
شهدت كل التجارب العالمية للثورات الكبرى تدخلات لدول وقوى أجنبية، و منعطفات ومفارقات عدة، وفي كل الحالات، حتى تلك التي هزمت، أثّرت وغيّرت بالعمق في مجتمعاتها.
لم تكن الثورة السورية لعام 2011 بوصفها ثورة لكل المضطهدين استثناءا على ذلك، إذ تؤكد دروس جميع الثورات أن العوامل الخارجية ليست وحدها هي التي تحدد مآل الثورات، بل الأهم هو طبيعة القوى الاجتماعية المحركة للثورة ودرجة وعيها وتنظيمها، إضافة الى توفر أو غياب قيادة سياسية ثورية وجماهيرية، وماتتبنّاه من خيارات تكتيكية واستراتيجية، كلّها عوامل أساسية تحدد مصير الثورات ، فشلها او انتصارها، ومدى جذريّتها السياسية والاجتماعية.
لقد عرف عام 2012 منذ أشهره الأولى، أي بعد نحو عام من بداية الثورة السورية في آذار/مارس ، عدة مؤشرات مهمة، بداية تضعضع النظام وفقدانه للسيطرة على مساحة متزايدة من الجغرافيا، رغم رفعه لوتيرة العنف والتدمير والقتل بحق السكان في المناطق الثائرة، ترافق ذلك مع زيادة حالة الانشقاقات في صفوف جيشه، والظهور العلني لجبهة النصرة كفرع لتنظيم القاعدة الإرهابي، ومزيد من التسميات الإسلامية لمجموعات سياسية ومسلحة، وخطاب ينحو لتغذية التهييج الطائفي ،وما زاد من تدهور وضع النظام ماحصل في شهر تموز/يوليو 2012 من تفجير ومقتل غالبية أعضاء اللجنة الأمنية للنظام.
في النصف الثاني لعام 2012 ،و بالمعطيات التي أشرنا إليها أعلاه وغيرها، كانت تشير إلى انتقال استبدادي للوضع في الثورة السورية يمكن أن نطلق عليه بانه نوع من الحالة الاستبدالية المتزايدة تحت اسم الثورة ويافطتها بدأت بأن تحل أطراف محافظة ودينية مكان الكوادر والمجموعات والسياسات والممارسات الديمقراطية والوطنية، في مسار واضح من تراجع الثورة وتقدم قوى الثورة المضادة على حساب قوى الثورة في كل الساحات. وانتهى الأمر بهزيمة الثورة عامي 2013 -2014، وتوّج ذلك ببزوغ داعش الفاشية وهيمنتها على مساحات واسعة من سوريا، وسحقها، مع شقيقاتها، لما تبقى من قوى مدنية أو ديمقراطية، في مناطق سيطرتها.
في هذه المرحلة المفصلية، الانتقالية، التي تميزت بضعف نظام الطغمة وزيادة قوة الأطراف الرجعية على حساب تراجع القوى الثورية. شهدت البلاد، في أجزاء منها، حدثا هاما وثوريّا ، على النقيض تماما لسيرورة التراجع للثورة السورية وقواها السياسية والمسلحة، المشار إليه،إنّها الثورة في الثورة، ونقصد قيام ثورة 19 تموز/يوليو 2012
حيث استطاعت الحركة السياسية الكردية، وهي الأقوى والأفضل تنظيميا منذ سنوات طوال، وهي التي شاركت في الاحتجاجات الثورية منذ بداياتها، بفهم تفاصيل اللحظة المركبة المذكورة، فقامت بتنظيم نفسها شعبيا و سياسيا وعسكريا، لتحرير المناطق ” الكردية”، التي اضطر النظام للانسحاب من أجزاء منها، ومن ثم حمايتها من كل من النظام أو الفصائل الإسلامية والإرهابية، وتطرح على جدول أعمال التاريخ تحرر الشعب الكردي وحقوقه في سوريا.
وبدأت وقتها تجربة جديدة ديمقراطية تنمو باطراد وتتوسع وتتعمق، في الوقت الذي استكملت قوى الثورة المضادة المتعددة الأطراف إجهازها التام على ما تبقى من الثورة في بقية المناطق.
إنّه وضع مليء بالمفارقة، فقد هزمت الثورة الشعبية لآذار/مارس هنا، وانتصرت ثورة 19 تموز/يوليو هناك، والأخيرة وليدة الأولى، وامتداد وتعميق لها.
والمفارقة الأخرى الهامة، هي أنّ ثورة 19 تموز/يوليو التي بدأت ” كردية”، طالها تحوّل نوعي مع توسّع مناطق سيطرتها الجغرافية، وتعميق محتواها، بحيث إنّها لم تعد ” كردية” فعلا، كما كانت في بداياتها، وإن كانت الحركة السياسية الكردية ما تزال عمودها الفقري، بل أصبحت سورية تماما، كونها تضم جميع السوريين بكل انتماءاتهم القومية والدينية والجغرافية، في هيئاتها السياسية والعسكرية، أي تحوّلت إلى حالة ثورية وطنية.
بهذا المعنى، نجزم أن الثورة السورية لعام 2011 قد هزمت في أغلب المناطق وانتصرت بالثورة داخل الثورة في 19 تموز/يوليو 2012.
رغم الوضع الكارثي السياسي والمعاشي للسوريين في أغلب مناطق تواجدهم، ورغم الإحباط الذي أصاب الكثيرين، لكن وهج الثورة ما زال ينبض ويضيء، في رقعة من بلادنا، هي مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. لهذا السبب تحديدا، فإنّها تتعرض باستمرار للاعتداء والحرب والحصار من أطراف عدة، وفي مقدمتها تركيا ومرتزقتها والنظام، وغيرهم ،ولأنّها كذلك فإن أي اعتداء عليها، هو اعتداء على الشعب السوري الجريح والطامح للحرية ، مثلما هو اعتداء على دعاة الديمقراطية والحرية والثورة في بلادنا، فهزيمتها سيعني هزيمتنا الناجزة، والتي سيكون صعبا النّهوض بعدها لزمن طويل.
لذلك، فإنّنا نقف بصلابة مع هذا المشروع التحّرري للسوريين، الواجب تطويره، في مواجهة التهديدات التركية، وكل التهديدات الأخرى له، وندعو إلى التحام القوى الديمقراطية واليسارية السورية، علاوة على تعزيز التضامن الأممي، للدفاع عن هذه القلعة الأخيرة للتحرر في سوريا التي توفر لنا القدرة على الدفاع عن حقنا، حق الشعب السّوري بأسره، بالسّلام والحريّة والكرامة والاستقلال والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
عاشت الثورة الشعبية السورية في آذار/مارس 2011
عاشت ثورة روجافا في 19 تموز/يوليو 2012
تيار اليسار الثوري في سوريا
تموز/يوليو 2022