
في اجتماعٍ مغلقٍ مفترض السرية نوعاً ما، لم يلبث أن سرب الحضور مضمونه، صارح السيسي قادة الأحزاب الرسمية، أي تلك المسموح لها بالتواجد الشكلي المحض، والمكبلة تماماً من الناحية الفعلية، بأنه سيتم في عهده كل ما كان ينبغي القيام به طيلة الأربعين عاماً الماضية؛ سبق ذلك الاجتماعُ التعويمَ، ومن ثم التملص الفظ من كل الالتزامات والضمانات، التي تعهدت بها الدولة (أو على الأقل ادعت ذلك) بنسبٍ متفاوتة منذ تأسس نظام يوليو.
كان واضحاً تماماً ما يعنيه، إذ في حواراتٍ سابقة، لم يخف إعجابه بالسادات، الذي وصفه بالشجاعة، ولم يخف نيته الحصول على مقابلٍ مادي بالأسعار العالمية لكل الخدمات، التي إما وفرتها الدولة في ما قبل بأسعارٍ زهيدة، أو مدعومة، وإما من المفترض أن توفرها من أموال الضرائب.
أجل لم يخف نيته ولم يواربها في وضع يده على كل قرشٍ يستطيع الحصول عليه لبناء مصر، أي ذلك البلد المثالي الموجود في خياله، الذي يبدو أنه لا يرى في واقعه بشعبه المفقر المرهق سوى عبءٍ تتعين إزاحته والتخلص منه بأي ثمن، لكنه أخفى انحيازاته الاجتماعية جيداً. لقد أخفى الهدف من انقلابه على الرغم من وعيه به جيداً.
في هذا السياق، وكتمهيدٍ لا محيص عنه، يلزم لفت النظر إلى ملمحين شديدي الأهمية في الواقع والتعامل معه؛ من ناحيةٍ لما كان هذا الواقع حمّال أوجهٍ بامتياز، فمن الممكن النظر إليه من زوايا متعددة، وتفسير الوقائع الخام وفقاً للانحياز الاجتماعي المسبق، بل هذا هو ما يحدث دائماً وبصورةٍ مستمرة، غالباً بدون إدراك أغلب الفاعلين على مسرح الواقع وفي مجرى الحياة، وعلى ذلك ففي حين يرى البعض في تسلسل الأحداث وعلاقات الفاعلين الواقع المؤكد للصراع الطبقي، فإن طرفاً أو أطرافاً أخرى قد لا ترى سوى مجرد مصادفاتٍ وأشياء تحدث بالتوازي والتزامن، بدون خطةٍ أو علاقة سببيةٍ مباشرة.
ما يميز الأولين عن الآخرين، مقدارٌ من الوعي والتربية السياسية. من ناحيةٍ أخرى فإن أغلبنا إذ يسمع عن صراع الطبقات، أو الهجمة أو الحرب الطبقية فإنه رغماً عنه يستدعي من مخيلته وذاكرته صوراً لدباباتٍ وجنودٍ في ساحة معركةٍ يزحفون، وأعلامٍ تخفق من أفلامٍ لا حصر لها مقررةٍ علينا، فشببنا على مشاهدها في كل المناسبات «الوطنية» آخرها احتفالات حرب أكتوبر.
بيد أن الصراع الطبقي أو الاحتراب الطبقي (ما لم يصل إلى مرحلة الحرب الأهلية) يُخاض بطرقٍ وأساليب مختلفة، وعلى صُعدٍ ومستوياتٍ شتى، قبل أن يصل إلى العنف الصريح، إلى الرصاص الحي؛ في أغلب الأحيان، يكفي أن تزمجر الدولة، ذلك التشكيل العصابي بامتياز في بلدٍ كمصر في عهد السيسي، أو تلوّح بالعصا معلنةً نيتها استخدامها. يوماً بعد آخر وحدثاً تلو أخيه أو شبيهه، تؤكد لي جميعاً أن أبسط تأملٍ لها ومن ثم الربط البسيط لمفرداتها يبرهن على كيف شن ولم يزل هجمةً طبقيةً مضادة لم تلبث أن تحولت إلى حرب. يقيناً أن مبارك لم يسقط لمجرد أن أحرق البوعزيزي نفسه ليفجر وجوده تنفيساً عن غضبٍ مستعرٍ دفين؛ لا لم يكن سقوطه حدثاً عابراً أو أثراً من «خفقة جناح فراشة»، ولكن لأن ذلك المحفز الحاد أو الشرارة أصابت كالنار قشاً متراكماً هو دول ما بعد الاستقلال العربية، الفاشلة في المجمل وإن بدرجاتٍ متفاوتة.
في مصر كان لدينا ديكتاتور مسن متبلد رابضٌ بثقل الجثة على نظامٍ مترهلٍ بليد، يسير بالقصور الذاتي وبدون مبادرةٍ حقيقية لتغييره من قبل الجمهور العريض. المهم في الأمر أن ذلك النظام كان قد أثبت فشلاً مدهشاً في الوفاء بالتزاماته، رغم تغييرها من حقبةٍ لأخرى، كما أن الثابت أيضاً أنه إذ اقتفى ذيل كل نظريةٍ اقتصاديةٍ جديدة في تتابع الحقب، بهدف الخروج من أزماته الاقتصادية المزمنة، لم يبق لديه غير ثابتٍ واحد: عدم المساس بالأثرياء والتنصل من تعهداتٍ تجاه الشعب، في التعليم والصحة إلخ، ورغم كل التغييرات، ظل الأكيد أيضاً تغير البوصلة نهائياً، من انحيازٍ نسبي تجاه البورجوازية الصغيرة والطبقات الدنيا في زمن عبد الناصر نحو الاثرياء، الذين انبهر بهم السادات، ولم يحاول إخفاء ولعه بهم (الشاه أقرب مثال).
بذا، ضُربت رويداً رويداً الصيغة الحاكمة للعلاقة منذ يوليو 52: الخدمات من قبل النظام مقابل السكوت والرضا على مصادرة المجال العام، وسحق النشاط السياسي المستقل بعيداً عن تنظيمات الدولة المتعاقبة أياً كانت أساميها أو صبغاتها السياسية، والقمع السياسي العميق العميم الكثيف، مشمولةٌ جميعها بالاكتفاء بالتصفيق والتهليل للقائد الأوحد، وإذ لم يمتلك مبارك الشجاعة، أو لنقل امتلك من الحكمة ما يكفي ليتجنب الانسحاب الصريح الصفيق الحاد القاطع من تلك الالتزامات، فقد اكتفى بتفريغها من مضمونها، وتركها لعوامل التعرية والتعفن البطيء، ولم يحتج ولم يوقف تسلل من تطوعوا بشبكة خدماتٍ موازية: الإخوان المسلمون، على الأقل في الجانب الاجتماعي الخدمي. ثم جاء يناير المجيد، جاء نتيجةً لغياب وانهيار الخدمات والخلل في توزيع الثروة والفرص التي تذهب للواصلين، ولكبار السن في بلدٍ جله دون الأربعين، وغياب الحقوق السياسية، واحتجاجاً صارخاً على قمع وإهانات المنظومة الأمنية، هذا في مقدمة أسبابٍ عديدة. اختارت قيادات الجيش لأسبابٍ عديدة (سابقة على الثورة وفق العديد من الشواهد) التخلي عن مبارك، وحاولت تحسس طريقها لكنها أخفقت، وخذلت الناس في مواطن عديدة، ما عبّر عن نفسه في انهيار شعبية المؤسسة حتى مجيء الإخوان، الذي أرى فيه لحدٍ بعيد مناورةً وانحناءً للعاصفة، بغرض شراء الوقت.
بوادر وعيٍ طبقي لدى الجمهور المصري الواسع، الذي بدأ يدرك طبيعة الحرب التي تُخاض ضده وضد مصالحه من قبل طاغيةٍ فظٍ ودموي
ثم ظهر السيسي على مسرح الأحداث، لا بشخصه، ولكن تعبيراً عن ردة فعلٍ طبقية من البورجوازية المصرية، وقيادات مؤسسةٍ عسكرية نهمة، طمعت في النصيب الأوفر من الكعكة، لما تبين لها كم السرقات والأموال التي كانت تتناقلها الأيدي زمن مبارك. جاء السيسي هجمةً طبقيةً مضادة، ولم يعدموا (بفرض أنهم ليسوا جميعاً جمهرةً من الأنذال) أن يجدوا حلةً وطنيةً غيورة كالخوف من التفريط لقطر ومدنية الدولة إلخ، ليقنعوا أنفسهم بانقلابهم، ومن يعلم فربما اقتنعوا بالفعل فلهذه الدرجة كانت رغبتهم في الاقتناع والتصديق.
لكن النظرة الثاقبة لن تحتاج إلى وقتٍ ولا بذل مجهودٍ لترى جلياً أن السيسي كان تعبيراً واستجابةً لحاجةٍ ورغبةٍ عميقة بقدر ما هي حادة ومتجذرة للتعامل العنيف من خلال ثورةٍ مضادة، تقطع الطريق على مسيرة نضج الثورة المصرية، من قبل بورجوازية لم تخفِ رأيها في أن مباركاً لم يكن عنيفاً ولا حاسماً، بما فيه الكفاية طيلة عهده، خاصةً مع بداية 25 يناير وترى النموذج في ما فعله بشار ونظامه، الذي لم تهادن ولم تتنازل كوادره الأمنية.
لقد جاء انقلاب السيسي على أرضٍ معدةٍ وممهدةٍ جيداً بأزمات الطاقة والكهرباء، وقد لعب بأوراقه جيداً في البداية إذ تملق بورجوازيةً صغيرة مسكونة بالخوف والطموح لاحتياجه لدعمها، ثم لم يلبث أن أبرز انحيازاته وألوانه الحقيقية؛ وبالفعل لم يجد النظام والبورجوازية المصرية أفضل من ظرف ثورةٍ مضادة، لتمرير ما كانت تطمح وتشتاق إليه منذ عهود، إذ في ظل الاستجابة لدعواتٍ قديمة للإصلاح الهيكلي، تم التخلص حتى من بواقي الدعم الهزيلة والشكلية، أي تحميل عامة الشعب من ذوي الدخول الثابتة والبورجوازية الصغيرة (التي حملت انقلابه) فاتورة الفشل الاقتصادي، والحماقات والمشاريع الفاشلة عديمة الجدوى، وإتمام تحقيق الحلم الخيالي بالانعزال المكاني عن شعبٍ يرونه من الغوغاء في عاصمةٍ جديدة، وترك القاهرة، بل مصر التاريخية لقدرها ونصيبها، ولتتعفن إذا لم تنجُ.
كل ذلك يتم إما تحت تهديد السلاح أو باستخدامه بالفعل، وقد بات ذلك مكرراً ومبتذلاً، وفي سبيل ذلك يوظف النظام هيمنته على كل المؤسسات التي تفقد (أو فقدت بالفعل) استقلاليتها كالقانون والقضاء، وبتغيير القوانين والمحاكمات تتخفى تلك الحرب الطبقية الشرسة تحت غلالة من الحيادية. قد يُضطر إلى المناورة في بعض الأحيان، وكأي حربٍ ربما التراجع، إذا ما وقفت في وجهه أعدادٌ لا بأس بها، كما هي الحال مع مَخرج التصالح في قانون المخالفات الأخير (وربما كان الأمر حيلةً للوصول والقبول بهذه النتيجة منذ البداية)، إلا أن ذلك لا ينفي أنها حربٌ ولن يتورع عن استخدام الرصاص الحي، وسفك الدماء متى دعت الحاجة، وقد يذهب ضحية هذه الحاجة أشخاص عابرون عارضون تماماً، يحضرني في ذلك الخمسة الذين بدمٍ بارد للتغطية على مقتل جوليو ريجيني والشهيد البطل عويس الراوي في الأيام الماضية، على سبيل المثال المُخِل. ثمة ملمحٌ إيجابي في كل ذلك وهو بوادر وعيٍ طبقي بازغة لدى الجمهور الواسع، الذي نشأ يدرك طبيعة الحرب التي تُخاض ضده وضد مصالحه من قبل طاغيةٍ فظٍ ودموي. يوماً ما ليس بالبعيد، سينظر الناس وراءهم إلى حقبة السيسي، وسيشعرون بخجلٍ عميق من أن شخصاً محدود الذكاء والقدرات مثله ضحك عليهم، وحكم مصر، كما سيشعرون بالذنب عن كل الدم المسفوك والأعمار التي ضاعت في السجون.
كل ما أرجوه أن لا تسحق فاتورة إصلاحات ما أفسده عامة الأجيال المقبلة.
يحيى مصطفى كامل _ كاتب اشتراكي ثوري
نشر هذا المقال أول مرة على جريدة القدس العربي
✪ إعلام تيار اليسار الثوري في سوريا من أجل الاشتراكية والثورة
#FrontLine #Revoleftsyria
https://linktr.ee/revoleftsyria
كل احب عادل مجتمع اريد قبلة