الدين والتديُّن واليسار الثوري

تناولت كل العلوم الاجتماعية -تقريبًا- ظاهرة الدين والتدين. في كتابه “التحليل النفسي والدين”، عرَّف إريك فروم الدين بأنه “نظام فكري وسلوكي مشترك بين مجموعة من الأفراد، يعتقدون بأنه يستحق أن يكرسوا حياتهم من أجله”.
يؤكد فروم أن اتجاهات الأفراد نحو الدين تختلف بحسب نزعتين أساسيتين، هما: التملك والكينونة. فهناك من يتديَّن ليمتلك ويسيطر، وهؤلاء يضخِّمون شكليات دينية ومفاهيم الطاعة والامتثال في الدين، وهناك من يتديَّن ليكون (أي ليهذب كيانه بقيم الدين الكبرى مثل المحبة والمشاركة والعطاء) وهؤلاء يركزون على الجانب الجوهري الإنساني والمعنوي في الدين.
عمومًا، أكَّد العديد من الباحثين أن بعض الناس لا يستطيع الاستغناء عن الدين بوصفه مصدرًا حيويًا للشعور بوجود غاية من الحياة وتزويدهم بالدافعية للمضي قدمًا نحو تلك الغاية، إضافةً إلى بناء مشتركات اجتماعية كانت/أصبحت أساسًا في التواصل فيما بينهم.
ما يهمنا هنا هو التمييز بين الدين والتديُّن، هذا الأخير هو أسلوب التعبير عما يعتقده الفرد دينًا، ويمكن تقسيم أنماط التديُّن إلى نمطين رئيسين: تديُّن جوهري وتديُّن ظاهري.
التديّن الجوهري/الداخلي بحسب جوردان ألبورت -هو تدين الكينونة بحسب فروم- يُعبر عن إيمان فردي حقيقي بأهمية الدين ومحاولة العيش وفق قيمه ومعاني تعاليمه وليس شكلها. في هذا النمط يكون الوجدان الديني في أنضج مستوياته؛ إذ يسعى المتديِّن إلى تحقيق معاني/جوهر دينه وليس ظاهره. تؤكد الدراسات أن المتدينين جوهريًا هم الأقل تمييزًا وتعصُّبًا والأكثر تسامحًا وانفتاحًا على الآخر المختلف.
التديُّن الظاهري/الخارجي بحسب ألبورت، تدين التملُّك بحسب فروم، هو نمط التديُّن الذي يتخذ من الطقوس (كالشكليات – الحجاب – اللباس – الذقن – التظاهر بالتديُّن…) وسيلة للتديُّن، ومن الدين وسيلة لتحقيق أهداف غير دينية: مثل الشعور بالانتماء والحصول على المكانة والقبول والاحترام، تحقيق المكاسب المادية والمعنوية، وإمكانية التبرير الذاتي، والتفوُّق الاجتماعي والسيطرة.
يسمِّي الباحث نصر حامد أبو زيد (2010) هذا الشكل من التديُّن بالتديُّن النفعي أو الغرضي أي “تحويل الدين إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية”، وغالبًا ما يتأثر بالعادات والتقاليد، ويعبر عن وجدان ديني غير ناضج أو غير فاهم لجوهر الدين. وتؤكد الدراسات أن هذا النمط من التديُّن هو تديُّن اجتماعي مرتبط بالهويات وبالعلاقات الاجتماعية أكثر من ارتباطه بالدين نفسه، لذلك هو على علاقة وثيقة بالتعصب والانغلاق، والتطرف الديني.
هذا الأخير، هو حالة فردية واجتماعية معقَّدة ولها علاقة بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وهويايتة، والتطرُّف الديني ليس مجرد خطاب ديني متطرِّف يمكن الردُّ عليه أو مواجهته بـخطاب ديني رسمي “معتــدل” تابع للأنظمة القائمة كما هو الحال في الدول العربية. فهذا الخطاب الرسمي التابع لأنظمة الحكم في دول العالم العربي والمفترض أنه يواجه التطرُّف والإرهاب، ساهم ويُساهم -بنحو مباشر وغير مباشر- في خدمة التطرف، وساهم ويساهم في نشره من حيث لا يريد، لأنّه وببساطة لا يبدو ثمة فرق بين الخطاب الديني الرسمي الذي تقدّمه وتنشره وتعلّمه المؤسّسة الدينيّة والتعليميّة الرسميّة التابعة لأنظمة الحكم العربية وبين خطاب الجماعات الدينية المتطرفة.
الأسوأ من ذلك هو أن الفئة المنوط بها مواجهة التطرف لا تملك مؤهلات لذلك سوى التأييد السياسي لحكومات الاستبداد، وفي بنيتها الاجتماعية والدينية والفكرية تمثّل حالة من الكراهية والتعصُّب، وبذلك تحولت إلى طبقة مستفيدة تعيش على فتات موائد الأنظمة القمعية.
في الواقع، إن الاعتدال الذي تتحدث عنه أنظمة الحكم العربيّة هو خطاب ظاهريًا يدعو إلى التسامح وقبول الآخر وضمنيًا إلى التطرف، والكراهية، وإقصاء الآخر والخضوع.
لا يمكننا كسوريِّين مواجهة خطاب السلطات الدينيّة بإعلان الحرب عليها (وهذا إن حصل لن يفيد بشيء)، وإنما ببدء مشروع تحرري طبقي وثقافي وتربوي فكري نقدي ونقضي (نقض). و“السلطات الدينية” التي يجب مواجهة خطابها المتطرِّف والمنغلق على جماعات ما قبل وطنية لا تخصُّ دينًا بحدِّ ذاته وإنما جميع السلطات الدينية لجميع الأديان والمذاهب والطوائف دون تمييز. فالطوائف التي تدَّعي التحرُّر، وهي ظاهريًا تبدو كذلك، يعشِّش التخلُّف والتعصُّب وكره الآخر في جوهرها.
هذا المشروع التحرري الثقافي التربوي والفكري لا يُمكن البدء فيه في ظل الاستبداد السياسي والاقتصادي. وبناءً عليه، يقوم نضال اليسار الثوري على ثلاثة دعائم متكاملة لا يمكن الفصل بينها: تحرّر وطني، وتحرّر اقتصادي، وتحرّر ثقافي اجتماعي، وذلك من خلال تحديد الطبقة أو الطبقات أو التحالف الطبقي الذي يمثله، ويخوض من خلالها النضال لتحقيق الدعائم الثلاثة وإحداث التحوُّل الديموقراطي.
لا يمكن التغاضي عن التحرُّر الاجتماعي والاقتصادي بحجّة التحرّر السياسي والوطني ومقاومة الهيمنة الخارجية والتبعية، كما لا يُمكن أن نتغاضى عن التحرُّر السياسي (من الاستبداد) والتحرر الوطني بحجة أولوية التحرُّر الاجتماعي والاقتصادي. لا يمكن تحرير الأوطان ما لم يتحرَّر المواطن، ولا يمكن تحرير الأوطان إلا بمواطنين أحرار يشعرون بكرامتهم (وطبعًا لا يمكن فصل الحرية والكرامة عن الديمقراطية).
أولوية التنوير على التحرير من الاستبداد هو تزوير، لا أكثر ولا أقل، هدفه تبرير موقف متخاذل من ثورات الشعوب.
عزام أمين