
يتساءل الكثير من الناس عن السر الكامن خلف ظاهرة السلوك العبودي تجاه السلطة، أو تجاه الزعيم، أو تجاه الطائفة، ولماذا يضحي الفرد بنفسه، أو يقتل نفسه، أو يقتل الناس من أجل الحصول على رضا الزعيم أو رئيس السلطة، أو زعيم الطائفة أو يُقبل الحذاء العسكري تعبيرًا عن هويته الوطنية كما يظن.
إن التعبير عن السلوك العبودي تجاه السلطة من جعل الفرد يُقبل الحذاء العسكري، باعتبار أن الحذاء العسكري أصبح رمزًا وطنيًا في مخيلة الفرد، أي بقدر ما يقدم خدمة للزعيم بقدر ما يعد نفسه وطنيًا. هذا النوع من السلوك طقس من طقوس العبودية؛ طقوس عبادة السلطة. لذلك نرى أن الكثير من البشر تفعل أي شيء من أجل إرضاء الزعيم أو التقرب من السلطة.
لا شك أن سلطة الصور الانطباعية الذهنية، التي تتشكل لدى الفرد في عملية التنشئة الاجتماعية الأولية تلعب دورًا مهمًا، إذ تشكل هذه الصور الذهنية مسارًا ذهنيًا يؤثر في الفرد وفي شعوره وأفعاله عبر الأجيال، هذه الانطباعات الذهنية ليست إلا تتابعًا زمنيًا مدمرًا للفرد، إذ تشكل جزءًا أساسيًا من هويته الثقافية، ويغرسها الأهل في عقول أبناءهم، حتى تصبح هذه الصور الانطباعية الذهنية توجيهات ونماذج متحكمة بالسلوك الفردي والجماعي لحقبة زمنية كاملة عبر تشكيل هوية الفرد الثقافية.
هذا السلوك له علاقة بما يسمى بالاستلاب النفسي المعرفي، والاستلاب النفسي المعرفي من أخطر الأمراض النفسية التي يتعرض لها الفرد المستلب، لأن الاستلاب يشل العمليات العقلية المعرفية، حتى يصل الفرد لمرحلة التشظي نفسيًا ومعرفيًا، ولا يملك القدرة على التركيز والقيام بعمليات إحكام سلوك العقل، إضافةً إلى الصراع النفسي الداخلي نتيجة عملية الاستلاب. والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يقوم الزعيم بجعل حاشيته وأنصاره يمارسون طقوس عبادته، وممارسة طقوس العبودية تجاه السلطة.
من المعروف أن أي نظام قمعي، استبدادي يشكل حوله العديد من الناس، يجعلهم يلتفون حوله وهو من يُسهم في انتقائهم، ومعظم هؤلاء الناس من البسطاء والفقراء كي يتمكن من استغلالهم أبشع الاستغلال وزجِّهم في حروبه دفاعًا عن سلطته وفساده وهمجيته. ومن المعروف أن أي نظام قمعي يسعى لتشكيل منظومة معرفية عند العبد، يستطيع من خلالها تشكيل منظومة أخلاق مدافعة عن السلطة أو الزعيم بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية يجب قتل مفهوم الحرية بداخل العبد أو جعل مفهوم الحرية مرتبطًا بالخوف أو الموت. والتساؤل الثاني كيف تستطيع السلطات القمعية الاستبدادية تشكيل منظومة أخلاق مدافعة عن السلطة، وكيف تستطيع إدارة سلوك هؤلاء البشر.
إن علم النفس يفيدنا بأنه لا يوجد سلوك له علاقة بالصدفة، ولكن السلوك هو نتاج عمليات تفاعلية بين مكونات الفرد النفسية، لهذا نجد الفرد يمارس طقوس العبودية تجاه السلطة. فالفرد الذي يمارس عبوديته تجاه السلطة ليس إلا حالة من التعبير اللاشعوري الجمعي لوظائف عملية التربية وعملية التنشئة الاجتماعية الأولية التي تلقاها الفرد منذ نعومة أظافره. إذ يتلقى ويتلقن الفرد منذ صغره المفاهيم الأساسية التي تتعلق بهويته الدينية والطائفية، فتقوم الأسرة الممثلة بسلطة الأب بعملية التغذية وتعزيز هوية الفرد الدينية والثقافية، وكيفية تقديس الطائفة وتقديم فروض الطاعة للطائفة ولزعيم الطائفة، هنا يبدأ استلاب الفرد ويبدأ بممارسة طقوس العبودية من تقبيل يد الأب إلى تقبيل يد زعيم الطائفة أو رئيس الدولة إلى تقبيل الحذاء العسكري رمزًا من رموز السلطة السياسية.
بهذه المرحلة من العمر تبدأ برمجة السلوك على مبادئ سلوكية عدة، وهي شرعنة العنف ضد الآخر المختلف ثقافيًا ودينيًا وطائفيًا، وتبخسيه وتكفيره، ومن ثم تنميط الفرد وتعزيز هويته الطائفية أو المذهبية بأنها الهوية المميزة الأقرب إلى شرع الله، والآخر لا يملك هذه الهوية لأنه بعيد عن شرع الله ومن ثم هو كافر يستحق القتل والتدمير، ولأن الفرد بهذه المرحلة من العمر لا يستطع مناقشة السلطة المتمثلة بسلطة العائلة التي يقودها الأب، ولأنه أيضًا خضع لمنظومة القدسية، قدسية العائلة وقدسية الأب، ونتيجة الاستلاب الذي دمر منظومة العمليات العقلية وشلها، يبدأ الفرد بممارسة طقوس العبودية ميكانيكيًا أو لا شعوريًا لأنها قائمة على عملية الاشراط الإجرائي.
لأن الاشراط التي تقوم به السلطة، والمقصود هنا كل أشكال السلطة من سلطة العائلة إلى سلطة الطائفة إلى سلطة المجتمع، الهدف منه تعديل سلوك الفرد عبر تعزيز ثقافة الخوف من الآخر، الخوف من كل شيء، الخوف من الخوف نفسه، هذا الخوف يتلقاه الطفل عبر مجموعة إجراءات لفظية يخزنها في عقله ولأنه مستلب لا يملك عملية سلوك إحكام العقل المتعلقة بالتحليل والتركيب والاستنتاج، ومن ثم تصبح هذه الإجراءات اللفظية صورًا انطباعية ذهنية تشكل كينونة الفرد النفسية والشخصية، ومن ثم يمارس الفرد سلوكه العبودي تجاه السلطة، بدءًا من سلطة الأب وانتهاءً بسلطة النظام السياسي، وتصبح رموز السلطة جزءًا من هويته التي يُعبر عنها، ومن ثم يصبح تقبيل الحذاء العسكري رمزًا من رموز السلطة العسكرية للزعيم تعبيرًا وطنيًا.
وعودةً إلى السؤال: كيف تستطيع الأنظمة القمعية تشكيل منظومة أخلاق مدافعة عن السلطة؟ أشرنا إلى أن السلطة تسعى لتشكيل منظومة معرفية عند العبد، يستطيع من خلالها تشكيل منظومة أخلاق مدافعة عن السلطة أو الزعيم بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية يجب قتل مفهوم الحرية بداخل العبد أو جعل مفهوم الحرية مرتبطًا بالخوف أو الموت.
هذا ما تمت ملاحظته في بداية الانتفاضة السورية ضد نظام الاستبداد عام 2011، إذ عمد النظام السياسي إلى تسريب مقاطع لبعض الفيديوهات المرتبطة بضرب وقمع وحشي للمتظاهرين المطالبين بشعارات الحرية (بدك حرية) ثم يبدأ عنصر الأمن برفس وضرب المتظاهر بطريقة وحشية مستخدمًا ألفاظًا نابية وبلهجة طائفية، هذه الفيديوهات لا تُسرَّب عبثًا، بل عن قصد، والهدف منها إظهار وحشية النظام ضد كل من يفكر بالتظاهر ضد السلطة، والهدف الثاني وهو الأهم زرع الخوف في قلوب مناصري السلطة وحاشية الزعيم، ومن ثم عند زرع الخوف بداخل المناصرين تتم عملية الاشراط بالمعنى السلوكي، فيضمن سلوكهم العبودي تجاهه وتجاه سلطته، وبالمحصلة يصبح الخوف مفتاح الطاعة للزعيم الممثل للسلطة.
وقد استطاع النظام إخضاع الفنانين والمثقفين والمشاهير من الرياضيين لطاعته واستخدمهم بوقًا للدفاع عن سلطته، والهدف من استخدام هؤلاء المشاهير هو تحريك طفولة الأنا عند الفرد التي رضعت كل أشكال التفكير الأسطوري والخرافي في أثناء عملية التنشئة الأولية المتعلقة بالاعتقادات الروحية والمذهبية والطائفية التي ظهرت على السطح من طريق اللهجة المتعمدة في أثناء ضرب كل من تظاهر ضد النظام (بدك حرية).
إن أخلاق وسلوك العبودية تتطابق بعضها مع بعض، لذلك نجد أن التحليل النفسي يقودنا إلى أن الأخلاق ليست عملية وهمية ميتافيزيقية بهذا المعنى، الأخلاق لها علاقة بتأثيرات عملية التربية وقبول الطاعة لمجموعة سلوكيات يقوم بها الفرد. لذلك نجد أن الفرد المستلب العبد لا يستطيع أن يمارس أي شكل من أشكال الحرية أو أن يقوم بأي دور أو سلوك له علاقة بالحرية. المستلب العبد لا يستطيع أن يكون حرًا، لأن سلوكه يتماهى مع السلطة، هو بحاجة دائمة إلى السلطة لأن سلوكه ناتج عن الاستلاب المعرفي والنفسي.
فالعبد يُحقر ذاته وهو يمارس طقوس الدفاع عن السلطة، يُحقر ذاته ويطمس هويته الإنسانية، لأنه لا يرغب في أن يرى نفسه في المرآة بنحو صحيح، ومن ثم يطمس هويته والهدف من ذلك إرضاء منظومة الاستلاب الخاضع لها، التي تشكلت منذ نعومة أظفاره ودمرت العمليات المعرفية والعقلية المتعلقة بالاستنتاج والاستقراء وسلوك إحكام العقل، لذلك نرى العبد مُصابًا بهوس استمتاعي، عندما يقوم بعملية الطاعة، وينغمس بعبوديته عقليًا ونفسيًا. فالفرد الذي يمارس طقوس العبودية تجاه السلطة هو شخص غير منتج للحياة، يعاني دائمًا من عُصاب القلق ويعتقد أن كل ما يفعله يصب في مصلحة الزعيم. هذا الاستلاب يجعله مسلوب الإرادة معزولًا غير قادر على ممارسة أي عمل إنساني وغير قادر على ممارسة الحرية.
مقال رأي للدكتور فراس الجندي