم للمقاومة وتأييدهم المطالبة بنزع سلاح حزب الله (هدف الصهاينة المعلن من الحرب)، ويرددون العبارات التي أطلقها رموز التبعية للإمبريالية في المنطقة بإدانة المغامرات العسكرية لحزب الله، وتوعد حسن نصر الله بالحساب العسير، وما إلى ذلك.
هذه المواقف تجعل هناك أهمية بالغة لإعادة التأكيد على الموقف الاشتراكي من القضية الوطنية. فالمعركة ضد الصهيونية والإمبريالية هي معركة مركزية بالنسبة لليسار، كما أن الصهيونية والإمبريالية هما عدوان رئيسيان وحليفان مباشران وداعمان للديكتاتورية والرأسمالية الكبيرة في مصر. ولا يمكن كسب الديمقراطية أو أية إصلاحات اجتماعية جذرية دون أن ترتبط معركة النضال من أجلهما بالنضال ضد الصهيونية والإمبريالية.
بهذا المعنى فإن الانحياز لحركات المقاومة المسلحة التي تقوم فعليًا اليوم بالتصدي للاستعمار الصهيوني والإمبريالي في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها، وإعلان التأييد غير المشروط لها في معركتها هذه، وتقديم كل دعم ممكن لها من أجل انتصارها في المعركة، هو شق رئيسي يجب أن يتضمنه برنامج النضال لأي حزب أو تنظيم أو كيان سياسي يساري، هذا بصرف النظر عن العقائد المذهبية لتلك الحركات. مع الأخذ في الاعتبار أن التأييد غير المشروط لا يعني عدم توجيه النقد لأية سياسات عنصرية أو طائفية تنتهجها المقاومة، وتؤدي إلى شق الصفوف في معركة التحرر، المهم أن ينطلق هذا النقد من نفس الخندق الذي تقف فيه المقاومة، أي من انحياز لمشروع انتصارها. وفي جميع الأحوال، يجب الوقوف بصلابة مع وحدة المقاومة، وضد أية نزعات طائفية أو مذهبية سياسية تؤدي إلى إضعافها في المعركة، كما يحدث في فلسطين والعراق.
المهم هنا هو أن التأييد غير المشروط للمقاومة هو موقف عادة ما يواجه باتهامات عديدة، وقد يكون من المناسب اليوم إظهار أوجه القصور في الانتقادات الموجهة لمسألة الدعم غير المشروط، والتي يمكن تحديد أهمها على الوجه التالي: أولاً، أنها تعبير عن انحراف قومي، حيث ترفع من شأن القضايا الوطنية العامة على حساب المصالح السياسية والاجتماعية المباشرة للجماهير. وثانيًا، أنها تعكس موقف غير أخلاقي لأنها تتجاهل أساليب لا أخلاقية للمقاومة من نوع قتل المدنيين. وثالثًا، أنها تدافع عن مشروع غير عقلاني يفترض إمكانية النصر العسكري للمقاومة في معركة هي خاسرة فيها بلا أدنى شك. ورابعًا، فيما يخص الحالة اللبنانية، فإن أي دعم للمقاومة، سواء كان مشروطًا أو غير مشروطًا، سيطيح بمحاولة القوى “الوطنية” هناك في بناء وطن ديمقراطي علماني غير طائفي.
أولاً:
الدعم غير المشروط للمقاومة، واعتبار أن المعركة ضد الصهيونية والإمبريالية معركة مركزية، هو موقف لا يعكس أي توجه قومي، إنما ينطلق ـ على العكس ـ من تصور أممي وطبقي في جوهره. والأصل في المسألة أن هزيمة الإمبريالية في أية ساحة هي رصيد إضافي لقدرة البشر في كل مكان على التحرر من الاستغلال والاضطهاد. فمثلاً خروج قوات التحالف الأمريكي البريطاني مهزومة من العراق سيؤدي بالضرورة إلى اتساع شعبية الحركات المناهضة للحرب في الغرب وتأزيم وضع الحكومات الرأسمالية هناك، وبالتالي تحسين شروط نضال الطبقات العاملة البريطانية والأمريكية وفرصها في انتزاع مكاسب أعلى. هذا ما حدث في السبعينات بعد هزيمة أمريكا في فيتنام.
ليس المقصود هنا بالطبع وضع هموم الطبقات العاملة في الغرب على جدول أعمال اليسار في مصر، إنما هو فقط مثل لتوضيح حقيقة بسيطة، دائماً ما يتجاهلها البعض، أن هزيمة الإمبريالية هي بشكل رئيسي هدف أممي وطبقي. والحقيقة أن الجماهير المصرية، أكثر من أي شعب آخر في العالم، صاحبة مصلحة مباشرة في هزيمة الإمبريالية والصهيونية في فلسطين ولبنان والعراق، وفي سياق معركة تحررها (الجماهير المصرية) من الاستبداد والاستغلال تحديدًا. فديكتاتورية مبارك في مصر قائمة لازالت، وقادرة على الاستمرار، على الأقل جزئيًا بسبب دعم أمريكا وإسرائيل لها. هذا الدعم الذي تقدمانه للنظام المصري مقابل الأدوار التي يؤديها في خدمة مصالحهما في المنطقة. ومما لا شك فيه أن أي هزائم عسكرية تمنى بتا أمريكا أو إسرائيل، ومهما كانت محدودة، ستؤدي مباشرة إلى مزيد من التأزيم في أوضاع النظام المصري، والتعجيل بسقوطه.
الارتباط الوثيق ما بين الإمبريالية والديكتاتورية في مصر، الذي يجعل من هزيمة إحداهما هزيمة للأخرى، هو حقيقة لا تخفى على أحد في مصر بما في ذلك، بل وبالأساس، جماهير المواطنين العاديين غير المسيسين.
الشواهد على ذلك لا يمكن إغفالها: موجة التجذير السياسي التي نعيشها اليوم، بدأت مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية؛ الميلاد الحقيقي لحركة التغيير الديمقراطي حدث في ميدان التحرير يوم 20 مارس 2003 احتجاجًا على بدء الحرب على العراق؛ الهزيمة العسكرية لإسرائيل أمام حزب الله تظهر في عيون السواد الأعظم من المصريين هزيمة شخصية لمبارك، الذي أدان “مغامرة” نصر الله يوم اندلاع الحرب؛ وهكذا.
ثانيًا:
اعتبار أن الدعم غير المشروط هو موقف لا أخلاقي بسبب تجاهله لمسائل مثل قتل المدنيين، هذا التصور في الحقيقة يحمل قدرًا من التناقض والغرابة، فهو يقوم بالتعريف على رؤية علمانية مناقضة للتصور الديني الذي يبرر العمليات الاستشهادية، بينما هو في جوهره موقف ديني لا مادي بالأساس. القتل خطيئة، هذا ما تنص عليه الوصايا العشر والكتاب المقدس والقرآن وأيضًا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وجه الشبه هو أن القتل خطيئة في المجرد بصرف النظر عمن يَقتل ومن يُقتل، وعن السياق الذي يحدث فيه القتل، وعن الدافع من وراءه، وعن النتائج المترتبة عليه، وعن المصالح التي تقف وراء القاتل والقتيل. القتل خطيئة وفقط، هذا هو الموقف الديني المجرد، حتى لو تم تعديله إلى قتل المدنيين، وحتى لو كانت مرجعيته هي اتفاقيات جنيف أو تفاهمات الأمم المتحدة، فسيبقى موقفًا مجردًا يطل على العالم من أفق رباني غير إنساني وغير متفاعل مع حقائق الأمور.
أما المنظور الاشتراكي الثوري فهو يحدد الخطأ والصواب من تحليله للصراع، وطبقًا لانحيازاته الطبقية والسياسية. لا يمكن مثلاً من منظور ثوري المساواة بين ما حدث من قتل للمدنيين على يد الجيش الصهيوني وعلى يد حزب الله في الحرب الأخيرة، ومن يفعل ذلك هو بالقطع متحامل ومتحيز لإسرائيل سواء عن قصد أو عن دون قصد.
هذه القضية عادة ما تطرح بطريقة مخادعة تنطلق من فكرة أن هناك حربًا مشروعة وحربًا غير مشروعة. وإذا كانت إسرائيل تمارس حربًا غير مشروعة فالواجب علينا ألا نحذو حذوها وإنما علينا أن نخوض حربنا نحن بصورة مشروعة تنسجم مع نبل وعدالة قضيتنا. وجه الخداع هنا في أمرين: الأول أن هذا لم يحدث في أي وقت، ولا يمكن أن يحدث.
فمثلاً لم تكن هناك أبدًا حرب لم يقتل فيها مدنيون، سواء الحروب التي دارت بين جيوش نظامية كالحرب العالمية الثانية التي انتهت بأربعين مليون قتيل وقنبلتين نوويتين ومدن كلندن وبرلين وستالينجراد وقد تحولت إلى خرائب، أو الحروب بين مصر وإسرائيل التي دمرت فيها مدن القناة عدة مرات. أو سواء في الحروب التي دارت بين جيوش نظامية وحركات مقاومة مسلحة، كالتي جرت في الجزائر وفيتنام وكمبوديا وأنجولا وغيرها. أو كذلك بالقطع في الحروب الأهلية التي دارت بالأساس بين ميلشيات من المدنيين وسط المدن، كالتي حدثت في لبنان ويوغوسلافيا السابقة والكونغو.
ولم تخل حروب التحرر الوطني في كل التاريخ الحديث من عمليات قتل للمدنيين قامت بها فصائل المقاومة المسلحة. ولن نجد في الحقيقة مثلاً فارقًا كبيرًا بين العمليات التي قامت بها حماس في فلسطين خلال السنوات الماضية، وبين العمليات التي نظمتها جبهة تحرير الجزائر أثناء حرب التحرير هناك. وربما لا يتذكر الكثيرون بيننا أن واحدة كجميلة بوحريد، التي حظت بشعبية واحتفاء واسع وظلت اسمًا لامعًا في تاريخ المقاومة الجزائرية، كان دورها في الحرب هو وضع قنابل في المقاهي والبارات التي يرتادها المستوطنون الفرنسيون المدنيون في الجزائر.
أما وجه الخداع الثاني في مسألة مشروعية الحرب فهو الانطلاق من “بديهية” أن هناك مرجعية للأمر كاتفاقيات جنيف، وحظر انتشار الأسلحة النووية، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمواثيق الدولية، وغيرها. وجه الخداع هنا هو تجاهل أن هذه الاتفاقيات والمواثيق هي مجرد صياغات ورقية وضعتها البلدان الاستعمارية لفرض سيطرتها، وهي أول من يتجاوزها. وببساطة الحرب الوحيدة المشروعة قياسًا على تلك المرجعيات هي الحرب التي ستنتصر فيها الإمبريالية. فتلك الصيغ التي تبدو وكأنها محايدة ويتساوى أمامها الجميع ليست كذلك، هي أشبه بالدستور المصري الذي يعطي الحق لجميع المواطنين في ترشيح أنفسهم لمنصب رئاسة الجمهورية، لكننا نعرف جميعًا بالقطع أن ذلك شبه مستحيل.
ثالثًا:
اتهام المقاومة المسلحة، وبالتالي الدعم غير المشروط لها، بأنها مشروع لا عقلاني وأن حربها خاسرة حتمًا هو في الحقيقة اتهام لا عقلاني، يكفي للرد عليه استعراض النتائج العسكرية للحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله. لكن المهم أن الفكرة التي ينطلق منها هذا النقد ليست فقط خاطئة وإنما شديدة الخطورة أيضًا. الفكرة تقول:
1) أن التوازن ما بين القدرات العسكرية للجيوش الأمريكية والإسرائيلية وبين القدرات العسكرية لفصائل المقاومة المسلحة هو العنصر الحاسم في تحديد المنتصر والمهزوم في الحرب.
2) بما أن ذلك التوازن يميل بشكل ساحق لصالح الجيوش الأمريكية والإسرائيلية إن هزيمة المقاومة أمر محتوم.
3) أن الطريق الوحيد الممكن هو المقاومة السلمية وقبول الحلول الواقعية.
خطأ هذه الفكرة ينطلق من تجاهلها لكل خبرات التاريخ المعاصر، ولكل ما جرى ويجري حولنا خلال السنوات الأخيرة. فلو كانت القدرات العسكرية للجيوش هي العنصر الحاسم لكان من الاستحالة انتصار الثورة الجزائرية، وهزيمة أمريكا في فيتنام، وهزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وخروج القوات الأمريكية من الصومال، وفرض حق تقرير المصير في أيرلندا الشمالية وتيمور الشرقية وجنوب السودان، وانتصار حركات التحرر في أنجولا وموزمبيق، وانقسام قبرص إلى دولتين، وحفاظ كوبا على استقلالها السياسي عن أمريكا، و انفصال أريتريا عن إثيوبيا،..الخ.
فالأمر ببساطة لا يعود فقط إلى القدرات العسكرية، وإنما تلعب عشرات العوامل الأخرى أدوارها في تحديد النتائج: التوازنات في الساحة الدولية، الجغرافيا، التوزيع السكاني، الدعم الإقليمي، الحركات الاجتماعية،. الخ. فحركة مناهضة الحرب في فيتنام في الولايات المتحدة لعبت دورًا حاسمًا في هزيمة أمريكا هناك، وهكذا. إلا أن وجود المقاومة المسلحة للاستعمار وصمودها في مواجهته شرط رئيسي في تفعيل العوامل الأخرى، وهذا ما يجعل الدعم غير المشروط للمقاومة مهمة حيوية وضرورة لا مناص منها.
على جانب آخر تكشف حقائق الأحداث عن هشاشة وخواء ما يسمى بالحلول الواقعية، فماذا كسب الشعب الفلسطيني من أوسلو سوى سلطة فاسدة راكمت ثرواتها على حساب الدم الفلسطيني؟! ألم يسأل أصحاب نظرية الحلول الواقعية أنفسهم لماذا حققت حماس كل هذا النجاح الساحق في الانتخابات الفلسطينية؟ ألم يسألوا أنفسهم لماذا يتمتع حسن نصر الله بهذه الشعبية الجارفة ليس في لبنان وحدها وإنما أيضًا في مصر وعلى امتداد العالم العربي كله، وليس فقط لدى القوميين والإسلاميين وإنما وسط السواد الأعظم من الجماهير البسيطة غير المسيسة؟
مشروع الدولتين الذي يقدمونه دائمًا بصفته الحل الواقعي للقضية الفلسطينية هو حل غير واقعي بالمرة، وغير قابل للتحقيق. والحل الوحيد الواقعي والممكن هو الدولة الواحدة، هو هدم الصهيونية وبناء دولة ديمقراطية علمانية متعددة الأعراق على أرض فلسطين يعيش فيها الجميع المسلمون والمسيحيون واليهود مواطنون متساوون أكفاء. والمقاومة هي الطريق الواقعي الوحيد للوصول إلى هذا الحل الواقعي.
رابعًا:
فرضية أن الدعم غير المشروط لحزب الله في حربه مع إسرائيل سيطيح بمحاولة القوى “الوطنية” (اليسارية وغير اليسارية) اللبنانية لبناء وطن ديمقراطي علماني غير طائفي (!!) هي فرضية في الحقيقة مدهشة بالفعل. فهم يريدون منّا تصديق أن رجالاً من أمثال سعد الحريري ووليد جنبلاط وأمين الجميل وسمير جعجع قادة “انتفاضة” آذار يسعون إلى بناء لبنان غير طائفي!! المفارقة لا تحتاج هنا إلى توضيح فهؤلاء هم رؤساء الطوائف اللبنانية الذين أشعلوا نيران الحروب الطائفية هناك، والذين لا يمكن أن يكون لهم وجود سياسي خارج نظام الطوائف، والذين تقوم تحالفاتهم الإقليمية والدولية مع الأنظمة في السعودية ومصر وفرنسا والكيان الصهيوني على نفوذهم الطائفي ولا شيء غيره، وهم أنفسهم من يديرون الآن ما يسمى بالحوار “الوطني” اللبناني، الذي يدعي أصحاب تلك الفرضية أنه يهدف إلى تدمير النظام الطائفي!!
الحقيقة التي لا تخفى على أحد، رغم تجاهل البعض لها، أن حوار رؤساء الطوائف أولئك المدعوم بحلفائهم في السعودية وإسرائيل هو مجرد خطوة على طريق بناء مشروع لشرق أوسط جديد أمريكي صهيوني، هدفه إخراج لبنان من ساحة المواجهة مع إسرائيل، وعزل سوريا وإيران تمهيداً لضربها. إضافة بالقطع إلى تعميق النظام الطائفي، ففرض المشروع الأمريكي الصهيوني يحتاج إلى تعميق الطائفية في المنطقة، وهذا ما تفعله السياسة الأمريكية اليوم على رؤوس الأشهاد في العراق والسودان ومصر والخليج، وبالطبع لبنان. القضاء على النظام الطائفي في لبنان مرهون بمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني وبكسر تحالفات رؤساء الطوائف اللبنانية مع السعودية وإسرائيل، هو مرهون إذن بالمقاومة. أي أن مقاومة حزب الله للعدوان الصهيوني كانت خطوة حقيقية وفعالة ضد نظام الطوائف اللبناني وليس العكس.
لم يعد خافياً على أحد الآن أن الحرب الأخيرة على لبنان كان مخططاً لها من قبل، وأن الاستناد إلى العملية العسكرية التي قام بها حزب الله في بداية الحرب، ليس إلا ذريعة مفتعلة. هذا ما أعلنته العديد من الدوائر الغربية المتخصصة في السياسة والإستراتيجية. والحقيقة أن عملية حزب الله صادرت على عنصر المفاجأة في حرب إسرائيل، كما أنها جعلت اختيار توقيت الحرب في يد حزب الله، وهو أمر يحسب له وليس عليه. لكن حتى لو افترضنا أن إسرائيل لم تكن تخطط للحرب، وأن عملية حزب الله هي التي تسببت فيها، فإن السؤال عن مشروعية ما فعله حزب الله هو سؤال أقل ما يوصف به أنه مثير للدهشة!
فهو سؤال ينطلق من فرضية أن المقاومة ليس لها حق المبادرة، أما إسرائيل فلها الحق كل الحق في أن تفعل كل ما تفعله: أن تحتل أراض فلسطينية ولبنانية وسورية بالقوة؛ أن تقوم بتهجير ملايين المواطنين الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم؛ أن تعصف بالشعب الفلسطيني وحكومته المنتخبة وتحاصره وتضطهد بأبشع ألوان الاضطهاد؛ أن تحتجز عشرات الآلاف من الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين إلى أجل غير مسمى في سجونها؛ أن تخترق طائراتها الأجواء اللبنانية بشكل شبه يومي؛ أن تملك مدرعاتها الحق في التجول داخل الجنوب اللبناني دون رقابة؛. الخ.
إن من يتحدثون عن أن سلاح حزب الله يتناقض مع “الوطن” اللبناني وجيشه “النظامي”، بافتراض أن مقاومة العدوان يجب أن تتم على يد الجيوش النظامية، وأن حالة حزب الله هي شذوذ عما هو طبيعي ومفترض، من يقولون هذا يتجاهلون في الحقيقة كل تاريخ النضال ضد الاستعمار، وينطلقون من فرضيات لم يقل بها أحد قبلهم، اللهم إلا الإمبريالية وعملائها. إن وجود سلاح للمقاومة الشعبية إلى جانب الجيوش النظامية هو مشهد متكرر في عشرات الحالات، الأقرب منها هو الحالة المصرية في مطلع الخمسينات، حيث نجد جيشًا نظاميًا وفرقًا للمقاومة المسلحة تناضل ضد الاحتلال البريطاني في مدن القناة. حدث هذا أيضًا في فرنسا وهي تحت الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، كما حدث في حالات عديدة أخرى تمتلئ كتب التاريخ بالحديث عنها في جنوب شرق أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وأيضاً فإن من يدينون سلاح حزب الله لأنه سلاح طائفي يتجاهلون حقيقة أن حزب الله هو الفصيل الوحيد في لبنان اليوم الذي يوظف سلاحه في أغراض غير طائفية، أي في المعركة ضد الصهيونية والإمبريالية، يتجاهلون حقيقة أن فصائل لبنانية أخرى تملك لازالت ميلشيات مسلحة: الدروز، والكتائب، وأمل، وغيرها، وأن هذه الميلشيات غير موجودة إلا لخدمة أغراض طائفية، ومن عجائب الأمور أن أحداً لا يطالبها بتسليم سلاحها.
وأخيرًا
قد يرى البعض أن الاستغراق في الرد على الدعاوي السابقة هو مضيعة للوقت، وهذا صحيح إلى حد ما، صحيح إلى الحد الذي تنحصر فيه تلك الأفكار داخل دوائر البرجوازية ومثقفيها، أما أن تخرج علينا وهي ترفع شارة اليسار فهذا ما لا يجب أن نقبله أو نصمت تجاهه. فالقضية هنا لم تعد التشويش على معركة التضامن مع المقاومة، فتلك الأصوات للحق أضعف من أن تفعل ذلك، إنما القضية صارت هي السمعة التي تلحق باليسار وسط جماهير نسعى إلى الارتباط بها وكسبها، الجماهير التي تشعر بالغضب مما تفعله الصهيونية يوميًا بالشعبين الفلسطيني واللبناني، الشباب الذين يملؤهم الأمل في انتصار حزب الله وهزيمة إسرائيل وصمود حماس.. مَن هؤلاء سيسير وراء راية تردد مواقف مبارك بإدانة “مغامرات” حزب الله ومحاولات خنق المقاومة الفلسطينية بدعوى الواقعية والأمن القومي؟! لا.. علينا ألا نقبل أبدًا وصم راية اليسار بمثل المواقف.
