
أصدر الوثيقة مركز حرمون بمعية ١٨٦ من “السوريين المؤمنين بسوريا حرة مستقلة ديمقراطية حديثة”، “من مختلف الاختصاصات والانتماءات”. تهدف الورقة إلى وضع “قواعد دستورية يتوافق عليها السوريون، ويعطونها حصانة استثنائية ضد التعديل أو التغيير”، هذه “القواعد الدستورية المحصنة أو ما يعرف عالميًا بالمبادئ فوق الدستورية”، يفترض أن تعالج هذه القواعد “المسائل الخلافية الكبرى بين الجماعات السورية وتعالج مخاوفها وهواجسها المختلفة بشأن حقوقها وحرياتها ومستقبلها”؛
إننا أمام مجموعة من البشر، من السوريين، تمنح نفسها وضعًا استثنائيًا، الحق في أن تحدد للآخرين قواعد لا يحق لهم مناقشتها أو نقدها أو تغييرها…
يأتي هذا من أشخاص ينتقدون النظام الأسدي لمصادرته الحياة السياسية وحريات الناس وحقوقها لينتهوا هم أيضًا إلى فرض وصايتهم الخاصة على السوريين وعلى حقهم في الاختلاف والاختيار وحتى النقاش عندما يتعلق الأمر بأهم المبادئ والقواعد التي يفترض أن تقوم عليها حياتهم…
وتشتمل هذه “القواعد الدستورية أو المبادئ فوق الدستورية” على أغلب ما هو سائد ورائج اليوم في التداول السياسي العالمي كما السوري النخبوي: سيادة القانون – الفصل بين السلطات – استقلال القضاء – اجتثاث شأفة الطائفية… أما كيف سيمكن تحقيق كل هذا، فهذا سؤال يبقى عمليًا بلا جواب شافٍ… ترى هذه المجموعة أن “سيادة القانون (ستكون) حجر الأساس في بناء الدولة السورية الحديثة، دولة القانون والعدالة والحقوق والمواطنة والمؤسسات”، أما ما هي الطريقة لفرض سيادة القانون خاصة على من يملك وسائل العنف ويحتكرها في مناطق نفوذه وسيطرته فهي كالتالي: “نص دستوري”، “قواعد فوق دستورية محصنة”، “تشريعات مفصلة”، “تحديد دور ووظائف مؤسساتي الأمن و الجيش”…
الكلام نفسه سيتكرر عند الحديث عن فصل السلطات، استقلال القضاء إلخ، و كأن رفع الشعار لوحده يكفي لكي يصبح واقعًا… الحقيقة هنا أن قوى الأمر الواقع المسيطرة في سوريا بدءًا بالنظام إلى قسد وصولًا إلى هيئة تحرير الشام والجيش الوطني المرتبط بتركيا، لا تزعم أبدًا أنها ضد أي من هذه الشعارات وتردد أنها تلتزم في مناطق سيطرتها باستقلال القضاء وسيادة القانون إلخ، دون أن يعني ذلك شيئًا على أرض الواقع… إننا أمام مشروع معلق في الهواء لا يرتكز على أية أرضية، وهو يهرب إلى الأمام عبر اقتراح قواعد فوق دستورية لن تكون أكثر من مجرد شعارات يمكن لأية قوة مسيطرة على الأرض أن تنتهكها و تضرب بها عرض الحائط، في حين يمكنها أن تزعم أنها تحترمها وتخضع لها…
و لا تتوقف هذه النزعة النخبوية الفوقية المهيمنة على الوثيقة هنا، فما يسميه هؤلاء قواعد دستورية تمنح “الدولة” صلاحيات خاصة جدًا واستثنائية في تطبيق وتنفيذ هذه القواعد وتضعها في مركز سوريا “الحرة المستقلة الديمقراطية والحديثة”؛ فالدولة هي التي ستقوم بتبني شرعة حقوق الإنسان العالمية وتكرسها دستوريًا وقانونيًا، وهي التي ستعالج مسألة تعارض بعض هذه الحقوق مع ثقافة المجتمع وقيمه السائدة أو مع بعض العادات والتقاليد، وهي المسؤولة عن إقناع الناس بها، المقصود هنا بالناس السوريين المحكومين، وهي التي ستقوم بنشر الوعي بين السوريين عن نمط الحكم الأمثل وعن أخطار الطائفية ومآلاتها الكارثية على الوطن والوعي بقيم المواطنة…
والنموذج الاقتصادي الاجتماعي الذي اختاره واضعو الوثيقة “يحتاج أيضًا إلى دولة ذكية”؛ إننا أمام مشروع دولتي فوقي بامتياز يمنح الدولة ونخبتها الحاكمة مثل صلاحيات و“مهام” ديكتاتورية البروليتاريا في الماركسية الستالينية والدولة الامبراطورية في الفكر السياسي الإسلامي والقومي الشوفيني…
وما عدا بعض السطور عن المجتمع المدني وعن نظام اقتصادي مبهم أشبه باقتصاد السوق الاجتماعي الذي تحدث عنه النظام نفسه منذ التسعينيات، الذي يشكل سياسته الاقتصادية المعلنة منذ ٢٠٠٥، وعن دور التعليم في إنجاز كل هذه المهام المفترضة فإننا نقف بالكامل أمام مشروع دولتي يؤسس لذاته على أساس إيديولوجي بحت، شعاراتي، مستوحى من الفكر السائد أو المهيمن عالميًا، دون أية نقطة ارتكاز واقعية أو فعلية سوى مؤسسات الدولة ووظائفها القمعية أو القائمة على القسر والإكراه…
يعكس هذا في الواقع القصور العميق الذي بدا عجزًا في فكر الجزء الأكبر من المعارضة السورية التي كانت تصف نفسها بالديموقراطية قبل ٢٠١١، بل في مجمل مشروعها الذي لا يستند إلى قراءة تاريخانية، حسب مصطلح عبد الله العروي، أو اجتماعية عن النظام الديمقراطي وخلفياته الاجتماعية وأزماته المتفاقمة والنقد الهام، خاصة اليساري الجذري، لأطروحاته وممارساته.
مازن كم الماز