
ذكرى ميلاد لينين، هل النظرية لا تزال فاعلة؟
“الثورة عيد المضطهَدين والمستغَلين. وليس هناك وقت تكون فيه الجماهير في وضع استعداد للتقدم للأمام بنشاط لبناء نظام اجتماعي جديد مثل وقت الثورة. في مثل هذه الأوقات يتمكن الناس من صنع المعجزات مقارنةً بالمعايير الحمقاء للتقدم التدريجي”.
لينين والثورة البلشفية: هل النظرية لا تزال فاعلة؟
على مدار العقود الماضية، وتحديدًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لاقت الاشتراكية انتقاداتٍ واسعة بجمودها وتجاوز العصر الحالي تطبيقها على غير ما كانت عليه الأمور قبل 100 عام. وعلى النقيض، تحوَّل لينين وأفكاره الأساسية عند بعض اليساريين إلى أيقونةٍ ونصوصٍ مُقدَّسة ثابتة غير قابلة للنقاش.
لكنه، ومع تصاعد الثورة في المنطقة العربية خلال الأعوام الماضية، ألحت فكرة النظر بعين التحليل لأحداث الثورة البلشفية عام 1917 من خلال “ماذا يعني لينين؟” و”كيف نفهم معطياتنا من الخبرات الثورية السابقة؟”. في المقابل، فإن استخدام نفس الأدوات على مستوى النص والممارسة بالتأكيد سيضعف النظرية إن لم نأخذ في الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على العالم خلال هذه الفترة.
فمثلًا، ظهرت الستالينية وسيطرت على روسيا، وتأزَّمَ الاقتصاد في الكساد الكبير في نهاية العشرينيات، وانتعشت الفاشية في الثلاثينيات، ثم ساد الدمار الهائل دول أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، وبرزت الولايات المتحدة كأكبر قوة اقتصادية في العالم، ثم اندلعت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا، ودخل العالم في سلسلة من الأزمات الاقتصادية في السبعينيات، وظهر التنوع بصعود الإسلام السياسي في المنطقة العربية، ثم نشبت الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 2008 كأعنف أزمة يعانيها النظام الرأسمالي خلال القرن نفسه. كل هذه الأحداث خلقت تغيرًا نوعيًا في كيفية التعاطي الحرفي مع النظرية، وهو ما أثبته لينين نفسه. ففي عام 1902، ومع إصدار كتاب “ما العمل؟” تصوَّرَ لينين أن تحرير الطبقة العاملة وزيادة وعيها يلزمه تدخُّلاً من المثقفين، وفي عام 1905، ومع تطوُّر النضال العمالي وتغير الظرف، راجع لينين أفكاره في أن وعي الطبقة العاملة من خلال الممارسة والانخراط في نضالاتها يفوق بالتأكيد وعي المثقفين.
دراستنا لنظرية لينين أيضًا ستُلزِمنا بإدراك تغير الظروف الاقتصادية؛ ففي روسيا عام 1917 تركَّزَت الطبقة العاملة في المدن الكبرى، ورغم ثقلها السياسي، كان الفلاحون يشكِّلون النسبة الأكبر، على عكس الوضع في العالم اليوم، بعد أن تمدَّدَت الطبقة العاملة ليس فقط داخل المدن، بل لجتذب أيضًا قطاعات من العاملين بالريف.
نناقش هنا ببساطة الأفكار المؤسسة للنظرية اللينينية.
1 – الثورة العمالية
أحد أهم الأفكار الأساسية لمشروع لينين هي تلك التي تطرح دورًا قياديًا للطبقة العاملة في قيادة الثورة.
والطبقة العاملة هي كل مَن يعمل بأجر، أي الأغلبية، والثورة العمالية أصبحت بالضرورة ثورة الأغلبية التي تمتلك قوتها في السيطرة على أدوات الإنتاج، ووقف عجلة الاستغلال. إن حجم الطبقة العاملة في الصين، على سبيل المثال، عام 1917 كان أقل من 1%، أما اليوم فقد تضخَّمَت لتشمل 700 مليون عامل، في حين لم تمثل نسبة العمال على مستوى العالم سوى أقل من 5% في أيام كارل ماركس، لتتضخَّم هذه الطبقة لتشمل حاليًا 2 مليار عامل. وقبل أعوام، ومع الثورة المصرية، لم يُجبَر الديكتاتور مبارك على التنحي إلا باجتياح موجة إضرابات عمالية ضخمة انتصرت للحراك الشعبي. هذه الفكرة الأساسية أثبتت عمق واقعية النظرية مع مرور الزمن بأن الثورة العمالية أصبحت ملحة الآن وذات تأثير أكبر مقارنةً بالقرون الماضية.
2 – الإمبريالية
هذا المفهوم طُرِحَ إبان الحرب العالمية الأولى حيث تنافست البلدان الصناعية الكبرى، وتحديدًا من أواخر القرن التاسع عشر، لتقسيم دول “العالم الثالث” بحثًا عن المواد الخام والأسواق لتصدير فائض رأس المال. انتعشت على الجانب الآخر في البلدان المستعمرة حركاتٌ وطنيةٌ مُقاوِمة. الفكرة الأساسية لدى لينين هي تحالف الحركات العمالية داخل الدول الرأسمالية مع حركات المقاومة الشعبية بالدول المستعمرة لتوحيد النضالات لكافة القوميات والعرقيات. هذا التوحيد عُرِفَ بـ”الأممية”، فبدون اتحاد القضايا الوطنية والاقتصادية والسياسية وتضامنها الكامل مع باقي الحركات المقاومة في تحرُّرٍ أكبر يشمل تحرير كافة المضطهدين، لن تتحرَّر الطبقة العاملة.
3 – الموقف من الدولة
في كتابه “الدولة والثورة”، تصوَّرَ لينين أن انتصار الثورة ووصول الأغلبية للحكم لا يمكن أن يحدث باستخدام نفس أدوات الدولة السابقة، ففي المجتمعات الرأسمالية تعبر السلطات التنفيذية والقضائية عن مصالح الأقليات البرجوازية دون الأغلبية العظمى من الجماهير. إن التحليل الإصلاحي القائم على اعتبار الثورات وسيلةً لتغيير رأس الحكم هو انهزام لصالح الدولة القديمة؛ فالتحوُّل المفاجئ لهذه السلطات وانحيازاتها لا يتم إلا بتغييرٍ راديكالي داخل هذه المؤسسات يؤهلها لدورٍ ثوري.
على هذا الجانب، قدَّمت اللينينية أطروحاتٍ حول عدم إمكانية تحقيق الاشتراكية عبر البرلمان تحت نفس بنية الدولة القديمة.
في عام 1936، اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية إثر فوز الأحزاب المؤيدة للتحول الجمهوري من الملكي، تم إجراء قرارات اقتصادية لمصلحة الجماهير، أدت إلى تمرد داخل الجيش واندلاع حرب توَّجَت الجنرال السفاح فرانكو على رأس السلطة طيلة 35 سنة لاحقة، فيما أُهدِرَت الفرصة الثورية تمامًا. وفي عام 1970، أفرزت الانتخابات صعود أحد الأحزاب اليسارية للسلطة برئاسة سلفادور آيندي، وحُورِبت الإجراءات الاقتصادية الممثلة في التأميم وتوزيع الأراضي بأساليب تخريبية من ذوي المصالح المناهضة للإجراءات حتى قُضِيَ على آيندي عسكريًا. هذان المثالان استطاعت فيهما السلطات غير المُنتَخَبة أن تنقض على الإرادة الشعبية في تمثيلها البرلماني وتنقلب على المصالح الشعبية. وهو ما تطرحه اللينينية في مفهومها حول علاقة الثورة بالدولة.
لكنه، وعلى الجانب الآخر، فإن الاشتراكية أيضًا طرحت المشاركة في الانتخابات كتكتيك يهدف لجذب الجماهير بكل الطرق حول الأفكار الثورية والاشتباك في معاركها من منابر إعلامية تطرح ترابط القضايا بعضها البعض دون انتهازية. ورغم تبني حزب سيريزا باليونان برنامجًا راديكاليًا، تراجع الحزب عن كل وعوده بعد حصوله على الأغلبية البرلمانية ورضخوا لكل شروط الاتحاد الأوروبي، لم يكن خطأ الحزب هو دخوله البرلمان بمقدار إهدار فرص البناء القاعدي لأفكارهم الاشتراكية داخل النقابات العمالية والتعبئة لها.
4 – الحزب الثوري
البنية الأساسية لتحقيق المشروع اللينيني تتمثَّل في بناء حزب ثوري قادر على قيادة الجماهير لانتصار الثورة.
تقع مهام الحزب الثوري في الاندماج داخل الطبقات العمالية ليتكوَّن منها بالأساس. هو ليس حزبًا سياسيًا مستقلًا بمعزل عن النضالات الجزئية للجماهير. إن التوازن بين الممارسة النضالية داخل المصانع وأماكن العمل وبين ربط الخطاب السياسي والبنية الاقتصادية الطبقية ومآلاتها هي أهم الأفكار المؤسسة للحزب دون حلقية (بتفريغ النضال من البعد السياسي)، ودون انتهازية (بفصل المعارك عن أسبابها الطبقية والسياسية في الدولة الرأسمالية)، وهو ما افتقدته تمامًا الساحة المصرية في ثورتها بحزبٍ يربط النضال الديمقراطي في الميادين بإدارة المصانع.
5 – قضايا الاضطهاد
تحتل قضايا الاضطهاد موقعًا مركزيًا في اللينينية، وتحقيقها كان أحد أهم عوامل نجاح الثورة البلشفية. فبينما تتوحَّد الطبقة العاملة حول مشروع سياسي يهدف لهدم الطبقية وتحقيق الاشتراكية، تُهدَم بالتبعية كل أشكال التمييز والاضطهاد المبني على الجنس والعرق واللون والديانة. النظام الرأسمالي يسعى دومًا إلى تفتيت النضالات العمالية بزرع التمييز بين المسلم والمسيحي والرجل والمرأة. أما الاشتراكيون الثوريون فيرون أنه لن يزول الاضطهاد إلا بتجاوز الرأسمالية، والوحدة العمالية واندفاع الحراك إلى الأمام لن يتحقَّق إلا بتكامل رؤية ثورية شاملة لتحرر المرأة ومساواتها كذلك حرية التنويعات العرقية والأقلية داخل تنظيم يُمثِّل “منبرًا لكل المضطهدين” على حد تعبير لينين.
أما تأجيل قضايا الاضطهاد بحجة أولوية اللحظة السياسية ولحين انتصار الثورة، فهذا ما يتناقض مع التراث اللينيني. وعلى سبيل المثال، رغم المساواة القانونية الكاملة التي يحظى بها السود في أمريكا، لم تتوقَّف الحوادث العنصرية تجاههم طيلة الأعوام الماضية، كذلك إقرار المساواة القانونية للمرأة في بريطانيا، لم تمنع تسجيل أعداد واسعة النطاق من تحرش البرلمانيين بالعاملات في الأسابيع الماضية.
ندوة عقدها مركز الدراسات الاشتراكية، 31 أكتوبر الماضي، وتحدَّثَ فيها الاشتراكي الثوري سامح نجيب.
#لينين #تاريخ_الطبقة_العاملة #ارشيف_المناضلين
#كل_السلطة_والثروة_للشعب #تيار_اليسار_الثوري_في_سوريا