
نضع القارئ أمام هذه التفاصيل ليدرك جيدًا الأرضية الاقتصادية لصراع المصالح والنفوذ في شمال غرب سوريا، إسهامًا في تحليل دقيق للواقع في سبيل العمل على تغييره، لا ليغرق في يأس تريده الثورة المضادة.
نشأ خلال السنوات القليلة الفائتة سوق للمحروقات في شمال وشمال غربي سورية يعمل فيه عشرات آلاف الأشخاص المعتمدين في معاشهم على عمل يشهد تنافسًا للسيطرة عليه من مختلف أطراف الصراع، خاصة هيئة تحرير الشام التي تحاول عبر أذرع لها الهيمنة على السوق وتجييره لصالحها.
يضم الشمال السوري اليوم مئات الحراقات البدائية التي استطاعت تأمين احتياجات المنطقة من المحروقات التي تأتي خامًا من مناطق قوات “سورية الديمقراطية” في شمال شرقي سورية الذي يضم الجانب الأكثر من الثروة النفطية في البلاد.
بيّن مصدر خاص لـ “الخط الأمامي” أن نحو ألفي برميل من النفط يجري إدخالها إلى شمال سوريا شهريًا من مناطق سيطرة قوات “سورية الديمقراطية” (قسد) عبر معبر “الحمران”، ويحمل كل صهريج نحو 40 طنًا. ويدخل النفط بأنواع مختلفة مثل زفت رويس ورويس قبينه ورويس منهل، وتتراوح أسعار الطن من 300 إلى 350 دولارًا.
أصحاب الحراقات يحصلون على النفط الخام من شركة الأنوار الخاصة، التي تشتريه من الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، وتوزعه على أصحاب الحراقات للمعالجة.
يوجد نحو 700 حراقة في الشمال، وقد شهدت عملية الحرق تطورًا، إذ يمكن للحراقة الواحدة إنتاج نحو 700 برميل في اليوم. وينتجون المازوت والبنزين والكاز والفحم الحجري المستخدم للتدفئة.
يوجد مجموعة من التجار يقومون بشراء هذه المنتجات النهائية ونقلها إلى شمال غرب سوريا حيث مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام. يستفيد عشرات الآلاف من المدنيين من سوق المحروقات في إدلب، ويوفر هذا السوق فرص عمل للكثير من الأشخاص.
كانت هيئة تحرير الشام قد حاولت أواخر العام الفائت، وضع يدها على معبر الحمران عن طريق حركة “أحرار الشام – القاطع الشرقي” الموالية لها، في خضم صدام دموي بين الفصائل، وهو ما دفع عددًا من أصحاب الحراقات والتجار لتنفيذ وقفة احتجاجية مطلع العام الجاري في بلدة ترحين قرب مدينة جرابلس، التي تتجمع فيها الصهاريج التي تحمل النفط الخام من منطقة شرقي نهر الفرات، احتجاجًا على احتكار توريد المحروقات من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وفرض أسعار جديدة.
في مارس/آذار الفائت، وافق فصيل أحرار الشام على تسليم العائدات المالية لأهم المعابر في الشمال السوري إلى وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، وهو ما نزع فتيل اقتتال دموي آخر في الشمال السوري.
سوق المحروقات يتحكم بمفاصل اقتصاد الشمال السوري
من الواضح أن لسوق المحروقات في الشمال السوري “أهمية كبرى” لأنها تتحكم بمجمل مفاصل الاقتصاد، وحتى في الناحية العسكرية فالآليات لا تتحرك دون محروقات، ومن يسيطر على هذه السلعة يفرض سيطرته على المنطقة.
على اعتبار النفط مصدر دخل كبير، فهامش الربح فيه مرتفع، ويوفر سيولة تؤمن التحكم بالسوق التجاري، فضلًا عن كونه مصدرًا للقطع الأجنبي (الدولار)، وهذه أهمية اقتصادية مباشرة للتعامل مع النفط.
كما أن النفط فتح علاقات تجارية مباشرة بين أمراء الحرب في سورية، ويلعب هذا دورًا في شراء ولاءات فصائل، مثلما حدث عندما تدخلت هيئة تحرير الشام العام الفائت إلى جانب حركة أحرار الشام في الصراع للسيطرة على معبر الحمران.
تلعب تجارة النفط دورًا في كسب ود الجانب التركي واستقرار الأسواق في الشمال السوري، ما يهم النظام التركي أيضًا.
لكن من الصعب تحديد حجم الأموال المتداولة في سوق المحروقات في شمال سورية، أو حجم الأرباح في هذا القطاع، لأن كل الأطراف تتكتم على هذا الأمر، لكي لا تثير الشكوك، وتُفتح معارك لمقاسمتها.
تهريب النفط من الشمال السوري إلى مناطق النظام
تتكتم حركة أحرار الشام على اسم الشركة التي تستورد النفط من تركيا إلى داخل سورية، إذ يوجد شبكة من الوكلاء المحليين تهرّب النفط من مناطق قسد ومن مناطق النظام وإليها، ولا يمكن حصر الأرباح في هذا القطاع.
لا تأتي الأرباح في هذا القطاع فقط من بيع المادة مباشرة، بل توجد رسوم تضاف عند نقل النفط وجميع الواردات إلى الشمال السوري تتم بالدولار للأفراد والمنظمات التي تشتري مشتقات النفط.
بما أن الشمال يتعامل بالليرة التركية، يحوِّل التجار الليرة إلى دولار لدى مؤسسة النقد التابعة لهيئة تحرير الشام في شمال غربي سورية لسداد قيمة النفط، وكل هذه الأمور تمنح الهيئة هامشًا كبيرًا لتوفير سيولة مالية والتحكم بالسوق وكسب ولاء تجار المنطقة.
صراع الوقود.. أساليب مبتكرة
قامت الهيئة مؤخرًا وباستخدام عدة أذرع لها بإحكام قبضتها على سوق مادة المازوت، وفرضت بوساطة هذه الأدوات على أصحاب المحطات وتجار المازوت شروطًا عدة تتعلق بتحديد الكميات المراد شرائها أسبوعيًا، وذلك في مساعٍ للسيطرة على السوق، من جهة تزويد المحطات بالمادة، وصولًا إلى تعمد عدم بيع المادة لمحطات محددة تديرها الهيئة بواجهات متعددة، لتبدأ رحلة الاحتكار ورفع الأسعار.
لضمان فعالية أساليب “تحرير الشام” في احتكار السوق اعتمدت أذرعها طريقة تسديد ثمن عبر شركة حوالات مالية محلية يديرها صراف يعد شريكًا لأحد الشخصيات التي تعد أداة للهيئة، وطلبت الأخيرة من أصحاب المحطات وتجار المازوت الموجودين في الأسواق الداخلية التعامل مع الشركة في التعاملات التجارية التي تخص دفع ثمن المازوت.
الهيئة تتغلغل وصراع المصالح
كشفت مصادر محلية خلال الأشهر الماضية عن عدم التزام “تحرير الشام”، بوعود تخفيض أسعار المحروقات حيث بقيت الضرائب والرسوم المفروضة من قبل الهيئة كما هي دون تخفيض، فيما لجأت إلى طرح نوعية رديئة من الوقود في محاولة للالتفاف على وعود تخفيض الأسعار.
أكد عدد من السكان في محافظة إدلب بأنَّ النوعية المطروحة وقتذاك من قبل “هيئة تحرير الشام”، رديئة جدًا، وتقوم محطات الوقود ببيع البرميل الواحد منها بسعر 117 دولار أمريكي.
كان خرج المدير العام للمشتقات النفطية في حكومة “الإنقاذ”، أكرم حمودة، في تصريح نقلته وكالة “أنباء الشام” التابعة للحكومة، عن عودة توريد الوقود من شمالي حلب وانخفاض تسعيرته دولارين على البرميل، وحمل المسؤول رفع تكاليف أسعار الوقود للرسوم التي تفرضها الحواجز التابعة للفصائل شمالي حلب، وقال: “انخفضت كلفة الاستيراد بعد إلغاء دور أحد الحواجز التي تفرض ضريبة دولارين على كل برميل قادم إلى المنطقة، ونتيجة لهذا الإجراء انخفض صباح اليوم التالي سعر برميل المازوت المكرر والمحسن دولارين”.
أضاف إن بعض حواجز ريف حلب الشمالي، لا تزال تفرض مبالغ كبيرة بنحو متفاوت وغير منطقي على عبور صهاريج المحروقات إلى إدلب، وتغافل المسؤول التابع للإنقاذ، لحجم الضرائب والرسوم التي تفرضها “هيئة تحرير الشام” على معبر “الغزاوية”.
مبادرة شعبية لاقت الرفض
أطلق نشطاء في وقت سابق، مبادرة شعبية، هدفها خفض أسعار المحروقات، تقوم على إيصال برميل المازوت من مصدره شمال حلب حتى إدلب دون فرض رسوم مالية عليه من قبل الفصائل والمجالس والحكومات، وتم إبلاغ جميع المتحكمين بالطرق بهذا الأمر.
لكن “هيئة تحرير الشام” رفضت التنازل عن حصتها البالغة 30 دولارًا مقابل كل برميل مازوت يدخل الى منطقة إدلب على معبر “الغزاوية”، وأصرت على أخذ كامل المبلغ دون تنازل أو حتى تخفيضه رعاية للشعب المقيم في مناطق إدلب.
وكالات – الخط الأمامي