
مقال رأي للكاتب مازن كم الماز
يريد الحاج صالح إعادة تعريف الشر ومعه الخير بالطبع… نقف من جديد أمام تصور مثنوي للعالم والبشر، حيث كل شيء ينقسم إلى “خير” و“شر”، و“أخيار” و“أشرار”… ولأن الحاج صالح يعرف جيدًا خطورة هذا الفرز القاطع النهائي والمغلق للعالم وللبشر، ويعرف جيدًا كذلك القصور المريع في التعريفات السائدة اليوم للخير والشر المؤدلجة أو القائمة على أساس الهوية، فإنه يحاول توسيع مفهومه عن الشر ليشمل ليس خصومه فقط بطبيعة الحال، بل أيضًا حلفائه المفترضين حتى لو كان ذلك بنحو مخفف… يبدو للحاج صالح أنه بذلك يتخفف من الحمولة الثقيلة لانطلاقه من تقسيم البشر إلى أخيار وأشرار ومن تأسيس موقفه من البشر على أساس “أخلاقي”…
والأخلاق، إذا ما استثنينا البراغماتية والنفعية والسفسطائيين، هي عند الحاج صالح كما عند كل الأخلاقيين: تعبير عن قيم مطلقة خارج التاريخ وفوق البشر، ثابتة أزلية ومطلقة وتبقى القاعدة الضرورية التي لا غنى عنها لأي مجتمع أو تجمع بشري وهي عنده كما كانت دائمًا من اختصاص الأخلاقيين وحدهم لا البشر أنفسهم الذين عليهم أن يخضعوا لها فقط وأن يحاكموا ويحكموا وفقًا لها أي وفقًا للوصفة الأخلاقية المقترحة أو الأمثل، و الحاج صالح لا يخفي رغبته في أن تحكم أخلاقه التجمعات البشرية و سلوك البشر عامةً وهو لذلك يحرص على أنه تكون وصفته أكثر شمولًا وبأقل ما يمكن من الاستثناءات ورغم أنه يخص خصومه بالنقد اللاذع لكنه لا يقبل باستثناء أية جماعة أو عقيدة أو دين أو أيديولوجيا أي أية دوغما، ولو أنه لا يحكم على كل دوغما بالمسؤولية عن الشرور بل يخص فقط الدوغما وهي تحاول فرض نفسها على الآخرين، وهي تصر على حظر منتقديها ومعارضيها وملاحقتهم، ولذلك يرى الحاج صالح أن “الشر قرين للواحدية القسرية وأن ما يخفف من شر تتمخض عنه عقيدة أو نظام اجتماعي هو اندراجه أو اندراجها في إطار تعددي.
من ثم التعدد ركيزة أساسية للخير”، وفي محاولته للإجابة على التساؤل الضروري هنا عن كيفية نزع صفة الإطلاق عن كل دوغما وننزع منها نوازع القمع والقسر والإكراه المتضمنة في مزاعمها عن امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكارها، يرى الحاج صالح أن هذا يفترض “عينًا غيرية”، عينًا ترى ذاتها وغيرها كأشرار أو بالأحرى كبشر فقط لا كقديسين وأنبياء أخيار بالضرورة في مواجهة أشرار بالضرورة؛ ولكن مع ذلك لا يعتقد الحاج صالح أنه من الممكن المساواة بين الجميع، بين جميع “الأشرار” أو بين كل الشرور، يرفض الحاج صالح ذلك رفقًا قاطعًا رغم المقدمات أن الجميع ليسوا سواءً وأن الأخلاق ليست نسبية، و رغم أن “العين الغيرية” تلزم الجميع بأن يسائلوا أنفسهم أولًا لكنها ليست عمياء عن مسارات تواريخ الصراعات ومن هم الضحايا ومن هم المعتدون حتى لو انتهوا جميعًا في نهاية المطاف أشرارا ومجرمين…
هكذا ورغم كل محاولاته ومقدماته التي تحاول ألا تقلل من شأن هذا “الشر” أو ذلك فإن الضرورات السياسية تحتم عليه أن يميز بين الشرور، بين عنف وآخر، بين مجرم وآخر، ولكن هذا مأزق وضغط نعاني منه جميعًا، إن مشكلة وصفة الحاج صالح الأخلاقية فهي كمأزق كل الوصفات الأخلاقية عامةً في آليات تطبيقها أو بالأحرى فرضها: كيف يمكن خلق أو إنتاج هذه العين الغيرية القابلة للانخراط في تعدد لا ينفي أي أحد أو أي آخر، فهو -وهذا الكلام يتكرر مع كل وصفة أخلاقية تقريبًا- من طريق “مزيج من جهود إصلاحية مدخلة للتعدد على الأفراد والجماعات وفي نطاق عالمي ومن إجراءات قمعية تستهدف الفاعلين بخاصة المنتهكين واللصوص”… رغم كل محاولات الحاج صالح لإنتاج وصفة أخلاقية شاملة متكاملة فإن المنطق الأخلاقي ذاته كحالة فوق إنسانية وفوق تاريخية يفرض أدواته الفوقية التي يفترض هذه المرة وكما في كل مرة أنها مختلفة بالفعل عن أي قمع أو “إصلاح” سابق لأنه الآن قمع وإصلاح أخلاقي “حقًا”…
ومن جهةٍ أخرى فإن العين الغيرية وأخلاقها المنفتحة على التعدد لا تحل مشكلات لا تكترث لحلها أساسًا، وهي المشكلات أو المهام التي جاء الاستبداد بتلاوينه المختلفة إجابة عليها كالحداثة و“مكافحة الارهاب”، و ربما على وجه الخصوص تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية أو أكبر مما تتيحه العدالة حسب الحاج صالح، المنشغلة بحماية “الملكيات المشروعة” للناس وتأمين فرص حياة أفضل للشرائح الأدنى وهي شعارات إشكالية ومبهمة إن لم تكن منحازة اجتماعيًا بنحو صريح… الأخلاق فكرة ميتافيزيقية بالضرورة مع كل ما تحمله الميتافيزيقيا من سلبيات ومخاطر وعلى رأسها أنها تضع نفسها ووجودها واستمرارها فوق وجود واستمرار البشر وسعادتهم وإرادتهم، الذين تقول أنها جاءت لإنقاذهم وتحقيق خلاصهم أما دعاتها وحملتها فهم لا يعودون مجرد بشر ولا مثقفين أو أصحاب مشاريع خلاصية أو إنقاذية ما، بل أنبياء ومبشرين بدين جديد قد يكون أفضل بطريقة ما عما سبقه، ولكنه أبعد ما يكون عما يزعمه من كمال وقدرات فوق مستوى البشر.
مازن كم الماز
مقال الحاج صالح المشار إليه في المقال: اضغط هنا