
أثار مقتل المراهق نائل، البالغ من العمر 17 عاما، على يد شرطي خلال تفتيش مروري في منطقة نانتير بضواحي العاصمة باريس، الجدل حول عنف الشرطة في فرنسا. لكن هل هذه فعلاً أحداث متفرقة؟ أم أن هناك قمع ممنهج منحاز لصالح طبقة معينة؟
بالأرقام
يبدو أنه من الصعب جرد كل المعلومات والأرقام حول هذا الموضوع، خاصة وأن حكومات الدول النامية لا تجمع أو تنشر إحصاءات رسمية للوفيات التي تسببها جهات إنفاذ القانون لديها. وبالتالي، عادة ما يتم الاعتماد في ذلك على تقديرات المنظمات غير الحكومية ومجموعات حقوق الإنسان والصحافة.
ومن بين البلدان المتقدمة، تأتي شرطة الولايات المتحدة من بين أكثرها تسببا في وقوع الضحايا. فقد تم تسجيل ما يقرب من 1100 حالة وفاة العام الماضي، ما يعادل 33 حالة وفاة لكل 10 ملايين نسمة، وهو معدل أعلى بست مرات عن فرنسا.
وبحسب إحصاء أجرته صحيفة “واشنطن بوست” منذ عام 2015، فإن عمليات إطلاق النار التي نفذت بهدف تطبيق القانون تقتل ألف شخص كل عام في أمريكا، وهو رقم ثابت، على الرغم من الجهود المبذولة للحد من عنف الشرطة.
كما تبرز دولة العم سام أيضا في معدل القتل العمد، بنسبة 6.8 شخص لكل 10 آلاف نسمة، أي 6 مرات أكثر من فرنسا و14 مرة أكثر من سويسرا.
بشكل عام، فإن الدول التي تتسامح مع عمليات القتل خارج نطاق القضاء، هي التي تنفذها الشرطة أكثر من غيرها، ففي هذه البلدان، تتمتع الشرطة بإفلات نسبي من العقاب.
وهذا هو الحال في العديد من دول أمريكا اللاتينية (فنزويلا والسلفادور ونيكاراغوا وكولومبيا والبرازيل والمكسيك) حيث تلجأ السلطات بانتظام إلى عمليات القتل أو الإعدام دون محاكمة بحجة قمع الجريمة أو التخلص من المنشقين.
مثال آخر خارج الأميركتين هو الفلبين. وضع رئيسها السابق رودريغو دوتيرتي بين عامي 2016 إلى 2022 جريمة قتل جماعي كجزء من “الحرب على المخدرات”.
وهو ما أودى بحياة أكثر من 6000 مدني، بينهم أطفال. وكان من بين شعارات الرئيس المنتهية ولايته “أطلقوا النار لتقتلوا”، وهو الأمر الذي كرره لإنفاذ القانون خلال الاحتجاجات ضد الحجر الصحي أثناء جائحة كوفيد-19.
وعند العودة إلى أحداث فرنسا، فيمكن القول إن حكومة البلاد خففت شروط استخدام الأسلحة النارية من قبل الشرطة في عام 2017، ما أتاح إمكانية إطلاق النار في العديد من الحالات، بما في ذلك الدفاع عن النفس. وقد يكون هذا السبب وراء تضاعف أعداد الأشخاص الذي قتلوا على أيدي الشرطة الفرنسية منذ عام 2020 مقارنة بعام 2010.
لماذا عنف الشرطة ومن يخدم؟
تواصل الشرطة هجومها العنيف على كافة الأشكال الاحتجاجيية من مظاهرات واعتصامات وإضرابات. ويتنوع الضحايا ، حيث أنه لا أحد بعيداً عن يد الشرطة. والسؤال هو لماذا؟!
إن للشرطة تاريخ طويل وحافل من العنف ضد المواطنيين، وحتى المسالمين منهم، إن “إيان تومليسون” لم يكن حتى من المشاركين في مظاهرة لندن 2009 ضد “مجموعة العشرين”، لكنه مات على إثر اصابته بنزيف داخلي، بعد تلقيه ضربه من شرطي بهراوة على رأسه لأن حظه العثر جعله يقترب من خطوط الشرطة المحيطة بالمتظاهرين. يأتي هذا بعد مرور حوالي ثلاثون عاماً على مقتل “بلير بيتش” المناهض للفاشية، عندما اعتدى عليه ضابط بالضرب، أثناء مشاركته في مظاهرة ضد “نازيي” الجبهة الوطنية في ساوث هول – غرب لندن.
ولا يعني هذا أبدأ أن الصدام في المظاهرات هو السبب الوحيد لسقوط قتلى على يد الشرطة، فوفقاً للتقارير هناك أكثر من أربعمائة شخص قد لقوا حتفهم داخل أقسام الشرطة في بريطانيا خلال العشر سنوات الماضية، أغلبهم من طبقات المجتمع الفقيرة والملونين. ولم يسمع بالطبع أن الشرطة قد أعلنت مسئوليتها عن تلك الوفيات. والمدافعون عن عنف الشرطة يزعمون أن الشرطة لا تلجأ لاستخدام العنف إلا في مواجهة فئة محدودة جداً، لكن في الحقيقة إن عنف الشرطة هو نتيجة حتمية للدور الذي تقوم به في المجتمع، فالشرطة هي ذراع الدولة المستخدم لقمع الطبقة العاملة.
في ثمانينات القرن الماضي، عنما شنت “مارجريت تاتشر ” وبالتحالف مع حزب المحافظين حرباً طبقية ضد عمال المناجم، كانت قوات الشرطة هي الأداة التي استخدمت لسحق المقاومة العمالية، فتم القبض على أكثر من عشرة آلاف عامل من عمال المناجم والمشاركين في الاضراب. وفي ذروة الأحداث، انضم لإضراب المناجم عشرة آلاف عامل من العاملين في مصنع “أورجريف” لصناعة فحم الكوك، ولكن تم مواجهتهم بعدد مماثل من قوات الشرطة والتي أجبرتهم باستخدام العنف على قطع الإضراب واستئناف العمل.
هاجمت قوات الشرطة أيضاً المظاهرات ضد ضريبة الرأس عام 1990، والمظاهرات ضد مشروع قانون العدالة الجنائية عام 1994. وفي عام 2009 وأثناء احتلال العمال لمصنع “فيستيون آند فيستس”، هددت الشرطة بالتدخل وسحق أية مقاومة من قبل العمال، في حين إن أصحاب المصنع الذين فصلوا وشردوا مئات العمال لم ينالوا أي عقاب يذكر.
إن الدولة بعيدة تماماً عن كونها طرفاً محايداً في الصراع الطبقي، لقد وجدت الدولة للدفاع عن مصالح الرأسمالية، وأصول الشرطة تعكس هذا، فأول ظهور للشرطة بشكلها الحالي كان للشرطة المسئولة عن حماية العاصمة البريطانية، لندن، والمعروفة بأسم “متروبولتان”، ظهرت في عام 1829 لمواجهة قوة الطبقة العاملة المتزايدة آنذاك.
ففي هذا الوقت لم يكن قد مرت خمس سنوات على تشريع النقابات وهو الشئ الذي تمكن العمال من تحقيقه بعد سلسلة طويلة من الاضرابات واسعة النطاق. في عام 1848، قام “التشارتيون” – أول حركة عمالية في التاريخ- بتنظيم مظاهرة ضخمة من مائة وخمسين ألف عامل في كيننجتون – جنوب لندن. هدفوا إلى السير حتى مبنى البرلمان البريطاني لتقديم ميثاقهم الوطني الموقع من ستة ملايين مواطن، ولكن الحكومة تدخلت ومنعت المسيرة خوفاً من إندلاع ثورة.
هناك قول شائع مفاده أننا في حاجة إلى الشرطة لحمايتنا من الجريمة، لكن ووفقاً لأرقام الشرطة الرسمية، فإن الضباط لا يتعاملون مع الجرائم فعلياً إلا بمعدل جريمة كل أربعة عشر عاماً، وبهذا يصبح لدى الشرطة متسع من الوقت لمطاردة المظاهرات وملاحقة تجمعات القوة العاملة. وحتى عندما يحققوا في جريمة ما، غالباً ما تنصب جهودهم على السرقات من الشركات والأثرياء، ومن وجهة نظر الشرطة بالطبع، هناك بعض الجرائم التي تمثل خطورة على المجتمع أكثر من غيرها، على سبيل المثال إن سارقي المليارات من الشركات الكبرى سنويا نادراً ما نجدهم خلف القضبان.
هل يمكن أن تتغير الشرطة؟
قد ينضم البعض للعمل في الشرطة ولديه قدر كاف من النوايا الحسنة، ولكن سرعان ما يجبر على مسايرة النهج العام للشرطة، أو على الابتعاد تماماً. ومنهم من ينتمي للطبقة للعاملة ولكنهم ليسوا عمال، لقد اعتادوا كراهية العمال. ويتم تدريب الضباط الجدد على المنهجية المتبعة في جهاز الشرطة لحماية الدولة الرأسمالية، التي توفر لهم الأسلحة لضمان تحقيق تلك الحماية، وتضمن لهم أيضاً الحماية من المساءلة عن اعمالهم، كما أن مرتبات ضباط الشرطة دائماً ما تكون أعلى من متوسط الأجور بشكل عام لضمان عدم تعاطفهم مع الفقراء والمحرومين.
وفي فترات السلم الاجتماعي حينما تخبو حدة الصراع الطبقي نسبياً، تلجأ الشرطة للعنف في أضيق الحدود وعندئذ يتمكنوا من الحفاظ على وهم أنهم على الحياد، ولكن في فترات الأزمات واشتداد الصراع الطبقي يصبح دور الشرطة الحقيقي أكثر وضوحاً للملايين من الناس. الحل الوحيد هو إلغاء جهاز الشرطة تماماً، وسبيلنا الوحيد لتحقيق ذلك هو الكفاح من أجل بناء مجتمع اشتراكي.
الخط الأمامي عن جريدة العامل الاشتراكي وعدة وكالات «بتصرف»