
بشكل عام في الأنظمة الشمولية لا يوجد شيء اسمه ” إعلام ” وإنما نوع من الدعاية الإعلامية الثابتة والموجهة لجمع من الناس، وهو ما يُعرف بمصطلح “بروباغندا”، فجميع وسائل التواصل الجماهيري من صحف وراديو وتلفزيون وكتب وخطابات (حتى خطابات صلاة يوم الجمعة في الأنظمة العربية الشمولية) تخضع بشكل مباشر ومُحكم لرقابة أمنية سياسية دقيقة من قبل الأنظمة الشمولية، وتُعتبر البروباغندا الحامل اللغوي للإيديولوجيا التي يحوّلها كل نظام شمولي وإعلامه إلى عقيدة، مهمتها الأولى الدفاع عن النظام السياسي ورأسه وتشويه كل من يخالفه.
ومن المؤكد أن لكل نظام شمولي منظومة لغوية خاصة به بحسب عقيدته الخاصة (فاشية، نازية، ستالينية، إسلاموية، صهيوينية، قومية…) ولكن مهما اختلفت هذه المنظومة اللغوية من نظام شمولي لآخر حسب الزمان والمكان، يمكننا أن نلاحظ ثلاث أشياء:
الملاحظة الأولى، في زمن السلم والاستقرار تتركز الدعاية الإعلامية على تمجيد رأس النظام والتغنّي بمنجزاته العظيمة في مجال بناء الوطن والاقتصاد والمجتمع، وغالباً ما يحاول الطغاة ربط اسمهم بالإخلاص ولحداثة والتحديث للتأكيد على أن الوطن قبل وصولهم المبارك للسلطة كان في عهد الظلمات، فنجد هناك “الأب المؤسس باني سوريا الحديثة” و “باني العراق الحديث” و “باني ليبيا الحديثة” و”أبو الشعوب” لستالين بالرغم من أنه مسؤول عن موت ملايين البشر… و تكون المهمة الأساسية لوسائل الإعلام هي صناعة صورة استثنائية للطاغية ولرأس النظام لوضعه فوق مواقع الآخرين من حيث القدرات الفكرية وتميّز الأداء و ابتكار أو توظيف قصص بطولات خرافية عن بعض الخوارق التي ترتبط ببعض سلوكيات القائد إلى درجة اعتباره مصدر إلهام الشعب في العلوم والآداب والفنون فالقائد هو الراعي الأول للعلم و العلماء وهو “المعلم الأول” لأن المعلمون هم بناة الأجيال وهو الطبيب الأول و المهندس الأول و الفنان الأول و الجندي الأول والفدائي الأول و الفلاح الأول…
وفي جميع وسائل الدعاية (صحف، تلفزيون، راديو…) يتم التركيز على الوحدة الوطنية والتلاحم بين القيادة والقاعدة الشعبية، وقد ترفدها مفاهيم تتقدم أو تتراجع حسب السياق التاريخي، كالروح الوطنية والديمقراطية والاشتراكية والصمود والتصدي والتقدمية والازدهار الاقتصادي والعلمي التي تعيشه البلاد بفضل حكمة وذكاء القيادة.
طبعاً، لا يخفى على أحد أن الإعلام في الأنظمة الشمولية لا يمكن أن يكون إلا إعلاماً منفصلاً تماماً عن الواقع على شاكلة القيادة ورأسها الذي يتحول لطاغية، فغالبا ما تكون الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطن مزرية، وبعيدة كل البعد عن ما تصوّره بروباغندا النظام الشمولي، فمثلاً بينما كان تلفزيون ألمانيا الشرقية يتغنّى بالرفاهية والازدهار الاقتصادي ومستوى السعادة الذي يتمتع به مواطنوها كان المئات من الألمان الشرقيين يحاولون يومياً الهرب عبر الجدار الفاصل بين الألمانيتين معرضين حياتهم للخطر وللموت!
الملاحظة الثانية، تحدثنا سابقاً عن إعلام الأنظمة الشمولية في زمن الاستقرار والسلم، أما الآن سنصف هذا الإعلام في زمن الاضطرابات السياسية والثورات. فمع اول هزّة سياسية تتعرض لها الأنظمة الشمولية، وخاصة إذا كانت عبارة عن احتجاجات جماهيرية من طبقات معين كالطلاب أو العمال أو الموظفين والفلاحين، تختفي عبارات الوحدة الوطنية والكبرياء الوطني وعظمة الشعب الحضاري العريق الذي يرأسه القائد العظيم لتَحُل مكانها عبارات تجسّد حالة الانقسام والفتنة والطائفية في بعض المجتمعات، وتتحول بروباغندا النظام الشمولي إلى نوع من التجييش والتخويف من المستقبل والتهديد والمقايضة “إما القبول بواقع الاستبداد والعبودية وإما الفوضى والخراب”، “إما الجوع أو الركوع”، كما فعل نظام الطغمة في سوريا.
ابتزاز الشعب بالأمن والأمان، مقابل تخلّيه عن مطلب الحرية هو المحرك الأساسي لإعلام الأنظمة المستبدة حين تثور عليها شعوبها، وتحاول جاهدة هذه الأنظمة وماكينتها الإعلامية تصوير شعوبها على أنها قاصرة ومتخلفة همجية غير قادرة على قيادة نفسها (شعوب لا تعرف ما هي الحرية ولا تستحقها)، وتسوّق مقولات تدعّم ذلك “نحن شعب لا يلبق له غير البوط”، و بالطبع هذه الشعوب “الهمجية” بحاجة دائماً لحكم القائد العظيم القوي لضبطها ووضعها على الطريق الصحيح، وإلا سيكون مصيرها الضياع، و لهذا السبب تنتشر قصص العصابات المسلحة والخطف والاغتصاب والخبز المسموم والمشروبات المسمومة في فترات التمرد والاحتجاجات والثورة، ليس فقط من أجل إثارة البلبلة والزعر وتضييع الحقيقة وحسب، بل من أجل تأجيج المخاوف من المجهول وتغييب قدرة الفرد على التحليل والفهم واستنفار عواطفه وتغييب عقلة وبالتالي استنفار الهويات العرقية أو الطائفية النائمة. فالخوف والهلع يحرك غريزة البقاء، ويستنفر الشعور الجمعي القطيعي للدفاع عن “نحن” الأخيار والطيبون والوطنيون ضد “هم” الأشرار والخونة، ومن أفضل من النظام والقيادة الحكيمة التي نعرفها للدفاع عن هذه ال “نحن” المهدّدة بالإبادة في حالة رحيله؟ وبالطبع تعتمد الماكينة الإعلامية على استراتيجية التأطير والتكرار للوصول لمرحلة التخدير الإعلامي، أي قبول المعلومات بدون أي محاكمة عقلية لها.
الملاحظة الثالثة، سواءً في زمن الاستقرار والسلم أو الاضطرابات السياسية والحرب هناك ثلاث مصطلحات مستخدمة بشكل يومي في وسائل إعلام الأنظمة الشمولية: عدو، مؤامرة، خيانة. فمن خصائص الأنظمة الشمولية أنها تفتعل الأزمات وتخلق أجواء متوترة ملائمة لإثارة الحروب مع أعداء خارجيين لإلهاء شعوبها عن الصراع الطبقي والمطالب الحياتية، فلكل نظام شمولي عدوه الخارجي والمهمة الأولى له هي مقاومة هذا العدو الشرير، وأي مطالبة بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتوزيع عادل للثروة وتحسين الأوضاع المعيشية هي مؤامرة المقصود منها إضاعة الوقت والجهد. ففي الأنظمة الشمولية العربية، اختبأ القادة الحكماء خلف قضية فلسطين وأولوية معركة تحرير الأرض على الديمقراطية والحقوق، ورددت أجهزة البروباغندا الخاصة بهذه الأنظمة مقولة أن: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” التي لم تكن، في الواقع، أكثر من ذريعةٍ لتبرير العنف، وقمع الحركات التحرّرية الديمقراطية، ونهب الشعوب والأوطان واستباحتها، حتى قال فيهم نزار قباني “كانتْ فلسطينُ لكمْ دجاجةً من بيضِها الثمينِ تأكلونْ”.
الأنظمة الشمولية تعيش دائماً في حالة حرب مع عدو ما، فهذه الحالة تعدُ مجالاً مناسبا لممارسة العنف والقمع والقتل دون حسيب أو رقيب، كما أنه تشكّل أرضية مناسبة لممارسة الاستعراضية القيادية والخطابية، وتاريخ الطغاة من جنكيزخان وهولاكو ونيرون إلى هتلر وموسيلني وماوتسي تونغ و ستالين وصولاً إلى جمال عبد الناصر وصدام والقذافي والأسد يشهد بحقيقة هذه الحالة الحربية التي يضع فيها الطغاة شعوبهم.
تكمن خطورة بروباغندا الأنظمة الشمولية بأن لغتها تدخل في الاستعمال الشعبي والجماهيري، حتى لو لم تؤمن هذه الجماهير بعقيدة الأنظمة، فتنقلب المعايير رأسا على عقب. هذا بالرغم من أن هذه اللغة لا يتم فرضها بالقوة في بعض الأحيان، ولكن استراتيجيات التأطير والتكرار تجعل المواطن، الذي يشقى من أجل الحفاظ على نفسه و تحسين حالته، يتبنى بشكل لا إرادي لغة النظام ويستخدمها لأنه يعلم أنها المفتاح الوحيد للنجاح وحماية النفس.
عزام أمين