حراك يهودي متصاعد ضد الصهيونية, ما العمل؟

ليس كل اليهود سواسية
يلعب اليهود المناهضين للصهيونية حول العالم دورًا بارزًا في مواجهة المشروع الصهيوني، فهم يفضحون ادّعاءه تمثيل يهود العالم ونعته الشعب الفلسطيني المناضل من أجل حقوقه بـ”معاداة للسامية”. لذا، وجب علينا التوجه إليهم، تقديرًا لجهودهم، ودعوةً لمزيد من الضغط على حكوماتهم من أجل إيقاف الإبادة التي يمارسها الاحتلال بحق أهل غزة، ولتنسيق خطوات مستقبلية تهدف لهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية الواحدة من النهر إلى البحر.
الاحتجاج اليهودي ضد سياسة الانحياز المطلق للاحتلال الإسرائيلي لم يعد محصوراً في طائفة دينية أرثوذكسية، بل يضم الآن فئات من الشباب والديموقراطيين والمثقفين والأكاديميين ومؤسسات للمجتمع المدني.
الاحتجاج اليهودي يساهم في سحب الغطاء عن جرائم الاحتلال وعدم مشروعيته، ويعزز وجود الصوت اليهودي الديموقراطي بثقافته الإنسانية كشريك في مواجهة الفاشية الإسرائيلية المنفلتة، وسياسة الإبادة الجماعية ومنظومة الأبارتهايد الحاكمة في إسرائيل.
نهوض حركات اليهود المعادية للصهيونية.. كيف نتعاون معها؟
هل ننتبه جيدا بالأهمية الواجبة إلى هذا الصعود التاريخي الجاري لمناهضة الصهيونية بين اليهود في العالم الآن، وبعد حدث 7 أكتوبر الكبير في الصراع العربي الصهيوني ومنذ إقامة إسرائيل؟
وهل نتقدم بدورنا من ضحايا هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي العنصري للتفاعل وبناء الجسور. وكذلك لعلاج أخطاء، وأقلها التجاهل والنكران، في حق يهود تحلوا بالإنسانية والمسؤولية والشجاعة والحكمة، وانحازوا إلى الحقيقة وإلى حقوقنا منذ بدايات تجسيد الجريمة الصهيونية من القارة الأوروبية إلى أرض فلسطين، واعتبارا من نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم؟
وعلى سبيل المثال، هل ندرك أبعاد وأهمية خروج ما يزيد على خمسة آلاف يهودي أمريكي في مسيرة بالعاصمة واشنطن رافعين أعلام فلسطين، مطالبين بوقف عدوان الإبادة على غزة يوم زيارة الرئيس “بايدن” لتل أبيب 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023؟ وهل لدينا تقدير لمغزى أن تجرى هذه المسيرة بمشاركة نحو عشرين من الحاخامات، وبدعوة وتنظيم منظمات وجمعيات لليهود مثابرة منذ سنوات على مناهضة الصهيونية وإسرائيل والاحتلال والعنصرية، ومن أجل الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني؟
وتتقدم هذه المنظمات: “الصوت اليهودي من أجل السلام” التي تأسست عام 1996، و”إذا لم يكن الآن” منذ عام 2014. ويتعين هنا الإشارة إلى اعتصام أعداد من مسيرة واشنطن هذه داخل أحد مباني الكونغرس، واعتقال الشرطة نحو 350 من بين صفوفها. وفي الظن أن هذه المظاهرات وبحضور يهودي لافت في العديد من المدن الأمريكية والأوروبية، وبهذا الحجم والزخم، ستتواصل في قادم الأيام.
وما العمل تأسيسًا على هذا النهوض اليهودي المعادي للصهيونية كما تجسد خلال الأيام الماضية؟ والدليل عليه هذه التعبئة الجماهيرية غير المسبوقة والاستجابة للاستدعاء العاجل في مظاهرات العديد من المدن قبل الحدث بيوم أو يومين فقط، وفي تحدّ قوي صارخ لمواقف الحكومات والمؤسسات وخطاب كبريات شركات الإعلام والصحافة في عواصم الغرب الداعمة لعدوان تل أبيب.
الاحتجاج اليهودي ضد سياسة الانحياز المطلق للاحتلال الإسرائيلي لم يعد محصوراً في طائفة دينية أرثوذكسية، بل يضم الآن فئات من الشباب والديموقراطيين والمثقفين والأكاديميين ومؤسسات للمجتمع المدني.
الاحتجاج اليهودي يساهم في سحب الغطاء عن جرائم الاحتلال وعدم مشروعيته، ويعزز وجود الصوت اليهودي الديموقراطي بثقافته الإنسانية كشريك في مواجهة الفاشية الإسرائيلية المنفلتة، وسياسة الإبادة الجماعية ومنظومة الأبارتهايد الحاكمة في إسرائيل.
ليس من فراغ
نلاحظ في نقاشات إعداد موسوعة الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري “اليهود واليهودية والصهيونية” بين 1983 و1999 أننا نتوصل مرة تلو أخرى إلى أنه لو بقي يهودي واحد مناهض للصهيونية ولا يعترف بمشروعها “إسرائيل” فهذا في حد ذاته بمثابة تقويض لشرعية الدولة والأيديولوجية القائمة على ادعاء تمثيل اليهود.. كل اليهود. وهو ببساطة ووضوح يسحب البساط من ركيزة أساسية لقيام “الدولة اليهودية” ووجودها.
وخلال العمل على مداخل الاستيطان والإرهاب الصهيوني قبل 1948، جمع المشاركون العديد من الوقائع الموثقة من تاريخ اليهود في أوروبا والمنطقة العربية، وبعضها لم تغفلها المصادر اليهودية والصهيونية أو تنكرها، تفيد بتوظيف الصهاينة المبكر للعنف من أجل إرهاب اليهود أفرادا وجماعات ومؤسسات. وهذا بغرض تحقيق أهداف تبدأ من فرض العبرية لغة للصحف، ولا تنتهي عند عرقلة اندماج اليهود في مجتمعاتهم الأصلية والانخراط في النضالات الديمقراطية والاجتماعية لقواها الحية، وتصل إلى التهجير (الهجرة القسرية) إلى فلسطين، ولو باستهداف اليهود بالانفجارات (كما في حالة يهود العراق 1950).
ولقد استعار “المسيري” مصطلح “Forced Redemption” من قواميس ومعاجم الاقتصاد والأعمال ليعيد توظيفه تحت عنوان “الخلاص الجبري” من أجل تشخيص ووصف التهجير القسري للجماعات اليهودية في العالم إلى فلسطين ثم إسرائيل “الترانسفير الصهيوني لليهود” بزعم أن الصهيونية تعلم بمصلحتهم وتحرص على أمنهم أكثر منهم، وباعتبار أنهم “غافلون” (الموسوعة، المجلد السابع ص 87).
أعلام يهود يستحقون الاحتفاء والتكريم
ولعلنا لو حاولنا أن نعدد ونذكر هنا كل ما يرد على الخاطر من أعلام الفكر والفن والثقافة والأدب والسياسة ممن لهم شهرة عالمية بين اليهود المناهضين للصهيونية أمواتا وأحياء، لخصصنا لهم أضعاف هذا المقال، ولعجزت هذه المساحة عن انجاز هذه المهمة. ولو أنصفت جهات عندنا لاحتفت بهم وبذكراهم، ومنهم أسماء كبرى في العلم مثل: “إينشتاين” و”فرويد”، والفكر كـ”ماركس” و”روزا لكسمبورج” و”تروتسكي” و”إسحاق دويتشر” و”مكسيم رودنسون”، والفن كالموسيقار “جوزيف أبلياه”، وغيرهم كثير. ومعهم ممن ما زالوا على قيد الحياة: المفكر “نعوم شومسكي” والكاتب والناشر الصحفي “روبرت شير” والمؤلف والمسرحي “توني كوشنر” والكاتبة والسينمائية “نعومي كلاين”، وغيرهم أيضا كثر.
واليوم أصبح لدينا قائمة طويلة جديدة من أسماء حاخامات وفنانين وكتاب وساسة وقادة مجتمع مدني لم نكن نسمع عنهم. وهذا بعدما جرى إلقاء بعض الأضواء في الغرب بعد “طوفان الأقصى” على حركات وشخصيات يهودية مناهضة للصهيونية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: “إليسا وايز” و”ليندا هولتسمان” من الحاخامات النساء قادة “صوت يهودي من أجل السلام”.
وهكذا لم يعد الأمر يقتصر على جماعة “ناطوري كارتا” (حراس المدينة) التي تعود إلى عام 1935، أو مجرد تيار أرثوزوكسي ديني يهودي رافض للصهيونية ويرفع أعلام دولة فلسطين.
وعلى أي حال، فإن دوافع مناهضة الصهيونية بين اليهود عديدة، لا تقتصر على تفسيرات دينية كما عند “ناطوري كارتا”، وحاخامات آخرين. فهناك أيضا إلى اليوم رموز وأنصار من منطلقات متعددة بين المرجعيات اليسارية والليبرالية الحداثية، تناهض الاستعمار والعنصرية، ولا تؤمن باليهودية كديانة أساسا لقومية مدعاة أو دولة غير طبيعية.
يستحقون التكريم عربيا
وفي العديد من مجتمعاتنا العربية، رموز يهودية أو من أصول يهودية لها مواقفها المقدرة في مناهضة الصهيونية والدفاع عن الحق الفلسطيني. وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك “شحاتة هارون” المصري اليساري الذي رفض مغادرة بلده واغتصاب الصهيونية ودولتها لتمثيل اليهود. بل أوصى قبل موته عام 2001 بمنع حضور دبلوماسيي السفارة الإسرائيلية وموظفيها بالقاهرة مراسم جنازته ودفنه وعزائه. وهو ما كان، فجرى تأجيل هذه الإجراءات إلى حين استقدام حاخام ويهود آخرين من فرنسا.
ولعله آن الأوان لأن يجرى تكريم “هارون” وأمثاله في البلدان العربية كالراحلين “أحمد صادق سعد” و”يوسف درويش”، وغيرهم من أبناء مصر اليهود أو في مختلف الدول العربية، ولو بإطلاق أسمائهم على شوارع في عواصمهم. ويتمنى المرء أن يحدث هذا كذلك في تونس لذكرى “جورج عدة” و”جيلبار نقاش”، وفي الرباط بشأن “أبراهام السرفاتي”.. وهكذا.
وبالنسبة لفلسطين ذاتها، يصبح من الواجب تكريم هؤلاء اليهود المناهضين للصهيونية، وبخاصة من الفلسطينيين بين أبناء أهل البلد قبل قدوم المهاجرين الصهاينة، من أمثال الراحلين: الحاخام “موشيه هيرش” الذي كان مستشارا للرئيس “عرفات”، والمسرحي “جوليان مير خميس”، والعضو بأول مجلس تشريعي فلسطيني عام 1996 “سلوم عمران”. وكذلك أولئك الذين تمردوا على الصهيونية وغادروا إسرائيل، مثل “إيلان هاليفي” و”جوناتان عوفير” وغيرهم. وكذا من انضموا إلى صفوف المنظمات الفلسطينية مثل “أوري ديفيس”، مع أنهم أبناء لمهاجرين يهود أجانب.
مقترحات للتفكير والعمل
في المحصلة، نحن أمام لحظة انقسام غير مسبوق بين الجماعات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة، وربما كافة المجتمعات الغربية والأوروبية أنجلوساكسونية ولاتينية وغيرها. وهو انقسام يكسر من صورة استلاب جموع اليهود تماما لحساب الصهيونية وإسرائيل.
ووسط هذا الانقسام ومع تطور مجريات عدوان الإبادة الصهيوني الإسرائيلي والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته ثمة نهوض لافت لمناهضة الصهيونية بين الجماعات اليهودية، ومن أجل الحقوق الفلسطينية والعربية. وفوق هذا وذاك، يتنامى الوعي، عالميا وليس عربيا فقط، بالعودة إلى الأسس التاريخية للقضية الفلسطينية، وبخرافة وكذب أن فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
وهنا يلح واجب الوقت بالنسبة لنا، فيستحثنا لإطلاق مبادرات تتجاوب مع هذه التحولات على صعيد يهود العالم، شريطة أن يكون لها الديمومة والآفاق المستقبلية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن التفكير والعمل على:
- بناء أطر تنظيمية من جماعات ومؤسسات مجتمع مدني للحوار والصداقة، ومن أجل جهود مشتركة مع اليهود لمناهضة الصهيونية.
- الاهتمام الإعلامي الكافي والواجب برموز وحركات وأنشطة اليهود المناهضين للصهيونية في كل مكان.
- تخصيص المؤسسات البحثية والرسمية في الدول العربية لمسؤولين وإدارات في شؤون اليهود المناهضين للصهيونية.
- إعادة الاعتبار في الخطاب الفلسطيني والعربي المقاوم لليهود المناهضين للصهيونية، وإعادة النظر في شعارات ظلت تؤسس للصراع باعتباره دينيا بين الإسلام واليهودية، وبين المسلمين واليهود. ونظن أن قيادة “حماس” ذاتها تحاول اتخاذ هذا الطريق، وفي سياق تطورها الجاري وغير المكتمل، ومع تنامي إدراكها بأنها بالأساس “حركة تحرر وطني” لها مرجعيتها الإسلامية. وربما يترجم هذا الوعي البيان الأول لـ“محمد أبو ضيف” قائد “كتائب القسام” عن “طوفان الأقصى”، الذي جاء متخففا إلى حد كبير من التصور الديني للصراع، كما حرص على استخدام مصطلح “صهيوني” وتجنب “يهودي”، ولم يغفل الإشارة إلى أحرار العالم.
لكن تظل هناك حاجة لرفع الالتباس عند حركة “حماس” وحولها بين “ميثاق التأسيس 1988″ و”وثيقة المبادئ والسياسات العامة” المعلنة من الدوحة في فبراير 2017، فضلا عن تطوير الأخيرة. وعلاوة على هذا، فنحن في عالم تغيره ثورة الاتصالات والمعلومات بسرعة غير مسبوقة. ولذا فهو لا يحتمل الإبقاء على لغتين معا: واحدة في الداخل وللأعضاء والأنصار وللمسلمين وحدهم، والأخرى للخارج.
حول دور الدين في نضالاتنا الوطنية
في القلب من التعامل مع نهوض اليهود ضد الصهيونية وإسرائيل الآن، نحن في حاجة إلى حوار بيننا حول دور الدين في نضالاتنا الوطنية. حوار يمكنه أن يصل بنا إلى فهم أكثر عقلانية ورشادة وعملية، وأيضا عمقا بشأن الحياة والدين، ويتقبله العالم من غير العرب والمسلمين. حوار لا ينكر أفضال وقيمة ودور الدين في هذه النضالات، لكنه لا يبالغ فيجعله بمثابة العامل الوحيد الحاسم، ويجعلنا نتشبه بالصليبيين والصهاينة في بناء عصبيات وقوميات وسرديات “مغلقة” أسيرة الدين، أو بالأحرى رهن قراءات شكلية ومتشددة وغير واقعية ولا تاريخية للأديان.
وفي كل الأحوال، لعلنا نعي أنه ليس كل اليهود سواء، ولا حتى كل العرب. ورب يهودي مناهض للصهيونية أقرب إلينا ومع حقوقنا من عربي صهيوني.