
الماركسية والنضال الديمقراطي
مقدمة: اليسار التونسي والانقلاب والنضال الديمقراطي
جزء من القوى اليساريّة في تونس ساندت الانقلاب بكلّ وضوح مثل حزب الوطد وحزب النّهج الشيوعي على سبيل المثال لا الحصر… أمّا بقيّة اليساريين فأغلبيّتهم تقبّلت الانقلاب كأمر واقع من الممكن الاستفادة منه للتخلّص من خصم سياسيّ وحتّى إن أبدوا قلقهم من النزعة الاستبدادية ووجّهوا انتقادات للسلطة ومواصلتها لنفس السياسات الاقتصاديّة السّابقة فهم اعتبروا أن الوقوف ضد الانقلاب بجانب الأحزاب الفائزة في الانتخابات البرلمانيّة هوخطّ أحمر… هذه المواقف رجعيّة ومعادية للديمقراطيّة، وهي بمثابة جرائم سياسية في حق الطبقات الشعبية عندما تصدر عن يساريين وفي أحسن الأحوال هي مواقف شديدة الانتهازيّة…
أمّا حزب العمّال فميّز نفسه عن بقيّة اليسار باعتبار ماحصل انقلابا ولكنه في نفس الوقت يرفع شعار “لا للعودة إلى ما قبل 25 جويلية”!
يدين حزب العمّال الانقلاب وحكم الفرد وكل الإجراءات الاستثنائية مبينا طابعها الاستبدادي ولكن في نفس الوقت يرفع شعارات متناقضة مع طبيعة المعركة مثل “لا شعبوية لا خوانجية لا دساترة”.. متجاهلا أن المعركة ليست ضد الشعبوية بشكل عام وأن الإسلاميين تم إخراجهم من الحكم عن طريق الانقلاب وأنهم ليسوا في السلطة! وكأن حزب العمّال يجد في الانقلاب الذي أدانه فرصة لإضعاف خصم سياسي له ومن هنا يأتي التناقض في موقفه.
أمّا الدعوة للانتفاضة ضد كل المنظومة فهو انسلاخ عن الواقع ولا يتماشى مع وعي الجماهير في اللحظة الراهنة ولا علاقة له باللحظة السياسية الحالية ولا بالمعركة الدائرة على أرض الواقع، ويعطي انطباعا أن الحل بالنسبة لحزب العمّال هو وصوله لسدة الحكم وفقط!
ومجدّدا يختار حزب العمّال شق صف الحراك الديمقراطي بتنظيمه مظاهرة يوم السبت 19 مارس أي يوما قبل المظاهرة التي دعت إليها حملة مواطنون ضد الانقلاب. ويطرح علينا شعار “الديمقراطية الشعبية هي الحل” ؟ ومن حقنا أن نطرح على حزب العمال عدة أسئلة: ماهي الديمقراطية الشعبية؟ هل قام الحزب بشرحها للناس وهو يقدمها كمخرج من للانقلاب وبديل عن غلاء الأسعار؟ هل تختلف الديمقراطيّة الشعبيّة عن الديمقراطية التمثيلية؟ هل يرفض حزب العمّال وجود برلمانا ديمقراطيّا منتخبا؟ يجب أن يقول لنا بكلّ وضوح!
إن كان حزب العمال يقف اليوم ضد الديمقراطية التمثيلية فيا خيبة المسعى! أي يسار هذا يهاجم الديمقراطية التمثيلية! وفيما يختلف عن “الدساترة” و الإقصائيين؟
وإن كان الحزب يهتمّ بالدّفاع عن الديمقراطية التمثيلية فعليه أن يراجع مواقفه المتناقضة والانتهازية…
نرفض قرار والي سلطة الانقلاب بمنع التظاهر في شارع الثورة ونتضامن مع مناضلي حزب العمال ومع حقهم في التظاهر ونحمل الدولة مسؤولية أي قرار معاد للحريات. لا نشك في تاريخ حزب العمال الثري بالنضال ضد بن علي ولذلك نجدد دعوتنا بتعديل البوصلة.
لطالما اتّهم اليساريوّن خصومهم الإسلاميين بأنّهم غير ديمقراطيّين… ولكنّ الانقلاب كشف عن مشكلة حقيقية في الرؤية “اليسارية” السائدة للديمقراطية وللنضال من أجل الديمقراطية…
إن مواقف اليساريين من الانقلاب تجعلنا نتساءل، لماذا تساند القوى “اليسارية” بما فيها اليسار “الماركسيّ” الانقلاب؟ لماذا لا يدافع “اليساريون” بشكل مبدئيّ عن الديمقراطيّة؟ هل الماركسيّة معادية للديمقراطية؟
سنحاول أن نبيّن أن المواقف المذكورة أعلاه لا علاقة لها بالماركسيّة وهي بعيدة كلّ البعد عنها وسنقدّم أدلّتنا من كتابات ماركس وإنجلز ولينين وممارساتهم السياسيّة التي تعكس تشبّثهم القويّ والعنيد بالنضال من أجل الديمقراطية.
البحث في أسباب أزمة اليسار مع الديمقراطية يجب أن تكون أولوية كل من يرغب في نشأة يسار جديد. أما تقييم حصاد تجربة الإسلام السياسي في الحكم – منذ فوزه في الانتخابات مرورا بتراجع شعبيته الانتخابية وصولا إلى الانقلاب وعجزه عن الدفاع عن الديمقراطية – فيمكن أن تنتظر… وبالرغم من أهميته يصعب توجيه النقد للإسلاميين في سياق الانقلاب… ولا معنى من طرحه من منطلق يساري دون نقد كاف وشاف لليسار أولا.
1. الماركسية والنضال الديمقراطي
تتّهم الماركسيّة بأنها ضدّ الديمقراطية أو أنّها لا تدافع عنها لأنّها في نهاية المطاف تهدف لإرساء مجتمع شيوعي. وساهمت الأنظمة الاستبدادية الدمويّة التي رفعت ولا تزال ترفع شعار الشيوعية في انتشار هذه الفكرة الخاطئة. كما أنّ العديد من “الماركسيين” الستالينين و “اليساريين” بشكل عام قاموا بتبرير الاستبداد في محطّات تاريخيّة متعدّدة لا سيّما في العالم العربيّ ..
من النّاحية الأخرى من يطّلع على حياة ماركس ونضاله وكتاباته سيرى أنّ الحقيقة مختلفة… فماركس ورفيقه إنجلز دافعا بقوّة عن الديمقراطية و عن المشاركة في الانتخابات ووضعا أوّل استراتيجيّات لمشاركة “حزب” الطبقة العاملة فيها قبل أن يقوم لينين بتطويرها وتطبيقها في انتخابات الدّوما…
عام 1892 – عندما اتّهم أحد الناقدين ماركس وإنجلز بتجاهل أشكال الحكم الدّيمقراطي، اعترض إنجلز:
“لقد كررت أنا وماركس، على مدى أربعين عامًا، بشكل مثير للغثيان أن الجمهورية الديمقراطية هي بالنسبة لنا الشكل السياسي الوحيد الذي يمكن من خلاله تعميم النضال بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية أولاً ثم يُتوج بالنصر الحاسم للبروليتاريا.”
2.ماركس الشاب “الديمقراطي الراديكالي”
ما كان مدهشًا للغاية بالنسبة لماركس الشاب في تجربة الولايات المتحدة هو أن أكثر المجتمعات ليبراليّة من الناحية السياسية في العالم يوجد به في نفس الوقت تفاوتات اجتماعية هائلة بما في ذلك العبودية!
إذا كان هذا هو أفضل ما تقدمه الديمقراطية الليبرالية أو السياسية، فمن الواضح أن شيئًا آخر كان مطلوبًا من أجل “الديمقراطية الحقيقية” أو “التحرر البشري”. كيف نفسر هذا التناقض الظاهري؟ في سعيه للحصول على إجابة، توصل ماركس إلى استنتاجات جعلته شيوعيًا. طالما يسمح بالتفاوتات في الثروة، وخاصة في الملكية، ويمكن إعادة إنتاجها – من خلال الاقتصاد السياسي – فإن “الديمقراطية الحقيقية” كانت مستحيلة. يمكن للأقلية الثرية أن تستخدم مواردها وستستخدمها لضمان النتائج السياسية التي تخدم مصالحها. إذن كيف يمكن تحقيق “الديمقراطية الحقيقية” – مجتمع لا طبقي – وما هي شريحة المجتمع التي لديها مصلحة وقدرة على القيام بذلك؟ قدمت التطورات السياسية في أوروبا الجواب – البروليتاريا.
3. لينين الاشتراكي الديمقراطي
“على الرّغم من أن الماركسيين يرفضون تمامًا نظريات البرجوازية الصغيرة، فإن هذا لا يمنعهم من تضمين الديمقراطية في برنامجهم، بل على العكس من ذلك، عليهم أن يكونوا أكثر إصرارًا. . . يربط الاشتراكيون الديمقراطيون أنفسهم دون تحفظ بالمطالبة بالاستعادة الكاملة للحقوق المدنية للفلاحين، والإلغاء التام لجميع امتيازات النبلاء، وإلغاء الوصاية البيروقراطية على الفلاحين، وحق الفلاحين في إدارة شؤونهم الخاصة. بشكل عام، يجب على الشيوعيين الروس، أتباع الماركسية، أن يطلقوا على أنفسهم أكثر من غيرهم اسم الديمقراطيون الاشتراكيون، ويجب ألا ينسوا أبدًا في أنشطتهم الأهمية الهائلة للديمقراطية. . . من واجب الطبقة العاملة المباشر أن تقاتل جنبًا إلى جنب مع الديمقراطية الراديكالية ضد الحكم المطلق والممتلكات والمؤسسات الاجتماعية الرجعية – وهو واجب يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين إقناع العمال به، بينما لا يتوقفون للحظة عن التأثير عليهم أيضًا أن النّضال ضد كل هذه المؤسسات هو فقط وسيلة لتسهيل النضال ضد البرجوازية ، وأن العامل يحتاج إلى تحقيق المطالب الديمقراطية العامة فقط لتمهيد الطريق للانتصار على العدو الرئيسي للكادحين، للانتصار على مؤسسة ديمقراطية بحتة في طبيعتها، رأس المال، الّذي يميل هنا في روسيا بشكل خاص إلى التضحية بديمقراطيتها والدخول في تحالف مع الرجعيين من أجل قمع العمّال، ومن أجل مواصلة إعاقة ظهور حركة الطبقة العاملة. . .”
4. شيوعيّون من أجل الثورة الديمقراطيّة البرجوازيّة
كان ماركس ديمقراطيّا راديكاليّا قبل أن يصبح شيوعيّا فهل تغيّر موقفه من الديمقراطيّة بعد تطوّره السياسيّ؟ ماهو موقف ماركس ورفيقه إنجلز كشيوعيّين من الاقتراع العامّ والديمقراطيّة التمثيليّة؟
اندلع “الربيع الأوروبي” في 22 فبراير 1848، بدأ القتال وأقيمت المتاريس في شوارع باريس. تنازل الملك لويس فيليب عن العرش بعد يومين وتمّ تنصيب حكومة مؤقتة، كانت بداية الجمهورية الثانية. ألهم هذا الانتصار في باريس الاحتجاجات والانتفاضات في ما يقارب خمسين مدينة أخرى في أوروبا!
انطلقت مرحلة جديدة في عصر الثورات الديمقراطية البرجوازية، مرحلة جديدة من النضال من أجل إقامة حكومة جمهورية وديمقراطية برلمانية لأول مرة في معظم بلدان أوروبا. في فرنسا، كان القتال من أجل استرجاع الديمقراطية.
تسلّح ماركس وإنجلز بحزب، العصبة الشيوعية، الهيئة التي كلفت بكتابة البيان الشيوعيّ، وتوجّهوا للعمل على الفور. انتقلوا من بروكسل، حيث كانوا في المنفى، إلى باريس الثورية، حيث وضعوا خططًا لتحقيق رؤيتهم العالمية الجديدة في ألمانيا. اضطروا إلى التحرك بسرعة في 18 مارس، بعد يومين من القتال في الشوارع في برلين، وافق فريدريك الرابع على مطالب المتظاهرين ووافق على منح دستور.
لم يكن قد جفّ الحبر على البيان الشيوعيّ عندما اندلع “الربيع الأوروبي” وأقرّ ماركس وإنجلز بضرورة استكمال البيان بملحق في ضوء الواقع الجديد. ربّما باستثناء فرنسا، لم تكن الثورة الاشتراكية على جدول الأعمال المباشر في معظم البلدان، وبالتأكيد لم يكن ذلك مطروحا في وطنهم. وبموافقة السلطة المركزية للعصبة، قاموا بتأليف مطالب الحزب الشيوعي الألماني وهو أقصى المواقف اليسارية للثورة الديمقراطية البرجوازية. تمّ نشر الملحق في صفحة واحدة على نطاق أوسع بكثير من البيان الشيوعيّ.
المطالب الثلاثة الأولى والثالثة عشر من السبعة عشر مطالب توضّح اهتمام الشيوعيّين بالمطالب الديمقراطيّة وموقفهم من الديمقراطيّة التمثيليّة:
1. يجب إعلان كل ألمانيا جمهورية واحدة غير قابلة للتجزئة.
2. لكل ألماني، بعد بلوغه سن الحادية والعشرين، الحق في التصويت والترشح، شريطة ألا يكون قد أدين بارتكاب جريمة جنائية.
3. يتقاضى ممثلو الشعب أجرًا حتى يتمكن العمال أيضًا من أن يصبحوا أعضاء في البرلمان الألماني.
13. الفصل التام بين الكنيسة والدولة. يتم الدفع لرجال الدين من كل طائفة فقط من خلال المساهمات الطوعية لأتباعهم.
بعد الرّبيع الأوروبيّ حسم ماركس رأيه في البورجوازيّة فبالرّغم من أنّها لعبت دورا تقدّميّا في الثورة الفرنسيّة للتحوّل من النظام الإقطاعيّ إلى النظام الرأسماليّ البرجوازيّ سرعان ماتحوّلت إلى طبقة رجعيّة تتعارض مصالحها مع الديمقراطيّة
5. النّضال من أجل الديمقراطية واستراتيجية ماركس وإنجلز في الانتخابات!
الجزء الأوّل:
هزيمة ثورات ربيع الشعوب في أوروبا
كما كانت هزيمة الثورة المصريّة بعد انقلاب السيسي الدّمويّ بداية نهاية الانتفاضة الثورية في تونس والعالم العربيّ… كانت هزيمة العمّال المنتفضين في باريس في يونيو 1848 بداية نهاية الانتفاضة الثوريّة التي اشتعلت في القارّة الأوروبيّة. ومثّلت هزيمة القوى الديمقراطية في فيينا في شهر أكتوبر المسمار الأخير في نعش الانتفاضة الثوريّة، رغم أنّه تطلّب نصف عام آخر قبل أن يتّضح أن الثورات الديمقراطية قد ولدت ميّتة.
بالنسبة لماركس وإنجلز ما حدث هو نتيجة لجبن البرجوازية التي شجّعت بسلوكها القوى الرجعيّة.
في ألمانيا، تجاهل فريدريك الرّابع التقدّم الذي أحرزه نوّاب الهيئة البروسية في كتابتهم للدّستور، وقرّر فرض دستوره في الخامس من كانون الأول (ديسمبر). ومن خلاله منح نفسه السّلطة المطلقة… لكن رغم السّياق الانقلابي سمح هذا الدّستور بانتخاب مجلس جديد في بروسيا ممّا وضع الثوريّين أمام معضلة المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات، وإذا تمت المشاركة، فكيف؟
هل سيدعو ماركس لعدم المشاركة في الانتخابات لأنها ليست ديمقراطيّة حقيقيّة كما يدعو بعض اليساريّين في تونس؟! هل سيرفض دخول الانتخابات لأنّها تأتي في سياق انقلابيّ ويرفع شعار “لا للحكم المطلق، لا للنّبلاء، لا للبرجوازيّة! الثورة الاشتراكيّة هي الحلّ! كما يفعل حزب العمّال في تونس عندما يرفع شعار “الديمقراطيّة الشعبيّة هي الحلّ!”؟
بالنسبة لماركس، كان الجواب واضحا حيث لابدّ من المشاركة في الانتخابات.
الجزء الثاني:
الخطوات الأولى في حلبة معركة الانتخابات
رغم السّياق الانقلابي سمح الدّستور بانتخاب مجلس جديد في بروسيا (ألمانيا) ممّا وضع الثوريين أمام معضلة المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات…
بالنسبة لماركس، كان الجواب واضحا حيث لابدّ من المشاركة في الانتخابات. والسؤال الوحيد هو ما إذا كان ينبغي التصويت لصالح من سيقوم بمعارضة الدّستور من الديمقراطيين البرجوازيين الليبراليين، أو تقديم مرشحين يمثّلون “تحالف الشعب” بين العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة الحضرية، أو الامتناع عن التصويت. وفي النهاية دعا إلى الخيار الأوّل. “حزب” الشعب، في رأيه، لم يكن قويًا بما يكفي لخوض مرشّحيه (وهو موقف سيخضع للنقد الذاتي في العام المقبل)؛ إنه “موجود في ألمانيا حتى الآن في شكل ابتدائي فقط”.
الموقف المبدئي، الذي طرحه ماركس على المكوّن السياسيّ الممثّل للبروليتاريين داخل “تحالف الشعب” هو النّضال ضدّ الحكم المطلق الإقطاعي – أي رفض الدّستور الذي يمنح فريديريك الرّابع سلطة مطلقة: “نحن هم بالتأكيد آخر من يرغب في حكم البرجوازية. . . لكن نقول للعمال والبرجوازية الصغيرة: من الأفضل أن تتألّموا في المجتمع البرجوازي الحديث، الذي يخلق من خلال الصناعة الوسائل (والظّروف) الماديّة لتأسيس مجتمع جديد يحرّركم جميعًا”
على الرغم من فوز معارضي الدستور بأغلبية ساحقة في الراينلاند، حقّق مساندو الدستور الفوز في بقية أنحاء بروسيا وذلك بمساندة البرجوازية. لقد دعم رأس المال الكبير دستورا ضدّ مصالحه وأكّد بشكل لا لبس فيه لماركس أنّ البرجوازية الألمانيّة كانت عاجزة عن التصرّف بطريقة ثوريّة حتّى قبل وصولها للحكم!
بعد الانتخابات بثلاثة أسابيع انتقدت إحدى الصحف المعارضة صحيفة نيورانيش زايتونج التّي كان يكتب فيها كارل ماركس واتّهمتها بأنّها خُدِعت من قبل الليبراليين الديمقراطيين، الذين دعمتهم على أمل أنّهم سيعارضون الدّستور بعد أن يتمّ انتخابهم وهو أمل سرعان ما تبدّد. كان ردّ ماركس مفيدًا لأنه ربّما يقدّم اللمحة الأولى عن مقاربة ماركس وإنجلز ونهجهما في الانتخابات السياسيّة في إطار ملموس. بعد أن أوضح ماركس الأسباب التي دفعتهم لكبح أفكارهم أثناء الانتخابات، صرّح قائلاً: “الآن، بعد الانتخابات، نؤكّد مرّة أخرى وجهة نظرنا القديمة القاسية فيما يتعلّق ليس فقط بالحكومة، ولكن أيضًا بالمعارضة الرّسمية”
من جهة أصبح واضحا أنّ البرجوازيّة تحوّلت إلى طبقة رجعيّة حتّى قبل وصولها للحكم ومن جهة أخرى لا تزال البروليتاريا غير جاهزة ليس فقط على القيام بثورتها العمّاليّة، بل على كسب الانتخابات من خلال تحالفات وعندما تدخل في تحالفات تتعرّض للخيانة… هل يعني ذلك أنّ ماركس سيتخلّى على النّضال من أجل الديمقراطيّة ليكتفي مثلا ب”النّضال” الاقتصاديّ؟
الجزء الثالث:
استراتيجية حزب الطّبقة العاملة
من جهة أصبح واضحا أنّ البرجوازيّة تحوّلت إلى طبقة رجعيّة حتّى قبل وصولها للحكم ومن جهة أخرى لا تزال البروليتاريا غير جاهزة ليس فقط على القيام بثورتها العمّاليّة، بل على كسب الانتخابات من خلال تحالفات وعندما تدخل في تحالفات تتعرّض للخيانة… هل يعني ذلك أنّ ماركس سيتخلّى على النّضال من أجل الديمقراطيّة؟
بالنّسبة لماركس وإنجلز مثّلت هذه التجربة فرصة لوضع تصوّر لاستراتيجية “حزب” الطّبقة العاملة في الانتخابات.
في البيان(1) الذي وجّهه للرابطة الشّيوعية في مارس 1850 قدّم ماركس نقدا ذاتيّا ضمنيّا للموقف الذي اتّخذه فيما يتعلّق بانتخابات المجلس التأسيسيّ في يناير 1850. ثمّ قدّم منظورًا صُمِّم لتجنّب هذا النّوع من الخيانة التي ارتكبتها البرجوازية الليبرالية في السّاحة الانتخابية. ومن بين هذه التّعليمات الخاصّة بحزب الطبقة العاملة هي “أن يتقدّم مرشّحو العمال في كل مكان في مواجهة لمرشّحي البرجوازيين الديمقراطيين. يجب أن يكونوا أعضاء في الرّابطة بقدر الإمكان ويجب إنجاح انتخابهم بكل الوسائل الممكنة. حتّى في حالة عدم وجود احتمال لانتخابهم، يجب على العمّال تقديم مرشّحيهم الخاصّين للحفاظ على استقلاليّتهم، وقياس قوتهم، وطرح موقفهم الثوري ووجهة نظرهم الحزبية أمام الرّأي العامّ. يجب ألا تضلّلهم العبارات الفارغة التي سيردّدها الدّيمقراطيون الّذين سيصرّون على أنّ مرشّحي العمال يقسمون الصفّ الديمقراطيّ ويعطون لقوى الرجعية فرصة للنّصر. كل هذا الكلام يعني في التحليل النهائي ضرورة خداع البروليتاريا. إنّ التقدّم الذي سيحققه الحزب البروليتاري من خلال العمل بشكل مستقلّ بهذه الطريقة أهمّ بما لا يقاس من العيوب النّاتجة عن وجود عدد قليل من الرّجعيّين في المجلس التمثيليّ. إذا اتّخذت القوى الديمقراطيّة إجراءات رادعة حاسمة ضدّ الرجعيّة منذ البداية، فإنّ تأثير الرجعيّة في الانتخابات سيكون قد أبطل بالفعل . . .”
لم تكن الثّورة العمّاليّة حتميّة بالنسبة لماركس فعلى العمّال أن “يساهموا بأنفسهم في انتصارهم النهائيّ، من خلال تثقيف أنفسهم بمصالحهم الطبقيّة، واتّخاذ موقف سياسيّ مستقلّ في أسرع وقت ممكن، وعدم السّماح لأنفسهم بأن ينخدعوا بالعبارات المنافقة التي يرددها ديمقراطيّو البرجوازيّة الصغيرة وأن يشكّوا لدقيقة واحدة من ضرورة بناء حزب بروليتاري منظّم بشكل مستقلّ”
إنّ معركة الانتخابات تمثّل فرصة في غاية الأهميّة للاشتراكيّين من أجل تثقيف الطبقة العاملة حول مسائل سياسيّة ممّا يساهم في وعي العمّال بمصالحهم الطبقيّة كما أنّها تدفع العمّال إلى التّنظيم وخوض معارك سياسيّة ضدّ أعدائهم الطبقيّين… وذلك لا يعني أنّ ما يجري خارج مجلس النوّاب في الشارع أو أماكن العمل أقلّ أهميّة أو أنّ العماّل قادرون على تغيير النّظام من خلال الانتخابات والديمقراطيّة البرلمانيّة… فبالنّسبة للعمّال والمقهورين والمقموعين عليهم أن يخوضوا كلّ المعارك بما فيها الانتخابات و”صيحتهم في ساحة الحرب يجب أن تكون: الثورة الدائمة!”
مقتطف من “بيان اللجنة المركزية إلى الرابطة الشيوعية” – كارل ماركس وفريدريك إنجلز لندن، مارس 1850
أيّها الإخوة!
لقد أثبتت الرّابطة في السنتين الثوريتين 1848-1849 عن جدارتها من ناحيتين:
أولاً، شارك أعضاؤها في كل مكان بنشاط في الحراك الثوريّ ووقفوا في الصفوف الأمامية للطبقة الثورية الوحيدة، البروليتاريا، سواء كان ذلك في الصحافة أو على المتاريس أو في ساحات القتال.
كما أثبتت الرّابطة عن تميّزها من خلال قدرتها على فهم الحراك، كما ورد في تقاريرها الصادرة عن المؤتمرات واللجنة المركزية لعام 1847 وفي بيان الحزب الشيوعي. بل ثبت أنها الوحيدة التي كانت على حق، حيث تحققت توقّعاتها الواردة في هذه الوثائق بالكامل. ما كانت تنشره الرّابطة سرًا، أصبح على كلّ لسان ويتمّ التبشير به علنًا في الساحات العامّة.
لكن في نفس الوقت، تقهقر تنظيم الرّابطة إلى حدّ كبير وذلك بالرّغم من قوّته السّابقة. اعتقد عدد كبير من الأعضاء الذين شاركوا بشكل مباشر في الحراك أنّ وقت الجمعيّات السريّة قد انتهى وأنّ العمل العلنيّ وحده أصبح كافياً. سمحت التّنظيمات المحليّة لاتصالاتها باللجنة المركزيّة بأن تضعف وتغاضت عن ذلك إلى أن أصبحت خاملة تدريجياً.
لذلك، في حين أن الحزب الديمقراطي، حزب البرجوازية الصّغيرة، أصبح أكثر تنظيماً في ألمانيا، فقد حزب العمال موطئ قدمه الوحيد، وظلّ منظّمًا في أحسن الأحوال، في بعض المناطق لأغراض محلّية؛ وبالتالي أصبح العمّال داخل الحراك الأوسع تحت قيادة الديموقراطيين من البرجوازية الصغيرة وسيطرتهم الكاملة. لا يمكننا أن نسمح باستمرار هذا الوضع؛ علينا استعادة استقلاليّة العمّال…
2. من أجل التمكّن من التصدّي لهذا الحزب الذي ستبدأ خيانته للعمّال في الساعة الأولى منذ انتصاره، يجب أن يكون العمال مسلّحين ومنظّمين. يجب أن تتسلّح البروليتاريا كلّها دفعة واحدة بالبنادق والمدافع والذخيرة، ويجب معارضة إحياء ميليشيا من المواطنين موجهة ضدّ العمال على الشكل القديم.
وحيث يتعذّر على العمال منع تشكيل هذه الميليشيا، فليحاولوا تنظيم أنفسهم بشكل مستقلّ كحرس بروليتاري له قادة منتخبين وهيئة أركان عامة منتخبة خاصة بهم؛ وعوض أن يضعوا أنفسهم تحت أوامر سلطة الدولة عليهم أن يتلقّوا أوامرهم من المجالس المحلية الثورية التي يشكّلها العمّال.
أمّا حيث يكون العمال مجنّدين في خدمة الدولة، فعليهم التصرف بشكل يؤمن لهم التسلّح والتنظيم في فرق خاصة قادتها من اختيارهم أو كجزء من الحرس البروليتاري. ومهما كانت الحجّة، يجب الامتناع عن التخلّي عن السلاح والذخيرة ومنع كل محاولة لنزع السّلاح، باستعمال القوّة عند الضرورة.
إنّ حكم الديمقراطيين البرجوازيين أمر حتميّ في الوقت الحالي وعلينا إبطال
تأثيرهم على البروليتاريين، وفرض الظّروف التي من شأنها أن تعيق حكمهم وأن تجعله أمرا صعبًا قدر الإمكان. هذه هي النقاط الرئيسية التي يجب على البروليتاريا، وبالتالي الرابطة، أن تضعها في الاعتبار أثناء الانتفاضة القريبة وبعدها.
3. بمجرّد تكوين الحكومات الجديدة، ستبدأ معركتها ضد العمال. لكي يكون العمال قادرين على تشكيل معارضة قويّة للبرجوازية الصغيرة الديمقراطية، من الضروري قبل كل شيء أن يكونوا منظّمين بشكل مستقلّ يتمحور على التنظيم في جمعيّات. وفي أقرب وقت ممكن بعد الإطاحة بالحكومات الحاليّة، ستأتي اللجنة المركزية إلى ألمانيا وستعقد فورًا مؤتمرًا، وتقدّم إليه المقترحات اللاّزمة لتنظيم جمعيّات العمّال تحت قيادة مركزيّة تكون في موقع إدارة العمليّات.
يعدّ التنظيم السريع للاتّصال، الإقليمي على الأقل، بين نوادي العمال أحد المتطلبات الأساسية لتقوية حزب العمال وتطويره. إنّ النتيجة المباشرة للإطاحة بالحكومات القائمة ستكون انتخاب هيئة تمثيلية وطنيّة. هنا يجب على البروليتاريا أن تهتمّ بما يلي:
1) ألّا تستبعد السلطات المحليّة والمفوّضون الحكوميون، تحت أي ذريعة كانت، أيّ فئة من العمّال؛
2) أن يتقدّم مرشّحو العمال في كل مكان في مواجهة لمرشّحي البرجوازيين الديمقراطيين. يجب أن يكونوا أعضاء في الرّابطة بقدر الإمكان ويجب إنجاح انتخابهم بكل الوسائل الممكنة. حتّى في حالة عدم وجود احتمال لانتخابهم، يجب على العمّال تقديم مرشّحيهم الخاصّين للحفاظ على استقلاليّتهم، وقياس قوتهم، وطرح موقفهم الثوري ووجهة نظرهم الحزبية أمام الرّأي العامّ. يجب ألا تضلّلهم العبارات الفارغة التي سيردّدها الدّيمقراطيون الّذين سيصرّون على أنّ مرشّحي العمال يقسمون الصفّ الديمقراطيّ ويعطون لقوى الرجعية فرصة للنّصر. كل هذا الكلام يعني في التحليل النهائي ضرورة خداع البروليتاريا. إنّ التقدّم الذي سيحققه الحزب البروليتاري من خلال العمل بشكل مستقلّ بهذه الطريقة أهمّ بما لا يقاس من العيوب النّاتجة عن وجود عدد قليل من الرّجعيّين في المجلس التمثيليّ. إذا اتّخذت القوى الديمقراطيّة إجراءات رادعة حاسمة ضدّ الرجعيّة منذ البداية، فإنّ تأثير الرجعيّة في الانتخابات سيكون قد أبطل بالفعل . . .
على الرغم من أن العمّال الألمان لا يستطيعون الوصول إلى السلطة وتحقيق مصالحهم الطبقية دون المرور بتطور ثوريّ مطوّل، إلاّ أنهم هذه المرة يمكنهم على الأقلّ أن يكونوا على يقين من أن الفصل الأول للدراما الثوريّة التي يقترب أجلها، سيتزامن مع انتصار مباشر لطبقتهم في فرنسا وبالتّالي سيتمّ تسريع إيقاعها. ولكن يجب عليهم أن يساهموا بأنفسهم في انتصارهم النهائيّ، من خلال تثقيف أنفسهم بمصالحهم الطبقيّة، واتّخاذ موقف سياسيّ مستقلّ في أسرع وقت ممكن، وعدم السّماح لأنفسهم بأن ينخدعوا بالعبارات المنافقة التي يرددها ديمقراطيّو البرجوازيّة الصغيرة وأن يشكّوا لدقيقة واحدة من ضرورة بناء حزب بروليتاري منظّم بشكل مستقلّ. صيحتهم في ساحة الحرب يجب أن تكون: الثورة الدائمة!
الكاتب: الرفيق جوهر باني اشتراكي ثوري من تونس