
الصين دولة رأسمالية، يحكمها حزبٌ شيوعي. يقوم قادتها بقمع الحركات الديمقراطية -والقوى الغربية تستخدمها لتبرير العدوان الإمبريالي. إذًا ما هي رؤية الاشتراكيين لذلك؟
قبل ثلاثين عامًا، كانت الصين واحدة من أفقر دول العالم وأضعفها، والآن تهدِّد الهيمنة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة في آسيا والمحيط الهادئ. يُعَدُّ هذا أحد أهم التطورات في القرن الحادي والعشرين. ربما لن تصبح الصين أبدًا قويةً بما يكفي لتحدي الولايات المتحدة من أجل الهيمنة العالمية، لكنها أصبحت دولة قوية قادرة على تقويض الهيمنة الأمريكية في واحدة من أهم مناطق التجارة والتصنيع في العالم. يغيِّر هذا قواعد اللعبة بسرعة. أصبح العالم أكثر استقطابًا مع جذب حكام الصين المزيد من البلدان إلى شبكاتهم التجارية، وفي المقابل تعمل الولايات المتحدة على تنفيرهم. تتفاعل الحكومات الغربية بقلق متزايد، مع زيادة الحملات الهستيرية المناهضة للصين التي تندلع في وسائل الإعلام لإعداد سكان دول مثل الولايات المتحدة وأستراليا للصراع الشرس من أجل الحفاظ على هيمنة القوى الإمبريالية الغربية الراسخة. الضغط يتصاعد: اختر جانبًا في صراع القوى العظمى.
يحتاج الاشتراكيون إلى الاستعداد لمواجهة التحديات في الفترة المقبلة. نحن بحاجةٍ في المقام الأول إلى فهم طبيعة المتنافسين. في حالة الصين، هذه ليست مهمةً مباشرة. الصين يحكمها حزبٌ شيوعي منذ سبعة عقود -لكنه حزبٌ “شيوعي” أكثر التزامًا بالتجارة الدولية الحرة والعولمة من العديد من الأحزاب الرئيسية المؤيدة للرأسمالية في الغرب. تسيطر الدولة على النظام المالي وعلى جميع القطاعات الصناعية المهمة في الصين، وتعامل القطاع الخاص على أنه تابعٌ وديع -ومع ذلك، يظهر لدى الصين مليارديرات جدد بوتيرةٍ أسرع من أيِّ مكانٍ في العالم، وأنظمة الرفاه لديها ليست سوى ظلالٍ باهتة، وتنتج المزيد من السلع الاستهلاكية لشركاتٍ ضخمة مثل آبل وهوندا أكثر من أي دولة أخرى. أي نوع من المجتمع هذا الذي يمزج بحريةٍ وسهولة بين ميزات اقتصاد السوق الرأسمالي والديكتاتورية الستالينية القديمة؟ هل هو “ماركسي”، كما يقول وزير الخارجية الأمريكية أو الرئيس الصيني شي جين بينغ نفسه (وبعض قطاعات من اليسار)؟ هل هي رأسمالية؟ أم شيء آخر تمامًا؟
جوهر رأسمالي
الرأسمالية لا تعني مجرد صناعة خاصة أكثر من تلك المملوكة للدولة، أو أسواق حرة أكثر من التخطيط الحكومي. الرأسمالية نظامٌ اجتماعي وليست مجموعة سياسات. العلاقات الأساسية في المجتمع الرأسمالي، التي لها التأثير الأكبر على شكله وكيفية عمله، هي تلك العلاقات بين العمال وأرباب العمل، وبين أرباب العمل أنفسهم. تختلف هذه العلاقات في التفاصيل وباختلاف الصناعات والبلدان، لكن الهيكل الأساسي هو نفسه دائمًا. يتعيَّن على العمال، المحرومين من ملكية وسائل الإنتاج، بيع وقتهم لأرباب العمل مقابل أجر. أما الرأسماليون، الذين يشكِّلون الأقلية المتحكِّمة في كل الممتلكات الإنتاجية المهمة في المجتمع، فهم يدفعون أجورًا للعمال، ولكن فقط من أجل انتزاع فائض من عملهم. وإنتاج الفائض في مجتمع تنافسي يجبر الرأسماليين باستمرار على تحديث تقنياتهم. إذا تخلَّفوا كثيرًا في هذا السباق، فإنهم يواجهون خطر الخروج منه على يد منافسٍ أكثر كفاءة. الرأسمالية هي في الأساس مجموع هذه العلاقات: استغلال العمال الذي المدفوع بالتراكم التنافسي لرأس المال.
من الواضح أن الصين تتوافق مع هذا التعريف. الطبقة العاملة في الصين هي الأكبر في العالم، وقوامها مئات الملايين من العمال؛ 300 مليون منهم عمالٌ مهاجرون داخليون -عمالٌ ريفيون فقراء يسافرون إلى المدن والمصانع حيث لا يتمتعون حتى بالحد الأدنى من الحقوق الممنوحة لعمال المدينة- يمكن ترحيلهم إلى ديارهم في أيِّ وقت، وغالبًا ما يعيشون حيث يعملون في مساكن تابعة للمصانع. والثروة الهائلة التي يولِّدونها للشركات المملوكة للأجانب والصينيين لا تعود إليهم.
يتضاعف حجم الاقتصاد الصيني كل ثماني سنوات تقريبًا منذ أواخر السبعينيات. استُثمِرَت موارد هائلة في برنامج ضخم لتراكم رأس المال، بتمويلٍ من الاستثمار الأجنبي، والأجور المنخفضة والمدخرات الأسرية المرتفعة الناتجة عن عدم وجود شبكة أمان اجتماعي للعمال. وفقًا للبنك الدولي، فإن النسبة من إجمالي الناتج المحلي الصيني المستهلك في القطاع الخاص كانت تتأرجح حول 35% لعقود، في حين أن إجمالي تكوين رأس المال الثابت -وهو بشكل أساسي مقدار الاقتصاد المخصص لتطوير وسائل الإنتاج- قد بلغ 43% في 2018. تتوسَّع الدولة والطبقة الرأسمالية بحرصٍ بالغ في الإنتاج الصناعي، وتستثمر مبالغ طائلة في البنية التحتية والتنمية الحضرية، تلك المشاريع التي تهدف إلى تسهيل النمو، بينما يتعيَّن على العمال خوض الإضرابات للضغط على رؤسائهم من أجل دفع حتى الحد الأدنى من اشتراكات التأمين الصحي والتقاعد التي يلتزمون بدفعها نظريًا بموجب القانون. عمال الصين هم طبقة مُستغلَّة، محرومة اقتصاديًا ومحرومة سياسيًا، في مجتمعٍ مُوجَّه نحو تراكم رأس المال.
والنتيجة هي نفسها كما في أي بلد رأسمالي في الغرب، حيث تتراكم الثروة والامتيازات في أيدي قلة، ويعاني الكثيرون من البؤس والعوز. في الأشهر الإثني عشر منذ أن ضربت جائحة كوفيد-19 ووهان لأول مرة، تراكم 1.5 تريليون دولار في أيدي أغنى 2000 شخص في الصين. وزاد عدد المليارديرات الصينيين (بالدولار الأمريكي) من 521 فردًا إلى 878، متجاوزًا الآن العدد في الولايات المتحدة. قال الباحث روبرت هوجويرف، الذي أعدَّ قائمة شركة Hurun للتقارير الاقتصادية لأغنياء الصين خلال عام 2020: “لم يشهد العالم مطلقًا هذه الثروة الكبيرة في عام واحد فقط. بهذا المعدل، من المتوقع أن نشهد عشرة رواد أعمال صينيين أو أكثر يتجاوزون الـ 100 مليار دولار أمريكي في غضون خمس سنوات”. ينفق الأغنياء في الصين الآن 35% من الإنفاق العالمي على السلع الكمالية، مقارنةً بـ 22% في الولايات المتحدة و17% فقط في أوروبا كلها.
تلعب دولة الصين دورًا مهمًا في ترتيب وتنظيم الحياة الاقتصادية، بطريقةٍ تجعلها تبدو مختلفة قليلًا عن نوع الرأسمالية السائدة في الغرب. لكن هذه اختلافاتٌ بين أقسامٍ فرعية لنظامٍ متكامل، الاقتصاد العالمي بنظمه المتكاملة للإنتاج والتوزيع، وليس أنظمةً منفصلة. تتنافس الصين والغرب، إلى مستوياتٍ فلكية، على من يحصل على النصيب الأكبر من الغنائم. لكن في الوقت نفسه، يستفيد الرأسماليون الصينيون من التدفقات الهائلة لرؤوس الأموال الدولية والأمريكية، ومن التكنولوجيا، بينما يستفيد رأس المال الأمريكي والعالمي من الوحشية القمعية للدولة الصينية والاستغلال المكثف للعمال الصينيين.
وفي الاستنتاج النهائي، يشترك النظام الاجتماعي الصيني في بنية داخلية متطابقة مع المجتمعات الرأسمالية في الغرب. هذا ما يمكِّن حكام الصين من الجمع بين الممتلكات الخاصة والعامة والتخطيط الحكومي ومنافسة السوق، وإعادة دمجهم في أيِّ تكوين يجدون له فائدةً أكثر لتحقيق هدف معين.
العلاقات الطبقية الأساسية التي تحدد النظام الرأسمالي حاضرةٌ في كل جزءٍ من اقتصاد الصين: يُستَغلُّ العمال من قِبَلِ الأقلية الحاكمة المنخرطة في أشكالٍ مختلفة من المنافسة التي تفرض التراكم. قد لا يتنافسون دائمًا بشكلٍ مباشرٍ في السوق بأنفسهم، لكن الشركات المملوكة للدولة في الصين تلعب دورًا رئيسيًا في تلك المنافسة؛ حيث تساعد في توفير التمويل والإمدادات الأساسية للشركات الخاصة، والحفاظ على سيطرةٍ صارمة على العمالة، تلك السيطرة التي تعتبر ضروريةً للنمو الهائل للاقتصاد ككل.
هذه الشركات أيضًا مركزيةٌ لنوعٍ مختلف من التراكم التنافسي، نوع يقوده التنافس العسكري بدلًا من السعي المباشر وراء الأرباح. شكَّلَ ضغط المنافسة العسكرية اقتصاد الصين منذ فترة طويلة قبل ظهور المليارديرات الصينيين. على مدار 70 عامًا، أجبرت المنافسة العسكرية الاقتصاد الصيني على التصنيع بأسرع ما يمكن، لتقليل ضعف الصين أمام القدرات العسكرية الأكثر تقدمًا للولايات المتحدة. بدأت الصين كاقتصادٍ أفقر وأقل تقدمًا من الناحية التكنولوجية من الولايات المتحدة، والتي لم تكن فقط أقوى وأكثر ثراءً، بل تهيمن بالفعل على النظام العالمي للتحالفات الإمبريالية.
إنفاق عسكري متواصل
اعتمدت الطبقة الحاكمة في الصين أكثر على التخطيط المركزي وتوجيه الدولة لتسريع التنمية. لكن هذا لا يمت بأيِّ صلةٍ للاشتراكية. لقد أشرف نفس الحزب “الشيوعي” على بناء الاقتصاد الموجَّه وتسويقه، بناءً على أيِّ الخيارات يخدم مصالح الطبقة الحاكمة الصينية على أفضل وجه وفي أي لحظة.
عندما تتدخَّل الدولة الصينية في الاقتصاد، فإنها لا تكبح الرأسمالية. إنها تتبع برنامجًا للتوسع الاقتصادي الهائل، بتمويلٍ من الضغط على مستويات معيشة الطبقة العاملة والتدفق المتضائل الآن من الاستثمار الأجنبي ونقل التكنولوجيا. لكن تراكم رأس المال هذا لا يغذي فقط الطفرة الهائلة في الثروة الشخصية للطبقة الرأسمالية ومسؤولي الدولة، بل أنه أيضًَا يبني الأساس الاقتصادي لسباق تسلح مكثف مع الولايات المتحدة.
الإنفاق العسكري الصيني هو الآن ثاني أكبر إنفاق عسكري في العالم. وعد شي جين بينغ بتشكيل قوة “نخبة” قتالية شاملة من جيش التحرير الشعبي العتيق والمنتفخ. جُهِّزَت القوات المسلحة بمجموعةٍ جديدة وفتَّاكة من التكنولوجيا والصواريخ والمركبات، كما جرى تبسيط هيكل قيادتها وإضفاء اللامركزية عليه من أجل مزيدٍ من الاستعداد القتالي. يمكن للبحرية الصينية الآن نشر عدد من السفن الحربية أكثر من الولايات المتحدة، على الرغم من أنها لا تزال متأخِّرةً من حيث حمولتها. تستعد بكين الآن لمضاعفة حجم ترسانتها من الرؤوس الحربية النووية ثلاث مرات وتنويع وسائل انتشارها، وكل ذلك باسم الدفاع عن النفس.
تدعي الحكومات من جميع الأطياف أنها بحاجة إلى القدرة على حرق المدن وذبح الملايين لأسبابٍ دفاعية، وصولًا إلى النقطة التي تغزو فيها أو تهاجم بلدًا آخر. هذه ليست مجرد دعاية، بل لها منطق -منطق الإمبريالية العالمية المعادي للإنسان. الرأسمالية نظامٌ عالمي تهيمن عليه الدول القومية. يعتمد كل اقتصاد وطني على السلع والموارد والأسواق خارج حدوده من أجل النمو. تمتد المصالح “الدفاعية” للدولة القومية إلى ما وراء تلك الحدود أيضًا، فالدفاع عن المصالح الحيوية والممارسة العدوانية الهجومية للسلطة يتداخلان بالنسبة للدول الرأسمالية. تسير “العولمة” الرأسمالية جنبًا إلى جنب مع الصراع الإمبريالي.
توضح جرائم الصين ضد الإنسانية في إقليم شينجيانج طبيعة هذه الحملة. تعد المنطقة ممرًا إلى آسيا الوسطى وأوروبا، مما يجعل السيطرة على المنطقة أمرًا بالغ الأهمية من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. شينجيانج غنيةٌ بالموارد المعدنية والغاز الطبيعي وشاسعة الأراضي، فمنذ عام 2009، عندما دشَّنَ الحزب الشيوعي الصيني حملةً جديدة ضد شعب الإيجور بدافع “الحرب ضد الإرهاب”، ارتفعت الأرباح المتدفقة من إقليم شينجيانغ إلى بكين بشكل كبير، إذ تضاعف الناتج الاقتصادي بين عاميّ 2013 و2017 إلى 36.7 مليار دولار أمريكي، وينتج الإقليم الآن 85% من إجمالي القطن الصيني.
إن التهديد بالتمرد من قبل شعب الإيجور -المضطهد- والمطالبة بالاستقلال الوطني من شأنه أن يقطع طرق التجارة البرية إلى أوروبا، ويفسد مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” للحزب الشيوعي الصيني. ومثل السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية، يعتقد الحزب الشيوعي الصيني أن استبدال مسلمي الإيجور وإحلال الصينيين الهان محلهم (قومية الهان تمثِّل حوالي 94% من الشعب الصيني) سيخلق سكانًا أكثر تعاطفًا مع القومية والشوفينية الصينية، مما يضمن السيطرة السياسية على المنطقة بأكملها. وبالتالي، فقد حفَّزَ الحزب انتقال الصينيين الهان إلى المناطق الحضرية والمتطوِّرة. وفي الوقت نفسه، ربما يكون مليون أو أكثر من الإيجور مسجونين في شبكة من معسكرات الاعتقال المُصمَّمة خصيصًا لسحق الهوية القومية والمعتقدات الدينية للإيجور تمامًا. إنها واحدة من أعظم جرائم القرن الحادي والعشرين.
إنها الرأسمالية كما يقول الكتاب، حيث قمع الأقليات القومية، وحماية طرق التجارة الإستراتيجية والأراضي المهمة عسكريًا. كل ذلك جزءًا من خطة طويلة الأجل لدمج أكبر قدر ممكن من العالم في مجال نفوذ الدولة القومية، والأسواق والتحالفات العسكرية.
قوة إمبريالية
قبل مائة عام، أطلق لينين على روسيا القيصرية اسم “سجن الأمم” لحكمها لدول مثل فنلندا وأوكرانيا وكازاخستان بقبضةٍ من حديد، وحظر التعبير عن الهوية الوطنية، وفرض اللغة الروسية والدين، والسعي إلى الاستيلاء على المزيد من الأراضي في ظل الحكم القيصري المطلق. كانت روسيا دولةً فقيرة ومتخلفة، يمكنها التفوُّق على الغرب فقط في المساحة وعدد السكان. هدفت نظرية لينين عن الإمبريالية إلى قلب العمال الروس ضد الإمبراطورية الروسية، مُدافعةً عن حق الدول المضطهدة في الانفصال.
الصين اليوم، ليست مثل روسيا الإمبريالية في عام 1914. إنها ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر منتج: ثلثا بلدان العالم تجري تجارتها مع الصين أكثر من الولايات المتحدة، ولديها احتياطيات أجنبية تُقدَّر بتريليونات الدولارات، وقطاع عسكري فائق التقنية ومستمر في التطور، ومؤسسات مالية متعددة الجنسيات، مثل “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” الذي يغازل البلدان من أجل الاستثمار الصيني. بالمقارنة مع ألمانيا أو فرنسا أو اليابان، وجميعهم قوى إمبريالية، تمتلك الصين الكثير من القوة البشرية والمال والمدافع والجنود والدبابات، والآن رأس المال.
لا تزال الولايات المتحدة حتى اليوم، أكبر ممول للعنف في العالم وأكبر تهديد عسكري لشعوب العالم. لكن العقود التي احتفظت فيها بقوة منقطعة النظير تمثِّل فترةً استثنائية في العصر الإمبريالي الحديث. كانت الحروب العالمية والحرب الباردة صراعاتٍ بين القوى الكبرى حول من يسيطر على نصيب الأسد في العالم، ولم تكن مجرد مشاريع أمريكية من طرف واحد. ولقد تسبَّب صعود الصين في ضعفٍ نسبي للهيمنة الأمريكية، وبذلك عاد التنافس بين القوى العظمى.
وأولئك الذين يدعمون الصين على الولايات المتحدة ليسوا معادين للإمبريالية، بل إمبرياليين بديلين. إن تبني الصين للغة وخطاب “الحرب على الإرهاب”، كمحاكاة للمعاملة الوحشية التي يمارسها الغرب ضد السكان المسلمين تجعل التماثل واضحًا.
مقاومة من أسفل
وكما هو الحال في أي بلد رأسمالي، فإن الاضطهاد يولِّد المقاومة. انتفاضة شعب هونغ كونغ هي واحدة من أهم الانتفاضات في التاريخ الحديث. عمليًا، حُشدت الجزيرة بأكملها من أجل الدفاع عن الحقوق الديمقراطية. لأشهر، واجهت المظاهرات الضخمة شرطة هونغ كونغ، وقاد شباب هونغ كونغ أحد أكثر النضالات الرائعة في القرن الحادي والعشرين. أصبحت جامعة هونغ كونغ للفنون التطبيقية ساحة معركة ناضل فيها الناس ضد النظام.
ومثلما تريد كل من الحكومة الصينية والولايات المتحدة تصوير الصين على أنها “شيوعية”، فإنهما تريدان تصوير كل مقاومة على أنها مؤامرة يرعاها الغرب، بدلًا من تصويرها كما هي: انتفاضة جماهيرية بسياساتٍ يمكن الجدال حولها ويمكن أن تتطور في النضال.
بشكل مأساوي، تُقمع الحريات المدنية في الصين على يد حزب “شيوعي” يتصرف باسم “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”. هذا يجعل الأمر أصعب على السياسة الاشتراكية الحقيقية -التوجه نحو الطبقة العاملة المنظمة، والأممية، وسياسات التضامن- لاختراق التيار السائد وتشكيله. كانت هناك مؤشراتٌ على إمكانية حدوث مثل هذا التقدم في الانتفاضة تلك المرة، إذ شكَّل العمال وانضموا إلى نقابات مستقلة جديدة بأعداد كبيرة، في سياق أشد فترات الاحتجاجات ومعارك الشوارع. لكن في غياب تراث “يساري” راسخ في معارضة شمولية الحزب الشيوعي، يمكن أن تتجذر جميع أنواع الأفكار الخاطئة وحتى الفاسدة -حتى بما يشمل اعتبار القوة الإمبريالية العظمى الأخرى، الولايات المتحدة، منقذًا محتملًا. عندما يتجاهل الاشتراكيون النضالات الديمقراطية ضد الرأسمالية الصينية، فمن المحتمل أن يحدث ذلك.
كان لشجاعة وإصرار سكان هونغ كونغ تأثيرٌ في تأجيج وإلهام النضال في جميع أنحاء العالم. فمنذ اندلاع الاحتجاجات، هزت تحركاتٌ هائلة كلًّا من تشيلي والإكوادور وهايتي ولبنان والعراق وإيران وبيلاروسيا والولايات المتحدة ومالي ونيجيريا وتايلاند. كل تلك التحركات لديها وجه تشابه ملحوظ: الملايين في الشوارع، واحتلال المباني الحكومية، والمطالبة بالديمقراطية والعدالة. في المقابل، كان رد الطبقات الحاكمة بالمثل في كل مكان: الغاز المسيل للدموع، وشرطة مكافحة الشغب، وعمليات القمع، وحظر التجول. انتشرت تكتيكات للتعامل مع هذا القمع، “أن نكون مثل الماء” على حد تعبير سكان هونغ كون، من مكان إلى آخر. يجب على القدرة الراديكالية مع هذا النوع من اندلاع النضال الشعبي، أن تدفع كل اشتراكي لإعلان تضامنه مع شعب هونغ كونغ، وضد الحزب الشيوعي الصيني.
في الوقت نفسه، فإن الواجب المُلح للاشتراكيين خارج الصين هو معارضة طبقاتهم الحاكمة. لا يعتقد الاشتراكيون أنه يمكن محاربة الرأسمالية وهم جزءٌ من تكتلاتٍ قومية أو إمبريالية. الرأسمالية هي نظامٌ دولي يجمع الناس من جميع أنحاء العالم في سلاسل معقدة من الإنتاج والتجارة والاستثمار. يجب ألا يقف الاشتراكيون إلى جانب الدول في صراعاتها الإمبريالية، لكن مسؤولياتنا لا تنتهي عند هذا الحد، يجب أن نتضامن مع حركات المضطهدين في كل مكان، وأن ننظر إلى نضالهم باعتباره مرتبطًا بشكلٍ وثيق بنضالنا.
كان الغرب سعيدًا بالعمل مع الديكتاتورية الحديدية التي تحكم الطبقة العاملة الصينية، إلى أن أصبحت تلك الديكتاتورية قوية بما يكفي لتشق طريقها الخاص. بعد القمع الدموي في ميدان السلام السماوي عام 1989 مباشرةً، بدأ رأس المال الأجنبي يتدفق إلى الصين. كان من الواضح للدول الغنية في ذلك الوقت أن الإمداد الأبدي للعمالة الرخيصة كان ممكنًا فقط طالما يضغط الحزب الشيوعي على أعناق عمال المصانع المستغلين. بينما استفاد النظام الذي تقوده الولايات المتحدة بشكلٍ كبير من تحول الصين من دولة ريفية فقيرة إلى “ورشة العالم”، لكن تحولها إلى قوة اقتصادية عظمى تواجه الإمبراطورية الأمريكية يُعَدُّ أحد أكبر التحديات التي واجهتها على الإطلاق. لهذا السبب، لم يعد من الممكن بالنسبة للولايات المتحدة تجاهل جرائم الصين ضد الإنسانية، بل أصبحت هذه الجرائم فرصةً لمهاجمة منافس إمبريالي والتشدق بتفوق الغرب “الديمقراطي”.
ستمثِّل الثورة الاشتراكية في الصين الحدث الأهم في تاريخ العالم. لنتصوَّر القوة الصناعية والسياسية لـ 600 مليون عامل وهم يبنون مجتمعًا قائمًا على السيطرة الديمقراطية للعمال على الاقتصاد، لصالح البشرية. يمكن للعمال والفلاحين الصينيين الاستيلاء على الفور على الثروة الفاحشة للدولة الصينية والطبقة الرأسمالية، ورفع مستوى معيشتهم بسرعة. يمكنهم تفكيك الشرطة الفاسدة والجهاز العسكري للحزب الشيوعي الصيني، والتخطيط للتوسع الهائل في الصناعة المستدامة، ومن شأن هذا المثال الثوري أن يمتد إلى الملايين من الفقراء في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ والهند وباكستان وآسيا الوسطى. إن المكانة المركزية للعمال الصينيين في الإنتاج العالمي تعني أن بإمكانهم إصابة الرأسمالية في مقتل في العديد من البلدان، وإثارة الاضطرابات هناك أيضًا. الثورة الاشتراكية في الصين هي أمل العالم أجمع. يجب على الاشتراكيين خارج الصين أن يدعموا كلَّ نضال شعبي يحفِّز المضطهدين ويُضعِف الحزب الشيوعي ودولته الرأسمالية والإمبريالية الدنيئة، وأن نأخذ الشجاعة من تلك النضالات في حربنا ضد حكامنا الإمبرياليين الرأسماليين، الذين تمثِّل شوفينيتهم الزائفة انعكاسًا للسياسة الرأسمالية في الصين.
* بقلم: كايل هاردي وأبريل هولكومب – موقع الراية الحمراء الأسترالي
ترجمة: ياسين علي _ الاشتراكيون الثوريون