
في مثل هذا اليوم | 9 نيسان/ أبريل 2000: وفاة المناضل الاشتراكي الثوري البريطاني توني كليف
في 9 أبريل 2000، تُوفيَ الرفيق توني كليف، مؤسِّس التيار الاشتراكي الأممي، بعد 70 عامًا من النضال في عمرٍ يناهز الـ83 عامًا.
منذ انخراطه في الحركة الاشتراكية عند بلوغه الثالثة عشر من عمره، وحتى يوم وفاته، أسهم كليف بإسهماته بالغة الأهمية في تجديد الفكر الماركسي والدفاع عن التراث الاشتراكي الثوري في وجه هيمنة الستالينية والأفكار الإصلاحية والوطنية على الحركة العمالية في مختلف أنحاء العالم.
وُلِدَ كليف في 20 مايو 1917 بفلسطين لعائلةٍ من المستوطنين الصهاينة الذين فروا من جحيم الاضطهاد في روسيا القيصرية. كان والده يعمل بنَّاءً ويعتنق الفكر الصهيوني حتى النخاع. واسم كليف الحقيقي هو يجال جلوكشتاين، وقد أسماه والده على اسم سفاح صهيوني قتل الكثير من العرب، وكثيرًا ما كان يردِّد على مسامع ولده “لا تنظر إلى العربي إلا من خلال فوهة المدفع”. ولكن جاءت نقطة التحوُّل في حياة كليف عندما طلب منه في المدرسة كتابة موضوع إنشاء، فكتب مقالةً يتساءل فيها عن لماذا لا يوجد أطفالٌ عرب في المدرسة؟ عند ذلك اتَّهمته معلمته بـ”الشيوعية” وبالفعل، انخرط كليف سريعًا في الحركة الشيوعية بعد ذلك، ووجد في الماركسية إجاباتٍ للتساؤلات الكثيرة التي كانت تؤرِّقه حول اضطهاد اليهود في أوربا والأطفال العرب الحفاة الذين كان يراهم في الشوارع، والأوضاع المزرية للعمال والفلاحين الفلسطينيين.
غيَّر كليف اسمه إلى إيجال وقال لوالده مُهتكِّمًا: “لماذا لم تسمني أدولف هتلر، فهو أبرع في القتل من إيجال؟!”. وطوال سنوات إقامته بفلسطين ناضل كليف بضراوة ضد استبعاد العرب من الاقتصاد اليهودي، والفصل العنصري في مواقع العمل بين العمال العرب واليهود، تلك السياسة التي اتبعها الهستدروت لإحكام السيطرة اليهودية بفلسطين. وجرَّاء ذلك، واجه كليف تحرُّشات عديدة من الصهاينة، ففي مدرسته كان الجميع ينهال عليه بالضرب عندما يرفض الوقوف أثناء عزف النشيد القومي اليهودي، وكثيرًا ما كان الصهاينة يتربَّصون به أمام بيته للاعتداء عليه، وفي إحدى اجتماعات الهستدروت تحدَّث نقابي صهيوني بحماسٍ حول انتفاضة عمال النمسا ضد الفاشية عام 1934، وأنهى خطابه بالإشارة إلى كوميونة باريس ووحدة الطبقة العاملة، وهنا قفز كليف البالغ من العمر 17 عامًا حينذاك صارخًا “الأممية”، والأممية في هذا السياق تعني الوحدة مع العمال العرب بفلسطين، فما كان من النقابيين الصهاينة إلا أن أعتدوا عليه وحطَّموا أحد أصابعه!
وسرعان ما خاب أمله في الحزب وتكشَّفت له طبيعته الستالينية الرديئة بعد وقت قصير. فتحول إلى اعتناق الفكر الاشتراكي الثوري القائم على مبادئ الثوري الروسي المنفي ليون تروتسكي، قبل أن يبلغ عامه العشرين. تزوَّج كليف لاحقًا من رفيقة حياته ونضاله شاني روزنبزج، التي هاجرت من جنوب إفريقيا إلى فلسطين. حاول كليف محاولاتٍ مضنية لكي يبني تنظيم اشتراكي ثوري يضم عمالًا يهودًا وعربًا ويناضل ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، ولكن جهوده لم تُكلَّل بالنجاح، فلم يستطع سوى ضم 30 عضوًا لمنظمته أغلبهم من اليهود. وجزاءً لأنشطته، سجنته السلطات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.
حاول كليف بعد خروجه من السجن نقل نشاطه إلى مصر، بصفتها صاحبة أكبر طبقة عاملة في المنطقة العربية، ولكن السلطات المصرية رفضت السماح له بالدخول، وهنا لم يجد مفرًا سوى الهجرة إلى بريطانيا مع زوجته التي كانت تحمل الجنسية البريطانية، ولكن سرعان ما طردته السلطات البريطانية إلى أيرلندا بناءً على توصيةٍ من المخابرات البريطانية، وهناك عاش كليف مُبعَدًا لمدة خمس سنوات قبل السماح له أخيرًا بالانضمام إلى زوجته في بريطانيا.
توصَّل كليف إلى نظرية “رأسمالية الدولة” لتحليل الطابع الطبقي للاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، وقد توصَّل إلى تلك النظرية في غمار التخبُّط العنيف الذي واجهته الحركة التروتسكية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتشار الستالينية في بلدانٍ عديدة على عكس توقُّعات تروتسكي بانهيار النظام الستاليني وعدم استمراره. لقد كانت نظرية رأسمالية الدولة سلاحًا فكريًا قويًا حمى الاشتراكية الثورية من كافة التشوهات التي لحقت بها جراء جرائم الستالينية لاحقًا في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وكافة الدول التي استعمرتها وقهرتها البيروقراطية الروسية، وسط تهليل الأحزاب الستالينية عالميًا أو نفور المناضلين من الفكر الاشتراكي لاعتقادهم بأن ما يحدث في روسيا هو الاشتراكية.
بدأ كليف تأسيس منظمته في بداية الخمسينيات، وضمَّت فقط 4 أفرادًا، زادوا إلى ستين عضوًا في عام1960، ثم بضع مئات في 1968، ولاحقًا إلى حزب جماهيري يضم الاَلاف من العمال والطلبة. وطوال مرحلة البناء كان كليف مُحرِّك التنظيم الذي لا يهدأ، قاطعًا أرجاء بريطانيا ذهابًا وإيابًا لعقد المحاضرات ومتابعة شئون التنظيم. ولم يبعده ذلك عن الإسهام النظري، فأثرى الحركة الاشتراكية بالعديد من المؤلفات والمدخلات النظرية. فنجح في خلق أكبر تنظيم ماركسي ثوري في أوروبا يضم عشرة اَلاف كادر، ونجح في إلهام العديد من المناضلين في أوروبا وأمريكا واَسيا وإفريقيا ليسيروا على دربه، ويشرعوا فى بناء تنظيمات ثورية لاهدف لها سوى تأسيس سلطة العمال والإطاحة بالرأسمالية.
إذا كان توني كليف قد رحل عن دنيانا بجسده، فهو لا يزال بيننا بفكرة وكتبه وإنجازاته التنظيمية العديدة التي لا تستطيع أحدًا أن يغفلها، والتي لا نستطيع إزائها سوى أن نضعه في مصاف عمالقة الحركة الاشتراكية، ماركس، وإنجلز، ولينين، وتروتسكي، ولكسمبورج، وغيرهم من المناضلين الذين قضوا حياتهم في النضال من أجل الاشتراكية.
