
لم أولد بعد حرب أكتوبر 73 بفترةٍ طويلة، لذا، فليس من عجبٍ حضورها بقوةٍ في سنوات عمري الأولى، خاصةً قبل أن تتعقد الأمور فتنشأ الحيرة، إذ أبرم النظام المصري معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، فيقاطع مصر من كانوا حتى البارحة أشقاء يعيش كثيرٌ من المصريين معهم وفي وسطهم في بلدانهم، وفي المقابل تبدأ مرحلةٌ من «التطبيع» بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة مع الكيان الصهيوني، الذي كان (ربما لم يزل لحسن الحظ ومن باب ما تبقى من سلامة الطوية) العدو المغتصب الذي يكيد لنا دائماً وأبداً وعلى كل المستويات، كما تزداد وتتوطد وتترسخ من ثم علاقاتنا مع أمريكا التي دعمت عدونا الذي آلمنا وآذانا حتى الأمس، بالمال والعتاد الحربي.
عاصرت ورأيت تنامي «ظاهرة» الانتصار العظيم الأسطوري، فشُيدت لها بانوراما وأطلق اسمها بمشتقاته وصيغه المختلفة، العربية والإفرنجية، كأن تقول «حرب رمضان» من باب التنويع مثلاً، على جسرٍ هو الأطول في مصر وعلى أحياءٍ ومدنٍ جديدة، وحتى أسواق الخضروات والفواكه، فأصبح النصر مؤسسةً ضخمةً عجيبة. أما على الصعيد الإعلامي فحدث ولا حرج، لا عن الأفلام والأعمال التي تتناول هذه الحرب، أو تظهر فيها، وهو أمرٌ عادي ومتوقع، بل على المهرجانات والاحتفالات التي تؤكد كل عامٍ على بقائها في مصاف التقديس، احتفاءً واحتفالاً.
حربٌ عظيمةٌ لكن..
بيد أن هذه السنوات أيضاً واكبها نمو إدراكي وازدياد اطلاعي على الشهادات والمذكرات والتحليلات المكتوبة عن هذه الحرب، بالإضافة إلى تلك المسجلة عبر ساعاتٍ لا حصر لها من اللقاءات التلفزيونية مع القيادات العسكرية من الطرفين المصري والسوري (أجل، لزم التذكير بأن سوريا كانت طرفاً وشريكاً أساسياً لمصر في هذه الحرب) فبدأت تتناثر على صفحة وعيي كلماتٌ وعباراتٌ مزعجة، من عينة «الثغرة» و»الجيش الثالث المحاصر» و»حصار السويس» السادات الذي أفشى حسب المشير الجمسي سراً عسكرياً خطيراً، إذ أخبر ( سرّب ربما كلمةٌ أدق) إلى كيسنجر أن مصر ستقف عند ما وصلت إليه ولن تطور الهجوم، ثم «تطوير الهجوم» وما فُقد فيه من مئات الدبابات وقائد أحد الجيوش الذي أصيب بأزمةٍ قلبيةٍ جراء ذلك، إلى غيرها من كلماتٍ ومعانٍ تحيل إلى الحصار والأزمة والوجود الإسرائيلي غرب القناة حتى وصولهم إلى قدس الأقداس، بعض بطاريات صواريخ الدفاع الجوي، أي أن الأمور لم تكن على ما يرام تماماً، بل أبعد من ذلك بكثير إذا شئنا الدقة، وامتلكنا الجسارة الفكرية، وصولاً إلى وقف إطلاق النار في العشرينيات الأولى من أكتوبر، ومن ثم التفاوض مع العدو في الكيلو 101 على طريق السويس، في بر مصر، وطلب الضمانات الأمريكية لإيصال الماء والزاد والاحتياجات الأساسية، دون السلاح والعتاد للمحاصرين. ولست أعتقد أن ثمة غرابة إذ أعرب عن شعوري بأن تلك، على الرغم من المقاومة والتصدي البطوليين، تفاصيل جد مزعجة بل ومحيرة؛ غير أن الأمر لا يتوقف عند ذلك الحد إذ أن إسماعيل فهمي وإبراهيم كامل (وزيرا الخارجية المصرية السابقين اللذين استقالا قبل وأثناء التفاوض مع الجانب العدو) وبطرس غالي في ما كتبوا وقالوا عن تلك المفاوضات، كثيراً ما أوردوا التنازلات التي فُرضت أو قُبلت من جانب مصر كونها كانت الجانب الأضعف ولم تزل أرضها محتلة، ألا يدفع كل ذلك إلى التوقف وربما التمحيص، ومن ثم التساؤل عن طبيعة وماهية ذلك الانتصار «الساحق»؟ فكيف يكون التعادل وما شكل الهزيمة؟
في ست ساعات
لما كانت هذه الحرب لم تقف عند مجرد المعارك العسكرية، وإنما تخطى أثرها ليطبق الزمان والمكان، وبُني عليها العديد من النتائج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل ولست مبالغاً إذ أزعم أنها كانت الخطوة الأولى والدعامة لكل الترتيبات الحاكمة والمعمول بها في مصر (والمنطقة بالتبعية) تعين علينا أن نتمعن قليلاً في كيفية تسيد رواية النصر الساحق. كان السادات ممثلاً كبيراً، ذا مقدرةٍ إذاعيةٍ بارعة يسعفه فيها صوتٌ عميقٌ رخيم، وربما مهرج في رأي البعض من معاصريه ومجايليه، الذين عرفوه عن قرب، وبعد ترددٍ، وعلى الرغم من «خوفٍ من الحرب يسكن عظامه» كما علق أحد الساسة، الأمر الذي لا ألومه عليه، نظراً لجسامة المسؤولية، خاض الحرب، وحصل على تلك اللحظة التي كان يتوق إليها ويحتاجها، وما يمثله من تحالف مصالحٍ على كل المستويات. ركب سيارةً فارهة بزيٍ عسكري وألقى كلمةً فصيحةً فخيمةً في مجلس الشعب، وقد تسلطت عليه كل الأضواء، في مصر والعالم العربي والعالم الأوسع، زها فيها بانتصاره، وتغنى بالدرع والسيف اللذين أصبحا لمصر، ولم يأت على ذكر الثغرة الآخذة في التشكل والاتساع في الدفرسوار. منذ تلك اللحظة (وربما من قبلها فالتواصل مع كيسنجر كان قد بدأ بالفعل) أنجز السادات أهم أهدافه، أو لنقل أولها وأكثرها إلحاحاً: حارب، وأنقذ مشروعية النظام. لم يتعرض نظام يوليو وزعامة عبد الناصر لتحدٍ وإهانةٍ هزت أسسه كهزيمة 67، وقد عبّر عن ذلك بنفسه حين قال إبان التنحي الشهير في حضور رجاله، إن نظاماً لا يستطيع حماية أراضيه عليه أن يذهب.
لكنه لم يذهب، ولا نظامه؛ بل لقد مات هو بعدها بثلاث سنوات، واستمر نظامه بآلياته.
لقد أُخرجت حرب أكتوبر من سياق التحليل أو التناول التاريخي، ليتسنى بذلك أن تصبح آخر الحروب كما أعلن السادات صراحةً
لذا، فربما لم يكن السادات أصدق ولا أكثر اتساقاً منه، حين طلب بمجرد العبور وتحرير، أو بالأدق تأمين والتمركز في شريطٍ أياً كانت تفاهة مساحته وضآلتها، وليُترك الباقي له، فمشروعه مُعد سلفاً وكل ما كان يريده، أو يحتاج إليه كان ترسيخ النظام وإنعاشه بانتصارٍ عسكري ينفي عنه إهانة الهزيمة.
لقد كان العبور قبلة الحياة لذلك النظام، قبلةٌ أبقته حتى الآن، على كل ترهله وإخفاقاته وتدني أداءه في كل شيءٍ، عدا القمع وإخصاء المعارضة، والأهم من ذلك أو لعله الألصق بموضوعنا، صياغة روايةٍ أو سرديةٍ عن انتصار 73 الكاسح، الأمر الذي نجح فيه بامتياز عبر آلةٍ إعلاميةٍ جبارة، كانت الأكبر حينها في المحيط العربي، ولعب بكل الأوراق من تملق الذات الوطنية، التي كانت جريحةً بعمقٍ حتى ذلك الوقت حتى إشعال الشوفينية القومية المصرية، ونبرة ونعرة التعالي على سائر العرب في وقتٍ لاحق.
لأغراض المصلحة البحتة، وانطلاقاً من ذهنيةٍ تكتفي من التاريخ بكلمة ومن الفيلم بمشهد استُعيض عن التاريخ الحقيقي بصورةٍ مختزلةٍ، احتفاليةٍ، انتقائيةٍ، تمجيدية لا تركز ولا ترى سوى مشهد العبور المدهش والفخم والمجيد، دون أدنى شك وبعض المعارك الناجحة، دون الالتفات، أو في الحقيقة محاولة الطمس الواعي لكل الحقائق المزعجة، وعلى رأسها نقاط تمركز قوات الطرفين لدى وقف القتال. لقد أُخرجت حرب أكتوبر من سياق التحليل أو التناول التاريخي، ليتسنى بذلك أن تصبح آخر الحروب كما أعلن السادات صراحةً، وصارت أو أُدخلت في حيز العقيدة والهوس الديني في المخيلة الجمعية، فصار الاحتفال السنوي بها كالموالد التي تُنصب لأولياء الله الصالحين، له طقوسه، من أفلامٍ بعينها تتكرر وحواراتٍ مع قياداتٍ سابقة أو حالية، وزياراتٍ لأضرحة، ومسؤولون كثيرون على مستوياتٍ عدة يزفون التهاني لمسؤولين كثيرين على رأسهم رئيس الجمهورية. ولما كانت العقلية النقدية شبه غائبةٍ، ضعفاً أو خوفاً، لدى قطاعاتٍ عديدة في شعبنا، وأكاد أن أتمادى قليلاً، فأزعم أن ثمة عطباً في البنية الذهنية المصرية والعربية بصفةٍ عامة، فقد تشبث الناس بقوةٍ بسردية النصر الماحق المؤزر، كما يتمسكون بقناعاتهم الدينية، الطريق الهادي إلى الخلاص والمنقذ من الضلال والتيه، لتهرب من واقع عدم التحقق القبيح والعوز المؤلم والمستقبل الذي لا تسر ملامحه البتة إلا بجرعةٍ زائدة من احتضان أوهام السيسي، وهذه مصيبة ٌبدورها.
المحصلة المريرة أن إنجاز الناس، جنوداً وضباطاً، أُخذ من أيديهم، وتم تحويله إلى وسيلة سيطرة وإلى أفيونٍ من جنس الإيمان الغيبي، الذي لا يخضع لتحليل أو نقد، أو مجرد المساس به او التشكيك في بعض تفاصيله.
دون شك، جسدت حرب أكتوبر مجهوداً عظيماً، فكانت معركة العبور وما تلاها، هجوماً مقتحماً ودفاعاً صامداً، نضالاً بطولياً لأبناء شعبنا، وقد شكلت كلها كفاحاً مجيداً في معركةٍ لن تكون الأخيرة، وينبغي لها أن لا تكون مع عدو لم يزل يغتصب أراضينا؛ لكنها وفق المعطيات التاريخية، لم تنته بانتصارٍ ساحقٍ ولا اندحارٍ كاملٍ للعدو، فعلينا أن نحتفي بتضحيات ونضال وشجاعة جنودنا وما تحملوه من مشاق طيلة سنواتٍ من الإعداد والصبر والتخطيط العلمي والتدريب ، لكننا يجب أن نتشبث أيضاً بالعقل العلمي النقدي والتحليل ونحرص على عدم الخروج من حيز الدراسة التاريخية إلى مصاف القناعات اللاهوتية والغيبية.
يحيى مصطفى كامل _ كاتب اشتراكي ثوري
نشرت هذه المقالة لأول مرة في جريدة القدس العربي
✪ إعلام تيار اليسار الثوري في سوريا من أجل الاشتراكية والثورة
#FrontLineNews
https://linktr.ee/revoleftsyria