
للفيلسوف والكاتب جيل ليبوفتسكي، صادر عن دار غاليمار باللغة الفرنسية في العام 2006.
يتناول الكتاب بالدراسة قضية التحولات التي عرفتها الرأسمالية بدخولها مرحلة الاستهلاك المفرط والظواهر النفسية والاجتماعية التي رافقت هذا التحول في المجتمعات الغربية، أي الاستهلاك من أجل الاستهلاك، والاستهلاك بوصفه حاجة نفسية. جيل ليبوفتسكي، على غرار كارل ماركس، ينظر إلى الاستهلاك باعتباره المرآة المعكوسة للإنتاج، وبالنسبة إليه توجد ثلاثة مراحل في مسيرة تطور الاستهلاك في المجتمع الرأسمالي:
الأولى، تمتد من نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ تم تشكيل الأسواق الوطنية بفضل خفض تكاليف النقل الذي أصبح ممكنًا بفضل شبكات السكك الحديدية المكتملة، هذا التوسع في الأسواق يسمح بالإنتاج بكميات كبيرة مما يزيد من انخفاض التكاليف.
المرحلة الثانية، تمتد من عام 1945 إلى عام 1980، وهي استمرار للأولى، فأصبح ظهور المجتمع الاستهلاكي الشامل مشروعًا اقتصاديًا سياسيًا وثقافيًا في الوقت نفسه، وأصبح مبدأ “الإنتاج من أجل الاستهلاك وليس من أجل الحاجة” الناظم للقوانين السياسية، وهكذا بدأت الآلات والمعدات التي ظلت، قبل الحرب الثانية، مخصصة للطبقات الغنية في المجتمع تدخل إلى جميع المنازل تدريجيًا.
أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت في أوائل الثمانينيات وحتى وقتنا الحاضر، وهي تتميز بالاستهلاك المفرط أو “النزعة الاستهلاكية الجامحة”، إذ تحول المجتمع تدريجيًا من بيع المعدات والآلات والمنتجات الأولية إلى بيع الخدمات (خدمات الترفيه، وخدمات الإعلام…)، وهو آخذ في الازدياد، مما ساعد على خلق ما يسميه ليبوفتكسي “سلوك المستهلك الاندفاعي السريع”. وبالتأكيد إن هذا السلوك قد تأثّر بالطفرة المالية التي شهدتها المجتمعات الرأسمالية و“تغيّر الاتجاهات نحو المال”، فبعد أن كانت هذه المجتمعات تُنتِج وتَستهلك وفقًا لحاجاتها الأولية الضرورية أصبح الاستهلاك بحد ذاته حاجةً، ثم تطورت الحاجة لتصبح متعةً، متعة في الشراء والاختيار، ومتعة في التملك والاستحواذ. وشجع الاقتصاد الليبرالي هذا السلوك من طريق انتشار المجمعات التجارية وتطور طرائق الشراء، كالشراء من طريق وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية.
رافق هذا التطور الحاصل في الإنتاج والاستهلاك، تحولات في الثقافة الاستهلاكية لتلك المجتمعات، إذ انتقل نموذج الاستهلاك التقليدي الذي كان يعد سلوك المستهلك سلوكًا عقلانيًا مدروسًا يقود به الفرد كي يجمع المعلومات عن السلعة ثم يشتريها لامتيازاتها الوظيفية، إلى نموذج أوسع يتعامل مع عملية التسوق باعتبارها سلوكًا ثقافيًا يُعبّر عن نظرية “مادية” للحياة، ترتبط بالحاجة إلى التميز واكتساب المكانة الاجتماعية المرموقة من طريق التملّك.
في هذه المرحلة نجد مُفارَقة مثيرة للدهشة: من جهة تطوّر الإنتاج والاستهلاك في المجتمعات الرأسمالية بنحو هائل، ومن جهة أخرى لم يكُن الإنسان أكثر تعاسة واكتئابًا ممّا هو عليه اليوم، ولم تشهد الأمراض النفسية والاجتماعية مثل هذا الانتشار الرهيب الذي تعرفه اليوم هذه المجتمعات! يقول عبد السلام رجواني عن هذه النقطة: يخلص ليبوفتسكي إلى أنه ليس الناتج المحلي الإجمالي ولا معدلات النمو الاقتصادي ولا حجم السلع التجهيزية التي تتوافر لدى الأسر (مَساكن، وسيارات، وتجهيزات منزلية…) مؤشرات تدل على السعادة من قريب أو بعيد؛ فهذه المؤشرات الاقتصادية تشكل نوعًا من الصنمية الجديدة، وشكلًا من أشكال الأساطير الحديثة التي حلَّت مكان الميثولوجيا الدينية القديمة.
مفارقة أخرى يمكننا إضافتها هي: مع تطور الإنتاج والاستهلاك في المجتمعات الرأسمالية بنحو هائل، تطورت الفوارق الاجتماعية والتوزيع غير العادل للثروات وبلغ ثراء الطبقات البرجوازية فحشًا لا يتصوره العقل. في كتاب آخر بعنوان “زمن الفراغ” يعزو ليبوفتسكي شقاء الإنسان المعاصر واكتئابه واضطراباته النفسية إلى آليات الإنتاج الرأسمالي وطبيعة المجتمع الليبرالي اللذان يفرضان على الإنسان، إضافةً إلى التوزيع غير العادل للثروات، نوعًا من الفردية القاتلة لكل أشكال العلاقات الاجتماعية والانتماءات إلى جماعات عائلية ومدنية. ينتهي ليبوفتسكي إلى نتيجة مفادها أن “ضريبة النمو الاقتصادي هي سعادة مجروحة”.
في عالم كهذا، مُغرق بالاستهلاك والتسليع، تبرز الحاجة الماسة إلى دراسة الظاهرة الاستهلاكية، كظاهرة سوسيو-ثقافية-اقتصادوية، من حيث أسبابها ودافعها، تجلياتها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، كما تبرز الحاجة الملحة، أكثر من أي وقت آخر، إلى بديل اقتصادي-سياسي أكثر إنسانية وأكثر عدالة اجتماعية.
عزام أمين