
قد يبدو تركيز جرامشي على العمال غير ذي أهمية لمن يعتقد أن الطبقة العاملة قوة تضمحل في العالم اليوم، ولكنها تنمو عالميًا، وأصبحت الآن وللمرة الأولى تشمل أغلبية سكان العالم. إن الظروف التي نجدها في مدن كساو باولو أو شانغهاي متشابهةٌ مع الظروف التي سادت في تورينو أيام جرامشي. الغالبية الساحقة من الناس في غرب أوروبا إما تعمل، أو تدرس لتجد عملا، أو تقاعدت عن العمل. تستمر المصانع الكبرى في الإنتاج بأرباح طائلة، وإذا كانت قوة العمل لديهم أقل، فإنّ ذلك يُمكّنهم من بسط سيطرة أكبر على عملية الإنتاج. إلا أن الكثيرين منا يعملون في مراكز الاتصالات والقطاع المالي والأسواق الضخمة والتوزيع، وغيرها من الوظائف التي تكون بشكل عام ضعيفة الأجر وغير مضمونة الدوام.
تجمّع الملايين في بريطانيا ليعارضوا الحرب على أفغانستان والعراق في 2002 و2003، وما تلاه من احتلال. فقد أدركوا أن الهمّ مشتركٌ. ولكن لم ينشأ، وبسبب عدم اندلاع الصراع بالقوة نفسها كما حدث في مكان العمل، الإحساس نفسه بالهوية الطبقية والسلطة.
وعليه لا يُعتبر الظرف – بالمقارنة بتورينو بعد الحرب العالمية الأولى – مختلفًا كثيرًا، حيث تكالبت قوة عمل جديدة على المدينة في طور التوسع، ثم عجزت مؤسسات الطبقة العاملة الموجودة عن الحشد والتنظيم. رأى جرامشي أن مجالس المصانع هي الأساس في خلق قوة جديدة من الطبقة العاملة.
كانت مجالس المصانع – أو أمكان العمل بالأحرى – الجنينية الحجم تنشأ على عجلةٍ مع كل صراع ثوري عظيم في القرن الذي تلي الثورة الروسية في 1905.
اجتاحت انتفاضة ثورية بوليفيا، في مايو ويونيو لعام 2005، وقد استولت خلالها مجالس شعبية على منظمات الطبقة العاملة، وأسقطوا حكومة نيوليبرالية كانت تحاول بيع موارد البلاد من نفط وغاز.
تعتبر الديمقراطيات الرأسمالية العادية أن لكل فردٍ صوتًا رسميًّا، وبالتالي فكلنا سواسية، إلا أن هذا غير صحيحٍ. ففي أيدي روبرت موردوخ ومحافظ بنك انجلترا سلطات لن تتوفر للأغلبية منا أبدًا. هناك فصلٌ ضخمٌ بين السلطة السياسية والاقتصادية، مما لا يترك لنا سوى هامشٍ ضيقٍ، قد يصل إلى 20%، للتدخل فيما يحدث في المجتمع، مع استبعاد البسطاء من أقل سيطرة على باقي الـ 80% من الاقتصاد أو السوق. تهدم مجالس العمال الحواجز الفاصلة بين السلطة السياسية والاقتصادية، ويلتقي الناس ويتخذون القرارات كمواطنين ومنتجين ومستهلكين.
إن تقسيمنا في دوائر جغرافية، بحسب النظام الانتخابي، تحجب حقيقة أن الفصل الرئيس هو فصلٌ طبقي، وليس وفق مناطق جغرافية، وأنه لا يوجد في هذه المناطق مجتمع “طبيعي”، ولكن تقسيمات كبيرة للثروة. تَجمَعُ ديمقراطيةُ مجالس العمال الناسَ على أساس النشاط الذي يهمين على حياتهم، أي علاقتهم بالعمل والاستغلال.
بعدما ننتخب رؤساء الوزراء وأعضاء المجالس لا سلطان لنا عليهم. أما في نظام مجالس المصانع يمكن استجواب أي ممثل وإخراجه بالتصويت. كما أن هناك تمثيلًا للعوام، ويتقاضى المندوبون نفس الأجر لمن يمثلونهم، لا أضعافه مرتين أو ثلاث مرات. تبذل الديمقراطية البرلمانية قصارى جهدها لتبعد الناس عن التدخل. يُوحى لنا كثيرًا أن السياسة شيء ممل، وهذا ما ينطبق فعلا على مجلس العموم. ولا يُسمح لنا كثيرًا بإبداء الرأي في أيٍّ من أمور الشرطة والجيش والإعلام والخدمات المدنية والقضاة.. إلى غير ذلك.
أما ديمقراطية المجالس فتعظِّم من المشاركة وتنهي ابتعاد الناس العاديين عن عملية اتخاذ القرار. إنها تُعطي للناس شعورًا بحجم قدراتهم، وتُبرهن أننا نستطيع إدارة الأمور. بل وتضع حدًا لهراء السنين، الذي قادنا للاعتقاد أننا غير قادرين على إدارة حياتنا.
تكرر تشكيل حركات العوام من الناس لمعارضة فئة المسئولين في النقابات المهنية. وتعتمد قدرتهم على التقدم خطوة أخرى نحو تحولها إلى مجالس مصانع على مستوى الصراع، ومستوى التعميم بداخل الطبقة العاملة. لا يستطيع الثوار استدعاء ذلك بفعل إرادتهم، ولكنهم يستطيعون تنمية حركة جماهيرية تحضيرًا لموقفٍ تتحول فيها التقاليد التي أرسوها لتصبح مجالس المصانع.
لا يوجد خيار انتظار هذه اللحظة أمام الثوار. فالدرس المستفاد من الفترة الحمراء في إيطاليا هو أن على القوة الثورية أن يكون لها تواجد قبل مجيء هذه اللحظة، أن تكون قوةً تدخل بنشاط في الصراعات اليومية للعمال، أو أن تكون، بعبارة أخرى، حزبًا. لا بد لهذه القوة الثورية أن تكون على صلة بجماهير العمال، الذين يتقبلون الأفكار الإصلاحية، ولكن يمكن التأثير عليهم من خلال خوض الصراع من أجل متطلبات الحياة اليومية، فينضموا في لحظة الأزمة إلى صف الثورة في النهاية. على الثوار أن يكونوا بجانب هؤلاء العمال في نقاباتهم، ولكن عليهم أن يعملوا طوال الوقت ليتصدوا لقبضة قادة النقابات العمالية والساسة الإصلاحيين المستغلين لنفوذهم لأجل كبح الدفع الثوري، واحتوائه.
يشير جرامشي في كراسات السجن إلى أن الأحزاب المتنافسة تستقطب الناس في لحظات الأزمة، حتى وإن كان هؤلاء الناس يرفضون الأحزاب بشكل مجرد. بمعنى آخر، يلتف الناس حول استراتيجيات بعينها، سواء أكانت إصلاحية أو ثورية. ولكن حسبما رأينا لا يستوي الاثنان، فواحدة تمثل “الحس المشترك” التي تشبّعنا بها منذ ولادتنا، والتي يؤكد عليها حزب العمال وقيادات النقابات المهنية وفصائل المعارضة من كل صنف، بينما القفز تجاه مجتمعٍ جديدٍ يعني التغلب على كل ذلك. قد تبدأ الثورات بشكل عفوي، إلا أنها لا تنتهي أبدًا على هذا النحو.
فهم جرامشي أن مجالس العمال لا يُخطّط لها ببساطة، ولا هي عفوية تمامًا. كلا العنصرين يجب أن يجتمعا بشكل فعال. واعتبر أن دور هذه المجالس هو أن تعمل كجسر بين الأقلية المنظمة في الحزب الثوري، والكتلة الكبيرة من العمال، الذين مازال لديهم ميل للأفكار الإصلاحية.
لا يستطيع حزبٌ صغيرٌ بمفرده تحريكَ هذه الملايين. كانت هناك في بريطانيا منذ 30 أو 40 عامًا شبكةٌ قويةٌ من ممثلي النقابة المنتخبين مباشرة، يتواجدون في مواقع العمل، مستعدين للتصرف مستقلين عن مسئولي النقابة. رأى الاشتراكيون إمكانية تنظيم هؤلاء؛ ليشكّلوا حركة جماهيرية قوية، قد تكون جسرًا لجماهير العمال، وترسي أساس مجالس العمال.
تعدت سرعة التجذير الحادث اليوم، بسبب الحرب والإمبريالية والنيوليبرالية، إيقاع الصراع الاقتصادي، إلا أن جيلا جديدًا من الثوريين عليهم أن ينشغلوا بسؤالٍ: كيف يمكنهم إعطاء هوية لقوة العمل الموجودة والتي لم تكتشف قدراتها بعد؟
كان جرامشي حليفًا قويًّا لتحقيق هذا، بل كان أكثر من ذلك.
✪ إعلام تيار اليسار الثوري في سوريا من أجل الاشتراكية والثورة
#FrontLine #Revoleftsyria
https://linktr.ee/revoleftsyria
من كراس غرامشي النظرية والممارسة _ الاشتراكيون الثوريون