
هدف الكفاح هو إلحاق الهزيمة بالاستعمار
للشهر الثاني، تدور رحى حرب مدمرة وإبادةٍ تشنّها مُجدّداً الدولة الصهيونيّة ضد الشعب الفلسطيني. حيث لم تقتصر الحرب العدوانيّة الصهيونيّة على قطاع غزّة الذي تعرّض إلى دمارٍ هائلٍ، وإبادة واسعة لمدنيّيه، وتهجير مليونين من الفلسطينيين فيه إلى جنوبه غير الآمن، بل تمتدّ هذه الحرب الاستعماريّة إلى فلسطينيّ الضّفة الغربيّة، حيث يتعرّض المئات منهم إلى القتل والاِعتقال على يدِ جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين.
تقوم الدولة الصهيونيّة بحربها الجنونيّة والوحشيّة بدعم سياسي وعسكري مباشر وكبير من الإمبرياليّة الأمريكيّة والأوربيّة، غطّت حتى على الحرب في أوكرانيا. وكأنّ هذه الحرب هي حربها نفسها مباشرة وليست بالوكالة. وفي حين كانوا يتباكون على أرواح المدنيّين الأوكرانيّين، لم تعد لأرواح الآلاف من الفلسطينيّين قيمة تُذكر في أعينهم وأعين وسائل الضخّ الإعلامي والإيديولوجي لهذه الدول. فالقضيّة بالنسبة إليهم بسيطة، كالعادة، هنالك معسكرين؛ معسكر الخير وهم يمثّلونه، ومعسكر الشرِّ هو “الآخر” أي خصم أو عدو هم يُحدّدونه. وللاِلتفاف على تهافت حديثهم عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، يتحدّثون بلا خجل عن أنّ “الآخر” في أعينهم ليس “إنساناً” إنّه أقرب إلى الحيوان، كما يصدح بذلك علنًا قادة الدولة الصهيونيّة وأربابها من الإمبرياليّات الغربيّة.
حرب غزة عرّت الجميع تماماً، وكأنّها علاج بالصّدمة، فضحت الجميع وكشفتهم، من بين ذلك إنّها فضحت هبل اِدّعاء ليبراليِّي منطقتنا باِرتباط الإنسانيّة والعدل بالدول الغربيّة.
الحرب الصهيونيّة ضدّ غزة عرّت الأنظمة العربية، بوصفها أنظمة عدوّها الأكبر هي شعوبها نفسها، وليس طرفاً آخر، وإنّ همّها الوحيد هو بقاؤها في الحكم، واِحتكار السّلطة والثروات. كما أنّها فضحت السلطة الفلسطينيّة لأبو مازن، بوصفها أداة قمعٍ ضدّ الشعب الفلسطيني، ومجرّد جهاز أمنيٍّ يعمل في خدمة الاحتلال. وكيف لا وهي تُنسّق معه أمنيّاً وترضخ له تماماً، وتستمدّ “مُوازنتها” من الاِحتلال نفسه بعد أن يقوم بخصم تكاليف اِحتلاله من هذه الميزانيّة. إنّها حالة فريدة في علاقة المُستعمِر بالمُستعمَر، فالدولة الاستعماريّة تُغطّي تكاليف اِحتلالها من ميزانيّة “سُلطة” تحت الاِحتلال. إلى هذا الدرك من العمالة والسفالة هي سلطة أبو مازن.
كانت عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حماس في السابع من الشهر الفائت عمليّة بطوليّة ومُبدعة بكلّ المقاييس وصفعة بوجه الاحتلال أذلّت جيشه وأظهرت هشاشة الكيان الاستيطاني، ولا يمكن القبول بادّعاء أنّ هذه العمليّة المقاومة والبطولية هي السبب في مأساة الشعب الفلسطيني، والمأساة الهائلة التي يعيشها، بل إنّ مُسبّبها والمسؤول عنها هو وحشيّة وهمجيّة الكيان الصهيوني الاستيطاني الذي زُرِع في قلب شرق المتوسط ككلب حراسة وقلعة مُتقدّمة للإمبرياليّات الغربيّة، هذه هي الحقيقة الوحيدة.
فالدولة الصهيونيّة كيان قام ويقوم على العنف واِجتثاث شعبٍ ليحلَّ محلّه أناسٌ آخرون، وبالتالي له كوضع استعماريّ خصوصيّة، حيث إنّه ليس جيش ومستوطنين أتوا معه لاحتلال شعب وبلد آخر، كما فعلت فرنسا في الجزائر مثلاً، وبالتالي تعامل المحتلّ الأوربيّ و مواطنيه مع الشعب المحتلّ بوصفهم أجنبي متحضّر، يعمل بعدّة أدوات وأوّلها العنف على تمدين شعب آخر. كما أنّ الدّولة الصهيونيّة لا تُماثل تماماً نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا سابقاً. يمكن اعتبار الدولة الصهيونيّة كنظام ابارتهايد في تعاملها مع فلسطيني 1948، أي من أصبحوا حاملي الجنسيّة الاسرائيليّة، وهم مواطنون من الدّرجة الثانية فيها تمايزٌ عن اليهود.
في حين أنّها تتعامل مع فلسطيني غزّة والضّفة كأعداء يجب اِقتلاعهم من جذورهم والاِستيلاء على أراضيهم. وتجربة اتفاقيّة أوسلو للسّلام بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة في بداية تسعينيّات القرن الماضي دليل على ذلك، حيث عوضاً عن إقامة دولة فلسطينيّة في الضّفة والقطاع كما ورد في اِتفاق أوسلو “للسلام”، قامت الدولة الصهيونيّة بزرع 800 ألفِ مستوطنٍ في الضّفة الغربيّة ضمن نحو 400 مستوطنة، يُضاف إليها أكثر من 50 مستوطنةً حول قطاع غزّة، ما يجعل، اليوم أو في المستقبل، توفّر شروط إمكانيّة حلّ الدّولتين نافلا، ويجعل من هكذا شعار مجرد ذر للرّماد في الأعين ودعم لتوسّع المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي لا يمكن إنجازه إلّا باِقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه.
المشروع الصهيوني، بوصفه من بدايته مشروع عنفيّ يقوم على إحلال مستوطنين مكان السكان الأصليين للبلد، يجعل من هكذا مشروع دولة، مشروع حرب دائمة وعدوانيّة وفصل عرقيّ ودينيّ عنفيّ. لذلك هو يتمايز عن الاستعمار التقليديّ، حيث كانت مقاومة الشعوب المستعمرة تلقى تضامناً من قوى التحرّر والطبقة العاملة في ميتروبول الاحتلال نفسه، بينما مقاومة اِحتلال استيطاني كما في حالة الدولة الصهيونية، فلا شروط توفر تعاطف من بعض سكانه مع مقاومة الشعب المستعمَر، إلّا لدى نخب قليلة، لأنّ التّكوين الطّبقيّ نفسه هو تكوين اِستيطاني عنفيّ ولافظٍ للشّعب الأصلي، وأقرب إلى نظام العبوديّة في تعامله مع يده العاملة من السكان الأصليين، لذلك فإنّ الدّعوات التي يُطلقها بعض اليسار المراهق عن وحدة نضال الطّبقة العاملة اليهوديّة، في إسرائيل، والفلسطينيّة، ليس إلّا مُجرّد هراء كامل، ودعوة مبطّنة لتماهي المستعمرين والمُقتلَعين من أراضيهم، مع عدوّهم، وكأنّه شريك في مجتمع واحد مشترك، طبيعي. إنّها مُقاربة انتهازيّة وغير ثوريّة.
إنّ النظام الاستعماري عموماً يقوم على العنف وعلى الحطّ من قيمة الشعوب المستعمَرة، وفي كلّ الأحوال فإنّ مقاومته حقّ مشروع للشعوب المقهورة، وبكلّ الوسائل المُتاحة، وأيّاً كانت الطبيعة السياسيّة لقياداتها التي قد لا تُناسب توجّهاتنا الماركسيّة. لِذا فإنّ الثوريّين لا يعوّلون على ما يُسمّى بالمجتمع الدّولي ولا هيئات الأمم المتّحدة الرهينة لنظام الهيمنة العالمي، بل على مقاومة وكفاح وتضامن الثوريّين والطّبقات الشعبيّة في العالم.
في شرق المتوسط هنالك شعبان يُعانيان من الاِستعمار والاضطهاد، واِمتهان حقوقهم في تقرير مصيرهم بحريّة والاِعتراف بحقوقهم كاملة هما الشعب الفلسطيني والشعب الكردي.
نقف بكلّ حزم مع كفاح الشعب الفلسطيني، من أجل تحرّره الشامل وبناء دولة فلسطينيّة ديمقراطيّة علمانيّة واحدة من البحر إلى النهر، على أنقاض الدولة الصهيونيّة الاستيطانية، يعيش فيها اليهود والعرب بحريّة وكرامة ومساواة.
ومع الشعب الكردي من أجل تحرّره الشامل، وحقّه في تقرير مصيره بحريّة والاِعتراف بحقوقه كاملة.
واجبنا هو دعم كفاح الشعوب والطّبقة العاملة ضدّ أشكال الاِستعمار والاحتلالات وأنظمة القمع والاِستغلال في بلادنا وفي كلّ بلدان العالم.
تيار اليسار الثوري في سوريا
تشرين الثاني/نوفمبر 2023